تفسير سورة التغابن

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة التغابن من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مدنية، في قول الأكثرين، وقال الضحاك : مكية، وقال الكلبي : مدنية ومكية. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن سورة التغابن نزلت بمكة إلا آيات من آخرها نزلت بالمدنية في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده، فأنزل الله عز وجلّ ﴿ يا أيها الذين آمنوا إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوّاً لكم ﴾ إلى آخرها، وهي ثماني عشرة آية، ومائتان وإحدى وأربعون كلمة، وألف وسبعون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ مالك الملك فلا كفء له ولا مثيل ﴿ الرحمن ﴾ أي : الذي وسع الخلائق بره الجليل ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص من عمه فوفقهم للجميل.

﴿ يسبح ﴾ أي : يوقع التنزيه التامّ مع التجديد والاستمرار ﴿ لله ﴾ أي : الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿ ما في السماوات ﴾ أي : كلها ﴿ وما في الأرض ﴾ كذلك، وقيل : اللام زائدة، أي : ينزه الله تعالى، قال الجلال المحلي : وأتى بما دون من تغليباً للأكثر ﴿ له ﴾ أي : وحده ﴿ الملك ﴾ أي : كله مطلقاً في الدنيا والآخرة ﴿ وله ﴾ أي : وحده ﴿ الحمد ﴾ أي : الإحاطة بأوصاف الكمال كلها، فلذلك نزهه جميع مخلوقاته وقدّم الظرفين ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله تعالى، وذلك بأنّ الملك على الحقيقة له، لأنه مبدئ كل شيء ومبدعه، والقائم به والمهيمن عليه، وكذا الحمد لأنّ أصول النعم وفروعها منه وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء وحمده اعتداد بأنّ نعمة الله جرت على يده ﴿ وهو على كل شيء قدير ﴾.
﴿ هو ﴾ أي : وحده ﴿ الذي خلقكم ﴾ أي : أنشأكم على ما أنتم عليه ﴿ فمنكم ﴾ أي : فتسبب عن خلقه لكم وتقديره ﴿ كافر ﴾ أي : عريق في صفة الكفر ﴿ ومنكم مؤمن ﴾ أي : راسخ في الإيمان في حكم الله تعالى في الأزل، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنّ الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، ويعيدهم في القيامة مؤمناً وكافراً.
وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال :«خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية فذكر شيئاً مما يكون فقال : تولد الناس على طبقات شتى، يولد الرجل مؤمناً ويعيش مؤمناً ويموت مؤمناً، ويولد الرجل كافراً ويعيش كافراً ويموت كافراً، ويولد الرجل كافراً ويعيش كافراً ويموت مؤمناً »، أي : وسكت عن القسم الآخر، وهو أن يولد الرجل مؤمناً ويعيش مؤمناً ويموت كافراً اكتفاء بالمقابل، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «خلق الله تعالى فرعون في بطن أمّه كافراً، وخلق يحيى بن زكريا عليهما السلام في بطن أمّه مؤمناً وفي الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه :«وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها » وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة » قال القرطبي : قال علماؤنا : والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم فيجري ما علم وأراد وحكم، فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال، وقد يريده إلى وقت معلوم، وكذلك الكفر.
وقيل : في الكلام محذوف، تقديره : فمنكم مؤمن ومنكم كافر ومنكم فاسق فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه، قاله الحسن. وقال غيره : لا حذف لأنّ المقصود ذكر الطرفين، وقيل : إنه خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا، والتقدير : هو الذي خلقكم، ثم وصفهم فقال :﴿ فمنكم كافر ومنكم مؤمن ﴾ كقوله تعالى :﴿ والله خلق كل دابة من ماء ﴾ [ النور : ٤٥ ] ثم قال تعالى :﴿ فمنهم من يمشي على بطنه ﴾ [ النور : ٤٥ ] الآية. قالوا : فإنه خلقهم والمشي فعلهم، وهذا اختيار الحسين بن الفضل، قال : لو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله تعالى :﴿ فمنكم كافر ومنكم مؤمن ﴾ واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه » قال البغوي : وروينا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الغلام الذي قتله الخضر طبع على الكفر » وقال تعالى :﴿ ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً ﴾ [ نوح : ٢٧ ] وروى أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :«وكل الله بالرحم ملكاً، فيقول : أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها، قال : يا رب ذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، فما الرزق، فما الأجل، فيكتب ذلك في بطن أمه » وقال الضحاك : فمنكم كافر في السرّ مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في العلانية والسرّ، كعمار وزيد. وقال عطاء بن أبي رباح : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب، يعني : في شأن الأنواء كما جاء في الحديث. قال القرطبي : وقال الزجاج : وهو أحسن الأقوال.
والذي عليه الأئمة أن الله خلق الكافر وكفره فعل له، وكسب واختيار، وخلق المؤمن وإيمانه فعل له، وكسب واختيار وكسبه واختياره بتقدير الله ومشيئته، فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختار الإيمان لأنّ الله تعالى أراد ذلك منه وقدّره عليه وعلمه منه، والكافر بعد خلق الله إياه يختار الكفر لأنّ الله تعالى قدره عليه وعلمه منه، ولا يجوز أن يوجد من كل منهما غير الذي قدره عليه وعلمه منه، لأنّ وجود خلاف المقدور عجز، ووجود خلاف المعلوم جهل فلا يليقان بالله تعالى. قال البغوي : وهذا طريق أهل السنة، من سلكه أصاب الحق وسلم من الجبر والقدر.
