ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
١ - ﴿يُسَبِّحُ﴾ هذه الآية قد تقدم تفسيرها (١).٢ - قوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ قال الوالبي عن ابن عباس: إن الله خلق بني آدم مؤمنًا وكافرًا، ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم (٢) مؤمنًا وكافرا (٣)، وقال عطية عنه: يريد فمنكم مصدق ومنكم جاحد (٤).
وقال أبو إسحاق: خلقكم في بطون أمهاتكم كفارًا ومؤمنين (٥).
وجاء في التفسير أن يحيى بن زكريا خلق في بطن أمه مؤمنًا، وخلق فرعون في بطن أمه كافرًا (٦). ودليل صحة هذا قوله: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى
(٢) في (ك): (خلقكم).
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٣/ ١٣٣ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٥٢، و"زاد المسير" ٨/ ٢٧٩، وقال (والأحاديث تعضد هذا القول..).
(٤) "التفسير الكبير" ٣٠/ ٢١، ونسبه لعطية.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٧٩.
(٦) قال -صلى الله عليه وسلم-: "خلق الله يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنًا، وخلق فرعون بطن أمه كافرًا". انظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (١٨٣١)، و"صحيح الجامع" ٣/ ١١٣.
وروى أبو سعيد الخدري خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشية فذكر شيئًا مما يكون، ثم قال في خطبته: "يُولد الناسُ على أطباقٍ شتى، يولد الرجل مؤمنًا ويعيش مؤمنًا ويموت مؤمنًا، ويولد الرجل كافرًا ويعيش كافرًا ويموت كافرًا، ويولد الرجل مؤمنًا ويعيش مؤمنًا ويموت كافرا، ويولد الرجل كافرًا ويعيش كافرًا ويموت مؤمنا" (١).
٥ - قوله: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ﴾ يخاطب أهل مكة ﴿نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ يعني الأمم الكافرة.
٦ - قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْنَى اللَّهُ﴾ أي عن إيمانهم وعبادتهم.
٩ - قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ﴾ قال الزجاج: ﴿يَوْمُ﴾ منصوب بقوله: ﴿لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ﴾ (٢).
قوله: ﴿لِيَوْمِ الْجَمْعِ﴾ قال ابن عباس، ومقاتل: يريد يوم القيامة يجمع فيه أهل السموات وأهل الأرض (٣).
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ التغابن تفاعل من الغبن، والغبن في الشراء والبيع، يقال: غبنه يغبنه إذا أخذ الشيء عنه بدون قيمته (٤).
قال ابن عباس: إن قومًا في النار يعذبون وقومًا في الجنة يتنعمون (٥)
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٨٠.
(٣) "تفسير مقاتل" ١٥٧ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٥٣، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ٢٤.
(٤) "تهذيب اللغة" ١/ ١٤٨ (غبن)، و"مفردات الراغب" (غبن).
(٥) "التفسير الكبير" ٣٠/ ٢٤.
قال: ويرى الكافر مقعده وأزواجه من الجنة لو آمن ليزداد حسرة، وإذا لم يؤمن ويرثه المؤمنون، فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة (٣). وحقيقة المعنى أنا قد ذكرنا أن أهل الغبن والتغابن في البيع والشراء، وقد ذكر الله تعالى أن الكافرين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة (٤)، واشتروا الضلالة بالهدى، ثم ذكر أنهم ما ربحوا في هذه التجارة، فقال ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ (٥) ودل المؤمنين على تجارة رابحة بقوله: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ﴾
(٢) وروى نحوه عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٧٩، و"جامع البيان" ٢٨/ ٧٩، و "زاد المسير" ٨/ ٢٨٢.
(٣) ويشهد لهذا المعنى الحديث الصحيح عن أبي هريرة، قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل أحد الجنة إلا أُري مقعده من النار لو أساء، ليزداد شكرًا، ولا يدخل النار أحد إلا أُري مقعده من الجنة لو أحسن لبكون عليه حسرة" "صحيح البخاري"، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار ٨/ ١٤٦.
قال ابن حجر: ووقع عند ابن ماجه أيضًا، وأحمد بسند صحيح عن أبي هريرة بلفظ "ما منكم من أحد إلا وله منزلان، منزل في الجنة، ومنزل في النار. فإذا مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله" وذلك قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ﴾ "فتح الباري" ١١/ ٤٤٢.
(٤) وذلك في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ سورة البقرة، آية: ٨٦.
(٥) قال تعالى ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين﴾ [سورة البقرة، آية: ١٦].
