تفسير سورة الماعون

الجامع لأحكام القرآن
تفسير سورة سورة الماعون من كتاب الجامع لأحكام القرآن .
لمؤلفه القرطبي . المتوفي سنة 671 هـ
وهي مكية، في قول عطاء وجابر وأحد قولي ابن عباس. ومدنية، في قول له آخر، وهو قول قتادة وغيره. وهي سبع آيات.

[تفسير سورة الماعون]

تفسير سورة" الماعون" وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ عَطَاءٍ وَجَابِرٍ وَأَحَدِ قولي ابن عباس. وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلٍ لَهُ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُ قتادة وغيره. وهي سبع آيات. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الماعون (١٠٧): الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) أَيْ بِالْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْفَاتِحَةِ". وأَ رَأَيْتَ بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ، إِذْ لَا يُقَالُ «١» فِي أَرَأَيْتَ: رَيْتَ، وَلَكِنَّ أَلِفَ الِاسْتِفْهَامِ سَهَّلَتِ الْهَمْزَةَ أَلِفًا، ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالْمَعْنَى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ: أَمُصِيبٌ هُوَ أَمْ مُخْطِئٌ. وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ نَزَلَ هَذَا فِيهِ، فَذَكَرَ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَقَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي الوليد ابن الْمُغِيرَةِ. وَقِيلَ فِي أَبِي جَهْلٍ. الضَّحَّاكُ: فِي عَمْرِو بْنِ عَائِذٍ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَ يَنْحَرُ فِي كُلَّ أُسْبُوعٍ جَزُورًا، فَطَلَبَ مِنْهُ يَتِيمٌ شَيْئًا، فَقَرَعَهُ بعصاه، فأنزل الله هذه السورة. ويَدُعُّ أَيْ يَدْفَعُ، كَمَا قَالَ: يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا «٢» [الطور: ١٣] وقد
(١). راجع ج ١ ص (١٤٣)
(٢). آية ١٣ سورة الطور. راجع ج ١٧ ص ٦٤
210
تَقَدَّمَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ أَيْ يَدْفَعُهُ عَنْ حَقِّهِ. قَتَادَةُ: يَقْهَرُهُ وَيَظْلِمُهُ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ" النِّسَاءِ"»
أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَلَا الصِّغَارَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّمَا يَحُوزُ الْمَالَ مَنْ يَطْعَنُ بِالسِّنَانِ، وَيَضْرِبُ بِالْحُسَامِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: [مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ [. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ «٢». الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي لَا يَأْمُرُ بِهِ، مِنْ أَجْلِ بُخْلِهِ وَتَكْذِيبِهِ بِالْجَزَاءِ. وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الحاقة: وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ «٣» [الحاقة: ٣٤] وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَلَيْسَ الذَّمُّ عَامًّا حَتَّى يَتَنَاوَلَ مَنْ تَرَكَهُ عَجْزًا، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَبْخَلُونَ وَيَعْتَذِرُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَقُولُونَ: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ «٤» [يس: ٤٧]، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ، وَتَوَجَّهَ الذَّمُّ إِلَيْهِمْ. فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: لَا يَفْعَلُونَهُ إِنْ قَدَرُوا، وَلَا يَحُثُّونَ عَلَيْهِ إِنْ عَسِرُوا. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) أَيْ عَذَابٌ لَهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ «٥».. (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ)، فَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ الْمُصَلِّيَ الَّذِي إِنْ صَلَّى لَمْ يَرْجُ لَهَا ثَوَابًا، وَإِنْ تَرَكَهَا لَمْ يَخْشَ عَلَيْهَا عِقَابًا. وَعَنْهُ أَيْضًا: الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ أَوْقَاتِهَا. وَكَذَا رَوَى الْمُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: سَاهُونَ بِإِضَاعَةِ الْوَقْتِ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: لَا يُصَلُّونَهَا لِمَوَاقِيتِهَا، وَلَا يُتِمُّونَ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا. قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ [مريم: ٥٩] حَسْبُ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" مَرْيَمَ" «٦» عَلَيْهَا السَّلَامُ. وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَيْضًا: أَنَّهُ الَّذِي إِذَا سَجَدَ قَامَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا مُلْتَفِتًا. وَقَالَ قُطْرُبٌ: هُوَ أَلَّا يَقْرَأَ وَلَا يَذْكُرَ اللَّهَ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ لَاهُونَ. وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فِي قَوْلِهِ]:
(١). راجع ج ٥ ص (٤٦)
(٢). راجع ج ٢ ص ١٤ طبعه ثانية.