قال الرازي : فإن قيل : إنه تعالى حكيم وقد سبق في علمه أنه تعالى إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر فأيّ حكمة دعت إلى خلقهم ؟.
فالجواب : إذا علمنا أنه تعالى حكيم علمنا أنّ أفعاله كلها على وفق الحكمة فيكون خلقه تعالى هذه الطائفة على وفق الحكمة، ولا يلزم من عدم علمنا بذلك أن لا يكون كذلك، بل اللازم أن يكون خلقهم على وفق الحكمة ﴿ والله ﴾ أي : الذي له الإحاطة الكاملة ﴿ بما تعملون ﴾ أي : توقعون عمله كسباً ﴿ بصير ﴾ أي : بالغ العلم بذلك، فهو الذي خلق جميع أعمالكم التي نسب كسبها إليكم، وهو خالق جميع الاستعدادات والصفات كما خلق الذوات خلافاً للقدرية، لأنه لا يتصور أن يخلق الخالق ما لا يعلمه، ولو سئل الإنسان كم مشى في يومه من خطوة لم يدر فكيف لو سئل أين موضع مشيه، ومتى زمانه فكيف، وإنه ليمشي أكثر مشيه وهو غافل عنه، ومن جهل أفعاله كماً وكيفاً وأيناً وغير ذلك لم يكن خالقاً لها بوجه.
ولما ذكر المظروف ذكر ظرفه دالاً على تمام إحاطته بالبواطن والظواهر.
وقوله تعالى :﴿ خلق السماوات ﴾ أي : على علوها وكبرها ﴿ والأرض ﴾ على سعتها ﴿ بالحق ﴾ أي : بالأمر الذي يطابقه الواقع لما أراد ﴿ وصورّكم ﴾ أي : آدم عليه السلام خلقه بيده كرامة له. قال مقاتل : وقيل : جميع الخلائق على صور لا توافق شيئاً من صور العلويات، ولا السفليات، ولا فيها صور توافق الأخرى من كل وجه ﴿ فأحسن صوركم ﴾ فجعلها أحسن الحيوانات كلها كما هو مشاهد، وبدليل أن الإنسان لا يتمنى أن يكون على خلاف ما يرى من سائر الصور، ومن حسن صورته أن خلقه منتصباً غير منكب كما قال تعالى :﴿ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ﴾ [ التين : ٤ ] كما يأتي إن شاء الله تعالى.
فإن قيل : قد يوجد في أفراد هذا النوع من كل مشوه الخلقة سمج الصورة.
أجيب : بأنه لا سماجة لأن الحسن في المعاني، وهو على طبقات ومراتب، فانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقه لا يمنع حسنه، فهو داخل في حيز الحسن غير خارج عن حدّه، فقبح القبيح منه إنما هو بالنسبة إلى أحسن منه. ولذا قال الحكماء : شيئان لا غاية لهما الجمال والبيان، فقدرة الله سبحانه وتعالى لا تتناهى.
قال البقاعي : فإياك أن تصغي لما وقع في كتب الغزالي إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، فإن ذلك ينحل إلى أنه سبحانه لا يقدر أن يخلق أحسن من هذا العالم، وهذا لا يقوله أحد، ا. ه. وهو لا ينقص مقدار الغزالي فإن كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه كما قال الإمام مالك، وعزاه الغزالي نفسه إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الشافعي : صنفت هذه الكتب وما ألوت فيها جهداً وإني لا علم أن فيها الخطأ لأن الله تعالى يقول :﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا ﴾ [ النساء : ٨٢ ] ولما كان التقدير فكان منه سبحانه المبدأ عطف عليه قوله تعالى :﴿ وإليه ﴾ وحده ﴿ المصير ﴾ أي : المرجع بعد البعث فيجازى كلاً بعمله.
﴿ يعلم ﴾ أي : علمه حاصل في الماضي والحال والمآل ﴿ ما ﴾ أي : كل شيء ﴿ في السماوات ﴾ أي : كلها ﴿ والأرض ﴾ كذلك ﴿ ويعلم ﴾ أي : على سبيل الاستمرار ﴿ ما تسرون ﴾ أي : تخفون ﴿ وما تعلنون ﴾ أي : تظهرون من الكلمات والجزئيات ﴿ والله ﴾ أي : الذي له الإحاطة التامة ﴿ عليم ﴾ أي : بالغ العلم ﴿ بذات ﴾ أي : صاحبة ﴿ الصدور ﴾ من الأسرار والخواطر التي لم تبرز في الخارج سواء كان صاحب الصدر قد علمها أم لا، وعلمه لكل ذلك على حد سواء لا تفاوت فيه بين علم الخفي وعلم الجلي نبه بعمله ما في السماوات والأرض، ثم يعلم ما يسره العباد ويعلنونه، ثم بعلمه ذوات الصدور إن شيئاً من الجزئيات والكليات غير خافٍ عليه، ولا عازب عنه، ولا يجترئ على شيء مما يخالف رضاه، وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد، وكل ما ذكره بعد قوله :﴿ فمنكم كافر ومنكم مؤمن ﴾ كما ترى في معنى الوعيد على الكفر، وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته.
