تفسير سورة الماعون

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الماعون من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

الكافر المنكر الجزاء الأخروي والمنافق المرائي بعمله وعقاب كل منهما
[سورة الماعون (١٠٧) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧)
الإعراب:
أَرَأَيْتَ بالهمزة على الأصل، وهو في الأظهر عند ابن الأنباري من رؤية العين، لا من رؤية القلب، فيتعدى إلى مفعول واحد، وليس في الآية إلا مفعول واحد. وقرئ أرأيت بتخفيف الهمزة، بجعلها بين الهمزة والألف لأن حركتها الفتح. وقرئ رأيت بحذف الهمزة الأولى للتخفيف، كما حذف في المضارع، نحو «يرى». وقال أبو حيان: الظاهر أن أَرَأَيْتَ هنا هي التي بمعنى أخبرني، فتتعدى لاثنين، أحدهما الَّذِي والآخر محذوف تقديره: أليس مستحقا عذاب اللَّه؟ أو: من هو؟
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ فَوَيْلٌ مبتدأ: ولِلْمُصَلِّينَ خبره. والَّذِينَ صفة الخبر، وهُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ صلته. ولم تحصل الفائدة بالخبر، بل بما وقع صلة الصفة، وهو قوله ساهُونَ وهذا يسمى الخبر الموطئ: وهو أن معتمد الفائدة إنما كان بصفة الخبر، لا بالخبر. مثل قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ، تَجْهَلُونَ [النمل ٢٧/ ٥٥] فإن قوله: أَنْتُمْ مبتدأ، وقَوْمٌ خبره، ومعتمد الفائدة على صفة الخبر، لا عليه، لأن قوله:
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ لم تحصل به الفائدة، للعلم بأنهم قوم، وإنما حصلت الفائدة بقوله: تَجْهَلُونَ.
البلاغة:
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ استفهام يراد به تشويق السامع إلى الخبر والتعجيب منه.
فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ إيجاز بالحذف، حذف منه الشرط، أي إن أردت أن تعرفه فذلك الذي يدعّ اليتيم.
421
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ذم وتوبيخ، ووضع الظاهر موضع الضمير، والأصل فَوَيْلٌ لَهُمْ زيادة في التقبيح لأنهم مع التكذيب ساهون عن الصلاة.
وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ جناس ناقص.
ساهُونَ يُراؤُنَ الْماعُونَ: توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات، وكذلك بِالدِّينِ الْمِسْكِينِ لِلْمُصَلِّينَ.
المفردات اللغوية:
أَرَأَيْتَ أي هل عرفت وعلمت؟ وهو استفهام معناه التعجب وتشويق السامع إلى معرفة ما يذكر بعده. بِالدِّينِ بالجزاء والحساب. والمعنى العام للدين: هو النظام الإلهي للحياة المشتمل على الخضوع لما وراء المحسوس بآثار الكون الدالة على وجود اللَّه ووحدانيته، وبعثة الرسل، والتصديق بعالم الآخرة. يَدُعُّ الْيَتِيمَ أي يدفعه بعنف عن حقه، ويزجره زجرا عنيفا، كما في قوله تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور ٥٢/ ١٣].
وَلا يَحُضُّ لا يحث نفسه وأهله وغيرهم من الناس. عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ إطعام.
فَوَيْلٌ خزي وعذاب وهلاك. ساهُونَ غافلون عن الصلاة، يؤخرونها عن وقتها.
يُراؤُنَ في الصلاة وغيرها، يرون الناس أعمالهم ليروهم الثناء عليها، والرياء: المصانعة وفعل الشيء لغير وجه اللَّه، إرضاء للناس. وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ كل ما يستعان وينتفع به كالإبرة والفأس والقدر والقصعة.
سبب النزول:
نزول الآية (١) :
أَرَأَيْتَ قال ابن عباس: نزلت في العاص بن وائل السّهمي وقال السّدّي: نزلت في الوليد بن المغيرة. وقيل: في أبي جهل، كان وصيا ليتيم، فجاءه عريانا يسأله من مال نفسه، فدفعه. وقال ابن جريج: نزلت في أبي سفيان، وكان ينحر في كل أسبوع جزورا، فطلب منه يتيم شيئا، فقرعه بعصاه فأنزل اللَّه هذه السورة.
