ﰡ
١٠٣ - قال الله تعالى: (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٥)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري عن محمد بن عباد بن جعفر أن ابن عبَّاسٍ قرأ: (ألا إنهم تثنوني صدورهم) قلت: يا أبا العباس ما تثنوني صدورهم؟ قال: كان الرجل يجامع امرأته فيستحيي، أو يتخلى فيستحي فنزلت: (ألا إنهم تثنوني صدورهم).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة عند ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث مع غيره عند نزولها منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والشنقيطي، وابن عاشور.
وهذا السبب المروي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لا ينسجم مع سياق الآيات فالآية تتحدث عن هؤلاء حديث ذم وقدح، بينما المذكورون في الحديث ليسوا أهلاً للذم بل أهلٌ للثناء والمدح.
وقال ابن عاشور بعد ذكر السبب: (وهذا التفسير لا يناسب موقع الآية ولا اتساق الضمائر. فلعل مراد ابن عبَّاسٍ أن الآية تنطبق على صنيع هؤلاء وليس فعلهم هو سبب نزولها) اهـ.
وما تقدم حق فإن الآية لم تنزل بسبب فعل هؤلاء المسلمين لأن السياق في غيرهم وهذا هو القول الأول.
القول الثاني: ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن الآية نزلت بسبب فعل المنافقين ولهذا قال الطبري: (قال بعضهم: ذلك كان من فعل بعض المنافقين، كان إذا مر برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غطى وجهه وثنى ظهره) اهـ.
وقال القرطبي: (وقيل: قال المنافقون إذا أغلقنا أبوابنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد فمن يعلم بنا؟ فنزلت الآية) اهـ.
وقال الشنقيطي: (وقيل: نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مر بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثنى صدره وظهره، وطوطأ رأسه وغطى وجهه لكيلا يراه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيدعوه إلى الإيمان. حكي معناه عن عبد الله بن شداد) اهـ.
وهذا القول يعكر عليه أمران:
الأول: أن السورة مكية، والنفاق إنما كان بالمدينة، وليس معهوداً الحديث عن المنافقين في العهد المكي، ثم إن النفاق لم يظهر إلا بعد الهجرة، والسورة نزلت قبلها، فكيف تكون أحداث المدينة سبباً لنزول الآيات المكية؟
الثاني: أن الضمير في قوله: (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) يعود على اللَّه وليس على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ذكره عامة المفسرين.
قال الطبري: (إن الهاء في قوله: (منه) عائدة على اسم اللَّه، ولم يجر لمحمد ذكر قبلُ، فيجعل من ذكره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي في سياق الخبر عن اللَّه فإذا كان ذلك كذلك كانت بأن تكون من ذكر اللَّه أولى) اهـ.
وقال ابن كثير: (وعود الضمير إلى الله أولى لقوله: (أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) اهـ.
وقال السعدي: (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أي من اللَّه، فتقع صدورهم حاجبةً لعلم اللَّه بأحوالهم، وبصره لهيئاتهم) اهـ.
وقال الشنقيطي: (والضمير في قوله: (منه) عائد إلى اللَّه تعالى في أظهر القولين) اهـ.
فإن قال قائل: ألا يمكن أن يكون مشركو مكة هم الذين كانوا يفعلون هذا؟
فالجواب: لا يمكن (لأن المشركين يومئذٍ لم يكونوا مصانعين للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) اهـ..
ثم يبقى الإشكال الآخر وهو أن الضمير يعود على اللَّه وليس على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحينئذٍ ينتهي القول الثاني أيضًا، وهو نزولها في المنافقين لأن الآية مكية، ولأن الضمير يعود على اللَّه وليس على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
القول الثالث: أنها تتحدث عن المشركين، ومحاولة استتارهم عن اللَّه جل وعلا.
قال القرطبي: (قوله تعالى: (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أخبر عن معاداة المشركين للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين، ويظنون أنه تخفى على الله أحوالهم) اهـ.
وقال السعدي: (يخبر تعالى عن حهل المشركين وشدة ضلالهم أنهم يثنون صدورهم أي يميلونها (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أي: من اللَّه فتقع صدورهم حاجبة لعلم الله بأحوالهم وبصره لهيئاتهم.
