ﰡ
تقدم الكلام على معنى التسبيح، وإن كل شيء في الوجود يسبح لله، وله الحمد على جميع ما يخلق ويقدّر لأنه مصدرُ الخيرات، ومفيض البركات.
﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
له قدرة مطلقة لا تتقيّد بقيد.
﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ....﴾
هو الذي خلقكم أيها الناس، فمنكم من كفر وجحد الألوهية، ومنكم المؤمن المصدّق، وفي الحديث الصحيح: «كلّ مولودٍ يولَد على الفطرة، فأبواه يهوّدانِه او ينصّرانه او يمجّسانه».
﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾
فهو رقيب على المخلوقات فيما تعمل، فيجازيهم على اعمالهم.
ثم ذكر النعمة الشاملة بخلق العالم كله على أتمّ ما يكون من الحكمة والعدل فقال:
﴿خَلَقَ السماوات والأرض بالحق وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ المصير﴾.
خلق هذا الكونَ بالحكمة البالغة، وصوّر بني الانسان في أحسنِ تقويم، واليه المرجعُ يومَ القيامة فينبئكم بأعمالكم، ويذهبُ كل إنسانٍ الى مصيره المحتوم.
ان عِلمه محيطٌ بهذا الكون العجيب لا تخفى عليه خافية، وإن علمه لَيخترقُ الأنفس فيعلم ما في نفوسكم مما تُسرون وتعلنون، ﴿والله عَلِيمُ بِذَاتِ الصدور﴾ فلا تخفى عليه خافية.
الم تبلُغكم أيها الجاحدون اخبارُ الأمم السابقة من قبلِكم كقومِ نوحٍ وهود وصالح ولوط وغيرهم من الأمم التي أصرّت على الكفر والعناد، كيف حلَّ بهم أشدُّ العقاب والدمار، ولهم في الآخرة عذابٌ أشدُّ واعظم!؟
لقد اصابهم ما أصابهم من العذاب لأنهم كانت تأتيهم الرسلُ بالمعجزات الظاهرة فأنكروا ذلك أشدَّ الانكار وقالوا ﴿أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا؟﴾ يرشدوننا وهم مثلُنا!! فانكروا بعثهم ﴿وَتَوَلَّواْ واستغنى الله﴾ عنهم، ﴿والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ فهو غنيٌّ عن الخلق أجمعين، وهو الحقيق بالحمد على ما انعم به على عباده من النعم التي لا تُعدّ ولا تحصى.
﴿زَعَمَ الذين كفروا...﴾
في الآيات السابقة ذكر اللهُ إنكار المشركين للألوهية، ثم إنكارهم للنبوة، وبيّن ما لقيَه المنكرون وما سيلقون. وهنا يبين إنكارهم للبعث والجزاء، فقل لهم يا محمد: ليس الأمر كما زعمتم، إني أُقسم بربي لتُبعَثُنَّ بعد الموت، ولَتُجزَوْنَ بما عملتم في الدنيا وتحاسَبون عليه، ﴿وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ﴾، فهو كما خَلَقَكم سيُعيدكم.
ثم بعد ان بيّن لهم الحقائق طالبَهم بالإيمان، وذلك لمصلحتهم ولخيرهم فقال:
﴿فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والنور الذي أَنزَلْنَا﴾ ما دام البعثُ حقا، فصدَّقوا ايها الناس بهذا الإله العظيم وبرسوله الكريم، وبهذا القرآن الذي هو نور أضاءَ الكونَ بهدْيه، واخرجَ العالَمَ من الظلمات الى النور، ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ فلا تخفى عليه اعمالكم.
ثم أنذر بأنه تعالى يجمعهم يومَ القيامة، يوم يظهر ربح الرابحين وخسران المبطلين فقال:
﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع ذَلِكَ يَوْمُ التغابن﴾
في ذلك اليوم يُغبن الكافرون ويربح المؤمنون، وما أعظمه من ربح!! انه لا غبنَ أعظم من ان قوما ينعمون، وقوما يعذَّبون، ذلك هو الخسران المبين. ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يُذهب عنه سيئاته ﴿وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الفوز العظيم﴾ ذلك هو الفوز الذي لا فوز بعده، ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَاز﴾ [آل عمران: ١٨٥].
ثم بين الله تعالى الجانبَ المقابل وهم أهلُ النار فقال:
﴿والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ النار خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ المصير﴾.
فهؤلاء جزاؤهم النارُ لكفرهم وتكذيبهم الرسلَ وإنكارهم المعجزات، وبئس النارُ مصيراً لهم.
وبعد ان بين مصير الناس وأنهم قسمان: كافر بالله مكذِّب لرسله ومصيرُهُمْ النار، ومؤمن بالله ومصدّق لرسله ويعمل الصالحات فهو من اهل الجنة - بيّن هنا أمراً عظيما بقوله:
﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله..﴾.
ان ما يصيب الانسان من خير او شر إنما يكون بقضاء الله وقدَره بحسب النُظم التي وضعها للكون. فعلى الانسان ان يجدَّ ويعمل، ثم لا يبالي بعد ذلك بما يأتي به القضاء. على المرء ان يبذل جهده ويسعى في جلب الخير ودفع الضُرّ ما استطاع الى ذلك سبيلا، وان يتوكل على الله ويؤمن به خالص الايمان.
ثم يا ايها المؤمنون أطيعوا الله فيما كلّفكم به، وأطيعوا الرسول فيما بلّغ عن ربه، فإن أعرضتم فلن يضرّه إعراضكم ﴿فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين﴾. وقد تقدم مثل هذه الآية اكثر من مرة.
ثم يبين الله تعالى تفرُّدَه بالمُلك والخلق والقدرة، وأن علينا ان نتوكل عليه
﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾.