(٣). آية ٣٤ راجع ج ١٨ ص (٢٧٢)
(٤). آية ٤٧ سورة يس.
(٥). راجع ج ٢ ص ٧ طبعه ثانية.
(٦). راجع ج ١١ ص ١٢١
211
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ- قَالَ-: [الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، تَهَاوُنًا بِهَا [. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هُمُ الْمُنَافِقُونَ يَتْرُكُونَ الصَّلَاةَ سِرًّا، يُصَلُّونَهَا عَلَانِيَةً وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
«١» [النساء: ١٤٢]... الْآيَةَ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فِي الْمُنَافِقِينَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ، وقاله ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَوْ قَالَ فِي صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ لَكَانَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ عَنْ صَلاتِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ فِي صَلَاتِهِمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتُ: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ قَوْلِهِ: عَنْ صَلاتِهِمْ، وَبَيْنَ قَوْلِكَ: فِي صَلَاتِهِمْ؟ قُلْتُ: مَعْنَى عَنْ أَنَّهُمْ سَاهُونَ عَنْهَا سَهْوَ تَرْكٍ لَهَا، وَقِلَّةِ الْتِفَاتٍ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ فِعْلُ الْمُنَافِقِينَ، أَوِ الْفَسَقَةِ الشُّطَّارِ «٢» مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَمَعْنَى (فِي) أَنَّ السَّهْوَ يَعْتَرِيهِمْ فِيهَا، بِوَسْوَسَةِ شَيْطَانٍ، أَوْ حَدِيثِ نَفْسٍ، وَذَلِكَ لَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْهُ مُسْلِمٌ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقَعُ لَهُ السَّهْوُ فِي صَلَاتِهِ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّ أَثْبَتَ الْفُقَهَاءُ بَابَ سُجُودِ السَّهْوِ فِي كُتُبِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لِأَنَّ السَّلَامَةَ مِنَ السَّهْوِ مُحَالٌ، وَقَدْ سَهَا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صَلَاتِهِ وَالصَّحَابَةُ: وَكُلُّ مَنْ لَا يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ، فَذَلِكَ رَجُلٌ لَا يَتَدَبَّرُهَا، وَلَا يَعْقِلُ قِرَاءَتَهَا، وَإِنَّمَا هَمُّهُ فِي أَعْدَادِهَا، وَهَذَا رَجُلٌ يَأْكُلُ الْقُشُورَ، وَيَرْمِي اللُّبَّ. وَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ إِلَّا لِفِكْرَتِهِ فِي أَعْظَمِ مِنْهَا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ مَنْ يُقْبِلُ عَلَى وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ إِذَا قَالَ لَهُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لَمَّا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَضِلَّ الرَّجُلُ أَنْ يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى. الرابعة- قوله تعالى: (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) أَيْ يُرِي النَّاسَ أَنَّهُ يُصَلِّي طَاعَةً وَهُوَ يُصَلِّي تَقْيَةً، كَالْفَاسِقِ، يُرِي أَنَّهُ يُصَلِّي عِبَادَةً وَهُوَ يُصَلِّي لِيُقَالَ: إِنَّهُ يُصَلِّي. وَحَقِيقَةُ الرِّيَاءِ طَلَبُ مَا فِي الدُّنْيَا بِالْعِبَادَةِ، وَأَصْلُهُ طَلَبُ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ. وَأَوَّلُهَا تَحْسِينُ السَّمْتِ «٣»، وَهُوَ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ الْجَاهَ وَالثَّنَاءَ. وَثَانِيهَا: الرِّيَاءُ بِالثِّيَابِ الْقِصَارِ وَالْخَشِنَةِ، لِيَأْخُذَ بذلك هيئة
(١). آية ١٤٢ سورة النساء.
