تفسير سورة الماعون

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الماعون من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (٧)﴾.
أسباب النزول
قيل نزلت (١) هذه السورة في أبي جهل، أو الوليد بن المغيرة، أو العاص بن وائل، أو عمر بن عائذ، أو رجل من المنافقين، أو أبي سفيان بن حرب كان ينحر في كل أسبوع جزورين، فأتاه يتيم، فسأله شيئًا، فقرعه بعصاه، أقوال آخرها لابن جريج، وأخرج ابن المنذر (٢) عن طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤)...﴾ الآية، قال نزلت في المنافقين: كانوا يراؤون المؤمنين بصلاتهم إذا حضروا، ويتركونها إذا غابوا، ويمنحونهم العاريَّة.
التفسير وأوجه القراءة
١ - والخطاب في قوله: ﴿أَرَأَيْتَ﴾ لرسول الله - ﷺ -، أو لكل من يصلح له، والاستفهام لقصد التعجيب من حال من يكذب بالدين، والرؤية بمعنى المعرفة تتعدى لمفعول واحد، وهو: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾ والدين: الجزاء والحساب في الآخرة، وقيل: بالقرآن، وقال ابن عباس: ﴿بِالدِّينِ﴾، أي: بحكم الله.
وفي الكلام حذف، والتقدير: هل عرفت يا محمد الذي يكذب بالبعث والجزاء في الآخرة؟ إن طلبت معرفته، فذلك الذي يدع اليتيم إلخ.
قيل: التقدير: أمصيب هو أم مخطىء؟ وأبدى (٣) فيه السمين احتمالين آخرين: ونصه: وفي ﴿أَرَأَيْتَ﴾ هذه وجهان:
(١) البحر المحيط.
(٢) لباب النقول.
(٣) الفتوحات.
أحدهما: أنها بصرية، فتتعدى لمفعول واحد وهو الموصول، كأنه قال: أبصرت المكذب بالدين.
والثاني: أنها بمعنى أخبرني، فتتعدى لاثنين، فقدره الحوفي: أليس مستحقًا العذاب، وقدره الزمخشري: من هو، ويدل لذلك قراءة عبد الله: أريتك بكاف الخطاب، و ﴿الكاف﴾ لا تلحق البصرية اهـ.
وقرأ الجمهور (١): ﴿أَرَأَيْتَ﴾ بإثبات الهمزة الثانية، وقرأ الكسائي بإسقاطها، قال الزجاج: لا يقال في ﴿أَرَأَيْتَ﴾ ريت، ولكن ألف الاستفهام سهلت الهمزة ألفًا.
والمعنى: أي هل عرفت ذلك الذي يكذب بما وراء إِدراكه من الأمور الإلهية والشؤون الغيبية، بعد أن ظهر له بالدليل القاطع والبرهان الساطع،
٢ - فإن كنت لا تعرفه بذاته فاعرفه بصفاته، وهي:
١ - ﴿فَذَلِكَ﴾ المكذب بالدين هو: ﴿الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾؛ أي: يدفع اليتيم دفعًا عنيفًا، ويزجره زجرًا قبيحًا إذا جاء يطلب منه حاجة احتقارًا لشأنه وتكبرًا عليه، و ﴿الفاء﴾ واقعة في جواب شرط مقدر، و ﴿ذلك﴾: مبتدأ، والموصول خبره، والجملة الاسمية جواب لذلك الشرط المقدر، والتقدير: إن طلبت معرفة ذلك المكذب بصفاته، فهو الذي يدع اليتيم، ويزجره زجرًا عنيفًا إذا طلب منه حاجةً وهو أبو جهل، كان وصيًا ليتيم، فجاءه عريانًا يسأله من مال نفسه، فدفعه دفعًا شنيعًا، فأيس الصبي، فقال له أكابر قريش: قل لمحمد يشفع لك، وكان غرضهم الاستهزاء به، وهو - ﷺ - كان لا يرد محتاجًا، فذهب معه إلى أبي جهل، فقام أبو جهل وبذل المال لليتيم، فعيَّره قريش وقالوا: أصبوت، فقال: لا والله ما صبوت، ولكن رأيت عن يمينه وعن يساره حربة خفت إن لم أجبه يطعنها فيَّ، فـ ﴿الَّذِي﴾ للعهد، ويحتمل الجنس، فيكون عامًا لكل من كان مكذبًا بالدين، ومن شأنه أذية الضعيف ودفعه بعنف وخشونة؛ لاستيلاء النفس السبعية عليه، ويجوز أن تكون ﴿الفاء﴾ عاطفة على الذي يكذِّب إما عطف ذات على ذات، أو صفة على صفة، ويكون اسم الإشارة في
(١) الشوكاني.
