وقد افتتحت بالتسبيح كما افتتح قبلها عدد من السور المدنية، حتى ظن بعض العلماء والمفسرين أنها مكية، لأنها تعالج أصول العقيدة الإسلامية. وهذا ليس بصواب، فما المانع أن تتناول السورة موضوع الإنسان المعترف بربه، والإنسان الكافر الجاحد بآلاء الله، وأن تضرب الأمثال بالقرون الخالية، والأمم التي كذبت رسل الله، وما حل بهم من العذاب والدمار نتيجة لكفرهم وضلالهم ! ثم بينت أن البعث حق لا بد منه، سواء أقر به الجاحدون أم أنكروه :﴿ زعم الذين كفروا أن لن يُبعثوا، قل بلى وربي لتبعثنّ ثم لتنبّؤنّ بما عملتم، وذلك على الله يسير ﴾. ثم تؤكد أنهم سيردون إلى الله ﴿ يوم يجمعكم ليوم الجمع، ذلك يوم التغابن ﴾ وبذلك سميت " سورة التغابن ". ويوم التغابن هو حيث يقع الغبن على الكافرين الذين فرطوا في الحياة الدنيا. وتتحد هذه السورة والتي قبلها في أمر الصبر.
فسورة " المنافقون " فيها صَبَر النبي صلى الله عليه وسلم على نفاق من حوله.. فليعتبر الناس وتكون ذكرى للعلماء أو الحكام أنهم إذا رأوا منافقين من إخوانهم وتلاميذهم ومن يخالطونهم فلا يثبّط ذلك هممهم عن العمل والجد في خدمة المجتمع.
وسورة التغابن هذه ذُكر فيها أن من الأزواج والأولاد أعداء، فيكون المخلص من هذا كله لا يبتئس الإنسان مما يقاسي من الأصحاب وغيرهم، بل عليه أن يصبر، والله تعالى حضّ على الصبر في كثير من آيات القرآن الكريم، وبغير صبر لا علم ولا عمل.
كذلك وطلبت السورة من الناس أن يطيعوا الله ورسوله، فإن أعرضوا فإن الرسول ليس عليه إلا البلاغ.. وختمت السورة بحضّ المؤمنين على الإنفاق في سبيل الخير ﴿ ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون ﴾، ﴿ والله شكور حليم ﴾، ﴿ عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم ﴾.
ﰡ
﴿ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
له قدرة مطلقة لا تتقيّد بقيد.
﴿ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾
فهو رقيب على المخلوقات فيما تعمل، فيجازيهم على أعمالهم.
﴿ خَلَقَ السماوات والأرض بالحق وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ المصير ﴾.
خلق هذا الكونَ بالحكمة البالغة، وصوّر بني الإنسان في أحسنِ تقويم، وإليه المرجعُ يومَ القيامة فينبئكم بأعمالكم، ويذهبُ كل إنسانٍ إلى مصيره المحتوم.
إن عِلمه محيطٌ بهذا الكون العجيب لا تخفى عليه خافية، وإن علمه لَيخترقُ الأنفس فيعلم ما في نفوسكم مما تُسرون وتعلنون، ﴿ والله عَلِيمُ بِذَاتِ الصدور ﴾
فلا تخفى عليه خافية.
وبالَ أمرِهم : عاقبة أعمالهم السيئة، وأصلُ الوبال : الثقل والشدة، والوابل : المطر الشديد، والطعام الوبيل : الطعام الثقيل على المعدة.
ألم تبلُغكم أيها الجاحدون أخبارُ الأمم السابقة من قبلِكم كقومِ نوحٍ وهود وصالح ولوط وغيرهم من الأمم التي أصرّت على الكفر والعناد، كيف حلَّ بهم أشدُّ العقاب والدمار، ولهم في الآخرة عذابٌ أشدُّ وأعظم ! ؟
لقد أصابهم ما أصابهم من العذاب لأنهم كانت تأتيهم الرسلُ بالمعجزات الظاهرة فأنكروا ذلك أشدَّ الإنكار وقالوا ﴿ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ؟ ﴾ يرشدوننا وهم مثلُنا ! ! فأنكروا بعثهم ﴿ وَتَوَلَّواْ واستغنى الله ﴾ عنهم، ﴿ والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ فهو غنيٌّ عن الخلق أجمعين، وهو الحقيق بالحمد على ما أنعم به على عباده من النعم التي لا تُعدّ ولا تحصى.
