ﰡ
(مكية وقيل مدنية سوى آية نزلت بجحفة قوله وَهُمْ يَكْفُرُونَ حروفها ٣٥٠٦ كلمها ٨٥٥ آياتها ٤٣)
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١ الى ١١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩)
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١)
القراآت:
وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ بالرفع فيهن: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحفص والمفضل. الآخرون بالجر فيهن عطفا على أَعْنابٍ. يُسْقى بالياء المثناة من تحت على تقدير يسقى كله أو للتغليب: ابن عامر وعاصم ويزيد ورويس. الباقون بتاء
الوقوف:
المر كوفي آياتُ الْكِتابِ ط لا يُؤْمِنُونَ هـ وَالْقَمَرَ ط مُسَمًّى ط يوقنون هـ وَأَنْهاراً ط النَّهارَ ط يَتَفَكَّرُونَ هـ بِماءٍ واحِدٍ ز قف لمن قرأ وَنُفَضِّلُ بالنون فِي الْأُكُلِ ط يَعْقِلُونَ هـ جَدِيدٍ ط بِرَبِّهِمْ ط فِي أَعْناقِهِمْ ج النَّارِ ج خالِدُونَ هـ الْمَثُلاتُ ط عَلى ظُلْمِهِمْ ج لتنافي الجملتين الْعِقابِ هـ مِنْ رَبِّهِ ط هادٍ هـ وَما تَزْدادُ ط بِمِقْدارٍ هـ الْمُتَعالِ ٥ بِالنَّهارِ هـ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ط ما بِأَنْفُسِهِمْ ط فَلا مَرَدَّ لَهُ ج لاختلاف الجملتين والٍ هـ.
التفسير:
تِلْكَ الآيات التي في هذه السورة آيات السورة العجيبة الكاملة في بابها وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي القرآن كله هو الْحَقُّ الذي لا محيد عنه والمراد أنه لا تنحصر الحقية في هذه السورة وحدها. ثم أخذ في تفصيل الحق فبدأ بالدلالة على صحة المبدأ والمعاد فقال: اللَّهُ وهو مبتدأ خبره الَّذِي أو الموصول صفة المبتدأ، وقوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ خبر بعد خبر. والعمد بفتحتين جمع عمود وهو ما يعمد به الشيء شبه الأسطوانة. وقوله: تَرَوْنَها كلام مستأنف على سبيل الاستشهاد أي وأنتم ترونها مرفوعة بلا عماد. وقال الحسن: في الآية تقديم وتأخير تقديره رفع السموات ترونها مرفوعة بغير عمد وفيه تكلف. وقيل: ترونها صفة للعمد. ثم زعم من تمسك بالمفهوم أن للسموات عمدا لكنا لا نراها وما تلك العمد؟ قال بعض الظاهريين: هي جبل من زبرجد محيط بالدنيا يسمى جبل قاف. ولا يخفى سقوط هذا القول لأن كل جسم لو كان يلزم أن يكون معتمدا على شيء فذلك الجبل أيضا كان معتمدا على شيء وتسلسل. وقال بعض من ترقى في حضيض الصورة إلى ذروة عالم المعقول:
المراد كونهما متحركين إلى يوم القيامة وبعد ذلك تنقطع الحركات وتنتهي المسيرات كقوله:
وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الأنعام: ٢] واللام للتاريخ كما تقول: كتبت لثلاث خلون. وإنما قال في سورة لقمان إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [لقمان: ٢٩] موافقة لقبيل ذلك ومن يسلم وجهه إلى الله والقياس لله كما في قوله: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمران: ٢٠] يُدَبِّرُ الْأَمْرَ إجمال بعد التفصيل أي أمر العالم العلوي والعالم السفلي من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى بحيث لا يشغله شأن عن شأن، لأن تدبيره لعالم الأرواح كتدبيره لعالم الأشباح، وتدبيره للكبير كتدبيره للصغير لا يختلف بالنسبة إلى قدرته أحوال شيء من ذلك في الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة وتبديل الصور والأعراض وتغيير الأشكال والأوضاع يُفَصِّلُ الْآياتِ الدالة على وحدانيته وقدرته، ويحتمل أن يراد بتدبير الأمر تدبير عالم الملكوت، ويكون معنى تفصيل الآيات إنزال الكتب وبعث الرسل وتكليف العباد الذي هو أثر ذلك العالم في العالم السفلي. ويجوز أن يكون تدبير الأمر إشارة إلى القضاء، وتفضيل الآيات إشارة إلى القدر. وقوله: لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ على كل التفاسير إشارة إلى إثبات المعاد لأن المقر بتدبيره وتقديره على الأنهاج المذكورة لا بد أن يعترف باقتداره على الإعادة والجزاء.
ولما ذكر الدلائل السماوية أتبعها الدلائل الأرضية فقال: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ قال الأصم: أي بسطها إلى ما لا يدرك منتهاه، وهذا الامتداد الظاهر لحس البصر لا ينافي كريتها لتباعد أطرافها وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت في أحيازها غير منتقلة عن أماكنها. وكيفية تكوّن الجبال على بسيط الأرض لا يعلم تفصيلها إلا موجدها. وزعمت الفلاسفة أنها من تأثير السموات في الأجزاء الأرضية القابلة لذلك الأثر بعد امتزاجها بالأجزاء المائية وغيرها، وقد يعين على ذلك نزول الأمطار وهبوب الرياح وهذا إن صح
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ أي بقاع مختلفة مع كونها متجاورة ومتلاصقة طيبة إلى سبخة، وصلبة إلى رخوة، وصالحة للزرع لا للشجر إلى أخرى على خلافها، وفي هذا دلالة ظاهرة على أنها بجعل فاعل مختار موقع لأفعاله على حسب إرادته، وكذا الكروم والزروع والنخيل الكائنة في هذه القطع مختلفة الطباع متخالفة الثمار في اللون والطعم والشكل وهي تسقى بماء واحد، فدل ذلك على أن هذه الاختلافات لا تستند إلى الطبيعة فقط ولكنها بتقدير العزيز العليم. وإنما ذكر الزرع بين الأعناب والنخيل لأنها كثيرا ما تكون كذلك في الوجود كقوله جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً [الكهف: ٣٢] والصنوان جمع صنو وهي النخلة لها رأسان وأصلهما
قوله صلى الله عليه وسلم: «عم الرجل صنو أبيه» «١».
فمعنى الآية على هذا أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة وقد لا تكون، والأكل الثمر الذي يؤكل. قاله الزجاج. وعن غيره أنه عام في جميع المطعومات. وإنما ختم الآية السابقة بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وهذه بقوله: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لأن المقام الأوّل يحتاج إلى التفكر لأن الفلاسفة يسندون الحوادث السفلية إلى الآباء الأثيرية والأمهات العنصرية، لكن العاقل إذا تفكر في اختصاص كل ممتزج بحيز معين وشكل معين وطبيعة وخاصية مخالفتين لغيره علم أن كل هذه الاختلافات لا تستند إلى أشعة كواكب معدودة ولا إلى طبائع عناصر محصورة كما أشير إلى ذلك بقوله: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ الآية.
ولئن سلم أن الاتصالات الفلكية واختلافات الفواعل والقوابل قد ترتقي إلى حد يظهر منها هذه الآثار فلا بد لكل سبب من الانتهاء إلى مسبب لا سبب فوقه وليس ذلك إلا الله وحده، فهذا مقام لا يجحده إلا عادم عقل بل فاقد حس. والحاصل أن التفكر في الآيات يوجب عقلية ما جعلت الآيات دليلا عليه فهو الأوّل المؤدي إلى الثاني والله ولي التوفيق.
ثم عاد سبحانه إلى ذكر المعاد فقال: وَإِنْ تَعْجَبْ قال ابن عباس: إن تعجب يا محمد من تكذيبهم إياك بعد ما كانوا حكموا أنك من الصادقين، فهذا أعجب. أو إن تعجب من عبادتهم الأصنام بعد الدلائل الدالة على التوحيد، أو إن تعجب يا محمد فقد عجبت في موضع العجب لأنهم اعترفوا بأنه تعالى رفع السموات بغير عمد وسخر الشمس والقمر على وفق مصالح العباد وأظهر الغرائب والعجائب في عالم الخلق، ثم أنكروا الإعادة التي هي أهون وأسهل. قال المتكلمون: موضع العجب هو الذي لا يعرف سببه وذلك في حقه تعالى محال، فالمراد وإن تعجب فَعَجَبٌ عندك قَوْلُهُمْ وإن سلم أن المراد عجب عند الله كما قرىء في الصافات بَلْ عَجِبْتَ [الصافات: ١٢] بضم التاء فتأويله أنه محمول على النهاية لا على البداية أي منكر عند الله ما قالوه فإن الإنسان إذا تعجب من شيء أنكره. قال في الكشاف أَإِذا كُنَّا إلى آخر قولهم، يجوز أن يكون في محل الرفع بدلا من قولهم، وأن يكون منصوبا بالقول. وإذا نصب بما دل عليه قوله:
أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو نبعث أو نحشر. ثم حكم عليهم بأمور ثلاثة: الأول أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يعني أولئك الكاملون المتمادون في كفرهم وذلك أن إنكار البعث لا
إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ والأول قوله: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا [يس:
٨] والثالث: وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وربما يستدل الأشاعرة به أن الصيغة للحصر فيدل على أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار، ويمكن أن يناقش في إفادتها الحصر.