﴿ ألم يأتكم ﴾ أيها الناس ولاسيما الكفار ﴿ نبأ ﴾ أي : خبر ﴿ الذين كفروا من قبل ﴾ كقوم نوح وهود وصالح ﴿ فذاقوا ﴾ أي : باشروا مباشرة الذائق ﴿ وبال أمرهم ﴾ أي : ضرر كفرهم في الدنيا، وأصله الثقل، ومنه الوبيل لطعام يثقل على المعدة، والوابل : المطر الثقيل القطر ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ أي : مؤلم في البرزخ ثم يوم القيامة التي هي موضع الفصل الأعظم.
﴿ ذلك ﴾ أي : الأمر العظيم من الوبال الدال قطعاً على أن الكفر أبطل الباطل وأنه مما يغضب الخالق ﴿ بأنه ﴾ أي : بسبب أن الشان العظيم البالغ في الفظاعة ﴿ كانت تأتيهم ﴾ على عادة مستمرة ﴿ رسلهم ﴾ أي : رسل الله الذين أرسلهم إليهم ﴿ بالبينات ﴾ أي : الحجج الظاهرات على الإيمان ﴿ فقالوا ﴾ أي : الكل لرسلهم منكرين غاية الإنكار تكبراً، وقولهم :﴿ أبشر يهدوننا ﴾ يجوز أن يرتفع بشر على الفاعلية ويكون من الاشتغال، وهو الأرجح لأن الأداة تطلب الفعل، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبر، وجمع الضمير في يهدوننا ؛ إذ البشر اسم جنس، وقد يأتي الواحد بمعنى الجمع فيكون اسماً للجنس، وقد يأتي الجمع بمعنى الواحد كقوله تعالى :﴿ ما هذا بشراً ﴾ [ يوسف : ٣١ ] فأنكروا على الملك الأعظم إرساله لهم ﴿ فكفروا ﴾ أي : بهذا القول ؛ إذ قالوه استصغاراً ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده ﴿ وتولوا ﴾ عن الإيمان.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ فكفروا ﴾ تعميم يفهم منه التولي فما الحاجة إلى ذكره ؟ أجيب : بأنهم كفروا وقالوا :﴿ أبشر يهدوننا ﴾ وهذا في معنى الإنكار والإعراض بالكلية، وهذا هو التولي فكأنهم كفروا وقالوا قولاً يدل على التولي، فلهذا قال :﴿ فكفروا وتولوا ﴾، وقيل : كفروا بالرسل وتولوا بالبرهان، وأعرضوا عن الإيمان والموعظة.
ونبه بقوله تعالى :﴿ واستغنى الله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه على أن هذا إنما هو لمصالح الخلق فهو غني عن كل شيء.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ وتولوا واستغنى الله ﴾ يوهم وجود التولي والاستغناء معاً، والله تعالى لم يزل غنياً ؟ أجيب : بأن معناه وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان، ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك ﴿ والله ﴾ أي : المستجمع الصفات الكمال ﴿ غني ﴾ عن خلقه ﴿ حميد ﴾ أي : محمود في أفعاله.
﴿ زعم الذين كفروا ﴾ أي : أوقعوا الستر لما دلت عليه العقول من وحدانية الله تعالى، ولو على أدنى الوجوب. وزعم قال ابن عربي : كنية الكذب، وقال الزمخشري : الزعم ادعاء العلم، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :«زعموا مطية الكذب » وعن شريح : لكل شيء كنية، وكنية الكذب زعموا. وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند أبي داود :«بئس مطية الرجال زعموا » ﴿ أن لن يبعثوا ﴾ أي : من أي باعث ما بوجه من الوجوه ﴿ قل ﴾ أي : يا أشرف الرسل لهؤلاء البعداء ﴿ بلى ﴾ أي : لتبعثن ثم أكد بصريح القسم فقال :﴿ وربي ﴾ أي : المحسن إلي بالانتقام ممن كذب بي ﴿ لتبعثنّ ﴾ أي : بأهون شيء وأيسر أمر ﴿ ثم لتنبؤن ﴾ أي : تخبرنّ إخباراً عظيماً ممن يقيمه الله تعالى لإخباركم ﴿ بما عملتم ﴾ أي : بأعمالكم لتجزون عليها ﴿ وذلك ﴾ أي : الأمر العظيم عندكم من البعث والحساب ﴿ على الله ﴾ أي : المحيط بصفات الكمال وحده ﴿ يسير ﴾ إذ الإعادة أسهل من الابتداء.
فإن قيل : كيف يفيد القسم في إخباره عن البعث، وهم قد أنكروا الرسالة ؟.
أجيب : بأنهم أنكروا الرسالة لكنهم يعتقدون أنه يعتقد ربه اعتقاداً جازماً فيعلمون أنه لا يقدم على القسم بربه إلا وأن يكون الإخبار عنده صدقاً أظهر من الشمس في اعتقاده، ثم إنه أكد الخبر باللام والنون فكأنه قسماً بعد قسم.