في الآيات السابقة ذكر اللهُ إنكار المشركين للألوهية، ثم إنكارهم للنبوة، وبيّن ما لقيَه المنكرون وما سيلقون. وهنا يبين إنكارهم للبعث والجزاء، فقل لهم يا محمد : ليس الأمر كما زعمتم، إني أُقسم بربي لتُبعَثُنَّ بعد الموت، ولَتُجزَوْنَ بما عملتم في الدنيا وتحاسَبون عليه، ﴿ وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ ﴾، فهو كما خَلَقَكم سيُعيدكم.
ثم بعد أن بيّن لهم الحقائق طالبَهم بالإيمان، وذلك لمصلحتهم ولخيرهم فقال :
﴿ فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والنور الذي أَنزَلْنَا ﴾ ما دام البعثُ حقا، فصدَّقوا أيها الناس بهذا الإله العظيم وبرسوله الكريم، وبهذا القرآن الذي هو نور أضاءَ الكونَ بهدْيه، وأخرجَ العالَمَ من الظلمات إلى النور، ﴿ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ فلا تخفى عليه أعمالكم.
يوم التغابن : هو يوم القيامة، وسُمي بذلك لأن أهلَ الجنة تغبن فيه أهل النار بما يصير إليه أهل الجنة من النعيم وما يلقى أهل النار من العذاب في الجحيم. وأصل الغَبن : النقص، غبن فلان فلاناً في البيع : نقصه حقه. والخلاصة أنه في ذلك اليوم يظهر الربح والخسران، فيربح المؤمنون، ويخسر الجاحدون الكافرون.
ثم أنذر بأنه تعالى يجمعهم يومَ القيامة، يوم يظهر ربح الرابحين وخسران المبطلين فقال :
﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع ذَلِكَ يَوْمُ التغابن ﴾
في ذلك اليوم يُغبن الكافرون ويربح المؤمنون، وما أعظمه من ربح ! ! إنه لا غبنَ أعظم من أن قوما ينعمون، وقوما يعذَّبون، ذلك هو الخسران المبين. ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يُذهب عنه سيئاته ﴿ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الفوز العظيم ﴾ ذلك هو الفوز الذي لا فوز بعده، ﴿ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَاز ﴾ [ آل عمران : ١٨٥ ].
قراءات :
قرأ يعقوب : يوم نجمعكم بالنون، والباقون : يجمعكم بالياء.
﴿ والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ النار خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ المصير ﴾.
فهؤلاء جزاؤهم النارُ لكفرهم وتكذيبهم الرسلَ وإنكارهم المعجزات، وبئس النارُ مصيراً لهم.
﴿ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله.. ﴾.
إن ما يصيب الإنسان من خير أو شر إنما يكون بقضاء الله وقدَره بحسب النُظم التي وضعها للكون. فعلى الإنسان أن يجدَّ ويعمل، ثم لا يبالي بعد ذلك بما يأتي به القضاء. على المرء أن يبذل جهده ويسعى في جلب الخير ودفع الضُرّ ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وأن يتوكل على الله ويؤمن به خالص الإيمان.
﴿ وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ فالإيمان يضيء القلبَ ويشرح الصدر لخير العمل، وأيّ نعمةٍ أعظمُ من هذه النعمة ! !.
﴿ الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون ﴾.
توكلنا على الله وهو حسبُنا ونعم الوكيل.
فالله تعالى يهذّبنا ويعلّمنا بأنّ علينا أن نُعِين المحتاجين، ونعمل الخيرَ ونساعدَ في أعمال البرّ وبناء مجتمعنا، فلا نعيش لأنفسنا فقط.
﴿ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم ﴾
فارعوهم حق الرعاية، وأدِّبوهم أحسنَ تأديب، واحذروا أن يخرج بعضهم عن الطاعة، وتلطّفوا معهم. ولذلك قال :
﴿ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
ما أرحمه وما أعظمه ! كيف يعلّمنا ويهذبنا، بأن نكون هيّنين ليّنين مع أولادنا وأزواجنا وبذلك تتم السعادة.
