ﰡ
فقوله :﴿ ولا أنتم عابدون ما أعبد ﴾ أي : لا أنتم تعبدون، هذا جواب بعضهم.
وقال آخرون : إن «ما » هنا مصدرية لا موصولة، أي لا تعبدون عبادتي. ويلزم من تبرئتهم عن عبادته تبرئتهم عن المعبود ؛ لأن العبادة متعلقة به، وليس هذا بشيء، إذ المقصود : براءته من معبوديهم، وإعلامه أنهم بريئون من معبوده تعالى. فالمقصود المعبود لا العبادة.
وقيل : إنهم كانوا يقصدون مخالفته صلى الله عليه وسلم حسدا له، وأنفة من اتباعه. فهم لا يعبدون معبوده لا كراهية لذات المعبود، ولكن كراهية لاتباعه صلى الله عليه وسلم، وحرصا على مخالفته في العبادة. وعلى هذا فلا يصح في النظم البديع والمعنى الرفيع إلا لفظ «ما » لإبهامها ومطابقتها الغرض الذي تضمنته الآية.
وقيل في ذلك وجه رابع، وهو : قصد ازدواج الكلام في البلاغة والفصاحة مثل قوله :﴿ نسوا الله فنسيهم ﴾ [ التوبة : ٦٧ ] ﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ﴾ [ البقرة : ١٩٤ ] فكذلك ﴿ لا أعبد ما تعبدون ﴾ ومعبودهم لا يعقل. ثم ازدوج مع هذا الكلام قوله :﴿ ولا أنتم عابدون ما أعبد ﴾ فاستوى اللفظان، وإن اختلف المعنيان، ولهذا لا يجيء في الأفراد مثل هذا، بل لا يجيء إلا ( من ) كقوله :﴿ قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر ﴾ [ الأنعام : ٦٣ ]، ﴿ قل من يرزقكم ﴾ [ يونس : ٣١ ]، ﴿ أمن يملك السمع والأبصار ﴾ [ يونس : ٣١ ] ﴿ أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ﴾ [ النمل : ٦٣ ] ﴿ أمن يجيب المضطر إذا دعاه ﴾ [ النمل : ٦٢ ] ﴿ أمن يبدأ الخلق ﴾ [ النمل : ٦٤ ] إلى أمثال ذلك.
وعندي فيه وجه خامس، أقرب من هذا وهو : أن المقصود هنا ذكر المعبود الموصوف بكونه أهلا للعبادة مستحقا لها، فأتى ب «ما » الدالة على هذا المعنى. كأنه قيل : ولا أنتم عابدون معبودي الموصوف بأنه المعبود الحق، ولو أتى بلفظة «من » لكانت إنما تدل على الذات فقط، ويكون ذكر الصلة تعريفا، لا أنه هو جهة العبادة.
ففرق بين أن يكون كونه تعالى أهلا لأن يعبد، تعريفا محضا أو وصفا مقتضيا لعبادته. فتأمله فإنه بديع جدا. وهذا معنى قول النحاة : أن ( ما ) تأتي لصفات من يعلم.
ونظيره :﴿ فانكحوا ما طاب لكم من النساء ﴾ [ النساء : ٣ ] لما كان المراد الوصف، وأن السبب الداعي إلى الأمر بالنكاح، وقصده - وهو الطيب - فتنكح المرأة الموصوفة به، أتى ب «ما » دون «من »، وهذا باب لا ينخرم، وهو من ألطف مسالك العربية.
وإذ قد أفضى الكلام بنا إلى هنا، فلنذكر فائدة ثانية على ذلك، وهي تكرير الأفعال في هذه السورة.
ثم فائدة ثالثة : وهي كونه كرر الفعل في حق نفسه بلفظ المستقبل في الموضعين، وأتى في حقهم بالماضي.
ثم فائدة رابعة : وهي أنه جاء في نفي عبادة معبودهم بلفظ الفعل المستقبل، وجاء في نفي عبادتهم معبوده باسم الفاعل.
ثم فائدة خامسة : وهي كون إيراده النفي هنا ب «لا » دون «لن ».
ثم فائدة سادسة : وهي أن طريقة القرآن في مثل هذا أن يقرن النفي بالإثبات، فينفي عبادة ما سوى الله ويثبت عبادته، وهذا هو حقيقة التوحيد. والنفي المحض ليس بتوحيد. وكذلك الإثبات بدون النفي. فلا يكون التوحيد إلا متضمنا للنفي والإثبات، وهذا حقيقة «لا إله إلا الله ».
فلم جاءت هذه السورة بالنفي المحض، وما سر ذلك ؟
وفائدة سابعة : وهي ما حكمة تقديم نفي عبادته عن معبودهم، ثم نفي عبادتهم عن معبوده ؟
وفائدة ثامنة : وهي أن طريقة القرآن إذا خاطب الكفار أن يخاطبهم بالذين كفروا، والذين هادوا، كقوله :﴿ يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم ﴾ [ بالتحريم : ٧ ]، ﴿ قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله ﴾ [ الجمعة : ٦ ] ولم يجيء :﴿ يا أيها الكافرون ﴾ إلا في هذا الموضع، فما وجه هذا الاختصاص ؟
وفائدة تاسعة : وهي : أن في قوله :﴿ لكم دينكم ولي دين ﴾ [ الكافرون : ٦ ] معنى زائد على النفي المتقدم، فإنه يدل على اختصاص كل بدينه ومعبوده، وقد فهم هذا من النفي فما أفاد التقسيم المذكور ؟
وفائدة عاشرة : وهي تقديم ذكرهم ومعبودهم في هذا التقسيم والاختصاص، وتقديم ذكر شأنه وفعله في أول السورة.