محل نصب لعطفه على الموصول الذي هو في محل نصب، ويصح حمل الحق على الميراث، فقد تقدم في سورة النساء أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان، ويقولون: إنما يحوز المال من يطعن بالسنان ويضرب بالحسام اهـ "قرطبي".
٢ - ٣ ﴿وَلَا يَحُضُّ﴾؛ أي: ولا يحث أهله وغيرهم من الموسرين ﴿عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ والمحاويج؛ أي: على إطعامه، وإذا كان لا يحث غيره على ذلك ولا يدعو إليه، فهو لا يفعله بالأولى، وفي هذا توجيه (١) لأنظارنا إلى أَنَّا إذا لم نستطع مساعدة المسكين.. كان علينا أن نطلب من غيرنا معونته ونحثه على ذلك، كما تفعل جماعات الخير، والجمعيات الخيرية.
وقصارى ما سلف: أَن للمكذبين صفتين:
أولاهما: أن يُحقِّر الضعفاء ويتكبر عليهم.
وثانيهما: أن يبخل بماله على الفقراء والمحاويج، أو يبخل لسعيه لدى الأغنياء؛ ليساعدوا أهل الحاجة ممن تحقق عجزهم عن كسب ما ينقذهم من الضرورة، ويقوم لهم بكفاف العيش، وسواء أكان المحتقِر للحقوق البخيل بالمال والسعي لدى غيره، مصليًا أو غير مصل، فهو في صف المكذبين، ولا تخرجه صلاته منهم؛ لأن المصدق بشيء لا تطاوعه نفسه على الخروج مما صدق به، فلو صدق بالدين حقًا.. لصار منكسرًا متواضعًا لا يتكبر على الفقراء ولا ينهر المساكين ولا يزجرهم، فمن لم يفعل شيئًا من ذلك فهو مراء في عمله، كاذب في دعواه، ومن ثم قال سبحانه: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤)...﴾ إلخ.
والخلاصة (٢): أنه يمنع المعروف عن المستحق لاستيلاء النفس البهيمية ومحبة المال عليه، واستحكام رذيلة البخل فيه، فإنه إذا ترك حث غيره، فكيف يفعل هو بنفسه، فعُلم أن كلًّا من ترك الحث وترك الفعل من أمارات التكذيب، وفي العدول من الإطعام إلى الطعام وإضافته إلى المسكين دلالة على أن للمساكين شركة وحقًا في مال الأغنياء، وأنه إنما منع المسكين مما هو حقه، وذلك نهاية البخل وقساوة البخل وخساسة الطبع.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
فإن قلت: قد لا يحض المرء في كثير من الأحوال، ولا يعد ذلك إثمًا، فكيف يذم به؟.
قلت: إما لأن عدم حضه لعدم اعتقاده بالجزاء، وإما لأن ترك الحض كناية عن البخل ومنع المعروف عن المساكين، ولا شبهة في كونه محل الذم والتوبيخ، كما أن منع الغير من الإحسان كذلك.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَدُعُّ﴾ - بضم الدال وشد العين - من دع من باب رد، كما في "المختار" بمعنى دفع، وقرأ علي والحسن وأبو رجاء واليماني بفتح الدال تخفيف العين من وَدَعَ بمعنى ترك؛ أي: يترك اليتيم بمعنى: لا يحسن إليه، ويجفوه.
وقرأ الجمهور: ﴿وَلَا يَحُضُّ﴾ مضارع حض الثلاثي، وقرأ زيد بن علي: ﴿يحاض﴾ مضارع حاضض الرباعي،
٤ - ولما ذكر أولًا عمود الكفر وهو التكذيب بالدين.. ذكر ما يترتب عليه مما يتعلق بالخالق، وهو عبادته بالصلاة، فقال: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤)﴾ ﴿الفاء﴾ (٢): لربط ما بعدها بشرط محذوف، كأنه قيل: إذا كان ما ذُكر من عدم المبالاة باليتيم والمسكين من دلائل التكذيب بالدين وموجبات الذم والتوبيخ.. فويل للمصلين؛ أي: فشدة عذاب، أو هلاك عظيم، أو واد في جهنم كما سبق الخلاف في الويل، كائن للمصلين؛ ﴿فَوَيْلٌ﴾: مبتدأ. ﴿لِلْمُصَلِّينَ﴾: خبره.
