تفسير سورة المائدة

جهود ابن عبد البر في التفسير
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب جهود ابن عبد البر في التفسير .
لمؤلفه ابن عبد البر . المتوفي سنة 463 هـ

١٩٣- تأويل ذلك : العقود التي لا معصية فيها، لبيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم-ذلك١. ( ت : ٦/٩٨ )
﴿ أحلت لكم بهيمة الأنعام ﴾
١٩٤- روي عن ابن عباس :﴿ أحلت لكم بهيمة الأنعام ﴾، قال : الجنين.
وقال الحسن في قوله :﴿ أحلت لكم بهيمة الأنعام ﴾، قال : الشاة والبقرة والبعير. ( ت : ٢٣/٧٧. وكذا في س : ١٥/٢٥٧-٢٥٨ )
١ - أخرج الإمام البخاري أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: (من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة شرط) الجامع الصحيح، كتاب الشروط، باب المكاتب وما لا يحل من الشروط التي تخالف كتاب الله: ٣/١٨٤. قال ابن العربي: فبين أن الشرط الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله تعالى- أي دين الله تعالى، كذلك لا يلزم الوفاء بعقد إلا أن يعقد على ما في كتاب الله. وعلى المسلمين أن يلتزموا الوفاء بعهودهم وشروطهم إلا أن يظهر فيها ما يخالف كتاب الله، فيسقط أحكام القرآن: ٢/٥٢٧..
١٩٥- روى سعيد بن أبي عروبة١، ومعمر، عن قتادة في قول الله عز وجل- :﴿ حرمت عليكم الميتة ﴾الآية، قال : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة، حتى إذا ماتت أكلوها. والموقوذة كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصا، حتى إذا ماتت أكلوها. والمتردية كانت تتردى في البئر فتموت، فيأكلونها والنطيحة : كبشان يتناطحان فيموت أحدهما، فيأكلونه، وما أكل السبع : كان أهل الجاهلية إذا قتل السبع شيئا من هذا أو أكل منه، أكلوا ما بقي، فقال الله تعالى :﴿ إلا ما ذكيتم ﴾ فكل ما ذكر الله ههنا- ما خلا الخنزير- إذا أدركت منه عينا تطرف أو ذنبا يتحرك، أو قائمة تركض فذكيته، فقد أحل الله لك ذلك. وعن الضحاك بن مزاحم مثل قول قتادة هذا، كله سواء. قال الضحاك : فإن لم تطرف له عين ولم تتحرك له قائمة ولا ذنَب، فهي ميتة. ( ت : ٥/١٤٨-١٤٩ )
١ - هو سعيد بن أبي عروبة، الإمام، الحافظ عالم أهل البصرة، وأول من صنف السنن النبوية، أبو النضر بن مهران العدوي، مولاهم البصري، حدث عن الحسن، وابن سيرين وقتادة.. وعنه شعبة، والثوري وروح بن عبادة. قال أحمد بن حنبل: زعموا أن سعيد بن أبي عروبة قال: لم أكتب إلا تفسير قتادة: توفي سنة ١٥٦هـ انظر سير أعلام النبلاء: ٦/٤١٣ - ٤١٨..
١٩٦- في هذا النص دليل واضح أن من لم يكفر بالإيمان لم يحبط١ عمله. ( ت : ١٤/١٢٥ )
١ - أي لم يبطل ولم يذهب، انظر اللسان مادة "حبط": ٧/١٣٢-١٣٣..
١٩٧- قال زيد بن أسلم وغيره في تأويل قول الله-عز وجل- :﴿ إذا قمتم إلى الصلاة ﴾ قال : إذا قمتم من المضاجع، يعني النوم، وكذلك قال السدي١.
وروي عن عمر، وعلي ما يدل على أن الآية عني بها تجديد الوضوء في وقت كل صلاة إذا قام المرء إليها، ورواه أنس عن عمر، وعكرمة عن علي، وعن ابن سيرين مثل ذلك. وهذا معناه أن يكون الوضوء على المحدث إذا قام إلى الصلاة واجبا، وعلى غير المحدث ندبا وفضلا.
وروي عن ابن عباس، وسعد بن أبي وقاص، وأبي موسى الأشعري، وجابر بن عبد الله، وعبيدة السلماني، وأبي العالية، وسعيد بن المسيب، والحسن، وعن السدي أيضا، والأسود بن يزيد، وإبراهيم النخعي، أن الآية عني بها حال القيام إلى الصلاة على غير طهر، وهذا أمر مجتمع عليه، وقال ابن عمر : هذا أمر من الله لنبيه والمؤمنين، ثم نسخ بالتخفيف، وهذا يشبه مذهب من ذهب إلى أن السنة تنسخ القرآن٢.
