وذكر الواقديّ : أنها أول سورة نزلت ب " المدينة "، وهي خمس آيات، وثلاثون كلمة، ومائة واثنا عشر حرفا.
ﰡ
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: نزل به جبريل - عليه السلام - جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا إلى بيت العزة، وأملاه جبريل على السَّفرةِ، ثم كان جبريل ينزله على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منجماً، وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة.
حكى الماورديُّ عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: نزل القرآنُ في شهر رمضان، وفي ليلة القدر، وفي ليلة مباركة، جملة واحدة من عند الله، من اللوح
قال ابن العربي: وهذا باطل، ليس بين جبريل - عليه السَّلام - وبين الله واسطة، ولا بين جبريل محمد - عليهما السلام - واسطة.
وقيل: المعنى أنزل في شأنها وفضلها، فليست ظرفاً، وإنما كقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: خشيت أن ينزل فيَّ قرآن، وقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: لأنا أحقر في نفسي أن ينزل فيّ قرآن.
وسميت ليلة القدر بذلك؛ لأن الله يقدر فيها ما يشاء من أمره إلى مثلها من السَّنة القابلة من أمر الموت، والأجل، والرزق، وغيره، ويسلمه إلى مدبرات الأمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل، عليهم السلام.
وعن ابن عباس أيضاً: أن الله يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر، وأما تضييقها بالملائكة قال الخليل: لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة؛ كقوله تعالى: ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ [الطلاق: ٧].
وقيل: سميت بذلك لعظمها، وشرفها، وقدرها، من قولهم: لفلان قدر: أي شرف ومنزلة. قاله الزهري: وقيل: سميت بذلك لأن للطاعة فيها قدراً عظيماً، وثواباً جزيلاً.
وقيل: لأنه أنزل فيها كتاباً ذا قدر على رسول ذي قدر على أمه ذاتِ قدر، والقدر: مصدر، والمراد ما يمضيه الله تعالى من الأمور، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: ٤٩]، وهو بمعنى القدر، إلا أنه بالتسكين، مصدر، وبالفتح اسم.
قوله: ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ بين فضلها، وعظمها، وفضيلة الزمان إنما تكون بكثرة ما يقع فيه من الفضائل وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر، جميع الدهر، لأن العرب تذكر الألف، لا تريد حقيقتها، وإنما تريد المبالغة في الكثرة، كقوله تعالى:
﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [البقرة: ٩٦]، يعني جمع الدهر.
[وقيل: إن العابد فيما مضى لا يسمى عابداً، حتى يعبد الله ألف شهر، فجعل الله تعالى لهذه الأمة أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عبادة ليلة خير من ألف شهر كانوا يعبدونها].
وقال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكر رجُلاً من بني إسرائيل حمل السلاح ألف شهرٍ، فعجب المسلمون من ذلك فنزلت هذه الآية، يعني خير من ألف شهر التي لبس السلاح فيها في سبيل الله، ونحوه عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وقال مالك بن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أري رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعمار الناس، فاستقصر أعمار أمته، فخاف ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر، وجعلها خيراً من ألف شهر لسائر الأمم.
وقال عكرمة وعروة: ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أربعة من بني إسرائيل، يقال: عبدوا الله ثمانين سنة، لم يعصوا الله - تعالى - طرفة عين: أيوب، وزكريا، وحزقيل بن العجوز، ويوشع ابن نون، فعجب أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ذلك، فأتاه جبريل - عليه السلام - فقال: يا محمد، عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النَّفر ثمانين سنة، لم يعصوا الله تعالى طرفة عين، فقد أنزل الله عليك خيراً من ذلك، ثم قرأ: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر﴾، فسر بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله: ﴿تَنَزَّلُ الملائكة﴾، أي: تهبط من كل سماء إلى الأرض، ويؤمنون على دعاء النَّاس إلى وقت طلوع الفجر، وقوله تعالى: ﴿والروح فِيهَا﴾. يجوز أن ترتفع «الرُّوحُ» بالابتداء، والجار بعده الخبر وأن ترتفع بالفاعلية عطفاً على الملائكة، و «فيها» متعلق ب «تنزل» وأن يكون معطوفاً على الفاعل، و «فِيهَا» ظرف أو حال، والمراد بالروح جبريل عليه السلام.