422
نزول الآية (٤) :
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ: أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ قال: نزلت في المنافقين كانوا يراءون المؤمنين بصلاتهم إذا حضروا، ويتركونها إذا غابوا، ويمنعونهم العاريّة، أي الشيء المستعار.
التفسير والبيان:
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ أي أأبصرت يا محمد الذي يكذب بالحساب والجزاء؟ أو بالمعاد والجزاء والثواب. وقوله: أَرَأَيْتَ وإن كان في صورة استفهام، لكن الغرض بمثله المبالغة في التعجب. وهذا مثال آخر لكون الإنسان في خسر.
فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي هو الذي يدفع اليتيم عن حقه دفعا شديدا، ويزجره زجرا عنيفا، ويظلمه حقه ولا يحسن إليه، وقد كان عرب الجاهلية لا يورّثون النساء والصبيان.
ولا يحث نفسه ولا أهله ولا غيرهم على إطعام المسكين المحتاج، بخلا بالمال، كما قال تعالى: كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الفجر ٨٩/ ١٧- ١٨] أي الفقير الذي لا يملك شيئا، أو لا يجد كفايته.
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ أي فخزي وعذاب للمنافقين الذي يؤدون الصلاة أحيانا تظاهرا، والذين هم غافلون عنها، غير مبالين بها، لا يرجون بصلاتهم ثوابا إن صلوا، ولا يخافون عليها عقابا إن تركوا، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها، وإذا كانوا مع المؤمنين صلوا رياء، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا.
ولم يقل: في صلاتهم ساهون لأن السهو في أثناء الصلاة مغتفر معفو عنه لأنه غير اختياري، وإنما قال: عن صلاتهم ساهون بتأخيرها عن وقتها رأسا، أو فعلها مع قلة مبالاة بها، كقوله: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى،
423
يُراؤُنَ النَّاسَ
[النساء ٤/ ١٤٢]. ويجوز أن يطلق لفظ «المصلين» على تاركي الصلاة، بناء على أنهم من جملة المكلفين بالصلاة.
الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ أي إن أولئك الساهين عن صلاتهم هم الذين يراءون الناس بصلاتهم إن صلوا، أو يراءون الناس بكل ما عملوا من أعمال البر، ليثنوا عليهم. قال الزمخشري: المراءاة: هي مفاعلة من الإراءة لأن المرائي يري الناس عمله، وهم يرونه الثناء عليه، والإعجاب به.
روى الإمام أحمد عن عبد اللَّه بن عمرو يقول: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من سمّع الناس بعمله، سمّع اللَّه به سامع خلقه، وحقّره، وصغّره».
وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ أي يمنعون العارية وفعل الخير، والْماعُونَ اسم لكل ما يتعاوره الناس بينهم، من الدّلو والفأس والقدّوم والقدر ومتاع البيت، وما لا يمنع عادة، كالماء والملح، مما ينسب مانعة إلى الخسة ولؤم الطبع وسوء الخلق.
فهؤلاء المنافقون لا أحسنوا عبادة ربهم، ولا أحسنوا إلى خلقه، حتى ولا بإعارة ما ينتفع به ويستعان به، مع بقاء عينه، ورجوعه إليهم، وهؤلاء لمنع الزكاة وأنواع القربات أولى وأولى.
روى النسائي وغيره عن عبد اللَّه بن مسعود قال: كل معروف صدقة، وكنا نعد الماعون على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عارية الدّلو والقدر.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- ذم المكذب بالجزاء والحساب في الآخرة، واللفظ عام لا يقتصر على من كان سبب نزول الآية.
