تفسير سورة سورة الرعد من كتاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم
.
لمؤلفه
المنتخب
.
المتوفي سنة 2008 هـ
( سورة الرعد ) سورة مكية وسميت ( الرعد ) لما اشتملت عليه من تقديس الرعد لله تعالي. وعدد آياتها ثلاث وأربعون آية، وقد ابتدأت ببيان منزلة القرآن الكريم، وأنه بوحي من الله، ثم بينت سلطان الله تعالي في الكون ونبهت إلي ما فيه من إبداع ومنافع، ثم انتقلت من بيان قدرة الله تعالي في الإنشاء إلي قدرته علي الإعادة والبعث، وعلي الله تعالي بكل شيء، وإلي بيان قدرته علي العقاب في الدنيا، وعليه يقاس العقاب في الآخرة. ثم وجهت الأنظار إلي ما في الكون من عجائب تبهر، وبعد ذلك بين الله تعالي أحوال الناس في تلقيهم للهدى القرآني، ثم ذكر أوصاف المؤمنين في علاقتهم بالإنسانية، وأخلاق الكافرين وتعنتهم في طلب معجزات غير القرآن مع عظم منزلته، وعظم استهزائهم برسولهم، وبين للرسول أنه قد استهزئ برسل من قبله، وأن الله تعالي قائم علي الأشياء والنفوس، وأنه مجاز كلا بما يستحق، وأن القرآن هو المعجزة الكبرى الباقية إلي يوم القيامة، وأن الله تعالي هو الذي يؤيد رسله بما يراه من معجزات وإذا كان المشركون ينكرون رسالة النبي فالله يشهد بصدقها وحسبه ذلك وكفي.
ﰡ
١- ألف. لام. ميم. راء. هذه حروف صوتية تبدأ بها بعض سور القرآن، وهي تشير إلي أنه معجز مع أنه مكون من الحروف التي تتكون منها كلمات العرب، وهذه الحروف الصوتية كانت تجذب العرب، لسماع القرآن. ذلك أن المشركين تواصوا فيما بينهم ألا يسمعوا هذا القرآن، فكان المؤمنون إذا ابتدأوا بهذه الحروف الصوتية استرعى ذلك أسماع المشركين فيسمعون.
إن تلك الآيات العظيمة هي هذا القرآن، الكتاب العظيم الشأن الذي نزل عليك - أيها النبي - بالحق والصدق من الله الذي خلقك واصطفاك، ولكن أكثر المشركين الذين كفروا بما جاء به من الحق ليس من شأنهم أن يذعنوا للحق، بل هم يعاندون فيه.
٢- إن الذي أنزل هذا الكتاب هو الله الذي رفع ما ترون من سموات تجرى فيها النجوم بغير أعمدة تُرى ولا يعلمها إلا الله، وإن كان قد ربط بينها وبين الأرض بروابط لا تنقطع إلا أن يشاء الله، وذلل الشمس والقمر بسلطانه لمنفعتكم، وهما يدوران بانتظام لزمن قدّره الله سبحانه وتعالي، وهو سبحانه يُدَبِّر كل شيء في السماوات والأرض، ويُبَيِّن لكم آياته الكونية رجاء أن توقنوا بالوحدانية.
٣- وهو سبحانه الذي بسط لكم الأرض، وجعلها ذلولاً تسيرون فيها شرقاً وغرباً، وجعل في هذه الأرض جبالا ثابتة وأنهاراً تجرى فيها المياه العذبة، وجعل من ماء هذه الأنهار الثمرات المختلفة التي تتوالد، والأصناف المتقابلة، منها الحلو والحامض، ومنها الأبيض والأسود، وأنه سبحانه يستر النهار بالليل، وأن في هذا الكون وعجائبه لعلامات بينة تثبت قدرة الله ووحدانيته لمن يتفكر ويتدبر.
٤- وإن الأرض ذاتها فيها عجائب، فيها قطع من الأرض يجاور بعضها بعضا، وهي مختلفة التربة مع ذلك، بعضها قاحل، وبعضها خصب، وإن اتحدت التربة، ففيها حدائق مملوءة بكروم العنب، وفيها زرع يحصد، ونخيل مثمر، وهي مجتمعة ومتفرقة، ومع أنها تسقى بماء واحد يختلف طعمها، وإن في هذه العجائب لدلائل واضحة علي قدرة الله لمن له عقل يفكر به.