توكلنا على الله وهو حسبُنا ونعم الوكيل.
قراءات:
قرأ يعقوب: يوم نجمعكم بالنون، والباقون: يجمعكم بالياء.
بعد ان أمر الله تعالى المؤمنين بطاعة الله والرسول الكريم، وان يتوكلوا عليه، ولا يعتمدوا غير ذلك - جاء هنا في هذه الآيات الكريمة يهذّبهم ويعلّمهم بألطف توجيه، أنَّ الأولادَ والزوجات فتنة للانسان اذا ما شُغل بهم وانصرف يجمع المالَ لهم ويكدّسه، لا همّ له الا النفقة عليهم - باتَ مثل الحيوان في الغاب، فان الأسد يفترسُ حتى يطعم عياله، وكذلك بقية الحيوانات.
فالله تعالى يهذّبنا ويعلّمنا بأنّ علينا ان نُعِين المحتاجين، ونعمل الخيرَ ونساعدَ في أعمال البرّ وبناء مجتمعنا، فلا نعيش لأنفسنا فقط.
﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم﴾
فارعوهم حق الرعاية، وأدِّبوهم أحسنَ تأديب، واحذروا ان يخرج بعضهم عن الطاعة، وتلطّفوا معهم. ولذلك قال:
﴿وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
ما أرحمه وما اعظمه! كيف يعلّمنا ويهذبنا، بان نكون هيّنين ليّنين مع أولادنا وأزواجنا وبذلك تتم السعادة.
وان كثيراً من الناس يكونون في البيت مصدَر شرٍّ وإزعاج لزوجاتهم وأولادهم، وفي خارج البيت من ألطفِ الناس وأرحَبِهم صدراً، هؤلاء شرٌّ من الحيوانات.
ثم كرر الله تعالى التحذير فقال:
﴿إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ﴾
فاحذروهم ولا تُلهينَّكم اموالُكم وأولادكم عن عمل الخير، والسعي في سبيل الله. إن كثيراً من أصحاب الأموال ساهون لاهون عن عمل الخيرِ، كلُّ هَمِّهم أنفسُهم وأولادُهم وزوجاتهم.
وفي الحديث الصحيح: «ان لكل أمةٍ فتنةً، وفتنةُ أمتي المال» رواه احمد والترمذي وغيرهما عن كعب بن عياض. وهذا ما يجري اليوم، وقد فتح الله على الأمة العربية ابواب الخيرات وجاءهم المالُ بدون حساب، ونراهم يبذّرونه على أنفسِهم ومُتَعِهم ولا ينفقون منه في سبيل الله والدفاع عن أوطانهم والاستعداد لعدوهم الذي يهدّد كيانهم، بل يكدّسون المال عند الاعداء، ولا ينتفع منه الا العدو، هدام الله.
﴿والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾
لمن آثَرَ محبَّته على محبةِ المال والأولاد، ونفعَ به المحتاجين، وأنفق منه في سبيل الله والوطن.
ثم يعلّمنا وينبّهنا الى ان نستيقظ ونعمل بقدر ما نستطيع فيقول:
﴿فاتقوا الله مَا استطعتم واسمعوا وَأَطِيعُواْ﴾
فالتقوى تكون بالعمل الصالح المفيد، والانقياد لأمر الله والرسول. اهتدوا بهدي الاسلام ايها المؤمنون، وجُودوا بالمال قبل ان تذهبوا ولا تأخذوا منه شيئا، ويبقى للورثة يختصمون فيه.
﴿وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ﴾
هنا يكرر الأمر بالانفاق من الاموال، لأنكم ايها المؤمنون ستندمون اذا ذهبتُم وتركتم وراءكم الأموال مكدَّسة، لم تنفعوا بها الفقراء والمحتاجين، ولم تبذلوا منها للمصلحة العامة والجهاد في سبيل الله.
﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون﴾.
والسعيدُ منكم أيها الناس هو الذي يتغلب على نفسه ويتقي بُخْلَها الشديد، فينفق في سبيل الله، وفي سبيل وطنه وأمته، فيكون من المفلحين في الدنيا والآخرة.
ايها الناس، ان الاغنياء في الغرب يُنفقون معظم ثرواتهم على عمل الخير، على البحث العلمي الذي هو مفقود عندنا، وعلى المستشفيات والجامعات والمصالح الخيرية. والاغنياء عندننا ينفقون على أنفسِهم ويبذّرون اموالهم في الأعراس والحفلات التي تُغضب الله، وعلى ملذاتهم وشهواتهم ومقامراتهم ومغامراتهم مما لا يجدي نفعا. ﴿إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين﴾ [الإسراء: ٢٧].
ثم تلطف جلّ جلاله وبالغ في الحث على الانفاق بقوله تعالى:
﴿إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾.
هل يوجد أجملُ من هذا الاسلوب! والله تعالى هو الغني، له كل ما في السموات والارض، ولكنه يطلب ان نجود بالمال على الفقراء والمحتاجين، في بناء مجتمعنا وفي سبيل الله حتى سمى ذلك قَرضا.. وهو الغنيّ عن العالمين. والله يضاعف للمنفق الحسنةَ بعشرة أمثالها الى سبعمائة ضعف، ويغفر لكم ما فَرَطَ من ذنوبكم، والله عظيم الشكر والمكافأة للمحسنين، حليمٌ فلا يعجّل بالعقوبة على المذنبين.
﴿عَالِمُ الغيب والشهادة العزيز الحكيم﴾
ختم هذه السورة الكريمة بأحسنِ ختام وألطفِ تعبير، وهو ذو العزة والقدرة يضع كل شيء في موضعه، ويصرّف كل شيء بأمره وحكمته وتدبيره.