ﰡ
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) ﴾
قال أبو جعفر: قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله: (الر)، والصواب من القول في ذلك عندنا بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
وقوله: (كتاب أحكمت آياته)، يعني: هذا الكتاب الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن.
* * *
ورفع قوله: "كتاب" بنيّة: " هذا كتاب".
فأما على قول من زعم أن قوله: (الر)، مرادٌ به سائر حروف المعجم التي نزل بها القرآن، وجعلت هذه الحروف دلالةً على جميعها، وأن معنى الكلام: " هذه الحروف كتاب أحكمت آياته" = فإن الكتاب على قوله، ينبغي أن يكون مرفوعًا بقوله: (الر).
* * *
وأما قوله: (أحكمت آياته ثم فصلت)، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: تأويله: أحكمت آياته بالأمر والنهي، ثم فصلت بالثَّواب والعقاب.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٩١٥- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال، أخبرني
١٧٩١٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عبد الكريم بن محمد الجرجاني، عن أبي بكر الهذلي، عن الحسن: (الر كتاب أحكمت آياته)، قال: أحكمت في الأمر والنهى، وفصلت بالوعيد. (٢)
١٧٩١٧- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن رجل، عن الحسن: (الر كتاب أحكمت آياته)، قال: بالأمر والنهي = (ثم فصلت)، قال: بالثواب والعقاب.
* * *
وروي عن الحسن قولٌ خلاف هذا. وذلك ما:-
١٧٩١٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن أبي بكر، عن الحسن، قال= وحدثنا عباد بن العوام، عن رجل، عن الحسن قال: (أحكمت)، بالثواب والعقاب = (ثم فصلت)، بالأمر والنهي.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: (أحبكمت آياته) من الباطل، ثم فصلت، فبين منها الحلال والحرام.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٩١٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)، أحكمها الله من الباطل، ثم فصلها بعلمه، فبيّن حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
* * *
(٢) الأثر: ١٧٩١٦ - " عبد الكريم بن محمد الجرجاني "، قاضي جرجان، روى عن قيس بن الربيع، وأبي حنيفة، وزهير بن معاوية، وابن جريج، وغيرهم. روى عنه أبو يوسف القاضي، وابن عيينة، وهما أكبر منه، والشافعي، وغيرهم. مات سنة نيف وسبعين ومائة، فلا أدري أيدرك محمد بن حميد أن يروي عنه أم لا؟ مترجم في التهذيب.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال: معناه: أحكم الله آياته من الدَّخَل والخَلَل والباطل، ثم فصَّلها بالأمر والنهي.
وذلك أن "إحكام الشيء " إصلاحه وإتقانه = و"إحكام آيات القرآن"، إحكامها من خلل يكون فيها، أو باطل يقدر ذو زيغ أن يطعن فيها من قِبَله. (١)
وأما "تفصيل آياته " فإنه تمييز بعضها من بعض، بالبيان عما فيها من حلال وحرام، وأمرٍ ونهي. (٢)
* * *
وكان بعض المفسرين يفسر قوله: (فصلت)، بمعنى: فُسِّرت، وذلك نحو الذي قلنا فيه من القول.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٩٢١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (ثم فصلت)، قال: فُسِّرت.
١٧٩٢٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فصلت)، قال: فُسّرت.
١٧٩٢٣-.... قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال، بلغني عن مجاهد: (ثم فصلت)، قال: فسّرت.
١٧٩٢٤- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
(٢) انظر تفسير " تفصيل الآيات " فيما سلف ص: ٩١، تعليق: ١، والمراجع هناك.
١٧٩٢٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقال قتادة: معناه: بُيِّنَتْ، وقد ذكرنا الرواية بذلك قبلُ، وهو شبيه المعنى بقول مجاهد.
* * *
وأما قوله: (من لدن حكيم خبير)، فإن معناه: (حكيم) بتدبير الأشياء وتقديرها، خبير بما تؤول إليه عواقبُها. (١)
١٧٩٢٧- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (من لدن حكيم خبير)، يقول: من عند حكيم خبير. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم فُصّلت بأن لا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له، وتخلعوا الآلهة والأنداد. ثم قال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، للناس (إنني لكم)، من عند الله = (نذير) ينذركم عقابه على معاصيه وعبادة الأصنام = (وبشير)، يبشركم بالجزيل من الثواب على طاعته وإخلاص العبادة والألُوهَةِ له. (٣)
* * *
(٢) انظر تفسير " من لدن " فيما سلف ٦: ٣٦٢.
(٣) انظر تفسير " النذير " فيما سلف ص: ٢١٥، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
= وتفسير " البشير " فيما سلف من فهارس اللغة (بشر).
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم فصلت آياته، بأن لا تعبدوا إلا الله، وبأن استغفروا ربكم. ويعني بقوله: (وأن استغفروا ربكم)، وأن اعملوا أيها الناس من الأعمال ما يرضي ربكم عنكم، فيستر عليكم عظيمَ ذنوبكم التي ركبتموها بعبادتكم الأوثان والأصنام، وإشراككم الآلهة والأنداد في عبادته. (١)
وقوله: (ثم توبوا إليه)، يقول: ثم ارجعوا إلى ربكم بإخلاص العبادة له دون ما سواه من سائر ما تعبدون من دونه بعد خلعكم الأنداد وبراءتكم من عبادتها. (٢)
ولذلك قيل: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه)، ولم يقل: "وتوبوا إليه"، لأن "التوبة" معناها الرجوع إلى العمل بطاعة الله، والاستغفار: استغفار من الشرك الذي كانوا عليه مقيمين، والعملُ لله لا يكون عملا له إلا بعد ترك الشرك به، فأما الشرك فإنّ عمله لا يكون إلا للشيطان، فلذلك أمرهم تعالى ذكره بالتوبة إليه بعد الاستغفار من الشرك، لأن أهل الشرك كانوا يرون أنهم يُطِيعون الله بكثير من أفعالهم، وهم على شركهم مقيمون.
وقوله: (يمتعكم متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى)، يقول تعالى ذكره للمشركين الذين خاطبهم بهذه الآيات: استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، فإنكم إذا فعلتم ذلك
(٢) انظر تفسير " التوبة " فيما سلف من فهارس اللغة (توب).
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٩٢٨- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (يمتعكم متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى)، فأنتم في ذلك المتاع، فخذوا بطاعة الله ومعرفة حقّه، فإن الله منعم يحبّ الشاكرين، وأهل الشكر في مزيدٍ من الله، وذلك قضاؤه الذي قضى.
* * *
وقوله: (إلى أجل مسمى)، يعني الموت.
١٧٩٢٩- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلى أجل مسمى)، قال: الموت.
١٧٩٣٠- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إلى أجل مسمى)، وهو الموت.
١٧٩٣١- حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (إلى أجل مسمى)، قال: الموت.
* * *
وأما قوله: (ويؤت كل ذي فضل فضله)، فإنه يعني: يثيب كل من تفضَّل بفضل ماله أو قوته أو معروفه على غيره محتسبًا بذلك، مريدًا به وجه الله = أجزلَ ثوابه وفضله في الآخرة، كما:-
١٧٩٣٢- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
= وتفسير " الأجل المسمى " فيما سلف من فهارس اللغة (أجل).
١٧٩٣٣- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال=
١٧٩٣٤-.... وحدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه= إلا أنه قال: أو عملٍ بيديه أو رجليه وكلامه، وما تطوَّل به من أمره كله.
١٧٩٣٥- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه= إلا أنه قال: وما نطق به من أمره كله.
١٧٩٣٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ويؤت كل ذي فضل فضله)، أي: في الآخرة.
* * *
وقد روي عن ابن مسعود أنه كان يقول في تأويل ذلك ما:-
١٧٩٣٧- حدثت به عن المسيب بن شريك، عن أبي بكر، عن سعيد بن جبير، عن ابن مسعود، في قوله: (ويؤت كل ذي فضل فضله)، قال: من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات. فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات. وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة، وبقيت له تسع حسنات. ثم يقول: هلك من غلب آحادُه أعشارَه!!
* * *
وقوله: (وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير)، يقول تعالى ذكره: وإن أعرضوا عما دعوتُهم إليه، (١) من إخلاص العبادة لله، وترك عبادة
* * *
وقال جل ثناؤه: (وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير)، ولكنه مما قد تقدّمه قولٌ، والعرب إذا قدَّمت قبل الكلام قولا خاطبت، ثم عادت إلى الخبر عن الغائب، ثم رجعت بعدُ إلى الخطاب، وقد بينا ذلك في غير موضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (إلى الله)، أيها القوم، مآبكم ومصيركم، (٢)
فاحذروا عقابه إن توليتم عما أدعوكم إليه من التوبة إليه من عبادتكم الآلهة والأصنام، فإنه مخلدكم نارَ جهنم إن هلكتم على شرككم قبل التوبة إليه = (وهو على كل شيء قدير)، يقول: وهو على إحيائكم بعد مماتكم، وعقابكم على إشراككم به الأوثانَ وغير ذلك مما أراد بكم وبغيركم قادرٌ. (٣)
* * *
(٢) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف ص: ١٤٦، تعليق: ٥، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " قدير " فيما سلف من فهارس اللغة (قدر).
قال أبو جعفر: اختلفت القراء في قراءة قوله: (ألا أنهم يثنون صدورهم)، فقرأته عامة الأمصار: (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ)، على تقدير "يفعلون" من "ثنيت"، و"الصدور" منصوبة.
واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله، فقال بعضهم: ذلك كان من فعل بعض المنافقين، كان إذا مرّ برسول الله ﷺ غطَّى وجهه وثَنَى ظهره.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٩٣٨- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن حصين، عن عبد الله بن شداد في قوله: (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم)، قال: كان أحدهم إذا مرّ برسول الله ﷺ قال بثوبه على وجهه، وثنى ظهره. (١)
١٧٩٣٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قوله: (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه)، قال: من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: كان المنافقون
انظر ما سلف ٢: ٥٤٦، ٥٤٧ / الأثر: ٥٧٩٦ ج ٥ ص ٤٠٠، تعليق: ١ / الأثر ١٢٥٢٣ ج ١٠ ص ٥٧٢، تعليق: ١ / الأثر ١٧٤٢٩، ج ١٤ ص: ٥٤١، تعليق: ٢.
١٧٩٤٠- حدثني المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن حصين قال: سمعت عبد الله بن شداد يقول في قوله: (يثنون صدورهم)، قال: كان أحدهم إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثَنَى صدره، وتغشَّى بثوبه، كي لا يراه النبي صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون: بل كانوا يفعلون ذلك جهلا منهم بالله وظنًّا أن الله يخفى عليه ما تضمره صدورهم إذا فعلوا ذلك.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٩٤١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد: (يثنون صدورهم) قال: شكًا وامتراءً في الحق، ليستخفوا من الله إن استطاعوا.
١٧٩٤٢- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد: (يثنون صدورهم)، شكًّا وامتراءً في الحق. (ليستخفوا منه)، قال: من الله إن استطاعوا.
١٧٩٤٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن نجيح، عن مجاهد: (يثنون صدورهم)، قال: تضيق شكًّا.
١٧٩٤٤- حدثنا المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد: (يثنون صدورهم)، قال: تضيق شكًّا وامتراءً في الحق. قال: (ليستخفوا منه)، قال: من الله إن استطاعوا
١٧٩٤٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.
١٧٩٤٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن أبي رزين: (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم)، قال: كان أحدهم يحنى ظهره، ويستغشي بثوبه.
* * *
وقال آخرون: إنما كانوا يفعلون ذلك لئلا يسمعوا كتاب الله. (١)
*ذكر من قال ذلك:
١٧٩٤٨- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (إلا إنهم يثنون صدورهم) الآية، قال: [كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله، قال تعالى: (ألا حين] يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون) وذلك أخفى ما يكون ابن آدم، إذا حنى صدره واستغشى بثوبه، وأضمر همَّه في نفسه، فإن الله لا يخفى ذلك عليه. (٢)
١٧٩٤٩- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (يستغشون ثيابهم)، قال: أخفى ما يكون الإنسان إذا أسرَّ في نفسه شيئًا وتغطَّى بثوبه، فذلك أخفى ما يكون، والله يطلع على ما في نفوسهم، والله يعلم ما يسرُّون وما يعلنون.
* * *
وقال آخرون: إنما هذا إخبارٌ من الله نبيَّه ﷺ عن المنافقين
(٢) ما بين القوسين ساقط من المخطوطة.
* * *
وقال آخرون: كانوا يفعلون ذلك إذا ناجى بعضهم بعضًا.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٩٥٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه)، قال: هذا حين يناجي بعضهم بعضًا. وقرأ: (ألا حين يستغشون ثيابهم) الآية.
* * *
وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك: (أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ)، على مثال: "تَحْلَولِي الثمرة"، "تَفْعَوْعِل".
١٧٩٥١- حدثنا... قال، حدثنا أبو أسامة، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة قال: سمعت ابن عباس يقرأ (أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ)، قال: كانوا لا يأتون النساء ولا الغائط إلا وقد تغشوا بثيابهم، كراهة أن يُفْضُوا بفروجهم إلى السماء. (٢)
١٧٩٥٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول، سمعت ابن عباس يقرؤها: (أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ)، قال: سألته عنها فقال: كان ناس يستحيون أن يتخلَّوا فيُفْضُوا إلى السماء، وأن يصيبوا فيْفضُوا إلى السماء.
* * *
وروي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر، وهو ما:-
(٢) الأثر: ١٧٩٥١ - في المطبوعة: " حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة "، وهذا ليس في المخطوطة، بل الذي فيها ما أثبته: " حدثنا قال.... حدثنا أبو أسامة "، بياض بين الكلامين وفوقه كتب " كذا "، يعني، هكذا البياض بالأصل.
١٧٩٥٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قرأ: (أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ)، قال عكرمة: "تثنوني صدورهم"، قال: الشك في الله، وعمل السيئات، فيستغشي ثيابه، ويستكنّ من الله، والله يراه ويعلم ما يسرُّون وما يعلنون
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار، وهو: (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ)، على مثال "يفعلون"، و"الصدور" نصب، بمعنى: يحنون صدورهم ويكنُّونها، (١) كما:-
١٧٩٥٥- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (يثنون صدورهم)، يقول: يكنُّون. (٢)
١٧٩٥٦- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ألا إنهم يثنون صدورهم)، يقول: يكتمون ما في قلوبهم = (ألا حين يستغشون ثيابهم)، يعلم ما عملوا بالليل والنهار.
١٧٩٥٧- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ألا انهم يثنون صدورهم)، يقول: (تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ).
(٢) في المطبوعة: " يكبونها " و " يكبون "، بالباء في الموضعين، والصواب ما في المخطوطة وهي منقوطة هناك فيهما.
* * *
فإذا كانت القراءة التي ذكرنا أولى القراءتين في ذلك بالصواب، لإجماع الحجة من القراء عليها. فأولى التأويلات بتأويل ذلك، تأويلُ من قال: إنهم كانوا يفعلون ذلك جهلا منهم بالله أنه يخفى عليه ما تضمره نفوسهم، أو تناجوه بينهم.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية، لأن قوله: (ليستخفوا منه)، بمعنى: ليستخفوا من الله، وأن الهاء في قوله، (منه)، عائدة على اسم الله، ولم يجر لمحمّدٍ ذكر قبلُ، فيجعل من ذكره ﷺ وهي في سياق الخبر عن الله. فإذا كان ذلك كذلك، كانت بأن تكون من ذكر الله أولى. وإذا صحّ أن ذلك كذلك، كان معلومًا أنهم لم يحدِّثوا أنفسهم أنهم يستخفون من الله، إلا بجهلهم به. فأخبرهم جل ثناؤه أنه لا يخفى عليه سرُّ أمورهم وعلانيتها على أيّ حالٍ كانوا، تغشَّوا بالثياب، أو أظهروا بالبَرَاز، (١)
فقال: (ألا حين يستغشون ثيابهم)، يعني: يتغشَّون ثيابهم، يتغطونها ويلبسون.
* * *
يقال منه: "استغشى ثوبه وتغشّاه"، قال الله: (وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ) [سورة نوح: ٧]، وقالت الخنساء:
أَرْعَى النُّجُومَ وَمَا كُلِّفْتُ رِعْيَتِهَا | وَتَارَةً أَتَغَشَّى فَضْلَ أَطْمَارِي (٢) |
(٢) ديوانها: ١٠٩، من شعرها في مراثي أخيها صخر، تقول قبله:
إنِّي أَرِقْتُ فبِتُّ اللَّيْلَ سَاهِرَةً | كَأَنَّمَا كٌحِلَتْ عَيْنِي بِعُوَّارِ |
١٧٩٥٨- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (ألا حين يستغشون ثيابهم)، يقول: يغطون رءوسهم.
* * *
قال أبو جعفر، فاحذروا أن يطلع عليكم ربكم وأنتم مضمرون في صُدُوركم الشكّ في شيء من توحيده أو أمره أو نهيه، أو فيما ألزمكم الإيمان به والتصديق، فتهلكوا باعتقادكم ذلك.
* * *
(٢) انظر تفسير " ذات الصدور " فيما سلف ١٣: ٥٧٠، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (وما من دابّة في الأرض إلا على الله رزقها)، وما تدبّ دابّة في الأرض.
* * *
و"الدابّة" "الفاعلة"، من دبّ فهو يدبّ، وهو دابٌّ، وهي دابّة. (١)
* * *
(إلا على الله رزقها)، يقول: إلا ومن الله رزقها الذي يصل إليها، هو به متكفل، وذلك قوتها وغذاؤها وما به عَيْشُها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٩٥٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد، في قوله: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها)، قال: ما جاءها من رزقٍ فمن الله، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعًا، ولكن ما كان من رزقٍ فمن الله.
١٧٩٦٠- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها)، قال: كل دابة
* * *
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يزعم أن كل مالٍ فهو "دابة" (١) = وأن معنى الكلام: وما دابة في الأرض = وأن "من" زائدة. (٢)
* * *
وقوله: (ويعلم مستقرها)، حيث تستقر فيه، وذلك مأواها الذي تأوي إليه ليلا أو نهارًا = (ومستودعها) الموضع الذي يودعها، إما بموتها، فيه، أو دفنها. (٣)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٩٦٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن التيمي، عن ليث، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: (مستقرها) حيث تأوي = (ومستودعها)، حيث تموت.
١٧٩٦٣- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ويعلم مستقرها)، يقول: حيث تأوى = (ومستودعها)، يقول: إذا ماتت.
(٢) هذا نص أبي عبيدة في مجاز القرآن ١: ٢٨٥.
(٣) انظر تفسير " المستقر "، و " المستودع " فيما سلف ١: ٥٣٩ / ١١: ٤٣٤، ٥٦٢ - ٥٧٢ / ١٢: ٣٥٨، ٣٥٩.
* * *
وقال آخرون: (مستقرّها)، في الرحم = (ومستودعها)، في الصلب.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٩٦٥- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ويعلم مستقرها)، في الرحم= (ومستودعها)، في الصلب، مثل التي في "الأنعام". (١)
١٧٩٦٦- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه عن ابن عباس، قوله: (ويعلم مستقرها ومستودعها)، فالمستقر ما كان في الرحم، والمستودع ما كان في الصلب.
١٧٩٦٧- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ويعلم مستقرها)، يقول: في الرحم = (ومستودعها)، في الصلب.
* * *
وقال آخرون: "المستقر " في الرحم = و"المستودع"، حيث تموت.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٩٦٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ويعلى، وابن فضيل، عن إسماعيل، عن إبراهيم، عن عبد الله: (ويعلم مستقرها ومستودعها)، قال: "مستقرها"، الأرحام = و"مستودعها": الأرض التي تموت فيها.
١٧٩٦٩-.... قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي،
* * *
وقال آخرون: (مستقرها)، أيام حياتها = (ومستودعها)، حيث تموت فيه.
* ذكر من قال ذلك:
١٧٩٧٠- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قالأخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس قوله: (ويعلم مستقرها ومستودعها)، قال: (مستقرها)، أيام حياتها، و (مستودعها) : حيث تموت، ومن حيث تبعث.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه فيه، لأن الله جل ثناؤه أخبر أن ما رزقت الدواب من رزق فمنه، فأولى أن يتبع ذلك أن يعلم مثواها ومستقرها دون الخبر عن علمه بما تضمنته الأصلاب والأرحام.
* * *
ويعني بقوله: (كل في كتاب)، [مبين]، عدد كل دابة، (١) ومبلغ أرزاقها، وقدر قرارها في مستقرها، ومدة لبثها في مستودعها. كل ذلك في كتاب عند الله مثبت مكتوب = (مبين)، يبين لمن قرأه أن ذلك مثبت مكتوب قبل أن يخلقها ويوجدها. (٢)
وهذا إخبارٌ من الله جل ثناؤه الذين كانوا يثنون صدورهم ليستخفوا منه، أنه قد علم الأشياء كلها، وأثبتها في كتاب عنده قبل أن يخلقها ويوجدها، يقول لهم تعالى ذكره: فمن كان قد علم ذلك منهم قبل أن يوجدهم، فكيف يخفى عليه ما تنطوي عليه نفوسهم إذا ثنوا به صدورهم، واستغشوا عليه ثيابهم؟
* * *
(٢) انظر تفسير " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة (بين).
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله الذي إليه مرجعكم أيها الناس جميعًا، (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام)، يقول: أفيعجز من خلق ذلك من غير شيء أن يعيدكم أحياءً بعد أن يميتكم؟
* * *
وقيل: إن الله تعالى ذكره خلق السموات والأرض وما فيهن في الأيام الستة، فاجتُزِئَ في هذا الموضع بذكر خلق السموات والأرض، من ذكر خلق ما فيهنّ.
١٧٩٧١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، مولى أم سلمة، عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله ﷺ بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثّ فيها من كل دابة يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل. (١)
١٧٩٧٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن كعب قال: بدأ الله خلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وفرغ منها يوم الجمعة، فخلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة. قال: فجعل مكان كل يوم ألف سنة.
١٧٩٧٤- وحدثت عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك: (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام)، قال: من أيام الآخرة، كل يوم مقداره ألف سنة. ابتدأ في الخلق يوم الأحد، وختم الخلق يوم الجمعة، فسميت "الجمعة"، وسَبَت يوم السبت فلم يخلق شيئًا
* * *
وقوله: (وكان عرشه على الماء)، يقول: وكان عرشه على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض وما فيهن، (١) كما:-
١٧٩٧٥- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وكان عرشه على الماء)، قبل أن يخلق شيئًا.
١٧٩٧٦- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
١٧٩٧٨- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وكان عرشه على الماء)، ينبئكم ربكم تبارك وتعالى كيف كان بدء خلقه قبل أن يخلق السموات والأرض.
١٧٩٧٩- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وكان عرشه على الماء)، قال: هذا بدء خلقه قبل أن يخلق السماء والأرض.
١٧٩٨٠- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن يعلى بن عطاء. عن وكيع بن حُدُس، عن عمه أبي رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربُّنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: في عَمَاءٍ، (١)
ما فوقه هواء، وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء. (٢)
١٧٩٨١- حدثنا ابن وكيع، ومحمد بن هارون القطان الرازقي قالا حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن
(٢) الأثر: ١٧٩٨٠ - " حماد "، هو " حماد بن سلمة "، مضى مرارًا. " ويعلى بن عطاء العامري الطائفي "، ثقة، مضى برقم: ٢٨٥٨، ١١٥٢٧، ١١٥٢٩، ١٦٥٧٩. " ووكيع بن حدس "، أو " ابن عدس " أبو مصعب العقيلي الطائفي، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، والكبير ٤ / ٢ / ١٧٨، وابن أبي حاتم ٤ / ٢ / ٣٦. " وأبو رزين العقيلي "، هو " لقيط بن عامر بن المنتفق " أو " لقيط بن صبرة "، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، مضى برقم: ٣٢٢٣ مضى التفريق هناك بينه وبين " لقيط بن صبرة "، وهذا الخبر رواه الطبري في تاريخه ١: ١٩ من هذه الطريق نفسها. ورواه أحمد في مسنده ٤: ١١ من طريق يزيد بن هارون عن حماد، وص: ١٢ من طريق بهز، عن حماد.
ورواه الترمذي في التفسير، من طريق يزيد بن هارون، وقال: " هذا حديث حسن ". ورواه ابن ماجه في سننه ١: ٦٤، رقم: ١٨٢، من طريق يزيد. انظر الأثر التالي رقم: ١٧٩٨١.
١٧٩٨٢- حدثنا خلاد بن أسلم قال، أخبرنا النضر بن شميل قال، أخبرنا المسعودي قال، أخبرنا جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز، عن ابن حصين، وكان من أصحاب رسول الله ﷺ قال: أتى قومٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فدخلوا عليه، فجعل يبشِّرهم ويقولون: أعطنا! حتى ساء ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرجوا من عنده. وجاء قوم آخرون فدخلوا عليه، فقالوا: جئنا نسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونتفقه في الدين، ونسأله عن بدء هذا الأمر؟ قال: فاقبلوا البشرى إذ لم يقبلها أولئك الذين خرجوا! قالوا: قبلنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان الله ولا شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر قبل كل شيء، ثم خلق سبع سماوات. ثم أتاني آت فقال: تلك ناقتك قد ذهبت، فخرجتُ ينقطع دونها السَّراب، (٢)
" محمد بن هارون القطان الرازقي "، شيخ الطبري، هكذا جاء في المخطوطة أيضًا، ومثله في التاريخ بغير " الرازقي "، ولم أجد ذلك في الذي بين يدي من الكتب. وشيخ الطبري الذي مر مرارًا هو " محمد بن هارون بن إبراهيم الربعي الحربي البزاز "، أبو نشيط "، وجائز أن يكون وضع " القطان " مكان " البزاز " فهما متقاربان في المعنى. أما " الرازقي "، فهذا مشكل. إنما يقال له " الحربي " أو " الربعي " وقد مضى " أبو نشيط " برقم: ٩٥١١، ١٠٣٧١، ١٤٢٩٤.
(٢) هكذا في المخطوطة: " ينقطع دونها السراب "، وهو صواب، ودليله رواية أحمد في مسنده " فإذا السراب ينقطع بيني وبينها "، بمعنى " ينتهي "، كما يقال: " منقطع الوادي أو الرمل "، حيث ينتهي إليه طرفه. يريد: ينتهي الطرف إلى منتهى السراب من قبل بصره، فهو لا يراها. وروى صاحب اللسان حديث أبي ذر " فإذا هي يقطع دونها السراب " (بضم الياء وفتح القاف وتشديد الطاء)، وقال: أي تسرع إسراعًا كثيرًا تقدمت به وفاتت، حتى إن السراب يظهر دونها، أي من ورائها، لبعدها في البر. أما الحافظ ابن حجر في شرح حديث عمران بن حصين هذا، فقد شرح رواية البخاري وهي " فإذا هي يقطع دونها السراب " وقال: يقطع، بفتح أوله، أي: يحول بيني وبين رؤيتها السراب "، (الفتح ٦: ٢٠٧).
١٧٩٨٣- حدثنا محمد بن منصور قال، حدثنا إسحاق بن سليمان قال، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: (وكان عرشه على الماء)، قال: كان عرش الله على الماء، ثم اتخذ لنفسه جنّةً، ثم اتخذ دونها أخرى، ثم أطبقهما بلؤلؤة واحدة قال: (ومن دونهما جنتان)، [سورة الرحمن: ٦٢]، قال: وهي التي
١٧٩٨٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن قول الله: (وكان عرشه على الماء)، قال: على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح. (١)
١٧٩٨٥- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير قال: سُئل ابن عباس عن قوله: (وكان عرشه على الماء)، على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح. (٢)
١٧٩٨٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن سعيد، عن ابن عباس، مثله. (٣)
١٧٩٨٧-.... قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا مبَشّر الحلبي، عن أرطاة بن المنذر قال: سمعت ضمرة يقول: إن الله كان عرشه على الماء، وخلق السموات والأرض بالحق، وخلق القلم فكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبّح الله ومجّده ألف عام قبل أن يخلق شيئًا من الخلق. (٤)
وسيأتي في الذي يليه من طريق الأعمش، عن سعيد بن جبير، بلا واسطة. والأعمش يروي عن سعيد بن جبير. ورواه الطبري في تاريخه من هذه والطريق نفسها ١: ٢٠، ٢١.
(٢) الأثر: ١٩٧٨٦ - هو مكرر الأثرين السالفين، من طريق الأعمش، عن سعيد بن جبير، بلا واسطة، ورواه بها الطبري في تاريخه ١: ٢١.
(٣) الأثر: ١٩٧٨٦ - مكرر الثرين السالفين، ورواه الطبري في تاريخه منها ١: ٢١.
(٤) الأثر: ١٧٩٨٧ - " مبشر الحلبي "، هو " مبشر بن إسماعيل الحلبي "، روى له الجماعة، مضى برقم: ١٧٠٠١، وكان في المطبوعة: " ميسر "، وهو خطأ.
و" أرطاة بن المنذر السكوني "، ثقة، من أتباع التابعين، مترجم في التهذيب، والكبير ١ / ٢ / ٥٨ وابن أبي حاتم ١ / ١ / ٣٢٦. " وضمرة بن حبيب بن صهيب الزبيدي " ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير ٢ / ٢ ٣٣٨، وابن أبي حاتم ٢ / ١ / ٤٦٧. وهذا الخبر رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ٢١ من هذه الطريق نفسها.
* * *
وقوله: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا)، يقول تعالى ذكره: وهو الذي خلق السموات والأرض أيها الناس، وخلقكم في ستة أيام = (ليبلوكم)، يقول: ليختبركم (٤) = (أيكم أحسن عملا)، يقول: أيكم أحسن له طاعة، كما:-
١٧٩٨٩- حدثنا عن داود بن المحبر قال، حدثنا عبد الواحد بن زيد، عن كليب بن وائل، عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه تلا
(٢) في المطبوعة: " ثم قبض قبضة من صفاء الماء "، لم يحسن قراءة ما في المخطوطة، فغيرها. وزدت " قبضة " بين قوسين، من رواية هذا الخبر، بغير هذا الإسناد، في تاريخ الطبري. " وصفاة الماء "، كأنه عنى بها " الزبدة البيضاء " المذكورة في الأثر رقم: ٢٠٤٤، ٧٤٢٨، وفي الدر المنثور ٣: ٣٢٢، من حديث الربيع بن أنس: " كان عرشه على الماء، فلما خلق السماوات والأرض، قسم ذلك الماء قسمين، فجعل صفاء (صفاة) تحت العرش، وهو البحر المسجور، فلا تقطر منه قطرة حتى ينفخ في الصور، فينزل منه مثل الطل، وتنبت منه الأجسام ".
(٣) في الأثر: ١٧٩٨٨ - رواه الطبري في تاريخه ١: ٢٠ من طريق محمد بن سهل بن عسكر، عن إسماعيل بن عبد الكريم، مختصرًا.
(٤) انظر تفسير " البلاء " فيما سلف ١٣: ٤٤٨، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
١٧٩٩٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا)، يعني الثقلين.
* * *
وقوله: (ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين)، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولئن قلت لهؤلاء المشركين من قومك: إنكم مبعوثون أحياء من بعد مماتكم! فتلوت عليهم بذلك تنزيلي ووحيي = (ليقولن إن هذا إلا سحر مبين)، أي: ما هذا الذي تتلوه علينا مما تقول، إلا سحر لسامعه، مبينٌ لسامعه عن حقيقته أنه سحر. (٢)
* * *
وهذا على تأويل من قرأ ذلك: (إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ)،
* * *
(٢) في المطبوعة: " إلا سحر لسامعه مبين حقيقته أنه سحر "، وفي المخطوطة: " إلا سحر لسامعه عن حقيقته أنه سحر "، وبين " سحر " و " لسامعه " حرف " ط " دلالة على الخطأ. وصواب العبارة ما أثبته إن شاء الله. وانظر تفسير " السحر " فيما سلف ص: ١٥٩، تعليق: ١، والمراجع هناك.
= وتفسير " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة (بين).
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا الصواب من القراءة في ذلك في نظائره، فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته ههنا. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولئن أخرنا عن هؤلاء المشركين من قومك، يا محمد، العذابَ فلم نعجله لهم، وأنسأنا في آجالهم = إلى (أمة معدودة)، ووقت محدود وسنين معلومة.
* * *
وأصل "الأمة" ما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا، أنها الجماعة من الناس تجتمع على مذهب ودين، ثم تستعمل في معان كثيرة ترجع إلى معنى الأصل الذي ذكرت. (٢) وإنما قيل للسنين "المعدودة" والحين، في هذا الموضع ونحوه: أمة، لأن فيها تكون الأمة. (٣)
* * *
وإنما معنى الكلام: ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى مجيء أمة وانقراض أخرى قبلها.
* * *
(٢) انظر تفسير " الأمة " فيما سلف ١٣: ٢٨٥، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " معدودة " فيما سلف ٣: ٤١٧ / ٤: ٢٠٨، وما بعدها.
*ذكر من قال ذلك:
١٧٩٩١- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم = قال، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس. وحدثنا الحسن بن يحيي قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة)، قال: إلى أجل محدود.
١٧٩٩٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس، بمثله.
١٧٩٩٤- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (إلى أمة معدودة)، قال: أجل معدود.
١٧٩٩٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: إلى أجل معدود.
١٧٩٩٦- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلى أمة معدودة)، قال: إلى حين.
١٧٩٩٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٧٩٩٨-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٧٩٩٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة)، يقول: أمسكنا
١٨٠٠٠- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة)، يقول: إلى أجل معلوم. (١)
* * *
وقوله: (ليقولن ما يحبسه)، يقول: "ليقولن" هؤلاء المشركون "ما يحبسه"؟ أي شيء يمنعه من تعجيل العذاب الذي يتوعَّدنا به؟ (٢) تكذيبًا منهم به، وظنًّا منهم أن ذلك إنَّما أخر عنهم لكذب المتوعّد كما:-
١٨٠٠٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال قوله: (ليقولن ما يحبسه)، قال: للتكذيب به، أو أنه ليس بشيء.
* * *
وقوله: (ألا يوم يأتيهم ليس مصروفًا عنهم)، يقول تعالى ذكره تحقيقًا لوعيده وتصحيحًا لخبره: (ألا يوم يأتيهم) العذابُ الذي يكذبون به = (ليس مصروفًا عنهم)، يقول: ليس يصرفه عنهم صارف، ولا يدفعه عنهم دافع، ولكنه يحل بهم فيهلكهم (٣) = (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون)، يقول: ونزل بهم وأصابهم الذي كانوا به يسخرون من عذاب الله. (٤) وكان استهزاؤُهم به الذي ذكره الله، قيلهم قبل نزوله (ما يحبسه)، و "هلا تأتينا"؟. (٥)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان بعض أهل التأويل يقول.
(٢) انظر تفسير " الحبس " فيما سلف ١١: ١٧٢.
(٣) انظر تفسير " الصرف " فيما سلف ١١: ٢٨٦ / ١٣: ١١٢ / ١٤: ٥٨٢ / ١٥: ٨٤.
(٤) انظر تفسير " حاق " فيما سلف ١١: ١٧٢. = وتفسير " الاستهزاء " فيما سلف من فهارس اللغة (هزأ).
(٥) في المطبوعة: " نقلا بأنبيائه "، وهذا خلط لا معنى له. وفي المخطوطة: " ونعلا بأنبيائه "، والكلمة الأولى سيئة الكتابة، وسائر الحروف غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها إن شاء الله.
١٨٠٠٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون)، قال: ما جاءت به أنبياؤهم من الحق.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نزعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولئن أذَقنا الإنسان منّا رخاء وسعةً في الرزق والعيش، فبسطنا عليه من الدنيا (١) = وهي "الرحمة " التي ذكرها تعالى ذكره في هذا الموضع = (ثم نزعناها منه)، يقول: ثم سلبناه ذلك، فأصابته مصائب أجاحته فذهبت به (٢) = (إنه ليئوس كفور)، يقول: يظل قَنِطًا من رحمة الله، آيسًا من الخير.
* * *
وقوله: "يئوس"، " فعول"، من قول القائل: "يئس فلان من كذا، فهو يئوس"، إذا كان ذلك صفة له. (٣).
وقوله: "كفور"، يقول: هو كفُور لمن أنعم عليه، قليل الشكر لربّه المتفضل عليه، بما كان وَهَب له من نعمته. (٤)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(٢) انظر تفسير " النزع " فيما سلف ١٢: ٤٣٧ / ١٣: ١٧.
(٣) انظر تفسير " اليأس " فيما سلف ٩: ٥١٦.
(٤) انظر تفسير " الكفر " فيما سلف من فهارس اللغة (كفر).
١٨٠٠٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور)، قال: يا ابن آدم، إذا كانت بك نعمة من الله من السعة والأمن والعافية، فكفور لما بك منها، وإذا نزعت منك نبتغي قَدْعك وعقلك (١) فيئوس من روح الله، قنوطٌ من رحمته، كذلك المرء المنافق والكافر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولئن نحن بسطنا للإنسان في دنياه، ورزقناه رخاءً في عيشه، ووسعنا عليه في رزقه، وذلك هي النّعم التي قال الله جل ثناؤه: (ولئن أذقناه نعماء) (٢) = وقوله: (بعد ضراء مسته)، يقول: بعد ضيق من العيش كان فيه، وعسرة كان يعالجها (٣) (ليقولنّ ذهب السيئات عني)، يقول تعالى ذكره: ليقولن عند ذلك: ذهب الضيق والعسرة عني، وزالت الشدائد والمكاره = (إنه لفرح فخور)، يقول تعالى ذكره: إن الإنسان لفرح بالنعم
(٢) انظر تفسير " النعماء " فيما سلف من فهارس اللغة (نعم).
(٣) انظر تفسير " المس " فيما سلف ص: ٢١٩، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
= وتفسير " الضراء " فيما سلف ص: ٤٩، تعليق: ١، والمراجع هناك.
= (فخور)، يقول: ذو فخر بما نال من السعة في الدنيا، وما بسط له فيها من العيش، (٢) وينسى صُرُوفها، ونكدَ العَوَائص فيها، (٣) ويدع طلب النعيم الذي يبقى، والسرور الذي يدوم فلا يزول.
١٨٠٠٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله: (ذهب السيئات عني)، غِرَّةً بالله وجراءة عليه = (إنه لفرح)، والله لا يحب الفرحين= (فخور)، بعد ما أعطي، وهو لا يشكر الله.
* * *
ثم استثنى جل ثناؤه من الإنسان الذي وصفه بهاتين الصفتين: "الذين صبروا وعملوا الصالحات". وإنما جاز استثناؤهم منه لأن "الإنسان" بمعنى الجنس ومعنى الجمع. وهو كقوله: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، [سورة العصر: ١-٣]، (٤)
فقال تعالى ذكره: (إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات)، فإنهم إن تأتهم شدّة من الدنيا وعسرة فيها، لم يثنهم ذلك عن طاعة الله، ولكنهم صبروا لأمره وقضائه. فإن نالوا فيها رخاء وسعةً، شكروه وأدَّوا حقوقه بما آتاهم منها. يقول الله: (أولئك لهم مغفرة) يغفرها لهم، ولا يفضحهم بها في معادهم = (وأجر كبير)، يقول: ولهم من الله مع مغفرة ذنوبهم، ثوابٌ على أعمالهم الصالحة التي عملوها في دار الدنيا، جزيلٌ، وجزاءٌ عظيم.
١٨٠٠٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (إلا الذين صبروا)، عند البلاء، (وعملوا الصالحات)، عند النعمة
(٢) انظر تفسير " فخور " فيما سلف ٨: ٣٥٠.
(٣) في المطبوعة: " نكد العوارض "، غير ما في المخطوطة، و " العوائص " جمع " عائص " أو " عائصة "، ومثله " العوصاء "، وكله معناه: الشدة والعسر والحاجة.
(٤) انظر معاني القرآن للفراء في تفسير الآية. ومن هنا سأرجع إلى النسخة المخطوطة من معاني القرآن، لأن بقية الكتاب لم تطبع بعد. والنسخة التي أرجع إليها هي المخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم: ب ٢٤٩٨٦، مصورة عن نسخة مكتبة " بغداد لي وهبي " بالمكتبة السليمانية، بالآستانة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ كَنز أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فلعلك يا محمد، تارك بعض ما يوحي إليك ربك أن تبلغه من أمرك بتبليغه ذلك، وضائقٌ بما يوحى إليك صدرُك فلا تبلغه إياهم، مخافة (أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك)، له مصدّق بأنه لله رسول! يقول تعالى ذكره: فبلغهم ما أوحيته إليك، فإنك إنما أنت نذير تُنْذرهم عقابي، وتحذرهم بأسي على كفرهم بي، وإنما الآيات التي يسألونكها عندي وفي سلطاني، أنزلها إذا شئت، وليس عليك، إلا البلاغ والإنذار = (والله على كل شيء وكيل)، يقول: والله القيم بكل شيء وبيده تدبيره، فانفذ لما أمرتك به، ولا تمنعك مسألتهم إياك الآيات، من تبليغهم وحيي والنفوذ لأمري. (١)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٠٠٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: قال الله لِنبيه: فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كفاك حجةً على حقيقة ما أتيتهم به، ودلالةً على صحة نبوّتك، هذا القرآن، من سائر الآيات غيره، إذ كانت الآيات إنما تكون لمن أعطيها دلالة على صدقه، لعجز جميع الخلق عن أن يأتوا بمثلها. وهذا القرآن، جميع الخلق عَجَزَةٌ عن أن يأتوا بمثله، (١) فان هم قالوا: "افتريته"، أي: اختلقته وتكذَّبته. (٢)
* * *
= ودلّ على أن معنى الكلام ما ذكرنا، قوله: (أم يقولون افتراه) إلى آخر الآية. ويعني تعالى ذكره بقوله: (أم يقولون افتراه)، أي: أيقولون افتراه؟
* * *
= وقد دللنا على سبب إدخال العرب "أم" في مثل هذا الموضع. (٣)
* * *
= فقل لهم: يأتوا بعشر سُور مثل هذا القرآن "مفتريات"، يعني مفتعلات مختلقات، إن كان ما أتيتكم به من هذا القرآن مفترىً، وليس بآية معجزةٍ
(٢) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة (فرى).
(٣) انظر تفسير " أم " فيما سلف ٢: ٤٩٢ / ٣: ٩٧ / ثم ١٤: ١٦٥، تعليق: ١، والمراجع هناك.
يقول جل ثناؤه: قل لهم: وادعوا من استطعتم أن تدعوهم من دون الله = يعني سوى الله، لا فتراء ذلك واختلاقه من الآلهة، فإن أنتم لم تقدروا على أن تفتروا عشر سور مثله، فقد تبين لكم أنكم كذبةٌ في قولكم: (افتراه)، وصحّت عندكم حقيقة ما أتيتكم به أنه من عند الله. ولم يكن لكم أن تتخيروا الآيات على ربكم، وقد جاءكم من الحجة على حقيقة ما تكذبون به أنه من عند الله، مثل الذي تسألون من الحجة وترغبون أنكم تصدِّقون بمجيئها.
* * *
وقوله: (إن كنتم صادقين)، لقوله: (فأتوا بعشر سور مثله)، وإنما هو: قل: فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، إن كنتم صادقين أن هذا القرآن افتراه محمد = وادعوا من استطعتم من دون الله على ذلك، من الآلهة والأنداد.
١٨٠٠٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريح: (أن يقولون افتراه)، قد قالوه، (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات). وادعوا شهداءكم، قال: يشهدون أنها مثله = هكذا قال القاسم في حديثه. (١)
* * *
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: فإن لم يستجب لكمْ من تدعون من دون الله إلى أنْ يأتوا بعشر سور مثل هذا القرآن مفتريات، ولم تطيقوا أنتم وهم أن تأتوا بذلك، فاعلموا وأيقنوا أنه إنما أنزل من السماء على محمد ﷺ بعلم الله وإذنه، وأن محمدًا لم يفتره، ولا يقدر أن يفتريه = (وأن لا إله إلا هو)، يقول: وأيقنوا أيضًا أن لا معبود يستحق الألوهة على الخلق إلا الله الذي له الخلق والأمر، فاخلعوا الأنداد والآلهة، وأفردوا له العبادة.
* * *
وقد قيل: إن قوله: (فإن لم يستجيبوا لكم) خطاب من الله لنبيه، كأنه قال: فإن لم يستجب لك هؤلاء الكفار، يا محمد، فاعلموا، أيها المشركون، أنما أنزل بعلم الله = وذلك تأويل بعيد من المفهوم.
* * *
وقوله: (فهل أنتم مسلمون)، يقول: فهل أنتم مذعنون لله بالطاعة، ومخلصون له العبادة، بعد ثبوت الحجة عليكم؟
* * *
وكان مجاهد يقول: عني بهذا القول أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
١٨٠٠٩- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فهل أنتم مسلمون)، قال: لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
١٨٠١٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال =
١٨٠١١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقيل: (فإن لم يستجيبوا لكم)، والخطاب في أوّل الكلام قد جرى لواحدٍ، وذلك قوله: (قل فأتوا)، ولم يقل: "فإن لم يستجيبوا لك " على نحو ما قد بينا قبلُ في خطاب رئيس القوم وصاحب أمرهم، أن العرب تخرج خطابه أحيانا مخرج خطاب الجمع، إذا كانَ خطابه خطابًا لأتباعه وجنده، وأحيانًا مخرج خطاب الواحد، إذا كان في نفسه واحدًا. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (١٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: من كان يريد بعمله الحياة الدنيا، وإيّاها وَزينتها يطلب به، (٢) نوفّ إليهم أجور أعمالهم فيها وثوابها (٣) = (وهم فيها) يقول: وهم في الدنيا، (لا يبخسون)، يقول: لا ينقصون أجرها، ولكنهم يوفونه فيها. (٤)
* * *
(٢) في المطبوعة: " وأثاثها وزينتها يطلب به "، فأفسد الكلام وضامه، وهو في المخطوطة على الصواب كما أثبته.
(٣) انظر تفسير " الزينة " فيما سلف ص: ١٧٧، تعليق: ٢، ٥، والمراجع هناك.
= وتفسير " التوفية " فيما سلف من فهارس اللغة (وفى).
(٤) انظر تفسير " البخس " فيما سلف ٦: ٥٦ / ١٢: ٥٥٥.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٠١٢- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) الآية، وهي ما يعطيهم الله من الدنيا بحسناتهم، وذلك أنهم لا يظلمون نقيرًا. يقول: من عمل صالحًا التماس الدنيا، صومًا أو صلاةً أو تهجدًا بالليل، لا يعمله إلا لالتماس الدنيا، يقول الله: أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة، وحبط عمله الذي كان يعملُ التماس الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين.
١٨٠١٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها)، قال: ثوابَ ما عملوا في الدنيا من خير أعطوه في الدنيا، وليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صَنَعوا فيها.
* * *
١٨٠١٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها)، قال: وَزْنَ ما عملوا من خير أعطوا في الدنيا، (١) وليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها. قال: هي مثل الآية التي في الروم: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ)، [سورة الروم: ٣٩]
١٨٠١٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن سعيد بن جبير: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها)، قال: من عمل للدنيا وُفِّيهُ في الدنيا.
وفي المخطوطة ما أثبته، إلا أن فيه " ورب ما عملوا " غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت.
١٨٠١٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عيسى = يعني ابن ميمون = عن مجاهد في قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها)، قال: ممن لا يقبل منه، جُوزِي به، يُعطَى ثوابَه.
١٨٠١٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن عيسى الجرشي، عن مجاهد: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها)، قال: ممن لا يقبل منه، يعجّل له في الدنيا. (١)
١٨٠١٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون)، أي: لا يظلمون. يقول: من كانت الدنيا همَّه وسَدَمه (٢) وطَلِبته ونيتّه، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة، وليس له حسنة يعطى بها جزاءً. وأما المؤمن، فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة = (وهم فيها لا يبخسون) أي: في الآخرة لا يظلمون.
١٨٠٢٠- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور = وحدثنا
(٢) " السدم " (بفتحتين) : الولوع بالشيء واللهج به. والغم بطلبه، والندم على فوته، وفي الحديث:
"مَنْ كانت الدنيا همَّه وسَدَمَه، جَعَل الله فَقْرَه بين عينيه ".
١٨٠٢١-.... قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ليث بن أبي سلم، عن محمد بن كعب القرظي: أن النبي ﷺ قال: من أحسن من محسن، فقد وقع أجره على الله في عاجل الدنيا وآجل الآخرة. (١)
١٨٠٢٢- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها)، الآية، يقول: من عمل عملا صالحًا في غير تقوى = يعني من أهل الشرك = أعطي على ذلك أجرًا في الدنيا: يصل رحمًا، يعطي سائلا يرحم مضطرًّا، في نحو هذا من أعمال البرّ، يعجل الله له ثواب عمله في الدنيا، ويُوسِّع عليه في المعيشة والرزق، ويقرُّ عينه فيما خَوَّله، ويدفع عنه من مكاره الدنيا، في نحو هذا، وليس له في الآخرة من نصيب.
١٨٠٢٣- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا حفص بن عمر أبو عمر الضرير قال، حدثنا همام، عن قتادة، عن أنس في قوله: (نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون)، قال: هي في اليهود والنصارى.
١٨٠٢٤-.... قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن أبي رجاء الأزدي، عن الحسن: (نوف إليهم أعمالهم فيها)، قال: طيباتهم.
١٨٠٢٥- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، مثله.
١٨٠٢٧- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن وهيب: أنه بلغه أن مجاهدًا كان يقول في هذه الآية: هم أهل الرياء، هم أهل الرياء.