٥ - ﴿الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (٥)﴾ ومعرضون عنها، سهو ترك لها وقلة التفاتٍ إليها وعدم مبالاةٍ بها، وذلك فعل المنافقين أو الفسقة من المؤمنين، وهو معنى ﴿عَن﴾ في قوله: ﴿عَنْ صَلَاتِهِمْ﴾، ولذا قال أنس - رضي الله عنه -: الحمد لله على أن لم يقل في صلاتهم، وذلك أنه لو قال: في صلاتهم.. لكان المعنى: أن السهو يعتريهم، وهم فيها إما بوسوسة شيطان أو بحديث نفس، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم، والخلوص منه عسير، ولما نزلت هذه الآية.. قال رسول الله - ﷺ -: هذه خير لكم من أن يُعطى كلُّ واحد منكم مثلَ جميع الدنيا، ومعنى ﴿سَاهُونَ﴾ (٣): غافلون غير مبالين بها، ويجوز أن تكون ﴿الفاء﴾؛ لترتيب الدعاء عليهم بالويل على ما ذُكر من قبائحهم ووضع المصلين موضع ضميرهم؛ للتوصل بذلك إلى بيان أن لهم قبائح أخر غير ما ذكر.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
قال الواحدي: نزلت في المنافقين الذين لا يرجون بصلاتهم ثوابًا إن صَلَّوا، ولا يخافون عليها عقابًا إن تركوا، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها، وإذا كانوا مع المؤمنين صَلَّوا رياء، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا، وهو معنى قوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (٦)﴾؛ أي: يراؤون الناس بصلاتهم إن صلَّوا، أو يراؤون الناس بكل ما عملوه من أعمال البر؛ ليثنوا عليهم، قال النخعي: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (٥)﴾ هو في إذا سجد قال: برأسه هكذا وهكذا ملتفتًا، وقال قطرب: هو الذي لا يقرأ ولا يذكر الله، وقرأ ابن مسعود: ﴿الذين هم عن صلاتهم لا هون﴾.
فإن قلت (١): هل صدر عن النبي - ﷺ - سهو أم لا؟.
قلت: نعم، كما قال: "شغلونا عن صلاة العصر"؛ - أي: يوم الخندق - "ملأ الله قلوبهم نارًا" وأيضًا سها عن صلاة الفجر ليلة التعريس، وأيضًا صلى الظهر ركعتين، ثم سلم، فقال له أبو بكر - رضي الله عنه -: صليت ركعتين، فقام وأضاف إليهما ركعتين، وكذلك في قصة ذي اليدين، لكن سهوه - ﷺ - فيما ذكر، وفي غيره ليس كسهو سائر الناس، وهو في الاستغراق والإنجذاب دائمًا، وقد قال: تنام عيني ولا ينام قلبي، وأيضًا سهوه لحكمة تشريع سجود السهو وأحكامه، فعلى العاقل أن لا تفوته الصلاة التي هي من باب المعراج والمناجاة، ولا يعبث فيها باللحية والثياب، ولا يكثر التثاؤب والالتفات ونحوهما ومن المصلين من لا يدري عن كم انصرف، ولا ما قرأ من السورة.
وخلاصة معنى قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (٥)﴾؛ أي: فعذاب (٢) شديد لمن يؤدي الصلاة بجسمه ولسانه من غير أن يكون لها أثر في نفسه، ومن غير أن تؤتى ثمرتها التي شُرعت لأجلها؛ لأن قلبه غافل عما يقوله اللسان وتفعله الجوارح، فيركع وهو لاه عن ركوعه، ويسجد وهو لاه عن سجوده، ويكبر وهو لا يعني ما يقول، وإنما هي حركات اعتادها، وكلمات حفظها، ولا تُدرك نفسه معناها، ولا تصل إلى معرفة ثمرتها.
٦ - ﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (٦)﴾؛ أي: يُرون الناس أعمالهم؛ ليروهم الثناء عليها؛
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
أي: إنهم يفعلون أفعالًا ظاهرة بقدر ما يرى الناس دون أن تستشعر قلوبهم بها، أو تصل إلى معرفة حكمها وأسرارها، وحقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بالعبادة، وطلب المنزلة في قلوب الناس، ويكون فعل ذلك على ضروب:
١ - بتحسين السمت مع إرادة الجاه وثناء الناس.
٢ - بلبس الثياب القصار، أو الخشنة، ليأخذ بذلك هيبة الزهاد في الدنيا.
٣ - بإظهار السخط على الدنيا، وإظهار التأسف على ما يفوته من فعل الخير.
