ﰡ
إيقاع العذاب بالكفار يوم القيامة
أقسم الله تعالى ببعض مخلوقاته تنويها بشأنها على تمام قدرته وشمولها، في إيقاع العذاب بالكفار يوم القيامة، وهذا القسم عظيم يشمل المقسم به من الجبال، والمدّونات الإلهية في الصحف، والكعبة المشرفة، والسماء العالية، والبحار المترعة بالماء، والعذاب المذكور يكتنفه أهوال شدائد، ومخاطر مدلهمة محيطة بأهل العذاب، منها اضطراب السماء، ودك الجبال، وذعر أهل الضلال، ودفعهم بعنف إلى نار جهنم وإدخالهم فيها ومقاساة شدائدها، كما تذكر هذه الآيات في مطلع سورة الطور المكية:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ١ الى ١٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤)وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩)
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤)
أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» [الطور: ٥٢/ ١- ١٦].
(٢) الكتاب المنزل من عند الله وهو يشمل الكتب الأربعة: التوراة والزبور والإنجيل والقرآن وغيرها.
(٣) في جلد رقيق مبسوط.
(٤) الكعبة المشرفة.
(٥) السماء العالية.
(٦) البحر المملوء ماء.
(٧) تتحرك وتضطرب.
(٨) يدفعون دفعا عنيفا.
(٩) ادخلوها.
ويصاحب وقوع العذاب: اضطراب السماء اضطرابا شديدا، وإزالة الجبال من مواضعها كسير السحاب، وصيرورتها هباء كالصوف المندوف.
فويل، أي هلاك وسوء ومشقة أو واد في جهنم لأولئك الذين كذّبوا الرسل، في ذلك اليوم، من شدة هذا العذاب، وهم الذين كانوا يتخبطون في الأباطيل، فيكذبون بالقرآن، ويستهزئون بالنبي. والفاء في قوله فَوَيْلٌ لاتصال المعنى، وهو الاعلام بأمان أهل الإيمان، أما أهل الكبائر من المسلمين فلا يخلّدون في النار، لأنهم لا يكذبون الرسل.
ويكون إلقاء المكذبين في النار بأن يدفعوا إليها دفعا عنيفا شديدا، وفي إهانة وتعتعة. وكلمة يَوْمَ يُدَعُّونَ يوم: بدل من يَوْمَئِذٍ.
ويقال لهم تقريعا وتوبيخا من قبل الزبانية- وهذا كلام محذوف مختصر-: هذه النار التي تشاهدونها هي النار التي كنتم تكذبون بها في الدنيا، والتكذيب بها:
تكذيب للرسول الذي أخبر بها من طريق الوحي.
ويقال لهم أيضا تذكيرا بما كانوا يقولون في الدنيا: أهذا الذي ترون: سحر كما
ومما يقال لهم كذلك تيئيسا لهم وقطعا لرجائهم: ادخلوا النار وتلظوا بحرها، وقاسوا شدائدها، سواء صبرتم عليها أم لم تصبروا، فلا ينفعكم شيء، وعذابكم حتم، جزعتم أم صبرتم، فلا بد من جزاء أعمالكم، والجزاء بالعمل كائن، خيرا أو شرا، كان الصبر أو الجزع، لا محيد لكم عن النار، ولا خلاص لكم منها، ولا يظلم ربك أحدا، بل يجازي كل إنسان بعمله.
هذه أخبار موجعة مؤلمة، تدل على تطبيق مبدأ الحق والعدل، كما تدل على القدرة الإلهية الشاملة، وعلى إثبات يوم الحساب، وما يستتبعه من ثواب أو عقاب، وعلى إمكان البعث.
فالعاقل الذي يريد الخير لنفسه وإسعاد ذاته، يبادر إلى الإيمان بما أخبر الله تعالى به من الغيبيات الأخروية، ومن آمن بشيء بذل كل جهده في التوصل إلى مآربه، والظفر برضوان الله تعالى، فيكون الإيمان بيوم البعث دافعا إلى الخير والعمل الصالح، ومحذّرا من الشر والمنكر والعمل الضار.