ثم إن الله تعالى لما أخبر عن البعث، والاعتراف بالبعث من لوازم الإيمان قال تعالى :﴿ فآمنوا بالله ﴾ أي : الملك الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء ﴿ ورسوله ﴾ أي : كل من أرسله ولاسيما محمداً صلى الله عليه وسلم ﴿ والنور ﴾ أي : القرآن ﴿ الذي أنزلنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ؛ لأنه نور يهتدى به من ظلمة الضلالة كما يهتدى بالنور في الظلمات.
فإن قيل : هلا قيل : ونوره، بالإضافة كما قال : ورسوله ؟ أجيب بأن الألف واللام في النور بمعنى الإضافة فكأنه قال : ورسوله ونوره ﴿ والله ﴾ أي : المحيط علماً وقدرة ﴿ بما تعملون خبير ﴾ أي : بالغ العلم بما تسرون وما تعلنون فراقبوه في السر والعلانية.
وقوله تعالى :﴿ يوم يجمعكم ﴾ منصوب بقوله تعالى :﴿ لتنبئون ﴾ عند النحاس و﴿ بخبير ﴾ عند الحوفي لما فيه من معنى الوعيد كأنه قال : والله يعاقبكم يوم يجمعكم، وباذكر مضمراً عند الزمخشري فيكون مفعولاً به، أو بما دلّ عليه الكلام، أي : تتفاوتون يوم يجمعكم ؛ قاله أبو البقاء ﴿ ليوم الجمع ﴾ أي : لأجل ما يقع في ذلك اليوم، وهو يوم القيامة الذي يجمع الله تعالى فيه الأولين والآخرين من الإنس والجن وجميع أهل السماء والأرض.
وقيل : يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله، وقيل : يجمع فيه بين الظالم والمظلوم، وقيل : يجمع فيه بين كل نبي وأمّته، وقيل : يجمع فيه ثواب أهل الطاعة وعقاب أهل المعاصي، بل هو جامع لجميع ما ذكر ﴿ ذلك ﴾ أي : اليوم العظيم ﴿ يوم التغابن ﴾ والتغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة، وهو أن يغبن بعضهم بعضاً لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء، وفيه تهكم بالأشقياء ؛ لأن نزولهم ليس بغبن. ولهذا قيل : التفاعل هنا من واحد لا من اثنين، وفي الحديث «ما من عبد أدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرةً » وهو معنى ﴿ ذلك يوم التغابن ﴾ وقد يتغابن الناس في غير ذلك اليوم استعظاماً له وإن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت.
وذكر في بعض التفاسير أن التغابن هو أن يكتسب الرجل مالاً من غير وجهه ليرثه غيره فيعمل فيه بطاعة الله فيدخل الأول النار والثاني الجنة بذلك المال، فذلك هو الغبن البين، والمغابن ما انثنى من البدن نحو الإبطين والفخذين، والمغبون من غبن في أهله ومنازله في الجنة، ويظهر يومئذ غبن كل كافر بتركه الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وبصنيعه في الآثام.
قال الزجاج : ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة بالنسبة إلى من هو أعلى منزلة منه. فإن قيل : فأي معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها ؟ أجيب : بأنه تمثيل للغبن في الشراء والبيع كقوله تعالى :﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم ﴾ [ البقرة : ١٦ ] فلما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خسروا، ذكر أيضاً أنهم غبنوا وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة، وهذا نوع مبادلة اتساعاً ومجازاً.
وقد فرق الله تعالى الخلق فريقين فريقاً للجنة وفريقاً للنار، وقال الحسن وقتادة : بلغنا أن التغابن على ثلاثة أصناف : رجل علم علماً فضيعه ولم يعمل به فشقي به، ورجل علم علماً وعمل به فنجا به، ورجل اكتسب مالاً من وجوه يسأل عنها وشح عليه وفرط في طاعة ربه بسببه ولم يعمل فيه خيراً، وتركه لوارث لا حساب عليه، فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه، ورجل كان له عبد فعمل ذلك العبد بطاعة ربه فسعد، وعمل السيد بمعصية ربه فشقي. وروى القرطبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إن الله تعالى يقيم الرجل والمرأة يوم القيامة بين يديه فيقول الله تعالى لهما قولاً : ما أنتما قائلان ؟ فيقول الرجل : يا رب أوجبت نفقتها علي فنفقتها من حرام ومن حلال، وهؤلاء الخصوم يطلبون ذلك، ولم يبق لي ما أوفي، فتقول المرأة : يا رب وما عسى أن يقول اكتسبه حراماً وأكلته حلالاً، وعصاك في مرضاتي ولم أرض له بذلك فبعداً له وسحقاً، فيقول الله تعالى : قد صدقت فيؤمر به إلى النار ويؤمر بها إلى الجنة، فتطلع عليه من طبقات الجنة فتقول له : غبناك غبناك سعدنا بما شقيت أنت به، فذلك يوم التغابن ».
وقال بعض علماء الصوفية : إن الله تعالى كتب الغبن على الخلق أجمعين فلا يلقى أحد ربه إلا مغبوناً، لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب قال صلى الله عليه وسلم «لا يلقى الله أحد إلا نادماً إن كان مسيئاً إن لم يحسن، وإن كان محسناً إن لم يزدد ».