[وحكى القشيري: أن الروح صنف من الملائكة؛ جعله حفظة على سائرهم، وأن الملائكة لا يرونهم كما لا نرى نحن الملائكة.
ووقال مقاتل: هم أشرف الملائكة، وأقربهم إلى الله تعالى.
وقيل: هم جند الله - تعالى - غير الملائكة رواه ابن عبَّاس مرفوعاً حكاه الماوردي.
وقيل: «الرُّوحُ» : الرحمة ينزل بها جبريل عليه السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها، بدليل قوله تعالى:
﴿يُنَزِّلُ
الملائكة
بالروح
مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [النحل: ٢]، أي: بالرحمة فيها، أي: في ليلة القدر.
قوله: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِم﴾. يجوز أن يتعلق ب «تَنَزَّلُ»، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من المرفوع ب «تَنَزَّل» أي: ملتبساً بإذن ربهم.
قوله: ﴿مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾. يجوز في «مِنْ» وجهان:
أحدهما: أنها بمعنى اللام، وتتعلق ب «تَنزَّلُ»، أي: تنزل من أجل كل أمر قضي إلى العام القابل.
الثاني: أنها بمعنى الباء، أي: تنزل بكل أمر، فهي للتعدية، قاله أبو حاتم.
وقرأ العامة: «أمْرٍ» واحد الأمور.
وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والكلبي: «مِنْ كُلِّ امْرئٍ»، أي: من أجل كل إنسانٍ.
قال القرطبيُّ: وتأولها الكلبي على أن جبريل - عليه السلام - ينزل فيها مع الملائكة، فيسلمون على كُلِّ امرئ مسلم، ف «مِنْ» بمعنى «عَلَى».
وقيل: من أجل كل ملك، وهو بعيد.
وقيل: «مِنْ كُلِّ أمْرٍ» ليس متعلقاً ب «تَنَزَّلُ» إنما هو متعلق بما بعده، أي: هي سلام من كل أمر مخوف، وهذا لا يتم على ظاهره؛ لأن «سلام» مصدر لا يتقدم عليه معموله، وإنما المراد أنه متعلق بمحذوف يدل عليه هذا المصدر.
فصل في معنى الآية
قوله: ﴿سَلاَمٌ هِيَ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أن «هِيَ» ضمير الملائكة، و «سلامٌ» بمعنى التسليم، أي: الملائكة ذات التَّسليم على المؤمنين من مغيب الشمس حتى مطلع الفجر وقيل: الملائكة يسلم بعضهم على بعض فيها.
الثاني: أنها ضمير ليلة القدر، و «سلامٌ» بمعنى سلامة، أي: ليلة القدر ذات سلامة من كلّ شيء مخوف.
وقيل: هي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة، قاله مجاهد.
وعلى التقديرين: يجوز أن يرتفع «سلامٌ» على أنه خبر مقدم، و «هِيَ» مبتدأ مؤخر، وهذا هو المشهور، ويجوز أن يرتفع بالابتداء، و «هي» فاعلة عند الأخفش؛ لأنه لا يشترط الاعتماد على الوصف.
وقد تقدم أن بعضهم يجعل الكلام تاماً على قوله: «بِإذْنِ ربِّهِمْ»، وتعلق «كُلِّ أمْرٍ» بما بعده، وتقدم تأويله.
وقال أبو الفضل: «وقيل: معناه هي سلام من كل أمرٍ أو امرئٍ؛ أي سالمة، أو مسلمة منه، ولا يجوز أن يكون» سلامٌ «بهذه اللفظة الظَّاهرة التي هي المصدر عاملاً فيما قبله، لامتناع تقدم معمول المصدر على المصدر، كما أن الصفة كذلك لا يجوز تقديمها على الموصول» انتهى.