٥- وإن أمر المشركين مع هذه الدلائل لعجب، فإن كنت يا محمد تعجب، فالعجب هو قولهم : أبعد الموت وبعد أن نصير تراباً نكون أحياء من جديد ؟ وهذا شأن الذين يكفرون بخالقهم، عقولهم قيدت بالضلال، ومآلهم النار التي يخلدون فيها، فهم جاحدون، مع أن مَنْ يقدر علي الإنشاء يقدر علي الإعادة.
٦- ويذهب بهم فرط ضلالهم أن يطلبوا إنزال العذاب عاجلا بدل أن يطلبوا الهداية التي تنقذهم، ويتوهمون أن الله لا ينزل بهم العقوبة في الدنيا إن أراد، وقد مضت عقوبات أمثالهم علي ذلك، فيمن أهلكهم الله قبلهم، وشأن الله أن يغفر الظلم لمن يتوب ويعود إلي الحق، وينزل العقاب الشديد بمن يستمر علي ضلاله.
٧- ويقول هؤلاء الجاحدون غير معتدين بالمعجزة الكبرى، وهي القرآن : هلا أنزل عليه ربه علامة علي نبوته من الحس كتحريك الجبال، فيبين الله لنبيه الحق في القضية ؟ ويقول له سبحانه : إنما أنت - أيها النبي - منذر لهم بسوء العاقبة، إن استمروا علي ضلالهم، ولكل قوم رسول يهديهم إلي الحق، ومعجزة تبين رسالته، وليس لهم أن يختاروا، إنما عليهم أن يجيبوا التحدي وأن يأتوا بمثله.
٨- الذي أعطى الرسول تلك المعجزة الكبرى هو الذي يعلم كل شيء، ويعلم النفوس الإنسانية من وجودها نطفة في الرحم إلي موتها، فيعلم ما تحمل كل أنثى من أجنة ليس فقط من ذكورة أو من أنوثة، وإنما يعلم حال الجنين ومستقبله في حياته الدنيا شقي أم سعيد، مؤمن أم كافر، غنى أم فقير، ومقدار أجله في الدنيا وكل ما يتصل بشئونه في الحياة.
٩- هو الذي يعلم ما يغيب عن حسنا، ويعلم ما نشاهده علماً، أعظم مما نشاهد ونرى، وهو سبحانه العظيم الشأن الذي يعلم كل ما في الوجود.
١٠- يعلم كل أحوالكم في حياتكم، وكل أقوالكم وأعمالكم، فيعلم ما تسرون، وما تعلنون من أفعال وأقوال، ويعلم استخفاءكم بالليل وبروزكم بالنهار، والكل في علمه سواء.
١١- وأن الله سبحانه هو الذي يحفظكم، فكل واحد من الناس له ملائكة تحفظه بأمر الله وتتناوب علي حفظه من أمامه ومن خلفه، وأن الله سبحانه لا يغير حال قوم من شدة إلي رخاء، ومن قوة إلي ضعف، حتى يغيروا ما بأنفسهم بما يتناسب مع الحال التي يصيرون إليها، وإذا أراد الله أن ينزل بقوم ما يسوؤهم فليس لهم ناصر يحميهم من أمره، ولا من يتولي أمورهم فيدفع عنهم ما ينزل بهم.
١٢- وإن قدرة الله تعالي في الكون بارزة آثارها ظاهرة، فهو الذي يريكم البرق فترهبون منظره، أو تخافون أن ينزل عليكم المطر من غير حاجة إليه فيفسد الزرع، أو تطمعون من وراء البرق في مطر غزير تحتاجون إليه ليصلح الزرع. وهو الذي يكوِّن السحب المملوءة بالأمطار.