قال أبو عمر : قد ثبت عن النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه صلى الصلوات كلها بوضوء واحد، وأجمعت الأمة على أن ذلك جائز، وفي ذلك كفاية عن كل قول. ( ت : ١٨/٢٣٧-٢٣٨. وانظر س : ٢/٦٩. والكافي : ١٠-١١ )
١٩٨- أما إدخال المرفقين في الغسل، فعلى ذلك أكثر العلماء، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة وأصحابه إلا زفر فإنه اختلف عنه في ذلك ؛ فروي عنه أنه يحب غسل المرافق مع الذراعين، وروي عنه أنه لا يحب ذلك، وبه قال الطبري وبعض أصحاب داود، وبعض المالكين أيضا، ومن أصحاب داود من قال بوجوب غسل المرفقين مع الذراعين.
فمن لم يوجب غسلهما حمل قوله -عز وجل- :﴿ فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ﴾، على أن " إلى " ههنا غاية، وأن المرفقين غير داخلين في الغسل مع الذراعين ؛ كما لا يجب دخول الليل في الصيام، لقوله-عز وجل- :﴿ ثم أتموا الصيام إلى الليل ﴾٣.
ومن أوجب غسلهما جعل " إلى " في هذه الآية بمعنى " الواو " أو بمعنى " مع "، كأنه قال : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم والمرافق، أو مع المرافق. و " إلى " بمعنى الواو، وبمعنى " مع " معروف في كلام العرب، كما قال عز وجل :﴿ من أنصاري إلى الله ﴾٤، أي مع الله، وكما قال :﴿ ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ﴾٥، أي مع أموالكم. وأنكر بعض أهل اللغة أن تكون " إلى " ههنا بمعنى الواو، وبمعنى مع وقال : لو كان كذلك لوجب غسل اليد كلها، واليد عند العرب من أطراف الأصابع إلى الكتف، وقال : ولا يجوز أن تخرج " إلى " عن بابها ؛ يذكر أنها بمعنى الغاية أبدا، قال : وجائز أن تكون " إلى " ههنا بمعنى الغاية وتدخل المرافق مع ذلك في الغسل ؛ لأن الثاني إذا كان من الأول، كان ما بعد " إلى " داخلا فيما قبلهن نحو قول الله-عز وجل- :﴿ إلى المرافق ﴾، فالمرافق داخلة في الغسل، وإذا كان ما بعدها ليس من الأول فليس بداخل فيه نحو :﴿ ثم أتموا الصيام إلى الليل ﴾.
قال أبو عمر : يقول : إنه ليس الليل من النهار، فلم يدخل الحد في المحدود، وإنما يدخل الحد في المحدود. إذا كان من جنسه، والمرافق من جنس الأيدي والأذرع. فوجب أن يدخل الحد منها في المحدود ؛ لأن هذا أصل حكم الحدود والمحدودات عند أهل الفهم والنظر- والله أعلم. ( ت : ٢٠/١٢٢-١٢٤ )
١٩٩- مالك أنه بلغه أن عبد الرحمان بن أبي بكر دخل على عائشة يوم مات سعد بن أبي وقاص، فدعا بوضوء، فقالت له عائشة : يا عبد الرحمان، أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يقول :( ويل للأعقاب من النار )٦.
قال أبو عمر : في هذا الحديث من الفقه إيجاب غسل الرجلين، وفي ذلك تفسير لقول الله-عز وجل- :﴿ وأرجلكم إلى الكعبين ﴾، وبيان أنه أراد الغسل لا المسح، وإن كانت قد قرئت :﴿ وأرجلكم ﴾ بالجر٧، فذلك معطوف على اللفظ دون المعنى، والمعنى فيه الغسل على التقديم والتأخير، فكأنه قال عز وجل : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين، وامسحوا برؤوسكم، والقراءتان بالنصب والجر صحيحتان مستفيضتان، والمسح ضد الغسل ومخالف له، وغير جائز أن تبطل إحدى القراءتين بالأخرى ما وجد إلى تخريج الجمع بينهما سبيل، وقد وجدنا العرب تخفض بالجوار، كما قال امرؤ القيس :
كبير أناس في بجاد مزمل٨***...