وغير العاقل عقلا واعيا يسير على وفق هواه وشهواته، ولا يأبه بهذه المواعظ والزواجر، وتراه مضطرب النفس في الدنيا، حائرا تائها في مسيرة الحياة، وفي الآخرة أشد توجعا وقلقا، ويأسا، وندما، فهو يجني حصاد ما قدم في دنياه، ويلقى المصير المناسب لعمله.
يقابل جزاء الكافرين الموصوف في الآيات السابقة في سورة الطور جزاء المتقين المتميز بروضات النعيم، ليبين الفرق، ويقع التحريض على الإيمان. والمتقون هنا:
هم متقو الشرك، لأن مصير كل مؤمن في النهاية إلى الجنات، وكلما زادت درجة التقوى، تأكد تحصيل نعيم الآخرة، وهذا النعيم ذو ألوان مادية ومعنوية كثيرة، والماديات: أطعمة وأشربة وفواكه وألبسة، ونحوها، تزدان بالخدمات المميّزة، ومن الخدم الغلمان كأنهم لؤلؤ مكنون: وهو أجمل اللؤلؤ. وهذا على خلاف حال الدنيا حيث يكون الخدم في الغالب في قبح وتبذل، لا صون معه ولا جلاء فيه. ويعرف ذلك من الآيات الآتية:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ١٧ الى ٢٨]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١)
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦)
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [الطور: ٥٢/ ١٧- ٢٨].
إن أهل التقوى الذين اتبعوا أوامر الله وابتعدوا عن معاصيه، وتجنبوا الشرك هم في جنات (بساتين) نضرة. ويتنعمون فيها بنعيم دائم، خلافا لما عليه الكفرة من عذاب
(٢) جمع حوراء: وهي المرأة البيضاء، والعين جمع عيناء: الواسعة العين مع شدة سواد المقلة.
(٣) وما نقصناهم بهذا الإلحاق.
(٤) اللغو: ما لا خير فيه. والتأثيم: ما يوقع في الإثم.
(٥) خائفين من عذاب الله.
(٦) اسم النار، والسموم: الريح الباردة أو الحارّة.
وتقول لهم ملائكة الرضوان في الجنة مهنئة لهم: كلوا من طيبات الرزق، واشربوا مما لذّ وصفا وطاب، من غير نكد ولا كدر، بسبب ما قدمتم من أعمال صالحة في الدنيا، تفضلا من الله وإحسانا.
وأنواع المتع الأخرى أنهم والحال يجلسون على أسرّة مصفوفة، متصل بعضها ببعض، حتى تصير صفا واحدا، للدلالة على الاطمئنان والراحة وفراغ البال من الشواغل، ويزوجهم ربهم بقرينات صالحات هن الحور العين: ذوات البياض في الجسم، وبياض العين مع شدة سواد المقلة، وواسعات الأعين.
ومن زيادة النعم والفضل والإحسان: أن الله تعالى يلحق الذرية الذرية المؤمنة كبارا وصغارا على القول الأرجح، بالآباء المؤمنين، والمعنى: يرفع ذرية المؤمن إليه، بشفاعته التي يأذن الله بها. وإن لم يكونوا في التقوى والأعمال كالآباء، فإنه سبحانه يلحق الأبناء بمراتب أولئك الآباء كرامة للآباء، جاء في حديث أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بهم عينه» ثم قرأ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ الآية. وقوله: بِإِيمانٍ: هو في موضع الحال.
ولا ينقص الله الآباء نعمة أو ثوابا لأعمالهم، بإلحاق ذريتهم بهم، وكل إنسان مرتهن يوم القيامة بعمله، فلا يتحمل أحد ذنب شخص آخر، أيا كان أبا أو ابنا،
وأصناف النعم المادية على المتقين هي:
- وَأَمْدَدْناهُمْ أي وزودناهم على ما كان لهم من النعيم فاكهة متنوعة، ولحما مختلفا من أنواع اللحوم، من كل ما تشتهيه أنفسهم وتستطيبه وتلذ به. ولا كلفة في الجنة، فلا يتكلّف فيها الذبح والسلخ والطبخ. روي أن المنعّم إذا اشتهى لحما، نزل ذلك الحيوان بين يديه على الهيئة التي اشتهاه فيها.