[وقد تقدم أن معنى ذلك عند هذا القائل أن يتعلق بمحذوف مدلول عليه ب «سلام» فهو تفسير معنى لا تفسير إعراب].
وما يروى عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أن الكلام تمَّ عند قوله تعالى: «سلامٌ» ويبتدئ ب «هِيَ» على أنها خبر مبتدأ، والإشارة بذلك إلى أنها ليلة السابع والعشرين، لأن لفظه: هي سابعة وعشرون، من كلم هذه السورة، فلا ينبغي أن يعتقد صحته لأنه إلغاز وتغيير لنظم أفصح الكلام.
[قوله: ﴿حتى مَطْلَعِ الفجر﴾ متعلق ب «تنزل» أو ب «سلام» وفيه إشكال للفصل بين المصدر والمعمول للمبتدأ، إلا أن يتوسع في الجار].
وقرأ الكسائي وابن محيصن: «مطلِع» بكسر اللام، والباقون: بالفتح، والفتح هو القياس، والكسر سماع، وله أخوات تحفظ فيها الكسر مما ضم مضارعه، أو فتح، نحو: المَشْرِق، والمَغْرِب، والمنْسِك، والمسْكِن، والمحْشِر، والمسْقِط.
قال القرطبي: «حكي في ذلك كله الفتح والكسر».
وهل هما مصدران أو المفتوح مصدر، والمكسور مكان؟ خلاف، وعلى كل تقدير، فالقياس في الفعل مطلقاً مما ضمت عين مضارعه أو فتحت فتح العين، وإنما يقع الفرق في المكسور العين الصحيح، نحو: «يضرب».
فصل في تعيين ليلة القدر
اختلفوا في تعيين ليلة القدر، فالأكثرون على أنها ليلة سبع وعشرين، لحديث أبيٍّ ابن كعب: أنها في العشر الأواخر، وأنَّها ليلةُ سبعٍ وعشرين.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ كَانَ مُتَحَرِّياً لليلة القدرِ فَلْيَتَحَرَّهَا في ليلة سبعٍ وعشرين».
وقال أبيُّ بن كعب: سَمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لَيلَةُ القَدرِ سَبعٍ وعشْرينَ».
وقال أبو بكر الوراق: كرر ذكرها ثلاث مرات، وهي تسعة أحرف، فيكون سبعة وعشرين.
وقال عبيد بن عمير: كنت ليلة السابع والعشرين في البحر فأخذت من مائة، فوجدته عذباً سلسلاً.
وقال أبو هريرة وغيره: هي في ليلة السنة كلها، وإليه ذهب أبو حنيفة، وعنه أنها رفعت، وأنها إنما كانت مرة واحدة قال الخليل: من قال: إن فضلها لنزول القرآن [يقول] انقطعت، والجمهور على أنها في كل عام من رمضان، ثم اختلفوا.
فقيل: هي ليلة إحدى وعشرين، وإليه مال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لحديث الماء والطين.
وقيل: ليلة الثالث والعشرين لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، إني رأيتُ ليلة القدر في سابعة تبقى، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أرَى رُؤيَاكُمْ قَدْ تَواطَأتْ عَلى ثَلاثٍ وعِشريْنَ، فَمَنْ أرَادَ أن يقُومَ مِنَ الشَّهرِ شَيْئاً فليَقُمْ لَيْلَةَ ثلاثٍ وعِشْريْنَ «».
وقيل: ليلة خمس وعشرين، لما روى مسلم عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:
«التَمِسُوهَا في العَشْرِ الأواخرِ، في تَاسعةٍ تَبْقَى، في سابِعةٍ تَبْقَى، فِي خَامسةٍ تَبْقَى».
وقيل: سبع وعشرين وقد تقدم].
وقيل: ليلة تسع وعشرين، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَيْلةُ القَدرِ التَّاسعةُ والعِشرُونَ، والسَّابِعَةُ والعِشْرُونَ».