(٢). في نسخة من الأصل: (الشياطين). والشطار: جمع شاطر، وهو الذي ترك موافقة أهله وأعياهم لؤما وخبثا.
(٣). في اللسان: السمت: حسن القصد والمذهب في الدين والدنيا.
212
الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا. وَثَالِثُهَا: الرِّيَاءُ بِالْقَوْلِ، بِإِظْهَارِ التَّسَخُّطِ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا، وَإِظْهَارِ الْوَعْظِ وَالتَّأَسُّفِ عَلَى مَا يَفُوتُ مِنَ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ. وَرَابِعُهَا: الرِّيَاءُ بِإِظْهَارِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ، أَوْ بِتَحْسِينِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ النَّاسِ، وَذَلِكَ يَطُولُ، وَهَذَا دَلِيلُهُ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ" النِّسَاءِ وَهُودٍ وَآخِرِ الْكَهْفِ" «١» الْقَوْلُ فِي الرِّيَاءِ وَأَحْكَامِهِ وَحَقِيقَتِهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الْخَامِسَةُ- وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُرَائِيًا بِإِظْهَارِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ إِنْ كَانَ فَرِيضَةً، فَمِنْ حَقِّ الْفَرَائِضِ الْإِعْلَانُ بِهَا وَتَشْهِيرُهَا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: [وَلَا غُمَّةَ «٢» فِي فَرَائِضِ اللَّهِ [لِأَنَّهَا أَعْلَامُ الْإِسْلَامِ، وَشَعَائِرُ الدِّينِ، وَلِأَنَّ تَارِكَهَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ وَالْمَقْتَ، فَوَجَبَ إِمَاطَةُ التُّهْمَةِ بِالْإِظْهَارِ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَحَقُّهُ أَنْ يَخْفَى، لِأَنَّهُ لَا يُلَامُ تركه وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ، فَإِنْ أَظْهَرَهُ قَاصِدًا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ كَانَ جَمِيلًا. وَإِنَّمَا الرِّيَاءُ أَنْ يَقْصِدَ بِالْإِظْهَارِ أَنْ تَرَاهُ الْأَعْيُنُ، فَتُثْنِيَ عَلَيْهِ بِالصَّلَاحِ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا فِي الْمَسْجِدِ قَدْ سَجَدَ سَجْدَةَ الشُّكْرِ فَأَطَالَهَا، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا لَوْ كَانَ فِي بَيْتِكَ. وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُ تَوَسَّمَ فِيهِ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" «٣» عند قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ [البقرة: ٢٧١]، وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) فِيهِ اثْنَا عَشَرَ قَوْلًا: الْأَوَّلُ- أَنَّهُ زَكَاةُ أَمْوَالِهِمْ. كَذَا رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَقَالَهُ مَالِكٌ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُنَافِقُ يَمْنَعُهَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ «٤» بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ مَالِكٍ قال: بلغني أن قوله الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ. وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا صَلَّى صَلَّى رِيَاءً، وَإِنْ فَاتَتْهُ لَمْ يَنْدَمْ عَلَيْهَا، وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ الزَّكَاةَ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: لَوْ خَفِيَتْ لَهُمُ الصَّلَاةُ كَمَا خَفِيَتْ لَهُمُ الزَّكَاةُ مَا صَلُّوا. القول الثاني- أن الْماعُونَ المال، بلسان
(١). راجع ج ٥ ص ١٨١ وج ٩ ص ١٣ وج ١١ ص ٧٠. [..... ]
(٢). أي لا تستر ولا تخفى فرائضه، وإنما تظهر وتعلن ويجهر بها.
