تفسير سورة الجاثية

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
( سورة الجاثية مكية. حروفها ألفان ومائة وأحد وستون، كلمها أربعمائة وثمان وثمانون، آياتها سبع وثلاثون ).

ﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋ ﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚﰛﰜﰝﰞﰟﰠﰡﰢ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ
(سورة الجاثية)
(مكية حروفها ألفان ومائة وأحد وستون كلمها أربعمائة وثمان وثمانون آياتها سبع وثلاثون)
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١ الى ٣٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤)
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩)
مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩)
هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤)
ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧)
108
القراآت:
وَفِي خَلْقِكُمْ مدغما: عباس. آيات بالنصب في الموضعين: حمزة وعلي ويعقوب الريح على التوحيد: حمزة وعلي وخلف يُؤْمِنُونَ على الغيبة:
أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وسهل وحفص أَلِيمٌ مذكور في «سبأ» لنجزي بالنون: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف لِيَجْزِيَ بالياء مبنيا للمفعول قوم بالرفع:
يزيد. الباقون: مبنيا للفاعل قَوْماً سواء بالنصب: حمزة وعلي وخلف وحفص وروح وزيد غشاوة بفتح الغين وسكون الشين من غير ألف: حمزة وعلي وخلف ٣ كل أمة تدعي بالنصب على الإبدال من الأول: يعقوب الساعة بالنصب: حمزة لا يُخْرَجُونَ من الخروج حمزة وعلي وخلف.
الوقوف:
حم كوفي هـ الْحَكِيمِ هـ لِلْمُؤْمِنِينَ هـ ط ومن نصب، آياتٌ لم يقف لأنه عطف المفردين على المفردين وهما الخبر واسم أن المفردين يُوقِنُونَ هـ لا للعطف على عاملين كما يجيء يَعْقِلُونَ هـ بِالْحَقِّ ج للاستفهام مع الفاء يُؤْمِنُونَ هـ أَثِيمٍ هـ يَسْمَعْها ج لانقطاع النظم مع فاء التعقيب أَلِيمٍ هـ هُزُواً ط مُهِينٌ هـ ط لأنه لو وصل اشتبه بأنها وصف عَذابٌ جهنم ج لعطف المختلفين أَوْلِياءَ ج لذلك عَظِيمٌ هـ هُدىً ط لأن ما بعده مبتدأ مع العاطف أَلِيمٌ هـ
109
تَشْكُرُونَ هـ ج للآية مع العطف مِنْهُ ط يَتَفَكَّرُونَ ج يَكْسِبُونَ هـ فَلِنَفْسِهِ ج فَعَلَيْها ز لأن «ثم» لترتيب الأخبار مع اتحاد القصة تُرْجَعُونَ هـ الْعالَمِينَ هـ ج للآية والعطف مِنَ الْأَمْرِ ج لعطف المختلفين بَيْنَهُمْ ط يَخْتَلِفُونَ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ شَيْئاً ج بَعْضٍ ج للتمييز بين الحالين المختلفين مع اتفاق الجملتين الْمُتَّقِينَ هـ يُوقِنُونَ هـ الصَّالِحاتِ
قف ومن نصب سَواءً
لم يقف. وَمَماتُهُمْ
ط يَحْكُمُونَ
هـ لا يُظْلَمُونَ هـ غِشاوَةً ط مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ط تَذَكَّرُونَ هـ الدَّهْرُ ج لاحتمال الواو الحال مِنْ عِلْمٍ ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى يَظُنُّونَ هـ صادِقِينَ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط الْمُبْطِلُونَ هـ جاثِيَةً قف لمن قرأ كُلَّ بالرفع كِتابِهَا ط تَعْمَلُونَ هـ بِالْحَقِّ هـ ط تَعْمَلُونَ هـ فِي رَحْمَتِهِ ط الْمُبِينُ هـ مُجْرِمِينَ هـ مَا السَّاعَةُ لا تحرزا عن الابتداء بقول الكفار بِمُسْتَيْقِنِينَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ ناصِرِينَ هـ الدُّنْيا ج للعدول عن الخطاب إلى الغيبة يُسْتَعْتَبُونَ هـ الْعالَمِينَ هـ وَالْأَرْضِ ص لعطف الجملتين المتفقتين الْحَكِيمُ هـ.