وقال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «ارتقبت الشمس ليلة أربع وعشرين عشرين سنة فرأيتها تطلع بيضاء لا شعاع لها، يعني من كثرة الأنوار في تلك الليلة».
[وروي عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنها في ليالي الأفراد من النصف الأخير من شهر رمضان مستقلة في ليالي الجمع، ونظمه محمد ابن الأثير فقال: [الطويل]
٥٢٦٣ - ثَلاثُ شُرُوطٍ هُنَّ فِي ليْلَةِ القَدرِ | كَذَا قَال شَيخُ العُربِ فِيهَا أبُو بكْرٍ |
فأوَّلُهَا وتْرٌ وليْلةُ جُمْعَةٍ | وثَالثُهَا النِّصفُ الأخيرُ من الشَّهْرِ |
قالوا: والحكمة في إخفائها ليجتهد الناس في إحياء جميع الليالي، كما أخفى رمضان في الطاعات، حتى يرغبوا في الكل، وأخفى ساعة الإجابة في الدعاء، ليبالغوا في كل الساعات، وأخفى الاسم الأعظم، ليعظموا كل الأسماء، وأخفى قبول التوبة، ليحافظوا على جميع أقسام التوبة، وأخفى وقت الموت، ليخاف الموت المكلف، وكذلك أخفى هذه الليلة، ليعظموا جميع ليالي رمضان.
فصل في أحكام تتعلق بليلة القدر
نقل القرطبي عن بعض العلماء: أن من علق طلاق امرأته، أو عتق عبده بليلة القدر لم يقع الطلاق والعتق إلى مضى سنةٍ من يوم حلف، لأنه لا يجوز إيقاع الطلاق بالشك، ولم يثبت اختصاصها بوقت، فلا ينبغي وقوع الطلاق إلا لمضي حولٍ.
وفي هذا نظر؛ لأنه تقدم عن أبي حنيفة في أحد قوليه أنها رفعت، فعلى هذا لا ينبغي أن يقع شيء أصلاً، لوجود الخلاف في بقائها.
وروى الثعلبي عن أبيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأَ سُورة القَدرِ، كانَ كَمنْ صَامَ رَمَضَانَ، وأحْيَا لَيْلَةَ القَدرِ».
[ وقيل : إن العابد فيما مضى لا يسمى عابداً، حتى يعبد الله ألف شهر، فجعل الله تعالى لهذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم عبادة ليلة خير من ألف شهر كانوا يعبدونها ]١.
وقال أبو بكر الوراق : كان ملك سليمان - عليه الصلاة والسلام - خمسمائة شهر، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر، فصار ملكهما ألف شهر، فجعل الله العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيراً من ملكهما.
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجُلاً من بني إسرائيل حمل السلاح ألف شهرٍ، فعجب المسلمون من ذلك فنزلت هذه الآية، يعني خير من ألف شهر التي لبس السلاح فيها في سبيل الله، ونحوه عن ابن عبَّاس رضي الله عنه٢.
وقال مالك بن أنس - رضي الله عنه - : أري رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمار الناس، فاستقصر أعمار أمته، فخاف ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر، وجعلها خيراً من ألف شهر لسائر الأمم٣.
وقال عكرمة وعروة : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أربعة من بني إسرائيل، يقال : عبدوا الله ثمانين سنة، لم يعصوا الله - تعالى - طرفة عين : أيوب، وزكريا، وحزقيل بن العجوز، ويوشع بن نون، فعجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، فأتاه جبريل - عليه السلام - فقال : يا محمد، عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النَّفر ثمانين سنة، لم يعصوا الله تعالى طرفة عين، فقد أنزل الله عليك خيراً من ذلك، ثم قرأ :﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر ﴾، فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم٤.
