تفسير سورة الرعد

التفسير الوسيط للزحيلي
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

تفسير سورة الرّعد
أدلّة قدرة الله تعالى
تعدّدت البراهين الدّالة على قدرة الله تعالى من إنزال القرآن المجيد، وإبداع السماوات والأرض، وتدبير الخلق، وتسخير الشمس والقمر، وإيجاد أنواع الجبال والأشجار والزروع والثمار وكروم العنب وبساتين النّخيل ذات الطعوم والألوان المختلفة. وهذه أدلّة حسّية مشاهدة تثبت القدرة الإلهية لمن كان له عقل أو فكر أو سمع أو بصر، أشار إليها القرآن في آيات ومناسبات متعددة، كما في مطلع سورة الرّعد المدنيّة:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)
«١» «٢» «٣» »
«٥» «٦» «٧» [الرّعد: ١٣/ ١- ٤].
(١) بغير دعائم.
(٢) بسطها في مرأى العين.
(٣) جبالا ثوابت.
(٤) نوعين.
(٥) يغطي الليل ضوء النهار.
(٦) أي نخلات من أصل واحد، أو من أصول مختلفة، متماثلات وغير متماثلات.
(٧) الثّمر والحبّ. [.....]
1144
افتتحت هذه السورة كسورة البقرة بأحرف هجائية للتّنبيه والتّحدي والدّلالة على إعجاز القرآن المتكوّن من حروف هجائية هي مادّة لغة العرب التي يتفاخرون أنهم سادة البيان فيها. وآيات هذه السورة وآيات القرآن كلها آيات عظام القدر والشّأن، أنزلها الله تعالى على قلب نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهي حقّ لا شكّ فيه، تمثّل جميع الشريعة القرآنية، ولكن أكثر الناس لا يصدّقون بالمنزل إليك من ربّك، ولا يقدرون ما في القرآن من سمو التشريع والأحكام، ورعاية المصالح المناسبة لكل عصر وزمان. وهذا إخبار واقعي عن علم إلهي غيبي دالّ على إعجاز القرآن، ينبئ عن أحوال الناس.
وإنزال القرآن مظهر من مظاهر القدرة الإلهية.
ومن مظاهر قدرة الله تعالى وعظيم سلطانه: أنه سبحانه هو الذي خلق السماوات بغير أعمدة نشاهدها بالعين المجردة، ثم استوى الله على أعظم المخلوقات وهو العرش استواء يليق به، وسخّر أي ذلّل الشمس والقمر، وجعلهما طائعين لما أريد منهما من المنافع للناس، من دوران وضياء، وظهور واختفاء، وكل منهما كغيرهما من الكواكب السّيارة يجري لأجل مسمى، أي لمدة معينة، هي نهاية الدنيا ومجيء القيامة، أو أن الشمس تتم دورتها في خلال سنة، والقمر في أثناء الشهر، قال الله تعالى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحجّ: ٢٢/ ٦٥].
يدبّر الله أمر الكون ويصرّفه على وفق إرادته ومقتضى حكمته، فيحيي ويميت، ويعزّ ويذلّ، ويغني ويفقر، ويهيّئ الأسباب للنتائج والمسبّبات، يفصّل الآيات، أي يبيّن الدلائل الدّالة على وجوده تعالى، ووحدانيته، وقدرته، وحكمته وعلمه ورحمته، رجاء أن تتيقّنوا أيها الناس، أو لتعلموا علم اليقين أن القرآن حقّ، وأن الله قادر على البعث والإعادة، والحساب والجزاء يوم القيامة. فالذي قدر على خلق السماوات والأرض وما بينهما، ودبّر نظام الكون والحياة وشؤون الخلق بدقّة
1145
فائقة، قادر على إحياء الموتى، وإعادة الأرواح إلى أجسادها مرة أخرى، وحساب أصحابها.
والله تعالى أيضا هو الذي بسط الأرض وفرشها ومهّدها، وجعل فيها رواسي، أي جبالا شامخة، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون، لسقاية ما فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال، والطعوم والرّوائح. وجعل في كل صنف من أصناف الثمار زوجين اثنين، أي ذكرا وأنثى، ليتم التّلاقح وحمل الثمرات، يغطّي الله ضوء النهار بظلمة الليل، ويطرد ظلام الليل بنور النهار، كما في آية أخرى:
وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) [النّبأ: ٧٨/ ٩- ١١]، إن في مخلوقات الله، وعجائب خلقه لدلائل وبراهين لمن يتفكّر فيها، ويتأمّل في عظمتها، فيستدلّ بها على وجود الله تعالى، وقدرته، وكمال علمه وإرادته.
ومن الآيات الأرضية أجزاء فيها يجاور بعضها بعضا، ويقترب بعضها من بعض، تربتها واحدة، وماؤها واحد، وهي مع تجاورها مختلفة متغايرة الخواص، فيها بساتين الأعناب، والزروع المختلفة ذات الحبوب المتنوعة للإنسان والحيوان، وفيها أنواع النّخيل المتماثلات وغير المتماثلات صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يسقى كله بماء واحد، ويتغذى بغذاء واحد، ويتفاضل بعضها على بعض في الأشكال والطّعوم ومذاق الأكل، إن في هذا التّفاوت مع وجود مصادر التّشابه لأدلّة باهرة على قدرة الله، لقوم يتدبّرون ويفكّرون فيها ويعقلون أنّ لها خالقا أوجدها ورتّبها. والتّفضيل في الأكل يشمل الأذواق والألوان والملمس وغير ذلك.
1146
إنكار البعث
من المشكلات الكبرى عند الماديين والملحدين والمشركين إنكار وجود عالم آخر بعد عالم الدنيا، لظنهم أن الإنسان مخلوق مادي بالطبيعة، وينتهي وجوده من العالم بالموت، والموت فناء لا رجعة بعده في زعمهم، قائلين كما حكى القرآن عنهم: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) [المؤمنون: ٢٣/ ٣٧].
ونسوا أن الله الذي خلقهم أول مرة قادر على إعادة خلقهم وإحيائهم مرة أخرى، كما جاء في قول الله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [الأحقاف: ٤٦/ ٣٣].
وتعددت ألوان التقريع والتهديد بالعذاب والاستغراب في آي القرآن من مواقف هؤلاء المنكرين ليوم البعث، كما جاء في الآيات التالية:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٥ الى ٧]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧)
«١» «٢» [الرّعد: ١٣/ ٥- ٧].
المؤمن في هذا العالم مطمئن مستقر مرتاح، والكافر قلق متردد يحس بالضيق ويشعر بالمرارة والتأنيب الداخلي، فلا عجب أن يصدر من الكفار حماقات ومكابرات وألوان من العناد، فتراهم كما تصور هذه الآيات، بالإضافة لإنكارهم البعث والقيامة، يستعجلون العذاب والانتقام في الدنيا، ويطالبون بآيات تعجيزية.
(١) القيود أو أطواق الحديد.
(٢) أي عقوبات أمثالهم من المكذبين.
1147
لذا بدئت هذه الآيات بأنه إن تعجب أيها الرسول النبي من تكذيب المشركين لك، وعبادتهم مالا يضر ومالا ينفع من الأصنام، مع ما يشاهدونه في واقعهم من آيات الله الكونية الدالة على قدرته التي لا حدود لها، فالأدعى للعجب والأغرب تكذيبهم بالبعث والقيامة، وقولهم: هل تمكن الإعادة بعد الفناء، أو التفتت ترابا؟ وهل يمكن أن نعود لخلق جديد؟! فحكم الله تعالى عليهم بأحكام ثلاثة لا نجدها في غير هذه الآيات:
الحكم الأول: أنهم أولئك الكافرون الذين جحدوا بربهم وكذبوا رسله، وتمادوا في عنادهم وضلالهم، لأن إنكار قدرة الله تعالى إنكار لوجوده ووحدانيته.
والحكم الثاني: وصف لأحوال عذابهم، فهم أولئك المقيدون بالسلاسل والأغلال، يسحبون بها سحبا في غاية القهر والذل والمهانة.
والحكم الثالث: زجهم في نار جهنم، أولئك هم أصحاب النار خالدون فيها في الآخرة، ملازمون لها، يمكثون فيها على الدوام، لا يحولون عنها ولا يزولون، بسبب كفرهم، وإنكارهم البعث وتكذيبهم الرسول.
