تفسير سورة التغابن

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة التغابن من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ أي كل شيء فيهما: من ملك، وإنسان، وحيوان، وجماد (انظر آية ٤٤ من سورة الإسراء) ﴿لَهُ﴾ وحده ﴿الْمُلْكُ﴾ والملكوت، وهو وحده المتصرف فيه؛ لا شريك له ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ﴾ على كل حال
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ من نفس واحدة
-[٦٩٠]- ﴿فَمِنكُمْ كَافِرٌ﴾ بخالقه، منكر لرازقه ﴿وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ﴾ به، موحد له ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فمعاقبكم على الكفران، ومثيبكم على الإيمان.
وقد ذهب قوم - غفر الله تعالى لهم - إلى أن الله تعالى خلق هذا كافراً، وخلق هذا مؤمناً؛ وبذلك يكون - أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين - قد ألزم الكافر بالكفر، وألزم المؤمن بالإيمان؛ وهذا المعنى - رغم فساده وإفساده - فإنه يتنافى مع قول العزيز الجليل ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فأذع - أيها المؤمن اللبيب - فساد هذا المعنى، وقبحه، وتمسك بما نقول: تحظ بالقبول وتذكر قول الحميد المجيد ﴿وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
قال عليبن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: «أتظن أن الذي نهاك دهاك؟ إنما دهاك أسفلك وأعلاك؛ وربك بريء من ذاك وإذا كانت المعصية حتماً؛ فالعقوبة عليها ظلماً»
﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ لا يستطيع إنسان - بالغاً ما بلغ من الكفر والعناد - أن يرى في تصوير الآدمي نقصاً أو اعوجاجاً؛ وإن الإنسان لو تأمل في يده - مثلاً - ورأى أنها كيف تنقسم إلى خمسة أصابع، وكيف أن كل أصبع من هذه الأصابع ينقسم إلى عدة مفاصل: لما وسعه إلا أن يقول: تبارك الله أحسن الخالقين وأين اليد وحسنها؛ من الوجه ودقة تصويره، وبديع تنسيقه؟ حقاً إن دقة هذا الصنع، وإحكام هذا الوضع؛ ليشهدان لمبدعهما بالقدرة والوحدانية والربوبية.
فنعم الخالق، ونعم المصور ﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ المرجع؛ فيثيب الطائع، ويعذب العاصي
﴿وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ بما في القلوب
﴿فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ الوبال: الهلاك. أي ذاقوا الهلاك؛ الذي هو عاقبة بغيهم، وعقوبة كفرهم
﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالمعجزات الواضحات، والآيات الظاهرات ﴿فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾ يا للعجب؛ ينكرون رسالة البشر، ويؤمنون بربوبية الحجر ﴿فَكَفَرُواْ﴾ بالمعجزات والآيات ﴿وَتَوَلَّواْ﴾ انصرفوا عن الإيمان ﴿وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ﴾ عنهم وعن إيمانهم ﴿وَاللَّهُ غَنِيٌّ﴾ عن سائر المخلوقات ﴿حَمِيدٌ﴾ محمود في كل أفعاله
﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ﴾ يعادوا للحساب والجزاء يوم القيامة أي تجزون عليه: إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر
﴿وَالنّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا﴾ هو القرآن الكريم؛ وهذا الاسم من أجلِّ أسمائه؛ إذ أن النور: يستضاء به في الظلمات، والقرآن الكريم: ينير القلوب، ويمحو الشبهات، ويهدي إلى الجنات
﴿ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ أي يوم غبن الكافر، وضعفه، وخسارته، وحسرته. أو هو يوم التناسي: أي نسيان الكافر من الرحمة والنعمة. والتغابن
-[٦٩١]- يطلق على التناسي، والخسران، والضعف. وأصل الغبن: النقص في الثمن، أو رداءة المبيع في البيع. ولما كان الكافر لا يجزى عن أعماله الصالحة التي عملها في الدنيا ﴿وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً﴾ كان مثله كمثل المغبون ﴿يُكَفِّرْ﴾ يمح
﴿مَآ أَصَابَ﴾ الإنسان ﴿مِن مُّصِيبَةٍ﴾ في المال أو النفس ﴿إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ بإرادته وتقديره (انظر آية ١٥٦ من سورة البقرة) ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ جزاء على إيمانه.