قال تعالى - مبينًا خطأهم في هذا الظن - (أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ) أي
وقال الشنقيطي: (قال بعض العلماء معنى (يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ) يغطون رؤوسهم لأجل كراهتهم استماع كلام الله كقوله تعالى عن نوح: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ).
وقيل: كانوا إذا عملوا سوءاً ثنوا صدورهم، وغطوا رؤوسهم يظنون أنهم إن فعلوا ذلك أخفوا به عملهم على الله جل وعلا. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) اهـ.
وقال ابن عاشور: (حُوِّل أسلوب الكلام عن مخاطبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما أُمر بتبليغه إلى إعلامه بحال من أحوال الذين أمر بالتبليغ إليهم في جهلهم بإحاطة علم الله تعالى بكل حال من الكائنات من الذوات والأعمال ظاهرها وخفيها، فقدم لذلك إبطال وهم من أوهام الشرك أنهم في مكنة من إخفاء بعض أحوالهم عن الله تعالى.
ثم ذكر كلامًا... إلى أن قال: وضمائر الجماعة الغائبين عائدة إلى المشركين الذين أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإبلاع إليهم في قوله: (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) ثم ذكر كلامًا إلى أن قال: وهذا الكلام يحتمل الإجراء على حقيقة ألفاظه من الثني والصدور ويحتمل أن يكون تمثيلاً لهيئة نفسية بهيئة حسية.
فعلى الاحتمال الأول يكون ذلك تعجيباً من جهالة أهل الشرك إذ كانوا يقيسون صفات الله تعالى على صفات الناس فيحسبون أن الله لا يطلع على ما يحجبونه عنه. وقد روي أن الآية أشارت إلى ما يفعله المشركون أن أحدهم يدخل بيته ويرخي الستر عليه، ويستغشي ثوبه، ويحني ظهره ويقول: هل يعلم الله ما في قلبي؟ وذلك من جهلهم بعظمة اللَّه) اهـ.
وبعد ذكر أقوال العلماء أود أن أبين الحقائق التالية:
أولاً: أن الآية مكية، وبناءً على هذا فلا صلة لها بالمنافقين مطلقاً.
ثالثاً: أن استتار المشركين واستخفاءهم كان عن اللَّه ولم يكن عن رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد اختلفت دوافع هذا الفعل عند العلماء:
فقال بعضهم: أن الدافع هو إخفاء أعمالهم السيئة.
وقيل: لئلا يسمعوا كتاب الله تعالى ولا ذكره.
وقيل: ليكتموا ما في قلوبهم.
* النتيجة:
أن الحديث الذي معنا ليس سبب نزول الآية الكريمة لمخالفته سياق الآيات التي تتحدث عن المشركين في مكة واللَّه أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فاتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره فأنزل الله: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) فقال الرجل: يا رسول الله، ألي هذا؟ قال: الجميع أمتي كلِّهم).
وأخرجه مسلم والترمذي بلفظ آخر عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها. فأنا هذا فاقض فيَّ ما شئت. فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت نفسك. فلم يرد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً فقام الرجل فانطلق فأتبعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً دعاه، وتلا عليه هذه الآية: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) فقال رجل من القوم: يا نبي الله هذا له خاصة؟ قال: (بل للناس كافة).
وأخرج الترمذي نحوه من حديث معاذ - رضي الله عنه -.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذه الأحاديث أو بعضها على تفاوت بينهم منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
قال الطبري: (وذكر أن هذه الآية نزلت بسبب رجل نال من غير زوجته ولا ملك يمينه بعض ما يحرم عليه فتاب من ذنبه ذلك) اهـ.
وقال ابن عطية: (وروي أن هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار قيل هو أبو اليسر بن عمرو، وقيل اسمه عباد خلا بامرأة فقبلها... فذكر الحديث) اهـ.
والناظر في سورة هود يجد أنها مكية، وأما القصة فإنها مدنية فهل تكون سبباً لنزول الآية الكريمة؟
ابن العربي في شرح الترمذي: (قال: السابعة: اتفقوا على قوله: فأنزل الله أقم الصلاة) اهـ.