ثم إنه ﷺ كان يهددهم تارة بعذاب الآخرة وكانوا ينكرون البعث لذلك كما تقدم، ويخوفهم تارة أخرى بعذاب الدنيا فيستعجلونه به زعما منهم أنه كلام لا أصل له وإلى هذا أشير بقوله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ بالعذاب والعقوبة التي تسوءهم. قَبْلَ تمام الْحَسَنَةِ وهي العافية والإحسان إليهم بالإهمال والتأخير وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ أي عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها؟ وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه لأن العقاب مماثل للمعاقب عليه ومنه «المثلة» بالضم والسكون لتقبيح الصورة بقطع الأنف والأذن وسمل العين ونحو ذلك، وذلك أنه ليس تغييرا كليا لا يماثل الصورة الأولى وإنما ذلك تغيير تبقى الصورة معه قبيحة. وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ قالت الأشاعرة: فيه دلالة على جواز العفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبة لأن قوله: عَلى ظُلْمِهِمْ حال منهم، ومن المعلوم أن الإنسان حال اشتغاله بالظلم لا يكون تائبا لكن الآية دلت على أنه تعالى يغفر الذنوب قبل الاشتغال بالتوبة ترك العمل بها في حق الكافر فيبقى معمولا بها في حق أهل الكبائر. لا يقال: إن المراد من هذه المغفرة تأخير العقاب إلى الآخرة ليقع جوابا عن استعجالهم، أو المراد غفران الصغائر لمجتنب الكبائر، أو غفران الكبائر بشرط التوبة فإن تاب وإلا فهو شديد العقاب لأنا
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد»
قال أهل النظم: إن الكفار طعنوا في نبوته بسبب الطعن في الحشر والنشور، ثم طعنوا في نبوّته بسبب استبطاء نزول العذاب، ثم طعنوا في نبوّته بسبب عدم الاعتداد بمعجزاته وذلك قوله: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وقد تقدم مثل هذا في «الأنعام» في تفسير قوله: وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه [الأنعام: ٨] ويجيء مثل هذه بعينها في هذه السورة. قيل:
وليس بتكرار محض لأن المراد بالأول آية مما اقترحوا نحو ما في قوله: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ [الإسراء: ٩٠] الآيات. وبالثاني آية ما لأنهم لم يهتدوا إلى أن القرآن آية فوق كل آية وأنكروا سائر آياته صلى الله عليه وسلم، أو لعلهم ذكروا هذا الكلام قبل مشاهدة سائر المعجزات فأجاب سبحانه تسلية لرسوله إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ما عليك إلا الإتيان بما يصح به دعوى إنذارك ورسالتك وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ من الأنبياء يدعوهم إلى الله بوجه من الهداية والإرشاد يليق بزمانه وبأمته. ولم يجعل الأنبياء شرعا في المعجزات فعلى هذا التقدير المنذر النبي والهادي نبي إلا أن الأول محمد والثاني نبي كل زمان. وقيل: المنذر محمد والهادي هو الله تعالى قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك. والمعنى أنهم إن جحدوا كون القرآن. معجزا فلا يضيقن قلبك بسببه فما عليك إلا الإنذار، وأما الهداية فمن الله. وقيل: المنذر النبي والهادي هو علي.
روي عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ وضع يده على صدره فقال: أنا المنذر وأومأ إلى منكب علي فقال: وأنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون بعدي قاله في التفسير الكبير.
ثم أكد المعاني المذكورة في الآيات السابقة بقوله: اللَّهُ يَعْلَمُ لأنه إذا كان عالما بجميع المعلومات قدر على تمييز أجزاء بدن كل مكلف من غيره فلا يستنكر منه البعث، ويكون نزول العذاب مفوّضا إلى عمله فلا يجوز استعجاله به، وكذا إنزال الآيات يكون موكولا إلى تدبيره فإن علم أن المكلفين اقترحوها لأجل الاسترشاد ومزيد البيان أظهرها الله تعالى لهم وإلا فلا، وفيه أن إعطاءه كل منذر آيات خلاف آيات غيره أمر مدبر بالعلم النافذ مقدر بالحكمة الربانية. وعلى القول الثاني فيه أن من هذه قدرته وهذا علمه هو القادر وحده على هدايتهم بأي طريق شاء، وعلى هذا احتمل أن يكون اللَّهُ خبر مبتدأ محذوف والجملة مفسرة ل هادٍ أي هو الله. ثم ابتدأ فقيل: يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ
والازدياد «افتعال» من زاد فأبدلت التاء دالا، وإنه يتعدى ولا يتعدى كثلاثيه. أو موصولة والمراد يعلم ما تحمله من الولد ذكورته وأنوثته وتخاطيط أعضائه وسائر أحواله من السعادة وضدها ومن العلم وضده إلى غير ذلك، ويعلم ما تغيضه الأرحام أي تنقصه كقوله: وَغِيضَ الْماءُ [هود: ٤٤] وما تزداده من العدد فقد يكون واحدا وأكثر، ومن الخلقة فقد يكون تاما أو مخدجا، ومن المدة فقد يكون أقل من تسعة أشهر أو أزيد إلى سنتين عند أبي حنيفة، وإلى أربع عند الشافعي، وإلى خمس عند مالك، ومن دم الحيض. قال ابن عباس: كلما سال الحيض يوما زاد في مدة الحمل يوما ليحصل الجبر ويعتدل الأمر. ثم بين كمال علمه ونفاذ أمره بقوله: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ واحد لا يتجاوزه في طرفي التفريط والإفراط، والمراد بالعندية العلم كما يقال: هذه المسألة عند الشافعي كذا. وذلك أنه سبحانه خصص كل حادث بوقت معين وحالة معينة حسب مشيئته الأزلية وإرادته السرمدية. وقال حكماء الإسلام: وضع أسبابا كلية وأودع فيها قوى وخواص وحرك الأجرام بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزئية معينة ومناسبات معلومة مقدّرة، ومن جملتها أفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم ولذلك ختم الآية بقوله: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي هو عالم بما غاب عن الحس وبما حضر له، أو بما غاب عن الخلق وبما شهدوه أو بالمعدومات وبالموجودات الْكَبِيرُ في ذاته لا بحسب الحجمية بل بالرتبة والشرف لأنه أجل الموجودات الْمُتَعالِ المنزه عن كل ما يجوز عليه في ذاته في صفاته وفي أفعاله.
ثم زاد في التأكيد فقال: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ أي مستوفى علمه هذان لأنه يعلم السر كما يعلم الجهر لا يتفاوت في علمه أحد الحالين وَسواء عنده مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ على أن سارِبٌ معطوف على مَنْ لا على مُسْتَخْفٍ ليتناول معنى الاستواء شخصين: أحدهما مستخف والآخر سارب. وإلا فلم يتناول إلا واحدا هو مستخف وسارب إلا أن يكون «من» في معنى الاثنين حتى كأنه قيل:
سواء منكم اثنان مستخف بالليل وسارب بِالنَّهارِ وفي المستخفي والسارب قولان:
أحدهما أن المستخفي هو المستتر الطالب للخفاء في ظلمة الليل، والسارب من يضطرب في الطرقات ظاهرا بالنهار يبصره كل أحد. يقال: سرب في الأرض سروبا أي ذهب في
وما الفائدة في تسليط هؤلاء على ابن آدم؟ قال علماء الشريعة: إن الشياطين يدعون إلى المعاصي والشرور وهؤلاء الملائكة يدعون إلى الخيرات والطاعات بالإلهامات الحسنة والإخطارات الشريفة، وإذا علم ابن آدم أن معه ملائكة يحصون عليه أفعاله وأقواله استحيا منهم وكان ذلك له رادعا قويا، وقد مر في هذا الباب كلام في «الأنعام» في قوله:
وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً فليتذكر [الآية: ٦١]. وللآية تفسير آخر منقول عن ابن عباس واختاره أبو مسلم الأصفهاني قال: المعقبات الحرس وأعوان الملوك، والجملة وهي قوله: لَهُ مُعَقِّباتٌ صفة للمستخفي والسارب أو حال منه لكونه نكرة موصوفة أي يستوي في علم الله السر والجهر، والمستخفي بظلمة الليل والسارب بالنهار مستظهرا
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بين الله سبحانه بذلك أنه لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر حتى قالوا: إذا كان المعلوم أن فيهم من يؤمن أو في أعقابهم من يؤمن فإنه لا يستأصلهم. ورد بأن هذا خلاف الظاهر وقد صرح بذلك في سورة الأنفال في قوله: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً [الآية: ٥٣] الآية. والحق أن ترتب النقمة على تغيير النعمة لا ينافي استناد تغيير النعمة إليه فإنه مبدأ المبادئ وانتهاء الوسائط وسبب الأسباب.