ولم يقتصر إنكارهم على عذاب الآخرة، وإنما تهكموا وأنكروا أيضا عذاب الدنيا، فقال الله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي ويستعجلك هؤلاء المكذبون بالعقوبة في دار الدنيا، وهذا غاية الحماقة والتحدي والإمعان في الكفر، فهم يكذبونك أيها النبي بالعذاب الذي أنذرتهم به استهزاء، قبل الحسنة من الإمهال أو الإيمان، والسلامة والعافية من البلاء.
علما بأن هناك أمثلة واقعية يعرفونها، فقد خلت من قبلهم المثلات، وأوقعنا أنواع النقم، وشدائد العقاب بالأمم الخالية، وجعلناهم عبرة لمن اعتبر، وعظة لمن اتعظ. وهذا تبيين لخطئهم في أن يتمنوا المصائب، ويطلبوا إنزال أو إسقاط جزء من
1148
السماء، أو إرسال حجارة تمطر عليهم، ولو كان ذلك لم يحدث قط، لكان لهم العذر.
ثم فتح الله لهم باب الأمل، ورجّاهم بقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ أي إن الله تعالى صاحب عفو وصفح وستر للناس على ذنوبهم في الآخرة، مع أنهم ظلموا أنفسهم، وأخطئوا بالليل والنهار، ولكن الله حليم رؤف بالناس، فهو سبحانه يمهل مع ظلم الكفرة، ويعفو عند التوبة، وهو أيضا شديد العقاب للعصاة الذين أصروا على الكفر والعصيان.
قال ابن المسيب: لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا عفو الله لما تمنى أحد عيشا، ولولا عقابه لا تكل كل أحد».
وقال ابن عباس: «وليس في القرآن أرجى من هذه الآية».
ث م ازداد إمعان المشركين في الكفر والعناد، فطلبوا معجزات مادية على وفق هواهم، وميولهم، وقالوا: لولا يأتينا محمد بآية حسية من ربه، كما أرسل الأولون، مثل عصا موسى، وناقة صالح، ومائدة عيسى، فيجعل لنا جبل الصفا ذهبا، وأن يزيح عنا الجبال، ويجعل مكانها مروجا وأنهارا. فرد الله عليهم متجاوزا مطالبهم، بأن النبي مجرد منذر لقومه من العذاب، وهاد للخير والسداد، ولكل قوم داعية من الأنبياء، يدعوهم إلى الله عز وجل وإلى الدين الحق، وسبيل الخير والرشاد، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: ٣٥/ ٢٤].
علم الغيب
هناك صفات تختصّ بالله عزّ وجلّ، لا يعلم بها البشر، ولا يقدرون على علمها، بسبب كون عقولهم محدودة، وأفكارهم قاصرة، ومن أهم تلك الصفات التي تحدّى الله بها البشر، وأثبت عجزهم وضعفهم: هو علم الغيب في المستقبل القريب أو
1149
البعيد، فالله سبحانه عالم الغيب (ما وراء الطبيعة) والشهادة (عالم المحسوسات المرئية والمسموعة) ليكون ذلك دليلا على ألوهية الله ووحدانيته، دون شريك ولا منافس أو معارض أو شبيه ونظير، قال الله تعالى مبيّنا بعض مظاهر علمه الغيبي:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٨ الى ١١]
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» [الرّعد: ١٣/ ٨- ١١].
أبانت هذه الآيات تمام علم الله تعالى وعلمه بدقائق الأشياء وعظائمها، فهو سبحانه يعلم ما في بطون الأجنّة من ذكورة وأنوثة، ووحدة وتعدّد، وأوصاف وخصائص، وآجال لها، وكل ما يطرأ على ما في الأرحام من بدء تخلّق الحمل، وولادة، وهو ما تغيض به الأرحام، أي ما تنقصه في زمن أو جسم، وما تزداد من نموّ الجنين ومدة مكثه في البطن ووقت ولادته، وكل شيء يدخله التقدير، عند الله تعالى، بأجل معيّن، وبمقدار محدد، لا يزيد عنه ولا ينقص. وجمهور المتأوّلين على أن غيض الرحم إرسال الدّم على الحمل. وقال الضّحاك: غيض الرّحم: أن تسقط المرأة الولد، والزيادة: أن تضعه لمدة كاملة، تامّا في خلقه. ودلّ الإحصاء العلمي على أن الجنين لا يزيد بقاؤه في بطن أمه عن ٣٠٥ أو ٣٠٨ أيام.
والله سبحانه عالم الغيب، أي ما غاب عن الإدراكات، وعالم الشهادة: ما
(١) ما تنقصه.
(٢) بقدر لا يتعدّاه.
(٣) العظيم الأعظم.
(٤) المستعلي على كل شيء.
(٥) ظاهر ذاهب.
(٦) أي له تعالى ملائكة تتعاقب على حفظ الإنسان ورعايته وكتابة أقواله وأفعاله.
(٧) أي بأمر الله وتقديره.
(٨) ناصر أو ولي أمر.
1150
شوهد من الأمور، وهو الكبير الأكبر من كل شيء، المتعال على كل شيء، قد أحاط بكل شيء علما، أي شمل علمه كل شيء، وقهر كل شيء، فخضعت له الرّقاب، وذلّ له العباد طوعا وكرها.
والآية تشمل علم الله بالجزئيات والمفردات والدقائق، وتشمل علم الله بمقادير الأشياء وحدودها، وما يتخصص به كل شيء من أوصاف، ويعلم أشياء خفية لا يعلمها إلا هو، وهو ما غاب عن الحس، وما حضر من المحسوسات.
والله تعالى عالم علما تامّا بأحوال جميع مخلوقاته، سواء ما أسرّوه منها وأخفوه، أو ما أعلنوه وأظهروه، وما هو مختف في ظلام الليل في قعر البيت وجوانبه، وما هو ظاهر ماش بسرعة في ضوء النهار، فإن كلاهما في علم الله على السواء. فكل ما هو بالليل في غاية الاختفاء، وما هو متصرّف بالنهار، ذاهب لوجهته، سواء في علم الله تعالى وإحاطته بهما.
ولله تعالى وسائل تخزين للمعلومات والمعارف وهم الملائكة الحفظة على العباد أعمالهم، والحفظة لهم، فمن حكمته ورحمته تعالى أن جعل للإنسان ملائكة حفظة، يتعاقبون على حفظ الإنسان في الليل والنهار، لحمايته وصونه من المضارّ والطوارئ الجسام، وملائكة آخرون يتعقّبون أعمال العباد ويتّبعونها بالحفظ والتّدوين وكتابة كل ما يصدر عنهم من خير أو شرّ. فالمعقّبات: الجماعات التي يعقب بعضها بعضا، وهم الملائكة.
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربّهم وهو أعلم بهم:
كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلّون، وأتيناهم وهم يصلّون»
.
ثم أوضح الله تعالى مبدءا إلهيّا عظيما: وهو أنه لا عقاب بدون جريمة، فقال:
إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ... أي إن الله لا يبدّل ما بقوم من
1151
نعمة وعافية، وراحة وسلامة، فيزيلها عنهم إلا بتغيير ما بأنفسهم، بأن يصدر منهم الظلم والعصيان والفساد وارتكاب الشرور والآثام.
وإذا أراد الله تعالى بقوم سوءا من فقر أو مرض أو احتلال وغير ذلك من أنواع البلاء، فلا يستطيع أحد أن يدفع ذلك عنهم، وما لهم من غير الله تعالى ناصر يلي أمورهم، ويدفع عنهم الضّرر، فلا أحد يجلب لهم النفع، ويدفع عنهم الضّرّ. وهذا دليل واضح على أن الله قادر على كل شيء، ومتمكّن من إيقاع العذاب بالناس في أي زمن ومكان، فليس من الحكمة والمصلحة في شيء استعجال العذاب، فلكل أجل كتاب، ولكل عمل ميعاد. والشّر والخير بمنزلة واحدة، إذا أرادهما الله بعبد لم يردّ، وهذا تخويف وإنذار.
قدرة الله تعالى
أقام الله تعالى في قرآنه أدلّة واضحة قاطعة على قدرته وحكمته، منها نعمة وإحسان أحيانا، ومنها عذاب ونقمة وقهر أحيانا أخرى، والتّردد بين الحالين: حال النعمة وحال النقمة دليل على الشمول والعموم، لكل حال من الأحوال، ليعرف العبد أن الله ربّ العالمين صاحب السلطان المطلق، والإرادة النافذة التامّة في كل أمر من الأمور، وفي كل شأن من الشؤون. والتذكير بهذا لفت نظر إلى أن الله تعالى لا يغيب وجوده وتأثيره عن أي شيء. قال الله تعالى مبيّنا هذا التّلازم بين الوجود الإلهي في جميع الأشياء وبين مختلف الأشياء:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٢ الى ١٥]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥)
«١»
(١) المحملة بالماء.