فخفض بالجوار، وإنما المزمل الرجل، وإعرابه ههنا الرفع، وكما قال زهير :
لعب الزمان بها وغيرها*** بعدي سوافي المور والقطر٩
قال أبو حاتم : كان الوجه، القطر بالرفع، ولكن جره على جوار المور كما قالت العرب : " هذا حجر ضب خرب "، فجرته، وإنما هو رفع، وخفضه بالمجاورة. ومن هذا قراءة أبي عمرو :﴿ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس ﴾١٠ بالجر، لأن النحاس : الدخان.
فعلى ما ذكرنا تكون معنى القراءة بالجر والنصب، ويكون الخفض على اللفظ للمجاورة، والمعنى : الغسل، وقد يراد بلفظ المسح الغسل عند العرب من قولهم : تمسحت للصلاة والمراد الغسل، ويشير إلى هذا التأويل كله قول النبي-صلى الله عليه وسلم- :( ويل للأعقاب من النار )١١.
وعلى هذا القول والتأويل، جمهور علماء المسلمين، وجماعة فقهاء الأمصار بالحجاز، والعراق، والشام من أهل الحديث والرأي، وإنما روي مسح الرجلين عن بعض الصحابة، وبعض التابعين وتعلق به الطبري١٢، وذلك غير صحيح في نظر ولا أثر. ( ت : ٢٤/٢٥٤-٢٥٥ )
١ - انظر جامع البيان: ٦/١١٢..
٢ - قال الزركشي: واختلف في نسخ الكتاب بالسنة، قال ابن عطية: حذاق الأمة على الجواز، وذلك موجود في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث). وأبى الشافعي ذلك، والحجة عليه من قوله في إسقاط الجلد: في حد الزنا عن الثيب الذي رجم، فإنه لا مسقط لذلك إلا السنة: فعل النبي- صلى الله عليه وسلم-: البرهان في علوم القرآن: ٢/٣٢..
٣ - سورة البقرة: ١٨٦..
٤ - سورة آل عمران: ٥١. وسورة الصف: ١٤..
٥ - سورة النساء: ٢..
٦ الموطأ، كتاب الطهارة، باب العمل في الوضوء: ١٨..
٧ - من الذين قرأوا :﴿وأرجلكم﴾ بالجر: علقمة، والأعمش، ومجاهد، والشعبي، والضحاك، انظر جامع البيان: ٦/١٢٩-١٣٠. ومن الذين قرأوا ﴿وأرجلكم﴾ بالنصب ابن عباس، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن مسعود، انظر المصدر السابق: ٦/١٢٧..
٨ - الديوان: ٢٥. والبيت بشطريه هو :
كأن أبانا في أفانين ودقه *** كبير أناس في بجاد مزمل.

٩ - انظر شرح ديوان زهير: ٨٧. وفيه : لعب "الرياح" بدل "الزمان"..
١٠ - سورة الرحمان: ٣٣-٣٤..
١١ - أخرجه في الموطأ، كتاب الطهارة، باب العمل في الوضوء: ١٨..
١٢ - قال: والصواب من القول عندنا في ذلك، أن الله أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم، وإذا فعل ذلك بهما المتوضىء كان مستحقا اسم ماسح غاسل؛ لأن غسلهما إمرار الماء عليهما وإصابتهما بالماء. ومسحهما: إمرار اليد أو ما قاد مقام اليد عليهما. فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو غسل ماسح. جامع البيان : ٦/١٣٠..
٢٠٠- ذكر سنيد قال : حدثنا محمد بن يزيد، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي في قوله :﴿ فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء ﴾. قال : الخصومات بالجدل في الدين١. ( جامع بيان العلم وفضله : ٢/١١٤ )
١ - انظر جامع البيان: ٦/١٥٨-١٥٩..
٢٠١- قال أبو عمر : معناه أو بغير فساد في الأرض، فدل على أن الفساد في الأرض، وإن لم يكن قتلا، فهو كالقتل. ( س : ٢٤/٢٤٠ )
٢٠٢- قال جماعة أهل التفسير١ في قول الله-عز وجل- :﴿ أكالون للسحت ﴾، قالوا : السحت : الرشوة في الحكم. وفي السحت كل ما لا يحل كسبه. ( ت : ٩/١٤٠-١٤١ )
١ - انظر المصدر السابق: ٦/٢٣٩..