١٣- وإن الرعد خاضع لله سبحانه وتعالي خضوعاً مطلقاً، حتى أن صوته الذي تسمعون كأنه تسبيح له سبحانه بالحمد علي تكوينه، دلالة علي خضوعه، وكذلك الأرواح الطاهرة التي لا ترونها تسبِّح حامدة له، وهو الذي يُنْزِل الصواعق المحرقة فيصيب بها من يريد أن تنزل عليه، ومع هذه الدلائل الظاهرة الدالة علي قدرته سبحانه يجادلون في شأن الله سبحانه، وهو شديد القوة والتدبير في رد كيد الأعداء.
١٤- وأن الذين يدعون في خوفهم وأمنهم من الأصنام - دون أن يدعوا الله وحده - لا يجيبون لهم نداء ولا دعاء، وحالهم معهم كحال مَنْ يبْسط كفه ويضعها ليحمل بهذه اليد المبسوطة الماء ليبلغ فمه فيرتوي، وليس من شأن الكف المبسوطة أن توصل الماء إلي الفم، وإذا كانت تلك حالهم فما دعاؤهم الأصنام إلا ضياع وخسارة.
١٥- والله سبحانه يخضع لإرادته وعظمته كل من في السماوات والأرض من أكْوان وأناس وجن وملائكة طائعين، أو كارهين لما ينزل بهم، حتى ظلالهم من طول وقصر حسب أوقات النهار في الظهيرة وفي الأصيل خاضعة لأمر الله ونهيه.
١٦- أمر الله نبيه أن يجادل المشركين هادياً مبيناً، فقال له : قل لهم - أيها النبي - : مَنْ الذي خلق السماوات والأرض، وهو الحافظ لهما، والمسير لما فيهما ؟ ثم بين لهم الجواب الصحيح الذي لا يحارون فيه، فقل لهم : هو الله المعبود بحق دون سواه، فكان حقا عليكم أن تعبدوه - وحده - ثم قل لهم : أفترون الأدلة المثبتة لإنشائه - وحده - كل شيء. وتتخذون مع ذلك أوثاناً تعتبرونها آلهة من غير أن تقروا بوحدانيته، وهذه الأوثان لا تملك لذاتها نفعاً ولا ضراً، فكيف تسوونها بالخالق المدبر، إنكم تسوون بين الخالق لكل شيء ومن لا يملك شيئاً ! فكنتم كمن يسوي بين المتضادين، فهل يستوي من يبصر ومن لا يبصر ؟ وهل تستوي الظلمة المتكاثفة الحالكة والنور المبين ؟ أيسوغون تلك التسوية ؟ أم ذهب بهم فرط ضلالهم إلي زعم أن أوثانهم شركاء له في الخلق والتدبير، فتشابه عليهم أمر الخلق، كما ضلوا العبادة، قل لهم، أيها النبي : الله - وحده - هو الخالق لكل ما في الوجود، وهو المتفرد بالخلق والعبادة، الغالب علي كل شيء.
١٧- وأن نعمه تعالى مرئية لكم، وأصنامكم لا تأثير لها في هذه النعم، فهو الذي أنزل عليكم الأمطار من السحاب، فتسيل بها الأنهار والوديان كل بالمقدار الذي قدره الله تعالي لإنبات الزرع، وإثمار الشجر. والأنهار في جريانها تحمل ما لا نفع فيه ويعلو علي سطحها، فيكون فيها ما فيه نفع فيبقى، وما لا نفع فيه يذهب. ومثل ذلك الحق والباطل، فالأول يبقى والثاني يذهب، ومن المعادن التي يصهرونها بالنار ما يتخذون منها حلية كالذهب والفضة، ومنافع ينتفعون بها كالحديد والنحاس، ومنها ما لا نفع فيه يعلو السطح، وأن ما لا نفع فيه يرمى وينبذ، وما فيه النفع يبقى، كذلك الأمر في العقائد ما هو ضلال يذهب، وما هو صدق يبقى. وبمثل هذا يبين الله سبحانه الحقائق، ويمثل بعضها ببعض لتكون كلها واضحة بينة.
١٨- وإن الناس في تلقيهم للهدى قسمان : قسم أجاب دعوة الله الخالق المدبر، فلهم العاقبة الحسنى في الدنيا والآخرة، وقسم لم يُجب دعوة الذي أنشأه، وهؤلاء لهم العاقبة في الآخرة، ولو ثبت لهم ملك كل ما في الأرض جميعاً ومثله معه، ما استطاعوا أن يدفعوا عن أنفسهم العاقبة السيئة، ولكن إني يكون لهم ذلك الملك ؟ ولذلك كان لهم حساب يسوؤهم وينتهون به إلي جهنم وبئس القرار والمستقر.