التأويل:
المر الألف الله لا إله إلا هو الحي القيوم، اللام له مقاليد السموات والأرض، الميم مالك يوم الدين، الراء رب العالمين من الأزل إلى الأبد. أقسم بهذه الأمور أن الذي أنزل على عبده محمد هو الحق، وأنه حبل الله الذي به يوصل المؤمن من هبوط عالم الطبيعة إلى ذروة عالم الحقيقة لأنه اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ المحسوسة بِغَيْرِ عَمَدٍ فكما أنه رفع السموات بقدرته فكذلك رفع الدرجات برحمته، أو كما أنه رفع السموات المحسوسة بعمد القدرة كذلك يرفع سموات القلوب بجذبة العناية، وسخر شمس الروح وقمر القلب أو النفس لتدبير مصالح العالم الصغير. وإنما تظهر هذه الغرائب والعجائب لحصول كمال الإيقان بالرجوع إلى الله والفناء فيه بل البقاء به. ومن حسن تدبيره أنه مد أرض البشرية وجعل فيها رواسي من الأوصاف الروحانية وأنهارا من منابع العناية، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وهي الملكات والأخلاق جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ملكة روحانية حميدة وأخرى نفسانية وذميمة. فالأولى نورانية كالنهار والأخرى ظلمانية كالليل، يغلب هذه تارة وتلك أخرى وهذا معنى قوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ وفي أرض الإنسانية
[النجم: ١٠] وكما قال:
بين المحبين سر ليس يفشيه يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ هو ماء القدرة والحكمة اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى أي ما في استعداد كل مستعد من الفضائل، أو ما في كل ذرّة من ذرّات المكونات من الخواص والطبائع، أو ما في كل منها من الآيات الدالة على موجدها سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: ٥٣] وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ أي ما يظهر من تلك الآيات الاستعدادات في جانبي التفريط والإفراط، والمراد ما ينقص من أرحام الموجودات أو المعدومات فمهما أوجد شيء نقص من رحم العدم واحد وزاد في رحم الوجود واحد وبالعكس في جانب الإعدام. مستخف بليل العدم وظاهر النهار الوجود له أي لله معقبات من العلم والقدرة من بين يدي المعلوم ومن خلفه أي في حالتي عدمه ووجوده من أزله إلى أبده يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي لأجل أمره حتى لا يخرج من قبضة تدبيره إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من الوجود والعدم حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من استدعاء الوجود أو العدم بلسان استحقاق الوجود أو العدم كما تقتضيه حكمته وتدبيره.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٢ الى ٢٩]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦)
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١)
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)
كَباسِطِ مثل بَسْطَةً [البقرة: ٢٤٧] وقد مر في البقرة أم هل يستوي بياء تحتانية: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل. الآخرون بتاء التأنيث. يُوقِدُونَ على الغيبة: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد.
الباقون: على الخطاب إما للكفرة في قوله: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ وإما للمكلفين على العموم كما في القراءة الأخرى والضمير يعود إلى الناس المعلوم من سياق الكلام.
الوقوف:
الثِّقالَ هـ ج لاختلاف الفاعل مع اتفاق اللفظ مِنْ خِيفَتِهِ ج لذلك فِي اللَّهِ ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف الْمِحالِ هـ ط للآية وانقطاع النظم دَعْوَةُ الْحَقِّ ط يبالغه ط ضَلالٍ هـ وَالْآصالِ هـ وَالْأَرْضِ ط قُلِ اللَّهُ ط وَلا ضَرًّا ط وَالْبَصِيرُ هـ ط للعطف وَالنُّورُ ج لاحتمال أن يكون هذا الاستفهام بدلا عن الأوّل عَلَيْهِمْ ط الْقَهَّارُ هـ رابِياً ط مِثْلُهُ ط وَالْباطِلَ ط جُفاءً ج لاتفاق الجملتين مع كون «أما» للتفصيل فِي الْأَرْضِ ط الْأَمْثالَ هـ ط الْحُسْنى
جَنَّاتُ عَدْنٍ بدل من عُقْبَى مِنْ كُلِّ بابٍ هـ ج لحق المحذوف أي قائلين. عُقْبَى الدَّارِ ط فِي الْأَرْضِ لا سُوءُ الدَّارِ هـ وَيَقْدِرُ ط الدُّنْيا ط مَتاعٌ ز مِنْ رَبِّهِ ط أَنابَ هـ بِذِكْرِ اللَّهِ الأوّل ط الْقُلُوبُ هـ مَآبٍ هـ.
التفسير:
لما خوّف عباده بإنزال ما لا مردّ له أتبعه دلائل تشبه اللطف من بعض الوجوه والقهر من بعضها وهي أربعة: البرق والسحاب والرعد والصاعقة. وقد مر في أوّل سورة البقرة تفسير هذه الألفاظ وقول الحكماء في أسباب حدوثها. وانتصاب خَوْفاً وَطَمَعاً إما على الحال من البرق كأنه في نفسه خوف وطمع والتقدير ذا خوف وطمع، أو من المخاطبين أي خائفين وطامعين، وإما على أنه مفعول له على تقدير حذف المضاف أي إرادة خوف وطمع. وإنما وجب تقدير المضاف ليكون فعلا لفاعل الفعل المعلل كما هو شرط نصب المفعول له. ومعنى الخوف والطمع الخوف من وقوع الصواعق والطمع في نزول الغيث. وقيل: يخاف المطر من له فيه ضرر إما بحسب الزمان وإما بحسب المكان، فمن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر ويطمع فيه من له فيه نفع.
وعن ابن عباس أن اليهود سألت النبي عن الرعد فقال: ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب.
فعلى هذا الصوت المسموع هو صوت ذلك الملك الموكل المسمى بالرعد. وعن الحسن: خلق من خلق الله ليس بملك.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينشىء السحاب فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك فنطقه الرعد وضحكه البرق».
وهذا غير مستبعد من قدرة الله وخصوصا عند من لا يجعل البنية شرطا في الحياة. وقيل: المضاف محذوف أي يسبح سامعو الرعد من العباد الراجين للمطر حامدين له أو متلبسين بسبحان الله والحمد لله.
وعن علي رضي الله عنه: سبحان من سبحت له.
وكان رسول الله ﷺ يقول إذا اشتد الرعد: «اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك».
وقيل: معنى تسبيح الرعد أن هذا الصوت المخصوص لهوله ومهابته يدل على وجود إله قهار كقوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: ٤٤]. قال في الكشاف: ومن بدع المتصوّفة الرعد صعقات الملائكة، والبرق زفرات أفئدتهم.
والمطر بكاؤهم. أما قوله: وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ أي ويسبح الملائكة من هيبته وجلاله فقد ذكر جمع من المفسرين أنه عنى بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد فإنه سبحانه جعل له أعوانا. قال ابن عباس: إنهم خائفون من الله لا كخوف ابن آدم فإن أحدهم لا يعرف من
قوله: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ قد عرفت أنها نار تتولد من السحاب وتنزل بقوّة شديدة فربما غاصت في البحر وأحرقت الحيتان. ووجه الاستدلال بها على الصانع أن النار حارة يابسة وطبيعة السحاب يغلب عليها الرطوبة والبرودة للأجزاء المائية فيه، وحصول الضد من الضد لا يكون بالطبع وإنما يكون بتدبير القادر المختار وتسخيره.
ولما بين دلائل كمال العلم في قوله: اللَّهُ يَعْلَمُ ودلائل كمال القدرة في هذه الآية قال: وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ لأن إنكار المدلول بعد وضوح الدليل جدال بالباطل وعناد محض، ويحتمل أن تكون الواو للحال أي فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم ويؤكده ما
روي عن ابن عباس في رواية أبي صالح وابن جريج وابن زيد أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد بن ربيعة أقبلا يريدان رسول الله ﷺ فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك. فقال: دعه فإن يرد الله به خيرا يهده. فأقبل حتى قام عليه فقال: يا محمد ما لي إن أسلمت؟ فقال: لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم. قال: تجعل لي الأمر بعدك. قال: لا ليس ذلك إليّ إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء. قال: فتجعلني على الوبر وأنت على المدر. قال: لا. قال: فماذا تجعل لي؟ قال: أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها. قال: أوليس ذلك إليّ اليوم؟ وكان أوصى إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فدر عليه من خلفه فاضربه بالسيف. فجعل يخاصم رسول الله ويراجعه ويجادل في الله يقول أخبرني عن ربك أمن نحاس هو أم من حديد، فدار أربد خلف النبي ﷺ ليضربه فاخترط من سيفه شبرا ثم حبسه الله فلم يقدر على سله، وجعل عامر يومىء إليه فالتفت رسول الله ﷺ فرأى أربد وما يصنع بسيفه فقال:
اللهم أكفنيهما بما شئت فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته وولى عامر هاربا وقال: يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأنها عليك خيلا جردا وفرسانا مردا. فقال رسول الله: يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة- يريد الأوس والخزرج- فنزل عامر بيت امرأة سلولية فلما أصبح ضم عليه سلاحه وخرج وهو يقول: واللات لئن أصحر إليّ محمد وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذنهما برمحي فأرسل الله إليه ملكا فلطمه بجناحه فأذراه في التراب وخرجت على ركبته غدة في الوقت عظيمة فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: أغدّة كغدة البعير وموت في بيت السلولية؟ ثم مات على ظهر فرسه وأنزل الله الآية
قوله: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ معناه شديد المكر والكيد لأعدائه.