١٨٠٢٨-.... قال، أخبرنا ابن المبارك، عن حيوة بن شريح قال، حدثني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان، أن عقبة بن مسلم حدثه، أنّ شُفيّ بن ماتع الأصبحي حدثه: أنه دخل المدينة، فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال من هذا؟ فقالوا أبو هريرة! فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، وهو يحدِّث الناس، فلما سكت وَخَلا (١) قلت: أنشدك بحقِّ، وبحقِّ، (٢) لما حدثتني حديثًا سمعته من رسول الله ﷺ عَقَلته وعلمتَه. قال: فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثًا حدّثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم! ثم نَشَغ نشغةً، (٣) ثم أفاق فقال: لأحدثنك حديثًا حدّثنيه رسول الله ﷺ في هذا البيت، ما فيه أحدٌ غيري وغيره! ثم نشَغ أبو هريرة نشغةً شديدة، ثم مال خارًّا على وجهه، واشتدّ به طويلا ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة، نزل إلى القيامة ليقضي بينهم، (٤) وكل أمة جاثيةٌ، فأوّل من يدعى به رجلٌ جمع القرآن، ورجل قُتِل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك
(٢) " بحق، وبحق " هذا قسم عليه، يريد: " بحق كذا "، وهو اختصار.
(٣) " نشغ الرجل "، شهق حتى يكاد يبلغ به الغشى. قال أبو عبيدة: " وإنما يفعل ذلك الإنسان شوقا إلى صاحبه، أو إلى شيء فائت، وأسفا عليه وحبا للقائه ".
(٤) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: " نزل إلى القيامة "، وأنا في شك منها شديد، وأظن الصواب ما في رواية الترمذي:
" ينزل إلى العباد ليقضى بينهم ".
= قال الوليد أبو عثمان: فأخبرني عقبة أن شفيًّا هو الذي دخل على معاوية، فأخبره بهذا.
قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حكيم: أنه كان سيَّافًا لمعاوية، قال: فدخل عليه رجل فحدّثه بهذا عن أبي هريرة، فقال أبو هريرة: وقد فعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بقي من الناس! ثم بكى معاوية بكاءً شديدًا حتى ظننا أنه هلك، وقلنا: [قد جاءنا] هذا الرجل بشرٍّ! (٢) ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه فقال: صدق الله ورسوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها)، وقرأ إلى: (وباطل ما كانوا يعملون). (٣)
(٢) في المطبوعة: " قلنا هذا الرجل شر "، وهو فاسد جدا، وفي المخطوطة مثله إلا أن فيها: " بشر "، والصواب ما أثبته من سنن الترمذي، ووضعت الزيادة بين القوسين.
(٣) الأثر: ١٨٠٢٨ - " ابن المبارك "، هو " عبد الله بن المبارك "، الإمام المشهور، و " حيوة بن شريح التجيبي المصري "، روى له الجماعة، مضى مرارًا، آخرها رقم: ١٦٣٨٢." والوليد بن أبي الوليد القرشي، أبو عثمان "، ثقة، مضى برقم: ٥٤٥٥." وعقبة بن مسلم التجيبي المصري "، تابعي ثقة، مضى مرارًا آخرها رقم: ١٣٢٤٠، ١٣٢٤١." وشفي بن ماتع الأصبحي المصري "، تابعي ثقة، من ثقات المصريين، كان عالمًا حكيمًا. وعده ابن جرير الطبري في الصحابة، ولا يكاد يثبت. مترجم في التهذيب، وابن سعد ٧ / ٢ / ٢٠١، والكبير ٢ / ٢ / ٢٦٧، وابن أبي حاتم ٢ / ١ / ٣٨٩، والإصابة في ترجمته في القسم الرابع من حرف الشين. وقال الحافظ ابن حجر: " وأورد حديثه بقي بن مخلد في مسنده أيضًا. ولم أر له رواية عن صحابي إلا عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وحديثه عنه في السنن. وجزم بأنه تابعي، وأن حديثه مرسل: البخاري وابن حبان، وأبو حاتم الرازي، وغيرهم ". وهذا الخبر رواه الترمذي في " كتاب الزهد "، في باب " الرياء والسمعة "، وقال: " هذا حديث حسن غريب "، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فالترمذي إذا قال: حسن غريب، قد يعني به أنه غريب من ذلك الطريق، لكن المتن له شواهد صار بها من جملة الحسن "، قلت: وغرابة هذا الحديث، رواية " شفي بن ماتع "، عن " أبي هريرة "، وشفي لا تعرف له رواية مشهورة ثانية إلا عند عبد الله بن عمرو بن العاص، وإن كانت روايته عن أبي هريرة حسنة، على غرابتها، لأنه خليق أن يروى عنه، وخليق أن يلقاه مرة بالمدينة، كما جاء في هذا الخبر. وقد رواه مختصرًا، النسائي في سننه ٦: ٢٣، من طريق أخرى، عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن جريج، عن يوسف بن يوسف، عن سليمان بن يسار، قال: تفرق الناس عن أبي هريرة، فقال له قائل من أهل الشأم، أيها الشيخ، حدثني حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث = فكأن هذا القائل من أهل الشأم هو " شفي بن ماتع "، وأنه كان بالشأم قبل أن يسكن مصر، و" شفي "، في الطبقة الثانية من تابعي أهل مصر، كما عده ابن سعد. و" سليمان بن يسار الهلالي "، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وسمع من أبي هريرة، فكأن هذا القائل، أو شفي بن ماتع، كان يومئذ صغيرًا وهو يسأل أبا هريرة بالمدينة، وكأن خبر النسائي، هو الشاهد من الحديث الصحيح الذي جعل الترمذي يصف الخبر الأول بأنه " حسن غريب ".
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين ذكرت أنّا نوفيهم أجور أعمالهم في الدنيا = (ليس لهم في الآخرة إلا النار)، يصلونها = (وحبط ما صنعوا فيها)، يقول: وذهب ما عملوا في الدنيا، (١) = (وباطل ما كانوا يعملون)، لأنهم كانوا يعملون لغير الله، فأبطله الله وأحبط عامله أجره.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (أفمن كان على بينة من ربه)، قد بين له دينه فتبينه (٢) = (ويتلوه شاهد منه). (٣)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: يعني بقوله: (أفمن كان على بينة من ربه)، محمدًا صلى الله عليه وسلم.
(٢) انظر تفسير " البينة " فيما سلف من فهارس اللغة (بين).
(٣) انظر تفسير " يتلو "، و " شاهد " فيما سلف من فهارس اللغة (تلا)، (شهد).
١٨٠٣٠- حدثني محمد بن خلف قال، حدثنا حسين بن محمد قال، حدثنا شيبان، عن قتادة، عن عروة، عن محمد ابن الحنفية قال: قلت لأبي: يا أبت، أنت التالي في (ويتلوه شاهد منه) ؟ قال: لا والله يا بنيّ! وددت أني كنت أنا هو، ولكنه لسانُه
١٨٠٣١- حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، ، عن الحسن: (ويتلوه شاهد منه) قال: لسانه.
١٨٠٣٢- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن، في قوله: (ويتلوه شاهد منه) قال: لسانه.
١٨٠٣٣- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا الحكم بن عبد الله أبو النعمان العجلي قال، حدثنا شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن، مثله. (١)
١٨٠٣٤- حدثني علي بن الحسن الأزدي قال، حدثنا المعافى بن عمران، عن قرة بن خالد، عن الحسن، مثله.
١٨٠٣٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (أفمن كان على بينة من ربه)، وهو محمد، كان على بيّنة من ربه.
١٨٠٣٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قوله: (ويتلوه شاهد منه) قال: لسانه.
١٨٠٣٧- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ويتلوه شاهد منه)، قال: لسانه هو الشاهد.
١٨٠٣٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن، مثله.
* * *
وقال آخرون: يعني بقوله: (ويتلوه شاهد منه)، محمدًا صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
١٨٠٤٠- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن سليمان العلاف، عن الحسين بن علي في قوله: (ويتلوه شاهد منه) قال: الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم. (١)
١٨٠٤١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا غندر، عن عوف، قال، حدثني سليمان العلاف قال: بلغني أن الحسن بن علي قال: (ويتلوه شاهد منه)، قال: محمد صلى الله عليه وسلم.
١٨٠٤٢-.... قال، حدثنا أبو أسامة، عن عوف، عن سليمان العلاف، سمع الحَسَن بن علي: (ويتلوه شاهد منه)، يقول: محمد، هو الشاهد من الله. (٢)
١٨٠٤٣- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه)، قال:
(٢) الأثران: ١٨٠٤١، ١٨٠٤٢ - " سليمان العلاف "، انظر التعليق السالف، وفي الأثرين " الحسين بن علي " في المخطوطة والمطبوعة، والصواب ما أثبت كما مر ذلك في التعليق على الأثر السالف.
١٨٠٤٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: (أفمن كان على بينة من ربه)، قال: النبي صلى الله عليه وسلم.
١٨٠٤٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن نضر بن عربي، عن عكرمة، مثله.
١٨٠٤٦-.... قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، مثله.
١٨٠٤٧- حدثنا الحارث قال، حدثنا أبو خالد، سمعت سفيان يقول: (أفمن كان على بينة من ربه)، قال: محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون: هو علي بن أبي طالب.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٠٤٨- حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا رزيق بن مرزوق قال، حدثنا صباح الفراء، عن جابر، عن عبد الله بن نجيّ قال، قال علي رضى الله عنه: ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه الآية والآيتان. فقال له رجُل: فأنتَ فأي شيء نزل فيك؟ فقال علي: أما تقرأ الآية التي نزلت في هود: (ويتلوه شاهد منه). (٢)
* * *
(٢) الأثر: ١٨٠٤٨ - " رزيق بن مرزوق الكوفي المقرئ البجلي "، روى عن أبي الأحوص، وابن عيينة، وسهل بن شعيب، وروى عنه أحمد بن يحيى الصوفي، وأبو حاتم الرازي، وقال: " صدوق " مترجم في ابن أبي حاتم ١ / ٢ / ٥٠٦." وصباح الفراء "، لم أجده، وأخشى أن يكون هو " صباح بن يحيى المزني "، وهو الشيعي المتروك الذي سلف برقم: ١٦١١٣." وجابر " هو الجعفي " جابر بن يزيد الجعفي ". وهو ضعيف، بل ربما كان القول فيه أشد، وكان فوق ذلك رافضيًا يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن حبان: " كان من أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان يقول: إن عليا يرجع إلى الدنيا " مضى مرارًا آخرها رقم: ١٤٠٠٨. " وعبد الله بن نجي بن سلمة الكوفي الحضرمي "، ليس بالقوي، كان أبوه على مطهرة علي رضي الله عنه، قال البخاري: " فيه نظر "، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢ / ٢ / ١٨٤. وميزان الاعتدال ٢: ٨٢، وقال الذهبي: " روى عنه جابر الجعفي، فمنكرة من جابر "، ووثقه النسائي.
وكان في المطبوعة " عبد الله بن يحيى "، لم يحسن قراءة المخطوطة فيعرف الاسم.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٠٤٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: (ويتلوه شاهد منه)، إنه كان يقول: جبريل.
١٨٠٥٠- حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم: (ويتلوه شاهد منه)، قال: جبريل.
١٨٠٥١- وحدثنا به أبو كريب مرة أخرى، بإسناده عن إبراهيم فقال: قال: يقولون: "علي"، إنما هو جبريل.
١٨٠٥٢- حدثنا أبو كريب، وابن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد قال: هو جبريل، تلا التوراة والإنجيل والقرآن، وهو الشاهد من الله.
١٨٠٥٣- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان = وحدثنا محمد بن عبد الله المخرّميّ، قال، حدثنا جعفر بن عون قال، حدثنا سفيان = وحدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان = عن منصور = عن إبراهيم: (ويتلوه شاهد منه) قال: جبريل.
١٨٠٥٤- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، مثله.
١٨٠٥٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، مثله.
١٨٠٥٧-.... قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد قال: جبريل.
١٨٠٥٨-.... قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي صالح: (ويتلوه شاهد منه)، قال: جبريل.
١٨٠٥٩-.... قال، حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك: (ويتلوه شاهد منه)، قال: جبريل
١٨٠٦٠-.... حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (أفمن كان على بينة من ربه)، يعني محمدًا هو على بينة من الله = (ويتلوه شاهد منه)، جبريل، شاهدٌ من الله، يتلو على محمد ما بُعث به.
١٨٠٦١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: هو جبريل
١٨٠٦٢-.... قال، حدثنا أبي، عن نضر بن عربي، عن عكرمة، قال: هو جبريل.
١٨٠٦٣-.... قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: جبريل.
١٨٠٦٤-.... حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي، قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (أفمن كان على بينة من ربه)، يعني محمدًا، على بينة من ربه = (ويتلوه شاهد منه)، فهو
١٨٠٦٥- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو النعمان عارم قال، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب قال، كان مجاهد يقول في قوله: (أفمن كان على بينة من ربه)، قال: يعني محمدًا، (ويتلوه شاهد منه)، قال: جبريل.
* * *
وقالا آخرون: هو ملك يحفظه.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٠٦٦- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ويتلوه شاهد منه)، قال: معه حافظ من الله، مَلَكٌ.
١٨٠٦٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، وسويد بن عمرو، عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن مجاهد: (ويتلوه شاهد منه)، قال: ملك يحفظه.
١٨٠٦٨-.... قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، عمن سمع مجاهدًا: (ويتلوه شاهد منه)، قال: الملك.
١٨٠٦٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ويتلوه شاهد منه)، يتبعه حافظٌ من الله، مَلَكٌ.
١٨٠٧٠- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن أيوب، عن مجاهد: (ويتلوه شاهد منه)، قال: الملك يحفظه: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ)، [سورة البقرة: ١٢١] قال: يتّبعونه حقّ اتباعه.
١٨٠٧١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ويتلوه شاهد منه)، قال: حافظ من الله، مَلكٌ.
* * *
* * *
فإن قال قائل: فإن كان ذلك دليلك على أن المعنيَّ به جبريل، فقد يجب أن تكون القراءة في قوله: (ومن قبله كتاب موسى) بالنصب، لأن معنى الكلام على ما تأولتَ يجب أن يكون: ويتلو القرآنَ شاهدٌ من الله، ومن قبل القرآن كتابَ موسى؟
قيل: إن القراء في الأمصار قد أجمعت على قراءة ذلك بالرفع فلم يكن لأحد خلافها، ولو كانت القراءة جاءت في ذلك بالنصب، كانت قراءة صحيحةً ومعنى صحيحًا.
فإن قال: فما وجه رفعهم إذًا "الكتاب" على ما ادعيت من التأويل؟
قيل: وجه رفعهم هذا أنهم ابتدؤوا الخبر عن مجيء كتاب موسى قبل كتابنا المنزل على محمد، فرفعوه ب "من" [ومنه]، (١) والقراءة كذلك، والمعنى الذي ذكرت من معنى تلاوة جبريل ذلك قبل القرآن، وأن المراد من معناه ذلك،
وانظر تفسير الآية في معاني القرآن للفراء.
* * *
وأما قوله: (إمامًا) فإنه نصب على القطع من "كتاب موسى"، (١) وقوله (ورحمة)، عطف على "الإمام". كأنه قيل: ومن قبله كتاب موسى إمامًا لبني إسرائيل يأتمُّون به، ورحمةً من الله تلاه على موسى، كما:-
١٨٠٧٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن منصور، عن إبراهيم، في قوله: (ومن قبله كتاب موسى)، قال: من قبله جاء بالكتاب إلى موسى.
* * *
وفي الكلام محذوف قد ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ذكر عليه منه، وهو: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمةً)، = "كمن هو في الضلالة متردد لا يهتدي لرشد، ولا يعرف حقًّا من باطل، ولا يطلب بعمله إلا الحياة الدنيا وزينتها". وذلك نظير قوله: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [سورة الزمر: ٩] (٢) والدليل على حقيقة ما قلنا في ذلك أن ذلك عقيب قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا)، الآية، ثم قيل: أهذا خير، أمن كان على بينة من ربه؟ والعرب تفعل ذلك كثيرًا إذا كان فيما ذكرت دلالة على مرادها على ما حذفت، وذلك كقول الشاعر: (٣)
وَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُه | سِواكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعًا (٤) |
(٢) انظر تفسير الآية في معاني القرآن للفراء.
(٣) هو امرؤ القيس.
(٤) ديوانه: ١١٣، والخزانة ٤: ٢٢٧، وغيرهما كثير، وسيأتي في التفسير ١٣: ١٠٢ / ٢٣: ١٢٨ / ٢٩: ٦٧ (بولاق)، وهذا البيت قد كثر الاستدلال به على الحذف، إلا أن البغدادي أفاد فائدة جيدة فقال: " وعذرهم في تقدير الجواب أن هذا البيت ساقط في أكثر الروايات، وقد ذكره الزجاجي في أماليه الصغرى والكبرى في جملة أبيات ثمانية، رواها المبرد من قصيدة لأمرئ القيس، ورأينا أن نقتصر عليها، وهي:
بَعَثْتُ إلَيْها والنُّجوم خَوَاضِعٌ | حِذَارًا عَلَيْهَا أنْ تَقُومَ فَتَسْمَعَا |
فَجَاءتْ قَطُوفَ المَشْيِ هَائِبَةَ السُّرَى | يُدَافِعُ رُكْنَاهَا كَوَاعِبَ أرْبَعَا |
يُزَجِّيهَا مَشْىَ النَّزِيفِ وَقَدْ جَرَى | صُبَابُ الكَرَى فِي مُخِّهِ فَتَقَطَّعَا |
تَقُولُ وَقَدْ جَرَّدْتُهَا مِنْ ثِيَابِهَا | كَمَا رُعْتَ مَكْحُولَ المَدَامِع أَتْلَعَا |
أَجِدَّكَ لَوْ شَيْءٌ أَتَانا رَسُولُهُ | سِوَاكَ وَلكِنْ لم نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا |
إِذَنْ لَرَدَدْنَاهُ، وَلَوْ طَالَ مَكْثُهُ | لَدَيْنَا، وَلَكِنَّا بِحُبِّكَ وُلَّعَا |
فَبِتْنَا تَصُدُّ الوُحْشُ عَنَّا، كَأَنَّنَا | قَتِيلاَنِ لم يَعْلَمْ النَّاسُ لَنَا مَصْرَعَا |
إِذَا أَخَذَتْهَا هِزَّةُ الرَّوْعِ، أَمْسَكَتْ | بِمَنْكِبِ مِقْدَامٍ عَلَى الهَوْلِ أرْوَعَا |
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن يكفر بهذا القرآن، فيجحد أنه من عند الله = (من الأحزاب) وهم المتحزّبة على مللهم (١) = (فالنار موعده)، أنه يصير إليها في الآخرة بتكذيبه. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
ثم ابتدأ جل ثناؤه الخبر عن القرآن فقال: إن هذا القرآن الذي أنزلناه إليك، يا محمد، الحقّ من ربك لا شك فيه، ولكنّ أكثر الناس لا يصدِّقون بأن ذلك كذلك.
* * *
فإن قال قائل: أوَ كان النبي ﷺ في شكٍّ من أن القرآن من عند الله، وأنه حق، حتى قيل له: "فلا تك في مرية منه"؟
قيل: هذا نظير قوله: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ) [سورة يونس: ٩٤]، وقد بينا ذلك هنالك. (٢)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٠٧٣- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب قال: نبئت أن سعيد بن جبير قال: ما بلغني حديثٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على وَجهه إلا وجدت مصداقَه في كتاب الله تعالى، حتى قال "لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمة، ولا يهودي ولا نصرانيّ، ثم لا يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار". قال سعيد، فقلت: أين هذا في كتاب الله؟ حتى أتيت على هذه الآية: (ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمةً أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده)، قال: من أهل الملل كُلّها.
١٨٠٧٤- حدثنا محمد بن عبد الله المخرّمي، وابن وكيع قالا حدثنا جعفر بن عون قال، حدثنا سفيان، عن أيوب، عن سعيد بن جبير في قوله: (ومن
(٢) انظر ما سلف قريبًا ص: ٢٠٠ - ٢٠٣.
١٨٠٧٥- حدثني يعقوب، وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير قال: كنت لا أسمع بحديث عن رسول الله ﷺ على وَجهه، إلا وجدت مصداقه = أو قال تصديقه = في القرآن، فبلغني أن رسول الله ﷺ قال: "لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة، ولا يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار"، فجعلت أقول: أين مصداقُها؟ حتى أتيت على هذه: (أفمن كان على بينة من ربه)، إلى قوله: (فالنار موعده)، قال: فالأحزاب، الملل كلها.
١٨٠٧٦- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، حدثني أيوب، عن سعيد بن جبير قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة، ولا يهودي ولا نصراني، فلا يؤمن بي إلا دخل النار"، فجعلت أقول: أين مصداقها في كتاب الله؟ قال: وقلَّما سمعت حديثًا عن النبي ﷺ إلا وجدتُ له تصديقًا في القرآن، حتى وجدت هذه الآيات: (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده)، الملل كلها. (١)
١٨٠٧٧-.... قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده)، قال: الكفارُ أحزابٌ كلهم على الكفر.
١٨٠٧٨- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ)، [سورة الرعد: ٣٦]، أي:
وانظر حديث أبي هريرة، في صحيح مسلم ٢: ١٨٦، وما سيأتي من حديث أبي موسى رقم: ١٨٠٧٩.
١٨٠٧٩- حدثني المثنى قال، حدثنا يوسف بن عدي النضري قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله ﷺ قال: من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني، فلم يؤمن بي لم يدخل الجنة. (١)
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأي الناس أشد تعذيبًا ممن اختلق على الله كذبًا فكذب عليه؟ (١) = (أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) يعرضون يوم القيامة على ربهم"، (٢) فيسألهم عما كانوا في دار الدنيا يعملون، كما:
١٨٠٨٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا)، قال: الكافر والمنافق، (أولئك يعرضون على ربهم)، فيسألهم عن أعمالهم.
* * *
وقوله: (ويقول الأشهاد)، يعني الملائكة والأنبياء الذين شهدوهم وحفظوا عليهم ما كانوا يعملون = وهم جمع "شاهد" مثل "الأصحاب" الذي هو جمع "صاحب" = (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم)، يقول: شهد هؤلاء الأشهاد في الآخرة على هؤلاء المفترين على الله في الدنيا، فيقولون: هؤلاء الذين كذبوا في الدنيا على ربهم، يقول الله: (ألا لعنة الله على الظالمين)، يقول: ألا غضب الله على المعتدين الذين كفروا بربّهم.
* * *
وبنحو ما قلنا في قوله (ويقول الأشهاد)، قال أهل التأويل.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: " يكذبون على ربهم "، والأجود أن تبقى على سياقة الآية.
١٨٠٨١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ويقول الأشهاد)، قال: الملائكة.
١٨٠٨٢- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: الملائكة.
١٨٠٨٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ويقول الأشهاد)، والأشهاد: الملائكة، يشهدون على بني آدم بأعمالهم.
١٨٠٨٤- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (الأشهاد)، قال: الخلائق = أو قال: الملائكة.
١٨٠٨٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، بنحوه.
١٨٠٨٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (ويقول الأشهاد)، الذين كان يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا = (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم)، حفظوه وشهدوا به عليهم يوم القيامة = قال ابن جريج: قال مجاهد: "الأشهاد"، الملائكة.
١٨٠٨٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، قال: سألت الأعمش عن قوله: (ويقول الأشهاد)، قال: الملائكة.
١٨٠٨٨- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ويقول الأشهاد)، يعني الأنبياء والرسل، وهو قوله: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ)، [سورة النحل: ٨٩]. قال: وقوله: (ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم)، يقولون: يا ربنا أتيناهم بالحق فكذبوا، فنحن نشهد عليهم أنهم كذبوا عليك يا ربنا.
١٨٠٩٠- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا هشام، عن قتادة، عن صفوان بن محرز، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (٤)
١٨٠٩١- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: كنا نحدَّث أنه لا يخزَى يومئذ أحدٌ، فيخفى خزيُه على أحد ممن خلق لله = أو: الخلائق.
* * *
(٢) مضى في رقم: ٦٤٩٧: " رب اغفر "، مكان " رب أعرف ".
(٣) الأثر: ١٨٠٨٩ - مضى هذا الخبر بإسناده، وتخريجه في رقم: ٦٤٩٧ (ج ٦: ١١٩، ١٢٠).
(٤) الأثر: ١٨٠٩٠ - مضى هذا الإسناد برقم: ٦٤٩٧، أيضًا.
قال أبو جعفر: يقولا تعالى ذكره: ألا لعنة الله على الظَّالمين الذين يصدّون الناسَ، عن الإيمان به، والإقرار له بالعبودة، وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد، من مشركي قريش، وهم الذين كانوا يفتنون عن الإسلام من دخل فيه (١). = (ويبغونها عوجًا)، يقول: ويلتمسون سبيل الله، وهو الإسلام الذي دعا الناس إليه محمد، (٢) يقول: زيغًا وميلا عن الاستقامة. (٣) = (وهم بالآخرة هم كافرون)، يقول: وهم بالبعث بعد الممات مع صدهم عن سبيل الله وبغيهم إياها عوجًا = (كافرون) يقول: هم جاحدون ذلك منكرون.
* * *
(٢) انظر تفسير " بغى " فيما سلف ١٤: ٢٨٣، تعليق: ١، والمراجع هناك.
= وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل).
(٣) انظر تفسير " العوج " فيما سلف ٧: ٥٣، ٥٤ / ١٢: ٤٤٨، ٥٥٩.
قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله: (أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض)، هؤلاء الذين وصف جل ثناؤه أنهم يصدّون عن سبيل الله، يقول جل ثناؤه: إنهم لم يكونوا بالذي يُعْجِزون ربَّهم بهربهم منه في الأرض إذا أراد عقابهم والانتقام منهم، ولكنهم في قبضته وملكه، لا يمتنعون منه إذا أرادهم ولا يفوتونه
* * *
وقوله: (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون)، فإنه اختلف في تأويله.
فقال بعضهم: ذلك وصَفَ الله به هؤلاء المشركين أنه قد ختم على سمعهم وأبصارهم، وأنهم لا يسمعون الحق، ولا يبصرون حجج الله، سَمَاعَ منتفع، ولا إبصارَ مهتدٍ.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٠٩٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون)، صم عن الحقّ فما يسمعونه، بكم فما ينطقون به، عمي فلا يبصرونه، ولا ينتفعون به
١٨٠٩٣- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون)، قال: ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا خيرًا فينتفعوا به، ولا يبصروا خيرًا فيأخذوا به
١٨٠٩٤- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: أخبر الله سبحانه أنه حال بين أهل الشرك، وبين طاعته في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا، فإنه قال: (ما كانوا
(٢) انظر تفسير " الولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي).
(٣) انظر تفسير " المضاعفة " فيما سلف ١٢: ٤١٧ - ٤١٩.
* * *
وقال آخرون: إنما عنى بقوله: (وما كان لهم من دون الله من أولياء)، آلهةَ الذين يصدون عن سبيل الله. وقالوا: معنى الكلام: أولئك وآلهتهم، (لم يكونوا معجزين في الأرض يضاعَفُ لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون)، يعني الآلهة، أنها لم يكن لها سمعٌ ولا بصر. وهذا قولٌ روي عن ابن عباس من وجه كرهت ذكره لضعْفِ سَنَده.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: يُضَاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع ولا يسمعونه، وبما كانوا يبصرون ولا يتأمَّلون حجج الله بأعينهم فيعتبروا بها. قالوا: و"الباء" كان ينبغي لها أن تدخل، لأنه قد قال: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)، [سورة البقرة: ١٠]، بكذبهم، في غير موضع من التنزيل أدخلت فيه "الباء"، وسقوطها جائز في الكلام كقولك في الكلام: " لأجزينَّك ما علمت، وبما علمت"، (١) وهذا قول قاله بعض أهل العربية.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، ما قاله ابن عباس وقتادة، من أن الله وصفهم تعالى ذكره بأنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الحقّ سماع منتفع، ولا يبصرونه إبصار مهتد، لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين، عن استعمال جوارحهم في طاعة الله، وقد كانت لهم أسماعٌ وأبصارٌ.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم، هم الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله (١) = (وضل عنهم ما كانوا يفترون)، وبطل كذبهم وإفكهم وفريتهم على الله، (٢) بادعائهم له شركاء، فسلك ما كانوا يدعونه إلهًا من دون الله غير مسلكهم، وأخذ طريقًا غير طريقهم، فضَلّ عنهم، لأنه سلك بهم إلى جهنم، وصارت آلتهم عدمًا لا شيء، لأنها كانت في الدنيا حجارة أو خشبًا أو نحاسًا = أو كان لله وليًّا، فسلك به إلى الجنة، وذلك أيضًا غير مسلكهم، وذلك أيضًا ضلالٌ عنهم.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ (٢٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: حقا أن هؤلاء القوم الذين هذه صفتهم في الدنيا وفي الآخرة هم الأخسرون الذين قد باعوا منازلهم من الجنان بمنازل أهل الجنة من النار ; وذلك هو الخسران المبين.
* * *
وقد بينا فيما مضى أن معنى قولهم: "جَرمتُ"، كسبت الذنب و"جرمته"، (٣)
(٢) انظر تفسير " الضلال " و " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل)، (فرى).
(٣) انظر ما سلف ٩: ٤٨٣ - ٤٨٥ / ١٠: ٩٥، وكان في المطبوعة: " جرمت "، " أجرمته " بالألف، والصواب ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في معاني القرآن.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا في الدنيا بطاعة الله = و"أخبتوا إلى ربهم".
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى "الإخبات".
فقال بعضهم: معنى ذلك: وأنابوا إلى ربهم.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٠٩٥- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم)، قال: "الإخبات"، الإنابة
١٨٠٩٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وأخبتوا إلى ربهم)، يقول: وأنابوا إلى ربهم
* * *
(٢) انظر معاني القرآن للفراء في تفسير هذه الآية، وهذا بعض كلامه.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٠٩٧- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: (وأخبتوا إلى ربهم)، يقول: خافوا
* * *
وقال آخرون: معناه: اطمأنوا.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٠٩٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء = عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وأخبتوا إلى ربهم)، قال: اطمأنوا.
١٨٠٩٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٨١٠٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: خشعوا.
*ذكر من قال ذلك:
١٨١٠١- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وأخبتوا إليهم ربهم)، "الإخبات"، التخشُّع والتواضع
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال متقاربة المعاني، وإن اختلفت ألفاظها، لأن الإنابة إلى الله من خوف الله، ومن الخشوع والتواضع لله بالطاعة، والطمأنينة إليه من الخشوع له، غير أن نفس "الإخبات"، عند العرب: الخشوع والتواضع.
* * *
* * *
وقوله: (أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)، يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم، هم سكان الجنة الذين لا يخرجون عنها ولا يموتون فيها، ولكنهم فيها لابثُون إلى غير نهاية. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: مثل فريقي الكفر والإيمان كمثل الأعمى الذي لا يرى بعينه شيئًا، والأصم الذي لا يسمع شيئًا، فكذلك فريق الكفر لا يبصر الحق فيتبعه ويعمل به، لشغله بكفره بالله، وغلبة خذلان الله عليه، لا يسمع داعي الله إلى الرشاد، فيجيبه إلى الهدى فيهتدي به، فهو مقيمٌ في ضلالته، يتردَّد في حيرته. والسميع والبصير فذلك فريق الإيمان، (٢) أبصر حجج الله، وأقر بما دلت عليه من توحيد الله، والبراءة من الآلهة والأنداد، ونبوة الأنبياء عليهم السلام، وسمعَ داعي الله فأجابه وعمل بطاعة الله، كما:
١٨١٠٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: " فكذلك فريق الإيمان "، وكأن الصواب ما اثبت.
١٨١٠٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع)، الفريقان الكافران، والمؤمنان، فأما الأعمى والأصم فالكافران، وأما البصير والسميع فهما المؤمنان
١٨١٠٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع)، الآية، هذا مثلٌ ضربه الله للكافر والمؤمن، فأما الكافر فصم عن الحق، فلا يسمعه، وعمي عنه فلا يبصره. وأما المؤمن فسمع الحق فانتفع به، وأبصره فوعاه وحفظه وعمل به
* * *
يقول تعالى: (هل يستويان مثلا)، يقول: هل يستوي هذان الفريقان على اختلاف حالتيهما في أنفسهما عندكم أيها الناس؟ فإنهما لا يستويان عندكم، فكذلك حال الكافر والمؤمن لا يستويان عند الله = (أفلا تذكرون)، يقول جل ثناؤه: أفلا تعتبرون أيها الناس وتتفكرون، ، فتعلموا حقيقة اختلاف أمريهما، فتنزجروا عما أنتم عليه من الضلال إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان؟
* * *
= فالأعمى والأصم، والبصير والسميع، في اللفظ أربعة، وفي المعنى اثنان. ولذلك قيل: (هل يستويان مثلا).
وقيل: (كالأعمى والأصم)، والمعنى: كالأعمى الأصمّ، وكذلك قيل (والبصير والسميع)، ، والمعنى: البصير السميع، كقول القائل: "قام الظريف والعاقل"، وهو ينعت بذلك شخصًا واحدًا.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه: إني لكم، أيها القوم، نذير من الله، أنذركم بأسَه على كفركم به، فآمنوا به وأطيعوا أمره.
ويعني بقوله: (مبين)، يبين لكم عما أرسل به إليكم من أمر الله ونهيه. (١)
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (إني).
فقرأ ذلك عامة قراء الكوفة وبعض المدنيين بكسر "إنّ" على وجه الابتداء إذ كان في "الإرسال" معنى "القول".
* * *
وقرأ ذلك بعض قراء أهل المدينة والكوفة والبصرة بفتح "أن" على إعمال الإرسال فيها، كأن معنى الكلام عندهم: لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه بأني لكم نذير مبين.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أن يقال إنهما قراءتان متفقتا المعنى، قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ كان مصيبًا للصواب في ذلك.
* * *
وقوله: (أن لا تعبدوا إلا الله) فمن كسر الألف في قوله: (إني) جعل قوله: (أرسلنا) عاملا في "أنْ" التي في قوله: (أن لا تعبدوا إلا الله)، ويصير
* * *
ويعني بقوله: [بأن لا تعبدوا إلا الله أيها الناس]، عبادة الآلهة والأوثان، (١)
وإشراكها في عبادته، وأفردوا الله بالتوحيد، وأخلصوا له العبادة، فإنه لا شريك له في خلقه.
* * *
وقوله: (إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم)، يقول: إني أيها القوم، إن لم تخصُّوا الله بالعبادة، وتفردوه بالتوحيد، وتخلعوا ما دونه من الأنداد والأوثان= أخاف عليكم من الله عذابَ يوم مؤلم عقابُه وعذابُه لمن عُذِّب فيه.
* * *
وجعل "الأليم" من صفة "اليوم" وهو من صفة "العذاب"، إذ كان العذاب فيه، كما قيل: (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا)، [سورة الأنعام: ٩٦]، وإنما "السكن" من صفة ما سكن فيه دون الليل.
* * *
" ويعني بقوله: (أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ)، أي: اتركوا عبادة الآلهة... "
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فقال الكبراء من قوم نوح وأشرافهم = وهم (الملأ)، = (١) الذين كفروا بالله وجحدوا نبوة نبيهم نوح عليه السلام = (ما نراك)، يا نوح، (إلا بشرًا مثلنا)، يعنون بذلك أنه آدمي مثلهم في الخلق والصُّورة والجنس، كأنهم كانوا منكرين أن يكون الله يرسل من البشر رسولا إلى خلقه. (٢)
* * *
وقوله: (وما نراك اتَّبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي)، يقول: وما نراك اتبعك إلا الذين هم سفلتنا من الناس، دون الكبراء والأشراف، فيما نرَى ويظهر لنا.
* * *
(٢) انظر تفسير " البشر " فيما سلف ١١: ٥٢١، تعليق: ١، والمراجع هناك.
فقرأته عامة قراء المدينة والعراق: (بَادِيَ الرَّأْيِ)، بغير همز "البادي" وبهمز "الرأي"، بمعنى: ظاهر الرأي، من قولهم: "بدا الشيء يبدو"، إذا ظهر، كما قال الراجز: (١)
أَضْحَى لِخَالِي شَبَهِيَ بَادِي بَدِي | وَصَارَ لِلْفَحْلِ لِسَانِي وَيَدِي (٢) |
وقَدْ عَلَتْنِي ذُرْأَةٌ بادِي بَدِي (٣)
* * *
وقرأ ذلك بعض أهل البصرة: (بَادِئَ الرَّأْيِ)، مهموزًا أيضًا، بمعنى: مبتدأ الرأي، من قولهم: "بدأت بهذا الأمر"، إذا ابتدأت به قبل غيره.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأ: (بَادِيَ الرَّأْيِ) بغير همز "البادي"، وبهمز "الرأي"، لأن معنى ذلك الكلام: إلا الذين هم أراذلنا، في ظاهر الرأي، وفيما يظهر لنا.
* * *
وقوله: (وما نرى لكم علينا من فضل)، يقول: وما نتبين لكم علينا من فضل نلتموه بمخالفتكم إيانا في عبادة الأوثان إلى عبادة الله وإخلاص العبودة له، فنتبعكم
(٢) هذا الرجز والذي يليه، من رجز أبي نخيلة السعدي، لا شك في البيت الثاني منهما، أما الأول فإني أرتاب في صحة إنشاده، على الوجه الذي أنشده الفراء في معاني القرآن. وقد خرج هذا الرجز، صديقنا وشيخنا عبد العزيز الميمني الراجكرتي في سمط اللآلئ: ٢٩٣، ٤٨٠، وفي اللسان (ذرأ)، وتهذيب إصلاح المنطق ٢: ٣٢، وسيبويه ٢: ٥٤، ونوادر اليزيدي: ١٢٨، والأغاني (ساسي) ١٨: ١٥١، وتاريخ ابن عساكر ٢: ٣٢١ = وأزيد، تاريخ الطبري ٩: ٢٧٣، والمعاني الكبير: ١٢٢٣، والفراء في معاني القرآن، ومجاز القرآن ١: ٢٨٨، واللسان (بدا)، والأبيات هي:
كَيْفَ التَّصَابِي فِعْلَ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ | وَقَد عَلَتْنِي ذُرْأَةٌ بَادِي بَدى |
وَرَثْيَةٌ تَنْهَضُ في تَشَدُّدِي | بَعْدَ انْتِهَاضِي في الشَّبَابِ الأمْلَدِ |
وَبَعْدَ مَا أَذْكُرُ مِنْ تَأَوُّدِي | وَبَعْدَ تَمْشَائِي وتَطْوِيحِي يَدِي |
وذكرها صاحب اللسان في (بدا)، والتبريزي في تهذيب إصلاح المنطق، وزاد بعد قوله " ورثية تنهض في تشددي
وصار للفحل لساني ويدي
أما البيت الأول، فلم أجده في مكان، وأخشى أن تكون " بادي بدى " فيه، موضوعة مكان كلمة أخرى، ولا شك أن موضع هذين البيتين، ليس في الموضع الذي وضع أحدهما فيه صاحب اللسان والتبريزي.
(٣) انظر التعليق السالف. و " الذرأة " (بضم فسكون)، الشيب في مقدم الرأس.
* * *
وهذا خطاب منهم لنوحٍ عليه السلام، وذلك أنهم إنما كذبوا نوحًا دون أتباعه، لأن أتباعه لم يكونوا رُسلا. وأخرج الخطابَ وهو واحد مخرج خطاب الجميع، كما قيل: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ)، [سورة الطلاق: ١].
* * *
قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: بل نظنك، يا نوح، في دعواك أن الله ابتعثك إلينا رسولا كاذبًا.
* * *
وبنحو ما قلنا في تأويل قوله (بادي الرأي) قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٨١٠٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي)، قال: فيما ظهر لنا
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (٢٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل نوح لقومه إذ كذبوه، وردّوا عليه ما جاءهم به من عند الله من النصيحة: (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي)، على علمٍ ومعرفةٍ وبيان من الله لي ما يلزمني له، ويجب عليّ من
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض أهل البصرة والكوفة: (فَعَمِيَتْ) بفتح العين وتخفيف الميم، بمعنى: فعَمِيت الرحمة عليكم فلم تهتدوا لها، فتقرّوا بها، وتصدّقوا رسولكم عليها.
وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) بضم العين وتشديد الميم، اعتبارًا منهم ذلك بقراءة عبد الله، وذلك أنها فيما ذكر في قراءة عبد الله: (فَعَمَّاهَا عَلَيْكُمْ).
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه: (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) بضم العين وتشديد الميم للذي ذكَروا من العلة لمن قرأ به، ولقربه من قوله: (أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده)، فأضَاف "الرحمة" إلى الله، فكذلك "تعميته على الآخرين"، بالإضافة إليه أولى.
* * *
وهذه الكلمة مما حوّلت العرب الفعل عن موضعه. وذلك أن الإنسان هو الذي يعمى عن إبصار الحق، إذ يعمى عن إبصاره، و"الحق" لا يوصف بالعمى، إلا على الاستعمال الذي قد جرى به الكلام. وهو في جوازه لاستعمال العرب إياه نظيرُ قولهم: "دخل الخاتم في يدي، والخف في رجلي"، ومعلوم أن الرجل هي
* * *
وقوله: (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون)، يقول: أنأخذكم بالدخول في الإسلام، وقد عماه الله عليكم = (وأنتم لها كارهون)، (٢) يقول: وأنتم لإلزامناكُموها = "كارهون"، يقول: لا نفعل ذلك، ولكن نكل أمركم إلى الله، حتى يكون هو الذي يقضي في أمركم ما يرى ويشاء. (٣)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٨١٠٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال نوح: (يا قوم إن كنت على بينة من ربي)، قال: قد عرفتها، وعرفت بها أمره، وأنه لا إله إلا هو = (وآتاني رحمة من عنده)، الإسلام والهدى والإيمان والحكم والنبوّة
١٨١٠٧- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (أرأيتم إن كنت على بينة من ربي)، الآية، أما والله لو استطاع نبيّ الله ﷺ لألزمها قومه، ولكن لم يستطع ذلك ولم يملكه
١٨١٠٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن داود، عن أبي العالية قال: في قراءة أبيّ: (أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ أَنْفُسِنَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ).
١٨١٠٩- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: " عليكم لها كارهون "، والجيد ما أثبت، بزيادة: " وأنتم ".
(٣) انظر تفسير " الكره " فيما سلف من فهارس اللغة (كره).
١٨١١٠- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، مثله.
١٨١١١- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: (أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ قُلُوبِنَا وأَنْتُمْ لَهَا كارِهُونَ). (١)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا خبرٌ من الله عن قيل نوح لقومه، أنه قال لهم: يا قوم لا أسألكم على نصيحتي لكم، ودعايتكم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، مالا أجرًا على ذلك، فتتهموني في نصيحتي، وتظنون أن فعلي ذلك طلبُ عرض من أعراض الدنيا = (إن أجري إلا على الله)، يقول: ما ثواب نصيحتي لكم، ودعايتكم إلى ما أدعوكم إليه، إلا على الله، فانه هو الذي يجازيني، ويثيبني عليه = (وما أنا بطارد الذين آمنوا)، وما أنا بمقصٍ من آمن بالله،
* * *
وكان قيل نوح ذلك لقومه، لأن قومه قالوا له، كما:-
١٨١١٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: (وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم)، قال: قالوا له: يا نوح، إن أحببت أن نتبعك فاطردهم، وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأمر سواء. فقال: (ما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم)، فيسألهم عن أعمالهم
١٨١١٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، وحدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح جميعا، عن مجاهد قوله: (إن أجري إلا على الله)، قال: جَزَائي.
١٨١١٤- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٨١١٥-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقوله: (ولكني أراكم قومًا تجهلون)، يقول: ولكني، أيها القوم، أراكم قومًا تجهلونَ الواجبَ عليكم من حقّ الله، واللازم لكم من فرائضه. ولذلك من جهلكم سألتموني أن أطرد الذين آمنوا بالله.
* * *
قال أبو جعفر: يقول: (ويا قوم من ينصرني)، فيمنعني من الله إن هو عاقبني على طردي المؤمنين الموحِّدين الله إن طردتهم؟ = (أفلا تذكرون)، يقول: أفلا تتفكرون فيما تقولون: فتعلمون خطأه، فتنتهوا عنه؟.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) ﴾
قال أبو جعفر: وقوله: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله)، عطف على قوله: (ويا قوم لا أسألكم عليه أجرًا).
* * *
ومعنى الكلام: (ويا قوم لا أسألكم عليه أجرًا)، (ولا أقول لكم عندي خزائن الله)، التي لا يفنيها شيء، فأدعوكم إلى اتباعي عليها. ولا أعلم أيضًا الغيب = يعني: ما خفي من سرائر العباد، فإن ذلك لا يعلمه إلا الله = فأدّعي الربوبية وأدعوكم إلى عبادتي. ولا أقول أيضًا: إني ملك من الملائكة، أرسلت إليكم، فأكون كاذبًا في دعواي ذلك، بل أنا بشر مثلكم كما تقولون، أمرت بدعائكم إلى الله، وقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم = (ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرًا) يقول: ولا أقول للذين اتبعوني وآمنوا بالله ووحَّدوه،
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٨١١٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) التي لا يفينها شيء، فأكون إنما أدعوكم لتتبعوني عليها لأعطيكم منها = ولا أقول إني ملك نزلت من السماء برسالة، ما أنا إلا بشر مثلكم. (ولا أعلم الغيب)، ولا أقول اتبعوني على علم الغيب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم نوح لنوح عليه السلام: قد خاصمتنا فأكثرت خصومتنا، (١) فأتنا بما تعدنا من العذاب، إن كنت من
* * *
١٨١١٧- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (جادلتنا)، قال: ماريتنا.
١٨١١٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٨١١٩- وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٨١٢٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: (قالوا يا نوح قد جادلتنا)، قال: ماريتنا = (فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا) = قال ابن جريج: تكذيبًا بالعذاب، وأنه باطلٌ (فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا)، قال ابن جريج: تكذيبًا بالعذاب، وأنه باطلٌ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال نوح لقومه حين استعجلوه العذاب: يا قوم، ليس الذي تستعجلون من العذاب إليّ، إنما ذلك إلى الله لا إلى غيره، هو الذي يأتيكم به إن شاء = (وما أنتم بمعجزين) = يقول: ولستم إذا أراد
* * *
حكي عن طيئ أنها تقول: "أصبح فلان غاويًا": أي مريضًا.
وحكي عن غيرهم سماعًا منهم: "أغويت فلانًا"، بمعنى أهلكتَه = و"غَوِيَ الفصيل"، إذا فقد اللبن فمات.
وذكر أن قول الله: (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)، [سورة مريم: ٥٩]، أي هلاكًا. (٤)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيقول يا محمد هؤلاء المشركون من قومك: افترى محمد هذا القرآن؟ وهذا الخبر عن نوح؟ = قل لهم: إن افتريته فتخرصته واختلقته (٥)
(فعليّ إجرامي) يقول: فعلي إثمي في افترائي ما افتريت
(٢) انظر تفسير " نصحت لك " فيما سلف ٣: ٢١٢.
(٣) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف من فهارس اللغة (رجع).
(٤) انظر تفسير " غوى " فيما سلف ١٢: ٣٣٣، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٥) انظر تفسير " الافتراء "، فيما سلف من فهارس اللغة (فري).
* * *
ويقال منه: "أجرمت إجرامًا"، و"جرَمْت أجرِم جَرْمًا"، (١) كما قال الشاعر: (٢)
طَرِيدُ عَشِيرَةٍ وَرَهِينُ ذَنْبٍ | بِمَا جَرَمَتْ يَدِي وَجَنَى لِسَانِي (٣) |
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأوحَى الله الله إلى نوح، لمّا حَقّ على قومه القولُ، وأظلَّهم أمرُ الله، أنه لن يؤمن، يا نوح، بالله فيوحِّده، ويتبعك على ما تدعوه إليه = (من قومك إلا من قد آمن)، فصدّق بذلك واتبعك. (فلا تبتئس)، يقول: فلا تستكن ولا تحزن = (بما كانوا يفعلون)، فإني مهلكهم، ومنقذك منهم ومن اتبعك. وأوحى الله ذلك إليه، بعد ما دعا عليهم نوحٌ بالهلاك فقال: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)، [سورة نوح: ٢٦].
* * *
= وهو "تفتعل" من "البؤس"، يقال: "ابتأس فلان بالأمر يبتئس ابتئاسًا":
(٢) هو الهيردان بن خطار بن حفص السعدي، اللص، وضبط اسمه بفتح الهاء، وسكون الياء، وضم الراء.
(٣) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٨٨، واللسان (جرم).
فِي مَأْتَمٍ كَنِعَاجِ صَا | رَةَ يَبْتَئِسْنَ بِمَا لَقَيْنا (١) |
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٨١٢١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فلا تبتئس)، قال: لا تحزن.
١٨١٢٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد = وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد مثله.
١٨١٢٣- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون)، يقول: فلا تحزن.
١٨١٢٤- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون)، قال: لا تأسَ ولا تحزن.
١٨١٢٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن)، وذلك حين
وَحَذِرْتُ بَعْدَ المَوْتِ يَوْ | مَ تَشِينُ أَسْمَاءُ الجَبِينَا |
فِي رَبْرَبٍ كَنِعَاجِ صَارَ | ةَ يَبْتَئِسْنَ بِمَا لَقِينَا |
مُتَسَلِّبَاتٍ فِي مُسُوحِ | الشَّعْرِ أَبْكَارًا وَعُونَا |
١٨١٢٦- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن)، فحينئذ دعا على قومه، لما بيَّن الله له أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأحي إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، وأن اصنع الفلك، وهو السفينة، (١) كما:
١٨١٢٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الفلك: السفينة.
* * *
وقوله: (بأعيننا)، يقول: بعين الله ووحيه كما يأمرك، كما:-
١٨١٢٧- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا)، وذلك أنه لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن يصنعها على مثل جؤجؤ الطائر. (٢)
١٨١٢٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
(٢) " جؤجؤ الطائر " (بضم الجيم، ثم سكون الهمزة، ثم ضم الجيم) : هو صدره.
١٨١٢٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد = وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بأعيننا ووحينا)، كما نأمرك.
١٨١٣٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا)، قال: بعين الله، قال ابن جريج، قال مجاهد: (ووحينا)، قال: كما نأمرك.
١٨١٣١- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله: (بأعيننا ووحينا)، قال: بعين الله ووحيه.
