ﰡ
جزاء المكذب بالدين وصفاته
إن من أهم أسباب الشقاء والانحراف والضلال في الدنيا: هو إنكار يوم القيامة أو يوم الجزاء والحساب، فلو صدّق الناس به تصديقا تاما، لما تجرأ واحد منهم على العصيان والمخالفة، أو الكفر والجحود، أو إهمال الفرائض الإلهية، وتجاوز الآداب والأخلاق القويمة، لأن الخوف من العقاب والتهديد بالعذاب لا ينفع غير المؤمنين بوجود عالم الآخرة، وتذكير السامع بالتخلص من أمراض العصيان، والقسوة على المحتاجين، ومراءاة الناس، ومنع مساعدة الجيران وحجب وسائل العون عنهم وعن غيرهم، إنما يفيد المصدقين بالقيامة، كما جاء في سورة الماعون المكية:
[سورة الماعون (١٠٧) : الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤)الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [الماعون: ١٠٧/ ١- ٧].
قال ابن عباس: نزلت هذه السورة في العاص بن وائل السهمي، وقال السدي:
نزلت في الوليد بن المغيرة. وقيل: في أبي جهل، وكان وصيا ليتيم، فجاءه عريانا يسأله من مال نفسه، فدفعه. ويروى أن هذه السورة نزلت في بعض المضطّرين في
(٢) يدفعه بعنف عن حقه ويزجره.
(٣) لا يحث عليه.
(٤) خزي وعذاب وهلاك.
(٥) غافلون عنها.
(٦) كل ما يستعان به وينتفع منه كالدلو والقدر والفأس ونحو ذلك.
وقال ابن جريج: كان أبو سفيان ينحر كل أسبوع جزورا، فجاءه يتيم، فقرعه بعصا، فنزلت السورة فيه. وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه- فيما
أخرجه ابن المنذر وابن جرير وغيرهما-: سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الذين هم عن صلاتهم ساهون، قال: «هم الذين يؤخرونها عن وقتها»
يريد صلّى الله عليه وسلّم- والله تعالى أعلم- تأخير ترك وإهمال. وإلى هذا نحا مجاهد.
ويؤكد هذا ما أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) قال: نزلت في المنافقين كانوا يراءون المؤمنين بصلاتهم إذا حضروا، ويتركونها إذا غابوا، ويمنعونهم العاريّة، أي الشيء المستعار.
والمعنى: أأبصرت أيها النبي الذي يكذب بالحساب والجزاء؟! أو بالمعاد والجزاء والثواب؟ وقوله: أَرَأَيْتَ وإن كان في صورة استفهام، لكن الغرض بمثله المبالغة في التعجب. وهذا مثال آخر لكون الإنسان في خسر.
هذا الذي يكذب بالقيامة والجزاء، هو الذي يدفع اليتيم عن حقه دفعا شديدا، ويزجره زجرا عنيفا، ويظلمه حقه، ولا يحسن إليه، علما بأن عرب الجاهلية كانوا لا يورّثون النساء والصبيان.
وهذا هو الذي لا يحث نفسه ولا أهله ولا غيرهم على إطعام المسكين المحتاج، بخلا بالمال، كما جاء في آية أخرى: كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الفجر: ٨٩/ ١٧- ١٨].
وإذا كانوا مع المؤمنين صلوا رياء، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا. إن هؤلاء هم الساهون عن صلاتهم، أي التاركون لها، أو الغافلون عنها. قال عطاء بن يسار:
الحمد لله الذي قال: عَنْ صَلاتِهِمْ ولم يقل: (في صلاتهم).
أولئك الساهون عن صلاتهم: هم الذين يراءون الناس بصلاتهم إن صلوا، أو يراءون الناس بكل ما عملوا من أعمال البر، ليثنوا عليهم.
وهم الذين يمنعون الماعون، أي يمنعون الإعارة وفعل الخير. والماعون: كل ما يتعاوره الناس بينهم، من الدلو والفأس والقدوم والقدر ومتاع البيت، وما لا يمنع عادة كالماء والملح، مما ينسب مانعة إلى الخسة ولؤم الطبع وسوء الخلق.
إن هؤلاء المنافقين وأمثالهم من المشركين، لم يحسنوا عبادة ربهم، ولم يحسنوا إلى الناس، حتى بإعارة ما ينتفع به ويستعان به، مع بقاء عينه، ورجوعه إليهم، وهؤلاء لمنع الزكاة وأنواع القربات أشد منعا وبخلا. روى النسائي وغيره عن عبد الله بن مسعود قال: كل معروف صدقة، وكنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عارية الدّلو والقدر.
إن هذه السورة الكريمة تصلح عنوانا بارزا لكل أنواع التكامل والتضامن الاجتماعي فيما بين الناس، حتى تسود المحبة والود، ويتآلف البشر، ويعم الرفاه والاستقرار أنحاء المجتمع، وتعيش كل جماعة في أمن وعافية وسلام.