١٩- إن المهتدين والضالين لا يستوون، فهل يكون الذي يعلم أن ما نزل عليك من الله الذي ربَّاك وكوَّنك واصطفاك لأداء رسالته، هو الحق الذي لا شك فيه.. هل يكون كمن ضل عن الحق، حتى صار كالأعمى الذي لا يبصر ؟ إنه لا يدرك الحق وما يتذكر عظمة الله إلا أصحاب العقول التي تفكر.
٢٠- أولئك الذين يدركون الحق، هم الذين يوفون بعهد الله تعالي عليهم بمقتضى الفطرة والتكوين وبمقتضى توثيق عقودهم وعهودهم، ولا يقطعون المواثيق التي عقدوها باسم الله بينهم وبين العباد، ولا بالميثاق الأكبر الذي عقده بالفطرة والتكوين، وجعلهم يدركون الحق ويؤمنون، إلا أن يضلوا في يقينهم.
٢١- وأولئك المؤمنون من دأبهم المحبة والطاعة، إنهم يعقدون المودة مع الناس ويخصون ذوي أرحامهم، ويؤيدون ولاتهم في الحق، وهم يعرفون حق الله فيخشونه، ويخافون الحساب الذي يسوؤهم يوم القيامة فيتوقّون الذنوب ما استطاعوا.
٢٢- وهم يصبرون علي الأذى يطلبون رضا الله بتحمله في سبيل إعلاء الحق، ويؤدون الصلاة علي وجهها تطهيراً لأرواحهم وتذكراً لربهم، وينفقون من المال الذي أعطاهم الله في السر والعلن من غير رياء، ويدفعون السيئات بالحسنات يقومون بها، وهم بهذه الصفات لهم العاقبة الحسنة، بالإقامة يوم القيامة بأحسن دار وهي الجنة.
٢٣- تلك العاقبة الطيبة إقامة مستمرة في الجنات والنعيم، يكونون فيها هم وآباؤهم الذين صلحت عقائدهم وأعمالهم، ومعهم أزواجهم وذرياتهم والملائكة تحييهم وتجيء إليهم من كل ناحية.
٢٤- وتقول لهم : السلام الدائم لكم بسبب صبركم علي الأذى وصبركم في مكافحة أهوائكم، وما أحسن هذه العاقبة التي صرتم إليها، وهي الإقامة في دار النعيم.
٢٥- وأن أوصاف المؤمنين الطيبة تقابلها أوصاف المشركين الذميمة.. فالمشركون ينقضون عهد الله الذي أخذه عليهم بمقتضى الفطرة ووثقه، فيخالفون فطرتهم وعقولهم بعبادتهم حجارة لا تنفع، ولا تضر، وينكثون في عهودهم مع العباد، ثم يقطعون مودتهم مع الناس وصلتهم بالله، فلا يطيعون أوامره ولا يفردونه بالعبادة ويفسدون في الأرض بالاعتداء فيها، وعدم إصلاحها والانتفاع بها، والله سبحانه لا يحب العبث والإفساد.
٢٦- وإذا كان أولئك المشركون يرون أنهم قد أُوتوا مالاً وفيراً، والمؤمنون فقراء ضعفاء، فليعلموا أن الله تعالي يعطى الرزق الوفير لمن يشاء إذا أخذ في الأسباب، ويضيِّقه علي من يشاء، فهو يعطيه للمؤمن وغير المؤمن، فلا تظنوا أن كثرة المال في أيديهم دليل علي أنهم علي الحق، ولكنهم يفرحون بما أوتوا من مال، مع أن الله تعالي يعطى الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، وما الحياة الدنيا إلا متع عارضة ضئيلة فانية.
٢٧- وأن أولئك المشركين تذهب بهم اللجاجة فيقولون : هلا أُنزل علي النبي من الله معجزة أخرى ؟ فقل - أيها النبي - : إن السبب في عدم إيمانكم ليس نقص المعجزة، إنما هو الضلال، والله سبحانه وتعالي يضل من يريد ضلاله ما دام يسير في طريق الضلال، ويهدى إلي الحق من يرجع إلي الله دائماً.