* * *
وقوله: (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون)، يقول تعالى ذكره: ولا تسألني في العفو عن هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم من قومك، فأكسبوها تعدّيًا منهم عليها بكفرهم بالله = الهلاك بالغرق، إنهم مغرقون بالطوفان، كما:-
١٨١٣٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (ولا تخاطبني)، قال: يقول: ولا تراجعني. قال: تقدَّم أن لا يشفع لهم عنده. (١)
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويصنع نوح السفينة، وكلما مرّ عليه جماعة من كبراء قومه (١) = (سخروا منه)، يقول: هزئوا من نوح، ويقولون له: أتحوّلت نجارًا بعد النبوّة، وتعمل السفينة في البر؟ = فيقول لهم نوح: (إن تسخروا منا)، إن تهزءوا منا اليوم، فإنا نهزأ منكم في الآخرة، كما تهزءون منا في الدنيا (٢) = (فسوف تعلمون)، إذا عاينتم عذابَ الله، مَن الذي كان إلى نفسه مُسِيئًا منَّا.
* * *
وكانت صنعة نوح السفينة، كما:-
١٨١٣٣- حدثني المثنى وصالح بن مسمار قالا حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا موسى بن يعقوب قال، حدثني فائد مولى عبيد الله بن علي بن أبي رافع: أنّ إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة، أخبره: أن عائشة زوج النبي ﷺ أخبرته: أن رسول الله ﷺ قال: لو رحم الله أحدًا من قوم نوح لرحم أم الصبي! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، حتى كان آخر زمانه غَرس شجرةً، فعظمت وذهبت كلَّ مذهب، ثم قطعها، ثم جعل يعمل سفينة، ويمرُّون فيسألونه، فيقول: أعملها سفينة! فيسخرون منه ويقولون: تعمل سفينةً في البر فكيف تجري! فيقول: سوف تعلمون. فلما فرغ منها،
(٢) انظر تفسير " سخر " فيما سلف ١٤: ٣٨٢، تعليق: ٢.
١٨١٣٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن طول السفينة ثلاث مائة ذراع، وعرضها خمسون ذراعًا، وطولها في السماء ثلاثون ذراعًا، وبابها في عرضها
١٨١٣٥- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك، عن الحسن، قال: كان طول سفينة نوح ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ست مائة ذراع.
١٨١٣٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
١٨١٣٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق عمن لا يتَّهم عن عبيد بن عمير الليثي: أنه كان يحدّث أنه بلغه أنهم كانوا يبطشون به = يعني قوم نوح = فيخنقونه حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، حتى إذا تمادوا في المعصية، وعظمت في الأرض منهم الخطيئة، وتطاول عليه وعليهم الشأن، واشتد عليه منهم البلاء، وانتظر النَّجْل بعد النَّجْل، فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من القرن الذي قبله، حتى إن كان الآخر منهم ليقول: "قد كان هذا مع آبائنا ومع أجدادنا هكذا مجنونًا"! لا يقبلون منه شيئًا. حتى شكا ذلك من أمرهم نوح إلى الله تعالى، كما قص الله علينا في كتابه: (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا)، إلى آخر القصة، حتى قال: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا)، إلى آخر القصة [سورة نوح: ٥ -٢٧]. فلما شكا ذلك منهم نوح إلى الله واستنصره عليهم، أوحى الله إليه (أن اصطنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا)، أي: بعد اليوم، (إنهم مغرقون). فأقبل نوح على عمل الفلك، ولَهِيَ عن قومه، وجعل يقطع الخشب، ويضرب الحديد، ويهيئ عدة الفلك من القَار وغيره مما لا يصلحه إلا هو، وجعل قومه يمرُّون به وهو في ذلك من عمله، فيسخرون منه ويستهزئون به، فيقول: (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمونَ من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ
(٢) الأثر ١٨١٣٦ - " المفضل بن فضالة بن أبي أمية القرشي " ليس بذاك، وقيل: في حديثه نكارة. مترجم في التهذيب، والكبير ٤ / ١ / ٤٠٥، وابن أبي حاتم ٤ / ١ / ٣١٧، وميزان الاعتدال ٣: ١٩٥." وعلي بن زيد بن جدعان "، سلف مرارًا، آخرها رقم: ١٧٨٦١، وقد ذكرت هناك توثيق أخي السيد أحمد رحمه الله، له. وذكرت تضعيف الأئمة لحديثه، ورجحت أن يعتبر بحديثه. وهذا خبر لا شك أنه من بقية أخبار بني إسرائيل وأشباههم، لا يبلغ أن يكون شيئا.
ورواه الطبري في تاريخه ١: ٩١، ٩٢.
١٨١٣٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: سمعته يقول: كان أوّل ما حمل نوح في الفلك من الدوابّ الذرّة، وآخر ما حمل الحمار، فلما أدخل الحمار وأدخَل صدره، تعلق إبليس بذنبه، (٣) فلم تستقلّ رجلاه، فجعل نوح يقول: ويحك ادخل! فينهض فلا يستطيع. حتى قال نوح: ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك! قال: كلمة زلَّت عن لسانه، فلما قالها نوح خلَّي الشيطان سبيله، فدخل ودخل الشيطانُ معه، فقال
(٢) الأثر: ١٨١٣٧ - رواه الطبري في تاريخه ١: ٩٢، ٩٣.
(٣) في المطبوعة: " فلما دخل الحمار وأدخل رأسه مسك إبليس "، وفي المخطوطة: " فلما أدخل الحمار، وأدخل صدره إبليس بذنبه "، الأولى " أدخل "، وبين الكلامين بياض، وأثبت الصواب من تاريخ الطبري.
١٨١٣٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن علي بن زيد بن جدعان = قال ابن حميد، قال سلمة، وحدثني علي بن زيد عن يوسف بن مهران، قال: سمعته يقول: لما آذى نوحًا في الفلك عَذِرة الناس، أمر أن يمسح ذنب الفيل، فمسحه، فخرج منه خنزيران، وكفي ذلك عنه. وإن الفأر توالدت في الفلك، فلما آذته، أمر أن يأمر الأسد يعطس، فعطس، فخرج من منخريه هِرّان يأكلان عنه الفأر.
١٨١٤٠- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: لما كان نوح في السفينة، قرض الفأر حبالَ السفينة، فشكا نوح، فأوحى الله إليه، فمسح ذنب الأسد، فخرج سِنَّوران. وكان في السفينة عذرة، فشكا ذلك إلى ربه، فأوحى الله إليه، فمسح ذنب الفيل، فخرج خنزيران
١٨١٤١- حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني قال، حدثنا الأسود بن عامر قال، أخبرنا سفيان بن سعيد، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، بنحوه. (٥)
(٢) " الغوط " (بفتح فسكون) و" الغائط "، المتسع من الأرض من طمأنينة، وهو هنا: عمق الأرض الأبعد.
(٣) " الطبق "، غطاء كل شيء. وكان في المطبوعة: " بطبقة "، وهو خطأ.
(٤) الأثر: ١٨١٣٨ - رواه الطبري في تاريخه ١: ٩٣، ٩٤.
(٥) الأثر: ١٨١٤١ - " إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق الجوزجاني، السعدي، شيخ الطبري، كان من الحفاظ، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١ / ١ / ١٤٨ "." والأسود بن عامر، شاذان "، ثقة، مضى برقم: ١٣٩٢٧.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مَنْ يَأتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ويَحِلُّ عَليهِ عَذابٌ مُقيمٌ ٣٩ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ (٤٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل نوح لقومه: (فسوف تعلمون)، أيها القوم، إذا جاء أمر الله، من الهالك، (من يأتيه عذاب يخزيه)، يقول: الذي يأتيه عذابُ الله منا ومنكم يهينه ويذله (٢) = (ويحل عليه عذاب مقيم)، يقول: وينزل به في الآخرة، مع ذلك، عذابٌ دائم لا انقطاع له، مقيم عليه أبدًا. (٣)
* * *
وقوله: (حتى إذا جاء أمرُنا)، يقول: "ويصنع نوح الفلك" (حتى إذا
(٢) انظر تفسير " الخزى " فيما سلف من فهارس اللغة (خزى).
(٣) انظر تفسير " عذاب مقيم " فيما سلف ١٠: ٢٩٣ / ١٤: ١٧٤، ٣٤٠.
* * *
وقوله: (وفار التنور) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم: معناه: انبجس الماء من وجه الأرض = (وفار التنور)، وهو وجه الأرض.
*ذكر من قال ذلك:
١٨١٤٣- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال: أخبرنا العوام بن حوشب، عن الضحاك، عن ابن عباس أنه قال في قوله: (وفار التنور)، قال: (التنور)، وجه الأرض. قال: قيل له: إذا رأيت الماء على وجه الأرض، فاركب أنت ومن معك. قال: والعرب تسمى وجه الأرض: "تنور الأرض".
١٨١٤٤- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن العوام، عن الضحاك، بنحوه.
١٨١٤٥- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا الشيباني، عن عكرمة، في قوله: (وفار التنور)، قال: وجه الأرض
١٨١٤٦- حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة وسفيان بن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس، عن الشيباني، عن عكرمة: (وفار التنور)، قال: وجه الأرض.
* * *
وقال آخرون: هو تنويرُ الصبح، من قولهم: "نوَّرَ الصبح تنويرًا".
*ذكر من قال ذلك:
١٨١٤٧- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا محمد بن فضيل قال، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن عباس مولى أبي جحيفة، عن أبي جحيفة، عن
١٨١٤٨- حدثنا ابن وكيع وإسحاق بن إسرائيل قالا حدثنا محمد بن فضيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن زياد مولى أبي جحيفة، عن أبي جحيفة، عن علي في قوله: (وفار التنور)، قال: تنوير الصبح.
١٨١٤٩- حدثنا حماد بن يعقوب، قال: أخبرنا ابن فضيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن مولى أبي جحيفة = أراه قد سماه = عن أبي جحيفة، عن علي: (وفار التنور) قال: تنوير الصبح.
١٨١٥٠- حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا هشيم، عن ابن إسحاق، عن رجل من قريش، عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه: (وفار التنور)، قال: طلع الفجر.
* * *
١٨١٥١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن رجل قد سمّاه، عن علي بن أبي طالب قوله: (وفار التنور)، قال: إذا طلع الفجر.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وفار أعلى الأرض وأشرف مكانٍ فيها بالماء. وقال: "التنور" أشرف الأرض.
*ذكر من قال ذلك:
١٨١٥٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور)، كنا نحدّث أنه أعلى الأرض وأشرَفُها، وكان عَلَمًا بين نوح وبين ربّه
١٨١٥٣- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال قال، سمعت قتادة قوله: (وفار التنور) قال: أشرف الأرض وأرفعها فار الماء منه.
* * *
*ذكر قال ذلك:
١٨١٥٤- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور)، قال: إذا رأيت تنُّور أهلك يخرج منه الماءُ، فإنه هلاك قومك.
١٨١٥٥- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن أبي محمد، عن الحسن قال: كان تنورًا من حجارة كان لحوّاء حتى صار إلى نوح. قال: فقيل له: إذا رأيت الماء يفورُ من التنور فاركب أنتَ وأصحابك.
١٨١٥٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وفار التنور)، قال: حين انبجس الماء، وأمر نوحٌ أن يركب هو ومن معه في الفلك.
١٨١٥٧- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وفار التنور)، قال: انبجس الماء منه، آيةً، أن يركب بأهله ومن معه في السفينة.
١٨١٥٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه = إلا أنه قال: آيةً، أن يركب أهله ومن معه في السفينة.
١٨١٥٩- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه، إلا أنه قال: آية بأن يركب بأهله ومن معهم في السفينة.
١٨١٦٠- حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا خلف بن خليفة، عن ليث، عن مجاهد قال، نبع الماء في التنور، فعلمت به امرأته فأخبرته قال، وكان ذلك في ناحية الكُوفة.
١٨١٦٢- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الحميد الحماني، عن النضر أبي عمر الخزاز، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: (وفار التنور)، قال: فار التنُّور بالهند.
١٨١٦٣- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (وفار التنور)، كان آيةً لنوح، إذا خرج منه الماء فقد أتى الناسَ الهلاكُ والغرق.
* * *
وكان ابن عباس يقول في معنى "فار" نبع.
١٨١٦٤- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (وفار التنور)، قال: نبع.
* * *
قال أبو جعفر: و"فوران الماء" سَوْرَة دفعته، يقال منه: "فار الماء يَفُور فَوْرًا وفَؤُورًا وفَوَرَانًا "، (١) وذلك إذا سارت دفعته.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندنا بتأويل قوله: (التنور)، قول من قال: "هو التنور الذي يخبز فيه"، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب، إلا أن تقوم حجَّة على شيء منه بخلاف ذلك فيسلم لها. وذلك أنه جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به، لإفهامهم معنى مَا خاطبهم به.
* * *
= (قلنا)، لنوح حين جاء عذابنا قومه الذي وعدنا نوحًا أن نعذبهم به، وفار التنور
١٨١٦٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (من كل زوجين اثنين)، قال: ذكر وأنثى من كل صنف.
١٨١٦٦- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٨١٦٧- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (من كل زوجين اثنين)، فالواحد "زوج"، و"الزوجين" ذكر وأنثى من كل صنف.
١٨١٦٨-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (من كل زوجين اثنين)، قال: ذكر وأنثى من كل صنف.
١٨١٦٩-.... قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
١٨١٧٠- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين)، يقول: من كل صنف اثنين.
١٨١٧١- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (من كل زوجين اثنين)، يعني بالزوجين اثنين: ذكر أو أنثى.
* * *
وقال بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين، "الزوجان"، في كلام العرب: الاثنان. قال، ويقال: "عليه زوجَا نِعال"، إذا كانت عليه
* * *
وقال بعض البصريين من أهل العربية في قوله: (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين)، قال: فجعل "الزوجين"، "الضربين"، الذكور والإناث. قال: وزعم يونس أن قول الشاعر: (٢)
وَأَنْتَ امْرُؤٌ تَغْدُو عَلَى كُلِّ غِرَّة | فَتُخْطِئُ فِيهَا مَرَّةً وَتُصِيبُ (٣) |
* * *
وقال آخر منهم: "الزوج"، اللون. قال: وكل ضرب يدعى "لونًا"، واستشهد ببيت الأعشى في ذلك:
وَكُلُّ زَوْجٍ مِنَ الدِّيبَاجِ يَلْبَسُهُ | أَبُو قُدَامَةَ مَحْبُوًّا بِذَاكَ مَعَا (٤) |
وَذِي بَهْجَةٍ كَنَّ المقَانِبُ صَوْتَهُ | وَزَيَّنَهُ أَزْوَاجُ نَوْرٍ مُشَرَّبِ (٥) |
(٢) لم أعرف قائله.
(٣) اللسان (مرأ)، ويعني أنه سمى الذئب " امرءا "، جعله إنسانا، فهذا شذوذه.
(٤) ديوانه: ٨٦، اللسان (زوج)، من قصيدته في " هوذة بن علي الحنفي "، وهو " أبو قدامة "، وقبله:
مَنْ يَلْقَ هَوْذَةَ يَسْجُدْ غَيْرَ مُتَّئِبٍ | إذا تَعَصَّبَ فَوْقَ التَّاجِ أوْ وَضَعَا |
لَهُ أَكَالِيلُ بِالْيَاقُوتِ زَيَّنَها | صُوَّاغُها، لاَ تَرَى عَيْبًا ولَا طَبَعَا. |
وَغَيْثٍ بِدَكْدَاكٍ يَزِينُ وِهَادَهُ | نَبَاتٌ كوَشْي العَبْقَرِيِّ المُخَلَّبِ |
أَرَبَّتْ عَلَيْهِ كُلُّ وَطْفَاءَ جَوْنَةٍ | هَتُوفٍ مَتَى يُنْزِفُ لَهَا الوَبْلُ تَسْكُبِ |
بِذِي بَهْجَةٍ كَنَّ المَقَانِبَ صَوْبُهُ | وَزَيَّنَهُ أَطْرَافُ نَبْتٍ مُشَرَّبِ |
* * *
وقوله: (وأهلك إلا من سبق عليه القول)، يقول: واحمل أهلك أيضًا في الفلك، يعني ب"الأهل"، ولده ونساءه وأزواجه (١) = (إلا من سبق عليه القول)، يقول: إلا من قلت فيهم إني مهلكه مع مَنْ أُهْلِكُ من قومك.
* * *
ثم اختلفوا في الذي استثناه الله من أهله.
فقال بعضهم: هو بعض نساء نوح.
*ذكر من قال ذلك:
١٨١٧٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: (وأهلك إلا من سبق عليه القول)، قال: العذاب، هي امرأته كانت في الغابرين في العذاب. (٢)
* * *
(٢) في المطبوعة: " من الغابرين "، غير ما في المخطوطة وهو صواب محض.
*ذكر من قال ذلك:
١٨١٧٣- حدثت عن المسيب، عن أبي روق. عن الضحاك في قوله: (وأهلك إلا من سبق عليه القول)، قال: ابنه، غرق فيمن غرق.
* * *
وقوله: (ومن آمن)، يقول: واحمل معهم من صدقك واتبعك من قومك = يقول الله: (وما آمن معه إلا قليل)، يقول: وما أقرّ بوحدانية الله مع نوح من قومه إلا قليل.
* * *
واختلفوا في عدد الذين كانوا آمنوا معه فحملهم معه في الفلك، فقال بعضهم في ذلك: كانوا ثمانية أنفس.
*ذكر من قال ذلك:
١٨١٧٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل)، قال: ذكر لنا أنه لم يتمّ في السفينة إلا نوح وامرأته وثلاثة بنيه، ونساؤهم، فجميعهم ثمانية.
١٨١٧٥- حدثنا ابن وكيع والحسن بن عرفة قالا حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية، عن أبيه، عن الحكم: (وما آمن معه إلا قليل)، قال: نوح، وثلاثة بنيه، وأربع كنائنه.
١٨١٧٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: حُدّثت أن نوحًا حَمَل معه بنيه الثلاثة، وثلاث نسوة لبنيه، وامرأة نوح، فهم ثمانية بأزواجهم. وأسماء بنيه: يافث، وسام، وحام، وأصاب حام زوجته في السفينة، فدعا نوحٌ أن يغيّر نُطْفته، فجاء بالسُّودان.
* * *
*ذكر من قال ذلك:
١٨١٧٧- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش: (وما آمن معه إلا قليل)، قال: كانوا سبعة: نوح، وثلاث كنائن له، وثلاثة بنين.
* * *
وقال آخرون: كانوا عشرة سوى نسائهم.
*ذكر من قال ذلك:
١٨١٧٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما فار التنور، حمل نوح في الفلك من أمره الله به، وكانوا قليلا كما قال الله، فحمل بنيه الثلاثة: سام، وحام، ويافث، ونساءهم، وستة أناسي ممن كان آمن، فكانوا عشرة نفر، بنوح وبنيه وأزواجهم. (١)
* * *
وقال آخرون: بل كانوا ثمانين نفسًا.
*ذكر من قال ذلك:
١٨١٧٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس: حمل نوح معه في السفينة ثمانين إنسانًا.
١٨١٨٠- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، كان بعضهم يقول: كانوا ثمانين = يعني "القليل" الذي قال الله: (وما آمن معه إلا قليل).
١٨١٨١- حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثني حسين بن واقد الخراساني قال، حدثني أبو نهيك قال:
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله: (وما آمن معه إلا قليل)، يصفهم بأنهم كانوا قليلا ولم يحُدّ عددهم بمقدار، ولا خبر عن رسول الله ﷺ صحيح، فلا ينبغي أن يُتَجاوز في ذلك حدُّ الله، إذ لم يكن لمبلغ عدد ذلك حدٌّ من كتاب الله، أو أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال نوح: اركبوا في الفلك، "بسم الله مجراها ومرساها".
* * *
وفي الكلام محذوف قد استغني بدلالة ما ذكر من الخبر عليه عنه، وهو قوله: (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل) = فحملهم نوح فيها = "وقال" لهم، " اركبوا فيها". فاستغني بدلالة قوله: (وقال اركبوا فيها)، عن حمله إياهم فيها، فتُرك ذكره.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (بسم الله مجراها ومرساها)، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: (بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا)، بضم الميم في الحرفين كليهما. وإذا قرئ كذلك كان من "أجرى" و"أرسى"، وكان فيه وجهان من الإعراب:
والآخر: النصب، بمعنى: بسم الله عند إجرائها وإرسائها، أو وقت إجرائها وإرسائها = فيكون قوله: (بسم الله)، كلامًا مكتفيًا بنفسه، كقول القائل عند ابتدائه في عمل يعمله: "بسم الله"، ثم يكون "المجرى" و"المرسى" منصوبين على ما نصبت العرب قولهم: "الحمد لله سِرارَك وإهلالك"، يعنون الهلال أوّله وآخره، كأنهم قالوا: "الحمد لله أوّل الهلال وآخره"، ومسموع منهم أيضا: "الحمدُ لله ما إهلالك إلى سِرارِك". (١)
* * *
وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا)، بفتح الميم من "مجراها"، وضمها من "مرساها"، فجعلوا "مجراها" مصدرًا من "جري يجري مَجْرَى"، و"مرساها" من "أرسَى يُرْسي إرساء". (٢)
وإذا قرئ ذلك كذلك، كانَ في إعرابهما من الوجهين، نحو الذي فيهما إذا قرئا: (مُجراها ومُرساها)، بضم الميم فيهما، على ما بيَّنتُ.
* * *
وروي عن أبي رجاء العطاردي أنه كان يقرأ ذلك: (بِسْمِ اللهِ مُجْرِيهَا وَمُرْسِيهَا)، بضم الميم فيهما، ويصيرهما نعتًا لله. وإذا قرئا كذلك، كان فيهما أيضًا وجهان من الإعراب، غير أن أحدهما الخفضُ، وهو الأغلب عليهما من وجهي الإعراب، لأن معنى الكلام على هذه القراءة: بسم الله مُجْرى الفلك ومرسيها = ف"المجرى" نعت لاسم الله. وقد يحتمل أن يكون نصبًا، وهو الوجه الثاني، لأنه يحسن دخول الألف واللام في "المجري" و"المرسي"، كقولك: "بسم الله
(٢) انظر تفسير " الإرساء " فيما سلف ١٣: ٢٩٣.
* * *
وقد ذكر عن بعض الكوفيين أنه قرأ ذلك: (مَجْرَاهَا ومَرْسَاهَا)، بفتح الميم فيهما جميعا، من "جرى" و"رسا"، كأنه وجهه إلى أنه في حال جَرْيها وحال رُسُوّها، وجعل كلتا الصفتين للفلك، كما قال عنترة:
فَصَبَرْتُ نَفْسًا عِنْدَ ذَلِكَ حُرَّةً... تَرْسُو إذَا نَفَسُ الجبَانِ تَطَلّعُ (١)
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي نختارها في ذلك قراءة من قرأ: (بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا)، بفتح الميم (وَمُرْسَاهَا)، بضم الميم، بمعنى: بسم الله حين تَجْري وحين تُرْسي.
وإنما اخترت الفتح في ميم "مجراها" لقرب ذلك من قوله: (وهي تَجْري بهم في موج كالجبال)، ولم يقل: "تُجْرَى بهم". ومن قرأ: (بسم الله مُجْراها)، كان الصواب على قراءته أن يقرأ: "وهي تُجْرى بهم". وفي إجماعهم على قراءة (تَجْرِي)، بفتح التاء دليل واضع على أن الوجه في (مجراها) فتح الميم. وإنما اخترنا الضم في (مرساها)، لإجماع الحجة من القراء على ضمّها.
ومعنى قوله (مجراها)، مسيرها = (ومرساها)، وقفها، من وقَفَها الله وأرساها.
* * *
وَعَرَفْتُ أنَّ مَنِيَّتِي إنْ تَأتِنِي... لا يُنْجِنِي مِنْهَا الفِرَارُ الأسْرَعُ
فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لذَلِكَ حُرَّةً......................
و" نفس عارفة "، حاملة الشدائد صبور، إذا حملت على أمر احتملته، من طول مكابدتها لأهوال هذه الحياة. و" ترسو "، تثبت. و" تطلع "، تنزو متلفتة إلى مهرب، أو ناصر، من الجزع والرعب.
١٨١٨٢- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد =
١٨١٨٣-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا)، قال: حين يركبون ويجرون ويرسون.
١٨١٨٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: بسم الله حين يركبون ويجرون ويرسون.
١٨١٨٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا)، قال: بسم الله حين يجرون وحين يرسون.
١٨١٨٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، في قوله: (اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها) قال: إذا أراد أن ترسي قال: "بسم الله " فأرست، وإذا أراد أن تجري قال "بسم الله " فجرت.
* * *
وقوله: (إن ربي لغفور رحيم)، يقول: إن ربي لساتر ذنوب من تاب وأناب إليه، رحيم بهم أن يعذبهم بعدَ التوبة. (١)
* * *
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (وهي تجري بهم)، والفلك تجري بنوح ومن معه فيها = (في موج كالجبال ونادى نوح ابنه)، يام = (وكان في معزل)، عنه، لم يركب معه الفلك: (يا بني اركب معنا)، الفلك = (ولا تكن مع الكافرين).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال ابن نوح لما دعاه نوح إلى أن يركب معه السفينة خوفًا عليه من الغرق: (ساوي إلى جبل يعصمني من الماء) يقول: سأصير إلى جبل أتحصّن به من الماء، (١) فيمنعني منه أن يغرقني.
* * *
ويعني بقوله: (يعصمني) يمنعني، مثل "عصام القربة "، الذي يشدُّ به رأسها، فيمنع الماء أن يسيل منها. (٢)
* * *
(٢) انظر تفسير " يعصم " فيما سلف ١٠: ٤٧٢، تعليق: ٢ / ١٥: ٧٣.
* * *
= ف "من" في موضع رفع، لأن معنى الكلام: لا عاصم يَعصم اليوم من أمر الله إلا الله.
* * *
وقد اختلف أهل العربية في موضع "من" في هذا الموضع.
فقال بعض نحويي الكوفة: هو في موضع نصب، لأن المعصوم بخلاف العاصم، والمرحوم معصوم. قال: كأن نصبه بمنزلة قوله: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) [سورة النساء: ١٥٧]، قال: ومن استجاز: (اتِّباعُ الظَّنِّ)، والرفع في قوله: (١)
وَبَلْدَةٌ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ | إِلا الْيَعَافِيرُ وَإِلا العِيسُ (٢) |
(٢) سلف البيت وتخريجه فيما مضى ٩: ٢٠٣.
(٣) الزيادة بين القوسين من معاني القرآن للفراء، وهو نص كلامه.
دَعِ الْمَكَارِمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا | وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي (٢) |
* * *
وقال بعض نحويّي البصرة: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم)، على: "لكن من رحم"، ويجوز أن يكون على: لا ذا عصمة: أي: معصوم، ويكون (إلا من رحم)، رفعًا بدلا من "العاصم".
* * *
قال أبو جعفر: ولا وجه لهذه الأقوال التي حكيناها عن هؤلاء، لأن كلام الله تعالى إنما يُوَجَّه إلى الأفصح الأشهر من كلام من نزل بلسانه، ما وُجِد إلى ذلك سبيل.
ولم يضطرَّنا شيء إلى أن نجعل "عاصمًا" في معنى "معصوم"، ولا أن نجعل "إلا" بمعنى "لكن"، إذ كنا نجد لذلك في معناها الذي هو معناه في المشهور من كلام العرب مخرجًا صحيحًا، وهو ما قلنا من أنَّ معنى ذلك: قال نوح: لا عاصم اليوم من أمر الله، إلا من رحمَنا فأنجانا من عذابه، كما يقال: "لا مُنجي اليوم من عذاب الله إلا الله" = " ولا مطعم اليومَ من طعام زيد إلا زيد".
(٢) ديوانه: ٥٤، وطبقات فحول الشعراء: ٩٨، واللسان (طعم)، (كسا)، ومعاني القرآن للفراء، وغيرها كثير، في خبره المشهور لما ذم الزبرقان، واستعدى عليه عمر بن الخطاب، وقال عمر لحسان: أهجاه؟ قال: لا، ولكنه ذرق عليه! وقد فسرته على أن " الطاعم " و" الكاسي "، على النسب، أي: ذو الطعام، يشتهيه ويستجيده من شرهه = وذو الكسوة، يتخيرها ويتأنق فيها، لا هم له في المكارم. ولذلك قال الزبرقان لعمر: أو ما تبلغ مروءتي إلا أن آكل وألبس! ! ومثل هذا قول عبد الرحمن بن حسان:
إنِّي رأَيْتُ مِنَ المَكَارِمِ حَسْبَكُم | أَن تَلْبَسُوا حُرَّ الثِّيَابِ وَتَشْبَعُوا |
* * *
وقوله: (وحال بينهما الموج فكان من المغرقين)، يقول: وحال بين نوح وابنه موجُ الماء فغرق، (١) فكان ممن أهلكه بالغرق من قوم نوح صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: وقال الله للأرض بعد ما تناهَى أمرُه في هلاك قوم نوح بما أهلكهم به من الغرق: (يا أرض ابلعي ماءك)، أي: تشرَّبي.
* * *
= من قول القائل: "بَلِعَ فلان كذا يَبْلَعُه"، أو بَلَعَه يَبْلَعُه"، إذا ازدَردَه. (٢)
* * *
= (ويا سماء أقلعي)، يقول: أقلعي عن المطر، أمسكي = (وغيض الماء)، ذهبت به الأرض ونَشِفته، (وقضي الأمر)، يقول: قُضِي أمر الله، فمضى بهلاك قوم نوح (٣) = (واستوت على الجوديّ)، يعني الفلك = "استوت": أرست = "على الجودي"، وهو جبل، فيما ذكر بناحية الموصل أو الجزيرة،
(٢) الذي في المعاجم " بلع " (بفتح فكسر)، أما " بلع " (بفتحتين)، فقد ذكرها ابن القطاع في كتاب الأفعال ١: ٨٥ وفرق بينهما وقال: " بَلِعَ الطعام بَلْعًا، وبَلَعَ الماء والربق بَلْعًا "، وذكر أيضا ابن القوطية في كتاب الأفعال: ٢٨١، مثل ذلك.
(٣) انظر تفسير " قضى " فيما سلف من فهارس اللغة (قضى).
* * *
١٨١٨٧- حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي قال، حدثنا المحاربي، عن عثمان بن مطر، عن عبد العزيز بن عبد الغفور، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في أول يوم من رجب ركب نوح السفينة، فصام هو وجميع من معه، وجرت بهم السفينة ستةَ أشهر، فانتهى ذلك إلى المحرم، فأرست السفينة على الجوديّ يوم عاشوراء، فصام نوح، وأمر جميع من معه من الوحش والدوابّ فصامُوا شكرًا لله. (٢)
١٨١٨٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كانت السفينة أعلاها للطير، ووسطها للناس، وفي أسفلها السباع، وكان طولها في السماء ثلاثين ذراعًا، ودفعت من عَين وردة يوم الجمعة لعشر ليالٍ مضين من رجب، وأرست على الجوديّ يوم عاشوراء، ومرت بالبيت فطافت به سبعًا، وقد رفعه الله من الغرق، ثم جاءت اليمن، ثم رجعت. (٣)
(٢) الأثر: ١٨١٨٧ - " عباد بن يعقوب الأسدي "، شيخ الطبري، ثقة في الحديث، شيعي الرأي، مضى برقم: ٥٤٧٥." والمحاربي "، هو " عبد الرحمن بن محمد المحاربي "، ثقة، من شيوخ أحمد، مضى مرارًا." وعثمان بن مطر الشيباني "، ضعيف منكر الحديث، متروك. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ / ١ / ١٦٩. وأما "عبد العزيز بن عبد الغفور "، فهذا اسم مقلوب، وإنما هو " عبد الغفور بن عبد العزيز " ويقال: " عبد الغفار بن عبد العزيز " ويروى عنه " عثمان بن مطر ". وهو كذاب خبيث كان يضع الحديث، ومضى برقم: ١٤٧٧٦. ولكن العجب أن أبا جعفر رواه في تاريخه مقلوبًا أيضًا. وأبوه " عبد العزيز الشامي "، لم أجد له ذكرًا، كما أسلفت في رقم: ١٤٧٧٦، وأخشى أن يكون هذا الإسناد: " عن أبيه، عن أبيه "، كما سلف. وهذا خبر هالك من نواحيه جميعًا، ووقع فيه الخلط في اسم " عبد الغفور " جزاء ما خلط في أحاديثه ومناكيره. ورواه أبو جعفر في تاريخه أيضًا ١: ٩٦.
(٣) الأثر: ١٨١٨٨ - رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ٩٦.
١٨١٩٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس قال: [ما] كان زَمَن نوحٍ شبر من الأرض، إلا إنسانٌ يَدَّعيه. (٢)
١٨١٩١- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنَّها = يعني الفُلك = استقلَّت بهم في عشر خلون من وجب، وكانت في الماء خمسين ومائة يوم، واستقرت على الجودي شهرًا، وأهبط بهم في عشر [خَلَوْن] من المحرم يوم عاشوراء. (٣)
* * *
وبنحو ما قلنا في تأويل قوله: (وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي)، قال أهل التأويل.
* * *
ذكر من قال ذلك:
١٨١٩٢- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وغيض السماء)، قال: نقص = (وقضي الأمر)، قال: هلاك قوم نوح
١٨١٩٣- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. -
١٨١٩٤ حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
(٢) الأثر: ١٨١٩٠ - كان في المخطوطة: " قال: كان زمن نوح شبر عن الأرض لإنسان يدعيه "، وكان في المطبوعة:" كان في زمن نوح شبر عن الأرض لا إنسان يدعيه" فزاد، وأساء القراءة، وأفسد الكلام. والصواب من تاريخ الطبري ١: ٩٦. وقوله: " إلا إنسان يدعيه "، أي: يدعى أن الماء لم يعم الأرض كلها.
(٣) الأثر: ١٨١٩١ - رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ٩٦، والزيادة بين القوسين منه.
١٨١٩٥- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (يا سماء أقلعي)، يقول: أمسكي (وغيض الماء)، يقول: ذهب الماء.
١٨١٩٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وغيض الماء)، والغُيوض ذهاب الماء = (واستوت على الجودي).
١٨١٩٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واستوت على الجودي)، قال: جبل بالجزيرة، تشامخت الجبال من الغَرَق، وتواضع هو لله فلم يغرق، فأرسيتْ عليه.
١٨١٩٨- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واستوت على الجودي)، قال: الجودي جبل بالجزيرة، تشامخت الجبال يومئذ من الغَرَق وتطاولت، وتواضع هو لله فلم يغرق، وأرسيت سفينة نوح عليه
١٨١٩٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
١٨٢٠٠- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (واستوت على الجودي)، يقول: على الجبل؛ واسمه "الجودي"
١٨٢٠١- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان: (واستوت على الجودي)، قال: جبل بالجزيرة، شمخت الجبال، وتواضعَ
١٨٢٠٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (واستوت على الجودي)، أبقاها الله لنا بوادي أرض الجزيرة عبرة وآية.
١٨٢٠٣- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: (واستوت على الجودي)، هو جبل بالموصل.
١٨٢٠٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن نوحًا بعث الغراب لينظر إلى الماء، فوجد جيفة فوقع عليها، فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون، فأعْطيت الطوقَ الذي في عنقها، وخضابَ رجليها.
١٨٢٠٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما أراد الله أن يكفّ ذلك = يعني الطوفان = أرسل ريحًا على وجه الأرض، فسكن الماء، واستدَّت ينابيع الأرضِ الغمرَ الأكبر، وَأبوابُ السماء. (٢) يقول الله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي)، إلى: (بعدًا للقوم الظالمين)، فجعل ينقص ويغيض ويُدبر. وكان استواء الفلك على الجودي، فيما يزعم أهل التوراة، في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه، في أول يوم من الشهر العاشر، رئي رءوس الجبال. فلما مضى بعد ذلك أربعون يومًا، فتح نوح كُوَّة الفلك التي صنع فيها، ثم أرسلَ الغراب لينظر له ما فعل الماءُ، فلم يرجع إليه. فأرسل
(٢) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: " الغمر الأكبر "، وأنا أرجح أنه خطأ محض، وأن الصواب: " الغوط الأكبر "، وبهذا اللفظ رواه صاحب اللسان في مادة (غوط). وقد سبق تفسير " الغوط الأكبر" في الأثر رقم: ١٨١٣٨ ص: ٣١٥، تعليق: ٢.
١٨٢٠٦- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: تزعُم أناسٌ أن من غرق من الولدان مع آبائهم، وليس كذلك، إنما الولدان بمنزلة الطير وسائر من أغرق الله بغير ذنب، ولكن حضرت آجالهم فماتوا لآجالهم، والمدرِكون من الرجال والنساء كان الغرق عقوبة من الله لهم في الدنيا، ثم مصيرهم إلى النار.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (٤٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونادى نوح ربه فقال: ربِّ إنك وعدتني أن تنجيني من الغرق والهلاك وأهلي، وقد هلك ابني، وابني من أهلي (١) = (وإن وعدك الحقُّ)، الذي لا خلف له = (وأنت أحكم الحاكم)، بالحق، فاحكم لي بأن تفي بما وعدتني، من أنْ تنجّي لي أهلي، وترجع إليَّ ابني، كما:-
* * *
قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: قال الله يا نوح إن الذي غرقته فأهلكته الذي تذكر أنه من أهلك ليس من أهلك.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (ليس من أهلك).
فقال بعضهم: معناه: ليس من ولدك، هو من غيرك. وقالوا: كان ذلك من حِنْثٍ. (١)
*ذكر من قال ذلك:
١٨٢٠٨- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن، في قوله: (إنه ليس من أهلك)، قال: لم يكن ابنه.
١٨٢٠٩- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا يحيى بن يمان، عن شريك، عن جابر، عن أبي جعفر: (ونادى نوح ابنه)، قال: ابن امرأته.
١٨٢١٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن أصحاب ابن أبي عروبة فيهم، [عن] الحسن قال: لا والله، ما هو بابنه. (٢)
(٢) الأثر: ١٨٢١٠ - كان في المطبوعة: " عن أصحاب ابن أبي عروبة فيهم الحسن "، وهو كلام لا معنى له، وخاصة بعد تصرفه في نص المخطوطة، لأنه لم يفهم معنى هذا الإسناد، إذ كان فيها: " عن أصحاب ابن أبي عروبة فيهم الحسن "، وهذا أيضًا فاسد، يصلحه ما زدته بين القوسين، فإن " ابن علية " يروي عن " سعيد بن أبي عروبة "، و " ابن أبي عروبة " روى عن " الحسن البصري ".
١٨٢١٢- حدثني المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن عوف، ومنصور، عن الحسن في قوله: (إنه ليس من أهلك)، قال: لم يكن ابنه. وكان يقرؤها: (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) (١)
١٨٢١٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كنت عند الحسن فقال: "نادى نوح ابنه"، لعمْر الله ما هو ابنه! قال: قلت: يا أبا سعيد يقول: (ونادى نوح ابنه)، وتقول: ليس بابنه؟ قال: أفرأيت قوله: (إنه ليس من أهلك) ؟ قال: قلت إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك، (٢) ولا يختلف أهل الكتاب أنه ابنه. قال: إن أهل الكتاب يكذبون.
١٨٢١٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: سمعت الحسن يقرأ هذه الآية: (إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح)، فقال عند ذلك: والله ما كان ابنه. ثم قرأ هذه الآية: (فَخَانَتَاهُمَا)، [سورة التحريم: ١٠] قال سعيد: فذكرت ذلك لقتادة، قال: ما كان ينبغي له أن يحلف!
١٨٢١٥- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فلا تسألن ما ليس لك به علم)، قال: تبيّن لنوح أنه ليس بابنه.
(٢) في المخطوطة: " إنه ليس من أهلي "، وفوقها حرف (ط) دلالة على الخطأ.
١٨٢١٧- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد مثله.
١٨٢١٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
قال ابن جريج في قوله: (ونادى نوح ابنه)، قال: ناداه وهو يحسبه أنه ابنه وكان وُلد على فراشه
١٨٢١٩- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن ثوير، عن أبي جعفر: (إنه ليس من أهلك)، قال: لو كان من أهله لنجا. (١)
١٨٢٢٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع عبيد بن عمير يقول: نرى أن ما قضى رسول الله ﷺ "الولد للفراش"، من أجل ابن نوح.
١٨٢٢١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن الحسن قال: لا والله ما هو بابنه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: (ليس من أهلك) الذين وعدتك أن أنجيهم.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٢٢٢- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن يمان، عن
١٨٢٢٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان قال، حدثنا أبو عامر، عن الضحاك قال: قال ابن عباس: هو ابنه، ما بغت امرأة نبيٍّ قطُّ.
١٨٢٢٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا الثوري، عن أبي عامر الهمدانيّ، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس قال، ما بغت امرأة نبي قط. قال: وقوله: (إنه ليس من أهلك)، الذين وعدتك أن أنجيهم معك.
١٨٢٢٥- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة وغيره، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: هو ابنه: غير أنه خالفه في العمل والنية = قال عكرمة في بعض الحروف: (إِنَّهُ عَمِلَ عَمَلا غَيْرَ صَالِحٍ)، والخيانة تكون على غير بابٍ.
١٨٢٢٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، كان عكرمة يقول: كان ابنه، ولكن كان مخالفًا له في النية والعمل، فمن ثم قيل له: (إنه ليس من أهلك).
١٨٢٢٧- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري وابن عيينة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سليمان بن قتة قال: سمعت ابن عباس يُسْأل وهو إلى جنب الكعبة عن قول الله تعالى: (فَخَانَتَاهُمَا)، [سورة التحريم: ١٠]، قال: أما إنه لم يكن بالزنا، ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون، وكانت هذه تدل، على الأضياف. ثم قرأ: (إنه عملٌ خير صالح) = قال ابن عيينة: وأخبرني عمار الدُّهني: أنه سأل سعيد بن جبير عن ذلك فقال: كانَ ابن نوح، إن الله لا يكذب! قال: (ونادى نوح
١٨٢٢٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمار الدهني، عن سعيد بن جبير قال: قال الله، وهو الصادق، وهو ابنه: (ونادى نوح ابنه).
١٨٢٢٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبن يمان، عن سعيد، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس قال: ما بَغَت امرأة نبي قط.
١٨٢٣٠- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال: سألت أبا بشر عن قوله: (إنه ليس من أهلك)، قال: ليس من أهل دينك، وليس ممن وعدتك أن أنجيهم = قال يعقوب: قال هشيم: كان عامة ما كان يحدِّثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير.
١٨٢٣١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن عبيد، عن يعقوب بن قيس قال: أتى سعيد بن جبير رجلٌ فقال: يا أبا عبد الله، الذي ذكر الله في كتابه "ابن نوح" أبنُه هو؟ قال: نعم، والله إن نبيَّ الله أمره أن يركب معه في السفينة فعصى، فقال: (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء)، قال: (يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح)، لمعصية نبي الله.
١٨٢٣٢- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير: أنه جاء إليه رجل فسأله. فقال: أرأيتك ابن نُوح أبنه؟ فسبَّحَ طويلا ثم قال: لا إله إلا الله، يحدِّث الله محمدًا: (ونادى نوح ابنه) وتقول ليس منه؟ ولكن خالفه في العمل، فليس منه من لم يؤمن.
١٨٢٣٣- حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن أبي هارون الغنوي، عن عكرمة في قوله: (ونادى نوح ابنه)، قال: أشهد أنه ابنه، قال الله:
١٨٢٣٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة قالا هو ابنه.
١٨٢٣٥- حدثني فضالة بن الفضل الكوفي قال، قال بزيع: سأل رجل الضحاك عن ابن نوح، فقال: ألا تعجبون إلى هذا الأحمق! يسألني عن ابن نوح، وهو ابن نوح كما قال الله: قال نوح لابنه. (١)
١٨٢٣٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد، عن الضحاك أنه قرأ: (ونادى نوح ابنه)، وقوله: (ليس من أهلك)، قال: يقول: ليس هو من أهلك. قال: يقول: ليس هو من أهل ولايتك، ولا ممن وعدتك أن أنجى من أهلك = (إنه عمل غير صالح)، قال: يقول كان عمله في شرك.
١٨٢٣٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك قال، هو والله ابنه لصُلْبه.
١٨٢٣٨- حدثني المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (ليس من أهلك)، قال: ليس من أهل دينك، ولا ممن وعدتك أن أنجيه، وكان ابنه لصلبه.
١٨٢٣٩- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
و" بزيع " هو اللحام، أبو حازم، وهو "بزيع بن عبد الله " سمع الضحاك. كان أبو نعيم يتكلم فيه، وضعفه النسائي وغيره. وقال ابن عدي: " إنما أنكروا عليه ما يحكيه عن الضحاك من التفسير ولا يتابع عليه ". مترجم في الكبير ١ / ٢ / ١٣٠، وابن أبي حاتم ١ / ١ / ٤٢٠، ولسان الميزان ٢: ١٢، وميزان الاعتدال ١: ١٤٣. وهكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة في آخر الخبر: " كما قال الله، قال نوح لابنه "، والآية: " ونادى نوح ابنه "، وأخشى أن يكون أراد: " قال نوح لابنه: يا بني اركب معنا ".
١٨٢٤٠- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (إنه ليس من أهلك)، يقول: ليس من أهل ولايتك، ولا ممن وعدتك أن أنجي من أهلك = (إنه عمل غير صالح)، يقول: كان عمله في شرك.
١٨٢٤١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا خالد بن حيان، عن جعفر بن برقان، عن ميمون، وثابت بن الحجاج قالا هو ابنه، ولد على فراشه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: تأويل ذلك: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم، لأنه كان لدينك مخالفًا، وبي كافرًا = وكان ابنه لأن الله تعالى ذكره قد أخبر نبيه محمدًا ﷺ أنه ابنه فقال: (ونادى نوح ابنه)، وغير جائز أن يخبر أنه ابنه فيكون بخلاف ما أخبر. وليس في قوله: (إنه ليس من أهلك)، دلالةٌ على أنه ليس بابنه، إذ كان قوله: (ليس من أهلك)، محتملا من المعنى ما ذكرنا، ومحتملا أنه ليس من أهل دينك، ثم يحذف "الدين" فيقال: (إنه ليس من أهلك)، كما قيل: (واسأل القرية التي كنا فيها)، [سورة يوسف: ٨٢].
* * *
وأما قوله: (إنه عمل غير صالح)، فإن القراء اختلفت في قراءته.
فقرأته عامة قراء الأمصار: (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) بتنوين "عمل" ورفع "غير".
* * *
واختلف الذين قرءوا ذلك كذلك في تأويله.
فقال بعضهم: معناه: إن مسألتك إياي هذه عمل غير صالح.
١٨٢٤٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: (إنه عمل غير صالح)، قال: إن مسألتك إياي هذه عملٌ غير صالح.
١٨٢٤٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (إنه عمل غير صالح)، أي سوء (١) = (فلا تسألن ما ليس لك به علم).
١٨٢٤٤- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إنه عمل غير صالح)، يقول: سؤالك عما ليس لك به علم.
١٨٢٤٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن حمزة الزيات، عن الأعمش، عن مجاهد قوله: (إنه عمل غير صالح)، قال: سؤالك إياي، عمل غير صالح = (فلا تسألن ما ليس لك به علمٌ).
* * *
وقال آخرون: بل معناه: إن الذي ذكرت أنّه ابنك فسألتني أن أنجيه، عملٌ غير صالح، أي: أنه لغير رشدة. وقالوا: "الهاء"، في قوله: "إنه" عائدة على "الابن".
*ذكر من قال ذلك:
١٨٢٤٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن أنه قرأ: (عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ)، قال: ما هو والله بابنه. (٢)
* * *
وروي عن جماعة من السلف أنهم قرءوا ذلك: (إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ)،
(٢) الأثر: ١٨٢٤٦ - انظر ما سلف رقم: ١٨٢١٢.
١٨٢٤٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عينة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سليمان بن قتة، عن ابن عباس أنه قرأ: (عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ).
* * *
ووجَّهوا تأويل ذلك إلى ما:-
١٨٢٤٨- حدثنا به ابن وكيع قال، حدثنا غندر، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: (إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ)، قال: كان مخالفًا في النية والعمل.
* * *
قال أبو جعفر: = ولا نعلم هذه القراءة قرأ بها أحد من قراء الأمصار، إلا بعض المتأخرين، واعتلَّ في ذلك بخبر روي عن رسول الله ﷺ أنه قرأ ذلك كذلك، غيرِ صحيح السند. وذلك حديث روي عن شهر بن حوشب، فمرة يقول: "عن أم سلمة"، ومرة يقول: "عن أسماء بنت يزيد"، ولا نعلم أبنت يزيد [يريد] ؟ (١) ولا نعلم لشهر سماعًا يصح عن أمّ سلمة.
* * *
١ - وهذا الحديث، رواه أحمد في مسنده في ثلاثة مواضع ٦: ٤٥٤، ٤٥٩، ٤٦٠، كلها من طريق: حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن شهر بن حوشب، عن " أسماء بنت يزيد "، والطريق الأولى والثالثة، مطولة، فيها قراءة آية سورة الزمر: ٥٣
﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلاَ يُبَالِي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
٢ - ومن هذه الطريق نفسها، رواه أبو داود الطيالسي في مسنده ص: ٢٢٦، رقم: ١٦٣١، مقتصرًا على الآية الأولى، " شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد الأنصارية ".
٣ - ورواه أبو داود في سننه ٤: ٤٧، من طريقين، رقم: ٣٩٨٢، ٣٩٨٣. الأولى: حماد، عن ثابت، عن شهر، عن أسماء بنت يزيد.
الثانية: عبد العزيز بن المختار، عن ثابت، عن شهر قال: سألت أم سلمة: كيف كان رسول الله يقرأ هذه الآية؟
٤ - ورواه الترمذي في " القراءات "، من طريق عبد الله بن حفص، عن ثابت البناني، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة.
وقال: وقد روي هذا الحديث أيضًا عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد.