- ويتعاطون في الجنة كأسا من خمر الجنة، والكأس: الإناء الذي فيه الشراب، ويتجاذبون الكؤوس مع جلسائهم تجاذب سرور ولهو وملاعبة، لشدة فرحهم، وليس في شراب الآخرة ما يدعو إلى اللغو (الكلام الذي لا خير فيه) والتأثيم (الذي يوقع في الإثم) خلافا لشراب الخمور في الدنيا.
ويطوف (يدور) عليهم للخدمة بالكأس والفاكهة والطعام وغير ذلك فتيان يخدمونهم، كأنهم في الحسن والبهاء لؤلؤ مستور، مصون في الصّدف.
- وأقبلوا يتحادثون، ويسأل بعضهم بعضا في الجنة عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، وما كان فيها من متاعب ومخاوف.
وأجاب المتحدثون سائليهم: إنا كنا في الدنيا خائفين وجلين من عذاب الله، فتفضل الله علينا بالمغفرة والرحمة، ووفقنا للعمل الصالح، ووقانا عذاب السموم (عذاب النار). والسموم: اسم من أسماء جهنم. والسموم: الحارّ، الذي يبلغ مسامّ الإنسان، ويقال للريح الباردة: سموم.
إنا كنا في الدنيا ندعوه، أي نعبده ونسأله المغفرة والرحمة، فاستجاب لنا، إنه سبحانه هو الكثير الإحسان، الواسع الرحمة والفضل.
أمر الله تعالى نبيه بمتابعة التبليغ ونشر الدعوة أو الرسالة، مهما كانت الصعاب، والتحديات الباطلة، والاتهامات الواهية، فليس هو بكاهن ولا شاعر ولا مجنون، وإنما أعداؤه قوم طغاة تجاوزوا الحد في الكفر والعناد، ثم أثبت الله قدرته وتوحيده بخلق البشر وخلق السماوات والأرض، مما يدل على إمكان إعادة الخلق والبعث وليس للمشركين دليل مقبول على عقائدهم الزائغة، ولا سلطان لهم على شيء فلا يضر كيدهم رسول الله، وسينصره الله، ويظهر دينه، ولو كره الكافرون، وهذا ما قررته الآيات الآتية:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٢٩ الى ٤٣]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨)
أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠» [الطور: ٥٢/ ٢٩- ٤٣].
لا تأبه أيها الرسول بمحاولات الصد والإحباط من قومك قريش، واثبت على ما
(٢) ننتظر به حوادث الدهر.
(٣) عقولهم.
(٤) ظالمون مجاوزون الحدود بكفرهم وعنادهم.
(٥) اختلقه وافتراه من عند نفسه.
(٦) القاهرون الغالبون على الأشياء.
(٧) بحجة قوية واضحة.
(٨) غرم: وهو الالتزام بما ليس عليه.
(٩) تدبير مكيدة وشر. [.....]
(١٠) المغلوبون المهلكون.
بل يقولون: إنه شاعر ننتظر به حوادث الأيام ومصائبها، فيموت كما مات غيره، والريب: الشك، وأطلق على الحوادث على سبيل الاستعارة التصريحية، لعدم البقاء والدوام على الحال، والمنون: الدهر، لأنه يقطع الأجل، وهذا إنكار من الله عليهم باتهامهم الرسول مما ليس فيه، ثم هددهم الله: فقل لهم أيها الرسول:
انتظروا موتي أو هلاكي، فإني معكم من المنتظرين عاقبة الأمر، وقضاء الله فيكم.
أأنزل عليهم شيء من السماء، أم تأمرهم عقولهم بهذا الكلام المتناقض، وهو زعمهم أن القرآن سحر أو كهانة، أو شعر، وقولهم في الرسول: إنه كاهن أو شاعر أو مجنون. أم إنهم قوم طغاة تجاوزوا الحد في العناد والضلال عن الحق.
أم إنهم يقولون: إن محمدا اختلق القرآن وافتراه من عند نفسه، بل في الواقع إنهم لا يؤمنون بالله، ولا يصدقون بما جاء به رسوله.