والمماحلة شدة المماكرة ومنه تمحل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه، ومحل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان ومنه
الحديث: «اللهم اجعله- أي القرآن- لنا شافعا مشفعا ولا تجعله علينا ماحلا مصدّقا».
ومنه سنة المحل لشدتها وصعوبة أمرها.
وأما عبارات المفسرين فقال مجاهد وقتادة: شديد القوّة. أبو عبيدة: شديد العقوبة.
الحسن: شديد النقمة. وقيل: شديد الحقد ومعناه راجع إلى إرادة إيصال الشر إلى مستحقه مع إخفاء تلك الإرادة عنه. ثم أثنى على نفسه بالحقية وشهد على الأصنام بالبطلان فقال: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ فأضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل كما تضاف الكلمة إلى الحق والمراد أنه سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة إذا أراد فهو حقيق بأن يوجه إليه الدعاء لما في دعوته من الجدوى والنفع بخلاف ما لا فائدة في دعائه. وعن الحسن: الحق هو الله والمعنى له دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب ولهذا أجاب النبي ﷺ في الكافرين حين دعا عليهما. وعن ابن عباس: دعوة الحق قوله لا إله إلا الله.
وقيل: الدعوة العبادة فإن عبادته هي الحق والصدق وقد سلف تحقيق الحق في أوّل هذا الكتاب في تفسير البسملة. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي الآلهة الذين يدعوهم أو يعبدهم الكفار من دون الله. لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إلا استجابة كاستجابة الماء من بسط يديه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه والماء جماد لا يشعر به. والحاصل أن الكفار وذلك الطالب كليهما مشترك في الخيبة لاشتراكهما في دعاء الجماد. وقيل: شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فبسطهما ناشرا أصابعه فلا جرم لا يبلغ طلبته. ثم أكد خيبتهم بقوله: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ في ضياع وذهاب عن المنفعة لأنهم إن دعوا الله لا يجيبهم لحقارة أمرهم عنده، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم.
ثم زاد في الثناء فقال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فإن كان السجود بمعنى وضع الجبهة فذلك ظاهر في المؤمنين لأنهم يسجدون له طَوْعاً أي بسهولة ونشاط وَكَرْهاً أي على تعب واصطبار ومجاهدة، وأما في حق الكفار فمشكل ووجهه أن يقال: المراد حق له أن يسجد لأجله جميع المكلفين من الملائكة والثقلين فعبر عن الوجوب بالوقوع، وإن كان بمعنى الانقياد والخضوع والاعتراف بالإلهية وترك الامتناع عن نفوذ مشيئته فيهم فلا إشكال نظيره قوله: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: ٨٣] وقد مر في «آل عمران» أما قوله: وَظِلالُهُمْ فقد قال جمع من المفسرين
ومعنى الغدو والآصال قد مر في آخر «الأعراف». واعلم أنه سبحانه ذكر آية السجدة في النحل بعبارة أخرى فقال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ [الآية: ٤٩] لأنه تقدم ذكر ما خلق الله على العموم ولم يكن فيه ذكر الملائكة ولا الإنس بالصريح فعمم ليشمل الإنس وصرح بالملائكة. وقال في «الحج» أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الحج: ١٨] بتكرير «من» لأنه تقدم ذكر المؤمنين وسائر الأديان فقدم ذكر مَنْ فِي السَّماواتِ تعظيما لهم ولها وذكر من في الأرض لأنهم هم الذين تقدم ذكرهم. وأما في هذه السورة فقد تقدم ذكر العلويات من الرعد والبرق، ثم ذكر الملائكة وتسبيحهم، ثم انجر الكلام إلى ذكر الأصنام والكفار فبدأ في آية السجدة بذكر من في السموات والأرض وذكر الأرض تبعا ولم يذكر من فيها استخفافا بالكفرة وأصنافهم فتبين أنه أورد كل آية بما لاق بمقامها والله تعالى أعلم بمراده.
ثم أخبر عن التسخير بسؤال التقرير ردّا على عبدة الأصنام فقال: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وهذه حكاية لاعترافهم لأنهم كانوا يعترفون بأنه الإله الأعظم وهذا كما يقول المناظر لصاحبه: أهذا قولك؟ فإذا قال هذا قولي قال هذا قولك فيحكي إقراره استئنافا منه ثم يقول له: فيلزمك على هذا القول كيت وكيت وذلك قوله: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ ويجوز أن يكون تلقينا لما ليسوا منكرين له. والهمزة في أَفَاتَّخَذْتُمْ للإنكار والمعنى أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ جمادات عجزة عن تحصيل المنافع والمضارّ لأنفسهم فضلا عن غيرهم. وموضع الإنكار أنهم جعلوا ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من العلم والإقرار سبب الإشراك، ثم جعلوا مع ذلك أخس الأشياء مكان أشرف الذوات وهذا جهل لا مزيد عليه فلهذا شبههم بالأعمى وشبه جهالاتهم بالظلمات وأنكر أن يكون شيء منهما مساويا لنقيضه فقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ جمع الظلمات ووحد النور لأن السبل المنحرفة غير محصورة والصراط المستقيم واحد. ثم أكد الإنكار المذكور بقوله:
أَمْ جَعَلُوا والمراد بل جعلوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خالقين مثل خلقه فَتَشابَهَ الْخَلْقُ أي خلق
قالت المعتزلة: للعبد فعل وتأثير ولكنا لا نقول إنه يخلق كخلق الله لأن العبد يفعل لجلب منفعة أو دفع مضرة والله تعالى منزه عن ذلك. وأجيب بأن المخالفة من بعض الوجوه لا تقدح في المماثلة من وجه آخر، فلو كان فعل العبد كالتحريك مثلا واقعا بقدرته لكان مثلا للتحريك الواقع بقدرة الله تعالى وهذا الإشكال وارد أيضا على من يثبت للعبد كسبا. ثم ضرب مثلا آخر للحق وذويه والباطل ومنتحليه فقال: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ أي مياهها والوادي الفضاء المنخفض عن الجبال والتلال الذي يجري فيه السيل. وقيل:
الوادي اسم للماء من ودى إذا سال، والمعنى سالت مياه. قال الفارسي: لا نعلم فاعلا جمع على «أفعلة» إلا هذا وكأنه حمل على «فعيل» فجمع على «أفعلة» كجريب وأجرية كما أن فعيلا حمل على فاعل فجمع على «أفعال» مثل يتيم وأيتام وشريف وأشراف كأصحاب وأنصار في صاحب وناصر. وقال غيره: نظير واد وأودية ناد وأندية. ومعنى التنكير في أودية أن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوبة بين البقاع فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض. قال في الكشاف: معنى بِقَدَرِها بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم بدليل قوله: وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ وقال الواحدي: معناه سالت مياه الأودية بقدر الأودية فإن صغر الوادي قل الماء وإن اتسع كثر الماء. والزبد هو الأبيض المرتفع المنتفخ على وجه السيل ونحوه. ومعنى رابِياً قال الزجاج: طافيا فوق الماء.
وقال غيره: زائدا بسبب انتفاخه من ربا يربو إذا زاد. ثم قال سبحانه إظهارا للكبرياء كما هو ديدن الملوك وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ «من» لابتداء الغاية أي ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء. أو للتبعيض بمعنى بعضه زبد مثله أراد به الأجسام المتطرقة المتفرقة الرابية.