٢٨- وأن هؤلاء الذين يرجعون إلي الله، ويقبلون علي الحق، هم الذين آمنوا وهم الذين تسكن قلوبهم عند ذكر الله تعالي بالقرآن وغيره، وإن القلوب لا تسكن وتطمئن إلا بتذكر عظمة الله وقدرته وطلب رضاه بطاعته.
٢٩- وإن الذين أذعنوا للحق، وقاموا بالأعمال الصالحة، لهم العاقبة الطيبة والمآل الحسن.
٣٠- كما أرسلنا إلي الماضين من الأمم رسلا بينوا لهم الحق، فضل من ضل واهتدى من اهتدى، وآتيناهم معجزات تدل علي رسالتهم، أرسلناك في أمة العرب وغيرهم، وقد مضت من قبلهم أمم، وكانت معجزتك القرآن لتقرأه لهم قراءة توضح معانيه وجلاله، وهم جاحدون برحمة الله عليهم بإنزال القرآن، فقل لهم - أيها النبي - : الله هو الذي خلقني ويحميني ويرحمني، لا إله يُعبد - بحق - غيره، أعتمد عليه - وحده - وإليه مرجعي ومرجعكم.
٣١- إنهم يطلبون معجزة غير القرآن مع عظم تأثيره لو طلبوا الحق وأذعنوا له، فلو ثبت أن كتاباً يُقرأ فتتحرك به الجبال من أماكنها، أو تتصدع به الأرض، أو تخاطب به الموتى، لكان ذلك هو القرآن، ولكنهم معاندون، ولله - وحده - الأمر كله في المعجزات وجزاء الجاحدين، وله في ذلك القدرة الكاملة، وإذا كانوا في هذه الحال من العناد، أفلا ييأس الذين أذعنوا للحق من أن يؤمن هؤلاء الجاحدين، وإن جحودهم بإرادة الله، ولو أراد أن يهتدي الناس جميعاً لاهتدوا، وأن قدرة الله ظاهرة بين أيديهم، فلا يزالون تصيبهم بسبب أعمالهم القوارع الشديدة التي تهلكهم، أو تنزل قريباً منهم، حتى يكون الموعد الذي وعد الله به، والله تعالي لا يخلف موعده.
٣٢- وإذا كان أولئك الجاحدون قد استهزأوا بما تدعو إليه وبالقرآن، فقد سخروا بالرسل الذين أرسلوا قبلك - أيها النبي - فلا تحزن لأني أمهل الذين جحدوا ثم آخذهم فيكون العقاب الشديد الذي لا يقدر وصفه ولا تُعرف حاله.
٣٣- إن المشركين ضلوا في جحودهم، فجعلوا لله شركاء في العبادة، فهل من هو حافظ مراقب لكل نفس مُحْصٍ عليها ما تكسب من خير أو شر، تماثله هذه الأوثان ؟ قل لهم - أيها النبي - : صفوهم بأوصافهم الحقيقية، أهم أحياء ؟ أهم يدفعون الضر عن أنفسهم ؟ فإن كانت حجارة لا تنفع ولا تضر، فهل تخدعون أنفسكم بأن يخبروا الله بما تتوهمون أنه لا يعلمه في هذه الأرض، أم تضعونهم في موضع العبادة بألفاظ تتلوى بها ألسنتكم، بل الحقيقة أنه زين لهم تدبيرهم وتمويههم الباطل، وبسبب ذلك صرفوا عن طريق الحق وتاهوا، ومن يكن ضلالهم مثلهم، فلن يهديه أحد، لأنه صرف نفسه عن سبيل الهداية.
٣٤- لهم العذاب في الدنيا بالهزيمة والأسر والقتل، إن سار المؤمنون في سبيل الحق، ولعذاب الآخرة النازل بهم لا محالة أشد وأدوْم، وما لهم أحد يقيهم من عذاب الله القاهر فوق كل شيء.