اختلفوا في تعيين ليلة القدر، فالأكثرون على أنها ليلة سبع وعشرين، لحديث أبيٍّ ابن كعب : أنها في العشر الأواخر، وأنَّها ليلةُ سبعٍ وعشرين٦. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«مَنْ كَانَ مُتَحَرِّياً لليلة القدرِ فَلْيَتَحَرَّهَا في ليلة سبعٍ وعشرين»٧. وقال أبيُّ بن كعب : سَمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«لَيلَةُ القَدرِ سَبعٍ وعشْرينَ»٨. وقال أبو بكر الوراق : كرر ذكرها ثلاث مرات، وهي تسعة أحرف، فيكون سبعة وعشرين. وقال عبيد بن عمير : كنت ليلة السابع والعشرين في البحر فأخذت من مائه، فوجدته عذباً سلسا.
وقال أبو هريرة وغيره : هي في ليلة السنة كلها٩، وإليه ذهب أبو حنيفة، وعنه أنها رفعت، وأنها إنما كانت مرة واحدة، قال الخليل : من قال : إن فضلها لنزول القرآن [ يقول ] انقطعت، والجمهور على أنها في كل عام من رمضان، ثم اختلفوا.
فقيل : هي ليلة إحدى وعشرين، وإليه مال الشافعي - رضي الله عنه - لحديث الماء والطين.
وقيل : ليلة الثالث والعشرين لما روى ابن عمر - رضي الله عنه - «أنَّ رجلاً قال : يا رسول الله، إني رأيتُ ليلة القدر في سابعة تبقى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«أرَى رُؤيَاكُمْ قَدْ تَواطَأتْ عَلى ثَلاثٍ وعِشريْنَ، فَمَنْ أرَادَ أن يقُومَ مِنَ الشَّهرِ شَيْئاً فليَقُمْ لَيْلَةَ ثلاثٍ وعِشْريْنَ»١٠.
وقيل : ليلة خمس وعشرين، لما روى مسلم عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«التَمِسُوهَا في العَشْرِ الأواخرِ، في تَاسعةٍ تَبْقَى، في سابِعةٍ تَبْقَى، فِي خَامسةٍ تَبْقَى»١١.
[ قال مالك رضي الله عنه : يريد بالتاسعة ليلة إحدى وعشرين، وبالسابعة ليلة ثلاث وعشرين، وبالخامسة ليلة خمس وعشرين.
وقيل : سبع وعشرين وقد تقدم ]١٢.
وقيل : ليلة تسع وعشرين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :«لَيْلةُ القَدرِ التَّاسعةُ والعِشرُونَ، والسَّابِعَةُ والعِشْرُونَ»١٣.
وقال الحسن - رضي الله عنه - :«ارتقبت الشمس ليلة أربع وعشرين عشرين سنة، فرأيتها تطلع بيضاء لا شعاع لها، يعني من كثرة الأنوار في تلك الليلة»١٤.
[ وروي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنها في ليالي الأفراد من النصف الأخير من شهر رمضان مستقلة في ليالي الجمع، ونظمه محمد ابن الأثير فقال :[ الطويل ]
٥٢٦٣- ثَلاثُ شُرُوطٍ هُنَّ فِي ليْلَةِ القَدرِ*** كَذَا قَال شَيخُ العُربِ فِيهَا أبُو بكْرٍ
فأوَّلُهَا وتْرٌ وليْلةُ جُمْعَةٍ | وثَالثُهَا النِّصفُ الأخيرُ من الشَّهْرِ |
قالوا : والحكمة في إخفائها ليجتهد الناس في إحياء جميع الليالي، كما أخفى رمضان في الطاعات، حتى يرغبوا في الكل، وأخفى ساعة الإجابة في الدعاء، ليبالغوا في كل الساعات، وأخفى الاسم الأعظم، ليعظموا كل الأسماء، وأخفى قبول التوبة، ليحافظوا على جميع أقسام التوبة، وأخفى وقت الموت، ليخاف الموت المكلف، وكذلك أخفى هذه الليلة، ليعظموا جميع ليالي رمضان.