1152
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الرّعد: ١٣/ ١٢- ١٥].
هذه ألوان ملموسة محسوسة من مظاهر وآثار القدرة الإلهية، وتنبيه عليها وتذكير بها، فالله بإرادته وتدبيره يري الناس ظاهرة البرق والرّعد، تخويفا وتحذيرا، أما البرق: فهو ما يرى من النّور اللامع ساطعا من خلال السحاب، بسبب تقارب سحابتين في الشحنة الكهربائية، فيحدث الخوف من صواعق البرق، ويظهر الطمع في المطر. والله سبحانه هو الذي يوجد السّحب المحملة المترعة بالماء، فهي ثقال ببخار الماء وما يعقبه من أمطار.
وأما الرّعد: فهو الصوت المسموع خلال السحاب بسبب احتكاك الأجرام السماوية، وتصادم سحابتين مختلفي الشحنة الكهربائية. والرعد بصوته الهادر المخيف يسبح الله تعالى وينزهه، ويعلن بلسان الحال خضوعه لله، وانقياده لقدرته وحكمته.
وتسبّح الملائكة ربّهم وتنزهه عن الصاحبة والولد، لما يرون من جلال الله وهيبته.
روى الإمام أحمد والبخاري في الأدب وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: أنه كان إذا سمع الرّعد قال: «اللهم لا تهلكنا بغضبك، ولا تقتلنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك».
فالرّعد والبرق إما بشير خير أو نذير شرّ.
والله تعالى يرسل الصواعق للتّنبيه على القدرة والتّذكير بالنقمة، ينتقم الله بها
(١) أي القوة وأخذ الأعداء.
(٢) لله دعوة الحق وهي كلمة التوحيد.
(٣) ينقاد ويخضع. [.....]
(٤) أول النهار.
(٥) آخر النهار.
1153
ممن يشاء. وسبب الصواعق: أن السّحب قد تمتلئ بكهربة شديدة، والأرض بكهربة أخرى مخالفة، فإذا قاربت السّحب من الأرض، حصل احتكاك كهربائي تنشأ عنه صاعقة، إذا صادفت شيئا أحرقته. فالله يصيب بالصواعق من يشاء، وعلى الرغم من هذه الأدلة الدالة على قدرة الله وألوهيته، يجادل الكفار، ويشكّون في عظمة الله تعالى وفي توحيده، والله سبحانه هو شديد المحال، أي شديد القوة والأخذ، وهو قادر على مكايدة الأعداء، وعلى إنزال العذاب في أي وقت يشاء.
ولله وحده دعوة الحق، أي لا إله إلا الله أي التوحيد، وله دعوة العباد بالحق، ودعوة الصدق والدعاء والتّضرع، لا لغيره من الأصنام والأوثان، والملائكة والبشر الذين اتّخذهم الناس آلهة، فدعاء غير الله من الأوثان باطل.
والذين يدعون الأصنام والأوثان والمعبودات الباطلة: لا يجيبونهم إطلاقا، ولا يستجيبون لهم دعاء، ولا يسمعون لهم نداء، ولا يحقّقون لهم نفعا، ولا يدفعون عنهم ضرّا. وما استجابتهم إلا كاستجابة الماء لمن بسط كفّيه إليه من بعيد، ليشرب منه وهو عطشان فهو لا يبلغ فمه أبدا. وليست عبادة الكافرين الأصنام إلا في خسار وضياع وبطلان لأن دعاءهم لهم غير مجاب، كما أن دعاءهم الله غير مجاب أيضا لأنهم مشركون، وتكون إجابة الأصنام ونحوها والانتفاع بها غير واقعة.
ومن كمال الله وقدرته وتسخير الأشياء له فقط أنه يسجد له أي يخضع وينقاد له كل شيء طوعا من المؤمنين والملائكة في حال الشّدة والرّخاء، وكرها من الكافرين في حال الشّدة، بل كل شيء في الكون خاضع منقاد لله الخالق الموجد، طواعية واختيارا أو قهرا وإكراها. وكذلك تسجد وتخضع لله ظلال الأشياء كلها بالغدوّ والآصال، أي في الصباح الباكر، وفي المساء المتأخّر.
والسّجود لله دالّ على الرّبوبية، فلا يستحقّ العبادة سوى الله تعالى. قال مجاهد:
1154
«ظلّ الكافر يسجد طوعا وهو كاره» وقال ابن عباس: «يسجد ظلّ الكافر حين يفيء عن يمينه وشماله».
وجود الله ووحدانيته
لا سبيل للعقلاء إلا الإقرار أو الاعتراف بوجود الله وتوحيده، فلو تأمّل الإنسان بفكر هادئ، وموازنة بسيطة بين الأشياء، وحال الكون، لأدرك في النهاية الحتمية، أن الله موجود متصرّف في العالم، قادر على كل شيء، واحد لا إله غيره، ولا سلطان في السماوات والأرض لأحد سواه. وعلى الرغم من أن الله تعالى يسجد له جميع من في السماوات والأرض ويخضع لقدرته وعظمته، فإن عبدة الأصنام ينكرون الوحدانية، فناقشهم القرآن لإثبات وحدانية الألوهية والرّبوبية، حتى لا يجدوا مناصا من إعلان التصديق بها، قال الله تعالى واصفا هذا النقاش:
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٦]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦)
[الرّعد: ١٣/ ١٦].
إن من أبسط الأمور والبديهيات أن الله وحده هو خالق السماء والأرض وما فيهما، وكل شيء في الوجود يعلن أنه مربوب لله، خاضع لسلطانه. ومع هذا جاء السؤال للتقرير والتثبيت، يأمر الله رسوله بسؤال المشركين، من خالق السماوات والأرض؟ وبما أن السؤال عن أمر وتقرير الجواب عنه واضح كل الوضوح، لا مجال لأحد بدفعه والجدال فيه، وإلزام الحجة به، جاء الجواب من غير انتظار:
الله هو ربّ السماوات والأرض، كما قال تعالى في آية أخرى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: ٣١/ ٢٥]. وقل لهم: آن لكم إذن أن تقولوا:
1155
الله خالقهما وربّهما ومدبّرهما، وهو الإله الواحد فيهما لا ندّ له ولا شريك ولا نظير.
ثم أمر الله رسوله أن يقول للمشركين بعد هذا التقرير وإثبات ألوهية الله ووحدانيته: فلم اتّخذتم لأنفسكم من دون الله معبودات جوفاء هي جمادات، لا حركة فيها ولا عقل ولا وعي، ولا تفعل شيئا، ولا تمنع شيئا؟ ومع ذلك تجعلونها أنصارا؟! وإذا كانت تلك الآلهة لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرّا، فهي لا تملك لعابديها بطريق الأولى نفعا ولا ضرّا. فهل يستوي من عبد هذه الآلهة المزيفة مع الله الخالق القادر، ومن عبد الله وحده لا شريك له، فهو على نور من ربّه، وهو البصير المتفتح على الأشياء، المدرك حقائق الأمور. وأما من عبد غير الله فهو أعمى القلب والبصيرة، فاقد العقل والوعي، وهو في ظلمات يتخبّط، وفي متاهات يدور.
وكيف يتساوى الأعمى الذي لا يبصر شيئا، والبصير الذي يدرك الحق، ويهدي الأعمى إليه، وهل يعقل أن تتساوى الظلمات الدامسة العمياء، والنّور الأبلج الواضح، وما مثل الكافر إلا كالأعمى والكفر كالظّلمات، وأما مثل المؤمن فهو كالبصير المدرك، والإيمان كالنّور المبين الذي يضيء الآفاق ودروب الحياة.
ثم قال تعالى: أَمْ جَعَلُوا أي بل جعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرّبّ وتماثله في الخلق، فيتشابه خلق الشركاء بخلق الله، وهذا محض الباطل، ومجرد الوهم القاتم، فإن معبودات المشركين إذا زعموا أنها تخلق شيئا، وهم يعبدونها، فإنهم ضالّون مخطئون، إنهم لا يخلقون شيئا، وهم يخلقون، فكيف يشركونها في العبادة؟
أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون. هل رأوا خلقا لغير الله، فحملهم ذلك ودعاهم اشتباهه بما خلق الله، على أن جعلوا إلها غير الله؟!