والإيقاد على الشيء قسمان: أحدهما أن لا يكون ذلك الشيء في النار كالآجر في قوله:
فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ [القصص: ٣٨] والثاني أن يكون في النار كأنواع الفلز ولهذا قال هاهنا بزيادة لفظة فِي النَّارِ قال في الكشاف: فائدة قوله ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ مثل فائدة قوله بِقَدَرِها لأنه جمع بين الماء والفلز في النفع في قوله: وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ أي وأما ما ينفعهم به من الماء والفلز فذكر وجه الانتفاع بالفلز وهو اتخاذ الحلي من الذهب والفضة واتخاذ سائر أثاث البيت وأمتعته من الحديد والنحاس والرصاص والأسرب وما يتركب منها والمتاع كل ما تمتع به. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ
ثم ذكر أحوال السعداء وتبعات الأشقياء فقال لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ أي فيما دعاهم إليه من التوحيد والنبوة والتكاليف الْحُسْنى أي المثوبة الحسنى وهي الجنة وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ مبتدأ آخر خبره الجملة الشرطية بعده. وقيل: إن الكلام متصل بما قبله أي يضرب الله الأمثال لهذين الفريقين. وقوله: الْحُسْنى صفة لمصدر استجابوا أي الاستجابة الحسنى. وقوله: لَوْ أَنَّ لَهُمْ كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين ومن ذلك قوله أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ قال الزجاج: لأن كفرهم أحبط أعمالهم.
وقال غيره: سوء الحساب المناقشة فيه. وعن النخعي: هو أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شيء. وقال الحكماء: هو ظهور آثار الملكات الردية والهيئات الذميمة على النفس ولم يكن قبل ذلك له شعور بها لاشتغاله بعالم الحس. وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ لأنهم أقبلوا على الدنيا وأعرضوا عن المولى فلا جرم إذا ماتوا فارقوا معشوقهم فأورثهم الحرمان والخسران والاحتراق بنار الفراق. ثم أنكر بعد هذه البيانات أن يسوّى بين الناقد والبصير والجاهل الضرير فقال أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أي أن الذي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى
القلب إِنَّما يَتَذَكَّرُ أي لا ينتفع بالأمثال إلا أُولُوا الْأَلْبابِ الذين يعبرون من القشر إلى الباب. ثم وصفهم بقوله: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ويجوز أن يكون نصبا على المدح وأن يكون مبتدأ خبره أُولئِكَ أما عهد الله فعن ابن عباس: هو المذكور في
الوفاء بعهد الله إشارة إلى ما كلف الله العبد به ابتداء، وعدم نقض الميثاق أراد به مما التزمه العبد بالنذر. وقيل: الوفاء بالعهد عهد الربوبية والعبودية والميثاق أعم لشموله كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله ومن سائر المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد، والوفاء بالعهد أمر مستحسن في العقول والشرائع كلها
قال صلى الله عليه وسلم: «من عاهد الله فغدر كانت فيه خصلة من النفاق» «١»
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ إفراد لما بينه وبين العباد بالذكر فقيل: المراد صلة الرحم. وقيل: هو مؤازة النبي ﷺ ومعاونته ونصرته في الجهاد. وقيل: رعاية جميع حقوق الناس بالشفقة عليهم والنصيحة في كل حال وكل حين ومن ذلك عيادة المريض وشهود الجنائز ومراعاة الرفقاء والجيران والخدم ومن يطيف به حتى الهرة والدجاجة وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وإن أتوا بكل ما قدروا عليه في باب التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله خوفا من وعيده كله وَيَخافُونَ خصوصا سُوءَ الْحِسابِ ويلزم ذلك أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا. وقيل: الخشية نوعان: خشية الجلال كالعبد إذا حضر بين يدي السلطان ومن ذلك خشية الملائكة يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: ٥٠] وإلى هذا أشار بقوله: وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وخشية أن يقع في العبادة خلل أو نقص يوجب فسادها أو نقصان ثوابها. وإليه الإشارة بقوله: وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ.
وَالَّذِينَ صَبَرُوا عن المعاصي وعلى الطاعات وعلى المصائب ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ لا لأجل أن يقال ما أورعه وما أزهده وما أصبره وغير ذلك من الأغراض الفاسدة، وإنما يصبر على التكاليف لأنها أحكام المعبود الحق ويصبر على الرزايا لأنها قسمة قسام متصرف في ملكه كيف يشاء، أو لأنه مشغول بالمقدر والقاضي لا بالقدر والقضاء. وقد يرضى العاشق بالضرب والإيلام لالتذاذه بالنظر إلى وجه معشوقه فهكذا العارف يصبر على البلايا والمحن لاستغراقه في بحر العرفان وفيضان أنوار المعروف عليه. وَأَقامُوا
رواه البخاري في كتاب الإيمان باب: ٢٤. مسلم في كتاب الإيمان حديث: ١٠٦. أبو داود في كتاب السنّة باب: ١٥. الترمذي في كتاب الإيمان باب: ١٤. النسائي في كتاب الإيمان باب:
٢٠. أحمد في مسنده (٢/ ١٨٩، ١٩٨) بلفظ: «أربع من كن فيه كان منافقا أو كانت فيه خصلة من الأربع كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها..... وإذا عاهد غدر».
قال ﷺ لمعاذ بن جبل «إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها» «٢».
وقيل لا يقابلون الشر بالشر وإنما يقابلونه بالخير كما روي عن الحسن: إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا. وعن ابن عباس: يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيىء غيرهم. يروى أن شقيق بن إبراهيم البلخي دخل على عبد الله بن المبارك متفكرا فقال: من أين أتيت؟ قال: من بلخ.
فقال: وهل تعرف شقيقا؟ فقال: نعم. فقال: كيف طريقة أصحابه؟ فقال: إذا منعوا صبروا وإذا أعطوا شكروا فقال عبد الله: هكذا طريقة كلابنا، وإنما الكاملون الذين إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا. وقيل: مراد الآية أنهم إذا رأوا منكرا أمروا بتغييره أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ عاقبة الدنيا وهي الجنة التي أرادها الله تعالى أن تكون مرجع أهلها.
والعقبى مصدر كالعاقبة ومثله البشرى والقربى، ويجوز أن يكون مضافا إلى الفاعل والمعنى أولئك لهم أن يعقب أعمالهم الدار التي هي الجنة. ومعنى جَنَّاتُ عَدْنٍ تقدم في سورة براءة وَمَنْ صَلَحَ معطوف على فاعل يَدْخُلُونَها ويجوز أن يكون مفعولا معه. قال ابن عباس: يريد من صدق بما صدقوا به وإن لم يعمل مثل أعمالهم. وقال الزجاج: بين أن الأنساب لا تنفع إذا لم يحصل معها أعمال صالحة. قال الواحدي:
والأول أصح لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة فلو دخلوها بأعمالهم الصالحة لم يكن في ذلك كرامة للمطيع، ويمكن أن يوجه قول الزجاج بأن المقصود بشارة المؤمن بأن أهل الصلاح من أصوله وفصوله وأزواجه يجتمعون به في دار الثواب فقد يمكن أن يكونوا جميعا في الجنة ولا يجتمعون في موضع. ولقائل أن يقول: الدخول أعم من الاجتماع ولا دلالة للعام على الخاص فصح اعتراض الواحدي.
والآباء جمع أبوي كل واحد منهم فكأنه قيل: من آبائهم وأمهاتهم. وليس في الآية ما يدل على التمييز بين زوجه وزوجة ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه ويؤيده ما
روي عن سودة أنه لما هم رسول الله ﷺ بطلاقها قالت: دعني يا رسول الله أحشر في زمرة نسائك.
(٢) رواه الترمذي في كتاب البر باب: ٥٥. الدارمي في كتاب الرقاق باب: ٧٤. أحمد في مسنده (٥/ ١٥٣، ١٥٨). [.....]
وروي عن النبي ﷺ أنه كان يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.
ثم أتبع أحوال السعداء أحوال الأشقياء وقد مر تفسيره في أوّل «البقرة» على أن الضد قد يعلم من الضد بسهولة وقد مر آنفا. وقوله: سُوءُ الدَّارِ في مقابلة عُقْبَى الدَّارِ كأن العاقبة لا تطلق إلا على العاقبة الحميدة كقوله وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: ١٢٨] لأن غير الحميدة لا تستأهل لأن تكون عاقبة.