فصل في أحكام تتعلق بليلة القدر
نقل القرطبي١٦ عن بعض العلماء : أن من علق طلاق امرأته أو عتق عبده بليلة القدر لم يقع الطلاق والعتق إلى مضي سنةٍ من يوم حلف ؛ لأنه لا يجوز إيقاع الطلاق بالشك، ولم يثبت اختصاصها بوقت، فلا ينبغي وقوع الطلاق إلا لمضي حولٍ.
وفي هذا نظر ؛ لأنه تقدم عن أبي حنيفة في أحد قوليه أنها رفعت، فعلى هذا لا ينبغي أن يقع شيء أصلاً، لوجود الخلاف في بقائها.
٢ ينظر تفسير القرطبي (٢٠/٨٩) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٢٩)، عن مجاهد وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي..
٣ ينظر التفسير الكبير للفخر الرازي (٣٢/٣٠)..
٤ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٢٩)، وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن علي بن عروة..
[ وحكى القشيري : أن الروح صنف من الملائكة ؛ جعله حفظة على سائرهم، وأن الملائكة لا يرونهم كما لا نرى نحن الملائكة.
وقال مقاتل : هم أشرف الملائكة، وأقربهم إلى الله تعالى١.
وقيل : هم جند الله - تعالى - غير الملائكة، رواه ابن عبَّاس مرفوعاً، حكاه الماوردي.
وقيل : الروح خلق عظيم يقوم صفاً واحداً، والملائكة صفاً ]٢.
وقيل :«الرُّوحُ » : الرحمة ينزل بها جبريل عليه السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها، بدليل قوله تعالى :﴿ يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [ النحل : ٢ ]، أي : بالرحمة فيها، أي : في ليلة القدر.
قوله :﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِم ﴾. يجوز أن يتعلق ب «تَنَزَّلُ »، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من المرفوع ب «تَنَزَّل » أي : ملتبساً بإذن ربهم.
قوله :﴿ مِّن كُلِّ أَمْرٍ ﴾. يجوز في «مِنْ » وجهان :
أحدهما : أنها بمعنى اللام، وتتعلق ب «تَنزَّلُ »، أي : تنزل من أجل كل أمر قضي إلى العام القابل.
الثاني : أنها بمعنى الباء، أي : تنزل بكل أمر، فهي للتعدية، قاله أبو حاتم.
وقرأ العامة :«أمْرٍ » واحد الأمور.
وقرأ ابن عباس، وعكرمة٣، والكلبي :«مِنْ كُلِّ امْرئٍ »، أي : من أجل كل إنسانٍ.
قال القرطبيُّ٤ : وتأولها الكلبي على أن جبريل - عليه السلام - ينزل فيها مع الملائكة، فيسلمون على كُلِّ امرئ مسلم، ف «مِنْ » بمعنى «عَلَى ».
وقيل : من أجل كل ملك، وهو بعيد.
وقيل :«مِنْ كُلِّ أمْرٍ » ليس متعلقاً ب «تَنَزَّلُ » إنما هو متعلق بما بعده، أي : هي سلام من كل أمر مخوف، وهذا لا يتم على ظاهره ؛ لأن «سلام » مصدر لا يتقدم عليه معموله، وإنما المراد أنه متعلق بمحذوف يدل عليه هذا المصدر.
٢ سقط من: ب..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٥٠٦، والبحر المحيط ٨/٤٩٣، والدر المصون ٦/٥٤٩..
٤ الجامع لأحكام القرآن ٢٠/٩١..
أحدهما : أن «هِيَ » ضمير الملائكة، و«سلامٌ » بمعنى التسليم، أي : الملائكة ذات التَّسليم على المؤمنين من مغيب الشمس حتى مطلع الفجر، وقيل : الملائكة يسلم بعضهم على بعض فيها.
الثاني : أنها ضمير ليلة القدر، و«سلامٌ » بمعنى سلامة، أي : ليلة القدر ذات سلامة من كلّ شيء مخوف.
