تفسير سورة التغابن

تفسير البيضاوي
تفسير سورة سورة التغابن من كتاب أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بـتفسير البيضاوي .
لمؤلفه البيضاوي . المتوفي سنة 685 هـ
سورة التغابن مختلف فيها وآيها ثماني عشرة آية.

(٦٤) سورة التغابن
مختلف فيها وآيها ثماني عشرة آية
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ بدلالتها على كماله واستغنائه. لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ قدم الظرفين للدلالة على اختصاص الأمرين به من حيث الحقيقة. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لأن نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى الكل على سواء ثم شرع فيما ادعاه فقال:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ مقدر كفره موجه إليه ما يحمله عليه. وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ مقدر إيمانه موفق لما يدعوه إليه. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيعاملكم بما يناسب أعمالكم.
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ٣ الى ٤]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ بالحكمة البالغة. وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ فصوركم من جملة ما خلق فيهما بأحسن صورة، حيث زينكم بصفوة أوصاف الكائنات، وخصكم بخلاصة خصائص المبدعات، وجعلكم أنموذج جميع المخلوقات. وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ فأحسنوا سرائركم حتى لا يمسخ بالعذاب ظواهركم.
يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فلا يخفى عليه ما يصح أن يعلم كلياً كان أو جزئياً، لأن نسبة المقتضى لعلمه إلى الكل واحدة، وتقديم تقرير القدرة على العلم لأن دلالة المخلوقات على قدرته أولاً وبالذات وعلى علمه بما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأنحاء.
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ٥ الى ٦]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ يا أيها الكفار. نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ كقوم نوح وهود وصالح عليهم السلام.
فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ ضرر كفرهم في الدنيا، وأصله الثقل ومنه الوبيل لطعام يثقل على المعدة، والوابل المطر الثقيل القطار. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.
ذلِكَ أي المذكور من الوبال والعذاب. بِأَنَّهُ بسبب أن الشأن. كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات. فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا أنكروا وتعجبوا من أن يكون الرسل بشراً والبشر يطلق للواحد والجمع.
فَكَفَرُوا بالرسل وَتَوَلَّوْا عن التدبر في البينات. وَاسْتَغْنَى اللَّهُ عن كل شيء فضلاً عن طاعتهم.
وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن عبادتهم وغيرها. حَمِيدٌ يدل على حمده كل مخلوق.

[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ٧ الى ٨]

زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا الزعم ادعاء العلم ولذلك يتعدى إلى مفعولين وقد قام مقامهما أن بما في حيزه. قُلْ بَلى أي بلى تبعثون. وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ قسم أكد به الجواب. ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ بالمحاسبة والمجازاة. وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لقبول المادة وحصول القدرة التامة.
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ محمد عليه الصلاة والسلام. وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا يعني القرآن فإنه بإعجازه ظاهر بنفسه مظهر لغيره مما فيه شرحه وبيانه. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فمجاز عليه.
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ٩ الى ١٠]
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠)
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ ظرف لَتُنَبَّؤُنَّ أو مقدر باذكر، وقرأ يعقوب «نجمعكم». لِيَوْمِ الْجَمْعِ لأجل ما فيه من الحساب والجزاء والجمع جمع الملائكة والثقلين. ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ يغبن فيه بعضهم بعضاً لنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء وبالعكس، مستعار من تغابن التجار واللام فيه للدلالة على أن التغابن الحقيقي وهو التغابن في أمور الآخرة لعظمها ودوامها. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً أي عملاً صالحاً.
يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وقرأ نافع وابن عامر بالنون فيهما.
ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الإشارة إلى مجموع الأمرين، ولذلك جعله الفوز العظيم لأنه جامع للمصالح من دفع المضار وجلب المنافع.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ كأنها والآية المتقدمة بيان ل التَّغابُنِ وتفصيل له.
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١١ الى ١٣]
مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣)
مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ إلا بتقديره وإرادته. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ للثبات والاسترجاع عند حلولها، وقرئ «يَهْدِ قَلْبَهُ» بالرفع على إقامته مقام الفاعل وبالنصب على طريقة سَفِهَ نَفْسَهُ، و «يهدأ» بالهمزة أي يسكن. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ حتى القلوب وأحوالها.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي فإن توليتم فلا بأس عليه إذ وظيفته التبليغ وقد بلغ.
اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لأن إيمانهم بأن الكل منه يقتضي ذلك.
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١٤ الى ١٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ يشغلكم عن طاعة الله أو يخاصمكم في أمر
الدين أو الدنيا. فَاحْذَرُوهُمْ ولا تأمنوا غوائلهم. وَإِنْ تَعْفُوا عن ذنوبهم بترك المعاقبة. وَتَصْفَحُوا بالإِعراض وترك التثريب عليها. وَتَغْفِرُوا بإخفائها وتمهيد معذرتهم فيها. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعاملكم بمثل ما عملتم ويتفضل عليكم.
َّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
اختبار لكم. اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
لمن آثر محبة الله وطاعته على محبة الأموال والأولاد والسعي لهم.
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١٦ الى ١٨]
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي ابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم. وَاسْمَعُوا مواعظه. وَأَطِيعُوا أوامره. وَأَنْفِقُوا في وجوه الخير خالصاً لوجهه. خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ أي افعلوا ما هو خير لها، وهو تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر، ويجوز أن يكون صفة مصدر محذوف تقديره: انفاقاً خيراً أو خبراً لكان مقدراً جواباً للأوامر. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ سبق تفسيره.
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ تصرفوا المال فيما أمره. قَرْضاً حَسَناً مقروناً بإخلاص وطيب قلب. يُضاعِفْهُ لَكُمْ. يجعل لكم بالواحد عشراً إلى سبعمائة وأكثر، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب «يضعفه لكم».
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ببركة الإنفاق. وَاللَّهُ شَكُورٌ يعطي الجزيل بالقليل. حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة.
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ لاَ يخفي عَلَيْهِ شَيْء. الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تام القدرة والعلم.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة التغابن دفع عنه موت الفجأة»
والله أعلم.
Icon