٥ - ورواه أبو نعيم في الحلية ٨: ٣٠١، من طريق محمد بن ثابت البناني، عن ثابت البناني، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة. " وقال: حديث مشهور من حديث ثابت "، وانظر رقم (٨)، فإن الطيالسي جعله من حديث أم سلمة أم المؤمنين.
٦ - ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٤٩، مقتصرًا على آية " سورة الزمر "، التي ذكرتها في رقم: ١، من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن شهر، عن أسماء بنت يزيد، ثم قال: " هذا حديث غريب عال، ولم أذكر في كتابي هذا عن شهر، غير هذا الحديث الواحد ".
٧ - ورواه أحمد في مسنده ٦: ٢٩٤، ٣٢٢، من طريق هارون النحوي، عن ثابت البناني، عن أبيه، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة (وذلك في مسند أم سلمة أم المؤمنين. (وظني أن أبا جعفر ذهب إلى أن شهرًا دلس في هذا الحديث، فلا يعلم أأراد " أسماء بنت يزيد الأنصارية "، أم " أم سلمة " أم المؤمنين، ولذلك قال بعد: "ولا نعلم لشهر سماعًا يصح عن أم سلمة "، ولا شك أن الطبري عنى هنا " أم سلمة " أم المؤمنين." وأسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية "، هي مولاة " شهر بن حوشب "، وكنيتها " أم سلمة "، فلذلك صرح باسمها مرة، وكناها أخرى، وهذا لا يضر. و" شهر بن حوشب "، كان أروى الناس عن مولاته " أم سلمة "، "أسماء بنت يزيد " وقال أحمد: " ما أحسن حديثه "، ووثقه، وقال: " روى عن أسماء أحاديث حسانًا ". وقال الترمذي، بعد أن ساق الخبر، " وسمعت عبد بن حميد يقول: أسماء بنت يزيد، هي أم سلمة الأنصارية، كلا الحديثين عندي واحد. وقال روى شهر بن حوشب غير حديث عنه أم سلمة الأنصارية، وهي أسماء بنت يزيد. وقد روى عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو هذا " وسنذكر حديث عائشة بعد. ومع ذلك، فرواية شهر بن حوشب، عن " أم سلمة " أم المؤمنين قد ذكر البخاري في الكبير ٢ / ٢ / ٢٥٩، فقال: " سمع أم سلمة "، ولم يزد، ولم يذكر " أسماء بنت يزيد "، ومن أجل ذلك خشيت أن يكون البخاري أراد " أم سلمة، " أسماء بنت يزيد "، لا أم المؤمنين. وأما ابن أبي حاتم ٢ / ١ / ٣٨٢ فذكر أنه: " روى عن أم سلمة، وأسماء بنت يزيد "، ففرق، ودل التفريق على أنه أراد " أم سلمة "، أم المؤمنين. صرح الحافظ ابن حجر في ترجمته، بسماعه عن " أم سلمة " أم المؤمنين. وروايته عن أم المؤمنين جائزة، فإن " أم سلمة " زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفيت على الصحيح سنة ٦١ أو سنة: ٦٢. وشهر بن حوشب عاش ثمانين سنة، ومات سنة ١٠٠، ويقال سنة ١١١، أو سنة ١١٢. فسماعه منها لا ينقضه شيء من شبهة العمر. أما الرواية، فقد صحح العلماء أنه روى عنها. فرد الطبري روايته بأنه لا يعلم له سماعًا عن أم المؤمنين، لا يقوم على شيء، فقد عرف ذلك غيره. بيد أن الحافظ بن حجر، نقل في ترجمة " شهر بن حوشب "، فذكر عن صالح بن محمد، بعد توثيقه شهرًا، وأنه لم يوقف له على كذب، ثم قال: "ويروى عن النبي ﷺ أحاديث في القراءات، لا يأتي بها غيره ". وقد كان شهر قارئا، ذكر ذلك الطبري نفسه، حتى قال أيوب بن أبي حسين: " ما رأيت أحدًا أقرأ لكتاب الله منه "، فإن يكن في حديث شهر شيء، فإنما هو غرابة خبره، وهذا لا يضر إذا صح الإسناد. ولكن يبقى الإشكال من ناحية أخرى، رواية أحمد من طريق هارون النحوي، عن ثابت البناني نفسه (كما في رقم ٧)، والذي رواه الطيالسي رقم (٨) من طريق محمد بن ثابت، عن ثابت، يضم إليه رقم (٥) من رواية أبي نعيم، ويضم إليها، الطريق الثانية من رقم (٣)، ثم رقم (٤) من رواية الترمذي، وإن كان قد نقل عن " عبد بن حميد "، أنهما واحد. كما سلف. ورواية هذه الأخبار كلها تدور على " ثابت البناني، عن شهر "، فكأن ثابتًا البناني، رواه عن شهر عن: أم سلمة أسماء بنت يزيد = وعنه عن أم سلمة أم المؤمنين، فهما حديثان لا شك في ذلك، لا كما قال " عبد بن حميد "، ولكن هل روى ذلك أحد عن أم سلمة أم المؤمنين، غير شهر بن حوشب؟ لا أدري. فإذا صح أن شهرًا قد انفرد به عن أم المؤمنين، فهل وقع الخطأ في ترك الفصل بينهما، من ثابت أم من الذي يليه؟ لا أدري أيضًا. وإذا كانا حديثًا واحدًا، فكيف وقع التفريق في المسانيد، فجعل حديثين، وكيف وقع هذا التفريق؟ ولم وقع؟ ألمجرد الشبهة من قبل الكنية " أم سلمة "؟ هذا موضع يحتاج إلى تفصيل دقيق. وهذا، فيما أظن، هو الذي جعل أبا جعفر الطبري، يشكك في رواية الخبر، لاختلاطه، ولكنه علله بغير علة الاختلاط والاضطراب كما رأيت. * * * وأما حديث عائشة، الموافق لحديث أم سلمة، في هذه القراءة، فقد رواه البخاري في الكبير ١ / ١ / ٢٨٦، ٢٨٧، من طريق إبراهيم بن الزبرقان، عن أبي روق، عن محمد بن جحادة، عن أبيه، عن عائشة، ثم رواه أيضًا منها ١ / ٢ / ٢٥١. ورواه الحاكم في المستدرك من هذه الطريق نفسها، وقال الذهبي تعليقا عليه " إسناده مظلم ". وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٧: ١٥٥، وقال: " رواه الطبراني في الأوسط، وفيه حميد بن الأزرق، ولم أعرفه. وبقية رجاله ثقات ". والكلام في حديث عائشة يطول، ففي رواية محمد بن جحادة الإيامي، عن أبيه، كلام ليس هذا موضع تحقيقه.
* * *
وقوله: (فلا تسألن ما ليس لك به علم)، نهيٌ من الله تعالى ذكرهُ نبيه نوحًا أن يسأله أسباب أفعاله التي قد طوى علمها عنه وعن غيره من البشر. يقول له تعالى ذكره: إني يا نوح قد أخبرتك عن سؤالك سبب إهلاكي ابنك الذي أهلكته، فلا تسألن بعدها عما قد طويتُ علمه عنك من أسباب أفعالي، وليس لك به علم= "إني أعظك أن تكون من الجاهلين" في مسألتك إياي عن ذلك.
* * *
وكان ابن زيد يقول في قوله: (إني أعظك أن تكون من الجاهلين)، ما:-
١٨٢٤٩- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إني أعظك أن تكون من الجاهلين)، أنْ تبلغ الجهالة بك أن لا أفي لك بوعد وعدتك، حتى تسألني ما ليس لك به علم = (وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين).
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (فلا تسألن ما ليس لك به علم)، فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار (فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم)، بكسر النون وتخفيفها = ونحْوًا بكسرها إلى الدلالة على "الياء" التي هي كناية اسم الله
وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض أهل الشام: (فَلا تَسْأَلَنَّ)، بتشديد النون وفتحها بمعنى: فلا تسألنَّ يا نوح ما ليس لك به علم.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، تخفيفُ النون وكسرها، لأن ذلك هو الفصيح من كلام العرب المستعمل بينهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٤٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، عن إنابة نوح عليه السلام بالتوبة إليه من زلَّته، في مسألته التي سألَها ربَّه في ابنه: (قال ربّ إني أعوذ بك)، أي: أستجير بك أن أتكلف مسألتك ما ليس لي به علم، (٢) مما قد استأثرت بعلمه، وطويت علمه عن خلقك، فاغفر لي زلتي في مسألتي إياك ما سألتك في ابني، وإن أنت لم تغفرها لي وترحمني فتنقذني من غضبك = (أكن من الخاسرين)، يقول: من الذين غبنوا أنفسهم حظوظَها وهلكوا. (٣)
* * *
(٢) انظر تفسير " عاذ " فيما سلف ١٣: ٣٣٢، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " الخسران " فيما سلف من فهارس اللغة (خسر).
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا نوح، اهبط من الفلك إلى الأرض (١)
(بسلام منا)، يقول: بأمن منا أنت ومن معك من إهلاكنا (٢) = (وبركات عليك)، يقول: وببركات عليك (٣) = (وعلى أمم ممن معك)، يقول: وعلى قرون تجيء من ذرية من معك من ولدك. فهؤلاء المؤمنون من ذرية نوح الذين سبقت لهم من الله السعادة، وبارك عليهم قبل أن يخلقهم في بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم. ثم أخبر تعالى ذكره نوحًا عما هو فاعل بأهل الشقاء من ذريته، فقال له: (وأمم)، يقول: وقرون وجماعة (٤) = (سنمتعهم) في الحياة في الدنيا، يقول: نرزقهم فيها ما يتمتعون به إلى أن يبلغوا آجالهم (٥) = (ثم يمسهم منا عذاب أليم)، يقول: ثم نذيقهم إذا وردوا علينا عذابًا مؤلمًا موجعًا. (٦)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٢٥٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي: (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم
(٢) انظر تفسير " السلام " فيما سلف من فهارس اللغة (سلم).
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: " وبركات عليه "، مرة أخرى، ولم يفسرها أيضًا، فإن لم يكن سقط من التفسير شيء، فالصواب ما أثبت بزيادة الباء، دلالة على العطف على ما قبله.
(٤) انظر تفسير " الأمة " فيما سلف ص: ٢٥٢، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٥) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف من فهارس اللغة (متع).
(٦) انظر تفسير " المس " فيما سلف ص: ٢٥٦، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
١٨٢٥١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو داود الحفري، عن سفيان، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي: (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم من معك)، قال: دخل في الإسلام كل مؤمن ومؤمنة، وفي الشرك كل كافر وكافرة. (١)
١٨٢٥٢- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، قراءةً عن ابن جريج: (وعلى أمم ممن معك)، يعني: ممن لم يولد. قد قضى البركات لمن سبق له في علم الله وقضائه السعادة = (وأمم سنمتعهم)، من سبق له في علم الله وقضائه الشِّقوة. (٢)
١٨٢٥٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج بنحوه = إلا أنه قال: (وأمم سنمتعهم)، متاع الحياة الدنيا، ممن قد سبق له في علم الله وقضائه الشقوة. قال: ولم يهلك الوَلَد يوم غرق قوم نُوح بذنب آبائهم، كالطير والسباع، ولكن جاء أجلهم مع الغرق.
١٨٢٥٤- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم)، قال: هبطوا والله عنهم راض، هبطوا بسلام من الله. كانوا أهل رحمة من أهل ذلك الدهر، ثم أخرج منهم نسلا بعد ذلك أممًا، منهم من رحم، ومنهم من عذب. وقرأ: (وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم)، وذلك إنما افترقت الأمم من تلك العصابة التي خرجت من ذلك الماء وسلمت.
١٨٢٥٥- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال،
(٢) في المطبوعة " الشقاوة "، وأثبت ما في المخطوطة، هنا وفي سائر المواضع الآتية.
١٨٢٥٦- حدثني المثني قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن حميد، عن الحسن: أنه كان إذا قرأ "سورة هود"، فأتى على: (يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك)، حتى ختم الآية، قال الحسن: فأنجى الله نوحًا والذين آمنوا، وهلك المتمتعون! حتى ذكر الأنبياء كل ذلك يقول: أنجاه الله وهلك المتمتعون.
١٨٢٥٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم)، قال: بعد الرحمة.
١٨٢٥٨- حدثنا العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، اخبرنا عبد الله بن شوذب قال، سمعت داود بن أبي هند يحدث، عن الحسن: أنه أتى على هذه الآية: (اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم)، قال: فكان ذلك حين بعث الله عادًا، فأرسل إليهم هودًا، فصدقه مصدقون، وكذبه مكذبون، حتى جاء أمر الله. فلما جاء أمر الله نجّى الله هودًا والذين آمنوا معه، وأهلك الله المتمتعين، ثم بعث الله ثمود، فبعث إليهم صالحًا، فصدقه مصدقون وكذبه مكذبون، حتى جاء أمر الله. فلما جاء أمر الله نجى الله صالحًا والذين آمنوا معه وأهلك الله المتمتعين. ثم استقرأ الأنبياء نبيًّا نبيًّا، على نحو من هذا.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمّد صلى الله عليه وسلم: هذه القصة التي أنبأتك بها من قصة نوح وخبره وخبر قومه = (من أنباء الغيب)، يقول: هي من أخبار الغيب التي لم تشهدها فتعلمها (١) = (نوحيها إليك)، يقول: نوحيها إليك نحن، فنعرفكها = (ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا)، الوحي الذي نوحيه إليك، = (فاصبر)، على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته، وما تلقى من مشركي قومك، كما صبر نوح = (إن العاقبة للمتقين)، يقول: إن الخير من عواقب الأمور لمن اتقى الله، (٢) فأدَّى فرائضه، واجتنب معاصيه، فهم الفائزون بما يؤمِّلون من النعيم في الآخرة، والظفر في الدنيا بالطلبة، كما كانت عاقبة نوح إذ صبر لأمر الله، أنْ نجَّاه من الهلكة مع من آمن به، وأعطاه في الآخرة ما أعطاه من الكرامة، وغرَّق المكذبين به فأهلكهم جميعهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٢٥٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا)، القرآن، وما كان عَلم محمدٌ ﷺ وقومه ما صنع نوحٌ وقومه، لولا ما بيَّن الله في كتابه.
(٢) انظر تفسير " العاقبة " فيما سلف ص: ١٥٣، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى قوم عاد أخاهم هودًا، فقال لهم: "يا قوم اعبدوا الله" وحده لا شريك له، دون ما تعبدون من دونه من الآلهة والأوثان. (ما لكم إله غيره)، يقول: ليس لكم معبود يستحق العبادة عليكم غيره، فأخلصوا له العبادة وأفردوه بالألوهة = (إن أنتم إلا مفترون)، يقول: ما أنتم في إشراككم معه الآلهة والأوثان إلا أهل فرية مكذبون، تختلقون الباطل، لأنه لا إله سواه. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هود لقومه: يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من إخلاص العبادة لله وخلع الأوثان والبراءة منها، جزاءً وثوابًا = (إن أجري إلا على الذي فطرني)، يقول: إن ثوابي وجزائي على نصيحتي لكم، ودعائكم إلى الله، إلا على الذي خلقني (٢) = (أفلا تعقلون)، يقول: أفلا تعقلون أني لو كنت ابتغي بدعايتكم إلى الله غير النصيحة لكم، وطلب الحظ لكم في الدنيا والآخرة، لالتمست منكم على ذلك بعض أعراض الدنيا، وطلبت منكم الأجر والثواب؟
* * *
(٢) انظر تفسير " فطر " فيما سلف ١١: ٢٨٣، ٢٨٤، ٤٨٧.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هود لقومه: (ويا قوم استغفروا ربكم)، يقول: آمنوا به حتى يغفر لكم ذنوبكم.
* * *
= والاستغفار: هو الإيمان بالله في هذا الموضع، لأن هودًا ﷺ إنما دعا قومه إلى توحيد الله ليغفر لهم ذنوبهم، كما قال نوح لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) [سورة نوح: ٣: ٤]
* * *
وقوله: (ثم توبوا إليه)، يقول: ثم توبوا إلى الله من سالف ذنوبكم وعبادتكم غيره بعد الإيمان به = (يرسل السماء عليكم مدرارا)، يقول: فإنكم إن آمنتم بالله وتبتم من كفركم به، أرسل قَطْر السماء عليكم يدرَّ لكم الغيثَ في وقت حاجتكم إليه، وتحَيَا بلادكم من الجدب والقَحط. (١)
* * *
*ذكر من قال ذلك:
١٨٢٦١- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (مدرارا)، يقول: يتبع بعضها بعضا.
١٨٢٦٢- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (يرسل السماء عليكم مدرارًا) قال: يدر ذلك عليهم قطرًا ومطرًا.
* * *
وأما قوله: (ويزدكم قوة إلى قوتكم)، فإن مجاهدًا كان يقول في ذلك ما:-
١٨٢٦٣- حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (ويزدكم قوة إلى قوتكم)، قال: شدة إلى شدتكم
١٨٢٦٤- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد= وإسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد=
١٨٢٦٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد، فذكر مثله.
١٨٢٦٦- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ويزدكم قوة إلى قوّتكم)، قال: جعل لهم قوة، فلو أنهم أطاعوه زادهم قوة إلى قوتهم. وذكر لنا أنه إنما قيل لهم: (ويزدكم قوة إلى قوتكم)، قال: إنه قد كان انقطع النسل عنهم سنين، فقال هود لهم: إن آمنتم بالله أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد، لأن ذلك من القوة.
* * *
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم هود لهود، يا هود ما أتيتنا ببيان ولا برهان على ما تقول، فنسلم لك، ونقر بأنك صادق فيما تدعونا إليه من توحيد الله والإقرار بنبوتك = (وما نحن بتاركي آلهتنا)، يقول: وما نحن بتاركي آلهتنا، يعني: لقولك: أو من أجل قولك. (ما نحن لك بمؤمنين)، يقول: قالوا: وما نحن لك بما تدعي من النبوة والرسالة من الله إلينا بمصدِّقين.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره، عن قول قوم هود: أنهم قالوا له، إذ نصح لهم ودعاهم إلى توحيد الله وتصديقه، وخلع الأوثان والبراءة منها: لا نترك عبادة آلهتنا، وما نقول إلا أن الذي حملك على ذمِّها والنهي عن عبادتها، أنه أصابك منها خبَلٌ من جنونٌ. فقال هود لهم: إني أشهد الله على نفسي
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك.
١٨٢٦٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (اعتراك بعض آلهتنا بسوء)، قال: أصابتك الأوثان بجنون.
١٨٢٦٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (اعتراك بعض آلهتنا بسوء)، قال: أصابك الأوثان بجنون.
١٨٢٦٩- حدثني المثني قال، حدثنا ابن دكين قال، حدثنا سفيان، عن عيسى، عن مجاهد: (اعتراك بعض آلهتنا بسوء)، قال: سببتَ آلهتنا وعبتها، فأجنَّتك.
١٨٢٧٠-.... قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن نجيح، عن مجاهد: (اعتراك بعض آلهتنا بسوء)، أصابك بعض آلهتنا بسوء، يعنون الأوثان.
١٨٢٧١-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) قال: أصابك الأوثان بجنون.
(٢) انظر تفسير " الإنظار " فيما سلف ص: ١٥١، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
١٨٢٧٣- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء)، قال: ما يحملك على ذمّ آلهتنا، إلا أنه أصابك منها سوء.
١٨٢٧٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء)، قال: إنما تصنع هذا بآلهتنا أنها أصابتك بسوء.
١٨٢٧٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير: أصابتك آلهتنا بشر.
١٨٢٧٦- حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء)، يقولون: نخشى أن يصيبك من آلهتنا سوء، ولا نحب أن تعتريك، يقولون: يصيبك منها سوء.
١٨٢٧٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء)، يقولون: اختلَط عقلك فأصابك هذا مما صنعت بك آلهتنا.
* * *
وقوله: (اعتراك)، ا"فتعل"، من "عراني الشيء يعروني": ، إذا أصابك، كما قال الشاعر:
مِنَ القَوْمِ يَعْرُوهُ اجْتِرَاءٌ وَمَأْثَمُ (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول: إني على الله الذي هو مالكي ومالككم، والقيِّم على جميع خلقه، توكلت من أن تصيبوني، أنتم وغيركم من الخلق بسوء، (٣) فإنه ليس من شيء يدب على الأرض، (٤) إلا والله مالكه، وهو في قبضته وسلطانه. ذليلٌ له خاضعٌ.
* * *
(٢) ديوان الهذليين ٢: ١٤٧، مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٩٠، من قصيدته التي ذكر فيها فراره من فائد وأصحابه الخزاعيين، وكان لهم وتر عنده. فلما لقوه فر وعدا، فذكر ذلك في شعره، ثم انتهى إلى ذكر رجل كان يتبعه وهو يعدو فقال:
أُوائِلُ بالشَّدِّ الذَّلِيقِ، وَحَثَّنِي | لَدَى المَتْنِ مَشْبُوحُ الذِّرَاعَينِ خَلْجَمُ |
تَذَكَّر ذَخْلاً عِنْدَنَا، وهو فاتِكٌ | مِنَ القَوْمِ يَعْرُوهُ اجْتِرَاءٌ وَمَأْثَمُ |
وكان في المطبوعة: " اجترام "، وفي المخطوطة: " اجترامًا "، وهما خطأ، صوابه ما أثبت من ديوانه.
(٣) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف من فهارس اللغة (وكل).
(٤) انظر تفسير " دابة " فيما سلف ص: ٢٤٠، تعليق: ١، والمراجع هناك.
قيل: لأن العرب كانت تستعمل ذلك في وصفها من وصفته بالذلة والخضوع، فتقول: "ما ناصية فلان إلا بيد فلان"، أي: أنه له مطيع يصرفه كيف شاء. وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمنّ عليه، جزُّوا ناصيته، ليعتدّوا بذلك عليه فخرًا عند المفاخرة. فخاطبهم الله بما يعرفون في كلامهم، والمعنى ما ذكرت.
* * *
وقوله: (إن ربي على صراط مستقيم)، يقول: إن ربي على طريق الحق، يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته، لا يظلم أحدًا منهم شيئًا ولا يقبل منهم إلا الإسلام والإيمان به، (١) كما:-
١٨٢٧٨- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إن ربي على صراط مستقيم)، الحقّ.
١٨٢٧٩- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٨٢٨٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
١٨٢٨١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هود لقومه: (فإن تولوا)، يقول: فإن أدبروا معرضين عما أدعوهم إليه من توحيد الله وترك عبادة الأوثان (١) = (فقد أبلغتكم) أيها القوم = (ما أرسلت به إليكم)، وما على الرسول إلا البلاغ = (ويستخلف ربي قوما غيركم)، يهلككم ربي، ثم يستبدل ربي منكم قومًا غيركم، (٢) يوحِّدونه ويخلصون له العبادة = (ولا تضرونه شيئًا)، يقول: ولا تقدرون له على ضرّ إذا أراد إهلاككم أو أهلككم.
* * *
وقد قيل: لا يضره هلاككُم إذا أهلككم، لا تنقصونه شيئًا، لأنه سواء عنده كُنتم أو لم تكونوا.
* * *
= (إن ربي على كل شيء حفيظ)، يقول: إن ربي على جميع خلقه ذو حفظ وعلم. (٣)
يقول: هو الذي يحفظني من أن تنالوني بسوء.
* * *
(٢) انظر تفسير " الاستخلاف " فيما سلف من فهارس اللغة (خلف).
(٣) انظر تفسير " حفيظ " فيما سلف ٨: ٥٦٢ / ١٢: ٢٥، ٣٣.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما جاء قوم هود عذابُنا، نجينا منه هودًا والذين آمنوا بالله معه = (برحمة منا)، يعني: بفضل منه عليهم ونعمة = (ونجيناهم من عذاب غليظ)، يقول: نجيناهم أيضًا من عذاب غليظ يوم القيامة، كما نجيناهم في الدنيا من السخطة التي أنزلتها بعادٍ. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهؤلاء الذين أحللنا بهم نقمتنا وعذابنا، عادٌ، جحدوا بأدلة الله وحججه، (٢) وعصوا رسله الذين أرسلهم إليهم للدعاء إلى توحيده واتباع أمره = (واتبعوا أمر كل جبار عنيد)، يعني: كلّ مستكبر على الله، (٣) حائد عن الحق، لا يُذعن له ولا يقبله.
* * *
يقال منه: "عَنَد عن الحق، فهو يعنِد عُنُودًا"، و"الرجل عَاند وعَنُود". ومن ذلك قيل للعرق الذي ينفجر فلا يرقأ: "عِرْق عاند": أي ضَارٍ، (٤)
ومنه قول الراجز:
(٢) انظر تفسير " الجحد " فيما سلف ١١: ٣٣٤ / ١٢: ٤٧٦.
(٣) انظر تفسير " الجبار " فيما سلف ١٠: ١٧٢.
(٤) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٩١، ففيه زيادة بيان.
إِنِّي كَبِيرٌ لا أَطِيقُ العُنَّدَا (٢)
* * *
١٨٢٨٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (واتبعوا أمر كل جبار عنيد)، المشرك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأتبع عاد قوم هود في هذه الدنيا غضبًا من الله وسخطةً يوم القيامة، مثلها، لعنةً إلى اللعنة التي سلفت لهم من الله في الدنيا (٣) = (ألا إن عادًا كفروا ربهم ألا بعدًا لعاد قوم هود)، يقولُ: أبعدهم الله من الخير. (٤)
* * *
يقال: "كفر فلان ربه وكفر بربه"، "وشكرت لك، وشكرتك". (٥)
* * *
وقيل = إن معنى: (كفروا ربهم)، كفروا نعمةَ ربهم.
* * *
(٢) مجاز القرآن ١: ٢٩١، البطليوسي: ٤١٥، الجواليقي: ٣٣٦، اللسان (عند)، وسيأتي في التفسير ٢٩: ٩٧ (بولاق)، وغيرها، وهي أبيات لشواهد الإكفاء، يقول:
إذَا رَحَلْتُ فَاجْعَلُونِي وَسَطَا | إِنِّي كَبِيرٌ لاَ أَطِيقُ العُنَّدَا |
(٣) انظر تفسير " اللعنة " فيما سلف من فهارس اللغة (لعن).
(٤) انظر تفسير " البعد " فيما سلف ص: ٣٣٥.
(٥) انظر ما سلف ٣: ٢١٢، مثله.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا، فقال لهم: يا قوم، اعبدوا الله وحده لا شريك له، وأخلصوا له العبادة دون ما سواه من الآلهة، فما لكم من إله غيره يستوجب عليكم العبادة، ولا تجوز الألوهة إلا له = (هو أنشأكم من الأرض)، يقول: هو ابتدأ خلقكم من الأرض. (١)
* * *
وإنما قال ذلك لأنه خلق آدم من الأرض، فخرج الخطاب لهم، إذ كان ذلك فعله بمن هم منه.
* * *
= (واستعمركم فيها)، يقول: وجعلكم عُمَّارًا فيها، فكان المعنى فيه: أسكنكم فيها أيام حياتكم.
* * *
= من قولهم: "أعْمر فلانٌ فلانًا دارَه"، و"هي له عُمْرَى". (٢)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
(٢) " عمري " (بضم فسكون، فراء مفتوحة)، مصدر مثل " الرجعي ": و " أعمره الدار "، جعله يسكنها مدة عمره، فإذا مات عادت إلى صاحبها. وكان ذلك من فعل الجاهلية، فأبطله الله بالإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تعمروا ولا ترقبوا "، فمن أعمر دارًا أو أرقبها، فهي لورثته من بعده ".
١٨٢٨٤- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واستعمركم فيها)، يقول: أعمركم
* * *
وقوله: (فاستغفروه)، يقول: اعملوا عملا يكون سببًا لستر الله عليكم ذنوبكم، وذلك الإيمان به، وإخلاص العبادة له دون ما سواه، واتباعُ رسوله صالح = (ثم توبوا إليه)، يقول: ثم اتركوا من الأعمال ما يكرهه ربكم، إلى ما يرضاه ويحبه = (إن ربي قريب مجيب)، يقول: إن ربي قريب ممن أخلص له العبادة ورغب إليه في التوبة، مجيبٌ له إذا دعاه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت ثمود لصالح نبيِّهم: (يا صالح قد كنت فينا مرجوًّا)، أي كنا نرجُو أن تكون فينا سيدًا قبل هذا القول الذي قلته لنا، من أنه مالنا من إله غير الله (١) = (أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا)، يقول: أتنهانا أن نعبد الآلهة التي كانت آباؤنا تعبدها = (وإننا لفي شك مما تدعونَا إليه
* * *
وقوله: (مريب)، أي يوجب التهمة، من "أربته فأنا أريبه إرابة"، إذا فعلت به فعلا يوجب له الريبة، (١) ومنه قول الهذلي: (٢)
كُنْتُ إِذَا أَتَوْتُه مِنْ غَيْبِ | يَشَمُّ عِطْفِي وَيبُزُّ ثَوْبِي |
* * *
(٢) هو خالد بن زهير الهذلي
(٣) ديوان الهذليين ١: ١٦٥، واللسان (ريب) (بزز)، (أتى)، وغيرها كثير، وسيأتي في التفسير ٢٢: ٧٦ (بولاق). وكان خالد بن زهير، ابن أخت أبي ذؤيب، وكان رسول أبي ذؤيب إلى صديقته، فأفسدها عليه، فكان يشك في أمره، فقال له خالد:
يَا قَوْمِ مَالِي وَأَبَا ذُؤَيْبِ | كُنْتُ إذَا أَتَوْتُه من غَيْبِ |
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال صالح لقومه من ثمود: (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي)، يقول: إن كنت على برهان وبيان من الله قد علمته وأيقنته (١) = (وآتاني منه رحمة)، يقول: وآتاني منه النبوة والحكمة
(فمن ينصرني من الله إن عصيته)، يقول: فمن الذي يدفع عنِّي عقابه إذا عاقبني إن أنا عصيته، فيخلصني منه = (فما تزيدونني)، بعذركم الذي تعتذرون به، من أنكم تعبدون ما كان يعبدُ آباؤكم، (غير تخسير)، لكم يخسركم حظوظكم من رحمة الله، (١) كما:-
١٨٢٨٥- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فما تزيدونني غير تخسير)، يقول: ما تزدادون أنتم إلا خسارًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (٦٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل صالح لقومه من ثمود، إذ قالوا له: (وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب)، وسألوه الآية على ما دعاهم إليه: (يا قوم هذه ناقة الله لكم آية)، يقول: حجة وعلامة، ودلالة على حقيقة ما أدعوكم إليه = (فذروها تأكل في أرض الله)، فليس عليكم رزقها ولا مئونتها = (ولا تمسوها لسوء)، يقول: لا تقتلوها ولا تنالوها بعَقْر = (فيأخذكم عذاب قريب)، يقول: فإنكم إن تمسوها بسوء يأخذكم عذاب من الله غير بعيد فيهلككم.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فعقرت ثمود ناقة الله = وفي الكلام محذوفٌ قد ترك ذكرُه، استغناءً بدلالة الظاهر عليه، وهو: "فكذبوه" "فعقروها" = فقال لهم صالح: = (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام)، يقول: استمتعوا في دار الدنيا بحياتكم ثلاثة أيام = (ذلك وعد غير مكذوب)، يقول: هذا الأجل الذي أجَّلتكم، وَعْدٌ من الله، وعدكم بانقضائه الهلاكَ ونزولَ العذاب بكم = (غير مكذوب)، يقول: لم يكذبكم فيه من أعلمكم ذلك.
* * *
١٨٢٨٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب)، وذكر لنا أن صالحًا حين أخبرهم أن العذاب أتاهم لبسُوا الأنطاع والأكسية، (١) وقيل لهم: إن آية ذلك أن تصفرَّ ألوانكم أوَّل يوم، ثم تحمرَّ في اليوم الثاني، ثم تسودَّ في اليوم الثالث. وذكر لنا أنهم لما عقرُوا الناقة ندموا، وقالوا: "عليكم الفَصيلَ "؟ فصعد الفصيل القارَة = و"القارة" الجبل = حتى إذا كان اليوم الثالث، استقبل القبلة، وقال: "يا رب أمي، يا رب أمي "، ثلاثا. قال: فأرسلت الصيحة عند ذلك.
= وكان ابن عباس يقول: لو صعدتم القارة لرأيتم عظام الفصيل. وكانت منازل ثمود بحجْر بين الشام والمدينة.
١٨٢٨٧- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
١٨٢٨٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة أن ابن عباس قال: لو صعدتم على القارة لرأيتم عظَام الفصيل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما جاء ثمود عذابُنا = "نجينا صالحًا والذين آمنوا به معه برحمة منا"، يقول: بنعمة وفضل من الله = (ومن خزي يومئذ)، يقول: ونجيناهم من هوان ذلك اليوم، وذلِّه بذلك العذاب (١) = (إن ربك هو القوي)، في بطشه إذا بطش بشيء أهلكه، كما أهلك ثمود حين بطَش بها = "العزيز"، فلا يغلبه غالب، ولا يقهره قاهر، بل يغلب كل شيء ويقهره. (٢)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٢٨٩- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
(٢) انظر تفسير " القوى " فيما سلف ١٤: ١٩.
= وتفسير " العزيز " فيما سلف من فهارس اللغة (عزز).
١٨٢٩٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله، عن شهر بن حوشب، عن عمرو بن خارجة قال: قلنا له: حدّثنا حديثَ ثمود. قال: أحدثكم عن رسول الله ﷺ عن ثمود: كانت ثمودُ قومَ صالح، أعمرهم الله في الدنيا فأطال أعْمَارهم، حتى جعل أحدهم يبني المسكنَ من المدر، فينهدم، (٢) والرَّجلُ منهم حيٌّ. فلما رأوا ذلك، اتخذوا من الجبال بيوتًا فَرِهين، فنحتوها وجَابُوها وجوَّفوها. (٣) وكانوا في سعةٍ من معايشهم. فقالوا: يا صالح ادع لنا ربك يخرج لنا آية نعلم أنك رسول الله، فدعا صالح ربَّه، فأخرج لهم الناقة، فكان شِرْبُها يومًا، وشِرْبهم يومًا معلومًا. فإذا كان يوم شربها خَلَّوا عنها وعن الماء وحلبوها لبنًا، ملئوا كل إناء ووعاء وسقاء، حتى إذا كان يوم شربهم صرفوها عن الماء، فلم تشرب منه شيئًا، فملئوا كل إناء ووعاء وسقاء. فأوحى الله إلى صالح: إن قومك سيعقرون ناقتك! فقال لهم، فقالوا: ما كنا لنفعل! فقال: إلا تعقروها أنتم، يوشكُ أن يولد فيكم مولود [يعقرها]. (٤) قالوا: ما علامة ذلك المولود؟ فوالله لا نجده إلا قتلناه! قال: فإنه غلام أشقَر أزرَق أصهَبُ، أحمر. قال: وكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان، لأحدهما ابن يرغب به عن المناكح، وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤًا، فجمع بينهما مجلس، فقال أحدهما لصاحبه: ما يمنعك أن تزوج ابنك؟ قال: لا أجد له كفؤًا. قال: فإن ابنتي كفؤ له، وأنا أزوجك.. فزوّجه، فولد
(٢) " المدر "، الطين العلك، لا رمل فيه.
(٣) قوله: " وجابوها " ساقطة من المطبوعة. " جابوها "، خرقوا الصخر وحفروه، فاتخذوه بيوتا.
(٤) الزيادة بين القوسين، من تاريخ الطبري.
= قال حجاج: وقال ابن جريج: لما قال لهم صالح: "إنه سيولد غلام يكون هلاككم على يديه"، قالوا: فكيف تأمرنا؟ قال: آمركم بقتلهم! فقتلوهم إلا واحدًا. قال: فلما بلغ ذلك المولود، قالوا: لو كنا لم نقتل أولادَنا، لكان لكل رجل منا مثل هذا، هذا عملُ صالح! فأتمروا بينهم بقتله، وقالوا: نخرج مسافرين والناس يروننا علانيةً، ثم نرجع من ليلة كذا من شهر كذا وكذا، فنرصده عند مصلاه فنقتله، فلا يحسب الناس إلا أنَّا مسافرون، كما نحن! فأقبلوا حتى دخلوا تحت صخرة يرصُدُونه، فأرسل الله عليهم الصخرة فرضَخَتهم، فأصبحوا رَضْخًا. فانطلق رجال ممَّن قد اطلع على ذلك منهم، فإذا هم رضْخٌ، فرجعوا
(٢) في المطبوعة: " تستعمل "، وأثبت ما في المطبوعة والتاريخ.
= ثم رجع الحديث إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وأرادوا أن يمكروا بصالح، فمشوا حتى أتوا على سَرَبٍ على طريق صالح، فاختبأ فيه ثمانية، وقالوا: إذا خرج علينا قتلناه وأتينا أهله، فبيَّتْناهُمْ! فأمر الله الأرض فاستوت عنهم. قال: فاجتمعوا ومشَوْا إلى الناقة وهي على حَوْضها قائمة، فقال الشقيُّ لأحدهم: ائتها فاعقرها! فأتاها، فتعاظَمَه ذلك، فأضرب عن ذلك، فبعث آخر فأعظم ذلك. فجعل لا يبعث رجلا إلا تعاظمه أمرُها، حتى مشوا إليها، وتطاول فضرب عرقوبيها، فوقعت تركُضُ، وأتى رجلٌ منهم صالحًا فقال: "أدرك الناقةَ فقد عمرت "! فأقبل، وخرجوا يتَلقَّونه ويعتذرون إليه: "يا نبيّ الله، إنما عقرها فلان، إنه لا ذنب لنا"! قال: فانظروا هل تدركون فصيلها؟، فإن أدركتموه، فعسَى الله أن يرفعَ عنكم العذابَ! فخرجوا يطلبونه، ولما رأى الفصيل أمَّه تضطرب، أتى جبلا يقال له "القارَة" قصيرًا، فصعد وذهبوا ليأخذوه، فأوحى الله إلى الجبل، فطالَ في السماء حتى ما تَناله الطير. قال: ودخل صالح القرية، فلما رآه الفصيل بكى حتى سألت دموعه، ثم استقبل صالحًا فرغًا رَغْوةً، ثم رغَا أخرى، ثم رغا أخرى، فقال صالح لقومه: لكل رغوة أجلُ يوم، (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب)، ألا إن أية العذاب أنّ اليوم الأوّل تصبح وجوهكم مصفرّة، واليوم الثاني محمرّة، واليوم الثالث مسودّة! فلما أصبحوا فإذا وجوههم كأنها طليت بالخلوق، (١) صغيرُهم وكبيرُهم، ذكرهم وأنثَاهم. فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم: "ألا قد مضى يوم من الأجل، وحضركم العذاب "! فلما أصبحوا اليوم. الثاني إذا وجوههم محمرة،
١٨٢٩١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: حُدِّثت أنَّه لما أخذتهم الصيحة، أهلك الله مَنْ بَين المشارق والمغارب منهم إلا رجلا واحدًا كان في حرم الله، منعه حرم الله من عذاب الله. قيل: ومن هو يا رسول الله؟ قال: أبو رِغال. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أتى على قرية ثمود، لأصحابه: لا يدخلنَّ أحدٌ منكم القرية، ولا تشربوا من مائهم. وأراهم مُرْتقَى الفصيل حين ارتقَى في القارَة.
= قال ابن جريج، وأخبرني موسى بن عقبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: أن النبي ﷺ حين أتى على قرية ثمود قال: لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أنْ يُصيبكم ما أصابهم.
= قال ابن جريج، قال جابر بن عبد الله: إن النبي ﷺ لما أتى على الحِجْر، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فلا تسألوا رسُولكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآية، فبعث لهم الناقة، فكانت تَرِدُ من هذا الفَجّ، وتصدر من هذا الفَجّ، فتشرب ماءَهم يوم ورودها. (٦)
(٢) انظر تفسير " الأنطاع " فيما سلف ص: ٣٧٣ تعليق: ١.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: " بالأرض "، وأثبت ما في التاريخ.
(٤) في المطبوعة: " خسفًا وغرقًا "، غير ما في المخطوطة وفيها " حسما وفرقا "، الأولى غير منقوطة. وفي التاريخ: " " خشعا وفرقا "، وضبط " خشعا " بضم الخاء، وتشديد الشين، كأنه جمع " خاشع "، وضبط " فرقا " بضم الفاء والراء، وهو فاسد من وجوه. والذي أثبته هو الصواب.
و" الجشع " (بفتحتين)، الجزع لفراق الإلف، والحرص على الحياة. وفي حديث معاذ: " فبكى معاذ جشعا لفراق رسول الله ﷺ ". وفي حديث ابن الخصاصية: " أخاف إذا حضر قتال جشعت نفسي فكرهت الموت ". و" الفرق "، أشد الفزع.
(٥) الأثر: ١٨٢٩٠ - " حجاج "، هو " حجاج بن محمد المصيصي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة." أبو بكر بن عبد الله "، لم أعرف من يكون، فإن يكن هو: " أبا بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة القرشي "، فهو منكر الحديث، يروي الموضوعات عن الثقات، ومضى برقم: ١٤٠٤٤، ذكره حجاج بن محمد، فقال: " قال لي أبو بكر السبري: عندي سبعون ألف حديث في الحلال والحرام " فقال أحمد: " ليس بشيء، كان يضع الحديث "، بل هو أيضًا لم يدرك " شهر بن حوشب "، فإنه مات سنة ١٦٢، وله ستون سنة، وشهر بن حوشب، مات سنة ١٠٠، أو بعدها بقليل. وإن يكن " أبا بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني "، كما ذكر الذهبي في تعليقه عن المستدرك، فهو أيضًا متروك الحديث، مضى برقم: ٩٠٧١، ولا أعلم أدرك شهرًا، أم لا، فإنه مات سنة ١٥٦. وفي تاريخ الطبري المطبوع " " أبو بكر بن عبد الرحمن "، وفي بعض نسخه المخطوطة " أبو بكر بن عبد الله "، مطابقًا لما في التفسير." وعمرو بن خارجة بن المنتفق الأشعري "، صحابي، ذكر العسكري أن شهر بن حوشب، لا يصح سماعه عنه، وإنما يروي عنه من طريق " عبد الرحمن بن غنم الأشعري ". وهذا الخبر رواه أبو جعفر الطبري في تاريخه ١: ١١٦ - ١١٨. ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٥٦٦، ٥٦٧، وقال: " هذا حديث جامع لذكر هلاك آل ثمود، تفرد به شهر بن حوشب، وليس له إسناد غير هذا، ولم يستغن عن إخراجه. وله شاهد على سبيل الاختصار بإسناد صحيح، دل على صحة الحديث الطويل، على شرط مسلم ". وقال الذهبي في تعليقه عليه: " أبو بكر، واه، وهو ابن أبي مريم ". فهذا حديث ضعيف، لضعف " أبي بكر بن عبد الله، أيا كان، وللشك في رواية شهر عن عمرو بن خارجة، فهو منقطع.
(٦) الأثر: ١٨٢٩١ - في هذا الخبر حديث مسند، حديث ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن دينار، رواه أحمد من طرق، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، وخرجه أخي رحمه الله في المسند، انظر رقم: ٤٥٦١، ٥٢٢٥، ٥٣٤٢، ٥٤٠٤، ٥٤٤١، ٥٦٤٥، ٥٧٠٥، ٥٩٣١. وأما سائر ما في الخبر، فهو مرسل، وقد مضى من حديث جابر نحوه، من رقم: ١٤٨١٧ - ١٤٨٢٣، فانظر التعليق على هذه الآثار هناك. وانظر أيضا مجمع الزوائد ٦: ١٩٤ / ٧: ٣٧، من حديث جابر الذي رواه أحمد وغيره.
١٨٢٩٣- حدثنا إسماعيل بن المتوكل الأشجعي من أهل حمص قال، حدثنا محمد بن كثير قال، حدثنا عبد الله بن واقد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم قال، حدثنا أبو الطفيل، قال: لما غزا رسول الله ﷺ َغَزاة تبُوك، (١) نزل الحجر فقال: يا أيها الناس لا تسألوا نبيَّكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيَّهم أن يبعث لهم آية، فبعث الله لهم الناقة آيةً، فكانت تَلج عليهم يوم [ورودها من هذا الفجّ، فتشربُ ماءهم، ويوم وردهم كانوا يتزودون منه]، (٢) ثم يحلبونها مثل ما كانوا يتزَوّدون من مائهم قبل ذلك لبنًا، ثم تخرج من ذلك الفجّ. فعتوا عن أمر ربهم وعقروها، فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام، وكان وعدًا من الله غير مكذوب، فأهلك الله من كان
(٢) كان في المطبوعة والمخطوطة: " تلج عليهم يوم ورودهم الذي كانوا يتروون منه ثم يحلبونها... "، وهو غير مستقيم، أثبت الصواب من التاريخ، وفيه " يتزودون " في الموضوعين، فأصلحتهما جميعًا، ووضعت نص ما في التاريخ بين قوسين.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ (٦٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأصاب الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله من عقر ناقة الله وكفرهم به = (الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين)، قد جثمتهم المنايا، وتركتهم خمودًا بأفنيتهم، (٢) كما:-
١٨٢٩٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(٢) انظر تفسير " الجثوم " فيما سلف ١٢: ٥٤٦، ٥٦٦.
* * *
= (كأن لم يغنوا فيها)، يقول: كأن لم يعيشوا فيها، ولم يعمروا بها، كما:-
١٨٢٩٥- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (كأن لم يغنوا فيها)، كأن لم يعيشوا فيها.
١٨٢٩٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله.
* * *
وقد بينا ذلك فيما مضى بشواهده فأغنى ذلك عن إعادته. (١)
* * *
وقوله: (ألا إن ثمود كفروا ربهم)، يقول: ألا إن ثمود كفروا بآيات ربهم فجحدوها (٢) = (ألا بعدًا لثمود)، يقول: ألا أبعد الله ثمود! لنزول العذاب بهم. (٣)
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (ولقد جاءت رسلنا)، من الملائكة وهم فيما ذكر، كانوا جبريل وملكين آخرين. وقيل: إن الملكين الآخرين كان
(٢) انظر ما سلف ص: ٣٦٧.
(٣) انظر تفسير " البعد " فيما سلف ص: ٣٣٥، ٣٦٧.
* * *
واختلفوا في تلك البشارة التي أتوه بها.
فقال بعضهم: هي البشارة بإسحاق.
وقال بعضهم: هي البشارة بهلاك قوم لوط.
* * *
= (قالوا سلاما)، يقول: فسلموا عليه سلامًا.
* * *
ونصب "سلامًا" بإعمال "قالوا" فيه، كأنه قيل: قالوا قولا وسلَّموا تسليمًا.
* * *
= (قال سلام)، يقول: قال إبراهيم لهم: سلام = فرفع "سلامٌ"، بمعنى: عليكم السلام= أو بمعنى: سلام منكم.
* * *
وقد ذكر عن العرب أنها تقول: "سِلْمٌ" بمعنى السلام، كما قالوا: "حِلٌّ وحلالٌ"، وحِرْم وحرام". وذكر الفرَّاء أن بعض العرب أنشده: (٢)
مَرَرْنَا فَقُلْنَا إِيهِ سِلْمٌ فَسَلَّمَتْ | كَمَا اكْتَلَّ بِالَبْرقِ الغَمَامُ الَّلوَائِحُ (٣) |
(٢) لم أعرف قائله. والذي أنشده الفراء في تفسير هذه الآية بيت آخر غير هذا البيت، شاهدًا على حذف " عليكم "، وهو قوله: فَقُلْنَا:
السَّلامُ، فاتَّقَتْ مِنْ أَمِيرَها | وَمَا كَانَ إلاَّ وَمْؤُها بالحواجِبِ |
(٣) اللسان (كلل)، يقال: " انكل السحاب عن البرق، واكتل "، أي: لمع به، و" اللوائح " التي لاح برقها، أي لمع وظهر.
* * *
وقد زعم بعضهم أن معناه إذا قرئ كذلك: نحن سِلْمٌ لكم = من "المسالمة" التي هي خلاف المحاربة.
وهذه قراءة عامَّة قراء الكوفيين.
* * *
وقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والبصرة، (قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ)، على أن الجواب من إبراهيم ﷺ لهم، بنحو تسليمهم: عليكم السلام.
* * *
والصواب من القول في ذلك عندي: أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، لأن "السلم " قد يكون بمعنى "السلام " على ما وصفت، و"السلام " بمعنى "السلم"، لأن التسليم لا يكاد يكون إلا بين أهل السّلم دون الأعداء، فإذا ذكر تسليم من قوم على قوم، ورَدُّ الآخرين عليهم، دلّ ذلك على مسالمة بعضهم بعضًا. وهما مع ذلك قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما أهل قدوة في القراءة، فبأيَّتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ.
* * *
وقوله: (فما لبث أن جاء بعجل حنيذ).
* * *
= وأصله "محنوذ"، صرف من "مفعول" إلى "فعيل".
* * *
وقد اختلف أهل العربية في معناه، فقال بعض أهل البصرة منهم (١) معنى "المحنوذ": المشويّ، قال: ويقال منه: "حَنَذْتُ فرسي"، بمعنى سخَّنته وعرَّقته. واستشهد لقوله ذلك ببيت الراجز:
*ورَهِبَا مِنْ حَنْذِهِ أَنْ يَهْرَجَا* (٢)
* * *
وقال آخر منهم: "حنذ فرسه": أي أضمره، وقال: قالوا حَنَذه يحنِذُه حَنْذًا: أي: عرَّقه.
* * *
وقال بعض أهل الكوفة: كل ما انشوَى في الأرض، إذا خَدَدت له فيه، فدفنته وغممته، فهو "الحنيذ" و"المحنوذ". قال: والخيل تُحْنَذ، إذا القيت عليها الجِلال بعضُها على بعض لتعرق. قال: ويقال: "إذا سَقَيْتَ فَأحْنِذْ"، يعني: أخْفِسْ، يريد: أقلَّ الماء، وأكثر النبيذ.