تنبيه : استدل بعض العلماء بقوله تعالى :﴿ ذلك يوم التغابن ﴾ أنه لا يجوز الغبن في المعاملات الدنيوية لأن الله تعالى خص التغابن بيوم القيامة فقال تعالى :﴿ ذلك يوم التغابن ﴾ وهذا الاختصاص يفيد أن لا غبن في الدنيا، فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث، واختاره البغداديون واحتجوا عليه بقوله صلى الله عليه وسلم لحسان بن سعد :«إذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثاً » ولأن الغبن في الدنيا ممنوع منه بالإجماع في حكم الدين إذ هو من باب الخداع المحرم شرعاً في كل ملة لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه، فمضى في البيوع إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبداً لأنه لا يخلو منه، فإذا كان كثيراً أمكن الاحتراز عنه فوجب الرد به.
والفرق بين القليل والكثير في الشريعة غير معلوم فقدر بالثلث، وهذا الحد اعتبره الشارع في الوصية وغيرها، ويكون معنى الآية على هذا يوم التغابن الجائز مطلقاً من غير تفصيل، وذلك يوم التغابن الذي لا يستدرك أبداً ﴿ ومن يؤمن ﴾ أي : يوقع الإيمان ويجدده على سبيل الاستمرار ﴿ بالله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي لا كفء له ﴿ ويعمل ﴾ تصديقاً لإيمانه ﴿ صالحاً ﴾ أي : عملاً هو مما ينبغي الاهتمام بتحصيله لأنه لا مثل له في جلب المصالح ودفع المضار ﴿ يكفر عنه سيئاته ﴾ التي غلبه عليها نقصان الطبع واتبع ذلك الحامل الآخر، وهو التوجيه بجلب المسار لأن الإنسان يطير إلى ربه سبحانه بجناحي الخوف والرجاء، والرهبة والرغبة، والنذارة والبشارة ﴿ ويدخله ﴾ أي : رحمة له وإكراماً وفضلاً ﴿ جنات ﴾ أي : بساتين ذات أشجار عظيمة وأغصان ظليلة تستر داخلها ورياض مديدة متنوعة الأزاهير عطرة النشر بهيج ريها، وأشار إلى دوام ريها بقوله تعالى :﴿ تجري من تحتها ﴾ أي : من تحت قصورها وأشجارها ﴿ الأنهار ﴾ وقرأ نكفر عنه وندخله، نافع وابن عامر بالنون فيهما، أي : نحن بما لنا من العظمة، والباقون بالياء التحتية، أي : الله الواحد القهار ﴿ خالدين ﴾ أي : مقدرين الخلود ﴿ فيها ﴾ وأكده بقوله :﴿ أبداً ﴾ فلا خروج لهم منها ﴿ ذلك ﴾ أي : الأمر العالي جداً من الغفران والإكرام ﴿ الفوز العظيم ﴾ لأنه جامع لجميع المصالح ودفع المضار وجلب المسار، ومن جملة ذلك النظر إلى وجه الله الكريم.
ولما ذكر تعالى الفائز بلزومه التقوى ترغيباً اتبعه بضده ترهيباً فقال عز من قائل :﴿ والذين كفروا ﴾ أي : غطوا أدلة ذلك اليوم فكانوا في الظلام ﴿ وكذبوا ﴾ أي : أوقعوا جميع التغطية وجميع التكذيب ﴿ بآياتنا ﴾ أي : بسببها مع مالها من العظمة بإضافتها إلينا وهي القرآن فلم يعملوا به ﴿ أولئك ﴾ أي : البعداء البغضاء ﴿ أصحاب النار خالدين ﴾ أي : مقدرين الخلود ﴿ فيها وبئس المصير ﴾ هي، قال الرازي : فإن قيل : قال تعالى في حق المؤمنين ﴿ ومن يؤمن بالله ﴾ بلفظ المستقبل، وفي الكفار قال :﴿ والذين كفروا ﴾ بلفظ الماضي.
فالجواب : أن تقدير الكلام : ومن يؤمن بالله من الذين كفروا وكذبوا بآياتنا يدخله جنات، ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النار.
فإن قيل : قال تعالى :﴿ يؤمن ﴾ بلفظ الوحدان و﴿ خالدين فيها ﴾ بلفظ الجمع. أجيب : بأن ذلك بحسب اللفظ، وهذا بحسب المعنى.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى :﴿ وبئس المصير ﴾ بعد قوله تعالى :﴿ خالدين فيها ﴾ وذلك بئس المصير ؟ أجيب : بأن ذلك وإن كان في معناه فهو تصريح بما يؤكده كما في قوله :﴿ أبداً ﴾.
﴿ ما أصاب ﴾ أحداً ﴿ من مصيبة ﴾ أيّ مصيبة كانت دينية أو دنيوية في نفس أو مال أو قول أو فعل تقتضي هماً، أو توجب عقاباً آجلاً أو عاجلاً ﴿ إلا بإذن الله ﴾ أي : بتقدير الملك الأعظم. وقال الفراء : يريد إلا بأمر الله. وقيل : إلا بعلم الله، وقيل : سبب نزول هذه الآية أن الكفار قالوا : لو كان ما عليه المسلمون حقاً لصانهم الله تعالى عن المصائب في الدنيا، فبين الله تعالى أن ما أصاب من مصيبة إلا بقضائه وقدره.