قال الضحاكُ : لا يقدر الله - تعالى - في تلك الليلة إلا السلامة١.
وقيل : هي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة، قاله مجاهد٢.
وعلى التقديرين : يجوز أن يرتفع «سلامٌ » على أنه خبر مقدم، و«هِيَ » مبتدأ مؤخر، وهذا هو المشهور، ويجوز أن يرتفع بالابتداء، و«هي » فاعلة عند الأخفش ؛ لأنه لا يشترط الاعتماد على الوصف.
وقد تقدم أن بعضهم يجعل الكلام تاماً على قوله :«بِإذْنِ ربِّهِمْ »، وتعلق «كُلِّ أمْرٍ » بما بعده، وتقدم تأويله.
وقال أبو الفضل :«وقيل : معناه هي سلام من كل أمرٍ أو امرئٍ ؛ أي سالمة، أو مسلمة منه، ولا يجوز أن يكون » سلامٌ «بهذه اللفظة الظَّاهرة التي هي المصدر عاملاً فيما قبله، لامتناع تقدم معمول المصدر على المصدر، كما أن الصفة كذلك لا يجوز تقديمها على الموصول » انتهى.
[ وقد تقدم أن معنى ذلك عند هذا القائل أن يتعلق بمحذوف مدلول عليه ب «سلام » فهو تفسير معنى لا تفسير إعراب ]٣.
وما يروى عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أن الكلام تمَّ عند قوله تعالى :«سلامٌ » ويبتدئ ب «هِيَ » على أنها خبر مبتدأ، والإشارة بذلك إلى أنها ليلة السابع والعشرين، لأن لفظه : هي سابعة وعشرون، من كلم هذه السورة، فلا ينبغي أن يعتقد صحته ؛ لأنه إلغاز وتغيير لنظم أفصح الكلام.
[ قوله :﴿ حتى مَطْلَعِ الفجر ﴾ متعلق ب «تنزل » أو ب «سلام »، وفيه إشكال للفصل بين المصدر والمعمول للمبتدأ، إلا أن يتوسع في الجار ].
وقرأ الكسائي وابن محيصن :«مطلِع » بكسر اللام، والباقون٤ : بالفتح، والفتح هو القياس، والكسر سماع، وله أخوات تحفظ فيها الكسر مما ضم مضارعه، أو فتح، نحو : المَشْرِق، والمَغْرِب، والمنْسِك، والمسْكِن، والمحْشِر، والمسْقِط.
قال القرطبي٥ :«حكي في ذلك كله الفتح والكسر ».
وهل هما مصدران أو المفتوح مصدر، والمكسور مكان ؟ خلاف، وعلى كل تقدير، فالقياس في الفعل مطلقاً مما ضمت عين مضارعه أو فتحت فتح العين، وإنما يقع الفرق في المكسور العين الصحيح، نحو :«يضرب ».
اختلفوا في تعيين ليلة القدر، فالأكثرون على أنها ليلة سبع وعشرين، لحديث أبيٍّ ابن كعب : أنها في العشر الأواخر، وأنَّها ليلةُ سبعٍ وعشرين٦. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«مَنْ كَانَ مُتَحَرِّياً لليلة القدرِ فَلْيَتَحَرَّهَا في ليلة سبعٍ وعشرين»٧. وقال أبيُّ بن كعب : سَمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«لَيلَةُ القَدرِ سَبعٍ وعشْرينَ»٨. وقال أبو بكر الوراق : كرر ذكرها ثلاث مرات، وهي تسعة أحرف، فيكون سبعة وعشرين. وقال عبيد بن عمير : كنت ليلة السابع والعشرين في البحر فأخذت من مائه، فوجدته عذباً سلسا.
وقال أبو هريرة وغيره : هي في ليلة السنة كلها٩، وإليه ذهب أبو حنيفة، وعنه أنها رفعت، وأنها إنما كانت مرة واحدة، قال الخليل : من قال : إن فضلها لنزول القرآن [ يقول ] انقطعت، والجمهور على أنها في كل عام من رمضان، ثم اختلفوا.