1156
ليس الأمر كما زعموا، فإن الله تعالى لا يشبهه شيء من خلقه، ولا يماثله شيء، ولا ندّ له ولا وزير، ولا نظير ولا شبيه، ولا والد له ولا ولد ولا صاحبة، وهؤلاء المشركون عبدوا آلهة مزيّفة عاجزة، وهم معترفون أنها مخلوقة لله، وهم عبيد له، بإقرارهم وقولهم كما حكى القرآن عنهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزّمر: ٣٩/ ٣]. ثم أمر الله نبيّه محمدا عليه الصّلاة والسّلام أن يعلن بكل فصاحة عن صفات الله تعالى في أنه خالق كل شيء، خالق السماء والأرض، والإنسان والحيوان، والأشياء الحيّة والجامدة، وهو الإله الواحد، الغالب على كل شيء، فكيف تعبدون أصناما لا تنفع ولا تضرّ؟!
مثل الحقّ والباطل
على الرغم من أن الحقّ قوي واضح ومطابق للواقع، والباطل واه ضعيف مغاير للواقع، فإن بعض الناس- جهلا وحماقة منهم أو ضعف إدراك أو مكابرة وعنادا، أو تأثّرا بأهواء وميول ومصالح معينة- يتنكرون للحق والإيمان وأهل كلّ منهما، ويؤازرون الباطل والضّلال والشّك في الدين والإيمان وحقائق كلّ منهما بسبب سوء الاستعداد وتأييد الانحراف والميل مع أهواء الشيطان. ولقد أحسن القرآن العظيم حين جعل مثل الحق وأهله في ثباته وبقائه وشبّهه بالماء النازل من السماء، الذي ينفع الأرض والناس، وشبّهه أيضا بالمعدن الذي ينتفعون به في صياغة الحلي المعتاد واتّخاذ الأواني والآلات المختلفة، وجعل مثل الباطل في اضمحلاله وفنائه وسرعة زواله وانعدام منفعته، وشبّهه بزبد السّيل أو رغوته الذي يرمي به، وزبد المعدن أو شوائبه، الذي يطفو فوقه إذا أذيب. قال الله تعالى:
1157

[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٧ الى ١٩]

أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الرّعد: ١٣/ ١٧- ١٩].
هذه الآيات مثال واضح للحقّ والباطل، والإيمان والكفر، والشّك في الشّرع واليقين به، والحقّ هو القرآن والإيمان في ثباته ونفعه، والباطل هو الكفر في الاضمحلال والفناء. ومثل الحق كالمطر النازل من السماء الذي تسيل منه الأودية غزارة وضعفا بحسب صغرها وكبرها أو مقدارها، والقلوب كهذه الوديان تتفاوت في استيعاب الإيمان سعة وضيقا، وهذا هو الثابت النافع، وأما زبد السّيل الطّافي فوقه، فهو مثل الباطل في زواله وانعدام نفعه.
والمثل الثاني: هو أن الحقّ كالمعدن النافع من ذهب أو فضّة ونحوهما من المعادن التي يستفاد منها فوائد كثيرة، والباطل: هو ما يعلو تلك المعادن من شوائب وأخلاط طافية عند انصهارها أو إذابتها في النار.
وعقّب الله تعالى على المثلين بقوله: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ أي إن التشبيه المذكور مثل الحقّ والباطل إذا اجتمعا، فالحق في استقراره ونفعه كالماء المستقرّ النافع، وكالمعدن النّقي الصّافي. والباطل في زواله وعدم نفعه كالرغوة التي يقذفها السّيل على جوانبه، وكشوائب المعدن التي يطرحها ويتخلّص منها عند انصهاره،
(١) بمقدارها.
(٢) الزّبد: الرّغوة. ورابيا: مرتفعا.
(٣) الخبث الطّافي عند إذابة المعادن.
(٤) مرميا به مطروحا.
(٥) بئس المستقرّ جهنم.
1158
فيبقى الحقّ ويثبت، ويزول الباطل ويتبدّد. وما أجمل وأحكم هذا التشبيه وبيان النتائج، فأما الزّبد الطّافي فوق الماء فيزول ويقف على جانبي السّيل وفوق قدور المراجل، وأما النافع من الماء والمعدن فيبقى مستقرّا في الأرض، فيشرب الإنسان والحيوان والنبات والزرع من الماء، وتستفيد البشرية من المعادن الصافية بالحلي والصناعات المختلفة.
وعقّب الله تعالى على استقرار النافع وتبدّد الضّار بقوله: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ أي إنه تعالى كما بيّن لكم هذه الأمثال، فكذلك يضربها بيّنات واضحات، لإيضاح الفارق المتميّز بين الإيمان والكفر، والحق والباطل.
والقرآن الكريم يجسّد الحق ونور الإيمان بإحياء القلوب، كما يحيي الماء الأرض بعد موتها ويبسها، وكما ينفع المعدن النّقي الناس في منافع كثيرة. وأما الكفر والضّلال والشّرك، فهو عديم النفع سريع الزوال، ويتبدّد فورا. وما ضرب هذا المثل إلا لخير الإنسان الذي كرّمه الله بالعقل ليختار النافع وهو الإيمان، ويترك الضّارّ المتلاشي وهو الكفر، فيكثر أهل الحق والإيمان بالحق والنّور، ويضعف أهل الضلال والكفران بالباطل والظلام.
ثم ذكر الله تعالى مصير أهل الحق وأهل الباطل، ومآل السعداء والأشقياء، ترغيبا وترهيبا، فقال: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى أي إن الذين يطيعون الله ورسوله، وينقادون لأوامره، ويصدّقون أخباره، لهم الجزاء الحسن ونعيم الجنة، والخلود الأبدي في دار النعيم. والذين لم يستجيبوا لربّهم، فلم يطيعوا الله ورسوله، لا ينفعهم الفداء في الآخرة بجميع ما في الدنيا من أموال وأضعاف ما فيها، فلا يمكنهم أن يفتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهبا ومثله معه. ولو كان لهم كل ما في الدنيا، وقدّموا فداء من العذاب، لا يتقبّله الله منهم على الإطلاق. أولئك الذين
1159
لم يطيعوا الله، لهم سوء الحساب والعذاب، ومرجعهم إلى النار ومستقرّهم فيها، وبئس المستقرّ والفراش تلك النار الموقدة التي تفوق بحرارتها كل ما عرفته البشرية من أفران عادية وذرّية عالية التّوتر تصهر كل شيء.
بعد هذا البيان الرهيب والواضح سلفا لا يستوي من يعلم أن المنزل إليك من ربّك يا محمد هو الحقّ الثّابت الذي لا شكّ فيه، فأخباره وشرائعه كلها حقّ وعدل، لا يستوي هذا ومن لم يصدّق برسالتك يا محمد، وكان أعمى لا يبصر الحق ولا يدرك المصلحة الحقيقية، ولا يختار ما فيه خير وهداية، وسعادة وإنقاذ. قال تعالى:
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) [الحشر:
٥٩/ ٢٠].
الأوصاف الاجتماعية لأولي الألباب
عني القرآن الكريم بتربية الفرد والجماعة تربية فاضلة متماسكة، يعود خيرها وانعكاساتها على الناس جميعا، لأن القرآن والإسلام رسالة إصلاح وإنقاذ، وتقدّم وبناء، وعطاء وإحسان. وكل من يسهم في هذا البناء الاجتماعي للأمة فهو ترجمان القرآن والإيمان الصحيح، وكل من يشذّ أو ينحرف أو يسيء لأسرته ومجتمعة، فهو تلميذ الشيطان وعدو الأمة، لذا وصف الله أهل الإيمان والاستقامة بأنهم أولو الألباب والعقول الرشيدة، ووصف أهل الضّلال والانحراف بأنهم ذوو الجهالة والحماقة، فقال الله تعالى:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٠ الى ٢٤]
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤)
1160
«١» «٢» [الرّعد: ١٣/ ٢٠- ٢٤].
يصف الله تعالى في هذه الآيات أولي الألباب الذين يسّرهم للإيمان برسالة النّبي والقرآن، واعتقدوا أن ما أنزل الله هو الحقّ بالصفات التالية:
١- الوفاء بالعهد: فالمؤمنون الصادقون يوفون بما عاهدوا الله عليه من الإيمان بربوبيّته وبالمواثيق والعهود كلها بينهم وبين ربّهم، وهي أوامر الله ونواهيه التي وصّى بها عبيده، وهذا يشمل جميع الفرائض والواجبات والشرائع والأحكام والآداب والأخلاق، والامتناع عن جميع المخالفات والمعاصي.