(٣). راجع ج ٣ ص (٣٣٢)
(٤). في بعض نسخ الأصل: (أبو عمر) وفي بعضها: (أبو عبد). وفي ابن العربي: (أبو بكر بن عبد العزيز).
213
قُرَيْشٍ، قَالَهُ ابْنُ شِهَابٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ. وَقَوْلٌ ثَالِثٌ- أَنَّهُ اسْمٌ جَامِعٌ لِمَنَافِعِ الْبَيْتِ كَالْفَأْسِ وَالْقِدْرِ وَالنَّارِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. قَالَ الْأَعْشَى:
بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَاعُونِهِ إِذَا مَا سَمَاؤُهُمْ لَمْ تَغِمْ
الرَّابِعُ- ذَكَرَ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالْمُبَرِّدُ أَنَّ الْمَاعُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كُلُّ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ، حَتَّى الْفَأْسِ وَالْقِدْرِ وَالدَّلْوِ وَالْقَدَّاحَةِ، وَكُلِّ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَأَنْشَدُوا بَيْتَ الْأَعْشَى. قَالُوا: وَالْمَاعُونُ فِي الْإِسْلَامِ: الطَّاعَةُ وَالزَّكَاةُ، وَأَنْشَدُوا قَوْلَ الرَّاعِي:
أَخَلِيفَةُ الرَّحْمَنِ إِنَّا مَعْشَرٌ حُنَفَاءُ نَسْجُدُ بُكْرَةً وَأَصِيلَا
عَرَبٌ نَرَى لِلَّهِ مِنْ أَمْوَالِنَا حَقُّ الزَّكَاةِ مُنَزَّلًا تَنْزِيلَا
قَوْمٌ عَلَى الْإِسْلَامِ لَمَّا يَمْنَعُوا ما عونهم وَيُضَيِّعُوا التَّهْلِيلَا «١»
يَعْنِي الزَّكَاةَ. الْخَامِسُ- أَنَّهُ الْعَارِيَّةُ، روى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. السَّادِسُ- أَنَّهُ الْمَعْرُوفُ كُلُّهُ الَّذِي يَتَعَاطَاهُ النَّاسُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالْكَلْبِيُّ. السَّابِعُ- أَنَّهُ الْمَاءُ وَالْكَلَأُ. الثَّامِنُ- الْمَاءُ وَحْدَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ: الْمَاعُونَ: الْمَاءُ، وَأَنْشَدَنِي فِيهِ:
يَمَجُّ صَبِيرُهُ الْمَاعُونَ صَبًّا
الصَّبِيرُ: السَّحَابُ. التَّاسِعُ- أَنَّهُ مَنْعُ الْحَقِّ، قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. الْعَاشِرُ- أَنَّهُ الْمُسْتَغَلُّ مِنْ مَنَافِعِ الْأَمْوَالِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَعْنِ وَهُوَ الْقَلِيلُ، حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ ابن عَبَّاسٍ «٢». قَالَ قُطْرُبٌ: أَصْلُ الْمَاعُونَ مِنَ الْقِلَّةِ. والمعن: الشيء القليل، تقول العرب: ماله سعنة «٣» ولا معنة، أي شي قَلِيلٍ. فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الزَّكَاةَ وَالصَّدَقَةَ وَنَحْوَهُمَا مِنَ الْمَعْرُوفِ مَاعُونًا، لِأَنَّهُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمَاعُونُ: أَصْلُهُ مَعُونَةٌ، وَالْأَلِفُ عِوَضٌ مِنَ الْهَاءِ، حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمَاعُونَ: مَفْعُولٌ «٤» مِنْ أَعَانَ يُعِينُ، وَالْعَوْنُ: هو الامداد
(١). في اللسان:
قوم على التنزيل لما يمنعوا ما عونهم ويبدلوا التنزيلا
(٢). كذا في بعض نسخ الأصل. وفي بعضها الآخر: (حكاه الطبري وابن عيسى).
(٣). هذا مثل يضرب لمن لا مال له. والسعن: الكثير.
(٤). هذا القول يأباه القياس اللغوي.