ولا أدري ما يعني بهذا الاتفاق.
وقال ابن عطية: (وروي أن الآية كانت نزلت قبل ذلك واستعملها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك الرجل) اهـ.
وقال ابن عاشور: (والظاهر أن المروي في هذه الآية هو الذي حمل ابن عباس وقتادة على القول بأن هذه الآية مدنية دون بقية هذه السورة لأنه وقع عند البخاري والترمذي قوله: (فأنزلت عليه) فإن كان كذلك كما ذكره الراوي فهذه الآية أُلحقت بهذه السورة في هذا المكان لمناسبة وقوع قوله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) قبلها وقوله: (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)، بعدها.
وأما الذين رجحوا أن السورة كلها مكية فقالوا: إن الآية نزلت في الأمر بإقامة الصلوات، وإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر بها الذي سأله عن القبلة الحرام وقد جاء تائباً ليعلمه بقوله: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) فيؤوّل قول الراوي: فأنزلت عليه، أنه أُنزل عليه شمول عموم الحسنات والسيئات لقضية السائل، ولجميع ما يماثلها من إصابة الذنوب غير الفواحش.
ويؤيد ذلك ما في رواية الترمذي عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قوله: فتلا عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ) ولم يقولا: فأنزل عليه) اهـ.
والظاهر - والله أعلم - أنه ليس الإشكال في السورة هل هي مدنية أو مكية لأنه من الممكن أن تكون السورة مكية في أكثرها وبعضها مدني، والعكس صحيح لكن الإشكال في قوله: (فَأَنزَلَ اللَّهُ) أو قوله: (فتلا عليه) وما ذكره ابن عاشور هنا يحتمل الأمرين.
والظاهر لي - والله أعلم - أن قصة الرجل هي سبب نزول الآية لما يلي:
١ - أن أكثر الروايات تصرح بذكر النزول، فالبخاري، وأحمد، والنَّسَائِي، وابن ماجه لا يذكرون إلا النزول فقط.
وأما مسلم والترمذي ففي أكثر رواياتهم أيضاً لا يذكرون إلا النزول، وفي روايات قليلة ذكروا التلاوة (فتلا عليه)، ومعلوم أن كثرة هؤلاء قرينة من قرائن الترجيح وكيف لا يكون ذلك، والبخاري معهم.
٢ - قول ابن العربي: اتفقوا على قوله: (فأنزل الله أقم الصلاة) ولا أدري من يعني بالمتفقين هل يعني بهم المحدثين وشراح الحديث لأنه قاله في عارضته على الترمذي، أو يعني بهم المفسرين لأنه منهم أيضاً، لا أدري لكن ليس غريباً أن يعني به الطرفين، وإنما المقصود هنا الاتفاق على نزول الآية الكريمة.
٣ - احتجاج المفسرين بالقصة على النزول، وجعلها سبباً لها، ولا ريب أن احتجاجهم هذا يقوي القلب ويجرئُ على الإقدام.
وربما يؤيد النزول: أنه جاء في لفظ مسلم وتلا عليه هذه الآية (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ... ) فقال رجل من القوم: يا نبي اللَّه هذا له خاصة؟ قال: (بل للناس كافة).
وجه الدلالة على النزول: أن الآية لو كانت قد نزلت قبل القصة لكان معلوماً أنها ليست له خاصة لأن مبرر التخصيص لم يوجد بعدُ وهو قصة الرجل مع المرأة، وستكون عامة بدون سؤال، فالسؤال عند القصة يدل على أن الآية حديثٌ نزولُها، والله الموفق للصواب.
فإن قال قائل: ألفاظ الأحاديث التي ذكرتها ليست متطابقة لكنها متشابهة، فهل التشابه يدل على التغاير؟
فالجواب: لو كانت متطابقةً لما ذكرتها لأنها حينئذٍ ستكون حديثاً واحداً، أما التشابه فيدل على التغاير في التفاصيل وسرد القصة، أما أصلها
* النتيجة:
أن قصة الرجل مع المرأة سبب نزول الآية الكريمة لصحة السند، واحتجاج المفسرين به، مع عدم مخالفة ذلك لسياق القرآن واللَّه أعلم.
* * * * *