٤ - بإظهار الصلاة والصدقة، أو بتحسين الصلاة، لرؤية الناس له، قال في "الكشاف": والعمل الصالح إن كان فريضة فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها؛ لقوله - ﷺ -: "ولا غمة في فرائض الله"؛ لأنها أعلام الإِسلام وشعائر الدين، ولأن تاركها يستحق الذم والمقت، فوجب إماطة التهمة بالإظهار، وإن كان تطوعًا فحقه أن يخفي؛ لأنه مما لا يلام بتركه ولا تهمة فيه، وإن أظهره قاصدًا للاقتداء فيه كان جميلًا، وإنما الرياء أن يقصد أن تراه الأعين فيثنى عليه بالصلاح، واجتناب الرياء صعب إلا على المرتاضين بالإخلاص، ومن ثم قال - ﷺ -: "الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على المسح الأسود"، والمسح كساء من صوف خشن يلبسه الزهاد، والفرق (١) بين المرائي والمنافق أن المنافق يُبطِن الكفر ويظهر الإيمان، والمرائي يظهر زيادة الخشوع وآثار الصلاح؛ ليعتقد من يراه أنه من أهل الصلاح.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿يُرَاءُونَ﴾ مضارع راءَى من باب فاعل، وقرأ ابن أبي إسحاق والأشهب: مهموزة مقصورة مشددة الهمزة من باب فعل المضعف، وعن ابن أبي إسحاق بغير شد في الهمزة، فتوجيه الأولى، إلى أنه ضعف الهمزة تعديةً، كما عَدَّوا بالهمزة، فقالوا في رأى أرى، وقالوا: راءى، فجاء المضارع يُرَئِّيْ كيصلي، وجاء الجمع يُرَؤُّون كيصلون، وتوجيه الثانية أنه استثقل التضعيف في الهمزة، فخففها أو حذف الألف من يرأون حذفًا لا لسبب.
٧ - ﴿وَيَمْنَعُونَ﴾ الناس ﴿الْمَاعُونَ﴾؛ أي: محقرات الأموال وقلائلها مما يتعاطاه
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
367
الناس فيما بينهم ويتعاورونه يعتادون التسامح من أثاث البيت وغيره، كالدلو والقدر والإبريق والفأس والسكين والإبرة والخيط والخمير وبقايا الطعام والماء والملح والنار من الأشياء التافهة التي جرى عرف الناس بالتسامح بها فيما بينهم.
أي: يمنعون الناس ما لم تجر العادة بمنعه مما يسأله الغني والفقير، ويُنسب منعه إلى لؤم الطبع وسوء الخلق، وقال الطبري في "تفسيره": الماعون: هو ما يتعاوره الناس بينهم من الدلو والفأس والقدر، وما لا يُمنع كالماء والملح والنار والخيط والمخيط، نُقل هذا عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير، ثم قال: وروى أبو بصير عن أبي عبد الله قال: ﴿الْمَاعُونَ﴾ هو القرض تقرضه، والمعروف تصنعه، ومتاع البيت تعيره، قال: فقلت: إن لنا جيرانًا إذا أعرناهم متاعًا كسروه وأفسدوه، أفعلينا جناح أن نمنعهم؟ فقال: لا ليس عليك جناح أن تمنعهم إذا كانوا كذلك، وقال الكلبي: ﴿الْمَاعُونَ﴾ المعروف كله، وقال علي وابن عمر وابن عباس أيضًا: ﴿الْمَاعُونَ﴾ هو الزكاة، ومنه قول الراعي:
أخَلِيْفَةَ الرَّحْمَنِ إِنَّا مَعْشَرٌ حُنُفًا نُسَجدُ بُكْرَةً وَأَصِيْلًا
عُرْبٌ نَرَى لِلَّهِ فِيْ أَمْوَالِنَا حَقَّ الزَّكَاةِ مُنَزَّلًا تَنْزِيْلَا
قَوْمٌ عَلَى الإِسْلَامِ لَمَّا يَمْنَعُوْا مَا عُوْنَهُمْ وَيُضَيِّعُوْا التَّهْلِيْلَا
يعني بالماعون الزكاة، وهذا القول يناسبه ما ذكره قطرب من أن أصله من المعن، وهو الشيء القليل، فسميت الزكاة ماعونًا؛ لأنها قليل من كثير؛ لأنها ربع أو عشر، وقال عبد الله بن عمر منع الماعون هو منع الحق، وقال ابن عباس أيضًا: هو العارية، وقيل الماء والكلأ، قال أبو الليث: الماعون بلغة الحبشة المال، وفي "برهان القرآن" قوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (٥)﴾، ثم بعده ﴿الَّذِينَ هُمْ﴾ كرر ولم يقتصر على مرة واحدة؛ لامتناع عطف الفعل على الاسم، ولم يقل: الذين هم يمنعون؛ لأنه فعل، فحسن العطف على الفعل وهذه دقيقة. انتهى.