214
بِالْقُوَّةِ وَالْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ الْمُيَسِّرَةِ لِلْأَمْرِ. الْحَادِي عَشَرَ- أَنَّهُ الطَّاعَةُ وَالِانْقِيَادُ. حَكَى الْأَخْفَشُ عَنْ أَعْرَابِيٍّ فَصِيحٍ: لَوْ قَدْ نَزَلْنَا لَصَنَعْتُ بِنَاقَتِكَ صَنِيعًا تعطيك الماعون أي تنقاد لك وتطيعك. قَالَ الرَّاجِزُ:
مَتَى تُصَادِفْهُنَّ «١» فِي الْبَرِينِ يَخْضَعْنَ أَوْ يُعْطِينَ بِالْمَاعُونِ «٢»
وَقِيلَ: هُوَ مَا لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ، كَالْمَاءِ وَالْمِلْحِ وَالنَّارِ، لِأَنَّ عَائِشَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: [الْمَاءُ وَالنَّارُ وَالْمِلْحُ [قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْمَاءُ، فَمَا بَالُ النَّارِ وَالْمِلْحِ؟ فَقَالَ: [يَا عَائِشَةُ مَنْ أَعْطَى نَارًا فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا طُبِخَ بِتِلْكَ النَّارِ، وَمَنْ أَعْطَى مِلْحًا فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا طَيَّبَ بِهِ ذَلِكَ الْمِلْحُ، وَمَنْ سَقَى شَرْبَةً مِنَ الْمَاءِ حَيْثُ يُوجَدُ الْمَاءُ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ سِتِّينَ نَسَمَةً. وَمَنْ سَقَى شَرْبَةً مِنَ الْمَاءِ حَيْثُ لَا يُوجَدُ، فَكَأَنَّمَا أَحْيَا نَفْسًا، وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [. ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ. وَفِي إِسْنَادِهِ لِينٌ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي عَشَرَ. الْمَاوَرْدِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ الْمَعُونَةُ بِمَا خَفَّ فِعْلُهُ وَقَدْ ثَقَّلَهُ اللَّهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ لِعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ مَنَعَ شَيْئًا مِنَ الْمَتَاعِ كَانَ لَهُ الْوَيْلُ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ مَنْ جَمَعَ ثَلَاثُهُنَّ فَلَهُ الْوَيْلُ، يَعْنِي: تَرْكُ الصَّلَاةِ، وَالرِّيَاءِ، وَالْبُخْلِ بِالْمَاعُونِ. قُلْتُ: كَوْنُهَا فِي الْمُنَافِقِينَ أَشْبَهُ، وَبِهِمْ أَخْلَقُ، لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا الْأَوْصَافَ الثَّلَاثَةَ: تَرْكُ الصَّلَاةِ، وَالرِّيَاءِ، وَالْبُخْلِ بِالْمَالِ، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
«٣» [النساء: ١٤٢]، وقال: وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ «٤» [التوبة: ٥٤]. وَهَذِهِ أَحْوَالُهُمْ وَيَبْعُدُ أَنْ تُوجَدَ مِنْ مُسْلِمٍ مُحَقِّقٍ، وَإِنْ وُجِدَ بَعْضُهَا فَيَلْحَقُهُ جُزْءٌ مِنَ التَّوْبِيخِ، وَذَلِكَ فِي مَنْعِ الْمَاعُونِ إِذَا تَعَيَّنَ، كَالصَّلَاةِ إِذَا تَرَكَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِنَّمَا يَكُونُ مَنْعًا قَبِيحًا فِي الْمُرُوءَةِ فِي غَيْرِ حَالِ الضرورة. والله أعلم.
(١). في تفسير الثعلبي: متى تجاهدهن وهي الأوجه.
(٢). البرين (بضم الباء وكسرها): جمع برة وهي هنا الحلقة في أنف البعير. وهي أيضا: كل حلقة من سوار وقرط وخلخال.
(٣). آية ١٤٢ سورة النساء.
(٤). آية ٥٤ سورة التوبة.
215
Icon