* * *
وأما [أهل] التأويل، فإنهم قالوا في معناه ما أنا ذاكره، وذلك ما:-
١٨٢٩٧- حدثني به المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (بعجل حينذ)، يقول: نضيج
١٨٢٩٨- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بعجل حينئذ)، قال: "بعجل"، (٣) حَسِيل
(٢) ديوانه ٩، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٩٢، واللسان (حنذ)، و (هرج)، من رجزه المشهور، وهذا البيت من أبيات يصف حمار الوحش وأتنه، لما جاء الصيف، وخرج بهن يطلب الماء البعيد فقال:
حَتَّى إِذَا مَا الصَّيْفُ كَانَ أَمَجَا | وَفَرَعَا مِنْ رَعْىِ مَا تَلَزَّجَا |
ورَهِبَا مِنْ حَنْذِهِ أَنْ يَهْرَجَا | تَذَكَّرَا عَيْنًا رِوًى وَفَلَجَا |
(٣) " الحسيل " (بفتح الحاء وكسر السين) : ولد البقرة.
١٨٢٩٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى) إلى (بعجل حنيذ)، (١) قال: نضيج، سُخِّن، أنضج بالحجارة.
١٨٣٠٠- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فما لبث أن جاء بعجل حنيذ)، و"الحنيذ": النضيج.
١٨٣٠١- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (بعجل حنيذ)، قال: نضيج. قال: [وقال الكلبي] : و"الحنيذ": الذي يُحْنَذُ في الأرض. (٢)
١٨٣٠٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمر في قوله: (فجاء بعجل حنيذ)، قال: "الحنيذ": الذي يقطر ماء، وقد شوى = وقال حفص: "الحنيذ": مثل حِنَاذ الخيل.
١٨٣٠٣- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ذبحه ثم شواه في الرَّضْف، (٣) فهو "الحنيذ" حين شواه.
١٨٣٠٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو يزيد، عن يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية: (فجاء بعجل حنيذ)، قال: المشويّ الذي يقطر.
(٢) الذي بين القوسين ليس في المخطوطة، وقد تركته على حاله، وإن كنت أشك فيه، وأرجح أنه زيادة من ناسخ آخر، بعد ناسخ مخطوطتنا.
(٣) " الرضف " (بفتح فسكون) الحجارة المحماة على النار. و " شواء مرضوف "، مشوي على الرضفة.
١٨٣٠٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (بعجل حنيذ)، قال: نضيج.
١٨٣٠٧- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (بعجل حنيذ)، الذي أنضج بالحجارة.
١٨٣٠٨- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان: (فما لبث أن جاء بعجل حنيذ)، قال: مشويّ.
١٨٣٠٩- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد، أنه سمع وهب بن منبه يقول: "حينذ"، يعني: شُوِي.
١٨٣١٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، "الحِناذ": الإنضاج. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عن أهل العربية وأهل التفسير متقارباتُ المعاني بعضها من بعض.
* * *
وموضع "أن" في قوله: (أن جاء بعجل حنيذ) نصبٌ بقوله: (فما لبث أن جاء).
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما رأى إبراهيم أيديَهم لا تصل إلى العجل الذي أتاهم به، والطعام الذي قدّم إليهم، نكرهم، وذلك أنه لما قدم طعامه ﷺ إليهم، فيما ذكر، كفّوا عن أكله، لأنهم لم يكونوا ممن يأكله. وكان إمساكهم عن أكله، عند إبراهيم، وهم ضِيَفانه مستنكرًا. ولم تكن بينهم معرفةٌ، وراعه أمرهم، وأوجس في نفسه منهم خيفة.
* * *
وكان قتادة يقول: كان إنكاره ذلك من أمرهم، كما:-
١٨٣١١- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة)، وكانت العرب إذا نزل بهم ضيف فلم يطعم من طعامهم، ظنوا أنه لم يجئ بخير، وأنه يحدِّث نفسه بشرّ.
١٨٣١٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرَهم)، قال: كانوا إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم، ظنوا أنه لم يأت بخير، وأنه يحدّث نفسه بشرّ، ثم حدَّثوه عند ذلك بما جاؤوا.
*وقال غيره في ذلك ما:-
١٨٣١٣- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن الأسود بن قيس، عن جندب بن سفيان قال: لما دخل ضيف إبراهيم عليه
* * *
يقال منه: "نكرت الشيء أنكره"، و"أنكرته أنكره "، بمعنى واحد، ومن "نكرت" و"أنكرت"، قول الأعشى:
وَأَنْكَرَتْنِي وَمَا كَانَ الَّذِي نَكِرَتْ | مِنَ الحَوَادِثِ، إلا الشَّيْبَ وَالصَّلَعَا (٢) |
فَنَكِرْنَهُ، فَنَفَرْنَ، وامْتَرَسَتْ بِهِ | هَوْجَاءُ هَادِيَةٌ وَهَادٍ جُرْشُعُ (٣) |
و" جندب بن سفيان "، منسوب إلى جده، وهو: " جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي "، كان على عهد النبي ﷺ غلامًا حزورًا، كما قال هو، وهو الذي راهق، ولم يدرك بعد. مترجم في الإصابة، وغيره، وفي التهذيب، والكبير ١ / ٢ / ٢٢٠، وابن أبي حاتم ١ / ١ / ٥١٠.
(٢) ديوانه: ٧٢، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٩٣، واللسان (نكر) وغيرهما، وسيأتي في التفسير ٢٩: ١٤٥ (بولاق)، ومما يرويه أبو عبيدة، أن أبا عمرو بن العلاء قال: " أنا قلت هذا البيت وأستغفر الله "، فلم يروه، وأنه أنشد بشارًا هذا البيت وهو يسمعه وقيل له: إنه للأعشى، فقال: ليس هذا من كلامه. فقلت له: يا سيدي، ولا عرف القصيدة. ثم قال: أعمى شيطان. وهذه قصة تروى أنا في شك منها.
(٣) ديوانه، (ديوان الهذليين) ١: ٨، وشرح المفضليات: ٨٦٧، وغيرهما، يذكر حمر الوحش، لما شرعت في الماء، وسمعت حس الصائد، فقال:
فَشَرِبْنَ ثُمَّ سَمِعْنَ حِسًّا دُونَهُ | شَرَفُ الحِجَابِ، وَرَيْبَ قَرْعٍ يَقْرَعُ |
وَنمِيمَةً مِنْ قَانِصٍ متلبِّبٍ | في كَفِّهِ جَشْءٌ أَجَشُّ وأَقْطَعُ |
وأما رواية " هوجاء هادية "، فإنه يعني: جريئة متقدمة..
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وامرأته)، سارَة بنت هاران بن ناحور بن ساروج بن راعو بن فالغ، (٢) وهي ابنة عم إبراهيم = (قائمة)، قيل: كانت قائمة من وراء الستر تسمع كلام الرسل وكلام إبراهيم عليه السلام. وقيل: كانت قائمة تخدُم الرسل، وإبراهيم جالسٌ مع الرسل.
* * *
وقوله: (فضحكت)، اختلف أهل التأويل في معنى قوله (فضحكت)، وفي السبب الذي من أجله ضحكت.
فقال بعضهم: ضحكت الضحك المعروف، تعجبًا من أنَّها وزوجها إبراهيم يخدمان ضِيفانهم بأنفسهما، تكرمةً لهم، وهم عن طعامهم ممسكون لا يأكلون.
* ذكر من قال ذلك:
١٨٣١٤- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، بعث الله الملائكة لتهلك قوم لوط، أقبلت تمشي في صورة رجال شباب، حتى نزلوا على إبراهيم فتضيَّفوه، فلما رآهم إبراهيم أجلّهم، فراغ إلى أهله، فجاء بعجل سمين، فذبحه ثم شواه في الرَّضْف، فهو "الحنيذ"
(٢) هكذا هنا: " ساروج "، وفي غيره: " ساروغ "، وهو الأكثر.
* * *
وقال آخرون: بل ضحكت من أن قوم لوط في غَفْلة وقد جاءت رُسُل الله لهلاكهم.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٣١٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: لما أوجس إبراهيم خيفة في نفسه حدثوه عند ذلك بما جاؤوا فيه، فضحكت امرأته وعجبت من أن قومًا أتاهم العذاب، وهم في غفلة. فضحكت من ذلك وعجبت = (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب)
١٨٣١٦- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة أنه قال: ضحكت تعجبًا مما فيه قوم لوط من الغفلة، ومما أتاهم من العذاب.
* * *
وقال آخرون: بل ضحكت ظنًّا منها بهم أنهم يريدون عَمَل قوم لوط.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٣١٧- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر،
* * *
وقال آخرون: بل ضحكت لما رأت بزوجها إبراهيم من الرَّوع.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٣١٨- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الكلبي: (فضحكت)، قال: ضحكت حين راعُوا إبراهيم مما رأت من الروع، بإبراهيم.
* * *
وقال آخرون: بل ضحكت حين بشرت بإسحاق تعجبًا من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٣١٩- حدثني المثني قال إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما أتى الملائكة إبراهيم عليه السلام فرآهم، راعه هيئتهم وجمالهم، فسلموا عليه، وجلسوا إليه، فقام فأمر بعجل سمين، فحُنِذَ له، فقرّب إليهم الطعام = (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة)، وسارة وراء البيت تسمع، قالوا: لا تَخَفْ إنَّا نبشرك بغلام حليم مبارك! وبشّر به امرأته سارة، فضحكت وعجبت: كيف يكون لي ولد وأنا عجوز، وهو شيخ كبير! فقالوا: أتعجبين من أمر الله؟ فإنه قادر على ما يشاء! فقد وهبه الله لكم، فأبشروا به.
* * *
وقد قال بعض من كان يتأول هذا التأويل: إن هذا من المقدَّم الذي معناه التأخير، كأنّ معنى الكلام عنده: وامرأته قائمة، فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، فضحكت وقالت: يا ويلتا أألد وأنا عجوز؟
* * *
*ذكر من قال ذلك:
١٨٣٢٠- حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد، عن علي بن هارون، عن عمرو بن الأزهر، عن ليث، عن مجاهد في قوله: (فضحكت)، قال: حاضت، وكانت ابنة بضع وتسعين سنة. قال: وكان إبراهيم ابن مائة سنة. (١)
* * *
وقال آخرون: بل ضحكت سرورًا بالأمن منهم، لما قالوا لإبراهيم: لا تخف، وذلك أنه قد كان خافهم وخافتهم أيضًا كما خافهم إبراهيم. فلما أمِنَت ضحكت، فأتبعوها البشارة بإسحاق.
* * *
وقد كان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أنه لم يسمع "ضحكت"، بمعنى: حاضت، من ثقة. (٢)
* * *
وذكر بعض أهل العربية من البصريين أن بعض أهل الحجاز أخبره عن بعضهم أن العرب تقول "ضحكت المرأة"، حاضت. قال: وقد قال:
(٢) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن، في تفسير الآية.
فَجَاءَ بِمِزْجٍ لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهُ | هُوَ الضَّحْكُ إلا أَنَّهُ عَملُ النَّحْلِ (٢) |
وَضِحْكُ الأرَانِبِ فَوْقَ الصَّفَا | كَمِثْل دَمِ الجَوْفِ يَوْمَ اللِّقَا (٤) |
فَأضْحَكَتِ الضِّبَاعُ سُيُوفُ سَعْدٍ | بِقَتْلَى مَا دُفِنَّ وَلا وُدِينَا (٥) |
* * *
(٢) ديوانه (ديوان الهذليين) ١: ٤٢، واللسان (ضحك)، وغيرهما، من قصيدة من عجائبه، ذكر في آخرها الخمر، وكيف تزودها من أهل مصر وغزة، وأقبل بها يقطع الأرض، حتى بات بمزدلفة (جمع)، ومنى، فقال قبل البيت:
فَبَاتَ بِجَمْعٍ، ثُمَّ تَمَّ إِلَى مِنًى | فأَصْبَحَ رَأْدًا يَبْتَغِي المِزْجَ بالسَّحْل |
(٣) لم أعرف قائله.
(٤) اللسان (ضحك).
(٥) اللسان (ضحك)، من قصيدة له مشهورة، لم أجدها مجموعة في مكان، ويزعمون أن الضبع تحيض، إذا أكلت لحوم الناس أو شربت دماءهم. وكان ابن دريد يرد هذا ويقول: من شاهد الضباع عند حيضها فيعلم أنها تحيض؟
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب، لأنه ذكر عقيب قولهم لإبراهيم: (لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط). فإذ كان ذلك كذلك، وكان لا وجه للضحك والتعجب من قولهم لإبراهيم: (لا تخف)، كان الضحك والتعجب إنما هو من أمر قوم لوط.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (٧١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فبشَّرنا سارَة امرأة إبراهيم ثوابًا منا لها على نَكيرها وعجبها من فعل قوم لوط = (بإسحاق)، ولدًا لها = (ومن وراء إسحاق يعقوب)، يقول: ومن خلف إسحاق يعقوب، من ابنها إسحاق.
* * *
و"الوراء" في كلام العرب، ولد الولد، وكذلك تأوَّله أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٣٢١- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن عامر قال: (ومن وراء إسحاق يعقوب)، قال: الوراء: ولد الولد.
١٨٣٢٢- حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى، قال كلّ واحد منهما، حدثني أبو اليسع إسماعيل بن حماد بن أبي المغيرة مولى الأشعري، قال: كنت إلى جنب جدي أبي المغيرة بن مهران، في مسجد عليّ بن زيد، فمر بنا الحسنُ بن أبي الحسن فقال: يا أبا المغيرة من هذا الفتى؟ قال: ابني من ورائي،
١٨٣٢٣- حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثني قالا حدثنا محمد بن أبي عدي قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن الشعبي في قوله: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب)، قال: ولد الولد هو "الوراء".
١٨٣٢٤- حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد، عن داود، عن عامر في قوله: (ومن وراء إسحاق يعقوب)، قال: "الوراء"، ولد الولد.
١٨٣٢٥- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، مثله.
١٨٣٢٦- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو عمرو الأزدي قال: سمعت الشعبي يقول: ولد الولد: هم الولد من الوَراء.
١٨٣٢٧- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاء رجل إلى ابن عباس ومعه ابن ابنه فقال: من هذا معك؟ قال: هذا ابن ابني. قال: هذا ولدُك من الوراء! قال: فكأنه شقَّ على ذلك الرجل، فقال ابن عباس: إن الله يقول: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب)، فولد الولد هم الوراء.
١٨٣٢٨- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما ضحكت سارَة. وقالت: "عجبًا لأضيافنا هؤلاء، إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا "! قال لها جبريل: أبشري بولد اسمُه إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب. فَضربتْ وَجْهَهَا عجبًا، فذلك قوله: (فَصَكَّتْ وَجْهَهَا)، [سورة الذاريات: ٢٩]. وقالت: (أألد
"إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان، مولى الأشعري " مترجم في التهذيب، والكبير ١/١/٣٥١، وابن أبي حاتم ١/١/ ١٦٤، وروى عنه " عمر بن علي بن مقدم "، ولم يرو عنه "عمرو بن علي الفلاس"، وإذًا فليس هو هو. فيبقى مجهولًا حتى نجد له ترجمة.
١٨٣٢٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: (فضحكت) = يعني سارَة لما عرفت من أمر الله جل ثناؤه ولمَا تعلم من قوم لوط = فبشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب = بابن وبابن ابن. فقالت وصكت وجهها = يقال: ضربت على جبينها =: (يا ويلتا أألد وأنا عجوز)، إلى قوله: (إنه حميد مجيد).
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء العراق والحجاز: (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ)، برفع "يعقوب "، ويعيد ابتداء الكلام بقوله. (ومن وراء إسحاق يعقوب)، وذلك وإن كان خبرًا مبتدأ، ففيه دلالة على معنى التبشير.
* * *
وقرأه بعض قراء أهل الكوفة والشأم، (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوب) نصبًا.
* * *
فأما الشامي منهما، فذكر أنه كان ينحو ب"يعقوب" نحو النصب بإضمار فعل آخر مشاكل للبشارة، كأنه قال: ووهبنا له من وراء إسحاق يعقوب. فلما لم يظهر "وهبنا" عمل فيه "التبشير" وعطف به على موضع "إسحاق "، إذ كان "إسحاق" وإن كان مخفوضًا، فانه بمعنى المنصوب بعمل "بشرنا"، فيه، كما قال الشاعر: (١)
جِئْنِي بِمِثْلِ بَنِي بَدْرٍ لِقَوْمِهِمِ... أَوْ مِثْلِ أُسَْرِة مَنْظُورِ بنِ سَيَّارِ...
* * *
وأما الكوفي منهما فإنه قرأه بتأويل الخفض فيما ذكر عنه، غير أنه نصبه لأنه لا يجرى. وقد أنكر ذلك أهل العلم بالعربية من أجل دخول الصفة بين حرف العطف والاسم. (٢) وقالوا: خطأ أن يقال: "مررت بعمرٍو في الدَّار وفي الدار زيد" وأنت عاطف ب"زيد" على "عمرو"، إلا بتكرير الباء وإعادتها، فإن لم تعد كان وجه الكلام عندهم الرفع، وجاز النصب، فإن قُدم الاسم على الصفة جاز حينئذ الخفض، وذلك إذا قلت: "مررت بعمرو في الدار وزيد في البيت". وقد أجاز الخفضَ والصفةُ معترضةٌ بين حرف العطف والاسم، بعضُ نحويي البصرة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه رفعًا، لأن ذلك هو الكلام المعروف من كلام العرب، والذي لا يتناكره أهل العلم بالعربية، وما عليه قراءة الأمصار. فأما النَّصب فيه فإن له وجهًا، غير أنِّي لا أحبُّ القراءة به، لأن كتاب الله نزلَ بأفصح ألسُن العرب، والذي هو أولى بالعلم بالذي نزل به من الفصاحة.
* * *
لاَ تَفْخَرَنَّ، فإنَّ اللهَ أنْزَلكُمْ | يَا خُزْرَ تَغْلِبَ دَارَ الذُّلِّ والعَارِ |
مَا فِيكُمُ حَكَمٌ تُرْضَى حُكُومَتُهُ | لِلمُسْلِمينَ، ولاَ مُسْتَشْهَدٌ شَارِي |
أوْ مَثْلَ آلِ زُهَيْرٍ، والقَنا قِصَدٌ | وَالخَيْلُ في رَهَجٍ مِنْهَا وَإِعْصَارِ |
(٢) " الصفة " يعني حرف الجر، كما سلف مرارًا، انظر فهارس المصطلحات.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت سَارة لما بُشِّرت بإسحاق أنَّها تلد تعجبًا مما قيل لها من ذلك، إذ كانت قد بلغت السن التي لا يلد من كان قد بلغها من الرجال والنساء =
* * *
وقيل: إنها كانت يومئذ ابنة تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة سنة. وقد ذكرت الرواية فيما روي في ذلك عن مجاهد قبلُ. (١)
وأما ابن إسحاق، فإنه قال في ذلك ما:-
١٨٣٣٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كانت سارَة يوم بُشِّرت بإسحاق، فيما ذكر لي بعض أهل العلم، ابنة تسعين سنة، وإبراهيم ابن عشرين ومائة سنة.
* * *
= (يا ويلتا) وهي كلمة تقولها العرب عند التعجب من الشيء والاستنكار للشيء، فيقولون عند التعجب: "ويلُ أمِّه رجلا ما أرْجَله"! (٢)
* * *
وقد اختلف أهل العربية في هذه الألف التي في: (يا ويلتا).
فقال بعض نحويي البصرة: هذه ألف حقيقة، إذا وقفت قلت: "يا ويلتاه"،
(٢) انظر تفسير " الويل " فيما سلف ٢: ٢٦٧ - ٢٦٩، ٢٧٣.
* * *
وقال غيره: هذه ألف الندبة، فإذا وقفت عليها فجائز، وإن وقفت على الهاء فجائز، وقال: ألا ترى أنهم قد وقفوا على قوله: (ويَدْعُو الإنْسَانُ)، [سورة الإسراء: ١١]، فحذفوا الواو وأثبتوها، وكذلك: (ما كُنَّا نَبْغِي)، [سورة الكهف: ٦٤]، بالياء، وغير الياء؟ قال: وهذا أقوى من ألف الندبة وهائها.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن هذه الألف ألف الندبة، والوقف عليها بالهاء وغير الهاء جائز في الكلام لاستعمال العرب ذلك في كلامهم.
* * *
وقوله: (أألد وأنا عجوز)، تقول: أنى يكون لي ولد = (وأنا عجوز وهذا بعلي شيْخًا)، والبعل في هذا الموضع: الزوج، وسمي بذلك لأنه قيم أمرها، كما سموا مالك الشيء "بعله"، وكما قالوا للنخل التي تستغني بماء السماء عن سقي ماء الأنهار والعيون "البعل"، لأن مالك الشيء القيم به، والنخل البعل، بماء السمَاء حياتُه. (١)
* * *
وقوله = (إن هذا لشيء عجيب)، يقول: إن كون الولد من مثلي ومثل بعلي على السن التي بها نحن لشيء عجيب = (قالوا أتعجبين من أمر الله)،
* * *
= وقوله: (رحمة الله وبركاته عليكم البيت)، يقول: رحمة الله وسعادته لكم أهل بيت إبراهيم (١) = وجعلت الألف واللام خلفًا من الإضافة = وقوله: (إنه حَميدٌ مجيد)، يقول: إن الله محمود في تفضله عليكم بما تفضل به من النعم عليكم وعلى سائر خلقه (٢) = (مجيد)، يقول: ذو مجد ومَدْح وَثَناء كريم.
* * *
يقال في "فعل" منه: "مجد الرجل يمجد مجادة" إذا صار كذلك، وإذا أردت أنك مدحته قلت: "مجّدته تمجيدًا".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما ذهب عن إبراهيم الخوفُ الذي أوجسه في نفسه من رسلنا، حين رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه، وأمن أن يكون قُصِد في نفسه وأهله بسوء = (وجاءته البشرى)، بإسحاق، ظلّ = (يجادلنا في قوم لوط).
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٣٣١- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
(٢) انظر تفسير " الحميد " فيما سلف ٥: ٥٧٠ / ٩: ٢٩٦.
١٨٣٣٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى)، بإسحاق، ويعقوب ولد من صلب إسحاق، وأمن مما كان يخاف، قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ)، [سورة إبراهيم: ٣٩].
* * *
وقد قيل معنى ذلك: وجاءته البشرى أنهم ليسوا إياه يريدون.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٣٣٣- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وجاءته البشرى)، قال: حين أخبروه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط، وأنهم ليسوا إياه يريدون. (١)
* * *
وقال آخرون: بشّر بإسحاق.
* * *
وأما "الروع": فهو الخوف، يقال منه: "راعني كذا يَرُوعني روعًا" إذا خافه. ومنه قول النبي ﷺ لرجل: "كيف لَكَ بَرَوْعَة المؤمن"؟ ومنه قول عنترة:
مَا رَاعَني إلا حَمُوَلُة أَهْلِهَا | وَسْطَ الدِّيارِ تَسَفُّ حَبَّ الخِمْخِمِ (٢) |
(٢) ديوانه: ١٢٣، من معلقته المشهورة، وقبله:
إنْ كُنْتِ أَزْمْعتِ الفِرَاقَ، فإنَّما | زُمَّتْ رِكابُكُمْ بِيَوْمٍ مُظْلِمِ |
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٨٣٣٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "الروع"، الفَرَق.
١٨٣٣٥- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد =
١٨٣٣٦-.... قال وحدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع)، قال: الفَرَق.
١٨٣٣٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع)، قال: الفَرَق.
١٨٣٣٨- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع)، قال: ذهب عنه الخوف.
* * *
وقوله: (يجادلنا في قوم لوط)، يقول: يخاصمنا. كما:-
١٨٣٣٩- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يجادلنا)، يخاصمنا. (١)
١٨٣٤٠- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وزعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله: (يجادلنا) يكلمنا.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا من الكلام جهلٌ، لأن الله تعالى ذكره أخبرنا في كتابه أنه يجادل في قوم لوط، فقول القائل: "إبراهيم لا يجادل"، موهمًا بذلك أن قول من قال في تأويل قوله: (يجادلنا)، يخاصمنا، أن إبراهيم كان يخاصم ربَّه، جهلٌ من الكلام، وإنما كان جدالُه الرسلَ على وجه المحاجَّة لهم. ومعنى ذلك: "وجاءته البشرى يجادل رسلنا"، ولكنه لما عرف المراد من الكلام حذف "الرسل".
* * *
وكان جدالُه إيَّاهُم، كما:-
١٨٣٤١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي قال، حدثنا جعفر، عن سعيد: (يجادلنا في قوم لوط)، قال: لما جاء جبريل ومن معه قالوا لإبراهيم: إنَّا مهلكو أهل هذه القرية إنَّ أهلها كانوا ظالمين: قال لهم إبراهيم: أتهلكون قريةً فيها أربع مائة مؤمن؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها ثلاث مائة مؤمن؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنًا؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمنًا؟ قالوا: لا! وكان إبراهيم يعدهم أربعة عشر بامرأة لوط، فسكتَ عنهم واطمأنت نفسه.
١٨٣٤٢- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الحماني، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال، قال الملك لإبراهيم: إن كان فيها خمسة يصلون رُفع عنهم العذاب.
١٨٣٤٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
١٨٣٤٤- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (يجادلنا في قوم لوط)، قال: بلغنا أنه قال لهم يومئذ: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين؟ قالوا: إن كان فيها خمسون لم نعذبهم. قال: أربعون؟ قالوا: وأربعون! قال: ثلاثون؟ قالوا: ثلاثون! حتى بلغ عشرة. قالوا: وإن كان فيهم عشرة! قال: ما قومٌ لا يكون فيهم عشرة فيهم خير = قال ابن عبد الأعلى، قال محمد بن ثور، قال معمر: بلغنا أنه كان في قرية لوط أربعة آلاف ألف إنسان، أو ما شاء الله من ذلك.
١٨٣٤٥- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى)، قال: ما خطبُكم أيها المرسلون؟ قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم لوط، فجادلهم في قوم لوط قال، أرأيتم إن كان فيها مائة من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا! فلم يزل يحُطَّ حتى بلغ عشرة من المسلمين، فقالوا: لا نعذبهم، إن كان فيهم عشرة من المسلمين، ثم قالوا: "يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه ليس فيها إلا أهل بيت من المؤمنين " هو لوط وأهل بيته، وهو قول الله تعالى ذكره: (يجادلنا في قوم لوط). فقالت الملائكة: (يا إبراهيم أعرض عن هذا إنَّه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود).
١٨٣٤٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى)، يعني: إبراهيم جادل عن قوم لوط ليردّ عنهم العذاب قال: فيزعم أهل التوراة أن مجادلة إبراهيم إياهم حين
١٨٣٤٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال إبراهيم: أتهلكونهم إن وجدتم فيها مائة مؤمن ثم تسعين؟ حتى هبَط إلى خمسة. قال: وكان في قرية لوط أربعة آلاف ألف.
١٨٣٤٨- حدثنا محمد بن عوف قال، حدثنا أبو المغيرة قال، حدثنا صفوان قال، حدثنا أبو المثني ومسلم أبو الحبيل الأشجعي قالا (لما ذهب عن إبراهيم الروع)، إلى آخر الآية قال إبراهيم: أتعذب عالمًا من عالمك كثيرًا، فيهم مائة رجل؟ قال: لا وعزتي، ولا خمسين! قال: فأربعين؟ فثلاثين؟ حتى انتهى إلى خمسة. قال: لا! وعزتي لا أعذبهم ولو كان فيهم خمسة يعبدونني! قال الله عز وجل: (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [سورة الذاريات: ٣٦]، أي لوطًا وابنتيه، قال: فحلّ بهم من العذاب، قال الله عز وجل: (وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ) [سورة الذاريات: ٣٧]، وقال: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط). (١)
* * *
و" أبو المغيرة "، هو: "عبد القدوس بن الحجاج الخولاني "، مضى مرارا، منها: ١٣١٠٨.
و" صفوان " هو: " صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي "، مضى مرارًا، منها: ١٣١٠٨.
" وأبو المثني " كأنه يعني: مسلم بن المثني الكوفي المؤذن "، روى عن ابن عمر، مترجم في التهذيب، والكبير ٤ / ١ / ٢٥٦، وابن أبي حاتم ٤ / ١ / ١٩٥. وأما " أبو الحبيل الأشجعي "، فلست أجد من يسمى هكذا، وظني أنه قد وقع في هذا الإسناد خطأ، فصوابه عندي: " قال حدثنا أبو المثني مسلم، والحسيل الأشجعي".
" والحسيل الأشجعي "، فيما أرجح: " الحسيل بن عبد الرحمن الأشجعي "، ويقال أيضًا: " حسين "، روى عن سعد بن أبي وقاص، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١ / ٢ / ٥٨. هذا، وفي النفس شيء من حقيقة هذا الإسناد، والله أعلم.
* * *
وقوله: (إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب)، يقول تعالى ذكره: إن إبراهيم لبطيء الغضب، (١) متذلل لربه خاشع له، منقاد لأمره = (منيب)، رَجَّاع إلى طاعته، كما:-
١٨٣٤٩- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد: (أوّاه منيب)، قال: القانت: الرَّجاع.
* * *
وقد بينا معنى "الأوّاه" فيما مضى، باختلاف المختلفين، والشواهد على الصحيح منه عندنا من القول، بما أغنى عن إعادته. (٢)
(٢) انظر تفسير " الأواه " فيما سلف ١٤: ٥٢٣ - ٥٣٦.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قول رسله لإبراهيم: (يا إبراهيم أعرض عن هذا)، وذلك قيلهم له حين جَادلهم في قوم لوط، فقالوا: دع عنك الجدالَ في أمرهم والخصومة فيه (١) = فإنه (قد جاء أمر ربكَ) يقول: قد جاء أمر ربك بعذابهم. وحقَّ عليهم كلمة العذاب، ومضى فيهم بهلاكهم القضاء = (وإنهم آتيهم عذاب غير مردود)، يقول: وإن قوم لوط، نازلٌ بهم عذابٌ من الله غير مدفُوع.
* * *
وقد [مضى] ذكر الرواية بما ذكرنا فيه عمن ذكر ذلك عنه. (٢)
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما جاءت ملائكتنا لوطًا، ساءَه مَجيئهم = وهو "فعل" من "السوء" = (وضاق بهم)، بمجيئهم (ذَرْعًا)، يقول: وضاقت نفسه غما بمجيئهم. وذلك أنه لم يكن يعلم أنهم رسلُ الله في حال ما ساءه مجيئهم، وعلم من قومه ما هم عليه من إتيانهم الفاحشة، وخاف عليهم، فضاق من أجل ذلك بمجيئهم ذرعًا، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عن أضيافه، ولذلك قال: (هذا يوم عصيب).
* * *
(٢) الزيادة بين القوسين يقتضيها السياق.
ذكر من قال ذلك:
١٨٣٥٠- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ولما جاءت رسلنا لوطًا سيء بهم وضاق بهم ذراعًا)، يقول: ساء ظنًا بقومه وضاق ذرعًا بأضيافه.
* * *
١٨٣٥١- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن حذيفة أنه قال: لما جاءت الرسل لوطًا أتوه وهو في أرض له يعمل فيها، وقد قيل لهم، والله أعلم: لا تهلكوهم حتى يشهدَ لوط. قال: فأتوه فقالوا: إنا مُتَضيِّفوك الليلة، فانطلق بهم، فلما مضى ساعةً التفت فقال: أما تعلمون ما يعمَل أهل هذه القرية؟ والله ما أعلم على ظهر الأرض أناسًا أخبث منهم! قال: فمضى معهم. ثم قال الثانية مثل ما قال، فانطلق بهم. فلما بصرت بهم عجوزُ السَّوْء امرأته، انطلقَت فأنذرتهم. (١)
١٨٣٥٢- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال، قال حذيفة، فذكر نحوه.
١٨٣٥٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، قال: أتت الملائكة لوطًا وهو في مزرعة له، وقال الله للملائكة: إن شهد لوط عليهم أربعَ شهادات فقد أذنت لكم في هَلكتهم. فقالوا: يا لوط، إنا نريد أن نُضيِّفك الليلة. فقال: وما بلغكم من أمرهم؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشرُّ قرية في الأرض عملا! يقول ذلك أربع مرات، فشهد عليهم لوط أربع شهادات، فدخلوا معه منزله. (٢)
١٨٣٥٤- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد
(٢) الأثر: ١٨٣٥٣ - رواه الطبري في تاريخه ١: ١٥٤.
١٨٣٥٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: خرجت الرسل فيما يزعم أهل التوراة من عند إبراهيم إلى لوط بالمؤتفكة، فلما جاءت الرسل لوطًا سيء بهم وضاق بهم ذرعًا، وذلك من تخوف قومه عليهم أن يفضحُوه في ضيفه، فقال: (هذا يوم عصيبٌ).
* * *
وأما قوله: (وقال هذا يوم عصيب)، فإنه يقول: وقال لوط: هذا اليوم يوم شديد شره، عظيم بلاؤه،
* * *
يقال منه: عصب يومنا هذا يعصب عصبًا، ومنه قول عدي بن زيد:
وَكُنْتُ لِزَازَ خَصْمِكَ لمْ أُعَرِّدْ | وَقَدْ سَلَكُوكَ فِي يَوْمٍ عَصِيب (٤) |
(٢) أي: خافت عليهم.
(٣) الأثر: ١٨٣٥٤ - رواه الطبري في تاريخه ١: ١٥٤، تام الإسناد، مطولا.
(٤) الأغاني ٢: ١١١، مجاز القرآن ١: ٢٩٤، اللسان (سلك)، وسيأتي في التفسير ١٤: ٨ / ١٨: ١٣ (بولاق). من قصيدة له طويلة، قالها وهو في حبس النعمان بن المنذر، يقول للنعمان قبله:
سَعَى الأَعْدَاءُ لاَ يَأْلُونَ شَرًّا | عَلَيَّ وَربِّ مَكَّةَ والصَّلِيبِ |
أَرَادُوا كي تُمَهَّلَ عَنْ عَدِيٍّ | لِيُسْجَنَ أَو يُدَهُدَهَ فِي القَلِيبِ |
وَكُنْتُ لِزازَ خَصْمِكَ... | .................... |
أُعَالِنُهُم وأُبْطِنُ كُلَّ سِرٍّ | كَمَا بَيْنَ اللِّحَاءِ إِلَى العَسِيبِ |
فَفُزْتُ عَلَيْهِمْ لَمّا الْتَقَيْنَا | بِتَاجِكَ فَوْزَةَ القِدْحِ الأرِيبِ |
يَوْمٌ عَصِيبٌ يَعْصِبُ الأَبْطَالا | عَصْبَ القَوِيِّ السَّلَمَ الطِّوَالا (١) |
وَإنَّكَ إنْ لا تُرْضِ بَكْرَ بنَ وَائِلٍ | يَكُنْ لَكَ يَوْمٌ بالعِرَاقِ عَصِيبِ (٢) |
ومُلَبُّونَ بِالحَضِيضِ فِئامٌ | عَارِفاتٌ مِنْهُ بِيَوْمٍ عَصِيبِ (٣) |
ونحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
(٢) لم أعرف قائله، وهو في مجاز القرآن ١: ٢٩٤.
(٣) لم أجد البيت في مكان آخر، وفي المطبوعة: " ويلبون "، وفي المخطوطة مثله، إلا أن فيه خطأ في النقط وأظن الصواب ما أثبت، من قولهم: " ألب بالمكان "، إذا لزمه ولم يفارقه. " والحضيض "، منخفض من الأرض عند منقطع الجبل. و" فئام"، جماعات. وكأن هذا البيت من شعره الذي رثى به عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وروى أبياتا منه المصعب الزبيري في نسب قريش ص: ٣٢٥، وكان كعب بن جعيل مداحًا له.
١٨٣٥٧- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: (هذا يوم عصيب)، يقول شديد.
١٨٣٥٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: (هذا يوم عصيب)، أي يوم بلاء وشدة.
١٨٣٥٩- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (يوم عصيب)، شديد.
١٨٣٦٠- حدثني علي قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (وقال هذا يوم عصيب)، أي: يوم شديد.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وجاء لوطًا قومه يستحثون إليه، يُرْعَدون مع سرعة المشي، مما بهم من طلب الفاحشة.
* * *
يقال: "أهْرِعَ الرجل "، من برد أو غضب أو حمَّى، إذا أرعد، "وهو مُهْرَع"، إذا كان مُعْجلا حريصًا، كما قال الراجز:
* بِمُعْجَلاتٍ نَحْوَهُ مَهَارِع * (٢)
ومنه قول مهلهل:
فجاؤوا يُهْرَعُونَ وهمْ أُسارَى تَقُودُهُمُ على رَغمِ الأُنُوفِ (٣)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٣٦١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (يُهْرَعون إليه)، قال: يهرولون، وهو الإسراع في المشي.
١٨٣٦٢- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٨٣٦٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
١٨٣٦٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد والمحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (وجاءه قومه يهرعون إليه)، قال: يسعون إليه.
١٨٣٦٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: قال: فأتوه يهرعون إليه، يقول: سراعًا إليه.
١٨٣٦٦- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (يهرعون إليه)، قال: يسرعون إليه.
١٨٣٦٧- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وجاءه قومه يهرعون إليه)، يقول: يسرعون المشي إليه.
١٨٣٦٨- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يحيى بن
(٢) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٩٤.
(٣) اللسان (هرع)، ولم أعرف سائر الشعر.
١٨٣٦٩- حدثنا سوار بن عبد الله قال، قال سفيان بن عيينة في قوله: (يهرعون إليه)، قال: كأنهم يدفعون.
١٨٣٧٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب قال، حدثنا حفص بن حميد، عن شمر بن عطية قال، أقبلوا يسرعون مشيًا بين الهرولة والجمز.
١٨٣٧١- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي عن ابن عباس، قوله: (وجاءه قومه يهرعون إليه)، يقول: مسرعين.
* * *
وقوله: (ومن قبل كانوا يعملون السيئات)، يقول: من قبل مجيئهم إلى لوط، كانوا يأتون الرجال في أدبارهم، كما:-
١٨٣٧٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (ومن قبل كانوا يعملون السيئات)، قال: يأتون الرجال.
* * *
وقوله: (قال يا قوم هؤلاء بناتي)، يقول تعالى ذكره: قال لوط لقومه لما جاؤوه يراودونه عن ضيفه: هؤلاء يا قوم بناتي = يعني نساء أمته = فانكحوهن فهنّ أطهر لكم، كما:-
١٨٣٧٣- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم)، قال: أمرهم لوط بتزويج النساء وقال: (هن أطهر لكم).
١٨٣٧٤- حدثنا محمد قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: وبلغني هذا أيضًا عن مجاهد.
١٨٣٧٥- حدثنا ابن وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد: (هؤلاء
١٨٣٧٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم)، قال: أمرهم أن يتزوجوا النساء، لم يعرضْ عليهم سفاحًا.
١٨٣٧٧- حدثني يعقوب قال، حدثنا أبو بشر، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قوله: (هن أطهر لكم)، قال: ما عرض عليهم نكاحًا ولا سفاحًا. (١)
١٨٣٧٨- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) قال: أمرهم أن يتزوجوا النساء، وأراد نبي الله ﷺ أن يَقي أضيافه ببناته.
١٨٣٧٩- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر عن الربيع، في قوله: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم)، يعني التزويج = حدثني أبو جعفر، عن الربيع في قوله: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم)، يعني التزويج. (٢)
١٨٣٨٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو النعمان عارم قال، حدثنا حماد بن زيد قال، حدثنا محمد بن شبيب الزهراني، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في قول لوط: (هؤلاء بناتي هن أطهر كم)، يعني: نساءهم، هنّ بَنَاته، هو نبيّهم = وقال في بعض القراءة: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ)، [سورة الأحزاب: ٦]. (٣)
(٢) هكذا جاء التكرار في المخطوطة والمطبوعة، وأخشى أن يكون سقط من الإسناد شيء.
(٣) الأثر: ١٨٣٨٠ - " محمد بن شبيب الزهراني "، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير ١ / ١ / ١١٤، وابن أبي حاتم ٣ / ٢ / ٢٨٥.
١٨٣٨٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما جاءت الرسل لوطًا أقبل قومه إليهم حين أخبروا بهم يهرَعون إليه. فيزعمون، والله أعلم، أن امرأة لوط هي التي أخبرتهم بمكانهم، وقالت: إن عند لوط لضيفانًا ما رأيت أحسنَ ولا أجمل قطُّ منهم! وكانوا يأتون الرجالَ شهوة من دون النساء، فاحشةٌ، لم يسبقهم بها أحد من العالمين. فلما جاؤوه قالوا: أو لم ننهك عن العالمين؟ أي: ألم نقل لك: لا يقربنَّك أحدٌ، فإنا لن نجد عندك أحدًا إلا فعلنا به الفاحشة؟ قال: "يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم"، فأنا أفدي ضيفي منكم بهنّ، ولم يدعهم إلا إلى الحلال من النكاح.
١٨٣٨٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (هؤلاء بناتي)، قال: النساء.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (هن أطهر لكم).
فقرأته عامة القراء برفع: (أَطْهَرُ)، على أن جعلوا "هن" اسمًا، "وأطهر" خبره، كأنه قيل: بناتي أطهرُ لكم مما تريدون من الفاحشة من الرجال.
* * *
وذكر عن عيسى بن عمر البصري أنه كان يقرأ ذلك: (هُنَّ أَطْهَرَ لَكُمْ)، بنصب "أطهر". (١)
* * *
وكان بعض نحويي البصرة يقول: هذا لا يكون، إنما ينصب خبر الفعل الذي لا يستغني عن الخبر إذا كان بين الاسم والخبر هذه الأسماء المضمرة.
* * *
وقال آخر منهم: مسموع من العرب: "هذا زيد إيَّاه بعينه"، قال: فقد جعله خبرًا لـ "هذا" مثل قولك: "كان عبد الله إياه بعينه". قال: وإنما لم يجز أن يقع الفعل ههنا، لأن التقريب ردُّ كلام، (١) فلم يجتمعا، لأنه يتناقض، لأنَّ ذلك إخبار عن معهود، وهذا إخبار عن ابتداء ما هو فيه: "ها أنا ذا حاضر"، أو: "زيد هو العالم"، فتناقض أن يدخل المعهودُ على الحاضر، فلذلك لم يجُزْ.
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز خلافها في ذلك، الرفع: (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)، لإجماع الحجة من قراء الأمصار عليه، مع صحته في العربية، وبعد النصب فيه من الصحة.
* * *
وقوله: (فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي)، يقول: فاخشوا الله، أيها الناس، واحذروا عقابه، في إتيانكم الفاحشة التي تأتونها وتطلبونها = (ولا تخزون في ضيفي)، يقول: ولا تذلوني بأن تركبوا مني في ضيفي ما يكرهون أن تركبُوه منهم. (٢)
* * *
و"الضيف "، في لفظ واحدٍ في هذا الموضع بمعنى جمع. والعرب تسمي الواحد والجمع "ضيفًا" بلفظ واحدٍ. كما قالوا: "رجل عَدْل، وقوم عَدْل".
* * *
(٢) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف من فهارس اللغة (خزي).
١٨٣٨٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد)، أي رجل يعرف الحقَّ وينهى عن المنكر؟
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (٧٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم لوط للوط: (لقد علمت)، يا لوط (ما لنا في بناتك من حق)، لأنهن لَسْنَ لنا أزواجًا، (٢) كما:-
١٨٣٨٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: (قالوا: لقد علمت ما لنا في بناتك من حق)، أي من أزواج = (وإنك تعلم ما نريد).
* * *
وقوله: (وإنك لتعلم ما نريد)، يقول: قالوا: وإنك يا لوط لتعلم أنَّ حاجتنا في غير بناتك، وأن الذي نُريد هو ما تنهانَا عنه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* * *
*ذكر من قال ذلك:
١٨٣٨٦- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: " ليس لنا أزواجا "، والصواب ما أثبت.
١٨٣٨٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وإنك لتعلم ما نريد)، أي: إن بغيتنا لغير ذلك. فلما لم يتناهوا، ولم يردَّهم قوله، ولم يقبلوا منه شيئًا مما عرض عليهم من أمور بناته، قال: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال لوط لقومه حين أبوا إلا المضي لما قد جاؤوا له من طلب الفاحشة، وأيس من أن يستجيبوا له إلى شيء مما عرض عليهم: (لو أن لي بكم قوة)، بأنصار تنصرني عليكم وأعوان تعينني = (أو آوى إلى ركن شديد)، يقول: أو أنضم إلى عشيرة مانعة تمنعني منكم، (١) لحلت بينكم وبين ما جئتم تريدونه منِّي في أضيافي = وحذف جواب "لو" لدلالة الكلام عليه، وأن معناه مفهوم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٣٨٨- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال لوط: (قال لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد)، يقول: إلى جُنْد شديد، لقاتلتكم.
١٨٣٩٠- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: (إلى ركن شديد)، قال: العشيرة.
١٨٣٩١- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن: (أو آوى إلى ركن شديد)، قال: إلى ركن من الناس.
١٨٣٩٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال قوله: (أو آوى إلى ركن شديد)، قال: بلغنا أنه لم يبعث نبيٌّ بعد لوط إلا في ثَرْوَة من قومه، حتى النبي صلى الله عليه وسلم.
١٨٣٩٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد)، أي: عشيرة تمنعني أو شيعة تنصرني، لحلت بينكم وبين هذا.
١٨٣٩٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) قال: يعني به العشيرة.
١٨٣٩٥- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن: أن هذه الآية لما نزلت: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد)، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد!
١٨٣٩٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن مبارك، عن الحسن قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله أخي لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، فلأيّ شيء استكان!
١٨٣٩٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة وعبد الرحيم، عن محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله
١٨٣٩٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن كثير قال، حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله.
١٨٣٩٩- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سليمان بن بلال، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله.
١٨٤٠٠- حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال، حدثنا سعيد بن تليد قال، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم قال، حدثني بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب الزهري قال، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: رحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد. (٢)
(٢) الأثر: ١٨٤٠٠ - حديث ابن شهاب الزهري، عن أبي سلمة، وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، رواه من طريقين، هذا ورقم: ١٨٤٠١.
"زكريا بن يحيى بن أبان المصري "، شيخ الطبري، مضى برقم: ٥٩٧٣، ١٢٨٠٧، وانظر التعليق عليه في الموضوعين." وسعيد بن تليد "، هو:" سعيد بن عيسى بن تليد المصري " ثقة، مضى برقم: ٥٩٧٣. " وعبد الرحمن بن القاسم بن خالد العتقي "، ثقة، مضى برقم: ٥٩٧٣." وبكر بن مضر المصري "، ثقة، مضى برقم ": ٢٠٣١، ٤٦٣٣، ٥٨٩٧، ٥٩٧٣. " وعمرو بن الحارث بن يعقوب المصري "، روى له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة. " ويونس بن يزيد بن أبي النجاد الأيلي "، روى له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة. وهذا إسناد صحيح أيضًا.
١٨٤٠٢- حدثني المثني قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال في قوله: (أو آوى إلى ركن شديد)، قد كان يأوي إلى ركن شديد = يعني الله تبارك وتعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما بَعثَ الله بعده من نبيّ إلا في ثَرْوة من قومه. (١)
١٨٤٠٣- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا بن لهيعة، عن أبي يونس، سمع أبا هريرة يحدث عن النبي ﷺ قال: رحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد. (٢)
١٨٤٠٤-.... قال، حدثنا ابن أبي مريم سعيد بن عبد الحكم قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (٣)
١٨٤٠٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
(٢) الأثر: ١٨٤٠٣ - " أبو يونس "، هو " سليم بن جبير الدوسي المصري "، مولى أبي هريرة، ثقة، سلف برقم: ٦٨٨٩. و " ابن لهيعة "، مضى مرارًا، ذكر من يضعفه، ومن يوثقه.
(٣) الأثر: ١٨٤٠٤ - هذا إسناد صحيح، ومن هذه الطريق، رواه البخاري في صحيحه (الفتح ٦: ٢٩٧).
* * *
يقال: من (آوي إلى ركن شديد)، "أويت إليك"، فأنا آوي إليك أوْيًا"، بمعنى: صرت إليك وانضممت، (١) كما قال الراجز: (٢)
يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ مِنَ الأَرْكَانِ | فِي عَدَدَ طَيْسٍ وَمجْدٍ بَانِ (٣) |
وقيل: إن لوطًا لما قال هذه المقالة، وَجَدَت الرسلُ عليه لذلك.
١٨٤٠٦- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد، أنه سمع وهب بن منبه يقول: قال لوط: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد)، فوجد عليه الرسلُ وقالوا: إنَّ ركنَك لشديد! (٤)
(٢) لم أعرف قائله.
(٣) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٩٤، و " عدد طيس "، كثير.
(٤) الأثر: ١٨٤٠٦ - جزء من خبر طويل رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ١٥٦، ١٥٧، وسيأتي برقم: ١٨٤١٥.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت الملائكة للوط، لما قال لوط لقومه (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد)، ورأوا ما لقي من الكرب بسببهم منهم: (يا لوط إنا رسل ربك)، أرسلنا لإهلاكهم، وإنهم لن يصلوا إليك وإلى ضيفك بمكروه، فهوّن عليك الأمر= (فأسر بأهلك بقطع من الليل)، يقول: فاخرج من بين أظهرهم أنت وأهلك ببقية من الليل. (١)
* * *
يقال منه: "أسرى" و"سرى"، وذلك إذا سار بليل = (ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك).
* * *
واختلفت القراءة في قراءة قوله: (فأسر).
فقرأ ذلك عامة قراء المكيين والمدنيين: "فَاسْرِ"، وصلٌ بغير همز الألف، من "سرى".
* * *
وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة والبصرة: (فَأَسْرِ) بهمز الألف، من "أسرى".
* * *
قال أبو جعفر: والقول عندي في ذلك أنهما قراءتان، قد قرأ بكل واحدة منهما أهل قدوة في القراءة، وهما لغتان مشهورتان في العرب، معناهما واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في ذلك.
* * *
* * *
وقرأ ذلك بعض البصريين: (إلا امْرَأَتُكَ)، رفعًا = بمعنى: ولا يلتفت منكم أحد، إلا امرأتك = فإن لوطًا قد أخرجها معه، وإنه نهي لوط ومن معه ممن أسرى معه أن يلتفت سوى زوجته، وأنها التفتت فهلكت لذلك.