فإن ص دقوا في زعمهم هذا بأن محمدا افترى القرآن، فليأتوا بمثل هذا القرآن في نظمه وسمو بلاغته، وبديع أسلوبه، وعظمة بيانه. والواقع أنهم لو اجتمعت معهم الجن وجميع الإنس، ما جاؤوا بمثله أو بمثل سورة منه ذات موضوع معين.
ثم أبطل الله شرك المشركين وردّ على إنكارهم وحدانية الخالق، فهل وجدوا من غير موجد، أم إنهم أوجدوا أنفسهم؟ وبما أن الأمرين منتفيان عقلا وواقعا، فالله هو الذي خلقهم، وهو الإله الواحد.
وهل خلقوا السماوات والأرض وما فيهما من العجائب، وأسباب العيش، ليدعوهم ذلك إلى التكبر، بل في الواقع إنهم غير مستيقنين حقا بأن الله هو الخالق، خلافا لإقرارهم، فهم لا يوقنون ولا ينظرون نظرا يؤديهم إلى اليقين. وخص الله من
أم عندهم الاستغناء عن الله تعالى في جميع الأمور، فهل يملكون خزائن الله من النبوة والرزق والمال والصحة والقوة وغير ذلك من الأشياء، فيتصرفوا فيها كيف شاؤوا، أم هم المسلطون على المخلوقات، يدبرون أمرها كيف يشاءون؟ الواقع ليس الأمر كذلك، بل الله هو المالك المتصرف في كل شيء وهو الفعال لما يريد.
بل أيقولون: إن لهم سلّما منصوبا إلى السماء والأماكن العالية يصعدون به، ويستمعون فيه كلام الملائكة وما يوحى إليهم، ويطلعون على علم الغيب؟ فليأت مستمعهم إليهم على صحة ما هم فيه بحجة ظاهرة واضحة، كما أتى محمد صلّى الله عليه وسلّم بالبرهان الدال على صدقه، والواقع لا دليل ولا حجة على ما يقولون.
وبعد رد الله على إنكار الكفرة توحيد الألوهية، ردّ على من نسب البنات من الملائكة إلى الله، وأنها نسبة باطلة ولا عدل فيها. والمعنى: بل أتجعلون لله البنات، وتخصون أنفسكم بالبنين؟ وهذا تهديد ووعيد.
بل أتسألهم أجرة يدفعونها إليك على تبليغ الرسالة، فهم من التزام الغرامة مثقلون بحملها، فهم لذلك يكرهون الدخول فيما يوقعهم في الغرامة الثقلية؟! بل أيدّعون أن عندهم علم الغيب، وهو ما في اللوح المحفوظ، فيكتبون للناس ما أرادوا من علم الغيب أو يخبرون بما شاؤوا؟ ليس الأمر كذلك، فلا يعلم الغيب أحد إلا الله تعالى.
بل أيريدون تدبير مكيدة أو مؤامرة كما دبروا في دار الندوة لقتل النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ ولكن النتيجة أن الكافرين هم المكيدون أي المغلوبون المهلكون، سمى الله تعالى غلبتهم كيدا، إذ كانت عقوبة الكيد، من قبيل المشاكلة والمشابهة لما فعلوا أو دبروا.
وهذه الأشياء التي ناقشهم الله بها حصرت جميع المعاني والاحتمالات التي توقع في التكبر والعناد، وهي كلها ليست لهم، ولا يبقى شيء يوجب ما هم عليه إلا أنهم قوم طاغون، وذلك سبب عقابهم.
الإعراض عن الكافرين
لم يدع القرآن الكريم وسيلة للإيمان إلا أتى بها، ولا طريقا للكفر إلا سدّه، وناقش المشركين مناقشة هادئة في عقائدهم، لينقلهم من هذا الداء الخطير إلى الإيمان الصحيح، وحينما استبد العناد بهم، ولم يتزحزحوا عن مواقفهم الضالة، هددهم المولى عز وجل، وأنذرهم بعقاب الدنيا وعذاب الآخرة. وحاولوا الدفاع عن آرائهم، فاقترحوا للتحدي والمعارضة تحقيق بعض المستحيلات، فكان الأمر الإلهي للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم، والصبر في تبليغ الرسالة وإنذارهم، وانتظار وعد الله، والتزام التسبيح لله وحده حين يقوم من منامه أو من مجلسه، وعقب غروب النجوم في آخر الليل، وهذا ما قررته الآيات الآتية:
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٤٤ الى ٤٩]
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩)
«١» «٢» «٣» «٤»
(٢) متراكم بعضه على بعض.