١١ - قوله: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾. قال ابن عباس: بعلمه وقضائه (٢).
﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ قال مقاتل: يهد قلبه عند المصيبة فيعلم أنها من الله فيسلم لقضاء الله ويستريح، فذلك قوله: ﴿يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ أي للتسليم والاسترجاع عند المصيبة، وذلك معنى قوله: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ﴾ إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (٣) قال أهل المعاني: يهد قلبه للشكر عند الرخاء والصبر عند النبلاء (٤).
١٤ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ﴾ قال عكرمة: سأل رجل عن هذه الآية ابن عباس فقال: هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا المدينة فلم يدعهم أزواجهم وأولادهم، فهو
(٢) "تنوير المقباس" ٦/ ٨٥، و"زاد المسير" ٨/ ٢٨٣، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٧٥.
(٣) سورة البقرة: ١٥٦ - ١٥٧، وانظر: "تفسير مقاتل" ١٥٧ ب.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٦١، و"الكشف والبيان" ١٣/ ١٣٦ أ، ذكرها عن أبي بكر الوراق، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٧٥، وقد استشهد لهذا القول بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم -: "عجبًا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له.. " الحديث.
﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا﴾ قال: إن الرجل من هؤلاء إذا هاجر ورأى الناس قد سبقوه بالهجرة وفقهوا في الدين هم أن يعاقب زوجه وولده الذين ثبطوه عن الهجرة، وإن لحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم، ولم يصبهم بخير، فأنزل الله ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (١).
قال قتادة: قوله: ﴿إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ﴾ قال: ينهون عن الإسلام ويبطئون عنه وهم من الكفار (٢).
﴿فَاحْذَرُوهُمْ﴾ فظهر أن هذه العداوة إنما هي للكفر والنهي عن الإيمان، وهذا لا يكون بين المؤمنين فأزواجهم (٣) وأولادهم المؤمنون لا يكونون عدوا لكم.
١٥ - وفي هؤلاء الأولاد والأزواج الذين ثبطوا عن الهجرة نزل قوله: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ قال ابن عباس: أي لا تطيعوهم في معصية الله (٤).
قال مقاتل: ﴿فِتنَة﴾ أي بلاء وشغل عن الآخرة (٥).
وقال أبو إسحاق: أعلم الله أن الأموال والأولاد مما يفتنون به. (٦)
(٢) "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٩٥، و"جامع البيان" ٢٨/ ٨١.
(٣) في (ك): (وأزواجهم، ولا يكونون، في هؤلاء)، والتصويب من "التفسير الكبير"، وبه تستقيم العبارة.
(٤) "التفسير الكبير" ٣٠/ ٢٧.
(٥) "تفسير مقاتل" ١٥٨ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٥٤.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج، ٥/ ٢٨٢.
وروى المسعودي عن القاسم قال: لا يقولن أحدكم: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، فإنه ليس منكم أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن (٢).
قوله: ﴿وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ قال ابن عباس: ثواب جزيل وهو الجنة (٣). والمعنى لا تعصوه بسبب أولادكم ولا تؤثرونهم على ما عند الله من الأجر العظيم.
١٦ - قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ قال مقاتل: ما أطقتم (٤).
وقال ابن حيان: هو أن يجتهد المؤمن في تقوى الله ما استطاع (٥).
(٢) ذكره الثعلبي، والبغوي من كلام عبد الله بن مسعود. "الكشف والبيان" ١٣/ ١٣٧ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٥٤.
(٣) "زاد المسير" ٨/ ٢٨٥.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٥٨ أ.
(٥) "التفسير الكبير" ٣٠/ ٢٧، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٧٧، ولم ينسباه لقائل.
قوله: ﴿وَاسْمَعُوا﴾ أي لله ولرسوله ولكتابه ﴿وَأَطِيعُوا﴾ الله فيما يأمركم ﴿وَأَنْفِقُوا﴾ من أموالكم في حق الله ﴿خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ منصوب بما دل عليه ﴿وَأَنْفِقُوا﴾ كانه قيل: وقدموا خيرًا لأنفسكم وهو كقوله: ﴿فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ (٢) وقد مر ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾ حتى يعطي حق الله.
قوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ وقد مر هذا في سورة الحشر (٣) وباقي السورة مفسر فيما سبق.
والله تعالى أعلم.
(٢) من آية (١٧٠) من سورة النساء وانظر: "الكتاب" ١/ ١٤٣، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٤٤٨، و"مشكل إعراب القرآن" ٢/ ٧٣٨.
(٣) آية رقم (٩) من سورة الحشر.