وقال في الكشاف: المراد سوء عاقبة الدنيا ولا حاجة إلى هذا الإضمار بناء على ما قلنا. قال: ويجوز أن يراد بالدار جهنم وبسوئها عذابها ذكر أهل النظم أنه لما بين سوء حال الناقصين كان لقائل أن يقول: فما بالهم قد فتح الله عليهم أبواب الرزق في الدنيا فأجاب بقوله: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ والمراد أن الدنيا دار امتحان لا دار جزاء، فقد يتفق أن يكون الجاهل الكافر خليّ البال والعالم المؤمن رديّ الحال ولا تعلق لهذا المعنى بالكفر والإيمان. والتركيب للحصر أي هو وحده يوسع الرزق على من يشاء كأهل مكة ويَقْدِرُ أي يضيق ومعناه أنه يعطيه بقدر الضرورة وسد الرمق لا يفضل منه شيء وَفَرِحُوا يعني أهل مكة وأضرابهم بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لا فرح تحدث بنعمة الله وإظهارا لفضله عليهم وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا ونعيمها في جنب نعيم الآخرة إِلَّا مَتاعٌ شيء نزر يتمتع به أياما قلائل ثم بعد ذلك حسرات لا نهاية لها، ومثل هذا لا يوجب الفرح بل لا يجوّزه. ثم حكى نوعا آخر من قبائح الكفرة فقال: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وقد مر مثله في هذه السورة وذكرنا أنه ليس بتكرار
أنا الغريق فما خوفي من البلل وقيل: إن الإكسير إذا وقعت منه ذرة على النحاس انقلب ذهبا صافيا باقيا على كر الدهور، فإكسير جلال الله إذا وقع في القلب السليم كيف لا يقلبه جوهرا صافيا نورانيا آمنا من التغير والزوال الَّذِينَ آمَنُوا مبتدأ خبره طُوبى لَهُمْ وجوّز في الكشاف أن يكون بدلا على حذف المضاف أي قلوب الذين آمنوا. وطُوبى مصدر من طاب يطيب كبشرى وواو منقلبة عن ياء لضمة ما قبلها واللام للبيان مثل «سقيا لك». والمعنى طيب لهم على الدعاء أو الخبر. عن ابن عباس: فرح وقرة عين. الضحاك: غبطة لهم. قتادة:
حسنى لهم. الأصم: خير وكرامة. الزجاج: عيش طيب. والكل متقارب والعبارة الجامعة أن أطيب الأشياء في كل الأمور حاصل لهم. وقيل: طوبى شجرة في الجنة. حكى الأصم أن أصلها في دار النبي ﷺ وفي دار كل مؤمن منها غصن.
روي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «طوبى شجرة غرسها الله بيده تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور
وعن بعضهم أن طوبى هي الجنة بالحبشية والمآب المرجع.
التأويل:
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ برق أنوار الجلال فيغلب عليكم خوف الانقطاع واليأس، ويريكم برق أضواء الجمال فيغلب عليكم طمع الوصل ورجاء الاستئناس وَيُنْشِئُ السَّحابَ النوال والأفضال الثِّقالَ بمطر القبول والإقبال وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ وهو الملك المخلوق من نور الهيبة والجلال فتقع الهيبة في قلوب الخلق كلهم حتى الملائكة فيسبحون من خيفته، ويرسل صواعق القهر فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ من أهل الخذلان فيحرق حسن استعدادهم في قبول الإيمان. ومن نتائج ذلك أنهم يجادلون في ذات الله وفي صفاته كالفلاسفة الذين لا يتابعون الأنبياء والشرائع، وكبعض المتكلمين من أهل الأهواء والبدع لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ أي دعوته حق لمن دعاه فيستجيبه كما قالت السموات والأرض أتينا طائعين وأيضا له دعاة يدعون الخلق بالحق إلى الحق وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي بغير الحق لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إذ لا يؤثر في الخلق نصحهم كمن يبسط يده إلى الماء إراءة إلى الحق أنه يريد شربه وَما هُوَ بِبالِغِهِ فلا يستجابون على الحقيقة وإن استجيبوا في الظاهر لأنهم استجابوا لهم على الهوى كما دعوا إلى الحق بالهوى يدل عليه قوله: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء والصلحاء طَوْعاً ومن أرواح الكافرين والمنافقين والشياطين كَرْهاً بالتذليل والتسخير تحت الأحكام والتقدير وَظِلالُهُمْ أي نفوسهم فإن النفوس ظلال الأرواح، وليس السجود من شأنها لأنها أمارة بالسوء إلا ما رحم الرب فإنها تسجد بتبعية الروح. معنى آخر: ولله يسجد من في سموات القلوب من صفات القلوب والأرواح والعقول، طوعا ومن في أرض النفوس من صفات النفس والقوى الحيوانية والسبعية والشيطانية كرها، وظلالهم وهي آثارها ونتائجها. آخر: ولله يسجد الأرواح في الحقيقة وظلالهم وهي أجسادهم بالتبعية، وهذا السجود بمعنى وضع الجبهة، وخص الوقتان بالذكر لأن آثار القدرة فيهما أكثر، وإن أريد الانقياد والتسخير احتمل أن يراد بالوقتين وقتا الانتباه والنوم، ففي الأول تطلع شمس الروح من أفق الجسد، وفي الثاني تغرب فيه أنزل من سماء القلوب ماء المحبة. فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ النفوس فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً من الأخلاق الذميمة النفسانية والحيوانية، أو أنزل من سماء الأرواح ماء مشاهدة أنوار الجمال فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ القلوب فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً من الأوصاف البشرية، أو أنزل من سماء الأسرار ماء كشوف الجمال فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ الأرواح فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً من أنانية الروحانية، أو أنزل من سماء الجبروت ماء تجلي صفات
الاطمئنان من مرآة قلبه على نفسه فتصير مطمئنة أيضا فيستحق بجذبات العناية لخطاب ارْجِعِي [الفجر: ٢٨] ثم أشار إلى أنّ الاطمئنان ثمرة غرس شجرة الإيمان والعمل الصالح في أرض القلب فقال:
الَّذِينَ آمَنُوا الآية. فالإشارة بطوبى إلى حقيقة شجرة «لا إله إلا الله» مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة ولم يكن إلا في قلب النبي ﷺ وبتبعيته في قلوب المؤمنين ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: «طوبى شجرة أصلها في داري وفرعها على أهل الجنة».
فافهم.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٠ الى ٤٣]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٣٤)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩)
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣)
متابي وعقابي ومآبي بالياء في الحالين: يعقوب والسرنديبي عن قنبل وافق سهل وعباس في الوصل بَلْ زُيِّنَ ونحوه بالإدغام: علي وهشام وَصُدُّوا بضم الصاد وكذا في «حم المؤمن» : عاصم وحمزة وعلي وخلف ويعقوب.
الباقون بفتحها. وَيُثْبِتُ مخففا من الإثبات: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم. الآخرون بالتشديد من التثبيت الكافر لمن على التوحيد: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير. الباقون الْكُفَّارُ على الجمع.
الوقوف:
بِالرَّحْمنِ ط إِلَّا هُوَ ج لانقطاع النظم مع اتحاد القائل. مَتابِ ٥ الْمَوْتى ط لأن جواب «لو» محذوف أي لكان هذا القرآن. جَمِيعاً ط في الموضعين وَعْدُ اللَّهِ ط الْمِيعادَ هـ أَخَذْتُهُمْ ج للاستفهام مع الفاء عِقابِ هـ بِما كَسَبَتْ ج لحق الخبر المحذوف التقدير كمن ينفع ولا يضر، ولأن قوله: وَجَعَلُوا يصلح استئنافا أو حالا بإضمار «قد» شُرَكاءَ ط سَمُّوهُمْ ط لحق الاستفهام مِنَ الْقَوْلِ
ج لاتفاق الجملتين مع النفي في الثانية واقٍ
هـ الْمُتَّقُونَ هـ ط لأن التقدير فما يتلى عليك مثل الجنة وللوصل وجه يذكر في التفسير.
الْأَنْهارُ ط وَظِلُّها ط اتَّقَوْا ق قد قيل: والوصل أجوز لأن الجمع بين بيان الحالين أدل على الانتباه النَّارُ هـ بَعْضَهُ ط وَلا أُشْرِكَ بِهِ ط مَآبِ هـ عَرَبِيًّا ط الْعِلْمِ لا لأن ما بعده جواب. واقٍ هـ وَذُرِّيَّةً ط بِإِذْنِ اللَّهِ ط كِتابٌ هـ وَيُثْبِتُ ج والوصل أجوز لتمام مقصود الكلام الْكِتابِ هـ الْحِسابُ هـ أَطْرافِها ط لِحُكْمِهِ ط الْحِسابِ هـ جَمِيعاً ط كُلُّ نَفْسٍ ط الدَّارِ هـ مُرْسَلًا ط وَبَيْنَكُمْ ط للعطف الْكِتابِ هـ.
التفسير:
عن ابن عباس والحسن أَرْسَلْناكَ كما أرسلنا الأنبياء قبلك فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ وقال آخرون: معنى التشبيه كما أرسلنا إلى أمم وآتيناهم كتبا تتلى عليهم كذلك آتيناك هذا الكتاب وأنت تتلوه عليهم فلم اقترحوا غيره؟ وقال في الكشاف:
معناه مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعني أرسلناك إرسالا له شأن وفضل على سائر الإرسالات. ثم فسر كيف أرسله فقال: فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء. ثم ذكر مقصود الإرسال فقال لِتَتْلُوَا أي لتقرأ عَلَيْهِمُ الكتاب العظيم الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ وحال هؤلاء أنهم يكفرون بِالرَّحْمنِ للمفسرين خلاف في تخصيص لفظ الرحمن بالمقام فقال جار الله: المراد كفرهم بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء وما بهم من نعمة فمنه، فكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وإنزال مثل هذا القرآن المعجز المصدق لسائر الكتب عليهم.