والمعنى: ويمنعون الزكاة، كما دل عليه ذكره عقيب الصلاة، أو ما يتعاور عادة، فإن عدم المبالاة باليتيم والمسكين حيث كان من عدم الاعتقاد بالجزاء موجب للذم والتوبيخ، فعدم المبالاة بالصلاة التي هي عماد الدين والرياء الذي هو شعبة من الكفر، ومنع الزكاة التي هي قنطرة الإِسلام، وسوء المعاملة مع الخلق
368
أحق بذلك، ولم يُرَ من المتسمين بالإِسلام، بل من العلماء منهم من هو على هذه الصفة، فيا مصيبتاه، والمراد بما يتعاوروه عادةً؛ أي: يتداوله الناس بالعارية، ويعين بعضهم بعضًا بإعارته هو مثل الفأس والقدر والدلو والإبرة والقصعة، والغربال والقدوم والمقدحة والنار، والماء والملح، ومن ذلك أن يلتمس جارك أن يخبز في تنورك، أو يضع متاعه عندك يومًا أو نصف يوم، وقد يكون منع هذه الأشياء محظورًا في الشريعة إذا استُعيرت عن اضطرار، وقبحًا في المروءة في غير حال الضرورة، وفي هذه الآية زجر عن البخل بهذه الأشياء القليلة الحقيرة، فإن البخل بها في نهاية البخل، قال العلماء: يستحب أن يستكثر الرجل في بيته مما يحتاج إليه الجيران، فيعيرهم ويتفضل عليهم، ولا يقتصر على الواجب اهـ "صاوي".
قال الإمام: وحاصل معنى هذه السورة؛ أي: فأولئك الذين يصَلُّون ولا يأتون من الأعمال إلا ما يُرى للناس مما لا يكلفهم بذل شيء من مالهم، ولا يخشون منه ضررًا يلحق بأبدانهم، أو نقصًا يلم بجاههم، ثم يمنعون ماعونهم، ولا ينهضون بباعث الرحمة إلى سد حاجة المعوزين، وتوفير ما يكفل راحتهم وأمنهم، وطمأنينتهم ولا تنفعهم صلاتهم، ولا تخرجهم عن حد المكذبين بالدين، لا فرق بين من وَسَموا أنفسهم بسِمَة الإِسلام أو غيره، فإن حكم الله واحد لا محاباة فيه للأسماء المنتحلة التي لا قيمة لها إلا بمعانيها الصحيحة المنطبقة على مراده تعالى من تحديد الأعمال وتقرير الشرائع.
فخاصة المصدق بالدين التي تميزه عمن سواه من المكذبين هو العدل والرحمة وبذل المعروف للناس وخاصة المكذب التي يمتاز بها عن المصدقين هي احتقار حقوق الضعفاء، وقلة الاهتمام بمن تلذعهم آلام الحاجة، وحب الأثرة بالمال، والتعزز بالقوة، ومنع المعروف عمن يستحق من الناس.
فهل للمسلمين الذين يزعمون أنهم آمنوا بمحمد - ﷺ - وبما جاء به أن يقيسوا أحوالهم وما يجدونه من أنفسهم بما يتلون في هذه السورة الشريفة؛ ليعرفوا هل هم من قسم المصدقين أو المكذبين، وليقلعوا عن الغرور برسم هذه الصلاة التي لا أثر لها إلا في ظواهر أعضائهم، وبهذا الجوع في يسمونه صيامًا، ولا أثر له إلا في عبوس وجوههم وبذاذة ألسنتهم وضياع أوقاتهم في اللهو والبطالة، ويرجعوا إلى
369
الحق من دينهم، فيقيموا الصلاة، ويحيوا صورتها بالخشوع للعليِّ الأعلى، فلا يخرجوا من الصلاة إلا وهم ذاكرون أنهم عبيد الله يلتمسون رضاه في رعاية حقوقه بما يراه، ويجعلوا من الصوم مؤدِّبًا للشهوة ومهذبًا للرغبة رادعًا للنفس عن الأثرة فلا يكون في صومهم إلا الخير لأنفسهم ولقومهم، ثم يؤدون الزكاة المفروضة عليهم ولا يبخلون بالمعونة فيما يمنع الخاصة والعامة اهـ. والله أعلم.
الإعراب
﴿أرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (٧)﴾.