٢- عدم نقض الميثاق: أي إنهم يلازمون أداء الأوامر واجتناب النّواهي مدى الحياة، ولا يخلّون بواجبات العهد والتزاماته، ولا ينقضون أي بند من بنود العهد الإيماني مع ربّهم، ولا بالعقود التي يبرمونها مع الناس من بيع وشراء وإيجار واستئجار وشركة ونحوها، على عكس ما نشاهده اليوم أن كثيرا من الناس، يبرمون العقود مع غيرهم، ويتّفقون على الشروط، ثم يتحلّل الواحد منهم من العقد كله أو بعضه، ضاربا بكلامه الذي التزم به عرض الحائط. وهذا اللون من نقض العقد أو فسخه ينقلهم من حديقة الإيمان ونور الحقّ والقرآن إلى دائرة النفاق الاجتماعي،
قال عليه الصّلاة والسّلام- فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما-: «آية المنافق ثلاث:
إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان»
.
٣- صلة ما أمر الله بوصله: من حقوق الله ومؤازرة النّبي والقرآن، وحقوق العباد التي من أهمها وأولاها: صلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران، والمحتاجين
(١) يدفعون.
(٢) عاقبتها المحمودة وهي الجنات.
1161
والفقراء لأن من شأن المؤمن أن يعمّ خيره ويدوم نفعه، ويؤدي واجبه نحو غيره لإرضاء ربّه، دون أن يقصد نفعا مادّيا لنفسه أو طمعا في مال أو جاه أو وظيفة، فإن الله ربّ العباد هو الميسّر للخير والمانع من الشّر، والعبد مجرد أداة ووسيلة.
٤- الخوف من الله وخشية عذابه: أي إن أولي الألباب هم الذين يخافون ربّهم فيما يأتون، وما يتركون من أعمال، ويراقبون الله في السّرّ والعلن، يخلصون النّية والقصد لوجه الله، ويحذرون من شدّة العذاب، وسوء الحساب في الآخرة لأن عاقبة ذلك وخيمة وهي الزّج في نيران جهنم.
٥- الصّبر: يصبر العاقل الرشيد على طاعة ربّه، واجتناب معصيته لأن في الطاعة عزّ النفس ونجاتها، وفي المعصية الذّلّ والانكسار، والندم والخسران. ويشمل الصبر لوجه الله جميع الأحوال من الرّزايا والأسقام والعبادات.
٦- إقام الصّلاة المفروضة: فالعقلاء هم الذين يؤدّون ما أوجب الله عليهم من الصلاة كاملة الأركان تامّة الشروط والأوصاف، مع خشوع القلب لله، وخضوع النفس لربّ العباد.
٧- الإنفاق في وجوه الخير: إن المؤمنين الصادقين هم الذين ينفقون بعض أموالهم في السّر والعلن في مرضاة الله، من غير قصد الشهرة والرّياء، والتّباهي والسّمعة، ويفعلون ذلك بقصد التقرب إلى الله، وجب الخير، والرفاه لعباد الله جميعا، من غير تفرقة بين مؤمن وغير مؤمن لأن الإنسان يتخلّق بأخلاق الله في إمداد العباد بالرّزق، سواء آمنوا أو كفروا. وذلك هو السّمو بذاته والرّفعة بعينها.
٨- مقابلة الإساءة بالإحسان: إن المؤمن الصادق هو الذي يترفّع عن الأخذ بالثّأر والانتقام، ويردّ السّيئة ويدفعها بالحسنة، فيقابل الجهل بالحلم، والأذى بالصبر، والضّرر بالنّفع، والإساءة بالعفو والصّفح وكظم الغيظ.
1162
هؤلاء العقلاء (أولو الألباب) الموصوفون بالصفات السابقة، هم لا غيرهم لهم العاقبة الحسنة والسعادة في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا ينتصرون على الأعداء، وفي الآخرة يدخلون الجنة بفضل من الله وإحسان. تلك العاقبة الحسنى هي الظفر بجنان الخلد، التي يقيم فيها الصالحون والأنبياء والمرسلون، يدخلونها هم وصالحو المؤمنين من آبائهم وأجدادهم وفروعهم وذرّياتهم، يتنعّمون بخيراتها. وتدخل عليهم الملائكة من أبواب الجنة المختلفة تحييهم وتسلّم عليهم قائلين لهم: سلام دائم عليكم، ورحمة سابغة من ربّكم، بسبب صبركم في دنياكم على الطاعة، وتجنّب المعصية، والرّضا في المصاب بالقضاء والقدر، والحمد والشكر على نعم الله، فنعم عقبى الدنيا الجنة. وما أسعد العمال الذين أحسنوا العمل، وأتقنوا الصنعة، إذا ظفروا بالجزاء الحسن: من تقدير وحبّ، وسمعة واحترام، ومكافأة مجزية، تجعلهم راضين رضا كاملا في نفوسهم، مطمئنين مرتاحي البال والضمير لأن غيرهم قدّر عملهم.
أوصاف الأشقياء
واقع الحياة الدنيا وأحوال الناس فيها عجيب غريب، فمنهم أهل الحق والاستقامة وهم السعداء بالفعل، ومنهم أهل الباطل والانحراف، وهم الأشقياء بالفعل، وكل امرئ بما كسب رهين، وبحسب ما يزرع كل إنسان يحصد في الدنيا والآخرة، فمن زرع نباتا طيّبا، استفاد منه وأفاد الآخرين، ومن زرع نباتا خبيثا، أضرّ نفسه وأضرّ الآخرين، ولا غرابة بعدئذ أن يجازى المحسنون أعمالهم بجنان الخلد، ويجازى الأشرار والفجّار بنيران الجحيم، وذلك هو مقتضى العدل. وقد وصف الله تعالى أهل الشقاوة بما يأتي:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٥ الى ٢٩]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)
1163
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» »
[الرّعد: ١٣/ ٢٥- ٢٩].
وصف الله تعالى في الآية الأولى الأشقياء بصفات ثلاث وهي:
١- نقض عهد الله: أي إنهم ينكثون بعهد الله الذي ألزم عباده به وأمرهم بفعله، سواء فيما يتعلق بالإيمان بوجود الله ووحدانيته وقدرته وعلمه وإرادته، أو بالإيمان بالأنبياء والرّسل والكتب المنزلة من عند الله، أو يتعلق بحقوق الناس.
٢- قطع ما أمر الله به أن يوصل: أي قطع كل ما أوجب الله وصله، من الإيمان بالله وبرسله وكتبه، وقطع الرحم والقرابة، وعدم صلة المؤمنين وأصحاب الحقوق.
روي: «إذا لم تمش إلى قريبك برجلك، ولم تواسه بمالك، فقد قطعته».
٣- الإفساد في الأرض: أي ويفسدون في الدنيا بأعمالهم الخبيثة، من الظلم والجور، والدعوة إلى غير دين الله، وخيانة الأمانة، وتخريب الديار، وإفساد الأخلاق، وإثارة الفتن والضّلالات، وإيقاد نيران الحروب ظلما وعدوانا.
أصحاب هذه الصفات يستحقون اللعنة، أي الطّرد من رحمة الله والإبعاد من خيري الدنيا والآخرة، ولهم سوء العاقبة والمآل، وهو عذاب جهنم.
ثم أبان الله تعالى أن تقدير الأرزاق في الدنيا بين العباد منوط بإرادة الله وحكمته، لأن الدنيا دار امتحان، وليس لها قيمة تذكر عند الله تعالى، فقد يبسط
(١) عاقبتها السيئة هي النار.
(٢) يضيّقه على من يشاء.
(٣) المتاع: ما يتمتع به مما لا يبقى.
(٤) رجع بقلب إلى الله.
(٥) عيش طيب. [.....]
(٦) مرجع.
1164
الله الرّزق للكافر، ويقتّره على المؤمن، وذلك لا يدلّ على تكريم الكافر وإهانة المؤمن، فإن سعة الرزق قد تكون دليلا على التّورّط والاستدراج والإضرار، وتضييق الرزق قد يكون زيادة في الأجر والثواب. والمعنى إن هذا كله بمشيئة الله، يهب الكافر المال ليهلكه به، ويقدره على المؤمن ليعظم بذلك أجره وذخره. لهذا عاب الله الأغنياء الأشقياء وحقّر شأنهم وشأن أموالهم، فلا يصح لهم أن يفهموا أن زيادة الرزق والغنى ووفرة المال لكونهم يستحقون ذلك، وإنما قد يكون ذلك تعذيبا لهم، فإذا فرح المشركون والكافرون فرح بطر وتكبّر بالحياة الدنيا ومتعها، وجهلوا ما عند الله من الخير الدائم الخالد في الآخرة والسعادة الأبدية، فإن فرحتهم يعقبها الغصّة والألم، لأن الحياة الدنيا في ميزان الآخرة مجرد متاع زائل، وشيء قليل ذاهب، يزول بسرعة كالبرق الخاطف، لمن تأمل ووعى.
روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما الدّنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم يرجع، وأشار بالسّبابة».
وقد يتمادى أهل الثروة والطغيان فيطالبون بمطالب مادّية تعجيزية لا فائدة منها، مثلما فعل مشركو مكة الذين اغتروا بمتاع الحياة الدنيا، وطمست المادة وحبّ الدنيا قلوبهم ومشاعرهم، فاقترحوا على النّبي صلّى الله عليه وسلّم إنزال آيات مادّية غريبة كإسقاط السماء عليهم كسفا، أي قطعا، أو تسيير جبال مكة من أماكنها، وجعل البطاح محارث وبساتين ومغارس، وإحياء الماضين والأسلاف، علما بأن مثل هذه المقترحات لا تكون عادة إلا إذا أراد الله تعذيب قوم، فردّ الله عليهم بأن نزول هذه الآيات لا يؤدي بالضرورة إلى إيمانهم ولا هداهم، وإنما الأمر بيد الله يضلّ من يشاء بسبب علمه بفساد الضّال، ويهدي من يشاء إلى طاعته والإيمان به بسبب إيمانه بالآيات الدّالة على حقيقة الإيمان، وإنابته لطاعة الرحمن.
1165
إن هؤلاء الذين يستحقون الهداية هم الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله، وسكنت قلوبهم إلى توحيد الله ووعده، وسرّوا بذكر الله واطمأنت قلوبهم إلى ربّهم، ورضوا بالثواب الإلهي والفضل والإحسان الرّبّاني، ولم يشكّوا بشيء من أصول الإيمان، ولم يتبرموا أو يستخطوا على مراد الله وقدره، وتلك هي السعادة الحقيقية: سكون القلب، وهدوء البال، والبعد عن القلق والاضطراب مصدر أكثر الأمراض، ألا بذكر الله تطمئن القلوب وتهدأ، وتلتزم باليقين ويستقرّ فيها الإيمان الكامل، وتفيض بنور الإيمان، وتشعر براحة النفس.
إن هؤلاء المؤمنين الذين امتلأت قلوبهم بالإيمان الصحيح وبرد اليقين، وعملوا صالح الأعمال بأداء الفرائض وترك المعاصي لهم العيش الطيب الهنيء، والنعمة والخير، وحسن المرجع والثواب، وهذا هو المراد بقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩) [الرعد: ١٣/ ٢٩]. والمآب: المرجع والمآل. وكلمة (طوبى) إما اسم أو مصدر، فهي اسم شجرة في الجنة، أو هي بمعنى الخير والنعمة والغبطة والعيش الطّيب للمؤمنين.
النّبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن الكريم
إن علاقة الرّسل عليهم السّلام بأقوامهم علاقة صعبة وشائكة ودقيقة، لأن أولئك الأقوام قوم عتاة أشداء، وتوارثوا عادات معينة، وألفوا البدائية والفوضى وممارسة الأهواء والشهوات، والأنبياء والرّسل ذوو رسالة إصلاحية شاملة في العقيدة والشريعة والآداب القويمة، يريدون أن ينقلوا الأقوام من همجيات أفعالهم إلى نور المعرفة والإيمان والمدنية والنور، وذلك الانتقال يحتاج لجهود كبيرة وتضحيات جسمية، فيقع الصّراع والتّحدي بين النّبي وقومه، وهكذا كانت الحال مع رسول
1166
الله صلّى الله عليه وسلّم ومشركي قريش في مكة المكرمة: حال قائمة على الصّراع الحادّ والتّحدي، كما وصف الله في الآيات التالية:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢)
«١» «٢» «٣» «٤» [الرّعد: ١٣/ ٣٠- ٣٢].
لقد أبان الله تعالى في هذه الآيات قيمة وأهمية إرسال النّبي صلّى الله عليه وسلّم وقيمة ما أرسل به وعظمة القرآن الكريم المنزل عليه، فمثل ذلك الإرسال للأنبياء السابقين أرسلناك أيها الرسول محمد إرسالا له شأن وفضل على سائر الإرسالات، كما قال الزمخشري، ومهمتك في هذا الإرسال واضحة، أرسلناك بكتاب تبلّغه للناس وتقرؤه عليهم، كما أرسلنا رسلا إلى أمم من قبلك، ولما كذّب الرّسل، انظر كيف نصرناهم وجعلنا العاقبة لهم، ولأتباعهم في الدنيا والآخرة. وأما المرسل إليهم فكانوا يكفرون بالرّحمن الذي وسعت رحمته كل شيء، لا يقرّون به، ولا يشكرون نعمه وفضله، وأخطر ما يقولون: إن لله شريكا، فكان الرّد المأمور به عليهم: قل لهم أيها الرسول: إن الرّحمن الذي تكفرون به، أنا مؤمن به معترف، مقرّ له بالرّبوبية والألوهية، فهو متولّي أمري وخالقي، لا إله غيره ولا معبود سواه، توكّلت عليه في جميع أموري، وفوّضتها إليه، وإليه أرجع وأنيب، فإنه لا يستحقّ ذلك أحد سواه.
(١) إلى الله مرجعي.
(٢) يعلم ويتبين.
(٣) داهية تقرعهم بالبلايا.
(٤) أمهلت.
1167
ثم بيّن الله تعالى عظمة القرآن وفضله على سائر الكتب المنزلة قبله، فلو كان هناك في الكتب الماضية كتاب تسيّر بتلاوته الجبال عن أماكنها، أو تقطّع به الأرض وتشقق وتجعل أنهارا وعيونا، أو تكلّم به الموتى في قبورهم لإحيائهم بقراءته، لكان هذا القرآن هو المتّصف بتلك الصفات، دون غيره، بل هو الأولى، لما فيه من الإعجاز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لاشتماله على الآيات الكونية الدّالة على وجود الله، والشرائع والأحكام المنظمة لعلاقات الناس، والكفيلة بإسعادهم في الدّارين.
وكان هذا الوصف ردّا على مشركي قريش الذين طالبوا بآية تعجيزية مادّية تثبت نبوّة النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
روى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن الشعبي قال: قالت قريش لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن كنت نبيّا كما تزعم، فباعد جبلي مكة أخشبيها (جبلين فيها) هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة، فإنها ضيقة، حتى نزرع فيها ونرعى، وابعث لنا آباءنا من الموتى، حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبي، أو احملنا إلى الشام أو اليمن أو إلى الحيرة، حتى نذهب ونجي، في ليلة، كما زعمت أنك فعلته، فنزلت هذه الآية.
ردّ الله عليهم بقوله: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أي بل مرجع الأمور كلها إلى الله عزّ وجلّ، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو صاحب الأمر والإرادة في إنزال الآيات المادّية وغيرها، وهو القادر على كل شيء.
أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً أي ألم يعلم (أي أن ييأس في لغة هذيل بمعنى يعلم) المؤمنون أن الله قادر لو شاء على هداية الناس جمعيا إلى الإيمان بالقرآن، أو أن ييأس بمعناها المعروف من اليأس، والمعنى: أفلم ييأس المؤمنون من إيمان هؤلاء الكفرة، مع العلم بأن الله لو شاء لهدى الناس جميعا.
ثم أخبر الله تعالى عن كفار قريش والعرب أنهم لا يزالون تصيبهم قوارع من
1168
سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وغزواته، من القتل والأسر وأخذ الأموال، أو تحلّ القارعة الدّاهية قريبا من ديارهم، فتصيب من حولهم ليتّعظوا ويعتبروا، حتى يأتي وعد الله أي حتى ينجز الله وعده لك أيها الرسول فيهم، بنصرك عليهم، إن الله ينجز وعده الذي وعدك به حتما، ولا يتخلف الله الميعاد، بالنصر عليهم. وهذه هي حال الكفار أبدا إلى يوم القيامة، حتى يتّعظوا ويقلعوا عن كفرهم.