وعن ابن عباس في رواية الضحاك: نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: اسجدوا للرحمن فقالوا وما الرحمن؟
فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: قُلْ لهم إن الرحمن الذين أنكرتم معرفته هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الواحد القهار المتعالي عن الشركاء. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في نصرتي عليكم وَإِلَيْهِ مَتابِ رجوعي فيثيبني على مصابرتكم.
وقيل: نزلت في صلح الحديبية حين أرادوا كتاب الصلح فقال رسول الله ﷺ لعلي عليه السلام: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل بن عمرو والمشركون: ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة- يعنون مسيلمة الكذاب- اكتب باسمك اللهم وهكذا كان أهل الجاهلية يكتبون. فأنزل الله الآية.
فعلى هاتين الروايتين كان الذم متوجها على كفرهم بإطلاق هذا الاسم على غير الله تعالى لا على جحودهم أو إشراكهم.
روي أن أهل مكة قعدوا في فناء الكعبة فأتاهم رسول الله ﷺ وعرض عليهم الإسلام فقال له رؤساؤهم- كأبي جهل وعبد الله بن أمية المخزومي- سير
عن مقارها وأزيلت عن مراكزها أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أي وقع به السير في البلاد فوق المعتاد شبه طي الأرض أو شققت فجعلت أنهارا وعيونا أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بعد إحيائهم به لكن هذا القرآن.
قال الراوي: لما سري عن رسول الله ﷺ بعد نزول هذا الوحي قال: والذي نفسي بيده لقد أعطاني ما سألتم ولو شئت لكان ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم ثم إن كفرتم يعذبكم عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فاخترت باب الرحمة.
وقال الزجاج: معناه ولو أن قرآنا وقع به تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى أي تنبيههم لما آمنوا به كقوله: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ [الأنعام: ١١١] الآية. وقال في الكشاف: هذه الآية لبيان تعظيم شأن القرآن. ومعنى تقطيع الأرض تصدعها كقوله ولَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً [الحشر: ٢١] ونقل في الكشاف عن الفراء أن الآية تتعلق بما قبلها والمعنى وهم يكفرون بالرحمن.
وبمدلول هذا الكلام وهو قوله: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ وما بينهما اعتراض. ثم قال ردا عليهم بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً قال أهل السنة: يعني إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ولا اعتراض لأحد عليه. وقالت المعتزلة: له القدرة على الآيات التي اقترحتموها إلا أن علمه بأن إظهارها مفسدة يصرفه، أوله أن يلجئهم إلى الإيمان إلا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار. قالوا: ويعضده قوله: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ مشيئة الإلجاء لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً أولو يشاء لهداهم إلى الجنة، أو المراد نفي العموم لا عموم النفي وذلك أنه ما شاء هداية الأطفال والمجانين. أجاب أهل السنة بأن كل هذا خلاف الظاهر.
ومعنى أَفَلَمْ يَيْأَسِ أفلم يعلم. وهذا لغة قوم من النخع. وقال الزجاج: إنه مجاز لأن اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون نظيره استعمال الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في معنى الترك لتضمنهما إياهما، ويؤيده قراءة علي عليه السلام وابن عباس وجماعة أفلم يتبين وهو تفسير أَفَلَمْ يَيْأَسِ. وقيل: إن قراءتهم أصل والمشهورة تصحيف وقع من جهة أن الكاتب كتبه مستوي السينات. وهذا القول سخيف جدا والظن بأولئك الثقات الحفظة غير ذلك ولهذا قال في الكشاف: هذه والله فرية ما فيها مرية.
وجوز أن يتعلق أَنْ لَوْ يَشاءُ ب آمَنُوا معناه أفلم يقنط من إيمان هؤلاء الكفرة الذين
قال في الكشاف: «أم» في قوله أَمْ تُنَبِّئُونَهُ منقطعة كقولك للرجل قل لي من زيد أم هو أقل من أن يعرف. أقول: وذلك لأنه لا شيء محض إذ لو كان الشريك موجودا وهو أرضيّ لتعلق به علم العالم بالذات المحيط بجميع السفليات ونحوه قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ [يونس: ١٨] وقد مر في أول «يونس». ثم أكد هذا المعنى بقوله: أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ أي بل أتسمونهم شركاء بظاهر من الكلام من غير أن يكون له حقيقة
من القتل والقتال واللعن والذم لا المصائب والأمراض لأنها قد تصيب المؤمنين أيضا، ولأنها مأمور بالصبر عليها والعقاب لا يكون كذلك وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
لأنه أشد وأدوم وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ
أي من عذابه مِنْ واقٍ
من حافظ أو ما لهم من جهة الله واق أي دافع ومانع من رحمته بل إنما يمنع رحمته منهم باختياره وحكمه. ثم عقب الوعيد بالوعد فقال: مَثَلُ الْجَنَّةِ وتقديره عند سيبويه فيما قصصنا عليكم في الجنة. وقال غيره: الخبر تَجْرِي كما تقول صفة زيد أسمر. وقال الزجاج: إنه تمثيل للغائب بالشاهد ومعناه مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار. وقيل: إن فائدة الخبر ترجع إلى قوله: أُكُلُها دائِمٌ كأنه قال مثل الجنة الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كما تعلمون من حال جناتكم إلا أن هذه أُكُلُها دائِمٌ كقوله: لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة: ٣٣]. وَظِلُّها دائم أيضا. والمراد أنه لا حر هناك ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة، وقد مر هذا البحث في سورة النساء في قوله: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [الآية: ٥٧] قيل: في الآية دلالة على أن حركات الجنة لا تنتهي إلى سكون دائم كما يقوله أبو الهذيل وأتباعه. قال القاضي: وفيها دليل على أن الجنة لم تخلق بعد وإلا انقطع أكلها لقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: ٢٦]، كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: ٨٨] قال: ولم ننكر أن تحصل الآن في السموات جنات تتمتع بها الملائكة ومن يعد حيا من الأنبياء والشهداء وغيرهم إلا أن جنة الخلد خاصة إنما تخلق بعد الإعادة. وأجيب بأنا نخصص عموم كل شيء هالك بالدليل الدال على أن الجنة مخلوقة وهو قوله: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: ١٣٣].
ثم ذكر عقائد الفرق في شأن القرآن المتلو فقال: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ قيل:
أراد بالكتاب القرآن يعني أن المسلمين يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من الشرائع والعلوم وَمِنَ الْأَحْزابِ الجماعات من اليهود والنصارى وغيرهم مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ لأنهم كانوا
روي أن الكفار كانوا يدعون رسول الله ﷺ إلى أمور ليوافقهم فيها منها: أن يصلي إلى قبلتهم بعد ما حوله الله عنها فأوعد على ذلك.
وعن ابن عباس: الخطاب له والمراد أمته وقد مر الوجوه في مثله في أوائل سورة البقرة.
قال الكلبي: عيرت اليهود رسول الله ﷺ وقالت: ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح. ولو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء فأنزل الله تعالى: وَلَقَدْ
وفيه أن الرسل كانوا من جنس البشر لا من جنس الملك وما كان لهم نقص من قبل الزواج والولاد فقد كان لسليمان ثلاثمائة امرأة منكوحة وسبعمائة سرية، ولداود مائة، وذراري يعقوب أكثر من أن تحصى، وكانوا يقترحون الآيات فأجاب الله تعالى عنه بقوله: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ولا بد لكل نبي من معجز واحد والزائد على ذلك بل أصل النبوة وتعيين المعجز الواحد مفوض إلى مشيئته سبحانه ولا حكم لأحد عليه، وكان رسول الله ﷺ يخوفهم بنزول العذاب وظهور نصرة الإسلام وذويه فكانوا يكذبونه ويستبطئون موعده فأجيبوا بقوله: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ أي لكل وقت حكم مكتوب وحادث معين لا يتأخر ذلك الحكم والحادث عنه ولا يتقدم عليه. وقيل:
هذا على القلب أي لكل مكتوب وقت معين. والتحقيق أنه لا حاجة إلى ارتكاب القلب لأن المعية تقتضي التلازم وكانوا ينكرون النسخ في الشرائع وفي التكاليف فنزل: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ أي يثبته فاستغنى بالصريح عن الكناية. والمحو ذهاب أثر الكتابة ونحوها. وفي الآية قولان: الأول
أنها عامة وأنه سبحانه يمحو من الرزق ويزيد فيه وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر وهو مذهب عمر وابن مسعود، وقد رواه جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والذاهبون إليه كانوا يدعون ويتضرعون إلى الله في أن يجعلهم سعداء إن كانوا أشقياء وهذا لا ينافي
قوله: «جف القلم» «١»
لأن المحو والإثبات أيضا من جملة ما قضى به. الثاني أنها خاصة في بعض الأشياء فقيل: أراد نسخ حكم وإثبات آخر مكانه وقد مر تمام البحث في النسخ في «البقرة» في قوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [الآية: ١٠٦]. وقيل: يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة لأنهم مأمورون بكتب كل قول وفعل ويثبت غيره. واعترض الأصم عليه بأنه ينافي قوله تعالى مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: ٤٩] وأجاب القاضي بأن المراد صغائر الذنوب وكبائرها. ورد بأن هذا اصطلاح المتكلمين والمفهوم اللغوي أعم فيتناول المباحات أيضا. وقيل: يمحو بالتوبة ما يشاء من الكفر والمعاصي ويثبت بدلها الحسنة كقوله: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان: ٧٠]. وقيل: يثبت في أول السنة أحكام تلك السنة فإذا مضت السنة محيت ويثبت كتاب آخر للمستقبل.