وهكذا ربك يجزي دائماً الإحسان بالإحسان: يزيد من آمن إيماناً، ومن اهتدى هداية ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى﴾ أما من ضل وغوى؛ فإنه تعالى يزيده، ضلالاً على ضلاله، وخبالاً على خباله: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً﴾
﴿فَإِن تَولَّيْتُمْ﴾ أعرضتم عن الإيمان والطاعة
﴿اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ لا إله يعبد سواه ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ قرن تعالى التوكل عليه بكلمة التوحيد: لأن الإيمان بغير توكل لا أثر له؛ إذ أن كلمة التوحيد: إيمان باللسان، والتوكل: إيمان بالقلب، ووثوق بوجوده تعالى وقدرته (انظر آية ٨١ من سورة النساء)
﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ﴾ وهو ما يبدو كثيراً من نشوز بعض الأزواج وجهلهن، وعقوق بعض الأولاد وطيشهم ﴿فَاحْذَرُوهُمْ﴾ أي فاحذروا عداوتهم. والحذر: الاحتراز، والاستعداد، والتأهب. والاحتراز من الأعداء: دفعهم، والتأهب للقائهم وقتالهم. أما الحذر والاحتراز من الأحباء: فهو إزالة أسباب العداء. كيف لا؛ والزوج: قد أوصى بها الرب، وهي الصاحب بالجنب. وقد أمرنا ببسط المودة لها، والرحمة بها أما الأولاد: فهم فلذات الأكباد؛ وزينة الحياة الدنيا وقد أمرنا إلهنا، وهدانا إلى دفع أعدائنا بالإحسان: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ فمن باب أولى يكون دفع الأزواج والأبناء؛ وهم من خير الأحباء فوجب ألا يكون دفع عداوتهم، والحذر منهم: إلا بالإحسان إليهم، ومزيد برهم والعطف عليهم؛ فينقلب بغضهم محبة، وعداوتهم مودة يدل على ذلك قول الحكيم العليم ﴿وَإِن تَعْفُواْ﴾ عنهم ﴿وَتَصْفَحُواْ﴾ عن عداوتهم ﴿وَتَغْفِرُواْ﴾ ذنوبهم ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لكم ولهم ﴿رَّحِيمٌ﴾ بكم وبهم
هذا وقد سار جل الناس، وأغلب المفسرين على وتيرة واحدة في فهم هذه الآية بأوسع معاني العداء: حتى لقد زعم بعض المفسرين أن «من» بيانية، لا تبعيضية؛ فتبلبلت الخواطر، وحل الإزعاج مكان الطمأنينة؛ ونظر كل والد إلى أولاده بعين الارتياب، وكل زوج إلى زوجته بعين التوجس والاحتياط ألم يقل الله تعالى: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾ ألم نر بعض شرار الأبناء يقتلون
691
آباءهم، وبعض الفاجرات يكدن لأزواجهن؛ بما يصل إلى حد الإيقاع بهم ظلماً، أو دس السم في طعامهم؟ ألم يناد نوح ابنه للنجاة؛ فأبى إلا اتباع الطغاة؟ وامرأة نوح، وامرأة لوط؛ ألم تكونا من أعداء زوجيهما وأعداء الله؟
كل هذا ساعد على فهم هذه الآية ذلك الفهم الخاطىء؛ الذي لا يحتمله كتاب الله تعالى ولا يرتضيه سبحانه لمعاني كلامه المجيد فقد أنزل تعالى كتابه لتهدأ النفوس لا لتنزعج، ولتطمئن القلوب لا لترتاع والشر كما يأتي من شرار الأبناء: فقد يأتي من شرار الآباء وكما يأتي من شرار الزوجات: فإنه قد يأتي من شرار الأمهات
ولكنا لو تفهمنا هذه الآية بالعقل السليم، وعلى ضوء المنطق المستقيم، وعلى هدى الكتاب الكريم: لوجدنا أنها بعيدة كل البعد عن هذا الفهم، وهذا الزعم. وكيف يثير الحكيم العليم العداوة بين الآباء والأبناء، والأزواج والزوجات؛ ويفرض وجود العداوة بينهم فرضاً لا مرية فيه، ووجوب الحيطة والحذر منهم؛ وهو جل شأنه القائل ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ فالأساس السكن والتراحم، لا العداء والبغضاء وقد بان لنا من ذلك أن العداء المشار إليه في الآية ليس بالعداء الحقيقي الذي يكون بين الألداء يقول الله تعالى وهو أصدق القائلين ﴿لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ﴾ فالذي يلهي عن ذكر الله تعالى هو العدو المبين؛ الواجب الحيطة، المستوجب الحذر فهل معنى ذلك أن الأبناء من الأعداء المستوجبين للحيطة والحذر؟ ويقول جل شأنه أيضاً: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ﴾ والمزين هو الشيطان الواجب مخالفته، المفروض محاربته؛ فهل معنى ذلك أن قربان الزوجة إثم؛ لأنه من الشهوات؟ وحب البنين جرم؛ لأنه مما زينه الشيطان؟
وإنما أراد الله تعالى بهذه الآية الشريفة: أن من الأولاد والأزواج من يفعل بكم ما يفعله الأعداء: من تعويقكم عن الذكر والطاعات أليس الولد مجبنة مبخلة كما يقولون؟ وأي جرم أشد من الجبن، وأي إثم أحط من البخل؟
وقد أريد بهذه الآية الكريمة: الاحتياط من الانشغال عن الطاعات بالملذات، والحذر من الاشتغال بحب الأولاد عن حب الله تعالى والحرص على العبادات وأي عدو أعدى من المخلوق الذي يشغل عن الخالق، والمرزوق الذي يصرف عن الرازق؟
692
وكن وسطاً في حبك، وسطاً في ميلك هداك الله تعالى إلى صراطه المستقيم
ومن قبل زعم المفسرون أن سليمان - وهو من خيرة الأنبياء - قتل بضعة آلاف من الخيل لأنها عطلته عن صلاة العصر؛ عند قوله تعالى: ﴿فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ﴾ وهي فرية على سليمان عليه السلام افتراها اليهود الأفاكون الملاعين
وهذا لا يمنع من وقوع بعض الهنات، من الأبناء والزوجات؛ وهو الذي أشار إليه المولى جل وعلا بقوله: ﴿وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
وقد أشار المولى الكريم إلى المعنى الذي أشرنا إليه آنفاً وعضدناه بشتى الحجج والآيات بقوله عز وجل:
693
﴿إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ أي بلاء ومحنة؛ يوقعونكم في الإثم من حيث لا تشعرون
﴿فَاتَّقُواْ اللَّهَ﴾ خافوه، واعملوا بأوامره ﴿وَاسْمَعُواْ﴾ نصح القرآن ﴿وَأَطِيعُواْ﴾ داعي الرحمن ﴿وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ﴾ وأي خير ينال الإنسان: أسمى من الإحسان؟ وأي خير يحتسبه المؤمن عند ربه: أفضل من الإنفاق؟ فأنفق أيها المؤمن - جهد طاقتك، ووسع مالك - فذلك خير لك في دنياك، وسعادة دائمة لك في أخراك ﴿وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾ الشح: اللؤم، وأن تكون النفس كزة حريصة على المنع. أما البخل: فهو المنع نفسه. والمراد هنا: بخل النفس بالزكاة والصدقة، بدليل قوله تعالى:
﴿إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً﴾ عبر تعالى عن المتصدق بالمقرض؛ وذلك إثباتاً لحقه في الوفاء له بالأجر. وجعل تعالى نفسه مقترضاً: ليطمئن المقرض إلى رد ما بذله إليه. لأنه كلما كان الملتزم مليئاً: كان الوفاء محققاً؛ فما بالك والمقترض ملك الملوك، وأغنى الأغنياء؛ وقد وعد بالوفاء وفوق الوفاء؛ فقال تعالى: ﴿يُضَاعِفْهُ لَكُمْ﴾ وينميه ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ ذنوبكم؛ زيادة على مضاعفة أجوركم ومن ذلك نعلم أن الصدقة: ترضي الرب، وتمحو الذنب ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ ﴿وَاللَّهُ شَكُورٌ﴾ كثير المجازاة على الطاعات ﴿حَلِيمٌ﴾ يعفو عن السيئات
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ ما خفي، وما ظهر؛ وهو ﴿الْعَزِيزُ﴾ في ملكه: يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء ﴿الْحَكِيمُ﴾ في صنعه
693
سورة الطلاق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

693
Icon