(٣) يموتون أو يقتلون.
(٤) تآمرهم وتدبيرهم.
كانت قريش في جملة ما اقترحت تحقيقه: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الإسراء: ١٧/ ٩٢]. فإن ير هؤلاء المشركون قطعا من نار السماء ساقطة عليهم لتعذيبهم، لما صدّقوا ولما أيقنوا، ولما انتهوا عن كفرهم، وإنما يقولون: هذا سحاب متراكم بعضه على بعض، نرتوي به، وهذا مثل حسي للمكابرة، لإنكارهم ما تبصره الأعين، مفاده: لو رأوا كسفا ساقطا حسب اقتراحهم، لبلغ بهم الغلو والبعد عن الحق أن يغالطوا أنفسهم وغيرهم.
فإذا كان هذا شأنهم، ولم يتركوا كفرهم، فدعهم أيها الرسول، ولا تأبه بهم، حتى يأتي يوم مصرعهم أو موتهم أو قتلهم، مثل يوم بدر. والصعق: التعذيب في الجملة.
وذلك اليوم هو اليوم الذي لا ينفعهم فيه مكرهم ولا كيدهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا، ولا يمنع عنهم العذاب النازل بهم، ولا ينصرهم ناصر، بل هو واقع بهم لا محالة.
وإن للظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي، ومكايدة النبي وعبادة الأوثان، عذابا دون أو قبل عذاب الآخرة، وهو إما قتلهم يوم بدر والفتح ونحوهما، وإما مصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام، وإما عذاب القبر أو الجوع والقحط، غير أن أكثرهم لا يعلمون ما سينزل بهم من العذاب والبأس. وهذا كما في آية أخرى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) [السجدة: ٣٢/ ٢١].
(٢) بحراستنا وحفظنا.
«سبحان الله وبحمده» وقوله: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا معناه بإدراكنا وحفظنا وحيطتنا، وهذه الآية ينبغي أن يقدرها كل مؤمن في نفسه، فإنها تفسح مضايق الدنيا.
والتسبيح والتحميد مرغب فيه في كل وقت، ومنه أداء الصلوات المفروضة، ومنه ما بعد النوم، لما
رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تعارّ من الليل «١»، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: رب اغفر لي، أو قال: ثم دعا، استجيب له، فإن عزم فتوضأ، ثم صلّى، قبلت صلاته».
وأخرج أبو داود والنسائي والحاكم وابن مردويه وابن أبي شيبة، عن أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول بآخر عمره إذا أراد أن يقوم من المجلس:
«سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك».
والتسبيح دائم ليلا ونهارا لقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩) أي وإذا قمت من نومك، فسبّحه، واذكره واعبده في بعض الليل، وفي آخر الليل حين غروب النجوم، لأن العبادة حينئذ أشق على النفس، وأبعد عن الرياء، قال الرازي: والظاهر أن المراد من وَإِدْبارَ النُّجُومِ وقت الصبح حين يدبر النجم،
فتكون هذه الآية عامة في جميع الأوقات، في الليل والنهار، كما جاء في آية أخرى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) [الإسراء: ١٧/ ٧٩].
هذا التوجيه الإلهي بالتسبيح والتحميد يقوّي العزيمة، ويشحذ الإرادة، ويمنح النفس ثقة بالنصر في نهاية الأمر، ويخفف المعاناة والهموم، كلما ضاق الأمر، وحزن الإنسان، وفيه ترويض على الصبر مما يعانيه الداعية إلى الله، حيث وجد الإعراض عن دعوته والصدود، فإن النصر سيكون بمشيئة الله حليفة، لذا صبر النبي صلّى الله عليه وسلّم مدة ثلاثة عشر عاما على أذى قومه، وتابع نشر دعوته، فتحقق له النصر والظفر، وانتشر دينه في الآفاق.