﴿أَرَأَيْتَ﴾ ﴿الهمزة﴾ فيه للاستفهام التعجبي، ﴿رأيت﴾: فعل وفاعل، والخطاب لمحمد - ﷺ -، أو عام كما مر، والرؤية هنا إما بصرية تتعدى إلى مفعول، وهو قوله: ﴿الَّذِي يُكَذِّبُ﴾. ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ ﴿رأيت﴾. ﴿يُكَذِّبُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الموصول. ﴿بِالدِّينِ﴾: متعلق بـ ﴿يُكَذِّبُ﴾، والمعنى: أبصرت يا محمد المكذب بالدين، وهل عرفته بذاته؟ وإما بمعنى أخبرني فتتعدى لاثنين: الأول: الموصول، والثاني محذوف قدَّره الحوفي بقوله: أليس مستحقًا للعذاب؛ أي: أخبرني يا محمد المكذبَ بالدين أليس مستحقًا العذاب، والجملة الفعلية على كلا التقديرين مستأنفة. ﴿فَذَلِكَ﴾ ﴿الفاء﴾: واقعة في جواب شرط مقدر تقديره: إن طلبت معرفة ذلك المكذب بصفاته، فهو الذي يدع اليتيم. ﴿ذلك﴾: مبتدأ. ﴿الَّذِي﴾: خبره، وجملة ﴿يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾ صلة الموصول، والجملة الاسمية في محل الجزم بذلك الشرط المحذوف، وجملة الشرط المحذوف مستأنفة. ﴿وَلَا يَحُضُّ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَحُضُّ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾. ﴿عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَحُضُّ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾. ﴿فَوَيْلٌ﴾ ﴿الفاء﴾: واقعة أيضًا في جواب شرط مقدر تقديره: إذا كان ما ذكر من عدم المبالاة باليتيم والمسكين من دلائل التكذيب بالدين وموجبات الذم والتوبيخ، فويل للمصلين المذكورين؛ لأن السهو عن الصلاة من سمة التكذيب
370
بالدين، ﴿ويل﴾: مبتدأ. ﴿لِلْمُصَلِّينَ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجزم بالشرط المقدر، وجملة الشرط المقدر مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الجر صفة لـ ﴿المصلين﴾: ﴿هُمْ﴾: مبتدأ ﴿عَنْ صَلَاتِهِمْ﴾: متعلق بما بعده. ﴿سَاهُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول. ﴿الَّذِينَ﴾: بدل من ﴿الَّذِينَ﴾ الأول على كونه صفة لـ ﴿المصلين﴾. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يُرَاءُونَ﴾ خبره، والجملة الإسمية صلة الموصول. ﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (٧)﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على جملة ﴿يُرَاءُونَ﴾ داخلة في حيز الصلة، ومفعول ﴿يمنعون﴾ الأول محذوت تقديره: أي: الناس والطالبين، و ﴿الْمَاعُونَ﴾ مفعوله الثاني.
التصريف ومفردات اللغة
﴿يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾؛ أي: يدفع بعنف وجفوة، وفي المختار: دَعَّ من باب رد، قال ابن دريد: دعه ودحه بمعنى واحد، وامرأة دعوع ودحوح بمعنى، وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي:
قَدْ أَغْتَدِيْ وَاللَّيْلُ فِيْ حِزِّيْمِه مُعَسْكِرًا فِيْ الغُرِّ مِنْ نُجُوْمِهِ
وَالصُّبْحُ قَدْ نَسَّمَ فِيْ أَدِيْمِهِ يَدُعُّهُ بِضِفَّتَيْ حَيْزُوْمِهِ
دَعَّ الرَّبِيْبِ لِحَيَّتَيْ يَتِيْمِهِ
وأصله: يَدْعُع بوزن يفعُل، نقلت حركة العين الأولى إلى الدال فسكنت فأدغمت في الثانية، وكذلك القول في: ﴿يَحُضُّ﴾ أصله: يَحْضُض بوزن يفعل.
﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤)﴾ أصله: المصليين بيائين، الأولى لام الكلمة والثانية ياء الجمع، سكنت لام الكلمة للتخفيف، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء الأولى، فصار المصلين بوزن المفعيّن.
﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (٦)﴾ من باب فاعل، كيقاتلون، ومعنى المفاعلة فيه أن المرائي يُري الناس عمله، وهم يُرُونه الثناء عليه، فالمشاركة فيهما واضحة، وأصله: يرائيون كيقاتلون، استثقلت الضمة على الياء، فحذفت فالتقى ساكنان، حذفت الياء لالتقائهما، وضمت الهمزة لمناسبة الواو، فصار ﴿يُرَاءُونَ﴾، بوزن
371
يفاعون.
﴿الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (٥)﴾ أصله: ساهيون جمع ساه، استثقلت الضمة على الياء، فحذفت للتخفيف، ثم ضمت الهاء لمناسبة الواو وأصل هذه الياء الواو؛ لأنه من سها يسهو قلبت ياء لتطرفها إثر كسرة.
﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (٧)﴾ منع يتعدى لمفعولين: ثانيهما: قوله ﴿الْمَاعُونَ﴾، وأولهما محذوف تقديره: الناس، حُذف للعلم به، و ﴿الْمَاعُونَ﴾ فاعول من المعن، وهو الشيء القليل، يقال: مال معن؛ أي: قليل، أو اسم مفعول من أعان يعين، فأصله معوون، دخله القلب المكاني فصار: موعون، تحركت الواو الأولى وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، وفي "المختار": والماعون اسم جامع لمنافع البيت، كالقدر والفأس ونحوهما اهـ.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستفهام الذي يراد به تشويق السامع إلى الخبر، وتعجيبه منه في قوله: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١)﴾.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢)﴾؛ لأنه حذف منه الشرط، تقديره: إن أردت أن تعرف ذلك المكذب بصفاته، فذلك المكذب هو الذي يدع اليتيم.
ومنها: وضع الظاهر، وهو قوله: ﴿لِلْمُصَلِّينَ﴾ موضع المضمر، وهو لهم؛ لأن مقتضى السياق أن يقال: فويل لهم؛ لأنهم مع التكذيب وما أضيف إليه ساهون عن الصلاة غير مكترثين بها، وهذا على أن السورة كلها إما مكية أو مدنية، وعلى القول بالتنصيف، فالويل متعلق بالمصلين الموصوفين بكونهم عن صلاتهم ساهين، وما بعده فلا ارتباط له بما قبله، و ﴿الفاء﴾ واقعة في جواب شرط مقدر تقديره: إن أردت معرفة جزاء أهل النفاق في الصلاة وغيرها، فويل للمصلين الخ اهـ من "الصاوي".
372
ومنها: تسميتهم مصلين مع أنهم تاركون لها رأسًا؛ لأنها مفروضة عليهم، فكانت جديرة بأن تضاف لهم.
ومنها: التعبير بـ ﴿عَنْ﴾ دون في، في قوله: ﴿عَنْ صَلَاتِهِمْ﴾ إشعارًا بأن صلاة المؤمن لا تخلو عن السهو فيها، فالمذموم السهو عنها بمعنى تركها والتفريط فيها لا السهو فيها؛ لوقوعه من الأنبياء.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿سَاهُونَ﴾ حيث استعار السهو للترك بجامع الإعراب في كل؛ لأنهم تاركون لها رأسًا، أو إن حصلت منهم تكون رياءً وسمعة، فهي كلاصلاة.
ومنها: حذف المفعول الأول لـ ﴿يمنعون﴾ في قوله: ﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (٧)﴾؛ أي: يمنعون الناس، للعلم به.
ومنها: الجناس الناقص بين ﴿يمنعون﴾ و ﴿الْمَاعُونَ﴾.
فائدة: السهو خطأ عن غفلة، وذلك ضربان:
أحدهما: أن لا يكون من الإنسان جوالبه ومولداته، كمجنون سب إنسانًا.
والثاني: أن يكون منه مولداته كمن شرب خمرًا، ثم ظهر منه منكر، لا عن قصد إلى فعله، فالأول معفو عنه، والثاني مأخوذ به، ومنه ما ذم الله سبحانه في الآية، انتهى من "الروح".
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
* * *
(١) إلى هنا تم تفسير سورة الماعون أواخر عصر يوم الخميس اليوم العشرين من شهر الله المحرم من شهور سنة: ١٤١٧ هـ ألف وأربع مئة وسبع عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
373
سورة الكوثر
سورة الكوثر مكية نزلت بعد سورة العاديات في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل، وكذا قاله الجمهور، ومدنية في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أنها نزلت سورة الكوثر بمكة، وهي ثلاث آيات، وعشر كلمات، واثنان وأربعون حرفًا.
ومناسبتها لما قبلها (١): أنه سبحانه وصف في السابقة الذي يكذب بالدين بأمور أربع: البخل، الإعراض عن الصلاة، الرياء، منع المعونة، وهنا وصف ما منحه رسوله - ﷺ - من الخير والبركة، فذكر أنه أعطاه الكوثر، وهو الخير الكثير، والحرص على الصلاة ودوامها، والإخلاص فيها، والتصدق على الفقراء.
وعبارة أبي حيان هنا: مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر فيما قبلها وصف المنافق بالبخل، وترك الصلاة والرياء، ومنع الزكاة.. قابل في هذه السورة البخل بـ ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (١)﴾، والسهو في الصلاة بقوله: ﴿فَصَلِ﴾، والرياء بقوله: ﴿لِرَبِّكَ﴾، ومنع الزكاة بقوله: ﴿وَانْحَرْ﴾، أراد به التصدق بلحم الأضاحي، فقابل أربعة بأربع. انتهى. وسميت سورة الكوثر؛ لذكر الكوثر فيها.
الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الكوثر كلها محكمة ليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
فضلها: ومما ورد في فضلها (٢): ما روي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "من قرأ سورة الكوثر سقاه الله تعالى من كل نهر له في الجنة، ويكتب له عشر حسنات بعدد كل قربان قربه العباد في يوم النحر" ولكن فيه مقال.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) المراغي.