التفسير:
إعراب أول السورة وتفسيرها كإعراب أول «المؤمن» وتفسيره وقوله إِنَّ فِي السَّماواتِ إما أن يكون على ظاهره وآياتها الشمس والقمر والنجوم وحركاتها وأوضاعها وكذا العناصر والمواليد التي في الأرض مما يعجز الحاصر عن إدراك أعدادها، وإما أن يراد إن في خلق السموات والأرض فالآيات تشمل ما عددنا مع زيادة هيئتهما وما يتعلق بتشخيصهما. استدل الأخفش بالآية الثالثة على جواز العطف على عاملين مختلفين وهما في قراءة النصب «أن» وفي أقيمت الواو مقامهما فعملت الجر في اختلاف الليل، والنصب في آيات وهما في قراءة الرفع الابتداء وفي. وخرج لسيبويه في جوابه وجهان: أحدهما أن قوله لَآياتٍ تكرار محض للتأكيد فقط من غير حاجة إلى ذكرها كما تقول: إن في الدار زيدا وفي الحجرة زيدا والمسجد زيدا، وأنت تريد أن في الدار زيدا والحجرة والمسجد.
والثاني إضمار في لدلالة الأول عليه، ويحتمل أن ينتصب لَآياتٍ على الاختصاص.
ويرتفع بإضمار هي. وتفسير هذه الآيات قد مر في نظائرها مرارا ولا سيما في أواسط «البقرة» ومما يختص بالمقام أنه خص المؤمنين بالذكر أولا ثم قال لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ثم يَعْقِلُونَ فما سبب هذا الترتيب؟ قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: أراد إن كنتم مؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإلا فإن كنتم طلاب الحق واليقين فافهموا هذه الدلائل، وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين، فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل، وقال جار الله: معناه إن المنصفين من العباد إذا نظروا في السموات
110
والأرض النظر الصحيح علموا أنها لا بد لها من صانع فآمنوا به وأقروا، فإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال. وفي خلق ما بث من الدواب على ظهر الأرض، ازدادوا إيمانا وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس، وإذا نظروا في سائر الحوادث كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار التي هي سبب الأرزاق وحياة الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا، عقلوا واستحكم عقلهم وخلص يقينهم. وأقول: الدلائل المذكورة في هذه الآيات قسمان: نفسية وخارجية. فالنفسية أولى بالإيقان لأنه لا شيء أقرب إلى الإنسان من نفسه، والخارجية بعضها فلكية وبعضها آثار علوية. فالفلكية لبعدها عن الإنسان اكتفى فيها بمجرد التصديق، وأما الآثار العلوية فكانت أولى بالنظر والاستدلال لقربها وللإحساس بها فلا جرم خصت بالتعقل والتدبر، وأما تقديم السموات على الأرض فلشمولها ولتقدمها في الوجود. تِلْكَ مبتدأ والتبعيد للتعظيم والمشار إليها الآيات المتقدمة ونَتْلُوها في محل الحال. وقوله بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ كقولهم: أعجبني زيد وكرمه. وأصله بعد آيات الله. والمعنى أن من لم يؤمن بكلام الله فلن يؤمن بحديث سواه.