424
٢- من صفات المكذب بالجزاء الأخروي وقبائحه: زجر اليتيم وطرده ودفعه عن حقه وظلمه وقهره، وترك الخير وعدم الحث أو عدم الأمر على إطعام الفقير والمسكين، من أجل بخله وتكذيبه بالجزاء. وليس الذم عاما، حتى يتناول من تركه عجزا، ولكنهم كانوا يبخلون مع الغنى، ويعتذرون لأنفسهم.
٣- الويل، أي العذاب والتهديد العظيم لمن فعل ثلاثة أمور: أحدها- السهو عن الصلاة، وثانيها- فعل المراءاة، وثالثها- منع الماعون.
وقد جمع المنافقون الأوصاف الثلاثة: ترك الصلاة، والرياء، والبخل بالمال.
والسهو عن الصلاة: تركها رأسا، أو فعلها مع قلة المبالاة بها كما تقدم.
أما السهو في الصلاة فهو أمر غير اختياري، فلا يدخل تحت التكليف.
وقد ثبت أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم سها في الصلاة، وشرع سجود السهو لمن سها.
وكذلك سها الصحابة.
وحقيقة الرياء: طلب ما في الدنيا بالعبادة، وطلب المنزلة في قلوب الناس، وللرياء أنواع، وأولها: تحسين السّمت (الهيئة) مع إرادة الجاه وثناء الناس. وثانيها: لبس الثياب القصار أو الخشنة، ليأخذ بذلك هيبة الزهد في الدنيا. وثالثها: الرياء بالقول بإظهار السخط على أهل الدنيا، وإظهار الوعظ والتأسف على ما يفوته من فعل الخير والطاعة.
ورابعها: إظهار الصلاة والصدقة، أو تحسين الصلاة لأجل رؤية الناس له «١».
(١) أحكام القرآن لابن العربي: ٤/ ١٩٧٢، تفسير القرطبي: ٢٠/ ٢١٢- ٢١٣
425
والفرق بين المنافق والمرائي: أن المنافق هو المظهر للإيمان المبطن للكفر، والمرائي: المظهر ما ليس في قلبه من زيادة خشوع ليعتقد فيه من يراه أنه متدين «١».
وقال العلماء: لا بأس بالإراءة إذا كان الغرض الاقتداء، أو نفي التهمة.
واجتناب الرياء صعب إلا على من راض نفسه، وحملها على الإخلاص. ومن هنا
قال رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: «الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء، في الليلة المظلمة، على المسح الأسود» «٢»
أي البلاس المصنوع من الشعر.
والماعون عند أكثر المفسرين: اسم جامع لما لا يمنع في العادة، ويسأله الفقير والغني في أغلب الأحوال، ولا ينسب سائله إلى لؤم، بل ينسب مانعة إلى اللؤم والبخل، كالفأس والقدر والدّلو والمقدحة والغربال والقدوم، ويدخل فيه الماء والملح والنار، لما روى ابن ماجه عن أبي هريرة: «ثلاثة لا يمنعن: الماء والنار والملح». ومن ذلك أن يلتمس جارك الخبز من تنورك، أو أن يضع متاعه عندك يوما أو نصف يوم «٣». وقيل: منع الماعون: منع زكاة أموالهم.
وبالرغم من أن هذه الأوصاف واضحة في المنافقين، فإن بعضها قد يوجد في المسلم الصادق الإسلام، وحينئذ يلحقه جزء من التوبيخ، كالصلاة إذا تركها، ومنع الماعون إذا تعين، ويكون منعا قبيحا مخلّا بالمروءة في غير حال الضرورة.
٤- في الآيتين حول السهو عن الصلاة ومنع الماعون إشارة إلى أن الصلاة للَّه عز وجل، والماعون للخلق أو للناس، فمن ترك الصلاة لم يراع جانب تعظيم أمر اللَّه، ومن منع الماعون لم يراع جانب الشفقة على خلق اللَّه، وهذا كمال الشقاوة، نعوذ باللَّه منها.
(١) تفسير الرازي: ٣٢/ ١١٥
(٢) تفسير الكشاف: ٣/ ٣٦٢
(٣) غرائب القرآن: ٣٠/ ١٩١
426
والخلاصة: وصف اللَّه الكفار والمنافقين في هذه السورة بأربع صفات:
البخل، وترك الصلاة، والرياء فيها، ومنع الزكاة والخير.