٣٥- وإذا كان لهؤلاء هذا العذاب، فللمؤمنين الجنة ونعيمها، وقد وعدوا بها. وحال هذه الجنة التي وعد بها أولئك الذين استقاموا علي الحق، وجعلوا بينهم وبين الباطل وقاية من الإيمان أنها تجرى من تحت أشجارها المياه العذبة ثمراتها دائمة لا تنقطع، وظلها دائم. وهذه عاقبة الذين اتقوا الشر. أما الجاحدون فعاقبتهم دخول النار.
٣٦- والذين أعطوا علم الكتب المنزلة من شأنهم أن يفرحوا بالكتاب الذي أنزل عليك : لأنه امتداد للرسالة الإلهية، ومن يتخذون التدين تحزباً : ينكرون بعض ما أنزل إليك عداوة وعصبية، فقل - أيها النبي - : إني ما أمرت إلا بأن أعبد الله لا أشرك في عبادته شيئاً، وإلي عبادته - وحده - أدعو، وإليه - وحده - مرجعي.
٣٧- ومِثْل الإنزال للكتب السماوية، أنزلنا إليك القرآن حاكماً للناس فيما بينهم، وحاكماً علي الكتب السابقة بالصدق. وقد أنزلناه بلغة عربية، فهو عربي، ولا تساير المشركين أو أهل الكتاب بعد الذي جاءك من الوحي والعلم، ولئن سايرتهم فما لك ناصر ينصرك من الله، أو يقيك منه. والخطاب للنبي، وهو أولى بالمؤمنين، والتحذير لهم حقيقي، وللنبي لبيان أنه مع اصطفائه وعلو منزلته قابل للتحذير.
٣٨- وإذا كان المشركون يثيرون العجب من أن لك أزواجاً وذرية، ويطلبون معجزة غير القرآن، فقد أرسلنا من قبلك رسلا لهم أزواج وأولاد، فالرسول من البشر له أوصاف البشر، ولكنه خير كله، وليس لنبي أن يأتي بمعجزة كما يحب أو يحب قومه، بل الذي يأتي بالمعجزة هو الله، وهو الذي يأذن له بها. لكل جيل من الأجيال أمر كتبه الله لهم يصلح به أمرهم، فلكل جيل معجزته التي تناسبه.
٣٩- يمحو الله ما يشاء من شرائع ومعجزات، ويحل محلها ما يشاء ويثبته وعنده أصل الشرائع الثابت الذي لا يتغير، وهو الوحدانية وأمهات الفضائل، وغير ذلك.
٤٠- ولئن أريناك بعض الذي نعدهم من ثواب أو عقاب، أو توفَّيناك قبل ذلك، لرأيت هول ما ينزل بالمشركين، ولرأيت نعيم المؤمنين، وليس عليك هذا، إنما الذي عليك أن تبلغ الرسالة والحساب علينا وحدنا.
٤١- وإن أمارات العذاب والهزيمة قائمة، ألم ينظروا إلي أنّا نأتي الأرض التي قد استولوا عليها، يأخذها منهم المؤمنون جزءا بعد جزء ؟ وبذلك ننقص عليهم الأرض من حولهم، والله - وحده - هو الذي يحكم بالنصر أو الهزيمة، والثواب أو العقاب، ولا راد لحكمه، وحسابه سريع في وقته، فلا يحتاج الفصل إلي وقت طويل، لأن عنده علم كل شيء، فالبينات قائمة.
٤٢- وقد دبَّر الذين من قبلهم التَّدبير السيئ لرسلهم، ولله سبحانه تدبير الأمر كله في حاضر الكافرين وقابلهم، وسيكون الجزاء علي ما يصنعون، وهو يعلم ما تعمله كل نفس، وإذا كانوا يجهلون أن العاقبة الحسنة للمؤمنين، فسيعلمون يوم القيامة - بالرؤية - لمن تكون العاقبة الحسنة بالإقامة في دار النعيم.
٤٣- والغاية من المراء الذي يقوم به الذين جحدوا ولم يذعنوا للحق أن يقولوا لك - أيها النبي - لست مرسلا من عند الله، فقل لهم : حسبي أن الله هو الذي يحكم بيني وبينكم، والذي يعلم حقيقة القرآن، وما يدل عليه من إعجاز باهر تُدركه العقول السليمة.