فإن قيل : بم يتصل قوله تعالى :﴿ ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ﴾ ؟ أجيب : بأنه يتعلق بقوله تعالى :﴿ فآمنوا بالله ورسوله ﴾.
﴿ ومن يؤمن بالله ﴾ يصدق بأنه لا تصيبه مصيبة إلا بقضاء الله الملك الأعظم وتقديره وإذنه ﴿ يهد قلبه ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو أن يجعل في قلبه اليقين حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، أي : فيسلم لقضاء الله وقدره. وقال الكلبي : هو إذا ابتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر.
وقيل : يهد قلبه إلى نيل الثواب في الجنة، وقيل : يثبته على الإيمان. وقال أبو عثمان الحيري : من صح إيمانه يهد الله قلبه لاتباع السنة. وقيل : يهد قلبه عند المصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون، قاله ابن جبير. ﴿ والله ﴾ أي : الملك الذي لا نظير له ﴿ بكل شيء ﴾ مطلقاً من غير استثناء ﴿ عليم ﴾ فلا يخفى عليه تسليم من انقاد لأمره، فإذا تحقق من هدى قلبه ذلك زاح عنه كل اعتقاد باطل من كفر أو بدعة أو صفة خبيثة.
﴿ وأطيعوا الله ﴾ أي : الملك الأعلى الذي له الأمر كله ﴿ وأطيعوا الرسول ﴾ أي : هونوا على أنفسكم المصائب واشتغلوا بطاعة الله تعالى، واعملوا بكتابه وأطيعوا الرسول في العمل بسنته ﴿ فإن توليتم ﴾ أي : عن الطاعة ﴿ فإنما على رسولنا ﴾ أضافه إليه على وجه الكمال تعظيماً له وتهديداً لمن يتولى عنه ﴿ البلاغ المبين ﴾ أي : الظاهر في نفسه المظهر لكل أحد أنه أوضح له غاية الإيضاح، ولم يدع لبساً، وليس إليه خلق الهداية في القلوب.
﴿ الله ﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال ﴿ لا إله إلا هو ﴾ فهو القادر على خلق الهداية في القلوب والإقبال بها لا يقدر على ذلك غيره ﴿ وعلى الله ﴾ أي : الذي له الأمر لا على غيره ﴿ فليتوكل المؤمنون ﴾ أي : لأن إيمانهم بأن الكل منه يقتضي ذلك. وقال الزمخشري : هذا بعث لرسول الله صلى الله عليه وسلم على التوكل عليه، والتقوى به في أمره حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم ﴾ أي : وإن أظهرن غاية المودة ﴿ وأولادكم ﴾ أي : وإن أظهروا غاية الشفقة ﴿ عدواً لكم ﴾ فقال ابن عباس : نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده فنزلت ذكره النحاس، وحكاه الطبري عن عطاء بن يسار قال : نزلت سورة التغابن كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم ﴾ فإنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوه ورققوه، وقالوا : إلى من تدعنا فيرق فيقيم، فنزلت هذه الآية إلى آخر السورة بالمدينة.
وروى الترمذي عن ابن عباس وسئل عن هذه الآية قال : هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد تفقهوا في الدين، فهموا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى هذه الآية، حديث حسن صحيح.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن الشيطان قعد لابن آدم في طرق الإيمان فقال له : أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك فخالفه فآمن، ثم قعد له على طريق الهجرة فقال له : أتهاجر وتترك أهلك ومالك فخالفه فهاجر، ثم قعد له على طريق الجهاد فقال له : أتجاهد فتقتل نفسك فتنكح نساؤك ويقسم مالك فخالفه فجاهد فقتل، فحق على الله أن يدخله الجنة ».
وقعود الشيطان يكون بوجهين : أحدهما : يكون بالوسوسة، والثاني : أن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب قال تعالى :﴿ وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم ﴾ [ فصلت : ٢٥ ] وفي حكمة عيسى عليه الصلاة والسلام : من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان في الدنيا عبداً. وقال عليه الصلاة والسلام :«تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة » ولا دناءة أعظم من دناءة الدينار والدرهم، ولا أخس من همة ترتفع بثوب جديد ويدخل في قوله تعالى :﴿ إن من أزواجكم ﴾ الذكر والأنثى، فكما أن الرجل تكون زوجته عدواً له كذلك المرأة يكون زوجها عدواً لها بهذا المعنى ﴿ فاحذروهم ﴾ أي : أن تطيعوهم في التخلف عن الخير، ولا تأمنوا غوائلهم ﴿ وإن تعفوا ﴾ أي : توقعوا المجاوزة عن ذنوبهم بعدم العقاب عليها فإنه لا فائدة في ذلك، فإن من طبع على شيء لا يرجع عنه وإنما النافع الحذر الذي أرشد إليه تعالى لئلا يكون سبباً للذم المنهي عنه ﴿ وتصفحوا ﴾ أي : بالإعراض عن المقابلة بالتثريب باللسان ﴿ وتغفروا ﴾ أي : بأن تستروا ذنوبهم ستراً تاماً شاملاً للعين والأثر بالتجاوز ﴿ فإن الله ﴾ أي : الجامع لصفات الكمال ﴿ غفور ﴾ أي : بالغ المحو لأعيان الذنوب وآثارها جزاء لكم على غفرانكم لهم، وهو جدير بأن يصلحهم لكم بسبب غفرانكم ﴿ رحيم ﴾ فيكرمكم بعد ذلك الستر بالإنعام فتخلقوا بأخلاقه تعالى يزدكم من فضله.