وقيل: يمحو نور القمر ويثبت نور الشمس أو يمحو الدنيا ويثبت الآخرة. أما قوله:
وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أي أصله فقيل: هو اللوح المحفوظ.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان الله ولا
رواه البخاري في كتاب القدر باب: ٢. الترمذي في كتاب الإيمان باب: ١٨. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب: ١٠. أحمد في مسنده (٢/ ١٧٦، ١٩٧) بلفظ: «جفّ القلم على علم الله».
فعلى هذا عند الله كتابان: أحدهما اللوح المحفوظ وإنه لا يتغير، وثانيهما الذي تكتبه الملائكة على الخلق وهو محل المحو والإثبات.
روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله سبحانه في ثلاث ساعات بقين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء».
وقيل: هو علم الله تعالى المتعلق بجميع الموجودات والمعلومات وإنه لا يتغير ولا يتبدل بتغير المتزمنات وتبدلها، وقد مر تحقيقه في مواضع.
ولما بين كيفية انطباق الحوادث على أوقاتها قال: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ يعني كيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما وعدناهم من العذاب أو توفيناك قبل ذلك، فليس يجب عليك إلا التبليغ وما حسابهم وما جزاؤهم إلا علينا. والبلاغ بمعنى التبليغ كالسلام والكلام. ثم ذكر أن آثار حصول تلك المواعيد وأماراتها قد ظهرت وقربت وأن تباشير الظفر قد طلعت ولاحت فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ يعني إتيان القهر والغلبة بدليل نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها والأرض أرض مكة كان المسلمون ينالون من أهاليها ونواحيها في البعوث والسرايا والجيوش، والآن صارت الأرض أعم وأشمل ولله الحمد على إعلاء شأن المسلمين زاده الله علوا، فلا يزال ينقص شيء من ديار الكفر ويريد في بلاد الإسلام.
ونقل عن ابن عباس أن المراد بنقص أطراف الأرض موت أشرافها وكبرائها وعلمائها وصلحائها. قال الواحدي: الأليق بالمقام هو القول الأول. وقد يوجه الثاني بأنه أراد أنهم إذا شاهدوا هذه التغيرات فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله عليهم الأمر فيجعلهم أذلة مغلوبين بعد أن كانوا أعزة غالبين. ثم أكد هذا المعنى بقوله: وَاللَّهُ يَحْكُمُ ومحل لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ نصب على الحال والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله وذلك أنه يعقبه بالرد والإبطال فكأنه قيل: والله يحكم نافذا حكمه. وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ عن ابن عباس: هو سريع الانتقام فيعاقبهم في الدنيا ثم في الآخرة. ثم سلى نبيه ﷺ بقوله: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ برسلهم كنمرود بإبراهيم وفرعون بموسى واليهود بعيسى. فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً. قال الواحدي: لأن مكر جميع الماكرين بتخليقه وإرادته ولأنه لا يضر إلا بإذنه ولا يؤثر إلا بتقديره. وقالت المعتزلة: إنه جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة إلى مكره.
وقيل: أراد فلله جزاء مكر الماكرين. قال الواحدي: والقول الأوّل أظهر بدليل قوله:
يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ يريد أن أكسابها بأسرها معلومة لله تعالى وخلاف معلومه ممتنع الوقوع فلا يقدر العبد على خلاف معلومه. وناقضت المعتزلة بأنه أثبت لكل نفس كسبا فدل على أنه مقدور العبد. وأجيب بأن المقتضي للفعل عندنا هو مجموع القدرة
وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ من قرأ على الجمع فظاهر، ومن قرأ على الوحدة فالمراد الجنس.
وعن ابن عباس أن المراد أبو جهل. وعن عطاء أراد المستهزئين وهم خمسة، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون.
ثم ذكر حاصل شبههم مع الجواب القاطع فقال: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً والمراد من هذه الشهادة أنه أظهر المعجزات على وفق دعواه ولا شهادة أعلى من هذه لأن الشهادة القولية منا لا تفيد إلا غلبة الظن وهذه تفيد القطع بصحة نبوته. ثم عطف على اسم الله قوله: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ أي الذي حصل عنده علم القرآن وفهم معانيه واشتماله على دلائل الإعجاز من النظم الأنيق والأسلوب العجيب الفائت لقوى البشر. فمن علم هذا الكتاب على هذا الوجه شهد بأنه معجز قاهر وأن الذي ظهر هذا المعجز عليه نبي حق ورسول صدق. وعن الحسن وسعيد بن جبير والزجاج: أن الكتاب هو اللوح المحفوظ. والمعنى كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح المحفوظ إلا هو يعني الله جل وعلا شهيدا. ويعضده قراءة من قرأ ومن عنده على من الجارة. واعترض على هذا القول بأن عطف الصفة على الموصوف بعيد لا يقال:
شهد بهذا زيد والفقيه، وإنما يقال: زيد الفقيه. وقيل: المراد شهادة أهل الكتاب من الذين آمنوا برسول الله كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري لأنهم يشهدون بنعته في كتبهم. والاعتراض بأن إثبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع جواز الكذب على أمثالهما لكونهم غير معصومين لا يجوز. وقال الزجاج: الأشبه أن الله تعالى لا يستشهد على صحة حكمه بغيره. وعن الحسن: لا والله ما يعني إلا الله. وعن سعيد بن جبير أن السورة مكية وابن سلام وأصحابه آمنوا بالمدينة بعد الهجرة والله أعلم بمراده.
التأويل:
وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ يعنى أن الصفة الرحمانية اقتضت إيجاد جميع الموجودات وإفاضة جميع النعم كما أن صفة القهارية كانت مقتضية للوحدة بأن لا يكون معه شيء ولا نعمة أجل من بعث الرسل، ففيه صلاح حال الدارين لهم، فإذا جحدوا الرسول فقد جحدوا الرحمن وهذا سبب تخصيص هذا الاسم بالمقام كقوله: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم: ٩٣] ولذلك أمر بأن يقول في الجواب: هُوَ رَبِّي الذي رباني لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا يستحق العبادة إلا هو ولا أفوض أمري إلا إليه وإليه مرجعي كما كان منه مبدئي سُيِّرَتْ بِهِ جبال النفوس أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ أرض البشرية أَوْ كُلِّمَ بِهِ القلوب الميتة بتلاوته عليهم تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا من كفرهم
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ يدرك الشقاء الأزلي. ومن أمارات الشقاوة الاستهزاء بالأنبياء والأولياء ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ أي أمسكتهم لئلا يرجعوا عن مقام الشقاوة لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
بالبعد والحجاب وعبودية النفس والهوى وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ
بأنواع الحسرات والشعور بالهيئات والملكات الموجبة للدركات أُكُلُها دائِمٌ هي مشاهدات الجمال ومكاشفات الجلال وَظِلُّها أي إنهم في ظل معاملاتهم وأحوالهم التابعة لشمس وجودهم على الدوام وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ هم السر والروح والقلب الذين فهموا أسرار القرآن وَمِنَ الْأَحْزابِ النفس والهوى والقوى مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ لثقل التكليف عليهم وللجهل بفوائده وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ المخالفين بالشرك في الطلب من بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ وهو طلب الوحدانية ببذل الأنانية وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً فيه أن الرسل جذبتهم العناية في البداية فترقوا من حضيض الحيوانية إلى أوج الروحانية ثم إلى معارج النبوة والرسالة في النهاية فلم يبق فيهم من دواعي البشرية ما يزعجهم إلى طلب الأزواج بالطبيعة والركون إلى الأولاد بخصائص الحيوانية بل رغبهم الله سبحانه في ذلك على وفق الشريعة بخصوصية الخلافة بإظهار صفة الخالقية ومثله وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ [الأنبياء: ٨] يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ لأهل السعادة من أفاعيل أهل الشقاوة وَيُثْبِتُ لهم من خصال أهل السعادة وبالعكس لأهل الشقاوة وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ الذي قدر فيه خاتمة كل من الفريقين وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بالكشف بعض مقاماتهم كما أخبر عن العشرة المبشرة بأنهم في الجنة وعن غيرهم بأنه في النار. أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أرض البشرية فننقص منها بالازدياد في الأوصاف الروحانية.