ثم أورد تعالى آية تأنيس ومواساة للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، مفادها: لا يضيق صدرك يا محمد بما ترى من قومك وتلقى منهم، فليس ذلك ببدع ولا نكير، فإن كذّبك بعض قومك، واستهزأ بك المشركون منهم، وطلبوا آيات منك عنادا ومكابرة، فاصبر على أذاهم، فلك في الرّسل المتقدمين أسوة، حيث أنظرت أولئك الكافرين وأجّلتهم مدة من الزمان، ثم أوقعت بهم العذاب، فانظر كيف كان عقابي لهم حين عاقبتهم. وقوله سبحانه: فَكَيْفَ كانَ عِقابِ تقرير وتعجيب، وفي ضمنه وعيد للكفار المعاصرين لمحمد عليه الصّلاة والسّلام، ولكل من جحد برسالته وأعرض عن دعوته إلى يوم القيامة.
من الأحقّ بالعبادة؟
إن الحرب المركزة والعنيفة الشعواء على الشّرك والوثنية في منهج الإسلام وجميع الأديان، إنما كانت من أجل إنهاء هذه الظاهرة الشاذة التي لا تتفق مع العقل السّوي والكرامة الإنسانية، ولتوجيه الإنسان نحو ما ينفعه ويدفع عنه الضّرّ بالفعل، وليترفع عن عبادة ما لا ينفع ولا يضرّ بحال من الأحوال، وهذا يحقق سموّ الإنسان. لذا وبّخ القرآن الكريم أولئك المشركين الوثنيين الذين عبدوا جمادات صماء، لا حركة فيها ولا حياة، ولا تفيد شيئا، ولا تمنع شرّا، فقال الله سبحانه:
1169

[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]

أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥)
«١» «٢» [الرّعد: ١٣/ ٣٣- ٣٥].
هذا لون من النّقاش والحجاج الهادئ مع المشركين يتضمن توبيخا لهم وتعجيبا من عقولهم، ونفي الدليل النقلي والدليل العقلي على استحقاق تلك الشركاء أي لون من العبادة. والمعنى: إن الله مطّلع على كل نفس، عالم بما يكسب كل إنسان من أعمال الخير والشّر، ولا يخفى عليه خافية، قادر على كل شيء، فكيف يجعلون القادر العالم، كمن لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرّا، وكيف يتّخذونه ربّا يطلبون منه النّفع ودفع الضّرر، والمراد نفي المماثلة المطلقة. وقوله سبحانه: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ معناه: أفمن هو هكذا أحقّ بالعبادة أم الجمادات التي لا تضرّ ولا تنفع؟! كيف يقبل الوثنيون بشيء من التّفكر والتّأمل عبادة الأوثان، وكيف يتخذون شركاء لله، عبدوها معه، من أصنام ونحوها، عاجزة مخلوقة لا شيء لديها من مقومات الفاعلية والحركة؟! وهذا يستتبع توبيخا وتحدّيا لهم، كما في قوله سبحانه: قُلْ سَمُّوهُمْ.. أي صفوهم لنا، وأعلمونا بهم، واكشفوا عنهم حتى يعرفوا، فإنهم لا حقيقة لهم، وليسوا أهلا للعبادة، لعدم تصوّر أي نفع منهم أو دفع ضرّ أو جلبه منهم، أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ يراد به: أتخبرونه بشركاء معبودين لا وجود لهم لأنه
(١) حافظ.
(٢) ثمرها المأكول دائم لا ينقطع.
1170
لو كان لها وجود في الأرض، لعلمها الله الذي لا تخفى عليه خافية، وهذا نفي لوجودها، والاستفهام استفهام توبيخ. وهو إضراب عن قولهم وتقرير مضمونه: هل تعلمون الله بما لا يعلم؟! وكلمة أَمْ بمعنى بَلْ وألف الاستفهام، على مذهب سيبويه.
بل أتسمّونهم شركاء بظنّ ظاهر أجوف من القول أنهم ينفعون ويضرّون، أم بباطل من القول، والمعنى: إنما عبدتم هذه الأصنام بظنّ منكم أنها تنفع وتضرّ، وسميتموها آلهة، وهو ظنّ فاسد، ووصف باطل، وتصوّر خطأ محض، لا أساس له من الصحة والواقع. هل يريدون تجويز ذلك بظاهر من الأمر؟ لأن ظاهر الأمر فيه التباس وموضع احتمال؟ وما لم يكن إلا بظاهر من القول فقط، فلا شبهة له.
بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ الواقع أنه لا فائدة من نقاش المشركين ومحاجتهم، فإنهم قوم زيّن لهم كفرهم وكيدهم وسخفهم، وهو ما هم عليه من الضّلال والدعوة إليه آناء الليل وأطراف النهار. ومَكْرُهُمْ لفظ يعمّ أقوالهم وأفعالهم المناقضة للشرع. وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ أي وتأكيد للواقع أنهم صرفوا عن سبيل الحقّ وسبيل الله والدّين الأقوم، بما زيّن لهم من صحة ما هم عليه.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ومن يخذله الله لكفره وعصيانه وضلاله، فماله من أحد يوفقه إلى الهداية وسلوك طريق النجاة والسعادة.
ثم جاءهم الوعيد الإلهي الرهيب والإنذار بالجزاء الشديد، وهو أن لهم عذابا مؤلما في الدنيا بأيدي المؤمنين، بالقتل والأسر والذّلّ والدّمار، والبلاء ألوان:
المصائب في أجسامهم وغير ذلك، ولهم عذاب الآخرة وهو الاحتراق في نيران الجحيم الذي هو أشدّ وأصعب وأنكى من عذاب الدنيا، وليس لهم ساتر يقيهم أو يحميهم من ذلك العذاب.
1171
وأما أتقياء المؤمنين المبتعدين عن كل ألوان الشّرك، فلهم ثواب الجنة ذات الجمال المطلق والراحة الأبدية، ونعت الجنة أو وصفها الذي يشبه المثل في الغرابة، تلك الجنة التي وعدها الله للمتقين ذات أنهار تجري في أنحائها وجوانبها، وحيث شاء أهلها، يفجّرونها تفجيرا، ويوجّهونها حيث أرادوا، ما يؤكل فيها من المطاعم والمشارب دائم مستمر لا ينقطع، وكذلك ظلّها دائم، لا ينسخ ولا يزول، فليس فيها شمس ولا حرّ ولا برد، تلك الجنة هي عاقبة ومصير أهل التقوى، وعاقبة الكافرين النار، بسبب كفرهم وذنبهم. والمراد أن ثواب المتقين منافع خالصة عن الشوائب، موصوفة بصفة الدوام. والآية إطماع للمؤمنين المتّقين، وإقناط للكافرين، قال الله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) [مريم: ١٩/ ٦٣]. وقال سبحانه:
وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [الزّخرف: ٤٣/ ٧١].
موقف أهل الكتاب والمشركين من نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم
كان المعارضون لدعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم فريقين: فريق المؤمنين المؤيدين، وفريق الجاحدين المنكرين الذين يتمسكون بشبهات واهية وأعذار ساقطة، لتسويغ انحرافهم بتأويلات لا يمكن قبولها أو الحماس لها، فاستحقت أن تطوى من تاريخ الفكر والعلوم. وهكذا أصبحت أفكارهم منقولة على سبيل التعجب من انحدار العقل البشري، والاتّعاظ من آفة الضلال التي تعصف بأصحابها وتهوي بهم في دركات الجحيم. قال الله تعالى واصفا موقف بعض أهل الكتاب والمشركين المعترضين على تصرّفات النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأحكام دينه:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٦ الى ٣٩]
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩)
1172
«١» «٢» [الرّعد: ١٣/ ٣٦- ٣٩].
هذه الآيات وصف لأحوال المعاصرين للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، فهناك مؤمنو أهل الكتاب الذين يفرحون بما ينزل على النّبي صلّى الله عليه وسلّم في القرآن من تصديق شرائعهم وما يألفونه من أحكام ربّهم، وهم جماعة من اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه، وسلمان الفارسي وجماعة، من نصارى الحبشة واليمن ونجران، وعددهم ثمانون رجلا.
وهناك جماعة أخرى من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمجوس الذين تحزّبوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مثل كعب بن الأشرف اليهودي والسيد والعاقب أسقفي نجران وأتباعهم، هؤلاء ينكرون بعض ما جاءك أيها النّبي من الحقّ، وهو ما لم يوافق شرائعهم أو ما حرّفوه منها.
فجاء الرّد الإلهي عليهم، وأمر الله تعالى رسوله أن يطرح اختلافهم، وأن يصدع بأنه إنما أمر بعبادة الله، وترك الإشراك والدعاء إليه، واعتقاد المآب إليه، وهو الرجوع عند البعث إلى الله يوم القيامة. وهذا إعلان صريح بأن دعوة الإسلام تقوم على مبدأ التوحيد ورفض الشّرك، وإثبات البعث والحساب يوم القيامة.