وقيل: معناه القرآن آخر كتب الله، ومحمد آخر رسله. فإن لم يؤمنوا به فبأي كتاب بعده يؤمنون ولا كتاب بعده ولا نبي. ثم أوعد الناس المبالغين في الإثم وقد مر ما في الآية في سورة لقمان. قوله وَإِذا عَلِمَ أي شعر وأحس بأنه من جملة القرآن المنزل خاض في الاستهزاء، وإذا وقف على آية لها محل في باب الطعن والقدح افترضه وحمله على الوجه الموجب للطعن كاعتراض ابن الزبعري في قوله إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء: ٩٨] وإنما أنّث الضمير في قوله اتَّخَذَها لأن الشيء في معنى الآية أو لأنه أراد أن يتخذ جميع الآيات هزوا ولا يقتصر على الاستهزاء بما بلغه. قوله مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ كل ما توارى عنك فهو وراء تقدم أو تأخر، وقد مر في سورة إبراهيم عليه السلام هذا هُدىً أي هذا القرآن كامل في باب الهداية والإرشاد. ثم ذكر دليلا آخر على الوحدانية وهو تسخير البحر لبني آدم وقد سبق وجه الدلالة مرارا. وقوله وَلِتَبْتَغُوا أي بسبب التجارة أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان أو باستخراج اللحم الطري. ثم عمم بعد التخصيص وقوله مِنْهُ في موضع الحال أي سخر جميع ما في السموات والأرض كائنة منه، يريد أنه أوجدها بقدرته وحكمته ثم سخرها لخلقه، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذه النعم كلها منه.
عن ابن عباس برواية عطاء أن الصحابة نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر- يقال لها المريسيع- فأرسل عبد الله بن أبيّ غلامه ليستقي الماء فأبطأ عليه فلما أتاه قال له: ما حبسك؟ قال: غلام عمر قعد على رأس البئر فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي
111
وقرب أبي بكر وملأ لمولاه. فقال عبد الله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك فبلغ قوله عمر فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني عمر يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لا يتوقعون وقائعه بأعداء الله أو لا يأملون قوة المؤمنين في أيام الله الموعودة لهم، والمراد الصفح والإعراض. عن عبد الله بن أبي وفي رواية ميمون بن مهران عن ابن عباس: لما نزلت مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ [البقرة: ٢٤٥] قال اليهودي فنحاص بن عازوراء: احتاج رب محمد فبلغ ذلك عمر فأخذ سيفه فخرج في طلبه، فجاء جبرائيل وأنزل الآية هذه. وليس المقصود أن لا تقتلوا ولا تقاتلوا حتى يلزم نسخها بآية القتال كما ذهب إليه كثير من المفسرين، ولكن الأولى أن يحمل على ترك المنازعة في المحقرات وفي أفعالهم الموحشة المؤذية، وإنما نكر قَوْماً مع أنه أراد بقوم الذين آمنوا وهم معارف ليدل على مدحهم والثناء عليهم كأنه قيل: لنجزي قوما كاملين في الصبر والإغضاء على أذى الأعداء بما يكسبون من الثواب العظيم بكظم الغيظ واحتمال المكروه، وقيل: القوم هم الكافرون الكاملون في النفاق. ثم فصل الجزاء وعمم الحكم بقوله مَنْ عَمِلَ صالِحاً الآية.