٢٠٣- حدثني محمد بن إبراهيم، قال : حدثنا أحمد بن مطرف، قال : حدثنا سعيد بن عثمان، قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل، قال : حدثنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوس، قال : قال ابن عباس : ليس بالكفر الذي تذهبون إليه، إنه ليس بكفر ينقل عن الملة، ثم قرأ :﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾. ( ت : ٤/٢٣٥. وانظر س : ٥/٢٥٢ )
٢٠٤- قال أبو عمر : الصحيح في النظر- عندي- ألا يحكم بنسخ شيء من القرآن، إلا ما قام عليه الدليل الذي لا مدفع له ولا يحتمل التأويل، وليس في قوله-عز وجل- :﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ﴾، دليل على أنها ناسخة للآية قبلها١، لأنها يحتمل معناها أن يكون : وأن احكم بينهم بما أنزل الله إن حكمت، ولا تتبع أهواءهم، فتكون الآيتان مستعملتين فير متدافعتين. ( ت : ١٤/٣٩٢. وكذا في س : ٢٤/١٦ )
١ - هي قوله تعالى: ﴿فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهما بالقسط﴾-المائدة: ٤٤..
٢٠٥- قال ابن جريح : وقال عكرمة : إن علي بن أبي طالب، وعثمان بن مظعون، وابن مسعود، والمقداد بن عمرو، وسالما مولى أبي حذيفة، تبتلوا١ وجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرموا طيبات الطعام واللباس، وهموا بالإخصاء، وأدمنوا القيام بالليل وصيام النهار، فنزلت :﴿ يا أيها الذين ءامنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾الآية، يعني النساء والطعام واللباس. ( ت : ٢١/٢٢٥ )
١ - التبتل هو الانقطاع عن الدنيا إلى الله تعالى، وكذلك التبتيل. انظر اللسان: مادة "بتل": ١١/٤٢..
٢٠٦- قال أبو عمر : لا خلاف بين علماء المسلمين، أن سورة المائدة نزلت بتحريم الخمر، وهي مدنية، من آخر ما نزل بالمدينة، وذلك قول الله- عز وجل- :﴿ يا أيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ﴾، ثم قال :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾، فنهى عنها، وأمر باجتنابها، كما قال :﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان ﴾١. ( ت : ١/٢٤٦ )
٢٠٧- لا خلاف بين علماء المسلمين أن تحريمها إنما ورد في سورة المائدة بلفظ النهي في قوله عز وجل :﴿ إنما الخمر والميسر ﴾، إلى ﴿ فاجتنبوه لعلكم تفلحون ﴾، وإلى :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾، وهذه الآية نسخت ما جرى من ذكرها في سورة البقرة٢، وسورة النساء٣، وسورة النحل٤. ( ت : ٤/١٣٩ )
٢٠٨- مالك، عن ثور بن زيد الديلي، أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل، فقال له علي بن أبي طالب : ترى أن تجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، أو كما قال : فجلد عمر في الخمر ثمانين٥.
قال أبو عمر : هذا حديث منقطع من رواية مالك، وقد روي متصلا من حديث ابن عباس، ذكره الطحاوي في كتاب : " أحكام القرآن "، قال : حدثني بهز بن سليمان، قال : حدثني سعيد بن كثير، قال : حدثني محمد بن فليح، عن ثور بن زيد الديلي، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن الشراب كانوا يضربون في عهد رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بالأيدي، والنعال، والعصي حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر : لو فرضنا لهم حدا، يتوخى نحو ما كان يضربون عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر يجلدهم أربعين، ثم كان عمر بعده يجلدهم كذلك أربعين، حتى أتي برجل من المهاجرين الأولين، وقد شرب، فأمر به أن يجلد، فقال له : لم تجلدني ؟ بيني وبينك كتاب الله عز وجل، فقال عمر : في أي كتاب الله عز وجل وجدت لا أجلدك ؟ فقال : إن الله عز وجل يقول في كتابه :﴿ ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح في ما طعموا إذا ما اتقوا وءامنوا وعملوا الصالحات ﴾٦- الآية، فأنا من الذين اتقوا، وآمنوا، وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا، وأحدا، والخندق، والمشاهد، فقال عمر : ألا تردون عليه ما يقول ؟ فقال ابن عباس : إن هؤلاء الآيات نزلت عذرا للماضين وحجة على الباقين، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله عز وجل قبل أن يحرم عليهم الخمر، وحجة على الباقين، لأن الله عز وجل يقول :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ﴾.
ثم قرأ إلى قوله :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، فإن الله عز وجل قد نهى أن يشرب الخمر. قال عمر : صدقت، من اتقى، اجتنب ما حرم الله تعالى عليه، قال عمر : فماذا ترون ؟ قال علي رضي الله عنه : إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة، فأمر به عمر، فجلده ثمانين٧. ( س : ٢٤/٢٦٥-٢٦٦ )
١ - سورة الحج: ٢٨..