﴿ إنما أموالكم ﴾ أي : عامة ﴿ وأولادكم ﴾ كذلك ﴿ فتنة ﴾ أي : اختبار من الله تعالى لكم، وهو أعلم بما في نفوسكم منكم لكي ليظهر في عالم الشهادة من يميله ذلك فيكون عليه نقمة ممن لا يميله فيكون عليه نعمة، فربما رام الإنسان صلاح ماله وولده فبالغ فأفسد نفسه، ثم لا يصلح ذلك ماله ولا ولده. روى أبو نعيم في الحلية في ترجمة سفيان الثوري رضي الله عنه أنه قال : يؤتى برجل يوم القيامة فيقال : أكل عياله حسناته. وعن بعض السلف : العيال سوس الطاعات ويكفي في فتنة لمال قصة ثعلبة بن حاطب أحد من نزل فيه قوله تعالى :﴿ ومنهم من عاهد الله ﴾ [ التوبة : ٧٥ ] وعن ابن مسعود : لا يقولن أحدكم اللهم اعصمني من الفتنة، فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال ولا ولد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل اللهم أعوذ بك من مضلات الفتن. وقال الحسن في قوله تعالى :﴿ إن من أزواجكم وأولادكم ﴾ أدخل من للتبعيض لأنهم كلهم ليسوا بأعداء، ولم يذكر في قوله تعالى :﴿ إنما أموالكم وأولادكم فتنة ﴾ لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما.
روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال :«رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل صلى الله عليه وسلم فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال : صدق الله عز وجل ﴿ إنما أموالكم وأولادكم فتنة ﴾ نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما » ثم أخذ في خطبته.
تنبيه : قدم الأموال على الأولاد لأن فتنة المال أكثر، وترك ذكر الأزواج في الفتنة قال البقاعي : لأن منهن من يكون صلاحاً وعوناً على الآخرة ﴿ والله ﴾ أي : ذو الجلال ﴿ عنده ﴾ وناهيك بما يكون منه بسبيل جلاله وعظمته ﴿ أجر ﴾ ثم وصفه بقوله تعالى :﴿ عظيم ﴾ أي : لمن ائتمر بأوامره التي أمره بها.
وقوله تعالى :﴿ فاتقوا الله ﴾ أي : الملك الأعلى ﴿ ما استطعتم ﴾ أي : جهدكم ووسعكم ناسخ لقوله تعالى :﴿ اتقوا الله حق تقاته ﴾ [ آل عمران : ١٠٢ ] قاله قتادة والربيع بن أنس السدي، وذكر الطبري عن ابن زيد في قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ﴾ قال جاء أمر شديد قال : ومن يعرف قدر هذا ويبلغه، فلما علم الله تعالى أنه قد اشتد عليهم نسخه عنهم، وجاء بهذه الآية الأخرى فقال ﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ وقال ابن عباس : وهي محكمة لا نسخ فيها، ولكن ﴿ حق تقاته ﴾ أن يجاهدوا فيه حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.
فإن قيل : إذا كانت الآية غير منسوخة فكيف الجمع بين الآيتين، وما وجه الأمر باتقائه حق تقاته مطلقاً من غير تخصيص ولا مشروطاً بشرط، والأمر باتقائه بشرط الاستطاعة ؟ أجيب : بأن قوله تعالى :﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ معناه : فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه فيما جعله فتنة لكم من أموالكم وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فتتركوا الهجرة وأنتم مستطيعون، وذلك أن الله تعالى قد عذر من لم يقدر على الهجرة بتركها بقوله تعالى :﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ﴾ [ النساء : ٩٦ ] إلى قوله تعالى :﴿ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ﴾ [ النساء : ٩٩ ] فأخبر تعالى أنه قد عفا عمن لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً بالإقامة في دار الشرك، فكذلك معنى قوله تعالى :﴿ ما استطعتم ﴾ في الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام أن تتركوها فتنة أموالكم وأولادكم، ويدل على صحة هذا أن قوله تعالى :﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ عقب قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم ﴾ ولا خلاف بين علماء التأويل في أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كفار تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك كما تقدم، وهذا اختيار الطبري.
وقال ابن جبير : قوله تعالى :﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ أي : فيما يتطوع به من نافلة أو صدقة، فإنه لما نزل قوله تعالى :﴿ اتقوا الله حق تقاته ﴾ اشتدت على القوم فقاموا حتى ورمت وقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفاً فيهم ﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ فنسخت الأولى.