ثم بين أن للمتأخرين من الكفار أسوة بالمتقدمين منهم والكتاب التوراة والحكم بيان الشرائع والبينات من الأمر أدلة أمور الدين. وقال ابن عباس: يريد أنه تبين لهم من أمر النبي ﷺ أنه مهاجر من تهامة إلى يثرب. وقيل: هي المعجزات القاهرة على صحة نبوة موسى. فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ فيه احتمالان: أحدهما علموا ثم عاندوا، والثاني جاءهم أسباب المعرفة التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحق ولكنهم أظهروا النزاع حسدا. ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ أي منهاج وطريقة مِنَ الْأَمْرِ أمر الدين وقيل:
من الأمر الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا. قال الكلبي: إن رؤساء قريش قالوا للنبي ﷺ وهو بمكة ارجع إلى ملة آبائك وهم كانوا أفضل منك وأسن فزجره الله تعالى عن ذلك بقوله وَلا تَتَّبِعْ إلى آخره أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة لصرت مستحقا للعذاب وهم لا يقدرون على دفعه عنك. ثم أشار بعد النهي عن اتباع أهوائهم بقوله وَلا تَتَّبِعْ أتباعهم إلى الفرق بين ولاة الظالمين وهم أشكالهم من الظلمة، وبين ولي المتقين وهو الله سبحانه. ومن جملة آثار ولايته وبركة عنايته هذا القرآن. وقيل: ما تقدم من اتباع الشريعة وترك طاعة الظالم وجعل القرآن مشارا إليه أولى لقوله بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ إلى آخره. وقد مر في آخر «الأعراف» مثله. ثم بين الفرق بين الظالمين والمتقين من وجه آخر قائلا أَمْ حَسِبَ
قال جار الله: «أم» منقطعة والآية نظيرة ما سلف في «ص» أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ [الآية: ٢٨] والاجتراح الاكتساب. من قرأ
112
سَواءً
بالنصب فمعناه مستويا والظاهر بعده فاعله ويكون انتصابه على البدل من ثاني مفعولي نَجْعَلَهُمْ
وهو الكاف. ومن قرأ بالرفع فخبر ومَحْياهُمْ
مبتدأ والجملة بدل أيضا لأن الجملة تقع مفعولا ثانيا. والمعنى إنكار أن يستوي الفريقان حياة وموتا، لأن المحسنين عاشوا على الطاعة وإنهم عاشوا على المعصية ومات أولئك على البشرى والرحمة، ومات هؤلاء على الضد. وقيل: معناه إنكار أن يستويا في الممات كما استووا في الحياة من حيث الصحة والرزق، بل قد يكون الكافر أرجح حالا من المؤمن. فالفرق المقتضي لسعادة المؤمن وشقاوة الكافر إنما يظهر بعد الوفاة. وقيل: إنه كلام مستأنف، والمراد أن كلا من الفريقين يموت على حسب ما عاش عليه
لقوله ﷺ «كما تعيشون تموتون»
وحين أفتى بأن المؤمن لا يساويه الكافر في درجات السعادات استدل على صحة هذه الدعوى بقوله وَخَلَقَ اللَّهُ الآية. قال جار الله: وَلِتُجْزى معطوف على بِالْحَقِّ لأنه في معنى التعليل أي للعدل، أو ليدل بها على قدرته وللجزاء. ويجوز أن يكون المعلل محذوفا وهو فعلنا ونحوه. والحاصل أن الغاية من خلق السماء والأرض كان هو الإنسان الكامل فكيف يترك الله جزاءه وجزاء من هو ضده والتميز بينهما بموجب العدالة. ثم قرر أسباب ضلال المضلين قائلا أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أي يتبع ما تدعو إليه نفسه الأمارة وقد مر في الفرقان وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ بحاله أنه من أهل الخذلان والقهر، أو على علم الضلال في سابق القضاء، أو على علم بوجوه الهداية وإحاطته بالألطاف المحصلة لها. وقيل: أراد به المعاند لأن ضلاله عن علم فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ إضلال اللَّهُ قال بعض العلماء: قدم السمع على القلب في هذه الآية وبالعكس في «البقرة» لأن كفار مكة كانوا يبغضونه بقلوبهم وما كانوا يستمعون إليه وكفار المدينة، كانوا يلقون إلى الناس أن النبي ﷺ شاعر وكاهن وأنه يطلب الملك والرياسة، فالسامعون إذا سمعوا ذلك أبغضوه ونفرت