* * *
وقوله: (إنه مصيبها ما أصابهم)، يقول: إنه مصيب امرأتك ما أصاب قومك من العذاب = (إن موعدهم الصبح)، يقول: إن موعد قومك الهلاك الصبح. فاستبطأ ذلك منهم لوط وقال لهم: بلى عجِّلوا لهم الهلاك! فقالوا: (أليس الصبح بقريب) أي عند الصبح نزولُ العذاب بهم، كما:-
١٨٤٠٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (أليس الصبح بقريب)، أي: إنما ينزل بهم من صبح ليلتك هذه، فامض لما تؤمر.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:-
١٨٤٠٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: فمضت الرُّسُل من عند إبراهيم إلى لوط، فلما أتوا لوطًا، وكان من أمرهم ما ذكر الله، قال جبريل للوط: يا لوط، إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين، فقال لهم لوط: أهلكوهم الساعة! فقال له جبريل عليه السلام: (إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) ؟ فأنزلت على لوط: (أليس الصبح بقريب)، قال: فأمره أن يسري بأهله بقطع من الليل، ولا يلتفت منهم أحد إلا
١٨٤٠٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية قال: كان لوط أخذ على امرأته أن لا تذيع شيئًا من سرّ أضيافه. قال: فلما دخل عليه جبريل ومن معه، رأتهم في صورة لم تر مثلها قطُّ، فانطلقت تسعى إلى قومها، فأتت النادي فقالتْ بيدها هكذا، وأقبلوا يهرعون مشيا بين الهرولة والجمز، فلما انتهوا إلى لوط، قال لهم لوطٌ ما قال الله في كتابه. قال جبريل: (يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك)، قال: فقال بيده، (٢) فطمس أعينهم، فجعلوا يطلبونهم، يلمسون الحيطان وهم لا يبصرون. (٣)
١٨٤١٠- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن حذيفة قال: لما بَصُرت بهم = يعني بالرسل = عجوزُ السَّوء امرأتُه، انطلقت فأنذرتهم، فقالت: قد تضيَّف لوطًا قوم، (٤) ما رأيت قومًا أحسن وجوهًا! = قال: ولا أعلمه إلا قالت: ولا أشد بياضًا وأطيبَ ريحًا! قال: فأتوه يُهْرعون إليه، كما قال الله، فأصْفق لوط البابَ. قال: فجعلوا يعالجونه. قال: فاستأذن جبريل ربَّه في عقوبتهم، فأذن له، فصفقهم بجناحه، فتركهم عميانًا يتردَّدون في أخبث ليلة أتت عليهم قطُّ. (٥)
فأخبروه: (إنا رسل ربك فأسر
(٢) " قال بيده "، أشار بيده وأومأ.
(٣) الأثر: ١٨٤٠٩ - رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ١٥٥.
(٤) في المطبوعة فقال " إنه تضيف لوطا "، وفي المخطوطة: " رب تضيف لوط قوم "، وهو خطأ من الناسخ لا شك فيه وأثبت ما في التاريخ.
(٥) في المطبوعة: " في أخبث ليلة ما أتت عليهم... "، كأنه أراد تصويبها، فأفسدها. والصواب ما في المخطوطة والتاريخ.
١٨٤١١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن سعيد بن بشير، عن قتادة قال: انطلقت امرأته = يعني امرأة لوط = حين رأتهم = يعني حين رأت الرسل = إلى قومها فقالت: إنه قد ضافه الليلة قوم ما رأيت مثلَهم قط، أحسنَ وجوهًا ولا أطيبَ ريحًا! فجاؤوا يُهرعون إليه، فبادرهم لوط إلى أن يزحمهم على الباب، (٢) فقال: (هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ)، فقالوا: (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ)، (٣) فدخلوا على الملائكة، فتناولتهم الملائكة وطمست أعينهم، فقالوا: يا لوط جئتنا بقوم سحرة سحرونا، كما أنت حتى تصبح! قال: واحتمل جبريل قَرْيات لوط الأربع، في كل قرية مائة ألف، فرفعهم على جناحه بين السماء والأرض، حتى سمع أهل السماء الدنيا أصواتَ ديكتهم، ثم قلبَهم، فجعل الله عاليها سافَلها. (٤)
١٨٤١٢- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: قال حذيفة: لما دخلوا عليه، ذهبت عَجُوزه عجوزُ السوء، فأتت قومها فقالت: لقد تضيَّف لوطًا الليلة قومٌ ما رأيت قومًا قطُّ
(٢) في المطبوعة: " يزجهم على الباب " والصواب ما في المخطوطة والتاريخ.
(٣) تضمين آيات سورة الحجر: ٧٠، ٧١.
(٤) الأثر: ١٨٤١١ - رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ١٥٥، ١٥٦.
١٨٤١٣- حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن حذيفة بنحوه، إلا أنه قال: فعاجلهم لوط. (٤)
١٨٤١٤- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، لما قال لوط: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد)، بسط حينئذ جبريل عليه السلام جناحيه، ففقأ أعينهم، وخرجوا يدوس بعضُهم في أدبار بعض عميانًا يقولون: "النَّجَاءَ النجاء! فإن في بيت لوط أسحرَ قوم في الأرض"! فذلك قوله: (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ)، [سورة القمر: ٣٧]. وقالوا للوط: (إنا رسل ربِّك لن يصلوا إليك فأسرْ بأهْلكَ بقطع منَ اللَّيْل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها)، وَاتبع أدبارَ أهلك (٥) = يقول: سرْ بهم = (وامضوا حيث تؤمرون) = فأخرجهم الله إلى
(٢) في المطبوعة: " فعاجلهم لوط "، وأثبت ما في المخطوطة، وأنا في ريب منه، لأن أبا جعفر لم يرو هذه الجملة في تاريخه، ولا أدري لم؟ ولم أشأ أن أغيره، للخبر الذي يليه، وهو في التاريخ جمع الإسنادين جميعًا، وساق هذه الجملة كلها غير هذا السياق.
(٣) الأثر: ١٨٤١٢ - رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ١٥٦، جمع هذا الإسناد والذي يليه فقال: "... حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال حدثنا محمد بن ثور = وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق = جميعًا، عن معمر... ".
(٤) الأثر: ١٨٤١٣ - انظر التعليق السالف، وإن كانت هذه الجملة، لم ترد في نص روايته في التاريخ.
(٥) هذا تضمين للآيات من هذه السورة، والتي في سورة الحجر: ٦٥.
١٨٤١٥- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، عن عبد الصمد: أنه سمع وهب بن منبه يقول: كانَ أهل سدوم الذين فيهم لوط، قومًا قد استغنوا عن النساء بالرجال، فلما رأى الله ذلك [منهم]، (٣) بعث الملائكة ليعذبوهم، فأتوا إبراهيم، وكان من أمره وأمرهم ما ذكر الله في كتابه. فلما بشروا سارَة بالولد، قاموا وقام معهم إبراهيم يمشي، قال: أخبروني لم بعثتم؟ وما خطبكم؟ قالوا: إنا أرسلنا إلى أهل سدوم لندمرها، وإنهم قوم سَوء قد استغنوا بالرجال عن النساء. قال إبراهيم: [أرأيتم] إن كان فيهم خمسون رجلا صالحًا؟ (٤) قالوا: إذًا لا نعذبهم! فجعل ينقص حتى قال أهل بَيْت؟ (٥) قالوا: فإن كان فيها بيت صالح! قال: فلوط وأهل بيته؟ قالوا: إن امرأته هَوَاها معهم! فلما يَئس إبراهيم انصرف. ومضوا إلى أهل سدوم، فدخلوا على لوط، فلما رأتهم امرأته أعجبها حسنهم وجمالهم، فأرسلت إلى أهل القرية إنه قد نزل بنا قومٌ لم يُرَ قومٌ قطُّ أحسن منهم ولا أجمل! (٦) فتسامعوا بذلك، فغشُوا دار لُوط من كل ناحية وتسوَّروا عليهم الجدران. (٧) فلقيهم لوط فقال: يا قوم
(٢) الأثر: ١٨٤١٤ - رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ١٥٧، مع اختلاف ذكرته آنفا. وذكر إسناده تامًا غير مختصر، إلى ابن عباس، وابن مسعود، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وهو إسناد دائر في التفسير، في أوله، ثم اختصره أبو جعفر بعد.
(٣) الزيادة بين القوسين، من التاريخ.
(٤) الزيادة بين القوسين، من التاريخ.
(٥) في المطبوعة والمخطوطة: " أهل البيت "، والصواب من التاريخ.
(٦) في التاريخ: " لم ذر قومًا ".
(٧) في التاريخ: " الجدارات "، وفي المخطوطة: " الجدرات "، والذي في التاريخ صالح.
١٨٤١٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، وعن أبي بكر بن عبد الله = وأبو سفيان، عن معمر = عن قتادة، عن حذيفة، دخل حديث بعضهم في بعض قال: كان إبراهيم عليه السلام يأتيهم فيقول: ويحكم أنهاكم عن الله أن تعرَّضوا لعقوبته! فلم يطيعوا، حتى إذا بلغ الكتاب أجلَه، لمحل عذابهم وسطوات الرّبّ بهم. قال: فانتهت الملائكة إلى لوط وهو يعمل في أرض له، فدعاهم إلى الضيافة، فقالوا: إنَّا مُضيِّفوك الليلة! وكان الله تعالى عهد إلى جبريل عليه السلام أن لا يُعذبهم حتى يشهد عليهم لوط ثلاث شهادات. فلما توجه بهم لوط إلى الضيافة، ذكر ما يعمل قومه من الشَّرّ والدواهي العظام، فمشى معهم ساعةً، ثم التفت إليهم، فقال: أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرضِ شرًّا منهم! أين أذهب بكم؟ إلى قومي وهم شرُّ من خَلَقَ الله! (٣) فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال: احفظوا هذه واحدة! ثم مشى ساعةً، فلما توسَّط القرية وأشفق عليهم
(٢) الأثر: ١٨٤١٥ - رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ١٥٦، ١٥٧، وانظر التعليق على رقم: ١٨٤٠٦.
(٣) في المطبوعة: " شر خلق الله "، وأثبت ما في المخطوطة.
١٨٤١٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما قال لوط لقومه: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد)، والرسل تسمع ما يقول وما يُقال له، ويرون ما هو فيه من كرْب ذلك. فلما رأوا ما بلغه قالوا: (يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك)، أي: بشيء تكرهه = (فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحدٌ إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إنّ موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب)، أي إنما ينزل بهم العذاب من صبح ليلتك هذه، فامض لما تؤمر.
١٨٤١٨-.... قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي أنه حدَّث. أن الرسل عند ذلك سَفَعُوا في وجوه الذين جاؤوا لوطًا من قومه يراودونه عن ضيفه، (٥) فرجعوا عميانًا. قال: يقول الله: (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُم) [سورة القمر: ٣٧].
١٨٤١٩- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (بقطع من الليل)، قال: بطائفة من الليل.
١٨٤٢٠- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (بقطع من الليل)، بطائفة من الليل.
١٨٤٢١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس قوله: (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ)، قال: جوف الليل = وقوله:
(٢) هكذا في المطبوعة، بأنه يعني " حبك الشعر "، وهو الجعد المتكسر منه، وفي المخطوطة " حبل حبل " غير منقوطة، كأنها " حبل، حبل "، يعني الذي ينظم في اللؤلؤ كالتاج. أو تقرأ " جثل، جثل "، وهو من الشعر الكثير الملتف. والله أعلم.
(٣) في المطبوعة: " امض يا لوط "، غير ما في المخطوطة، وهو الصواب المحض. يقال: "ماط عن المكان، وأماط عنه "، إذا تنحى. وفي حديث خيبر أنه أخذ الراية فهزها، فقال: من يأخذها بحقها؟ فجاء فلان، فقال: أنا! فقال: أمط! ثم جاء آخر، فقال: أمط = أي: تنح أنت واذهب.
(٤) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: " شدخ أعينهم "، كأنه من " شدخت الغرة "، إذا غشيت الوجه من أصل الناصية إلى الأنف، في الفرس. هذا، وإلا فإني لا أدري ما هو؟.
(٥) " سفع وجهه بيده سفعا " لطمه بكفه مبسوطة.
وكان مجاهد يقول في ذلك ما:-
١٨٤٢٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ولا يلتفت منكم أحد)، قال: لا ينظر وراءَه أحد = (إلا امرأتك).
* * *
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلَ إلا امْرَأَتَكَ).
* * *
١٨٤٢٣- حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن هارون، قال في حرف ابن مسعود: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلَ إلا امْرَأَتَكَ).
* * *
قال أبو جعفر: وهذا يدل على صحة القراءة بالنصب.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما جاء أمرنا بالعذاب وقضاؤنا فيهم بالهلاك، (جعلنا عاليها)
يعني عالي قريتهم = (سافلها وأمطرنا عليها)، يقول: وأرسلنا عليها = (حجارة من سجيل).
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى "سجيل".
*ذكر من قال ذلك.
١٨٤٢٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (من سجيل)، بالفارسية، أوَّلها حَجَر، وآخرها طين.
١٨٤٢٥- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
١٨٤٢٦- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.
١٨٤٢٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
١٨٤٢٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: (حجارة من سجيل)، قال: فارسية أعربت سنك وكل. (٢)
١٨٤٢٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "السجيل"، الطين.
١٨٤٣٠- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وعكرمة: (من سجيل) قالا من طين.
١٨٤٣١- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد، عن وهب قال: سجيل بالفارسية: سنك وكل
١٨٤٣٢- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
(٢) الأثر: ١٨٤٢٨ - انظر الأثر السالف قديمًا، رقم: ٥.
١٨٤٣٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، عن سفيان، عن السدي، عن عكرمة، عن ابن عباس: (حجارة من سجيل)، قال: طين في حجارة.
* * *
وقال ابن زيد في ذلك ما:-
١٨٤٣٤- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (حجارة من سجيل)، قال: السماء الدنيا. قال: والسماء الدنيا اسمها سجيل، وهي التي أنزل الله على قوم لوط.
* * *
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين يقول: "السجيل"، هو من الحجارة الصلب الشديد، ومن الضرب، ويستشهد على ذلك بقول الشاعر: (١)
*ضَرْبًا تَوَاصَى بِهِ الأَبْطَالُ سِجِّيلا* (٢)
وقال: بعضُهُم يُحوِّل اللام نونًا. (٣)
* * *
(٢) مجاز القرآن ١: ٢٩٦، ومنتهى الطلب: ٤٤، والمعاني الكبير: ٩٩١، واللسان (سجن)، وغيرها، يقول قبله:
وإنَّ فِينَا صَبُوحًا إنْ أَرِبْتَ بِهِ | جَمْعًا بَهيًّا وَآلافًا ثَمَانِينَا |
وَرَجْلةً يَضْرِبُونَ البَيْضَ عَنْ عُرُض | ضَرْبًا تَواصَى بِهِ الأبْطَالُ سِجِّينَا. |
بِكُلِّ مُدَجّجٍ كالَّليْثِ يَسْمُو | عَلَى أَوْصَالِ ذَيَّالٍ رِفَنِّ |
* * *
وقال آخر منهم: بل هو من "سجلت له سجلا" من العطاء، فكأنه قيل: مُتِحوا ذلك البلاء فأعطوه، وقالوا أسجله: أهمله.
* * *
وقال بعضهم: هو من "السِّجِلّ"، لأنه كان فيها عَلَمٌ كالكتاب.
* * *
وقال آخر منهم: بل هو طين يطبخ كما يطبخ الآجرّ، وينشد بيت الفضل بن عباس:
مَنْ يُسَاجِلْنِي يُسَاجِلْ مَاجِدًا | يَمْلأُ الدَّلْوَ إلَى عَقْدِ الكرَب (١) |
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله المفسرون، وهو أنها حجارة من طين، وبذلك وصفها الله في كتابه في موضع، وذلك قوله: (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) [سورة الذاريات: ٣٣، ٣٤]
* * *
وَأَنَا الأخْضَرُ مَنْ يَعْرِفُنِي | أخْضَرُ الجِلْدَةِ فِي بَيْتِ العَرَبْ |
مَنْ يُسَاجِلْنِي........ | ................... |
إِنَّما عَبْدُ مَنَافٍ جَوْهَرٌ | زَيَّنَ الجَوْهَرَ عَبْدُ المُطَّلِبْ |
١٨٤٣٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: فارسية ونبطية "سج"، "إيل".
* * *
فذهب سعيد بن جبير في ذلك إلى أن اسم الطين بالفارسية "جل " لا "إيل"، وأن ذلك لو كان بالفارسية لكان "سِجْل " لا "سجيل"، لأن الحجر بالفارسية يدعى "سج "والطين "جل"، فلا وجه لكون الياء فيها وهي فارسية.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا الصواب من القول عندنا في أوّل الكتاب، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
وقد ذكر عن الحسن البصري أنه قال: كان أصل الحجارة طينًا فشُدِّدت.
* * *
وأما قوله: (منضود)، فإن قتادة وعكرمة يقولان فيه ما:-
١٨٤٣٦- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وعكرمة: (منضود) يقول: مصفوفة.
١٨٤٣٧- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة (منضود) يقول: مصفوفة.
* * *
وقال الربيع بن أنس فيه ما:-
١٨٤٣٨- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله (منضود)، قال: نضد بعضه على بعض.
* * *
وقال بعضهم: "منضود"، يتبع بعضه بعضًا عليهم. قال: فذلك نَضَدُه.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله الربيع بن أنس، وذلك أن قوله: (منضود) من نعت "سجيل"، لا من نعت "الحجارة"، وإنما أمطر القوم حجارة من طين، صفة ذلك الطين أنه نُضِد بعضه إلى بعض، فصُيِّر حجارة، ولم يُمْطَرُوا الطين، فيكونَ موصوفًا بأنه تتابع على القوم بمجيئه.
قال أبو جعفر: وإنما كان جائزًا أن يكون على ما تأوّله هذا المتأوّل لو كان التنزيل بالنصب "منضودةً"، فيكون من نعت "الحجارة " حينئذ.
* * *
وأما قوله: (مسوَّمة عند ربك)، فإنه يقول: معلمة عند الله، أعلمها الله، (١) و"المسوّمة" من نعت "الحجارة"، ولذلك نصبت على النعت. (٢)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٤٤٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (مسوّمة)، قال: معلمة.
١٨٤٤١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
(٢) في المطبوعة: " نصبت ونعت بها "، وفي المخطوطة: " نصبت وانعت "، وكأن الصواب ما أثبت.
١٨٤٤٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله = قال ابن جريج: (مسوّمة)، لا تشاكل حجارة الأرض.
١٨٤٤٤- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وعكرمة: (مسومة) قالا مطوَّقة بها نَضْحٌ من حمرة. (١)
١٨٤٤٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (مسومة) عليها سيما معلومة. حدّث بعضُ من رآها، أنها حجارة مطوَّقة عليها = أو بها نضحٌ من حمرة، ليست كحجارتكم.
١٨٤٤٦- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: (مسوّمة)، قال: عليها سيما خطوط.
١٨٤٤٧- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (مسومة) قال: "المسومة"، المختَّمة.
* * *
وأما قوله: (وما هي من الظالمين ببعيد)، فإنه يقول تعالى ذكره متهددًا مشركي قريش: وما هذه الحجارة التي أمطرتها على قوم لوط، من مشركي قومك، يا محمد، ببعيد أن يمطروها، إن لم يتوبوا من شركهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٤٤٩- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وما هي من الظالمين ببعيد)، قال: يُرْهِب بها من يشاء.
١٨٤٥٠- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٨٤٥١-.... قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٨٤٥٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
١٨٤٥٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وما هي من الظالمين ببعيد)، يقول: ما أجار الله منها ظالمًا بعد قوم لوط.
١٨٤٥٤- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وعكرمة: (وما هي من الظالمين ببعيد)، يقول: لم يترك منها ظالمًا بعدهم. (٢)
١٨٤٥٥- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن ابن شؤذب، عن قتادة في قوله: (وما هي من الظالمين ببعيد)، قال: يعني ظالمي هذه الأمة. قال: والله ما أجارَ منها ظالمًا بعدُ!
(٢) في المطبوعة: " لم يبرأ منها ظالم "، وفي المخطوطة: " يبرا منها ظالما "، ورأيت قراءتها كما أثبتها.
١٨٤٥٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر الهذلي بن عبد الله قال: يقول: (وما هي من الظالمين ببعيد)، من ظلمة أمتك ببعيد، فلا يأمنها منهم ظالم.
* * *
وكان قلب الملائكة عَالي أرض سدوم سافلها، كما:-
١٨٤٥٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا الأعمش، عن مجاهد قال: أخذ جبريل عليه السلام قوم لوط من سَرْحهم ودورهم، حملهم بمواشيهم وامتعتهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم أكفأهم. (١)
١٨٤٥٩- حدثنا به أبو كريب مرة أخرى عن مجاهد قال: أدخل جبريل جناحه تحت الأرض السفلى من قوم لوط، ثم أخذهم بالجناح الأيمن، فأخذهم من سرحهم ومواشيهم، ثم رفعها (٢)
١٨٤٦٠- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، كان يقول: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا)، قال: لما أصبحوا غدا جبريل على قريتهم، ففتقها من أركانها، ثم أدخل جناحه، ثم حملها على خَوافي جناحه. (٣)
١٨٤٦١-.... قال، حدثنا شبل قال، فحدثني هذا ابن أبي نجيح، عن إبراهيم بن أبي بكر = قال: ولم يسمعه ابن أبي نجيح = عن مجاهد قال،
(٢) الأثر: ١٨٤٥٩- رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ١٥٧.
(٣) الأثر: ١٨٤٦٠ - رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ١٥٧.
١٨٤٦٢- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال، بلغنا أن جبريل عليه السلام أخذَ بعُرْوة القرية الوُسْطى، ثم ألوَى بها إلى السماء، (٣) حتى سمع أهل السماء ضَواغِي كلابهم، (٤) ثم دمَّر بعضها على بعض فجعل عاليها سافلها، ثم أتبعهم الحجارة = قال قتادة: وبلغنا أنهم كانوا أربعة آلاف ألف. (٥)
١٨٤٦٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده قال: ذكر لنا أن جبريل عليه السلام أخذ بعروتها الوسطى، ثم ألوى بها إلى جَوّ السماء حتى سمعت الملائكة ضَواغي كلابهم، ثم دمر بعضها على بعض ثم اتبع شُذَّان القوم صخرًا. (٦) قال: وهي ثلاث قرًى يقال لها "سدوم"، وهي بين المدينة والشأم. قال: وذكر لنا أنه كان فيها أربعة آلاف ألف. وذكر
(٢) الأثر: ١٨٤٦١ - رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ١٥٧، مختصرًا، أسقط منه قول مجاهد الآخر.
(٣) يقال: " ألوت به العقاب "، أي أخذته وطارت به.
(٤) " ضواغي الكلاب "، جمع " ضاغية "، أي التي لها " ضغاء "، وهو صوت الذليل المقهور إذا استغاث.
(٥) الأثر: ١٨٤٦٢ - رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ١٥٧.
(٦) " الشذان " جمع " شاذ "، وهو الذي خرج من الجماعة، فشذ عنهم.
١٨٤٦٤- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، لما أصبحوا = يعني قوم لوط = نزل جبريل، فاقتلع الأرض من سبع أرضين، فحملها حتى بلغ السماء الدنيا، [حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، وأصوات ديوكهم، ثم قلبها فقتلهم]، (٣) فذلك حين يقول: (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى) [سورة النجم: ٥٣]، المنقلبة حين أهوى بها جبريل الأرض فاقتلعها بجناحه، فمن لم يمت حين أسقط الأرض أمطر الله عليه وهو تحت الأرض الحجارة، ومن كان منهم شاذًّا في الأرض. وهو قول الله: (فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل)، ثم تتبعهم في القرى، فكان الرجل [يتحدث]، فيأتيه الحجر فيقتله، (٤) وذلك قول الله تعالى: (وأمطرنا عليها حجارة من سجيل). (٥)
١٨٤٦٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر = وأبو سفيان، عن معمر =، عن قتادة قال، بلغنا أن جبريل عليه السلام لما أصبح نشرَ جناحه، فانتسف به أرضهم بما فيها من قُصورها ودوابها وحجارتها وشجرها، وجميع ما فيها، فضمها في جناحه، فحواها وطواها في جوف جناحه، ثم صعد بها إلى السماء الدنيا، حتى سمع سُكان السماء أصواتَ الناس والكلاب، وكانوا أربعة آلاف ألف، ثم قلبها فأرسلها إلى الأرض منكوسةً، دمْدَمَ بعضها على بعض، فجعل عاليها سافلها، ثم أتبعها حجارة من سجيل
١٨٤٦٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن نبي الله صلى الله عليه
(٢) الأثر: ١٨٤٦٣ - رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ١٥٧.
(٣) ما بين القوسين زيادة لا بد منها من سياق الكلام، نقلتها من نص الخبر في تاريخ الطبري.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: " فكان الرجل يأتيه "، وأثبت النص من التاريخ.
(٥) الأثر: ١٨٤٦٤ - رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ١٥٧، ١٥٨.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى وَلَد مدين أخاهم شعيبًا، فلما أتاهم قال: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)، يقول: أطيعوه، وتذللوا له بالطاعة لما أمركم به ونهاكم عنه = (ما لكم من إله غيره)، يقول: ما لكم من معبود سواه يستحقّ عليكم العبادة غيره = (ولا تنقصوا المكيال والميزان)، يقول: ولا تنقصوا الناس حقوقهم في مكيالكم وميزانكم = (إني أراكم بخير).
* * *
واختلف أهل التأويل في "الخير" الذي أخبر الله عن شعيب أنه قال لمدين إنه يراهم به.
فقال بعضهم: كان ذلك رُخْص السعر وَحذرهم غلاءه.
١٨٤٦٧- حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا عبد الله بن داود الواسطي قال، حدثنا محمد بن موسى، عن الذيال بن عمرو، عن ابن عباس: (إني أراكم بخير)، قال: رُخْص السعر = (وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط)، قال: غلاء سعر. (١)
١٨٤٦٨- حدثني أحمد بن عمرو البَصري قال، حدثني عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا صالح بن رستم، عن الحسن، وذكر قوم شعيب قال: (إني أراكم بخير)، قال: رُخْص السعر. (٢)
١٨٤٦٩- حدثني محمد بن عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبي عامر الخراز، عن الحسن في قوله: (إني أراكم بخير) قال: الغني ورُخْص السعر.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك: إنّي أرى لكم مالا وزينة من زين الدنيا.
ذكر من قال ذلك:-
١٨٤٧٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (إني أراكم بخير)، قال: يعني خير الدنيا وزينتها.
١٨٤٧١- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
(٢) الأثر: ١٨٤٦٨ - " أحمد بن عمرو البصري ": شيخ الطبري، مضى برقم: ٩٨٧٥، ١٣٩٢٨، وقد مضى ما قلت فيه، وقد روى عنه أبو جعفر في تاريخه ١: ١٨٢ / ٥: ٣٢. وكان في المطبوعة هنا: " أحمد بن علي النصري "، ولا أدري من أين جاء بهذا التغيير؟.
١٨٤٧٢- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إني أراكم بخير)، قال: في دنياكم، كما قال لله تعالى: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا)، سماه " خيرًا" لأن الناس يسمون المال "خيرًا".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما أخبر الله عن شعيب أنه قال لقومه، وذلك قوله: (إني أراكم بخير)، يعني بخير الدنيا. وقد يدخل في خير الدنيا، المال وزينة الحياة الدنيا، ورخص السعر = ولا دلالة على أنه عنى بقيله ذلك بعض خيرات الدنيا دون بعض، فذلك على كل معاني خيرات الدنيا التي ذكر أهل العلم أنهم كانوا أوتوها.
* * *
وإنما قال ذلك شعيب، لأن قومه كانوا في سعة من عيشهم ورخص من أسعارهم، كثيرة أموالهم، فقال لهم: لا تنقصوا الناس حقوقهم في مكاييلكم وموازينكم، فقد وَسَّع الله عليكم رزقكم، = (وإني أخاف عليكم)، بمخالفتكم أمر الله، وبَخْسكم الناس أموالهم في مكاييلكم وموازينكم = (عذاب يوم محيط)، يقول: أن ينزل بكم عذاب يوم محيط بكم عذابه. فجعل "المحيط" نعتًا لليوم، وهو من نعت "العذاب"، إذ كان مفهومًا معناه، وكان العذاب في اليوم، فصار كقولهم: "بعْض جُبَّتك محترقة". (٢)
* * *
(٢) انظر تفسير " محيط " فيما سلف ١٥: ٩٣، تعليق ١، والمراجع هناك.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل شعيب لقومه: أوفوا الناس الكيل والميزان (١) = "بالقسط"، يقول: بالعدل، وذلك بأن توفوا أهل الحقوق التي هي مما يكال أو يوزن حقوقهم، على ما وجب لهم من التمام، بغير بَخس ولا نقص. (٢)
* * *
وقوله: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم)، يقول: ولا تنقصوا الناس حقوقهم التي يجب عليكم أن توفوهم كيلا أو وزنًا أو غير ذلك، (٣) كما:-
١٨٤٧٣- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا علي بن صالح بن حي قال: بلغني في قوله: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) قال،: لا تنقصوهم.
١٨٤٧٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم)، يقول: لا تظلموا الناس أشياءهم.
* * *
وقوله: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين)، يقول: ولا تسيروا في الأرض تعملون فيها بمعاصي الله، (٤) كما:-
١٨٤٧٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
(٢) انظر تفسير " القسط " فيما سلف ١٥: ١٠٣، تعليق ٣، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " البخس " فيما سلف ص: ٢٦٢، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير " عثا " فيما سلف ١٢: ٥٤٢، تعليق: ١، والمراجع هناك. = وتفسير " الفساد في الأرض " ١٢: ٥٤٢، تعليق: ١، والمراجع هناك.
١٨٤٧٦- وحدثت عن المسيب، عن أبي روق، عن الضحاك في قوله: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين)، يقول: لا تسعوا في الأرض مفسدين = يعني: نقصان الكيل والميزان.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (بقية الله خير لكم)، ما أبقاه الله لكم، بعد أن توفوا الناس حقوقهم بالمكيال والميزان بالقسط، فأحلّه لكم، خير لكم من الذي يبقى لكم ببخسكم الناس من حقوقهم بالمكيال والميزان = (إن كنتم مؤمنين)، يقول: إن كنتم مصدّقين بوعد الله ووعيده، وحلاله وحرامه.
* * *
وهذا قولٌ روي عن ابن عباس بإسنادٍ غير مرتضى عند أهل النقل.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم معناه: طاعة الله خيرٌ لكم.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٤٧٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد: (بقية الله خير لكم)، قال: طاعة الله خير لكم.
١٨٤٧٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد
١٨٤٧٩- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بقية الله)، قال: طاعة الله.
١٨٤٨٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ليث، عن مجاهد: (بقية الله خير لكم)، قال: طاعة الله خير لكم.
١٨٤٨١- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بقية الله خير لكم)، قال: طاعة الله.
١٨٤٨٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: حظكم من ربكم خير لكم.
*ذكر من قال ذلك:-
١٨٤٨٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين)، حظكم من ربكم خير لكم.
١٨٤٨٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (بقية الله خير لكم)، قال: حظكم من الله خير لكم.
* * *
وقال آخرون: معناه: رزق الله خير لكم.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٤٨٥- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عمن ذكره، عن ابن عباس: (بقيت الله) قال رزق الله.
* * *
١٨٤٨٦- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين)، قال: "الهلاك "، في العذاب، و"البقية" في الرحمة.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترت في تأويل ذلك القولَ الذي اخترته، لأن الله تعالى ذكره إنما تقدم إليهم بالنهي عن بَخس الناس أشياءهم في المكيال والميزان، وإلى ترك التطفيف في الكيل والبخس في الميزان دعاهم شعيب، فتعقيب ذلك بالخبر عما لهم من الحظّ في الوفاء في الدنيا والآخرة، أولى = مع أن قوله: (بقية)، إنما هي مصدر من قول القائل "بقيت بقية من كذا"، فلا وجه لتوجيه معنى ذلك إلا إلى: بقية الله التي أبقاها لكم مما لكم بعد وفائكم الناس حقوقهم خير لكم من بقيتكم من الحرام الذي يبقى لكم من ظلمكم الناس ببخسهم إياهم في الكيل والوزن.
* * *
وقوله: (وما أنا عليكم بحفيظ)، يقول: وما أنا عليكم، أيها الناس، برقيب أرقبكم عند كيلكم ووزنكم، هل توفون الناس حقوقهم أم تظلمونهم؟ (١) وإنما عليّ أن أبلغكم رسالة ربّي، فقد أبلغتكموها.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم شعيب: يا شعيب، أصَلواتك تأمرك أن نترك عبادة ما يعبد آباؤنا من الأوثان والأصنام (١) = (أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)، من كسر الدراهم وقطعها، وبخس الناس في الكيل والوزن = (إنك لأنت الحليم)، وهو الذي لا يحمله الغضب أن يفعل ما لم يكن ليفعله في حال الرّضى، (٢) = (الرشيد)، يعني: رشيد الأمر في أمره إياهم أن يتركوا عبادة الأوثان، (٣) كما:-
١٨٤٨٧- حدثنا محمود بن خداش قال، حدثنا حماد بن خالد الخياط قال، حدثنا داود بن قيس، عن زيد بن أسلم في قول الله: (أصلاتك تأمرك أن تترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك أنت الحليم الرشيد) (٤) قال: كان مما نهاهم عنه حذف الدراهم (٥) = أو قال: قطع الدراهم، الشك من حمّاد. (٦)
١٨٤٨٨- حدثنا سهل بن موسى الرازي قال، حدثنا ابن أبي فديك، عن
(٢) انظر تفسير " الحليم " فيما سلف ص: ٤٠٦، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " الرشيد " فيما سلف ص: ٤١٧، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٤) جاء في المخطوطة " أصلاتك " بالإفراد، وهي إحدى القراءتين.
(٥) " حذف الشيء "، قطعه من طرفه، ومنه " تحذيف الشعر "، إذا أخذت من نواحيه فسويته.
(٦) الأثر: ١٨٤٨٧ - " محمود بن خداش الطاقاني "، شيخ الطبري، مضى برقم: ١٨٧. " وحماد بن خالد الخياط القرشي "، ثقة، كان أميًا لا يكتب، وكان يقرأ الحديث. مترجم في التهذيب، والكبير ٣ / ١ / ٢٥، وابن أبي حاتم ١ / ٢ / ١٣٦.
١٨٤٨٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي قال: عُذّب قوم شعيب في قطعهم الدراهم فقالوا: (يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء).
١٨٤٩٠-.... قال، حدثنا حماد بن خالد الخياط، عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم في قوله: (أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)، قال: كان مما نهاهم عنه حَذْفُ الدراهم.
١٨٤٩١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)، قال: نهاهم عن قطع الدنانير والدراهم فقالوا: إنما هي أموالنا نفعل فيها ما نشاء، إن شئنا قطعناها، وإن شئنا صرفناها، وإن شئنا طرَحناها!
١٨٤٩٢-.... قال وأخبرنا ابن وهب قال، وأخبرني داود بن قيس المرّي: أنه سمع زيد بن أسلم يقول في قول الله: (قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)، قال زيدٌ: كان من ذلك قطع الدراهم.
* * *
وقوله: (أصلواتك)، كان الأعمش يقول في تأويلها ما:-
١٨٤٩٣- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري عن
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل: (أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)، وإنما كان شعيب نهاهم أن يفعلوا في أموالهم ما قد ذكرتَ أنه نهاهم عنه فيها؟
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما توهَّمت. وقد اختلف أهل العربية في معنى ذلك.
فقال بعض البصريين: معنى ذلك: أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء = وليس معناه: تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نشاء، لأنه ليس بذا أمرهم.
* * *
وقال بعض الكوفيين نحو هذا القول قال. وفيها وجه آخر يجعل الأمر كالنهي، كأنه قال: أصلواتك تأمرك بذا، وتنهانا عن ذا؟ فهي حينئذ مردودة على أن الأولى منصوبة بقوله "تأمرك "، وأن الثانية منصوبة عطفًا بها على "ما" التي في قوله: (ما يعبد). وإذا كان ذلك كذلك، كان معنى الكلام: أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء.
* * *
وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأه (مَا تَشَاء).
* * *
قال أبو جعفر: فمن قرأ ذلك كذلك، فلا مؤونة فيه، وكانت "أن" الثانية حينئذ معطوفة على "أن" الأولى.
* * *
وأما قوله لشعيب: (إنك لأنت الحليم الرشيد) فإنهم أعداء الله، قالوا ذلك له استهزاءً به، وإنما سفَّهوه وجهَّلوه بهذا الكلام.
* * *
* ذكر من قال ذلك:-
١٨٤٩٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (إنك لأنت الحليم الرشيد)، قال: يستهزئون.
١٨٤٩٥- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إنك لأنت الحليم الرشيد)، المستهزئون، يستهزئون: بأنك لأنت الحليم الرشيد! (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال شعيب لقومه: يا قوم أرأيتم إن كنت على بيان وبرهان من ربي فيما أدعوكم إليه من عبادة الله، والبراءة من عبادة الأوثان والأصنام، وفيما أنهاكم عنه من إفساد المال = (ورزقني منه رزقًا حسنًا)، يعني حلالا طيّبًا.
* * *
(وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه)، يقول: وما أريد أن أنهاكم عن أمر ثم أفعلُ خلافه، بل لا أفعل إلا ما آمركم به، ولا أنتهي إلا عما أنهاكم عنه. كما:-
١٨٤٩٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه)، يقول: لم أكن لأنهاكم عن أمر أركبه أو آتيه.
* * *
* * *
وقوله: (عليه توكلت)، يقول: إلى الله أفوض أمري، فإنه ثقتي، (١) وعليه اعتمادي في أموري. (٢)
* * *
وقوله: (وإليه أنيب)، وإليه أقبل بالطاعة، وأرجع بالتوبة، (٣) كما:-
١٨٤٩٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وإليه أنيب)، قال: أرجع.
١٨٤٩٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٨٤٩٩- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال=
١٨٥٠٠-.... وحدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (وإليه أنيب)، قال: أرجع.
١٨٥٠١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (وإليه أنيب)، قال: أرجع.
* * *
(٢) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف من فهارس اللغة (وكل).
(٣) انظر تفسير " الإنابة " فيما سلف ص: ٤٠٦.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل شعيب لقومه: (وما قوم لا يخبر منكم شقاقي)، يقول: لا يحملنكم عداوتي وبغضي، وفراق الدين الذي أنا عليه، (١) على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر بالله، وعبادة الأوثان، وبخس الناس في المكيال والميزان، وترك الإنابة والتوبة، فيصيبكم = (مثلُ ما أصاب قوم نوح)، من الغرق = (أو قوم هود)، من العذاب = (أو قوم صالح)، من الرّجفة = (وما قوم لوط) الذين ائتفكت بهم الأرض = (منكم ببعيد)، هلاكهم، أفلا تتعظون به، وتعتبرون؟ يقول: فاعتبروا بهؤلاء، واحذروا أن يصيبكم بشقاقي مثلُ الذي أصابهم. كما:-
١٨٥٠٢- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لا يجر منكم شقاقي)، يقول: لا يحملنكم فراقي، (أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح)، الآية.
١٨٥٠٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (لا يجر منكم شقاقي)، يقول: لا يحملنكم شقاقي.
١٨٥٠٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (لا يجر منكم شقاقي)، قال: عداوتي وبغضائي وفراقي.
١٨٥٠٥- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
= وتفسير " الشقاق "، فيما سلف ١٣: ٤٣٣، تعليق: ١، والمراجع هناك.
١٨٥٠٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (وما قوم لوط منكم ببعيد)، قال: إنما كانوا حديثي عهد قريب، بعد نوح وثمود.
* * *
قال أبو جعفر: وقد يحتمل أن يقال: معناه: وما دارُ قوم لوط منكم ببعيد.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل شعيب لقومه: (استغفروا ربكم)، أيها القوم من ذنوبكم بينكم وبين ربكم التي أنتم عليها مقيمون، من عبادة الآلهة والأصنام، وبَخْس الناس حقوقهم في المكاييل والموازين = (ثم توبوا إليه)، يقول: ثم ارجعوا إلى طاعته والانتهاء إلى أمره ونهيه = (إن ربي رحيم)، يقول: هو رحيم بمن تاب وأناب إليه أن يعذبه بعد التوبة. (ودود)، يقول: ذو محبة لمن أناب وتاب إليه، يودُّه ويحبُّه.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم شعيب لشعيب: (يا شعيب ما نفقه كثيرًا مما تقول)، أي: ما نعلم حقيقة كثير مما تقول وتخبرنا به (١) = (وأنا لنراك فينا ضعيفًا).
* * *
ذُكِر أنه كان ضريرًا، فلذلك قالوا له: (إنا لنراك فينا ضعيفًا).
* * *
*ذكر من قال ذلك:
١٨٥٠٧- حدثني عبد الأعلى بن واصل قال، حدثنا أسد بن زيد الجصاص قال، أخبرنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير في قوله: (وإنا لنراك فينا ضعيفًا)، قال: كان أعمى. (٢)
١٨٥٠٨- حدثنا عباس بن أبي طالب قال، حدثني إبراهيم بن مهدي المصيصي قال، حدثنا خلف بن خليفة، عن سفيان، عن سعيد، مثله.
١٨٥٠٩- حدثنا أحمد بن الوليد الرملي قال، حدثنا إبراهيم بن زياد وإسحاق بن المنذر، وعبد الملك بن زيد قالوا، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد، مثله. (٣)
(٢) الأثر: ١٨٥٠٧ - " أسد بن زيد الجصاص "، لم أجد له ذكرا. وإنما يذكرون: " أسيد بن زيد بن نجيح الجمال "، وهو الذي يروي عن شريك، ويروي عنه أبو كريب وطبقته من شيوخ أبي جعفر الطبري، مترجم في التهذيب، والكبير ١ / ٢ / ١٦ وأبي حاتم ١ / ١ / ٣١٨، وميزان الاعتدال ١: ١١٩. ولكن هذا " الجمال "، وذاك " الجصاص "، فلا أدري من يكون هذا الذي ذكره أبو جعفر.
(٣) الأثر: ١٨٥٠٩ - " عبد الملك بن يزيد "، هكذا هو في المخطوطة، كما أثبته، وفي المطبوعة: " عبد الملك بن زيد "، غير ما في المخطوطة. ولم أعرف من يكون " عبد الملك بن يزيد " أو " ابن زيد "، الذي يروي عن شريك؟
١٨٥١١- حدثنا سعدويه قال، حدثنا عباد، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، مثله. (١)
١٨٥١٢- حدثني المثني قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان قوله: (وإنا لنراك فينا ضعيفًا)، قال: كان ضعيف البصر = قال سفيان: وكان يقال له: "خطيب الأنبياء"
١٨٥١٣-.... قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا عباد، عن شريك، عن سالم، عن سعيد: (وإنا لنراك فينا ضعيفًا)، قال: كان ضرير البصر.
* * *
= وقوله: (ولولا رهطك لرجمناك)، يقول: يقولون: ولولا أنك في عشيرتك وقومك = (لرجمناك)، يعنون: لسببناك. (٢)
* * *
وقال بعضهم: معناه لقتلناك.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٥١٤- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولولا رهطك لرجمناك)، قال: قالوا: لولا أن نتقي قومك ورهطك لرجمناك.
* * *
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: " لولا أنت في عشيرتك "، وأرجح أن الصواب ما أثبت.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال شعيب لقومه: يا قوم، أعزّزتم قومكم، فكانوا أعزّ عليكم من الله، واستخففتم بربكم، فجعلتموه خلف ظهوركم، لا تأتمرون لأمره ولا تخافون عقابه، ولا تعظِّمونه حق عظَمته؟
* * *
يقال للرجل إذا لم يقض حاجة الرجل: "نَبَذ حاجته وراء ظهره"، (٢) أي: تركها لا يلتفت إليها. وإذا قضاها قيل: "جعلها أمامه، ونُصْب عينيه "، ويقال: "ظَهَرتَ بحاجتي " و"جعلتها ظِهْرِيَّة"، أي: خلف ظهرك، كما قال الشاعر: (٣)
*وَجَدْنَا بَنِي البَرْصَاءِ مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ* (٤)
بمعنى: أنهم يَظْهَرون بحوائجِ النّاس فلا يلتفتون إليها.
* * *
(٢) انظر تفسير " نبذه وراء ظهره " فيما سلف ١: ٤٠٣، ٤٠٤ / ٧: ٤٥٨، ٤٥٩، ٤٦٣.
(٣) هو أرطاة بن سهية المري.
(٤) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٩٨، واللسان (ظهر)، وكان أرطاة يهاجي شبيب بن البرصاء، وهما جميعًا من بني مرة بن سعد بن ذبيان، والهجاء بينهما كثير، وهذا منه. انظر الأغاني ١٣: ٢٩ - ٤٤ (دار الكتب) ترجمة أرطاة بن سهية = والأغاني ١٢: ٢٧١ - ٢٨١ (ساسي) ترجمة شبيب بن البرصاء. وصدر البيت: * فَمَنْ مُبْلِغٌ أبْنَاءَ مُرَّة أنَّنَا *
*ذكر من قال ذلك:
١٨٥١٥- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريًّا)، وذلك أن قوم شعيب ورهطه كانوا أعز عليهم من الله، وصَغُر شأن الله عندهم، عزَّ ربُّنا وجلَّ.
١٨٥١٦- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا)، قال: قَفًا. (١)
١٨٥١٧- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريًّا)، يقول: عززتم قومكم، وأظهرْتم بربكم.
١٨٥١٨- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (واتخذتموه وراءكم ظهريا)، قال: لم تراقبوه في شيء إنما تراقبون قومي (واتخذتموه وراءكم ظهريا)، يقول: عززتم قومكم وأظهرتم بربكم.
١٨٥١٩- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا)، قال: لم تراقبوه في شيء، إنما تراقبون قومي = (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا)، لا تخافونه
١٨٥٢٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (أرهطي أعز عليكم من الله)، قال: أعززتم قومكم، واغتررتم بربكم، سمعت إسحاق بن أبي إسرائيل قال: قال سفيان:
١٨٥٢١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا)، قال: "الظهْريّ"، الفَضْل، مثل الجمّال يخرج معه بإبل ظَهَارَّية، (١) فضل، لا يحمل عليها شيئًا، إلا أن يحتاج إليها. قال: فيقول: إنما ربكم عندكم مثل هذا، إن احتجتم إليه. وإن لم تحتاجوا إليه فليس بشيء.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: واتخذتم ما جاء به شعيبٌ وراءكم ظهريًّا = فالهاء في قوله: (واتخذتموه)، على هذا من ذكر ما جاء به شعيب.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٥٢٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا)، قال: تركتم ما جاء به شعيب
١٨٥٢٣-.... قال، حدثنا جعفر بن عون، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد قال: نبذوا أمره.
١٨٥٢٤- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد: (واتخذتموه وراءكم ظهريا)، قال: نبذتم أمره.
١٨٥٢٥- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا)،
١٨٥٢٦- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال=
١٨٥٢٧-.... وحدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا)، قال: استثناؤهم رهط شعيب، وتركهم ما جاءَ به شعيب وراء ظهورهم ظهريًّا.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك، لقرب قوله: (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا)، من قوله: (أرهطي أعز عليكم من الله) = فكانت الهاء في قوله: (واتخذتموه)، بأن تكون من ذكر الله، لقرب جوارها منه، أشبهَ وأولى.
* * *
وقوله: (إن ربي بما تعملون محيط)، يقول: إن ربي محيط علمه بعملكم، (١) فلا يخفى عليه منه شيء، وهو مجازيكم على جميعه عاجلا وآجلا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ٩٣ مَن﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل شعيب لقومه: (ويا قوم اعملوا على مكانتكم)، يقول: على تمكنكم.
* * *
* * *
وكان بعض أهل التأويل يقول في معنى قوله: (على مكانتكم)، على منازلكم.
* * *
قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: ويا قوم اعملوا على تمكنكم من العمل الذي تعملونه، إنّي عامل على تؤدةٍ من العمل الذي أعمله = (سوف تعلمون)، أينا الجاني على نفسه، والمخطئ عليها، والمصيب في فعله المحسنُ إلى نفسه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل نبيّه شعيب لقومه: الذي يأتيه منّا ومنكم، أيها القوم = (عذاب يخزيه)، يقول: يذله ويهينه (٢) (ومن هو كاذب)، يقول: ويُخزي أيضًا الذي هو كاذب في قيله وخبره منا ومنكم = (وارتقبوا)، أي: انتظروا وتفقدوا من الرقبة.
* * *
يقال منه: "رقبت فلانًا أرْقُبه رِقْبَةً". (٣)
* * *
وقوله: (إني معكم رقيب)، يقول: إني أيضًا ذو رقبة لذلك العذاب معكم، وناظر إليه بمن هو نازل منا ومنكم؟ (٤)
* * *
(٢) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف من فهارس اللغة (خزي).
(٣) انظر تفسير " الترقب " و " الرقيب " فيما سلف ٧: ٥٢٣، ٥٢٤ / ١١: ٢٣٩.
(٤) انظر تفسير " الترقب " و " الرقيب " فيما سلف ٧: ٥٢٣، ٥٢٤ / ١١: ٢٣٩.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما جاء قضاؤنا في قوم شعيب، بعذابنا "نجينا شعيبًا" رسولنا، والذين آمنوا به فصدقوه على ما جاءهم به من عند ربهم مع شعيب، من عذابنا الذي بعثنا على قومه = (برحمة منا)، له ولمن آمن به وأتبعه على ما جاءهم به من عند ربهم = وأخذت الذين ظلموا صيحة من السماء أخمدتهم، فأهلكتهم بكفرهم بربهم. (١) وقيل: إن جبريل عليه السلام، صاح بهم صَيحةً أخرجت أرواحهم من أجسامهم = (فأصبحوا في ديارهم جاثمين)، على ركبهم، وصرعى بأفنيتهم. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كأن لم يعش قوم شعيب الذين أهلكهم الله بعذابه، حين أصبحوا جاثمين في ديارهم قبل ذلك. ولم يغنوا.