٢ - أي قوله تعالى: ﴿يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما﴾ الآية: ٢١٧..
٣ - أي قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون﴾ الآية: ٤٣..
٤ - أي قوله تعالى: ﴿ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون﴾ الآية: ٦٧..
٥ - الموطأ: كتاب الأشربة، باب الحد في شرب الخمر: ٥٦٢..
٦ - سورة المائدة: ٩٥..
٧ - وكذلك أورده ابن العربي في أحكامه: ٢/٦٥٩. ونسبه إلى الدارقطني..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٠:٢٠٦- قال أبو عمر : لا خلاف بين علماء المسلمين، أن سورة المائدة نزلت بتحريم الخمر، وهي مدنية، من آخر ما نزل بالمدينة، وذلك قول الله- عز وجل- :﴿ يا أيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ﴾، ثم قال :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾، فنهى عنها، وأمر باجتنابها، كما قال :﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان ﴾١. ( ت : ١/٢٤٦ )

٢٠٧-
لا خلاف بين علماء المسلمين أن تحريمها إنما ورد في سورة المائدة بلفظ النهي في قوله عز وجل :﴿ إنما الخمر والميسر ﴾، إلى ﴿ فاجتنبوه لعلكم تفلحون ﴾، وإلى :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾، وهذه الآية نسخت ما جرى من ذكرها في سورة البقرة٢، وسورة النساء٣، وسورة النحل٤. ( ت : ٤/١٣٩ )

٢٠٨-
مالك، عن ثور بن زيد الديلي، أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل، فقال له علي بن أبي طالب : ترى أن تجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، أو كما قال : فجلد عمر في الخمر ثمانين٥.
قال أبو عمر : هذا حديث منقطع من رواية مالك، وقد روي متصلا من حديث ابن عباس، ذكره الطحاوي في كتاب :" أحكام القرآن "، قال : حدثني بهز بن سليمان، قال : حدثني سعيد بن كثير، قال : حدثني محمد بن فليح، عن ثور بن زيد الديلي، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن الشراب كانوا يضربون في عهد رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بالأيدي، والنعال، والعصي حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر : لو فرضنا لهم حدا، يتوخى نحو ما كان يضربون عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر يجلدهم أربعين، ثم كان عمر بعده يجلدهم كذلك أربعين، حتى أتي برجل من المهاجرين الأولين، وقد شرب، فأمر به أن يجلد، فقال له : لم تجلدني ؟ بيني وبينك كتاب الله عز وجل، فقال عمر : في أي كتاب الله عز وجل وجدت لا أجلدك ؟ فقال : إن الله عز وجل يقول في كتابه :﴿ ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح في ما طعموا إذا ما اتقوا وءامنوا وعملوا الصالحات ﴾٦- الآية، فأنا من الذين اتقوا، وآمنوا، وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا، وأحدا، والخندق، والمشاهد، فقال عمر : ألا تردون عليه ما يقول ؟ فقال ابن عباس : إن هؤلاء الآيات نزلت عذرا للماضين وحجة على الباقين، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله عز وجل قبل أن يحرم عليهم الخمر، وحجة على الباقين، لأن الله عز وجل يقول :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ﴾.
ثم قرأ إلى قوله :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، فإن الله عز وجل قد نهى أن يشرب الخمر. قال عمر : صدقت، من اتقى، اجتنب ما حرم الله تعالى عليه، قال عمر : فماذا ترون ؟ قال علي رضي الله عنه : إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة، فأمر به عمر، فجلده ثمانين٧. ( س : ٢٤/٢٦٥-٢٦٦ )
١ - سورة الحج: ٢٨..
٢ - أي قوله تعالى: ﴿يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما﴾ الآية: ٢١٧..
٣ - أي قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون﴾ الآية: ٤٣..
٤ - أي قوله تعالى: ﴿ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون﴾ الآية: ٦٧..
٥ - الموطأ: كتاب الأشربة، باب الحد في شرب الخمر: ٥٦٢..
٦ - سورة المائدة: ٩٥..
٧ - وكذلك أورده ابن العربي في أحكامه: ٢/٦٥٩. ونسبه إلى الدارقطني..