427

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الكوثر
مكيّة، وهي ثلاث آيات.
مكيتها أو مدنيتها:
هذه السورة مكية في المشهور وقول الجمهور، وقال الحسن وعكرمة وقتادة: مدنية، وهو رأي ابن كثير.
تسميتها:
سميت سورة الكوثر لافتتاحها بقول اللَّه تعالى مخاطبا نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي الخير الكثير الدائم في الدنيا والآخرة، ومنه: نهر الكوثر في الجنة.
مناسبتها لما قبلها:
وصف اللَّه الكفار والمنافقين الذين يكذبون بالدين أي بالجزاء الأخروي بأربع صفات: البخل في قوله: يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وترك الصلاة في قوله: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ. والرياء أو المراءاة في الصلاة في قوله: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ ومنع الخير والزكاة في قوله:
وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ.
وذكر اللَّه تعالى في هذه السورة في مقابلة تلك الصفات الأربع صفات أربعا للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فذكر أنه أعطاه الكوثر في مقابلة البخل في قوله: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي الخير الكثير الدائم، فأعط أنت الكثير ولا تبخل، وأمره بالمواظبة على الصلاة: فَصَلِّ أي دم على الصلاة في مقابلة ترك الصلاة، وأمره
428
بالإخلاص في الصلاة في قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ أي لرضا ربك، لا لمراءاة الناس، في مقابلة المراءاة في الصلاة، وأمره بالتصدق بلحم الأضاحي على الفقراء، في مقابلة منع الماعون «١».
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت هذه السورة المكية الحديث عن مقاصد ثلاثة هي:
١- بيان فضل اللَّه الكريم وامتنانه على نبيه الرحيم بإعطائه الخير الكثير في الدنيا والآخرة، ومنه نهر الكوثر في الجنة.
٢- أمر النبي وكذا أمته بالمواظبة على الصلاة، والإخلاص فيها، ونحر الأضاحي شكرا للَّه تعالى.
٣- بشارة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بنصره على أعدائه، وبخزيهم وإذلالهم وحقارتهم، بسبب انقطاعهم عن كل خير في الدنيا والآخرة.
فضلها:
أخرج الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: «أغفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إغفاءة، فرفع رأسه مبتسما، إما قال لهم وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه أنزلت علي آنفا سورة، فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ حتى ختمها، فقال: أتدرون ما الكوثر؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يختلج العبد منهم، فأقول:
يا رب، إنه من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك»
.
وأخرج مسلم- واللفظ له- وأبو داود والنسائي عن أنس قال: «بينا
(١) تفسير الرازي: ٣٢/ ١١٧
429
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أظهرنا في المسجد، إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه مبتسما، قلنا: ما أضحكك يا رسول اللَّه؟ قال: لقد أنزلت علي آنفا سورة، فقرأ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم في السماء، فيختلج «١» العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدث بعدك».
سبب نزول السورة:
أخرج البزار وغيره بسند صحيح عن ابن عباس قال: قدم كعب بن الأشرف مكة، فقالت له قريش: أنت سيدهم، ألا ترى هذا المنصبر المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السقاية، وأهل السدانة! قال:
أنتم خير منه، فنزلت: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر عن عكرمة قال: لما أوحي إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قالت قريش: بتر محمد منا، فنزلت: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي قال: كانت قريش تقول إذا مات ذكور الرجل: بتر فلان، فلما مات ولد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال العاصي بن وائل: بتر محمد، فنزلت. وأخرج البيهقي في الدلائل مثله عن محمد بن علي، وسمى الولد:
القاسم، وأخرج عن مجاهد قال: نزلت في العاصي بن وائل، وذلك أنه قال: أنا شانئ محمد.
وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قالت: نزلت يوم الحديبية، أتاه جبريل، فقال: انحر واركع، فقام، وخطب
(١) أي ينتزع ويقتطع.
430
Icon