(٢) البيضاوي.
374

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣)﴾.
أسباب النزول
قيل: إن هذه السورة نزلت في العاص بن وائل السهمي، وذلك أنه رأى رسول الله - ﷺ - يخرج من المسجد فالتقيا عند باب بني سهم وتحدثا وأناس من صناديد قريش جلوس في المسجد فلما دخل العاص بن وائل قالوا: من الذي كنت تتحدث معه؟ قال ذلك الأبتر دعوه، فإنه رجل لا عقب له، فإذا هلك انقطع ذكره، وكان في تلك الأيام قد توفي عبد الله بن رسول الله - ﷺ -، (وقيل: ولده إبراهيم)، وهو من خديجة "الكبرى" ففرح أعداء رسول الله - ﷺ -، ومبغضوه، وقالوا: قد بتر محمد، وسينقطع ذكره، ولم يبق له أثر في أولاده من بعده، وكانوا يعدون ذلك عيبًا يلمزونه به، وسينفرون الناس من اتِّباعه، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣)﴾.
وعن عطاء قال: نزلت في أبي لهب، وذلك حين مات ابن رسول الله - ﷺ - ذهب أبو لهب إلى المشركين، فقال: بُتِر محمد الليلة، فأنزل الله في ذلك: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣)﴾ وقال السدي: كانوا إذا مات ذكور الرجل.. قالوا: بتر، فلما مات أبناء رسول الله - ﷺ - قالوا: بُتر محمد، فأنزل الله سبحانه: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣)﴾.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: نزلت في أبي جهل، وفي رواية أخرى عنه قال: نزلت في كعب بن الأشرف؛ إذ قدم مكة، فقالت له قريش: أنت سيد أهل المدينة وخيرهم، ألا ترى هذا الصابئى المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية، فقال: أنتم خير منه، فنزلت: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣)﴾.
قال ابن عباس: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ﴾ يعني: عدوك، وهذا يعم جميع من اتصف
375
بذلك ممن ذكروا وغيرهم من أعداء الإِسلام، ومبغضي رسول الله - ﷺ - الذين كانوا يستهزئون به وبدعوته، واستمروا كذلك حتى كفاه الله شرهم، فقال: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥)﴾، وقضى الله عليهم، وجعل كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، والله على كل شيء قدير.
وحاصل أسباب نزول هذه السورة (١): أنه كان المشركون من أهل مكة والمنافقدن من أهل المدينة يعيبون النبي - ﷺ -، ويلمزونه بأمور:
١ - أنه إنما اتبعه الضعفاء ولم يتبعه السادة الكبراء، ولو كان ما جاء به من الدين صحيحًا.. لكان أنصاره من ذوي الرأي والمكانة بين عشائرهم، وهم ليسوا ببدع في هذه المقالة، فقد قال قوم نوح له فيما قصه الله علينا: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾، وقد جرت سنة الله سبحانه في خلقه أن يسرع في إجابة دعوة الرسل الضعفاء من قبل أنهم لا يملكون مالًا، فيخافوا في سبيل الدعوة الجديدة ولا جاهًا ولا نفوذًا، فيخافوا أن يضيَّعا أمام الجاه في منحه صاحب الدعوة، وأن يتخلف عنها السادة الكبراء حتى يدخلوا في دين الله، وهم له كارهون، ومن ثم يظل الجدل بين أولئك الصناديد ورسل الله تعالى، ويأخذون في انتقاصهم وكيل التهم لهم تهمة بعد تهمة، والله ينصر رسله ويؤيدهم وبشد أزرهم، وعلى هذا السنن سار أهل مكة مع النبي - ﷺ -، فقد تخلف عنه سادتهم وكبراؤهم حسدًا له ولقومه الأدنين.
٢ - أنهم كانوا إذا رأوا أبناءه يموتون يقولون: انقطع ذكر محمد وصار أبتر، يحسبون ذلك عيبًا، فيلمزونه به، ويحاولون تنفير الناس عن اتباعه.
٣ - أنهم كانوا إذا شدة نزلت بالمؤمنين.. طاروا بها فرحًا، وانتظروا أن تدول الدولة عليهم، وتذهب ريحهم، فتعود إليهم مكانتهم التي زعزعها الدين الجديد، فجاءت هذه السورة لتؤكد لرسوله أن ما يرجف به المشركون، وهم لا حقيقة له، ولتمحص نفوس الذين لم تصلب قناتهم، ولترد كيد المشركين في نحورهم، ولتعلمهم أن الرسول منتصر لا محالة، وأن أتباعه هم المفلحون.
(١) المراغي.
376
Icon