٢٠٩- رُوِي عن مجاهد وطائفة : لا تجب الكفارة إلا في قتل الصيد خطأ، وأما العمد فلا كفارة فيه. ( س : ١٣/٢٨٢-٢٨٣ )
قال أبو عمر : ظاهر قول مجاهد مخالف لظاهر القرآن، إلا أن معناه أنه متعمد لقتله، ناس لإحرامه.
وذكر معمر، عن ابن نجيح، عن مجاهد في قوله عز وجل :﴿ ومن قتله منكم مّتعمّدا ﴾، فإن من قتله متعمدا لقتله، ناسيا لإحرامه.
قال أبو عمر : يقول : إذا كان ذاكرا لإحرامه، فهو أعظم من أن يكون فيه جزاء، كاليمين الغموس.
وأما أهل الظاهر فقالوا : دليل الخطاب يقضي أن حكم من قتل خطأ، بخلاف حكم من قتله متعمدا، وإلا لم يكن لتخصيص التعمد معنى.
٢١٠- قال الله تبارك وتعالى :﴿ فجزاء مثل ما قتل من النعم ﴾، وهذا تمثيل الشيء بعدله ومثله وشبهه ونظيره، وهو نفس القياس عند الفقهاء. ( جامع بيان العلم وفضله : ٢/٨١ )
٢١١- قال أبو عمر : قال الله عز وجل :﴿ أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم ﴾، فروي عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة، قالوا : طعامه : ما ألقى وقذف.
وروي عن ابن عباس أنه قال : طعامه : ميتته، وهو في ذلك المعنى، وروي عنه أنه قال : طعامه : مليحه. ( ت : ١٦/٢٢٤ )
٢١٢- وقال مالك في صيد الحيتان في البحر والأنهار والبرك وما أشبه ذلك : إنه حلال للمحرم أن يصطاده. ١
قال أبو عمر : هذا ما لا خلاف فيه، لقول الله- عز وجل- :﴿ أحل لكم صيد البحر ﴾، والبحر : كل ماء مجتمع على ملح أو عذب، قال الله عز وجل :﴿ وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ﴾٢. وكل ما كان أغلب عيشه في الماء فهو من صيد البحر. ( س : ١١/٢٩٥. وانظر أيضا : ١٥/٣٠١-٣٠٢ )
١ - ذكره في الموطأ، كتاب الحج، باب ما يجوز للمرحم أكله من الصيد: ٢٢٥..
٢ - سورة فاطر: ١٢..
٢١٣- رُوِي عن ابن مسعود وجماعة من الصحابة والتابعين- رحمهم الله- أنهم كانوا يقولون في تأويل قول الله عز وجل :﴿ عليكم أنفسكم ﴾ الآية، قالوا : إذا اختلفت القلوب في آخر الزمان، وألبس الناس شيعا، وأذيق بعضهم بأس بعض وكان الهوى متبعا والشح مطاعا، وأعجب كل ذي رأي برأيه، فحينئذ تأويل هذه الآية١. وقد قيل في تأويل الآية : لا يضركم من ضل من غير أهل دينكم، إذا أدى الجزية إليكم.
وهذا الاختلاف في تأويل الآية يخرجها من أن تجري مجرى الخمس التي بني الإسلام عليها، وقد روي عن ابن عباس أن أعمدة الإسلام ثلاثة : الشهادة، والصلاة، وصوم رمضان٢. ( ت : ١٦/١٦١-١٦٢. وانظر س : ٦/٣٦٤ )
١ - قال ابن العربي: روي أن أبا بكر الصديق قال: أيها الناس، إنكم تقرأون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها: ﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم﴾، وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله سبحانه بعذاب من عنده، ثم قال ابن العربي: هذه الآية من أصول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو أصل الدين وخلافة المسلمين. انظر أحكام القرآن: ٢/٧٠٩..
٢ - قال الحافظ ابن عبد البر: حدثنا أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمان بن علي- رحمه الله قال: حدثنا أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان، قال: حدثنا علي بن سعيد، قال: أبو رجاء وسعيد بن حفص النجاري، قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: حدثنا حماد بن زيد، قال: حدثنا عمرو بن مالك النكري، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، قال حماد: لا أظنه إلا رفعه-قال: عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة، بني الإسلام عليها. من ترك منهن واحدة فهو حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة، وصيام رمضان، قال ابن عباس: نجده كثير المال ولا يزكي، فلا نقول له بذلك كافر، ولا حلال دمه، ونجده كثير المال ولا يحج فلا نراه بذلك كافر ولا حل دمه. التمهيد: ١٦/١٦٢..
Icon