قال الماوردي : ويحتمل أن يثبت هذا النقل لأن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها، لأنه لا يستطيع اتقاءها ﴿ واسمعوا ﴾ أي : سماع إذعان وتسليم لما توعظون به وجميع أوامره ﴿ وأطيعوا ﴾ أي : وصدقوا ذلك الإذعان بمباشرة الأفعال الظاهرة في الإسلاميات من القيام بأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله في كل أمر ونهي على حسب الطاقة وحذف المتعلق ليصدق الأمر بكل طاعة ﴿ وأنفقوا ﴾ أي : أوقعوا الإنفاق كما حد لكم فيما وجب أو ندب إليه، والإنفاق لا يخص نوعاً بل يكون بكل ما رزق الله من الذاتي والخارجي. وقوله تعالى :﴿ خيراً لأنفسكم ﴾ في نصبه أوجه : أحدها : قال سيبويه إنه مفعول بفعل مقدر دل عليه ﴿ وأنفقوا ﴾ تقديره : وقدموا خيراً لأنفسكم كقوله تعالى :﴿ انتهوا خيراً لكم ﴾ [ النساء : ١٧١ ] الثاني : تقديره يكن الإنفاق خيراً فهو خبر كان المضمرة، وهو قول أبي عبيدة. الثالث : أنه نعت مصدر محذوف، وهو قول الكسائي والفراء، أي : إنفاقاً خيراً لأنفسكم فإن الله يعطي خيراً منه في الدنيا مع ما تزكى به النفس ويدخر عليه من الجزاء في الآخرة مما لا يدري كنهه فلا يغرنكم عاجل شيء من ذلك فإنما هو زخرف.
ولما ذكر ما في الإنفاق من الخير عمم في جميع الأوامر بقوله تعالى :﴿ ومن يوق شح نفسه ﴾ فيفعل في ماله جميع ما أمر به موقناً به مطمئناً إليه حتى يرتفع عن قلبه الإخطار، ويتحرر عن رق المكنونات، والشح خلق باطني هو الداء العضال، والبخل فعل ظاهر ينشأ عن الشح، والنفس تارة تشح بترك الشهوة من المعاصي فتفعلها، وتارة بإعطاء الأعضاء في الطاعات فتتركها وتارة بإنفاق المال ومن فعل ما فرض عليه خرج من الشح. ولما كان الواقي هو الله تعالى سبب عن وقايته قوله تعالى :﴿ فأولئك ﴾ أي : العالو الرتبة ﴿ هم المفلحون ﴾ أي : الفائزون الذين حازوا جميع المرادات بما اتقوا الله فيه.
ثم رغب في الإنفاق بقوله تعالى :﴿ إن تقرضوا الله ﴾ أي : الملك الأعلى ذا الغنى المطلق الحائز لجميع صفات الكمال ﴿ قرضاً حسناً ﴾ والقرض الحسن هو التصدق من الحلال مع طيب النفس ومع الإخلاص والمبادرة ﴿ يضاعفه لكم ﴾ أي : لأجلكم خاصة أقل ما يكون بالواحد عشراً إلى ما لا يتناهى على حسب النيات.
قال القشيري : يتوجه الخطاب بهذا على الأغنياء في بذل أموالهم، وعلى الفقراء في إخلاء أيامهم وأوقاتهم من مروآتهم وإيثار مراد الحق على مراد أنفسهم، فالغني يقال له آثر حكمي على مرادك في مالك وغيره، والفقير يقال له : آثر حكمي في نفسك وقلبك ووقتك.
ولما كان الإنسان لما له من النقصان وإن اجتهد لا يبلغ جميع ما أمر به لأن الدين وإن كان يسيراً فهو متين لن يشاده أحد إلا غلبه قال تعالى :﴿ ويغفر لكم ﴾ أي : يوقع الغفران وهو محو ما فرط عينه وأثره ﴿ والله ﴾ أي : الذي لا تقاس عظمته بشيء ﴿ شكور ﴾ أي : بليغ الشكر لمن يعطي لأجله، ولو كان قليلاً فيثيبه ثواباً جزيلاً خارجاً عن الحصر، وهو ناظر إلى المضاعفة ﴿ حليم ﴾ فلا يعجل بالعقوبة على ذنب من الذنوب، وإن عظم بل يمهل طويلاً ليتذكر العبد الإحسان مع العصيان فيتوب، ولا يهمل ولا يغتر بحلمه فإن غضب الحليم لا يطاق، وهو راجع إلى الغفران.
﴿ عالم الغيب ﴾ وهو ما غاب عن الخلق كلهم فيشمل ما هو داخل القلب مما تؤثره الجبلة، ولا علم لصاحب القلب به فضلاً عن غيره ﴿ والشهادة ﴾ وهو كل ما ظهر وكان بحيث يعلمه الخلق، وهذا الوصف داع إلى الإحسان من حيث إنه موجب للمؤمن ترك ظاهر الإثم وباطنه، وكل قصور وفتور وغفلة وتهاون فيعبد الله تعالى كأنه يراه ﴿ العزيز ﴾ أي : الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ﴿ الحكيم ﴾ أي : بالغ الحكمة التي يعجز عن إدراكها الخلائق.
وقال ابن الأنباري : الحكيم : هو المحكم لخلق الأشياء، فصرف عن مفعل إلى فعيل، ومنه قوله تعالى :﴿ الم ١ تلك آيات الكتاب الحكيم ﴾ [ لقمان : ١ ٢ ] معناه : المحكم فصرف من مفعل إلى فعيل.
Icon