* * *
= من قولهم: "غنيت بمكان كذا"، إذا أقمت به، (٣) ومنه قول النابغة:
(٢) انظر تفسير " الجثوم " فيما سلف ص: ٣٨٠، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " غني بكذا " فيما سلف ١٢: ٥٦٩، ٥٧٠ / ١٥: ٥٦، ٣٨١.
غَنِيَتْ بِذَلِكَ إِذْ هُمُ لِي جِيرَةٌ | مِنْهَا بِعَطْفِ رِسَالِةٍ وتَوَدُّدِ (١) |
١٨٥٢٨- حدثني المثني قال، حدثنا أبو صالح، قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (كأن لم يغنوا فيها)، قال يقول: كأن لم يعيشوا فيها.
١٨٥٢٩- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
١٨٥٣٠- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة مثله.
* * *
= وقوله: (ألا بعدًا لمدين كما بعدت ثمود)، يقول تعالى ذكره: ألا أبعد الله مدين من رحمته، بإحلال نقمته بهم (٢) ="كما بعدت ثمود"، يقول: "كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته، بإنزال سخطه بهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا موسى بأدلتنا على توحيدنا، وحجةً تُبين لمن عاينها وتأملها بقلب صحيحٍ. (٣) أنها تدل على توحيد الله، وكذب
(٢) انظر تفسير " البعد " فيما سلف ص: ٣٣٤، ٣٦٧، ٣٨١.
(٣) انظر تفسير " السلطان " فيما سلف ص: ١٤٦، تعليق: ١، والمراجع هناك.
= وتفسير " مبين " فيمل سلف من فهارس اللغة (بين).
* * *
(٢) في المطبوعة حذف قوله: " منه "، فأفسد الكلام إفسادًا.
(٣) انظر تفسير " رشيد " فيما سلف ص: ٤٥٠، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (يقدم)، فرعون = (قومه يوم القيامة)، يقودهم، فيمضي بهم إلى النار، حتى يوردهموها، ويصليهم سعيرها، (وبئس الورد)، يقول: وبئس الورد الذي يردونه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك.
١٨٥٣١- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (يقدم قومه يوم القيامة)، قال: فرعون يقدم قومه يوم القيامة، يمضى بين أيديهم حتى يهجم بهم على النار.
١٨٥٣٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله: (يقدم قومه يوم القيامة)، يقول: أضلهم فأوردهم النار.
١٨٥٣٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عمن سمع ابن عباس يقول في قوله: (فأوردهم النار)، قال: "الورد"، الدُّخول.
١٨٥٣٥- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (فأوردهم النار)، كان ابن عباس يقول: "الورد " في القرآن أربعةُ أوراد: في هود قوله: (وبئس الورد المورود) = وفي مريم: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) [سورة مريم: ٧١]، وورد في "الأنبياء": (حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ)، [سورة الأنبياء: ٩٨]، وورد في "مريم" أيضًا: (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) [سورة مريم: ٧٢] كان ابن عباس يقول: كل هذا الدخول، والله ليردن جهنم كل برٍّ وفاجر: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)، [سورة مريم: ٨٦].
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: وأتبعهم الله في هذه = يعني في هذه الدنيا = مع العذاب الذي عجله لهم فيها من الغرق في البحر، لعنتَه (١) = (ويوم
١٨٥٣٦- حدثنا بن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسه عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة)، قال: لعنةً أخرى.
١٨٥٣٧- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة)، قال: زِيدوا بلعنته لعنةً أخرى، فتلك لعنتان.
١٨٥٣٨- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود)، اللعنةُ في إثر اللعنة.
١٨٥٣٩-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة)، قال: زيدوا لعنة أخرى، فتلك لعنتان.
١٨٥٤٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (في هذه)، قال: في الدنيا = (ويوم القيامة)، أردفوا بلعنة أخرى، زيدوها، فتلك لعنتان.
* * *
وقوله: (بئس الرفد المرفود)، يقول: بئس العَوْن المُعان، اللعنةُ المزيدة فيها أخرى مثلها. (١)
* * *
وأصل "الرفد"، العون، يقال منه: "رفَد فلانٌ فلانًا عند الأمير يَرفِده رِفْدًا " بكسر الراء = وإذا فتحت، فهو السَّقي في القدح العظيم، و"الرَّفد": القدحُ الضخم، ومنه قول الأعشى:
رُبَّ رَفْدٍ هَرَقْتَهُ ذَلِكَ الْيَوْ | مَ وَأسْرَى مِنْ مَعْشَرٍ أَقْتَالِ (١) |
* * *
وينحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٥٤١- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (بئس الرفد المرفود)، قال: لعنة الدنيا والآخرة.
١٨٥٤٢- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (بئس الرفد المرفود)، قال: لعنهم الله في الدنيا، وزيد لهم فيها اللعنة في الآخرة.
١٨٥٤٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (ويوم القيامة بئس الرفد المرفود)، قال: لعنة في الدنيا، وزيدوا فيها لعنةً في الآخرة.
١٨٥٤٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
١٨٥٤٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك، قال: أصابتهم لعنتان في الدنيا، رفدت إحداهما الأخرى، وهو قوله: (ويوم القيامة بئس الرفد المرفود).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: هذا القصص الذي ذكرناه لكَ في هذه السورة، ، والنبأ الذي أنبأناكه فيها، من أخبار القرى التي أهلكنا أهلها بكفرهم بالله، (١) وتكذيبهم رسله = (نقصه عليك) فنخبرك به (٢) = (منها قائم)، يقول: منها قائم بنيانه، بائدٌ أهله هالك، (٣) ومنها قائم بنيانه عامر، ومنها حصيدٌ بنيانه، خرابٌ متداعٍ، قد تعفى أثرُه دارسٌ.
* * *
من قولهم: "زرع حصيد"، إذا كان قد استؤصل قطعه، وإنما هو محصود، ولكنه صرف إلى "فعيل"، (٤) كما قد بينا في نظائره. (٥)
* * *
(٢) انظر تفسير " القصص " فيما سلف ٩: ٤٠٢ / ١١: ٣٩٩ / ١٢: ١٢٠، ٣٠٧، ٤٠٦ / ١٣: ٧، ٢٧٤.
(٣) في المطبوعة " بائد بأهله "، والصواب من المخطوطة، وزدت " قائم " قبل قوله: " بنيانه "، وبذلك تستقيم الجملة وتساوي التي تليها.
(٤) انظر تفسير " حصيد " فيما سلف ص: ٥٦.
(٥) انظر ما سلف من فهارس اللغة مباحث العربية والنحو وغيرهما.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٥٤٦- حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد)، يعني ب"القائم" قُرًى عامرة. و"الحصيد" قرى خامدة.
١٨٥٤٧- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (قائم وحصيد)، قال: "قائم " على عروشها = و"حصيد" مستأصَلة.
١٨٥٤٨- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (منها قائم)، يرى مكانه، (وحصيد) لا يرى له أثر.
١٨٥٤٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (منها قائم)، قال: خاوٍ على عروشه= (وحصيد)، ملزقٌ بالأرض.
١٨٥٥٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن سفيان، عن الأعمش: (منها قائم وحصيد)، قال: خرَّ بنيانه.
١٨٥٥١- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش: (منها قائم وحصيد)، قال: "الحصيد"، ما قد خرَّ بنيانه.
١٨٥٥٢- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (منها قائم وحصيد)، منها قائم يرى أثره، وحصيدٌ بَادَ لا يرى أثره.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما عاقبنا أهل هذه القرى التي اقتصَصنا نبأها عليك، يا محمد، بغير استحقاق منهم عقوبتنا، فنكون بذلك قد وضعنا عقوبتنا هُمْ في غير موضعها = (ولكن ظلموا أنفسهم)، يقول: ولكنهم أوجبوا لأنفسهم بمعصيتهم الله وكفرهم به، عقوبتَه وعذابه، فأحلوا بها ما لم يكن لهم أن يحلوه بها، وأوجبوا لها ما لم يكن لهم أن يوجبوه لها = (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء)، يقول: فما دفعت عنهم آلهتهم التي يدعونها من دون الله، (١) ويدعونها أربابًا من عقاب الله وعذابه إذا أحله بهم ربُّهم من شيء، ولا ردَّت عنهم شيئًا منه = (لما جاء أمر ربك)، يا محمد، يقول: لما جاء قضاء ربك بعذابهم، فحقّ عليهم عقابه، ونزل بهم سَخَطه = (وما زادوهم غير تتبيب)، يقول: وما زادتهم آلهتهم عند مجيء أمر ربك هؤلاء المشركين بعقاب الله غير تخسيرٍ وتدميرٍ وإهلاك.
* * *
يقال منه: "تبَّبْتُه أتبِّبُه تَتْبيبًا"، ومنه قولهم للرجل: "تبًّا لك"، قال جرير:
عَرَادَةُ مِنْ بَقِيَّةِ قَوْمِ لُوطٍ | أَلا تَبًّا لِمَا فَعَلُوا تَبَابًا (٢) |
(٢) ديوانه: ٧٢، من قصيدته المشهورة في هجاء الراعي النميري، وكان سببها أن " عرادة النميري "، وهو رواية الراعي كان نديمًا للفرزدق، فقدم الراعي البصرة، فدعاه عرادة فأطعمه وسقاه وقال: فضل الفرزدق على جرير! فأبى. فلما أخذ فيه الشراب، لم يزل به حتى قال:
يا صَاحِبَيَّ دَنا الرَّواحُ فَسِيرَا | غَلَبَ الفَرَزْدَقُ في الهِجَاءِ جريرَا |
أتَانِي عَنْ عَرَادَةَ قَوْلُ سُوءٍ | فَلاَ وَأَبِي عُرَادَةَ مَا أَصَابَا |
وَكَمْ لَكَ يَا عُرَادَةُ مِنْ أُمِّ سُوءٍ | بَأَرْضِ الطَّلْحِ تَحْتَبِلُ الزَّبابَا |
لَبِئْسَ الْكَسْبُ تَكْسِبُهُ نُمَيْرٌ | إِذَا اسْتَأْنَوْكَ وانْتَظَروا الإِيابَا |
*ذكر من قال ذلك:
١٨٥٥٣- حدثني المثني قال، حدثنا سعيد بن سلام أبو الحسن البصري قال، حدثنا سفيان، عن نسير بن ذعلوق، عن ابن عمر في قوله: (وما زادوهم غير تتبيب)، قال: غير تخسير. (١)
١٨٥٥٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (غير تتبيب)، قال: تخسير.
١٨٥٥٥- حدثنا المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٨٥٥٦-حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد، عن قتادة: (غير تتبيب)، يقول: غير تخسير.
١٨٥٥٧- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (غير تتبيب)، قال: غير تخسير.
* * *
١٨٥٥٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد قال، اعتذر = يعني ربنا جل ثناؤه = إلى خلقه فقال: (وما ظلمناهم)، مما ذكرنا لك من عذاب من عذبنا من الأمم، (ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم)، حتى بلغ: (وما زادوهم غير تتبيب)، قال: ما زادهم الذين كانوا يعبدونهم غير تتبيب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكما أخذت، أيها الناس، أهلَ هذه القرى التي اقتصصت عليك نبأ أهلها بما أخذتُهم به من العذاب، على خلافهم أمري، وتكذيبهم رسلي، وجحودهم آياتي، فكذلك أخذي القرَى وأهلها إذا أخذتهم بعقابي، وهم ظلمة لأنفسهم بكفرهم بالله، وإشراكهم به غيره، وتكذيبهم رسله = (إنَّ أخذه أليم)، يقول: إن أخذ ربكم بالعقاب من أخذه = (أليم)، يقول: موجع = (شديد) الإيجاع.
* * *
١٨٥٥٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو معاوية، عن بريد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يُمْلي= ورُبَّما، قال: يمهل = الظالمَ، حتى إذا أخذه لم يُفْلِتُه. ثم قرأ: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة). (٢)
١٨٥٦٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: إن الله حذّر هذه الأمة سطوتَه بقوله: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد).
* * *
(٢) الأثر: ١٨٥٥٩ - " بريد بن بردة "، هو " بريد بن عبد الله بن أبي بردة الأشعري "، يروي جده " أبي بردة "، ثقة، روى له الجماعة، مترجم في التهذيب، والكبير ٢ / ١ / ١٤٠، وابن أبي حاتم ١ / ١ / ٤٢٦. وقوله ": عن أبيه "، يعني عن " أبي بردة بن أبي موسى الأشعري "، وهو جده. وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه (الفتح ٨: ٢٦٧)، ومسلم في صحيحه ١٥: ١٣٧، وابن ماجة في سننه ص: ١٣٣٢، رقم: ٤٠١٨، والترمذي في كتاب التفسير. وإسناد البخاري ومسلم: " بريدة بن أبي بردة، عن أبيه "، وإسناد ابن ماجة " بريد بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبي بردة " وعند الترمذي عن أبي كريب عن أبي معاوية أيضًا، وهو إسناد الطبري: بريد بن عبد الله، عن أبي بردة. وقد ذكر الحافظ ابن حجر ذلك فقال: " كذا وقع لأبي ذر، ووقع لغيره: " عن أبي بردة " بدل: " عن أبيه "، وهو صواب، لأن بريدًا، هو ابن عبد الله بن أبي بردة، فأبو بردة جده لا أبوه، ولكن يجوز إطلاق الأب عليه مجازًا " (الفتح ٨: ٢٦٧). وقال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح غريب، وقد روى أبو أسامة عن بريد، نحوه وقال: يعلى. حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، عن أبي أسامة، عن بريد بن عبد الله، عن جده أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه، وقال: يملى، ولم يشك فيه ".
وكان هنا في المخطوطة والمطبوعة: " إن الله يملي = وربما أمهل، قال يمهل "، زاد " أمهل "، فحذفتها، لأنها زيادة لا شك في خطئها.
" أملي له " أخره وأطال مدته. من " الملاوة "، وهي المدة من الزمن.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن في أخذنا من أخذنا من أهل القرى التي اقتصصنا خبرَها عليكم أيها الناس لآية، يقول: لعبرة وعظة (٢) = لمن خاف عقاب الله وعذابه في الآخرة من عباده، وحجةً عليه لربه، وزاجرًا يزجره عن أن يعصي الله ويخالفه فيما أمره ونهاه.
* * *
وقيل: بل معنى ذلك: إن فيه عبرة لمن خاف عذاب الآخرة، بأن الله سيفي له بوَعْده.
(٢) انظر تفسير " آية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيي).
١٨٥٦١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن في ذلك لآيه لمن خاف عذاب الآخرة)، إنا سوف نفي لهم بما وعدناهم في الآخرة، كما وفينا للأنبياء: أنا ننصرهم.
* * *
وقوله: (ذلك يوم مجموع له الناس)، يقول تعالى ذكره: هذا اليوم = يعني يوم القيامة = (يوم مجموع له الناس)، يقول: يحشر الله له الناس من قبورهم، فيجمعهم فيه للجزاء والثواب والعقاب = (وذلك يوم مشهود)، يقول: وهو يوم تَشهده الخلائق، لا يتخلَّف منهم أحدٌ، فينتقم حينئذ ممن عصى الله وخالف أمره وكذَّب رُسُلَه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٥٦٢- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن مجاهد في قوله: (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود)، قال: يوم القيامة.
١٨٥٦٣- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن عكرمة، مثله.
١٨٥٦٤- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن شعبة، عن علي بن زيد، عن يوسف المكي، عن ابن عباس قال، "الشاهد"، محمد، و"المشهود"، يوم القيامة. ثم قرأ: (ذلك يوم مجموعٌ له الناس وذلك يوم مشهود).
١٨٥٦٥- حدثني المثني قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن ابن عباس قال: "الشاهد"، محمد = و"المشهود"، يوم القيامة. ثم تلا هذه الآية: (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما نؤخّر يوم القيامة عنكم أن نجيئكم به إلا لأن يُقْضَى، فقضى له أجلا فعدّه وأحصَاه، فلا يأتي إلا لأجله ذلك، لا يتقدم مجيئه قبل ذلك ولا يتأخر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٠٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يوم يأتي يوم القيامة، أيها الناس، وتقوم الساعة، لا تكلم نفس إلا بإذن رَبّها.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (يوم يأتي).
فقرأ ذلك عامّة قراء أهل المدينة بإثبات الياء فيها (يَوْمَ يَأْتِي لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ).
* * *
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بحذف الياء في الوصل والوقف: (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ).
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي: (يَوْمَ يَأْتِ)، بحذف الياء في الوصل والوقف اتباعًا لخط المصحف، وأنها لغة معروفة لهذيل، تقول: "مَا أدْرِ مَا تَقول"، ومنه قول الشاعر: (١)
كَفَّاكَ كَفٌّ مَا تُلِيقُ دِرْهَمَا | جُودًا وأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الدَّمَا (٢) |
وقيل: (لا تكلم)، وإنما هي "لا تتكلم"، فحذف إحدى التاءين اجتزاء بدلالة الباقية منهما عليها.
* * *
وقوله: (فمنهم شقيّ وسعيد)، يقول: فمن هذه النفوس التي لا تكلم يوم القيامة إلا بإذن ربها، شقيٌّ وسعيد = وعاد على "النفس"، وهي في اللفظ واحدة، بذكر الجميع في قوله: (فمنهم شقي وسعيد).
* * *
يقول: تعالى ذكره: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير) = وهو أوّل نُهاق الحمار وشبهه = (وشهيق)، وهو آخر نهيقه إذا ردده في الجوف عند فراغه من نُهاقه، كما قال رؤبة بن العجاج:
حَشْرَجَ فِي الجَوْفِ سَحِيلا أَوْ شَهَقْ | حَتَّى يُقَالَ نَاهِقٌ وَمَا نَهَقْ (٣) |
(٢) معاني القرآن للفراء في تفسير الآية، اللسان (ليق)، يقال: " ما يليق بكفه درهم " (بفتح الياء) أي: ما يحتبس = و " ما يلقيه القراء وهو "، أي: ما يحبسه.
(٣) ديوانه: ١٠٦، واللسان (حشرج)، وسيأتي في التفسير ٢٩، ٤ (بولاق)، من طويلته المشهوره، يصف فيها حمار الوحش، وبعده:
كَأَنَّهُ مُسْتَنْشِقٌ مِن الشَّرَقْ | خُرًّا من الخَرْدَلِ مَكْرُوهَ النَّشَقْ |
*ذكر من قال ذلك:
١٨٥٦٧- حدثني المثني قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (لهم فيها زفير وشهيق)، يقول: صوت شديدٌ وصوت ضعيف.
١٨٥٦٨-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن أبي العالية في قوله: (لهم فيها زفير وشهيق)، قال: "الزفير" في الحلق، و"الشهيق" في الصدر.
١٨٥٦٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، بنحوه.
١٨٥٧٠- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: صوت الكافر في النار صوت الحمار، أوّله زفير وآخره شهيق
١٨٥٧١- حدثنا أبو هشام الرفاعي، ومحمد بن معمر البحراني، ومحمد بن المثني، ومحمد بن بشار قالوا، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا سليمان بن سفيان قال، حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر عن عمر قال، لما نزلت هذه الآية: (فمنهم شقيّ وسعيد)، سألت النبي ﷺ فقلت: يا نبيّ الله، فعلام عَمَلُنا؟ على شيء قد فرغ منه، أم على شيء لم يفرغ منه؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على شيء قد فُرِغ منه، يا عمر، وجرت
* * *
وقوله: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد)، يعني تعالى ذكره بقوله: (خالدين فيها)، لابثين فيها (٢) = ويعني بقوله: (ما دامت السموات والأرض)، أبدًا. (٣)
* * *
وذلك أن العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدًا قالت: هذا دائم دوام السموات والأرض، بمعنى أنه دائم أبدًا، وكذلك يقولون: "هو باقٍ ما اختلف الليل والنهار". و"ما سمر ابنا سَمِير"، و"ما لألأت العُفْرُ بأذنابها " يعنون بذلك كله "أبدا". فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفون به بينهم فقال: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض)، والمعنى في ذلك: خالدين فيها أبدًا.
* * *
وكان ابن زيد يقول في ذلك بنحو ما قلنا فيه.
١٨٥٧٢- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض)، قال: ما دامت الأرض أرضًا، والسماءُ سماءً.
* * *
ثم قال: (إلا ما شاء ربك)، واختلف أهل العلم والتأويل في معنى ذلك فقال بعضهم: هذا استثناءٌ استثناه الله في بأهل التوحيد، أنه يخرجهم من النار إذا شاء، بعد أن أدخلهم النار.
(٢) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد).
(٣) انظر تفسير " ما دام " ١٠: ١٨٥ / ١١: ٧٤، ٢٣٨.
١٨٥٧٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك)، قال: الله أعلم بثُنَياه. (١)
وذكر لنا أن ناسًا يصيبهم سَفْعٌ من النار بذنوب أصابوها، (٢) ثم يدخلهم الجنة.
١٨٥٧٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك)، والله أعلم بثَنيَّته. (٣) ذكر لنا أن ناسًا يصيبهم سَفْعٌ من النار بذنوب أصابتهم، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته، يقال لهم: "الجهنَّميُّون".
١٨٥٧٥- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا شيبان بن فروخ قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة، وتلا هذه الآية: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق)، إلى قوله: (لما يريد)، فقال عند ذلك: حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال: "يَخْرج قومٌ من النار = قال قتادة: ولا نقول مثل ما يقول أهل حَرُوراء. (٤)
١٨٥٧٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن أبي مالك، يعني ثعلبة، عن أبي سنان في قوله: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك)، قال: استثناء في أهل التوحيد.
١٨٥٧٧- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
(٢) " سفعته النار والشمس سفعًا "، لفحته لفحًا يسيرًا، فغيرت لون بشرته وسودته.
(٣) انظر التعليق رقم: ١.
(٤) " أهل حروراء "، هم الخوارج، يقولون إن صاحب الكبيرة مخلد في النار، لأنهم يكفرون أهل الكبائر.
١٨٥٧٨- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، ثني معاوية، عن عامر بن جشيب، عن خالد بن معدان في قوله: (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا)، [سورة النبأ: ٢٣]، وقوله: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك)، أنهما في أهل التوحيد. (١)
* * *
وقال آخرون: الاستثناء في هذه الآية في أهل التوحيد، إلا أنهم قالوا: معنى قوله: (إلا ما شاء ربك)، إلا أن يشاء ربك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار. ووجهوا الاستثناء إلى أنه من قوله: (فأما الذين شقوا ففي النار) = (إلا ما شاء ربك)، لا من "الخلود".
*ذكر من قال ذلك:
١٨٥٧٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا ابن التيمي، عن أبيه، عن أبي نضرة، عن جابر أو: أبي سعيد = يعني الخدري = أو: عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم= في قوله: (إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد)، قال: هذه الآية تأتي على القرآن كلِّه يقول: حيث كان في القرآن (خالدين فيها)، تأتي عليه = قال: وسمعت أبا مجلز يقول: هو جزاؤه، فإن شاء الله تجاوَزَ عن عذابه.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك أهل النار وكلَّ من دخلها.
١٨٥٨٠- حدثت عن المسيب عمن ذكره، عن ابن عباس: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض)، لا يموتون، ولا هم منها يخرجون ما دامت السموات والأرض، (إلا ما شاء ربك)، قال: استثناءُ الله. قال: يأمر النار أن تأكلهم. قال: وقال ابن مسعود: ليأتين على جهنَّم زمان تخفِقُ أبوابُها، ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابًا.
١٨٥٨١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن بيان، عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمرانًا وأسرعهما خرابًا.
* * *
وقال آخرون: أخبرنا الله بمشيئته لأهل الجنة، فعرَّفنا معنى ثُنْياه بقوله: (عطاء غير مجذوذ)، أنها في الزيادة على مقدار مدَّة السموات والأرض. قال: ولم يخبرنا بمشيئته في أهل النار. وجائز أن تكون مشيئته في الزيادة، وجائز أن تكون في النقصان.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٥٨٢- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك)، فقرأ حتى بلغ: (عطاء غير مجذوذ)، قال: وأخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة، فقال: (عطاء غير مجذوذ)، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في تأويل هذه الآية بالصواب، القولُ الذي ذكرنا عن قتادة والضحاك: من أن ذلك استثناء في أهل التوحيد من أهل الكبائر أنه يدخلهم النار، خالدين فيها أبدًا إلا ما شاءَ من تركهم فيها أقل من ذلك، ثم يخرجهم فيدخلهم الجنة، كما قد بينا في غير هذا الموضع، (١)
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصحة في ذلك، لأن الله جل ثناؤه أوعد أهل الشرك به الخلود في النار، وتظاهرت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغير جائز أن يكون استثناءً في أهل الشرك= وأن الأخبار قد تواترت عن رسول الله ﷺ أن الله يدخل قومًا من أهل الإيمان به بذنوبٍ أصابوها النارَ، ثم يخرجهم منها فيدخلهم الجنة، فغير جائز أن يكون ذلك استثناء في أهل التوحيد قبل دُخُولها، مع صحة الأخبار عن رسول الله ﷺ بما ذكرنا = وأنّا إن جعلناه استثناء في ذلك، كنا قد دخلنا في قول من يقول: "لا يدخل الجنة فاسق، ولا النار مؤمن"، وذلك خلاف مذاهب أهل العلم، وما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا فسد هذان الوجهان، فلا قول قال به القُدْوة من أهل العلم إلا الثالث.
* * *
ولأهل العربية في ذلك مذهبٌ غير ذلك، سنذكره بعدُ، ونبينه إن شاء الله. (٢).
* * *
وقوله: (إن ربك فعال لما يريد)، يقول تعالى ذكره: إن ربك، يا محمد، لا يمنعه مانع من فعل ما أراد فعله بمن عصاه وخالف أمره، من الانتقام منه، ولكنه يفعل ما يشاء فعلَه، فيمضي فيهم وفيمن شاء من خلقه فعلُه وقضاؤهُ. (٣)
* * *
(٢) انظر ما سيأتي ص: ٤٨٧ - ٤٨٩.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: " ولكنه يفعل ما يشاء، فيمضي فعله فيهم وفيمن شاء من خلقه فعله وقضاؤه "، وهو غير مستقيم، والآفة من الناسخ، والصواب ما أثبت، بتقديم " فعله " الأولى.
قال أبو جعفر: واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء المدينة والحجاز والبصرة وبعض الكوفيين: (وَأَمَّا الَّذِينَ سَعِدُوا)، بفتح السين.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من قراء الكوفة: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا)، بضم السين، بمعنى: رُزِقوا السعادة.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان معروفتان فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ.
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل: (سُعِدُوا)، فيما لم يسمَّ فاعله، ولم يقل: "أسعدوا"، وأنت لا تقول في الخبر فيما سُمِّى فاعله: "سعده الله"، بل إنما تقول: "أسعده الله"؟
قيل ذلك نظير قولهم: "هو مجنون " و"محبوب"، (١) فيما لم يسمَّ فاعله، فإذا سموا فاعله قيل: "أجنه الله "، و"أحبه"، والعرب تفعل ذلك كثيرًا. وقد بينا بعض ذلك فيما مضى من كتابنا هذا. (٢)
* * *
وتأويل ذلك: وأما الذين سعدوا برحمة الله، فهم في الجنة خالدين فيها ما دامت
(٢) غاب أيضًا عني مكانه، فمن وجده فليقيده.
* * *
فاختلف أهل التاويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم: (إلا ما شاء ربك)، من قدر ما مكثوا في النار قبل دخُولهم الجنة. قالوا: وذلك فيمن أخرج من النار من المؤمنين فأدخل الجنة.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٥٨٣- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الضحاك في قوله: (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك)، قال: هو أيضًا في الذين يخرجون من النار فيدخلون الجنة. يقول: خالدين في الجنة ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك. يقول: إلا ما مكثوا في النار حتى أدخلوا الجنة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: (إلا ما شاء ربك)، من الزيادة على قدر مُدّة دوام السموات والأرض، قالوا: وذلك هو الخلود فيها أبدًا.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٥٨٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن أبي مالك، يعني ثعلبة، عن أبي سنان: (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك)، قال: ومشيئته خلودهم فيها، ثم أتبعها فقال: (عطاء غير مجذوذ).
* * *
واختلف أهل العربية في وجه الاستثناء في هذا الموضع.
فقال بعضهم في ذلك معنيان:
أحدهما: أن تجعله استثناءً يستثنيه ولا يفعله، كقولك: "والله لأضربنَّك
قال: والقول الآخر: أنّ العرب إذا استثنت شيئًا كثيرًا مع مثله، ومع ما هو أكثر منه، (٣) كان معنى "إلا " ومعنى "الواو" سواء. فمن كان قوله: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) = سوى ما شاء الله من زيادة الخلود، فيجعل "إلا" مكان "سوى" فيصلح، وكأنه قال: "خالدين فيها ما دامت السموات والأرض سوى ما زادهم من الخلود والأبد". ومثله في الكلام أن تقول: لي عليك ألف إلا ألفين اللذين [مِنْ قِبَل فلان"، أفلا ترى أنه في المعنى: لي عليك ألفٌ سِوَى الألفين] ؟ (٤) قال: وهذا أحبُّ الوجهين إليّ، لأنّ الله لا خُلْفَ لوعده. (٥) وقد وصل الاستثناء بقوله: (عطاء غير مجذوذ)، فدلَّ على أن الاستثناء لهم بقوله في الخلود غير منقطعٍ عنهم.
* * *
وقال آخر منهم بنحو هذا القول. وقالوا: جائز فيه وجه ثالثٌ: وهو أن يكون استثنى من خلودهم في الجنة احتباسهم عنها ما بين الموت والبعث، وهو البرزخ، إلى أن يصيُروا إلى الجنة، ثم هو خلود الأبد. يقول: فلم يغيبوا عن الجنة إلا بقدر إقامتهم في البرْزَخ.
* * *
وقال آخر منهم: جائز أن يكون دوام السموات والأرض، بمعنى: الأبد، على ما تعرف العرب وتستعمل، وتستثنى المشيئة من داومها، لأنَّ أهل
(٢) الزيادة بين القوسين من معاني القرآن للفراء.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: " ومع ما هو أكثر منه "، والصواب من معاني القرآن: " أو مع.. ".
(٤) كان في المطبوعة والمخطوطة: " إلا الألفين اللذين قبلهما "، وليس فيهما بقية ما أثبت، وهو كلام مبهم، نقلت سائره، وزدته بين القوسين من معاني القرآن للفراء، فهذا نص كلامه.
(٥) في المطبوعة: " لا خلف لوعده "، وفي المخطوطة؛ " لا مخلف لوعده "، والصواب من معاني القرآن.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، القولُ الذي ذكرته عن الضحاك، وهو (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك)، من قدر مُكْثِهم في النار، من لدن دخلوها إلى أن ادخلوا الجنة، وتكون الآية معناها الخصوص، لأن الأشهر من كلام العرب في "إلا" توجيهها إلى معنى الاستثناء، وإخراج معنى ما بعدها مما قبلها، إلا أن يكون معها دلالةٌ تدلُّ على خلاف ذلك. ولا دلالة في الكلام = أعني في قوله: (إلا ما شاء ربك) = تدلُّ على أن معناها غير معنى الاستثناء المفهوم في الكلام، فيُوَجَّه إليه.
* * *
وأما قوله: (عطاء غير مجذوذ)، فإنه يعني: عطاءً من الله غيرَ مقطوع عنهم.
* * *
من قولهم: "جذذت الشيء أجذّه جذًّا"، إذا قطعته، كما قال النابغة: (١)
تَجذُّ السَّلُوقِيَّ المُضَاعَفَ نَسْجُهُ | وَيوقِدْنَ بِالصُّفَّاحِ نَارَ الحُبَاحِبِ (٢) |
(٢) ديوانه: ٤٤، واللسان (حبحب)، (سلق)، (صفح)، من قصيدته المشهورة، يقول فيه قبله، في صفة سيوف الغسانيين، وذلك في مدحه عمرو بن الحراث الأعرج:
وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ | بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ |
تُوُرِّثْن مِنْ أَزْمَانِ يَوْمِ حَلِيمةٍ | إلى اليَوْمِ قَدْ جُرِّبنَ كُلَّ التَّجَارِبِ |
تَقُدُّ السُّلُوقيّ....... | ................... |
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٥٨٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (عطاء غير مجذوذ)، قال: غير مقطوع.
١٨٥٨٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (عطاء غير مجذوذ)، يقول: غير منقطع.
١٨٥٨٧- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (عطاء غير مجذوذ)، يقول: عطاء غير مقطوع.
١٨٥٨٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (مجذوذ)، قال: مقطوع.
١٨٥٨٩- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (عطاء غير مجذوذ)، قال: غير مقطوع.
١٨٥٩٠-.... قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٨٥٩١-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، مثله.
١٨٥٩٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج. عن
١٨٥٩٣-.... قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قوله: (عطاء غير مجذوذ)، قال: أما هذه فقد أمضَاها. يقول: عطاء غير منقطع.
١٨٥٩٤- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (عطاء غير مجذوذ)، غير منزوع منهم.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فلا تَك في شك، يا محمد، مما يعبد هؤلاء المشركون من قومك من الآلهة والأصنام، (١) أنه ضلالٌ وباطلٌ، وأنه بالله شركٌ = (ما يعبد هؤلاء إلا كما يعبد آباؤهم من قبل)، يقول: إلا كعبادة آبائهم، من قبل عبادتهم لها. يُخبر تعالى ذكره أنهم لم يعبدُوا ما عبدوا من الأوثان إلا اتباعًا منهم منهاج آبائهم، واقتفاءً منهم آثارهم في عبادتهموها، لا عن أمر الله إياهم بذلك، ولا بحجة تبيَّنوها توجب عليهم عبادتها.
ثم أخبر جل ثناؤه نبيَّه ما هو فاعل بهم لعبادتهم ذلك، فقال جل ثناؤه: (وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص)، يعني: حظهم مما وعدتهم أن أوفّيهموه من
١٨٥٩٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس: (وإنا لموفُّوهم نصيبهم غير منقوص)، قال: ما وُعِدوا فيه من خير أو شر.
١٨٥٩٦- حدثنا أبو كريب ومحمد بن بشار قالا حدثنا وكيع، عن سفيان عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله= إلا أن أبا كريب قال في حديثه: من خيرٍ أو شرّ.
١٨٥٩٧- حدثني المثني قال، أخبرنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن جابر، عن مجاهد عن ابن عباس: (وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص)، قال: ما قُدِّر لهم من الخير والشر.
١٨٥٩٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: (وإنا لموفّوهم نصيبهم غير منقوص)، قال: ما يصيبهم من خير أو شر.
١٨٥٩٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص)، قال: نصيبهم من العذاب.
* * *
= وتفسير " النصيب " فيما سلف ١٢: ٤٠٨، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " النقص " فيما سلف ١٤: ١٣٢.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مسليًا نبيه في تكذيب مشركي قومه إياه فيما أتاهم به من عند الله، بفعل بني إسرائيل بموسى فيما أتاهم به من عند الله. يقول له تعالى ذكره: ولا يحزنك، يا محمد، تكذيب هؤلاء المشركين لك، وامض لما أمرك به ربُّك من تبليغ رسالته، فإن الذي يفعل بك هؤلاء من ردِّ ما جئتهم به عليك من النصيحة من فعل ضُربائهم من الأمم قبلهم وسنَّةٌ من سُنتهم.
ثم أخبره جل ثناؤه بما فعل قوم موسى به فقال: (ولقد آتينا موسى الكتاب)، يعني: التوراة، كما آتيناك الفرقان، فاختلف في ذلك الكتاب قومُ موسى، فكذّب به بعضُهم وصدّق به بعضهم، كما قد فعل قومك بالفرقان من تصديق بعض به، وتكذيب بعض = (ولولا كلمة سبقت من ربك)، يقول تعالى ذكره: ولولا كلمة سبقت، يا محمد، من ربك بأنه لا يعجل على خلقه العذاب، ولكن يتأنى حتى يبلغ الكتاب أجله = (لقضي بينهم)، يقول: لقضي بين المكذب منهم به والمصدِّق، بإهلاك الله المكذب به منهم، وإنجائه المصدق به = (وإنهم لفي شك منه مريب)، يقول: وإن المكذبين به منهم لفي شك من حقيقته أنه من عند الله = (مريب)، يقول: يريبهم، فلا يدرون أحقٌّ هو أم باطلٌ؟ ولكنهم فيه ممترون. (١)
* * *
قال أبو جعفر: اختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته جماعة من قراء أهل المدينة والكوفة: (وَإنَّ) مشددة (كُلا لَمَّا) مشددة.
* * *
واختلف أهل العربية في معنى ذلك:
فقال بعض نحويي الكوفيين: معناه إذا قرئ كذلك: وإنّ كلا لممَّا ليوفينهم ربك أعمالهم = ولكن لما اجتمعت الميمات حذفت واحدة، فبقيت ثنتان، فأدغمت واحدة في الأخرى، كما قال الشاعر: (١)
وَإِنِّي لَمِمَّا أُصْدِرُ الأَمْرَ وَجْهَهُ | إِذَا هُوَ أَعْيى بالسَّبِيلِ مَصَادِرُهُ (٢) |
(٢) معاني القرآن للفراء في تفسير الآية. في المطبوعة: " لما " و " أعيى بالنبيل "، وكلاهما خطأ، صوابه من المخطوطة ومعاني القرآن. وقوله " لمما " هنا، ليست من باب " لما " التي يذكرها، إلا في اجتماع الميمات. وذلك أن قوله: " وإن كلا لمما ليوفينهم "، أصلها: " لمن ما "، " من " بفتح فسكون، اسم. وأما التي في البيت فهي " لمن ما "، " من " حرف جر، ومعناها معنى " ربما " للتكثير، وشاهدهم عليه قول أبي حية النميري (سيبويه ١: ٤٧٧) :
وَإِنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الكَبْشَ ضَرْبَةً | عَلَى رَأْسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الفَم. |
وَأشْمَتَّ العُدَاةَ بِنَا فَأضْحَوْا | لدَيْ يَتَبَاشَرُونَ بِمَا لَقِينَا (٢) |
كأنَّ مِنْ آخِرِها الْقادِمِ | مَخْرِمُ نَجْدٍ فارعِ المَخَارِمِ (٤) |
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك إذا قرئ كذلك: وإن كلا شديدًا وحقًّا، ليوفينهم ربك أعمالهم. قال: وإنما يراد إذا قرئ ذلك كذلك: (وإنّ كلا لمَّا) بالتشديد والتنوين، (٥) ولكن قارئ ذلك كذلك حذف منه التنوين، فأخرجه على لفظ فعل "لمَّا"، كما فعل ذلك في قوله: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى)، [سورة المؤمنون: ٤٤]، فقرأ "تترى"، بعضهم بالتنوين، كما قرأ من قرأ: "لمَّا" بالتنوين، وقرأ آخرون بغير تنوين، كما قرأ (لمَّا) بغير تنوين من قرأه. وقالوا: أصله من "اللَّمِّ" من قول الله تعالى: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا)، يعني: أكلا شديدًا.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك إذا قرئ كذلك: وإنّ كلا إلا ليوفينهم، كما يقول القائل: " بالله لمَّا قمتَ عنا، وبالله إلا قمت عنا". (٦)
* * *
(٢) معاني القرآن للفراء في تفسير الآية، وفي المطبوعة والمخطوطة: " وأشمت الأعداء "، وهو خطأ، صوابه من معاني القرآن.
(٣) لم أعرف قائله.
(٤) معاني القرآن للفراء، في تفسير الآية. وكان في المطبوعة: " من أحرها "، و " محرم " و " المحارم "، وهو خطأ. و " المخرم "، (بفتح فسكون فكسر)، الطريق في الجبل، وجمعه " مخارم ".
(٥) هذه قراءة الزهري، كما سيأتي ص: ٤٩٨.
(٦) في المطبوعة والمخطوطة: " لقد قمت عنا، وبالله إلا قمت عنا "، وذلك خطأ، ولا شاهد فيه، وصوابه من معاني القرآن للفراء، في تفسير الآية.
قال أبو جعفر: وأنا أرى أنّ ذلك فاسد من وجه هو أبين مما قاله الذين حكينا قولهم من أهل العربية، في فساده، وهو أنّ "إنّ" إثبات للشيء وتحقيق له، و"إلا"، تحقيق أيضًا، (٢) وإنما تدخل نقضًا لجحد قد تقدَّمها. فإذا كان ذلك معناها، فواجب أن تكون عندَ متأولها التأويلَ الذي ذكرنا عنه، أن تكون "إنّ" بمعنى الجحد عنده، حتى تكون "إلا نقضًا" لها. وذلك إن قاله قائل، قولٌ لا يخفى جهلُ قائله، اللهم إلا أن يخفف قارئ "إن" فيجعلها بمعنى "إن" التي تكون بمعنى الجحد. وإن فعل ذلك، فسدت قراءته ذلك كذلك أيضًا من وجه آخر، وهو أنه يصير حينئذ ناصبًا "لكل" بقوله: ليوفينهم، وليس في العربية أن ينصب ما بعد "إلا" من الفعل، الاسم الذي قبلها. لا تقول العرب: "ما زيدًا إلا ضربت"، فيفسد ذلك إذا قرئ كذلك من هذا الوجه، إلا أن يرفع رافع "الكل"، فيخالف بقراءته ذلك كذلك قراءة القراء وخط مصاحف المسلمين، ولا يخرج بذلك من العيب لخروجه من معروف كلام العرب. (٣)
* * *
وقد قرأ ذلك بعض قراء الكوفيين: (وَإنْ كُلا) بتخفيف "إن" ونصب (كُلا لمَّا) مشدّدة.
* * *
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: " وإلا أيضًا تحقق أيضًا "، حذفت أولاهما، لأنه تكرار ولا ريب.
(٣) في المطبوعة: " بخروجه "، والصواب من المخطوطة.
وَوَجْهٌ مُشْرِقُ النَّحْرِ | كَأَنْ ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ (٢) |
وقرأ ذلك بعض المدنيين بتخفيف: (إنْ) ونصب (كُلا)، وتخفيف (لَمَا).
* * *
وقد يحتمل أن يكون قارئ ذلك كذلك، قصدَ المعنى الذي حكيناه عن قارئ الكوفة من تخفيفه نون "إن" وهو يريد تشديدها، ويريد ب"ما" التي في "لما" التي تدخل في الكلام صلة، (٣) وأن يكون قَصَد إلى تحميل الكلام معنى: وإنّ كلا ليوفينهم.
ويجوز أن يكون معناه كان في قراءته ذلك كذلك: وإنّ كُلا ليوفينهم، أي: ليوفين كُلا = فيكون نيته في نصب "كل" كانت بقوله: "ليوفينهم"، فإن كان ذلك أراد، ففيه من القبح ما ذكرت من خلافه كلام العرب. وذلك أنها لا تنصب بفعل بعد لام اليمين اسمًا قبلَها.
* * *
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والبصرة: (وَإنَّ) مشددة (كُلا لَمَا) مخففة (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ). ولهذه القراءة وجهان من المعنى:
أحدهما: أن يكون قارئها أراد: وإن كلا لمَنَ ليوفينهم ربك أعمالهم، فيوجه "ما" التي في "لما" إلى معنى "من" كما قال جل ثناؤه: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ)، [سورة النساء: ٣]، وإن كان أكثر استعمال العرب
(٢) سيبويه ١: ٢٨١، رفعًا " كأن ثدياه، وابن الشجري في أماليه ١: ٢٣٧ رفعًا ٢: ٣، نصبا، والخزانة ٤: ٣٥٨، والعيني (هامش الخزانة) ٢: ٣٠٥.
(٣) " صلة "، أي: زيادة، انظر فهارس المصطلحات فيما سلف.
والوجه الآخر: أن يجعل "ما" التي في "لما" بمعنى "ما" التي تدخل صلة في الكلام، واللام التي فيها هي اللام التي يجاب بها، واللام التي في: (ليوفينهم)، هي أيضًا اللام التي يجاب بها "إنّ" كررت وأعيدت، إذا كان ذلك موضعها، وكانت الأولى مما تدخلها العرب في غير موضعها، ثم تعيدها بعدُ في موضعها، كما قال الشاعر: (١)
فَلَوْ أَنَّ قَوْمِي لَمْ يَكُونُوا أَعِزَّةً | لَبَعْدُ لَقَدْ لاقَيْتُ لا بُدَّ مَصْرَعَا (٢) |
* * *
قال أبو جعفر: وأصح هذه القراءات مخرجًا على كلام العرب المستفيض فيهم، قراءة من قرأ: "وَإنَّ" بتشديد نونها، "كُلا لَمَا" بتخفيف "ما" (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ)، بمعنى: وإن كل هؤلاء الذين قصَصَنا عليك، يا محمد، قصصهم في هذه السورة، لمن ليوفينهم ربك أعمالهم، بالصالح منها بالجزيل من الثواب، وبالطالح منها بالشديد من العقاب = فتكون "ما" بمعنى "مَن" واللام التي فيها جوابًا ل"إنّ"، واللام في قوله: (ليوفيننم)، لام قسم.
* * *
(٢) معاني القرآن للفراء، في تفسير الآية. وكان في المخطوطة والمطبوعة: " مصرعي "، وأثبت ما في معاني القرآن.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فاستقم أنت، يا محمد، على أمر ربك، والدين الذي ابتعثك به، والدعاء إليه، كما أمرك ربك (٢) = (ومن تاب معك)، يقول: ومن رجع معك إلى طاعة الله والعمل بما أمره به ربه من بعد كفره = (ولا تطغوا)، يقول: ولا تعدوا أمره إلى ما نهاكم عنه. (٣) (إنه بما تعملون بصير)، يقول: إن ربكم، أيها الناس، بما تعملون من الأعمال كلِّها، طاعتها ومعصيتها= "بصير"، ذو علم بها، لا يخفى عليه منها شيء، وهو لجميعها مبصرٌ. (٤) يقول تعالى ذكره: فاتقوا الله، أيها الناس، أن يطَّلع عليكم ربكم وأنتم عاملون بخلاف أمره، فإنه ذو علم بما تعلمون، وهو لكم بالمرصاد.
* * *
وكان ابن عيينة يقول في معنى قوله: (فاستقم كما أمرت)، ما:-
١٨٦٠٠- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
(٢) لنظر تفسير " الاستقامة " فيما سلف ص: ١٨٧.
(٣) لنظر تفسير " طغى " فيما سلف ص: ٣٤، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٤) لنظر تفسير " بصير " فيما سلف من فهارس اللغة (بصر).
١٨٦٠١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (ولا تطغوا)، قال: الطغيان: خلاف الله، وركوب معصيته. ذلك "الطغيان".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تميلوا، أيها الناس، إلى قول هؤلاء الذين كفروا بالله، فتقبلوا منهم وترضوا أعمالهم = (فتمسكم النار)، بفعلكم ذلك (١) = وما لكم من دون الله من ناصر ينصركم ووليّ يليكم (٢) = (ثم لا تنصرون)، يقول: فإنكم إن فعلتم ذلك لم ينصركم الله، بل يخلِّيكم من نصرته ويسلط عليكم عدوّكم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٦٠٢- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)، يعني: الركون إلى الشرك.
١٨٦٠٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا)، يقول: لا ترضوا أعمالهم.
١٨٦٠٤- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا)، يقول: لا ترضوا أعمالهم. يقول: "الركون"، الرضى.
(٢) لنظر تفسير " الأولياء " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي).
١٨٦٠٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا)، قال: قال ابن عباس: ولا تميلوا إلى الذين ظلموا.
١٨٦٠٧- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)، يقول: لا تلحقوا بالشرك، وهو الذي خرجتم منه.
١٨٦٠٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)، قال: "الركون"، الإدهان. وقرأ: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)، [سورة القلم: ٩]، قال: تركنُ إليهم، ولا تنكر عليهم الذي قالوا، وقد قالوا العظيمَ من كفرهم بالله وكتابه ورسله. قال: وإنما هذا لأهل الكفر وأهل الشرك وليس لأهل الإسلام. أما أهل الذنوب من أهل الإسلام، فالله أعلم بذنوبهم وأعمالهم. ما ينبغي لأحد أن يُصَالح على شيء من معاصي الله، ولا يركن إليه فيها.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وأقم الصلاة)، يا محمد، يعني: صَلِّ = (طرفي النهار)، يعني الغداةَ والعشيَّ.
* * *
واختلف أهل التأويل في التي عُنِيت بهذه الآية من صَلوات العشيّ، بعد إجماع جميعهم على أن التي عُنيت من صَلاة الغداة، الفجرُ.
فقال بعضهم: عُنيت بذلك صلاة الظهر والعصر. قالوا: وهما من صلاة العشيّ.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٦٠٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: (أقم الصلاة طرفي النهار)، قال: الفجر، وصلاتي العشي = يعني الظهر والعصر.
١٨٦١٠- حدثني المثني قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
١٨٦١١- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (أقم الصلاة طرفي النهار)، قال: صلاة الفجر، وصلاة العشي.
١٨٦١٢- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن أفلح بن سعيد قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: (أقم الصلاة طرفي النهار)، قال: فطرفا النهار: الفجرُ والظهرُ والعصرُ.
١٨٦١٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (أقم الصلاة طرفي النهار)، قال: الفجر والظهر والعصر.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بها صلاة المغرب.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٦١٥- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: (أقم الصلاة طرفي النهار)، يقول: صلاة الغداة وصلاة المغرب.
١٨٦١٦- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن عوف، عن الحسن: (أقم الصلاة طرفي النهار)، قال. صلاة الغداة والمغرب.
١٨٦١٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (أقم الصلاة طرفي النهار)، الصبح، والمغرب.
* * *
وقال آخرون: عني بها: صلاة العصر.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٦١٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله: (أقم الصلاة طرفي النهار)، قال: صلاة الفجر والعصر.
١٨٦١٩-.... قال: حدثنا زيد بن حباب، عن أفلح بن سعيد القبائي، عن محمد بن كعب (أقم الصلاة طرفي النهار)، الفجر والعصر.