وإن كثيراً من الناس يكونون في البيت مصدَر شرٍّ وإزعاج لزوجاتهم وأولادهم، وفي خارج البيت من ألطفِ الناس وأرحَبِهم صدراً، هؤلاء شرٌّ من الحيوانات.
ثم كرر الله تعالى التحذير فقال :
﴿ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾
فاحذروهم ولا تُلهينَّكم أموالُكم وأولادكم عن عمل الخير، والسعي في سبيل الله. إن كثيراً من أصحاب الأموال ساهون لاهون عن عمل الخيرِ، كلُّ هَمِّهم أنفسُهم وأولادُهم وزوجاتهم.
وفي الحديث الصحيح :« إن لكل أمةٍ فتنةً، وفتنةُ أمتي المال » رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن كعب بن عياض. وهذا ما يجري اليوم، وقد فتح الله على الأمة العربية أبواب الخيرات وجاءهم المالُ بدون حساب، ونراهم يبذّرونه على أنفسِهم ومُتَعِهم ولا ينفقون منه في سبيل الله والدفاع عن أوطانهم والاستعداد لعدوهم الذي يهدّد كيانهم، بل يكدّسون المال عند الأعداء، ولا ينتفع منه إلا العدو، هدام الله.
﴿ والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾
لمن آثَرَ محبَّته على محبةِ المال والأولاد، ونفعَ به المحتاجين، وأنفق منه في سبيل الله والوطن.
ثم يعلّمنا وينبّهنا إلى أن نستيقظ ونعمل بقدر ما نستطيع فيقول :
﴿ فاتقوا الله مَا استطعتم واسمعوا وَأَطِيعُواْ ﴾
فالتقوى تكون بالعمل الصالح المفيد، والانقياد لأمر الله والرسول. اهتدوا بهدي الإسلام أيها المؤمنون، وجُودوا بالمال قبل أن تذهبوا ولا تأخذوا منه شيئا، ويبقى للورثة يختصمون فيه.
﴿ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ ﴾
هنا يكرر الأمر بالإنفاق من الأموال، لأنكم أيها المؤمنون ستندمون إذا ذهبتُم وتركتم وراءكم الأموال مكدَّسة، لم تنفعوا بها الفقراء والمحتاجين، ولم تبذلوا منها للمصلحة العامة والجهاد في سبيل الله.
ثم زاد الحثّ على الإنفاق بأسلوب لطيف فقال :
﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون ﴾.
والسعيدُ منكم أيها الناس هو الذي يتغلب على نفسه ويتقي بُخْلَها الشديد، فينفق في سبيل الله، وفي سبيل وطنه وأمته، فيكون من المفلحين في الدنيا والآخرة.
أيها الناس، إن الأغنياء في الغرب يُنفقون معظم ثرواتهم على عمل الخير، على البحث العلمي الذي هو مفقود عندنا، وعلى المستشفيات والجامعات والمصالح الخيرية. والأغنياء عندنا ينفقون على أنفسِهم ويبذّرون أموالهم في الأعراس والحفلات التي تُغضب الله، وعلى ملذاتهم وشهواتهم ومقامراتهم ومغامراتهم مما لا يجدي نفعا. ﴿ إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين ﴾ [ الإسراء : ٢٧ ].
شكور : يثيب الشاكرين.
ثم تلطف جلّ جلاله وبالغ في الحث على الإنفاق بقوله تعالى :
﴿ إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله شَكُورٌ حَلِيمٌ ﴾.
هل يوجد أجملُ من هذا الأسلوب ! والله تعالى هو الغني، له كل ما في السموات والأرض، ولكنه يطلب أن نجود بالمال على الفقراء والمحتاجين، في بناء مجتمعنا وفي سبيل الله حتى سمى ذلك قَرضا.. وهو الغنيّ عن العالمين. والله يضاعف للمنفق الحسنةَ بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويغفر لكم ما فَرَطَ من ذنوبكم، والله عظيم الشكر والمكافأة للمحسنين، حليمٌ فلا يعجّل بالعقوبة على المذنبين.