فقيل : هي ليلة إحدى وعشرين، وإليه مال الشافعي - رضي الله عنه - لحديث الماء والطين.
وقيل : ليلة الثالث والعشرين لما روى ابن عمر - رضي الله عنه - «أنَّ رجلاً قال : يا رسول الله، إني رأيتُ ليلة القدر في سابعة تبقى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«أرَى رُؤيَاكُمْ قَدْ تَواطَأتْ عَلى ثَلاثٍ وعِشريْنَ، فَمَنْ أرَادَ أن يقُومَ مِنَ الشَّهرِ شَيْئاً فليَقُمْ لَيْلَةَ ثلاثٍ وعِشْريْنَ»١٠.
وقيل : ليلة خمس وعشرين، لما روى مسلم عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«التَمِسُوهَا في العَشْرِ الأواخرِ، في تَاسعةٍ تَبْقَى، في سابِعةٍ تَبْقَى، فِي خَامسةٍ تَبْقَى»١١.
[ قال مالك رضي الله عنه : يريد بالتاسعة ليلة إحدى وعشرين، وبالسابعة ليلة ثلاث وعشرين، وبالخامسة ليلة خمس وعشرين.
وقيل : سبع وعشرين وقد تقدم ]١٢.
وقيل : ليلة تسع وعشرين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :«لَيْلةُ القَدرِ التَّاسعةُ والعِشرُونَ، والسَّابِعَةُ والعِشْرُونَ»١٣.
وقال الحسن - رضي الله عنه - :«ارتقبت الشمس ليلة أربع وعشرين عشرين سنة، فرأيتها تطلع بيضاء لا شعاع لها، يعني من كثرة الأنوار في تلك الليلة»١٤.
[ وروي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنها في ليالي الأفراد من النصف الأخير من شهر رمضان مستقلة في ليالي الجمع، ونظمه محمد ابن الأثير فقال :[ الطويل ]
٥٢٦٣- ثَلاثُ شُرُوطٍ هُنَّ فِي ليْلَةِ القَدرِ*** كَذَا قَال شَيخُ العُربِ فِيهَا أبُو بكْرٍ
فأوَّلُهَا وتْرٌ وليْلةُ جُمْعَةٍ | وثَالثُهَا النِّصفُ الأخيرُ من الشَّهْرِ |
قالوا : والحكمة في إخفائها ليجتهد الناس في إحياء جميع الليالي، كما أخفى رمضان في الطاعات، حتى يرغبوا في الكل، وأخفى ساعة الإجابة في الدعاء، ليبالغوا في كل الساعات، وأخفى الاسم الأعظم، ليعظموا كل الأسماء، وأخفى قبول التوبة، ليحافظوا على جميع أقسام التوبة، وأخفى وقت الموت، ليخاف الموت المكلف، وكذلك أخفى هذه الليلة، ليعظموا جميع ليالي رمضان.
فصل في أحكام تتعلق بليلة القدر
نقل القرطبي١٦ عن بعض العلماء : أن من علق طلاق امرأته أو عتق عبده بليلة القدر لم يقع الطلاق والعتق إلى مضي سنةٍ من يوم حلف ؛ لأنه لا يجوز إيقاع الطلاق بالشك، ولم يثبت اختصاصها بوقت، فلا ينبغي وقوع الطلاق إلا لمضي حولٍ.
وفي هذا نظر ؛ لأنه تقدم عن أبي حنيفة في أحد قوليه أنها رفعت، فعلى هذا لا ينبغي أن يقع شيء أصلاً، لوجود الخلاف في بقائها.
٢ ينظر المصدر السابق..
٣ سقط من: ب..
٤ ينظر: السبعة ٦٩٣، والحجة ٦/٤٢٧، وإعراب القراءات (٢/٥١٠)، وحجة القراءات ٧٦٨،.
٥ الجامع لأحكام القرآن ٢٠/٩١..