١٨٦٢٠- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أبو رجاء،
١٨٦٢١- حدثني الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا مبارك، عن الحسن قال، قال الله لنبيه: (أقم الصلاة طرفي النهار)، قال: (طرفي النهار)، الغداة والعصر.
١٨٦٢٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله (أقم الصلاة طرفي النهار)، يعني صلاة العصر والصبح.
١٨٦٢٣- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن: (أقم الصلاة طرفي النهار)، الغداة والعصر.
١٨٦٢٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب، عن أفلح بن زيد، عن محمد بن كعب: (أقم الصلاة طرفي النهار)، الفجر والعصر.
١٨٦٢٥- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة، عن الحسن: (أقم الصلاة طرفي النهار)، قال: الغداة والعصر.
* * *
وقال بعضهم: بل عنى بطرفي النهار: الظهر، والعصر، وبقوله: (زلفًا من الليل)، المغر ب، والعشاء، والصبح.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: "هي صلاة المغرب"، كما ذكرنا عن ابن عباس.
وإنما قلنا هو أولى بالصواب لإجماع الجميع على أن صلاة أحد الطرفين من ذلك صلاة الفجر، وهي تصلى قبل طلُوع الشمس. فالواجب إذ كان ذلك من جميعهم إجماعًا، أن تكون صلاةُ الطرف الآخر المغرب، لأنها تصلى بعد غُروب الشمس. ولو كان واجبًا أن يكون مرادًا بصلاة أحد الطرفين قبل غروب الشمس، وجب أن يكون مرادًا بصلاة الطرف الآخر بعدَ
فإذا كان لا قائلَ من أهل العلم يقول: "عنى بصلاة طرف النهار الأول صلاةً بعد طلوع الشمس"، وجب أن يكون غير جائز أن يقال: "عنى بصلاة طرف النهار الآخر صلاةً قبل غروبها".
وإذا كان ذلك كذلك، صح ما قلنا في ذلك من القول، وفسدَ ما خالفه.
* * *
وأما قوله: (وزلفًا من الليل)، فإنه يعني: ساعاتٍ من الليل.
* * *
وهي جمع "زُلْفة"، و"الزلفة"، الساعة، والمنزلة، والقربة، وقيل: إنما سميت "المزدلفة " و"جمع " من ذلك، لأنها منزلٌ بعد عرفة = وقيل سميت بذلك، لازدلاف آدم من عَرَفة إلى حواء وهي بها، ومنه قول العجاج في صفة بعير:
ناجٍ طَوَاهُ الأَيْنُ مِمَّا وجَفا | طَيَّ اللَّيالِي زُلَفًا فَزُلَفَا (٢) |
(٢) ديوانه: ٨٤، مجاز القرآن ١: ٣٠٠، وسيبويه ١: ١٨٠، واللسان (زلف)، (حقف)، (سما)، (وجف) وغيرها كثير، وسيأتي في التفسير ١٩: ٥١ (بولاق). وبعده هناك: سَمَاوَةَ الهِلاَلِ حَتَّى احْقَوْقَفَا
" الأين "، التعب. " وجف " من " الوجيف "، وهو سرعة السير. و " سماوة الهلال " شخصه، إذا ارتفع في الأفق شيئًا. و " احقوقف " اعوج.
فقرأته عامة قراء المدينة والعراق: (وَزُلَفًا)، بضم الزاي وفتح اللام.
* * *
وقرأه بعض أهل المدينة بضم الزاي واللام = كأنه وجَّهه إلى أنه واحدٌ، وأنه بمنزلة "الحُلُم".
* * *
وقرأ بعض المكيين: (وَزُلْفًا)، ضم الزاي وتسكين اللام.
* * *
قال أبو جعفر: وأعجب القراءات في ذلك إليّ أن أقرأها: (وزُلَفًا)، بضم الزاي وفتح اللام، على معنى جمع "زُلْفة"، كما تجمع "غُرْفَة غُرف"، و"حُجْرة حُجر".
وإنما اخترت قراءة ذلك كذلك، لان صلاة العشاء الآخرة إنما تصلى بعد مضيّ زُلَفٍ من الليل، وهي التي عُنِيت عندي بقوله: (وزلفًا من الليل).
* * *
وبنحو الذي قلنا في قوله: (وزلفًا من الليل)، قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٦٢٧- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٨٦٢٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
١٨٦٢٩- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (زلفًا من الليل) يقول: صلاة العتمة.
١٨٦٣٠- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن عوف، عن الحسن: (وزلفًا من الليل)، قال: العشاء.
١٨٦٣١- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: كان ابن عباس يعجبه التأخير بالعشاء ويقرأ: (وزلفًا من الليل).
١٨٦٣٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وزلفًا من الليل)، قال: ساعة من الليل، صلاة العتمة.
١٨٦٣٣- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وزلفًا من الليل)، قال: العتمة، وما سمعت أحدًا من فقهائنا ومشايخنا، يقول "العشاء"، ما يقولون إلا "العتمة"
* * *
وقال قوم: الصلاة التي أمر النبي ﷺ بإقامتها زُلَفًا من الليل، صلاة المغرب والعشاء.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٦٣٤- حدثني يعقوب بن إبراهيم، وابن وكيع، واللفظ ليعقوب قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا أبو رجاء عن الحسن: (وزلفًا من الليل)، قال: هما زُلفتان من الليل: صلاة المغرب، وصلاة العشاء.
١٨٦٣٥- حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا حدثنا جرير، عن أشعث، عن الحسن في قوله: (وزلفًا من الليل)، قال: المغرب، والعشاء.
١٨٦٣٦- حدثني الحسن بن علي، قال ثنا أبي قال، حدثنا مبارك،
١٨٦٣٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان عن منصور عن مجاهد: (وزلفًا من الليل)، قال: المغرب، والعشاء.
١٨٦٣٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
١٨٦٣٩- حدثني المثنى قال حدثنا أبو نعيم قال: ، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
١٨٦٤٠-.... قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن قال: قد بيّن اللهُ مواقيتَ الصلاة في القرآن، قال: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) [سورة الإسراء: ٧٨]، قال: "دلوكها": إذا زالت عن بطن السماء، وكان لها في الأرض فيءٌ. وقال: (أقم الصلاة طرفي النهار)، الغداة، والعصر = (وزلفًا من الليل)، المغرب، والعشاء. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هُما زلفتا الليل، المغرب والعشاء.
١٨٦٤١- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وزلفًا من الليل)، قال: يعني صلاة المغرب وصلاة العشاء.
١٨٦٤٢- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن أفلح بن سعيد قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: (زلفًا من الليل)، المغرب والعشاء.
١٨٦٤٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب، عن أفلح بن سعيد، عن محمد بن كعب، مثله.
١٨٦٤٥- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عاصم بن سليمان، عن الحسن قال: زلفتا الليل، المغرب والعشاء.
١٨٦٤٦- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (وزلفًا من الليل)، قال: المغرب والعشاء.
١٨٦٤٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عاصم، عن الحسن: (وزلفًا من الليل)، قال: المغرب والعشاء.
١٨٦٤٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن جويبر، عن الضحاك: (وزلفًا من الليل)، قال: المغرب والعشاء.
١٨٦٤٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن الحسن: (زلفًا من الليل)، صلاة المغرب والعشاء.
* * *
وقوله: (إن الحسنات يذهبن السيئات)، يقول تعالى ذكره: إنّ الإنابة إلى طاعة الله والعمل بما يرضيه، يذهب آثام معصية الله، ويكفّر الذنوب. (١)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الحسنات التي عنى الله في هذا الموضع، اللاتي يذهبن السيئات، فقال بعضهم: هنّ الصلوات الخمس المكتوبات.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٦٥١- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن أفلح قال: سمعت محمد بن كعب القرظى يقول في قوله: (إن الحسنات يذهبن السيئات)، قال: هن الصلوات الخمس.
١٨٦٥٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (إن الحسنات يذهبن السيئات)، قال: الصلوات الخمس.
١٨٦٥٣-.... قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد: (إن الحسنات) الصلوات.
١٨٦٥٤- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة جميعا، عن عوف، عن الحسن: (إن الحسنات يذهبن السيئات)، قال: الصلوات الخمس.
١٨٦٥٥- حدثني زريق بن السَّخت قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (إن الحسنات يذهبن
١٨٦٥٦- حدثني المثني قال، حدثنا عمرو بن عون، قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله تعالى: (إن الحسنات يذهبن السيئات)، قال: الصلوات الخمس.
١٨٦٥٧- حدثني المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن منصور، عن الحسن قال، الصلوات الخمس.
١٨٦٥٨- حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله: (إن الحسنات يذهبن السيئات)، قال: الصلوات الخمس.
١٨٦٥٩-.... قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سعيد الجريري قال، حدثني أبو عثمان، عن سلمان قال: والذي نفسي بيده، إن الحسنات التي يمحو الله بهن السيئات كما يغسل الماء الدَّرَن: الصلواتُ الخمس.
١٨٦٦٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (إن الحسنات يذهبن السيئات)، قال: الصلوات الخمس.
١٨٦٦١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مزيدة بن زيد، عن مسروق: (إن الحسنات يذهبن السيئات)، قال: الصلوات الخمس. (٢)
١٨٦٦٢- حدثني محمد بن عمارة الأسدي، وعبد الله بن أبي زياد القطواني
(٢) الأثر: ١٨٦٦١ - " مزيدة بن زيد "، هكذا في المطبوعة، وفي المخطوطة غير منقوط، ولم أجد له ذكرًا في شيء من كتب الرجال، وأخشى أن يكون محرفًا عن شيء لم أعرفه.
١٨٦٦٣- حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو زرعة
(٢) " التمرغ "، أصله التقلب في التراب. وأراد هنا أنه يبيت يتقلب في فراشه مطمئنًا رخي البال.
(٣) الأثر: ١٨٦٦٢ - " حيوة "، هو " حيوة بن شريح " المصري، الفقيه الزاهد، ثقة، مضر مرارًا. " وزهرة بن معبد القرشي التيمي "، " أبو عقيل "، تابعي ثقة، مضى برقم: ٥٤٥١، ٥٤٥٧. " والحارث " هو: " الحارث بن عبيد "، " أبو صالح "، مولى عثمان، ثقة، مترجم في تعجيل المنفعة: ٧٨، وابن أبي حاتم ١ / ٢ / ٩٥. وهذا الخبر صحيح الإسناد، رواه أحمد في مسنده مطولا رقم: ٥١٣، واستوفى أخي رحمه الله الكلام عليه هناك. ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ١: ٢٩٧، وابن كثير في تفسيره ٤: ٤٠١ / ٥: ٢٨٩.
= والزيادة التي في المسند وغيره:
" قالوا: هذه الحسَنَات، فما الباقياتُ يا عُثمان؟ قال: هن: لا إلَه إلا الله، وسُبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بالله ". وستأتي هذه الزيادة منفردة بهذه الأسانيد في تفسير سورة الكهف الآية: ٤٦ / ج ١٥: ١٦٥، ١٦٦.
١٨٦٦٤- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال: أخبرنا نافع بن يزيد، ورشدين بن سعد قالا حدثنا زهرة بن معبد قال: سمعت الحارث مولى عثمان بن عفان يقول، جلس عثمان بن عفان يوما على المقاعد، ثم ذكر نحو ذلك عن رسول الله ﷺ = إلا أنه قال: وهن الحسنات: (إن الحسنات يذهبن السيئات). (٢)
١٨٦٦٥- حدثنا محمد بن عوف قال، حدثنا محمد بن إسماعيل قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جعلت الصلوات كفارات لما بينهن، فإن الله قال: (إن الحسنات يذهبن السيئات). (٣)
(٢) الأثر: ١٨٦٦٤ - مكرر الأثرين السالفين.
" رشدين بن سعد "، ضعيف، مضى مرارًا منها رقم: ١٩، ١٩٣٨، ٢١٧٦، ٢١٩٥، وغيرها. ولكن لهذا الخبر شاهد مما سلف في الصحاح، يقويه على ضعف رشدين.
(٣) الأثر: ١٨٦٦٥ - " محمد بن عوف بن سفيان الطائي الحمصي "، شيخ الطبري، مضى مرارًا. " ومحمد بن إسماعيل بن عياش الحمصي "، ضعيف، يحدث عن أبيه، ولم يسمع منه شيئًا، مضى برقم: ٥٤٤٥. وأبوه: " إسماعيل بن عياش الحمصي "، ثقة، متكلم فيه، مضى مرارًا كثيرة آخرها رقم: ١٤٢١٢. " وضمضم بن زرعة بن ثوب الحضرمي "، ثقة، وضعفه أبو حاتم، مضى برقم: ٥٤٤٥، ١٤٢١٢. " وشريح بن عبيد بن شريح الحضرمي "، تابعي ثقة، مضى برقم: ٥٤٤٥، ١٢١٩٤، ١٤٢١٢. وهذا خبر ضعيف الإسناد، من آفة " محمد بن إسماعيل عن أبيه "، وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد مختصرًا ١: ٢٩٩، وقال: " وفيه محمد بن إسماعيل بن عياش، قال أبو حاتم: لم يسمع من أبيه شيئًا، قلت: وهذا من روايته عن أبيه. وبقية رجاله موثقون ".
* * *
وقال آخرون: هو قول: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر".
* ذكر من قال ذلك:
١٨٦٦٧- حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، قولُ من قال في ذلك: "هن الصلوات الخمس"، لصحة الأخبار عن رسول الله ﷺ وتواترها عنه أنه قال: "مَثَلُ الصلوات الخمس مَثَلُ نَهْرٍ جَارٍ عَلَى بابِ أحَدِكم، ينغمس فيه كل يومٍ خمس مرات، فماذا يُبقينَ من دَرَنه؟ "، (١) وأن ذلك في سياق أمر الله بإقامة الصلوات، والوعدُ على إقامتها الجزيلَ من الثواب عَقيبها، أولى من الوعد على ما لم يجر له ذكر من صالحات سائر الأعمال، إذا خُصّ بالقصد بذلك بعضٌ دون بعض.
* * *
وقوله: (ذلك ذكرى للذاكرين)، يقول تعالى ذكره: هذا الذي أوعدت عليه من الركون إلى الظلم، وتهددت فيه، والذي وعدت فيه من إقامة الصلوات اللواتي يُذهبن السيئات، تذكرة ذكّرت بها قومًا يذكُرون وعد الله، فيرجُون ثوابه ووعيده، فيخافون عقابه، لا من قد طبع على قلبه، فلا يجيب داعيًا، ولا يسمع زاجرًا.
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت بسبب رجل نالَ من غير زوجته ولا ملك يمينه بعضَ ما يحرم عليه، فتاب من ذنبه ذلك.
*ذكر الرواية بذلك:
١٨٦٦٨- حدثنا هناد بن السرى قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود قالا قال عبد الله بن مسعود: جاء رجل إلى
١٨٦٦٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني لقيت امرأة في البستان، فضممتها إليَّ وباشرتُها وقبَّلتها، وفعلت بها كلَّ شي غير أني لم أجامعها. فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: (إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين)،
(٢) هذا تعبير عزيز، فقيده.
(٣) الأثر: ١٨٦٦٨٨ - حديث عبد الله بن مسعود، رواه أبو جعفر من طريقين:
١ - من طريق علقمة، والأسود، عن عبد الله بن مسعود، وذلك برقم: ١٨٦٦٨- ١٨٦٧٤.
٢ - من طريق أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود، رقم: ١٨٦٧٦، وسأبينها جميعًا، طريقًا طريقًا، وكلها طرق صحاح.
" إبراهيم "، هو " إبراهيم بن يزيد النخعي "، روى له الجماعة، مضى مرارًا. " والأسود بن يزيد النخعي "، روى له الجماعة، وهو خال " إبراهيم بن يزيد النخعي "، مضى مرارًا. " وعلقمة "، هو " علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي "، وهو خال " إبراهيم النخعي "، لأنه عم خاليه الأسود، وعبد الرحمن، روى له الجماعة، مضى مرارًا. ومن طريق أبي الأحوص، عن سماك، عن إبراهيم، رواه مسلم في صحيحه (١٧: ٨٠)، وأبو داود في سننه ٤: ٢٢٣ رقم: ٤٤٦٨، والترمذي في كتاب التفسير. وانظر التعليق على الطرق الآتية. ثم انظر التعليق على رقم: ١٨٦٧٥، في بيان اسم " الرجل " الذي فعل ذلك.
١٨٦٧٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن سماك بن حرب، أنه سمع إبراهيم بن زيد، يحدث عن علقمة، والأسود، عن ابن مسعود قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إني وجدت امرأةً في بستان، ففعلت بها كل شيء، غير أني لم أجامعها، قَبَّلتها، ولزمتُها، (٢) ولم أفعل غير ذلك، فافعل بي ما شئت. فلم يقل له رسول الله ﷺ شيئًا. فذهب الرجل، فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه! فأتبعه رسولُ الله ﷺ بَصَره، فقال: "ردُّوه عليَّ! فردُّوه، فقرأ عليه: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين)، قال: فقال معاذ بن جبل: أله وحده، يا نبي الله، أم للناس كافة؟ فقال: "بل للناس كافة. (٣)
١٨٦٧١- حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا أبو عوانة، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة، والأسود، عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، أخذت امرأة في البُستان فأصبتُ منها كل شيء، غير أني لم أنكحها، فاصنع بي ما شئت! فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ذهب دعاه فقرأ عليه هذه الآية: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل)، الآية. (٤)
(٢) " لزمتها " يعني: عانقتها فأطلت العناق واستوعبته. وهذا الثلاثي بهذا المعنى قلها تجده في كتب اللغة، وإنما فيها: " التزمه "، أي: عانقه.
(٣) الأثر: ١٨٦٧٠ - مكرر الذي قبله. ومن طريق عبد الرزاق، عن إسرائيل، عن سماك، ورواه أحمد في مسنده رقم: ٤٢٩٠.
(٤) الأثر: ١٨٦٧١ - مكرر الذي قبله. ومن طريق أبي عوانة، عن سماك، رواه أحمد في مسنده رقم: ٤٢٩١، ولكنه أحاله على الذي قبله. وأبو داود الطيالسي في مسنده ص: ٣٧، رقم: ٢٨٥.
١٨٦٧٣- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة قال، أنبأني سماك قال، سمعت إبراهيم يحدث عن خاله، عن ابن مسعود: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لقيت امرأة في حُشٍّ بالمدينة، (٢) فأصبت منها ما دون الجماع، نحوه. (٣)
١٨٦٧٤- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم البغدادي قال، حدثنا شعبة، عن سماك، عن إبراهيم، عن خاله، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (٤)
(٢) " الحش "، البستان، عند أهل المدينة، انظر ما سلف رقم: ٣٠٨٦.
(٣) الأثر: ١٨٦٧٣ - لم أعثر عليه في مسند أبي داود الطيالسي، ومعروف أن المطبوع من هذا المسند ناقص غير تام. وانظر التعليق التالي. وفي المطبوعة والمخطوطة: " حدثنا أبو المثني "، والصواب " ابن المثني "، وهو " محمد بن المثني " شيخ الطبري.
(٤) الأثر: ١٨٦٧٤ - " عمرو بن الهيثم البغدادي "، " أبو قطن "، ثقة، من ثقات أصحاب شعبة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ / ١ / ٢٦٨. ومن هذه الطريق رواه أحمد في مسنده برقم: ٤٣٢٥. وقال أخي السيد أحمد: " خاله، إما: الأسود بن يزيد النخعي، وإما عبد الرحمن بن يزيد النخعي، فكلاهما خاله، وإما علقمة بن قيس النخعي، عم الأسود وعبد الرحمن. وقد روى إبراهيم الحديث عن ثلاثتهم مطولا ومختصرًا، كما مضى بأسانيد رقم: ٣٨٥٤، ٤٢٥٠، ٤٢٩٠، ٤٢٩١ ". وقد رواه أحمد برقم: ٣٥٨٤ من طريق سفيان الثوري، عن سماك، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود، ورواه الترمذي في كتاب التفسير.
١٨٦٧٦- حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، وحدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل، وحدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان جميعًا، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن ابن مسعود: أن رجلا أصاب من امرأةٍ شيئًا لا أدري ما بلغ، غير أنه ما دون الزنا، فأتى النبي ﷺ فذكر ذلك له، فنزلت: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات)، فقال الرجل: ألي هذه يا رسول الله؟ قال: لمن أخذَ بها من أمتي = أو: لمن عمل بها. (٢)
(٢) الأثر: ١٨٦٧٦ - هذه هي الطريق الثانية، لحديث عبد الله بن مسعود، كما أشرت إليه في التعليق على رقم: ١٨٦٦٨. " وأبو عثمان " هو " عبد الرحمن بن مل النهدي " كما سلف مرارًا. وهذا حديث صحيح. ومن هذه الطريق رواه البخاري في صحيحه (الفتح ٢: ٧) من طريق يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي. ثم رواه أيضا (الفتح ٨: ٢٦٨، ٢٦٩)، من الطريق نفسها، بلفظ مختلف قليلا. ورواه مسلم في صحيحه ١٧: ٧٩، ٨٠، من طريق يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي، ثم من طريق محمد بن عبد الأعلى، عن المعتمر بن سليمان، عن سليمان التيمي، وهو أحد طرق أبي جعفر في رواية هذا الخبر، بلفظ آخر. ورواه أحمد في مسنده برقم: ٣٦٥٣، عن يحيى، عن سليمان التيمي. ثم رواه أيضًا برقم: ٤٠٩٤، من الطريق نفسها. ورواه ابن ماجة في سننه ص: ٤٤٧، رقم: ١٣٩٨، وص ١٤٢١، رقم: ٤٢٥٤.
ورواه الترمذي في كتاب التفسير.
١٨٦٧٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة، وحسين الجعفي، عن زائدة قال، حدثنا عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ قال: أتى رجل النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، ما ترى في رجل لقي امرأة لا يعرفها، فليس يأتي الرجل من امرأته شيئًا إلا قد أتاه منها، غير أنْ لم يجامعها؟ (٢) فأنزل الله هذه الآية: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين)، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: توضأ ثم صلّ. قال معاذ: قلت: يا رسول الله، أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ قال: بل للمؤمنين عامة. (٣)
(٢) في المطبوعة: " غير أنه لم يجامعها "، غير ما في المخطوطة، وهو الصواب الجيد.
(٣) الأثر: ١٨٦٧٨ - حديث معاذ، يأتي أيضًا برقم: ١٨٦٨٢.
" أبو أسامة "، هو: " حماد بن اسامة "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا. " وحسين الجعفي "، هو: " حسين بن علي الجعفي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا." وزائدة "، هو: " زائدة بن قدامة "، ثقة، مضى مرارًا. " وعبد الملك بن عمير اللخمي "، المعروف بالنبطي، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: ١٢٥٧٣. " وعبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارا، منها رقم: ٣٣، ٢١٥٦، ٢٩٣٧. وهذا إسناد صحيح. رواه أحمد في مسنده ٥: ٢٤٤ من طريق عبد الرحمن بن مهدي، وأبي سعيد، عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير = وفيه رواية أبي سعيد، عن عبد الملك بن عمير مباشرة. " وأبو سعيد " هو " عبد الرحمن بن عبد الله، مولى بني هاشم، ثقة." وخرجه ابن كثير في تفسيره ٤: ٤٠٤، عن الحافظ الدارقطني، وسيأتي في التعليق على رقم: ١٨٦٨٢. ورواه الترمذي في كتاب التفسير. ثم سيأتي هذا الخبر موقوفًا على عبد الرحمن بن أبي ليلى برقم: ١٨٦٧٩، ١٨٦٨٠.
١٨٦٨٠- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
١٨٦٨١- حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال، حدثني عمرو بن الحارث قال، حدثني عبد الله بن سالم، عن الزبيدي قال، حدثنا سليم بن عامر، أنه سمع أبا أمامة يقول: إن رجلا أتى رسول الله
١٨٦٨٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثني جرير، عن عبد الملك، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل: أنه كان جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل فقال: يا رسول الله، رجلٌ أصاب من امرأة ما لا يحلُّ له، لم يدع شيئًا يصيبه الرجل من امرأته إلا أتاه إلا أنه لم يجامعها؟ قال: يتوضأ وضوءًا حسنًا ثم يصلي. فأنزل الله هذه الآية: (أقم الصلاة طرفي النهار
١٨٦٨٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة: أن رجلا من أصحاب النبي ﷺ ذكر امرأة وهو جالسٌ مع النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذنه لحاجة، فأذن له، فذهب يطلبها فلم يجدها. فأقبل الرجل يريد أن يُبَشّر النبي ﷺ بالمطر، فوجد المرأة جالسةً على غديرٍ، فدفع في صدرها وجلس بين رجليها، فصار ذكره مثل الهُدْبة، فقام نادمًا حتى أتى النبي ﷺ فأخبره بما صنع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: استغفر ربَّك وصلّ أربع ركعات: قال: وتلا عليه: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل)، الآية. (٢)
١٨٦٨٤- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس بن الربيع، عن عثمان بن وهب، عن موسى بن طلحة، عن أبي اليسر بن عمرو الأنصاري قال: أتتني امرأة تبتاع مني بدرهم تمرًا، فقلت: إن في البيت تمرًا أجود من هذا! فدخلت، فأهويت إليها فقبَّلتها. فأتيت أبا بكر فسألته، فقال: استر على نفسك وتُبْ واستغفر الله! فأتيت رسول الله ﷺ فقال: أخلَفْتَ رجلا غازيًا في سبيل الله في أهله بمثل هذا!! حتى ظننت أنّي من أهل النار، حتى تمنيت أني أسلمت ساعتئذ! قال: فأطرق رسول الله ﷺ ساعةً فنزل جبريل فقال: أين أبو اليسر؟ فجئت، فقرأ عليّ: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل)، إلى: (ذكرى للذاكرين)،
(٢) الأثر: ١٨٦٨٣ - " يحيى بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب القرشي "، تابعي ثقة، مضى برقم: ٧٤٧٢.
١٨٦٨٥- حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا قيس بن الربيع، عن عثمان بن موهب، عن موسى بن طلحة، عن أبي اليسر قال: لقيت امرأة فالتَزَمْتُها، غير أني لم أنكحها، فأتيت عمر بن الخطاب رحمة الله عليه فقال: اتق الله، واستر على نفسك، ولا تخبرنّ أحدًا! فلم أصبر حتى أتيت أبا بكر رحمة الله عليه، فسألته فقال: اتق الله واستر على نفسك ولا تخبرن أحدًا! قال: فلم أصبر حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته فقال له: هل جهزت غازيًا في أهله؟ قلت: لا قال: فهل خلفت غازيًا في أهله؟ قلت: لا فقال لي، حتى تمنيت أني كنت دخلت في الإسلام تلك الساعة! قال: فلما وليت دعاني، فقرأ عليّ: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل)، فقال له أصحابه: ألهذا خاصة، أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة. (٢)
١٨٦٨٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثني سعيد، عن قتادة: أن رجلا أصاب من امرأة قُبْلَةً، فأتى النبي ﷺ فقال: يا نبي الله هلكتُ! فأنزل الله: (إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين).
١٨٦٨٧- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
" قيس بن الربيع الأسدي "، سلف مرارًا، آخرها رقم: ١٦٣٦٩، وقد وثقه جماعة، وضعفه آخرون. " وعثمان بن موهب "، هو " عثمان بن عبد الله بم موهب التميمي "، ينسب إلى جده، ثقة. مضى برقم: ١٧٥٦٧. " وموسى بن طلحة بن عبيد الله القرشي "، تابعي ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: ١٧٥٦٧ - ١٧٥٧١. وهذا الخبر رواه الترمذي في كتاب التفسير، وقال: " هذا حديث حسن غريب. وقيس بن الربيع، ضعفه وكيع وغيره. وروى شريك عن عثمان بن عبد الله هذا الحديث، مثل رواية قيس بن الربيع ".
(٢) الأثر: ١٨٦٨٥ - هو مكرر الأثر السالف.
١٨٦٨٨- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد، عن عطاء، في قول الله: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل)، أنّ امرأة دخلت على رجل يبيعُ الدقيق، فقبَّلها فأسقِطَ في يده. فأتى عمر فذكر ذلك له، فقال: اتق الله، ولا تكن امرأةَ غازٍ! فقال الرجل: هي امرأة غازٍ. فذهب إلى أبى بكر، فقال مثل ما قال عمر. فذهبوا إلى النبي ﷺ جميعًا، فقال له: كذلك، ثم سكت النبي ﷺ فلم يجبهم، فأنزل الله: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل)، الصلوات المفروضات = (إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين).
١٨٦٨٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عطاء بن أبي رباح قال: أقبلت امرأة حتى جاءت إنسانًا يبيع الدقيق لتبتاع منه، فدخل بها البيت، فلما خلا له قَبَّلها. قال: فسُقِط في يديه، فانطلق إلى أبي بكر، فذكر ذلك له، فقال: أبصر، لا تكونَنّ امرأة رجل غازٍ! فبينما هم على ذلك، نزل في ذلك: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) = قيل لعطاء: المكتوبة هي؟ قال: نعم، هي المكتوبة =
" ما بال رجالٍ لا يزال أحدهم كاسرًا وسادَه عند مُغْزِية، يتحدَّث إليها وتتحدث إليه! عليكم بالجَنْبة، فإنها عفافٌ. إنما الناس لحمٌ على وضَمٍ إلاّ ما ذُبَّ عنهُ ".
قال ابن جريج: عن يزيد بن رومان: إن رجلا من بني غنم، دخلت عليه امرأةٌ فقبَّلها، ووضع يده على دُبُرها. فجاء إلى أبى بكر رضى الله عنه، ثم جاء إلى عمر رضى الله عنه، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: (أقم الصلاة)، إلى قوله: (ذلك ذكرى للذاكرين)، فلم يزل الرجل الذي قبَّل المرأة يذكر، فذلك قوله: (ذكرى للذاكرين).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واصبر، يا محمد، على ما تلقى من مشركي قومك من الأذى في الله والمكروه، رجاءَ جزيل ثواب الله على ذلك، فإن الله لا يضيع ثوابَ عمل من أحسن فأطاع الله واتبع أمره، فيذهب به، بل يوَفّره أحوجَ ما يكون إليه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فهلا كان من القرون الذين قصصت عليك نبأهم في هذه السورة، الذين أهلكتهم بمعصيتهم إياي، وكفرهم برسلي
* * *
ونصب "قليلا" لأن قوله: (إلا قليلا) استثناء منقطع مما قبله، كما قال: (إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا)، [سورة يونس: ٩٨]. وقد بينا ذلك في غير موضع، بما أغنى عن إعادته. (٥)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٦٩٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: اعتذر فقال: (فلولا كان من القرون من قبلكم)، حتى بلغ: (إلا قليلا ممن أنجينا منهم)، فإذا هم الذين نجوا حين نزل عذاب الله. وقرأ: (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه).
١٨٦٩١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية)، إلى قوله: (إلا قليلا ممن أنجينا منهم)، قال: يستقلَّهم الله من كل قوم.
(٢) انظر تفسير " البقية " فيما سلف ص: ٤٤٧ - ٤٤٩.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: " وعليهم " بإسقاط " ما "، والأجود إثباتها.
(٤) انظر تفسير " الفساد في الأرض " فيما سلف من فهارس اللغة (فسد).
(٥) انظر فهارس مباحث العربية والنحو وغيرهما.
١٨٦٩٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم)، أي: لم يكن من قبلكم من ينهى عن الفساد في الأرض = (إلا قليلا ممن أنجينا منهم).
* * *
وقوله: (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه)، يقول تعالى ذكره: واتبع الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بالله ما أترفوا فيه.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٦٩٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه)، قال: ما أُنْظروا فيه.
١٨٦٩٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه)، من دنياهم.
(٢) في المطبوعة وحدها: " في العذر، والصواب من المخطوطة. ويعني أنه أمر قد فرغ منه، لقول الله سبحانه لنوح: " وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم "، وذلك قبل أن يكونوا، وهو قول أهل الإثبات، من أهل الحق.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: واتبع الذين ظلَموا ما تجبَّروا فيه من الملك، وعتَوْا عن أمر الله.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٦٩٦- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه)، قال: في ملكهم وتجبُّرهم، وتركوا الحق.
١٨٦٩٧- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه، إلا أنه قال: وتركِهم الحق.
١٨٦٩٨- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثل حديث محمد بن عمرو سواء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر تعالى ذكره: أن الذين ظلموا أنفسهم من كل أمة سلفت فكفروا بالله، اتبعوا ما أنظروا فيه من لذات الدنيا، فاستكبروا وكفروا بالله، واتبعوا ما أنظروا فيه من لذات الدنيا، فاستكبروا عن أمر الله وتجبروا وصدوا عن سبيله.
* * *
= وذلك أن المترف في كلام العرب: هو المنعم الذي قد غُذِّي باللذات، ومنه قول الراجز:
نُهْدِي رُءُوسَ المُتْرَفينَ الصُّدَّادْ | إلى أمِير المُؤْمِنِينَ المُمْتَادْ (٢) |
وقوله: (وكانوا مجرمين)، يقول: وكانوا مكتسبي الكفر بالله. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (١١٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما كان ربك، يا محمد، ليهلك القرى، التي أهلكها، التي قَصَّ عليك نبأها، ظُلمًا وأهلها مصلحون في أعمالهم، غير مسيئين، فيكون إهلاكه إياهم مع إصلاحهم في أعمالهم وطاعتهم ربّهم، ظلمًا، ولكنه أهلكها بكفر أهلها بالله وتماديهم في غيِّهم، وتكذيبهم رُسُلهم، وركوبهم السيئات.
* * *
وقد قيل: معنى ذلك: لم يكن ليهلكهم بشركهم بالله. وذلك قوله "بظلم" يعني: بشرك = (وأهلها مصلحون)، فيما بينهم لا يتظالمون، ولكنهم يتعاطَون الحقّ بينهم، وإن كانوا مشركين، إنما يهلكهم إذا تظالموا.
* * *
(٢) سلف البيت وتخريجه وشرح فيما سلف ١١: ٢٢٣، تعليق: ١. ، " الممتاد "، الذي نسأله العطاء فيعطي.
(٣) انظر تفسير " الإجرام " فيما سلف من فهارس اللغة (جرم).
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو شاء ربك، يا محمد، لجعل الناس كلها جماعة واحدة على ملة واحدة، ودين واحد، (١) كما:-
١٨٦٩٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة)، يقول: لجعلهم مسلمين كلهم.
* * *
وقوله: (ولا يزالون مختلفين)، يقول تعالى ذكره: ولا يزال النَّاس مختلفين = (إلا من رحم ربك).
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في "الاختلاف" الذي وصف الله الناس أنهم لا يزالون به.
فقال بعضهم: هو الاختلاف في الأديان = فتأويل ذلك على مذهب هؤلاء: ولا يزال الناس مختلفين على أديان شتى، من بين يهوديّ ونصرانيّ، ومجوسي، ونحو ذلك.
وقال قائلو هذه المقالة: استثنى الله من ذلك من رحمهم، وهم أهل الإيمان.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٧٠٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير عن طلحة بن عمرو، عن عطاء: (ولا يزالون مختلفين)، قال: اليهود والنصارى والمجوس، والحنيفيَّة همُ الذين رحم ربُّك
١٨٧٠٢- حدثني يعقوب بن إبراهيم، وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية قال، أخبرنا منصور بن عبد الرحمن قال: قلت للحسن قوله: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك)، قال: الناس مختلفون على أديان شتى، إلا من رحم ربك، فمن رحم غير مختلفين.
١٨٧٠٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حسن بن صالح، عن ليث، عن مجاهد: (ولا يزالون مختلفين)، قال: أهل الباطل = (إلا من رحم ربك)، قال: أهل الحقّ.
١٨٧٠٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولا يزالون مختلفين)، قال: أهل الباطل = (إلا من رحم ربك)، قال: أهل الحق.
١٨٧٠٥- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
١٨٧٠٦-.... قال، حدثنا معلي بن أسد قال، حدثنا عبد العزيز، عن منصور بن عبد الرحمن قال: سئل الحسن عن هذه الآية: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك)، قال: الناس كلهم مختلفون على أديان شتى، إلا من رحم ربك، فمن رحم غير مختلف. فقلت له: (ولذلك خلقهم) ؟ فقال: خلق هؤلاء لجنته، وهؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته، وخلق هؤلاء لعذابه.
١٨٧٠٧-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، حدثنا أبو جعفر، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: (ولا يزالون مختلفين)، قال: أهل الباطل = (إلا من رحم ربك)، قال: أهل الحق.
١٨٧٠٩-.... قال، حدثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
١٨٧١٠-.... قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك: (إلا من رحم ربك)، قال: أهل الحقّ، ليس فيهم اختلاف.
١٨٧١١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عكرمة: (ولا يزالون مختلفين)، قال: اليهود والنصارى = (إلا من رحم ربك)، قال: أهل القبلة.
١٨٧١٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة، عن ابن عباس: (ولا يزالون مختلفين) قال: أهل الباطل= (إلا من رحم ربك)، قال: أهل الحق.
١٨٧١٣- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، في قوله: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك)، قال: لا يزالون مختلفين في الهوى.
١٨٧١٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك)، فأهل رحمة الله أهل جماعة، وإن تفرقت دورهم وأبدانهم، وأهل معصيته أهل فرقة، وإن اجتمعت دورهم وأبدانهم.
١٨٧١٥- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك)، قال: من جعله على الإسلام.
١٨٧١٧-.... قال، حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد في قوله: (ولا يزالون مختلفين)، قال: أهل الباطل = (إلا من رحم ربك)، قال: أهل الحق.
١٨٧١٨- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا يزالون مختلفين في الرزق، فهذا فقير وهذا غنى.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٧١٩- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر، عن أبيه، أن الحسن قال: مختلفين في الرزق، سخر بعضهم لبعض.
* * *
وقال بعضهم: مختلفين في المغفرة والرحمة، أو كما قال.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك، بالصواب قولُ من قال: معنى ذلك: "ولا يزال الناس مختلفين في أديانهم وأهوائهم على أديان وملل وأهواء شتى، إلا من رحم ربك، فآمن بالله وصدق رسله، فإنهم لا يختلفون في توحيد الله، وتصديق رسله، وما جاءهم من عند الله".
وإنما قلت ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك، لأن الله جل ثناؤه أتبع
* * *
وأما قوله: (ولذلك خلقهم)، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله:
فقال بعضهم: معناه: وللاختلاف خلقهم.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٧٢٠- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن: (ولذلك خلقهم)، قال: للاختلاف.
١٨٧٢١- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا منصور بن عبد الرحمن، قال: قلت للحسن: (ولذلك خلقهم) ؟ فقال: خلق هؤلاء لجنته وخلق هؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته، وخلق هؤلاء لعذابه.
١٨٧٢٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عليه، عن منصور، عن الحسن، مثله.
١٨٧٢٣- حدثني المثني قال، حدثنا المعلى بن أسد قال، حدثنا عبد العزيز، عن منصور بن عبد الرحمن، عن الحسن. بنحوه.
١٨٧٢٤-.... قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن خالد الحذاء، أن الحسن قال في هذه الآية: (ولذلك خلقهم)، قال: خلق هؤلاء لهذه، وخلق هؤلاء لهذه.
١٨٧٢٥- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا هوذة بن خليفة قال، حدثنا
١٨٧٢٦- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ولذلك خلقهم)، قال: خلقهم فريقين: فريقًا يرحم فلا يختلف، وفريقًا لا يرحم يختلف، وذلك قوله: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)، [سورة هود: ١٠٥].
١٨٧٢٧- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء في قوله: (ولا يزالون مختلفين)، قال: يهود ونصارى ومجوس= (إلا من رحم ربك)، قال: من جعله على الإسلام = (ولذلك خلقهم)، قال: مؤمن وكافر.
١٨٧٢٨- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، قال، حدثنا الأعمش: "ولذلك خلقهم "، قال: مؤمن وكافر.
١٨٧٢٩- حدثني يونس قال، أخبرنا أشهب قال: سئل مالك عن قول الله: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)، قال: خلقهم ليكونوا فريقين: فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وللرحمة خلقهم.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٧٣٠- حدثني أبو كريب قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حسن بن صالح، عن ليث، عن مجاهد: (ولذلك خلقهم)، قال: للرحمة.
١٨٧٣١- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: (ولذلك خلقهم)، قال للرحمة.
١٨٧٣٣- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
١٨٧٣٤-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو حفص، عن ليث، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: للرحمة خلقهم.
١٨٧٣٥- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ولذلك خلقهم)، قال: للرحمة خلقهم.
١٨٧٣٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عمن ذكره عن ثابت، عن الضحاك: (ولذلك خلقهم)، قال: للرحمة.
١٨٧٣٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني الحكم بن أبان، عن عكرمة: (ولذلك خلقهم)، قال: أهل الحقّ ومن اتبعه لرحمته.
١٨٧٣٨- حدثني سعد بن عبد الله قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك)، قال: للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال: وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم، لأن الله جل ذكره ذكر صنفين من خلقه: أحدهما أهل اختلاف وباطل، والآخر أهل حق، ثم عقَّب ذلك بقوله: (ولذلك خلقهم)، فعمّ بقوله: (ولذلك خلقهم)، صفة الصنفين، فأخبر عن كل فريق منهما أنه ميَسَّر لما خلق له.
* * *
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت، وإنما معنى الكلام: ولا يزال الناس مختلفين بالباطل من أديانهم ومللهم، (إلا من رحم ربك)، فهداه للحقّ ولعلمه، وعلى علمه النافذ فيهم قبل أن يخلقهم أنه يكون فيهم المؤمن والكافر، والشقي والسعيد خلقهم = فمعنى اللام في قوله: (ولذلك خلقهم) بمعنى "على" كقولك للرجل: أكرمتك على برك بي، وأكرمتك لبرك بي.
* * *
وأما قوله: (وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين)، لعلمه السابق فيهم أنهم يستوجبون صليها بكفرهم بالله، وخلافهم أمره.
* * *
وقوله: (وتمت كلمة ربك)، قسم كقول القائل: حلفي لأزورنك، وبدًا لي لآتينك، ولذلك تُلُقِّيَت بلام اليمين.
* * *
وقوله: (من الجنة)، وهي ما اجتَنَّ عن أبصار بني آدم = (والناس)، يعني: وبنى آدم.
* * *
وقيل: إنهم سموا "الجنة"، لأنهم كانوا على الجنان.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٧٣٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك: وإنما سموا "الجنة " أنهم كانوا على الجنان، والملائكة كلهم "جنة"
١٨٧٤٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي،
* * *
وأما معنى قول أبى مالك هذا: أن إبليس كان من الملائكة، والجن ذريته، وأن الملائكة تسمى عنده الجن، لما قد بينت فيما مضى من كتابنا هذا. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وكلا نقصّ عليك)، يا محمد (٢) = (من أنباء الرسل)، الذين كانوا قبلك (٣) = (ما نثبت به فؤادك)، فلا تجزع من تكذيب من كذبك من قومك، وردَّ عليك ما جئتهم به، ولا يضق صدرك، فتترك بعض ما أنزلتُ إليك من أجل أن قالوا: (لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك) ؟ إذا علمت ما لقي من قبلك من رسلي من أممها، (٤) كما:-
١٨٧٤١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك)، قال: لتعلم ما لقيت الرسل قبلك من أممهم.
* * *
وأختلف أهل العربية في وجه نصب "كلا".
(٢) انظر تفسير " القصص " فيما سلف ص: ٤٧٠، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف من فهارس اللغة (نبأ).
(٤) انظر تفسير " التثبيت " فيما سلف ٥: ٣٥٤، ٥٣١ / ٧: ٢٧٢، ٢٣٧ / ٨: ٥٢٩ / ١٣: ٤٢٧.
* * *
وقد أنكر ذلك من قوله بعض أهل العربية وقال: ذلك غير جائز، وقال إنما نصبت "كلا" ب "نقصّ"، لأن "كلا" بنيت على الإضافة، كان معها إضافةٌ أو لم يكن وقال: أراد: كلَّه نقص عليك، وجعل "ما نثبت" ردًّا على "كلا"، وقد بينت الصواب من القول في ذلك. (١)
* * *
وأما قوله: (وجاءك في هذه الحق)، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله:
فقال بعضهم: معناه: وجاءك في هذه السورة الحق.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٧٤٢- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة، عن خليد بن جعفر، عن أبي إياس، عن أبي موسى: (وجاءك في هذه الحق)، قال: في هذه السورة.
١٨٧٤٣- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن شعبة، عن خليد بن جعفر، عن أبي إياس معاوية بن قرة، عن أبي موسى، مثله.
١٨٧٤٤- حدثنا ابن بشار قال، حدثني سعيد بن عامر قال، حدثنا عوف، عن أبي رجاء، عن ابن عباس، في قوله: (وجاءك في هذه الحق)، قال: في هذه السورة.
١٨٧٤٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن أبي عوانة،
١٨٧٤٦- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن رجل من بني العنبر قال: خطبنا ابن عباس فقال: (وجاءك في هذه الحق)، قال: في هذه السورة.
١٨٧٤٧- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير قال: سمعت ابن عباس قرأ هذه السورة على الناس حتى بلغ: (وجاءك في هذه الحق)، قال في هذه السورة.
١٨٧٤٨- حدثني المثني قال، حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عوف، عن مروان الأصغر، عن ابن عباس أنه قرأ على المنبر: (وجاءك في هذه الحق) فقال: في هذه السورة
١٨٧٤٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد: (وجاءك في هذه الحق) قال: في هذه السورة.
١٨٧٥٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ، في هذه السورة.
١٨٧٥١- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
١٨٧٥٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
١٨٧٥٣- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، مثله.
١٨٧٥٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن أبي جعفر الرازي،
١٨٧٥٥- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد، قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، مثله.
١٨٧٥٦- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أبو رجاء، عن الحسن في قوله: (وجاءك في هذه الحق)، قال: في هذه السورة.
١٨٧٥٧- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن، بمثله.
١٨٧٥٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن شعبة، عن أبي رجاء عن الحسن. مثله.
١٨٧٥٩- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا عبد الرحمن، عن أبان بن تغلب، عن مجاهد، مثله.
١٨٧٦٠- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وجاءك في هذه الحق) قال: في هذه السورة.
١٨٧٦١- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة [مثله]. (١)
١٨٧٦٢- حدثني المثني قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شعبة، عن أبي رجاء قال: سمعت الحسن البصري يقول في قول الله: (وجاءك في هذا الحق)، قال: يعني في هذه السورة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وجاءك في هذه الدنيا الحق.
*ذكر من قال ذلك:
١٨٧٦٣- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثني قالا حدثنا محمد بن جعفر
١٨٧٦٤- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن شعبة، عن قتادة: (وجاءك في هذا الحق)، قال: كان الحسن يقول: في الدنيا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: وجاءك في هذه السورة الحق، لإجماع الحجة من أهل التأويل، على أن ذلك تأويله.
* * *
فإن قال قائل: أو لم يجيء النبي ﷺ الحق من سور القرآن إلا في هذه السورة، فيقال: وجاءك في هذه السورة الحق؟
قيل له: بلى، قد جاءه فيها كلِّها.
فإن قال: فما وجه خصُوصه إذًا في هذه السورة بقوله: (وجاءك في هذه الحق) ؟ قيل: إن معنى الكلام: وجاءك في هذه السورة الحق مع ما جاءك في سائر سور القرآن = أو إلى ما جاءك من الحق في سائر سور القرآن= لا أن معناه: وجاءك في هذه السورة الحق دون سائر سور القرآن.
* * *
وقوله: (وموعظة) يقول: وجاءك موعظةٌ تعظ الجاهلين بالله، وتبين لهم عبره ممن كفر به وكذب رسله (١) = (وذكرى للمؤمنين) يقول: وتذكرة تذكر المؤمنين بالله ورسله، كي لا يغفلوا عن الواجب لله عليهم.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقل، يا محمد، للذين لا يصدّقونك ولا يقرُّون بوحدانية الله = (اعملوا على مكانتكم)، يقول: على هِينَتكم وتمكنكم ما أنتم عاملوه (١) فإنا عاملون ما نحن عاملوه من الأعمال التي أمرنا الله بها = وانتظروا ما وعدكم الشيطان، فإنا منتظرون ما وعدنا الله من حربكم ونصرتنا عليكم، كما:-
١٨٧٦٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج في قوله: (وانتظروا إنا منتظرون)، قال: يقول: انتظروا مواعيد الشيطان إياكم على ما يزيّن لكم = (إنا منتظرون).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولله، يا محمد، ملك كل ما غاب عنك في السموات والأرض فلم تطلع ولم تعلمه، ولم تعلمه، (٢) كل ذلك بيده وبعلمه، لا يخفى عليه منه شيء، وهو عالم بما يعمله مشركو قومك،
(٢) انظر تفسير " الغيب " فيما سلف ١٤: ٣٨١، تعليق: ١، والمراجع هناك.
١٨٧٦٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (وإليه يرجع الأمر كله)، قال: فيقضي بينهم بحكمه بالعدل.
* * *
(فاعبده)، يقول: فاعبد ربك يا محمد = (وتوكل عليه)، يقول: وفوِّض أمرك إليه، وثق به وبكفايته، فإنه كافي من توكل عليه. (١)
* * *
= وقوله: (وما ربك بغافل عما تعملون)، يقول تعالى ذكره: وما ربك، يا محمد، بساه عما يعمل هؤلاء المشركون من قومك، (٢) بل هو محيط به، لا يعزب عنه شيء منه، وهو لهم بالمرصاد، فلا يحزنك إعراضهم عنك، ولا تكذيبهم بما جئتهم به من الحقّ، وامض لأمر ربّك، فإنك بأعيننا.
١٨٧٦٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن الحباب، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن رباح، عن كعب، قال: خاتمة "التوراة"، خاتمة "هود" (٣)
(آخر تفسير سورة هود، والحمد لله وحده)
(٢) انظر تفسير " الغفلة " فيما سلف ص: ١٩٨، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) الأثر: ١٨٧٦٧ - مضى الخبر بتمامه فيما سلف برقم: ١٣٠٤٣، ومن طريق أخرى بمثله، رقم: ١٣٠٤٢.