تفسير سورة الكافرون

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة الكافرون من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)
قال [ابن*] عرفة: القرآن كله مأمور بقوله وتبليغه، وتخصيص ما خصص منه بالأمور بقوله [(قُلْ) *] [قيل*] إما تعظيما لأمره، أو تهويلا لحاله واعتناء بشأنه، وإما لأنه هو جواب عن سؤال مقدر كما قال (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) فهذه الآية [تدل*] على أن الكفار طلبوا من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يعبد آلهتهم [سنة*] ويعبدوا هم [إلهه سنة*] فقال: "معاذ الله أن نشرك بالله شيئا"، [فقالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك*] فنزلت السورة.
قوله تعالى: ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢)﴾
هذه حقيقة وصفية، أي لَا أعبد ما أنتم عابدونه من حيث [كونكم*] كفارا، قيل لابن عرفة: إنهم كانوا يشركون بالله، قال (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَنْ خَلَقَهُم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) فهل [هم*] عابدون الله؟ قال: لَا يصدق عليهم ذلك، وإنما المعنى لَا أعبد ما تعبدونه من حيث إنكم كفار تشركون بالله، [ولا توحدونه*]، بل اعبدوا الله عبادة توحيد واختصاص، قال: واختلفوا هل هذا التكرار تأسيس وتأكيد؟ فمنهم من قال: إن المراد بالأول: الاستقبال، وبالثاني: الحال فهو تأسيس، وقيل: هما معا للاستقبال، وهو تأسيس؛ لأن الأول [تضمن*] نفي العبادة منه، والثاني تضمن نفيها عنهم، ونفي الشيء عن الشيء ليس هو نفيه عن غيره، وأجاب بعضهم بأنه تأكيد لا يستلزم الأول له؛ لأنه نفى عنه الذي سيعبدونه في المستقبل عن العموم، فيتناول كل معبوداتهم في المستقبل على الإطلاق، وقد يتوهم أنهم يسلمون في المستقبل، فعبادتهم في المستقبل يلزم منهم عدم إسلامهم في المستقبل، وأنهم لَا يعبدون في المستقبل الأصنام بقوله (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٣).. تأكيد بهذا الاعتبار إلا أنه ليس [صريحا*] بل مستفاد من اللزوم، فإن قلت: الجملة الأولى قابل فيها مضارعين بمضارعين، والجملة الثانية قابل فيها ماضياً بمضارع فما [السر*] في ذلك؟ وأجاب الزمخشري: فيه إساءة أدب، قال: لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يكن في ابتداء أمره يعبد الله عز وجل، والكفار لم يزالوا في بدايتهم يعبدون الأصنام، ورده شيخنا ابن عرفة، بأن أكثر الأصوليين قالوا بأنه لم يزل متشرعا بشريعة إبراهيم عليه السلام، قال: وإنما الذي عادتهم يجيبون به: أن عبادة الأصنام لما كانت مذمومة شرعا أتى بلفظ الماضي الذي وقع وانقطع، وعبادة الله تعالى لما كانت مطلوبة فرغب فيها شرعا، أتى بها بلفظ المضارع الذي وقع ودام إشعارا بالحض على هذه، وبالنهي
عن تلك، انتهى كلام شيخنا في هذه الختمة، وذلك في أول ذي القعدة في سنة ست وسبعين وسبعمائة، وتقدم لنا عنه في الختمة الأولى فيها سؤالا عام تسعة وخمسين وسبعمائة ما نصه قوله تعالى: (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) فيه سؤال لم يذكروه وهو أنه نفيت علة العبادة عنه صلى الله عليه وعَلى آله وسلم بلفظ الفعل، ونفيت عنهم بلفظ الاسم المقتضي للتبري والممانعة، والفعل يقتضي التجدد والانقطاع فكان ينبغي العكس؟ قال: والجواب: أن ذلك في الثبوت، وأما في النفي [فلا أفعل*] أبلغ، ألا ترى أن قوله (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) [لَا أوصف بوصف*] عبادتكم ولا أنتم عابدون معبودي، فيكون [بمعنى المضي*] على ما قال الزمخشري، وأجاب طلبة ابن عرفة بجواب آخر، وهو لما عزم تفضيل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم واستدامته على دينه، ولم يحتج إلى نفي عبادته معبودهم عنه بلفظ الفعل، ولما كان الأمر في حق الكافر محتملا للدوام على دينهم أو الإسلام، بعد الله الإسلام عنهم بلفظ الاسم المقتضي للمبالغة واللزوم؛ ليزول الاحتمال الذي [يتطرق*] بالاستماع، قال ابن عرفة: واختلف نقل الزمخشري، وابن مالك، فقال الزمخشري: في أن [لَا مخلصات الفعل [للاستقبال*] [وأن*] (ما) من مخلصاته للحال، فقال ابن مالك: إنما الأغلب فيها الاستقبال وقد تخلص للحال، ابن عرفة: وقول الزمخشري أصوب؛ لأنه إذا تعارض عمل الكلية الواحدة على الاشتراك والانفراد، [فحملها*] على الانفراد أولى.
قوله تعالى: ﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥)﴾
أطلق [(مَا) على*] من يعقل منهم من جعلها مصدرية، أي عابدون عبادتي، ومنهم من قال موضوعة موضع الصفة، أي عابدون الحق الذي أنا أعبده، [كمن*] رأى [زيدا*] الشجاع؛ فإما أن يقول: رأيت رجلا شجاعا، أو يقول: رأيت الشجاعة فتضعها موضع الموصوف.
قوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦)﴾
جعل الخطاب في أول السورة معلقه راجع للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لكون أصل السورة خطابه، وختمها به أيضا.
* * *
Icon