قلوبهم عنه. ففي هذه الصورة على هذا التقدير كان الأثر يصعد من البدن إلى جوهر النفس، وفي الصورة الأولى كان الأثر ينزل من جوهر النفس إلى قرار البدن، فورد ما في كل سورة على ترتيبه. ثم ذكر من أسباب الضلال سببا آخر وهو إنكارهم البعث معتقدين أن لا حياة إلا هذه. وليس قولهم الدنيا تسلما لثانية وإنما هو قول منهم على لسان المقرين وبزعمهم نَمُوتُ وَنَحْيا فيه تقديم وتأخير على أن الواو لا توجب الترتيب. وقيل: يموت الآباء وتحيا الأبناء وحياة الأبناء حياة الآباء، أو يموت بعض، ويحيا بعض، أو أرادوا بكونهم أمواتا حال كونهم نطفا، أو هو على مذهب أهل التناسخ أي يموت الرجل ثم تجعل روحه في بدن آخر. ثم إنهم لم يقنعوا بإنكار المعاد حتى ضموا إليه إنكار المبدأ قائلين وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ اعتقدوا أن تولد الأشخاص وكون
113
الممتزجات وفسادها ليس إلا بسبب مزاوجات الكواكب. ولا حاجة في هذا الباب إلى مبدىء المبادئ فأجاب الله عن شبهتهم بقوله وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي ليس لهم على ما قالوه دليل وإنما ذكروا ذلك ظنا تخمينا واستبعادا فلا ينبغي للعاقل أن يلتفت إلى قولهم، لأن الحجة قامت على نقيض ذلك وهي دليل المبدأ والمعاد المذكور مرارا وأطوارا. وليس قولهم ائْتُوا بِآبائِنا من الحجة في شيء لأنه ليس كل ما لا يحصل في الحال فإنه يمتنع حصوله في الاستقبال بدليل الحادث اليومي الممتنع حصوله في الأمس، فوجه الاستثناء أنه في أسلوب قوله:
تحية بينهم ضرب وجيع وحين بكتهم وسكتهم صرح بما هو الحق وقال قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ إلى آخره. ثم أراد أن يختم السورة بوصف يوم القيامة وما سيجري على الكفار فيه فقال وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ العامل فيه يخسر وقوله يَوْمَئِذٍ بدل من يَوْمَ وفيه تأكيد للحصر المستفاد من تقديم الظرف. قال ابن عباس: الجاثية المجتمعة للحساب المترقبة لما يعمل بها. وقيل: باركة جلسة المدعي عند الحاكم. وقيل: مستوفزا لا يصيب الأرض إلا ركبتاه وأطراف أنامله.
والجثو للكفار خاصة. وقيل: عام بدليل قوله بعد ذلك فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا تُدْعى إِلى كِتابِهَا يريد كتاب الحفظة ليقرؤه. وقال الجاحظ: إلى كتاب نبيها فينظر هل عملوا به أم لا. ويقال: يا أهل التوراة يا أهل القرآن. الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ بتقدير القول ومما يؤيد القول الأول قوله هذا كِتابُنا إلى قوله إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ أي نأمر بالنسخ. وإضافة الكتاب تارة إليهم وأخرى إلى الله عز وجل صحيحة لأن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة، فأضيف إليهم لأن أعمالهم مثبتة فيه، وأضيف إلى الله سبحانه لأنه أمر ملائكته بكتبه. قوله أَفَلَمْ تَكُنْ القول فيه مقدر أي فيقال لهم ذلك قوله إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا قال أبو علي والأخفش: هذا الكلام جار على غير الظاهر لأن كل من يظن فإنه لا يظن إلا الظن، فتأويله أن ينوي به التقديم أي ما نحن إلا نظن ظنا. وقال المازني: تقديره إن نظن نحن إلا ظنا منكم أي أنتم شاكون فيما تزعمون وما نحن بمستيقنين أنكم لا تظنون. وقال جار الله: أصله نظن ظنا ومعناه إثبات الظن فحسب. فأدخل أداة الحصر ليفيد إثبات الظن مع نفي ما سواه وأقول: الظن قد يطلق على ما يقرب من العلم، ولا ريب أن لهذا الرجحان مراتب وكأنهم نفوا كل الظنون إلا الذي لا ثبوت علم فيه وأكدوا هذا المعنى بقوله وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وباقي السورة واضح مما سلف والله أعلم.
تم الجزء الخامس والعشرون ويليه الجزء السادس والعشرون أوله تفسير سورة الأحقاف.
114
Icon