ثم أوضح الله تعالى منهج القرآن وأسلوبه في الدعوة إلى التوحيد والإيمان بالله، بأسلوب عربي فصيح، واضح، سهل الفهم، وقريب التّلقي. فكما أرسلنا قبلك المرسلين أيها النّبي، وأنزلنا عليهم الكتب، كذلك سهلنا عليهم في ذلك وتفضّلنا في
(١) إلى الله مرجعي للجزاء.
(٢) اللوح المحفوظ وعلم الله الواسع.
1173
تفصيل أصول الاعتقاد، فأنزلنا عليك القرآن الكريم محكما لا زيغ فيه، معربا بلسان قومك: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا.. ليسهل عليهم فهمه وحفظه، ويبين لهم الأمور، ويفصل بين الحقّ والباطل، فيوضح الحلال والحرام، والشرائع والأحكام والأنظمة المؤدية لسعادة الدنيا والآخرة. والحكم في قوله تعالى: حُكْماً عَرَبِيًّا: ما تضمنه القرآن من المعاني بلغة العرب الفصحى.
ولئن اتّبعت يا محمد- على سبيل الافتراض- آراء تلك الفرق الضّالة، وهذا يتناول المؤمنين إلى يوم القيامة، مثل مجاملتهم في باطل عقائدهم وأهوائهم، بعد ما عرفت الحق، وجاءك العلم الصحيح، فليس لك ناصر ينصرك من الله، ولا حافظ ولا مانع يمنع عنك العقاب، وينقذك من العذاب. وهذا وعيد شديد لأهل العلم أن يتّبعوا سبيل أهل الضّلالة، بعد ما عرفوا الدين الحق، وهو أيضا حسم وقطع لأطماع المعارضين الكفرة في إقرار ما هم عليه، وتهييج للمؤمنين للثبات على دينهم.
ثم ردّ الله تعالى على طعن اليهود والمشركين بتعدّد زوجات النّبي صلّى الله عليه وسلّم ومضمون الرّد: كما أرسلناك يا محمد رسولا بشرا، كذلك جعلنا الأنبياء المرسلين قبلك من البشر، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق ويتزوجون النساء، وينجبون الذّرّية والأولاد، فليس شأنك بدعا جديدا، فقد تقدّم هذا في الأمم، ثم زجر المقترحين من قريش بإنزال الملائكة، المتعجبين من كون الرسول بشرا، بأنه ليس في وسع النّبي محمد وغيره أن يأتي بمعجزة خارقة للعادة إلا بإذن وتمكين من الله، ليس ذلك إليه، بل إلى الله عزّ وجلّ يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولكل حادث أو كتاب أو كائن وقت معين وزمن محدد، ولكل وقت حكم يقرر على العباد، بحسب المصالح والأحوال يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ أي يبدل في الأشياء وينقلها كغفر الذنوب بعد تقريرها، ونسخ آية بعد تلاوتها واستقرار حكمها، وعند الله أصل الكتاب
1174
الدائم: وهو اللوح المحفوظ وعلم الله الشامل الذي لا يتغير في حقّه، وإن تبدّل في حقّ بني آدم، فتلك الأشياء المقدرة في الأزل، التي دونت في أم الكتاب، لا يصح فيها محو ولا تبديل لأن القضاء سبق بها وهي ما استقرّ في نهاية الأمر، وإن تغيّرت مسيرته. فأمّ الكتاب: هو ديوان الأمور المخزونة التي سبق القضاء فيها بما هو كائن من غير تبديل.
الأمر بتبليغ الرّسالة
لكل رسول من الرّسل الكرام مهمة واضحة ووظيفة محددة، من أجل صالح البشرية، وتصحيح مسيرتها، ووضع الأنظمة الملائمة لحياتها، وإذا تحققت هذه المهمة أو الوظيفة، أصبح مضمونها حجة على البشر، ووجب عليهم العمل بها، والتزام ما جاء فيها، لخيرهم وإسعادهم. وفي عالم الآخرة: الحساب والجزاء على ما يقدمه الناس من خير أو شرّ، ولا ينفع مكر أو كيد، أو إنكار وإهمال، أو هروب من المسؤولية. قال الله تعالى:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٤٠ الى ٤٣]
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣)
«١» [الرّعد: ١٣/ ٤٠- ٤٣].
يحدّد الله تعالى في هذه الآيات موقف الرسول صلّى الله عليه وسلّم من ألوان طلبات المشركين
(١) لا رادّ ولا مبطل له.
1175
العنادية، تبيانا للواقع، وتهدئة لنفس النّبي، ووعدا بنصره. وهذا الموقف يتجلى في أنه إن أريناك يا محمد في حياتك بعض وعيد المشركين من خزي ونكال، أو توفيناك قبل إرادتك ذلك، فما عليك إلا تبليغ رسالة ربّك، فمهمتك تبليغ رسالة الله، وقد فعلت ما أمرت به، وليس عليك تحقيق النتائج والتوصل إلى صلاحهم، وعلينا حسابهم ومجازاتهم على ما قدموا من خير أو شرّ. وقوله سبحانه: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ بتخصيص البعض بالذّكر: مفهومه أن الأعمار تقصر عن إدراك جميع ما تأتي به الأقدار، مما يوعد به الكفار، وأن فتوحات المسلمين تأتي في المستقبل.
ألم ير أولئك المشركون في مكة أن الله يأتي إلى أرض الكفر، فينقصها شيئا فشيئا، ويفتحها المسلمون تدريجا، أرضا بعد أرض، ويتحقق لهم النصر، وتتسع أرض الإسلام على التوالي، حتى يعمّ الدنيا. والله يقضي القضاء المبرم، ولا يردّ حكمه النافذ، وليس لأحد أن يتعقّب أحكام الله، أي ينظر في أعقابها، فيناقشها أو يبطلها، وينظر أهي مصيبة أم لا؟ والله محاسب عباده قريبا في الآخرة، وعقابه آت لا محالة، فلا تستعجل عقابهم أيها النّبي، فإن الله محاسبهم ومعذّبهم في الآخرة بعد أن عذّبهم في الدنيا بالقتل والأسر والهزيمة. وسرعة حساب الله واجبة لأنها بالإحاطة والشمول، وليست بعدد قليل أو كثير.
وأما مكائد قومك قريش أيها النّبي فاصبر عليها ولا تأبه بها، فلقد مكر الكفار السابقون برسلهم، وأرادوا طردهم من بلادهم، وعذّبوهم، كما فعل النمرود بإبراهيم، وفرعون بموسى، واليهود بعيسى، وكما فعلت عاد وثمود وإخوان لوط، فمكر الله بهم، أي أحاط بمكرهم وأحبط خططهم وتدابيرهم. والمكر: ما يتمرّس بالإنسان، ويسعى عليه، سواء علم بذلك أو لم يعلم. وقوله سبحانه: فَلِلَّهِ الْمَكْرُ
1176
جَمِيعاً
أي العقوبات التي أحلّها بهم، وسماها مكرا على ما عرف: تسمية المعاقبة باسم الذنب، كقوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: ٢/ ١٥].
وفي قوله تعالى: يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ تنبيه وتحذير في طيّ إخبار، والمعنى:
أن الله تعالى عالم بجميع السرائر والضمائر، وسيجزي كل عامل بعمله، فينصر أولياءه، ويعاقب الماكرين. ثم توعّدهم الله سبحانه بقوله: وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ
أي سيتحقق الكفار لمن تكون العاقبة المحمودة والنهاية الحسنة من الفريقين:
المؤمنين والكافرين، حيث تكون تلك العاقبة لأتباع الرّسل في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا النصر، وفي الآخرة الجنة.
ثم ردّ الله على منكري نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم بقوله: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا.. أي يقول الجاحدون النّبوة: لست نبيّا مرسلا من عند الله، تدعو الناس لعبادة الله وحده، وهجر الأصنام والأوثان، وترك الظلم والفساد. فقل يا محمد:
حسبي الله وكافيني أنه شاهد لي بصدق رسالتي، ومؤيد دعوتي، بما أنزله علي من القرآن المعجز، ومن الآيات البيّنة الدالة على صدقي. وكفاني أيضا بعد شهادة الله:
شهادة علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى كعبد الله بن سلام اليهودي وأصحابه وتميم الداري وسلمان الفارسي، بما وجدوه لديهم في التوراة والإنجيل من بشارة برسالتي، وأوصاف لا تنطبق على من سواي.
1177
Icon