وفائدة حادية عشرة : وهي أن هذه السورة قد اشتملت على جنسين من الأخبار :
أحدهما : براءته من معبودهم، وبراءتهم من معبوده، وهذا لازم أبدا.
الثاني : إخباره بأن له دينه، ولهم دينهم.
فهل هذا متاركة وسكوت عنهم، فيدخله النسخ بالسيف، أو التخصيص ببعض الكفار، أم الآية باقية على عمومها وحكمها، غير منسوخة ولا مخصوصة ؟
الجواب على المسائل السابقة :
فهذه عشر مسائل في هذه السورة. ذكرنا منها مسألة واحدة، وهي وقوع ( ما ) فيها بدل ( من ).
فنذكر المسائل التسع مستمدين من فضل الله، مستعينين بحوله وقوته، متبرئين إليه من الخطأ، فما كان من صواب فمنه وحده لا شريك له، وما كان من خطأ فمنا ومن الشيطان، والله تعالى ورسوله بريئان منه.
وأما المسألة الثانية : وهي فائدة تكرار الأفعال. فقيل فيه وجوه :
أحدها : أن قوله :﴿ لا أعبد ما تعبدون ﴾ نفي للحال والمستقبل، وقوله :﴿ ولا أنتم عابدون ما أعبد ﴾ مقابله، أي لا تفعلون ذلك. وقوله ﴿ ولا أنا عابد ما عبدتم ﴾ أي لم يكن مني ذلك قط قبل نزول الوحي، ولهذا أتى في عبادتهم بلفظ الماضي فقال :﴿ ما عبدتم ﴾ فكأنه قال : لم أعبد قط ما عبدتم. وقوله :﴿ ولا أنتم عابدون ما أعبد ﴾ مقابله، أي لم تعبدوا قط في الماضي ما أعبده أنا دائما.
وعلى هذا فلا تكرار أصلا. وقد استوفت الآيات أقسام النفي ماضيا وحالا ومستقبلا عن عبادته وعبادتهم بأوجز لفظ وأحضره وأبينه، وهذا إن شاء الله أحسن ما قيل فيها. فلتقتصر عليه ولا تتعداه إلى غيره. فإن الوجوه التي قيلت في مواضعها، فعليك بها.
وأما المسألة الثالثة، وهي تكريره الأفعال بلفظ المستقبل حين أخبر عن نفسه وبلفظ الماضي حين أخبر عنهم.
ففي ذلك سر، وهو الإشارة والإيماء إلى عصمة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم عن الزيغ والانحراف عن عبادة معبوده، والاستبدال به غيره، وأن معبوده الحق واحد في الحال والمآل على الدوام، لا يرضى به بدلا، ولا يبغي عنه حولا، بخلاف الكافرين فإنهم يعبدون أهواءهم، ويتبعون شهواتهم في الدين وأغراضهم، فهم بصدد أن يعبدوا اليوم معبودا، وغدا غيره، فقال :﴿ لا أعبد ما تعبدون ﴾ يعني الآن ﴿ ولا أنتم عابدون ما أعبد ﴾ أي الآن أيضا. ثم قال :﴿ ولا أنا عابد ما عبدتم ﴾ يعني ولا أنا فيما يستقبل يصدر مني عبادة لما عبدتم أيها الكافرون، وأشبهت ما هنا رائحة الشرط، فلذلك وقع بعدها الفعل بلفظ الماضي، وهو مستقبل في المعنى، كما يجيء ذلك بعد حرف الشرط، كأنه يقول : مهما عبدتم من شيء فلا أعبده أنا.
فإن قيل : وكيف يكون فيها الشرط، وقد عمل فيها الفعل، ولا جواب لها وهي موصولة. فما أبعد الشرط منها ؟
قلنا : لم نقل أنها نفسها شرط، ولكن فيها رائحة منه، وطرف من معناه لوقوعها على غير معين، وإبهامها في المعبودات وعمومها. وأنت إذا ذقت معنى هذا الكلام وجدت معنى الشرط باديا على صفحاته. فإذا قلت لرجل ما - تخالفه في كل ما يفعل - : أنا لا أفعل ما تفعل. ألست ترى معنى الشرط قائما في كلامك وقصدك، وأن روح هذا الكلام : مهما فعلت من شيء فإني لا أفعله ؟
وتأمل ذلك من مثل قوله تعالى :﴿ قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ﴾ [ مريم : ٢٩ ] كيف تجد معنى الشرطية فيه ؟ حتى وقع الفعل بعد «من » بلفظ الماضي، والمراد به المستقبل، وأن المعنى : من كان في المهد صبيا فكيف نكلمه ؟ وهذا هو المعنى الذي حام حوله من قال من المفسرين والمعربين : أن «كان » نبيا بمعنى «يكون »، لكنهم لم يأتوا إليه من بابه ؛ بل ألقوه عطلا من تقدير وتنزيل، وعزب فهم غيرهم عن هذا، للطفه ودقته. فقالوا :«كان » زائدة.
والوجه ما أخبرتك به، فخذه عفوا، لك غنمه، وعلى سواك غرمه. هو على «من » في الآية قد عمل فيها الفعل وليس لها جواب، ومعنى الشرطية قائم فيها، فكذلك في قوله :﴿ ولا أنا عابد ما عبدتم ﴾ وهذا كله مفهوم من كلام فحول النحاة كالزجاج وغيره.
فإذا ثبت هذا فقد صحت الحكمة التي من أجلها جاء الفعل بلفظ الماضي من قوله :﴿ ولا أنا عابد ما عبدتم ﴾ بخلاف قوله :﴿ ولا أنتم عابدون ما أعبد ﴾ لبعد «ما » فيها عن معنى الشرط، تنبيها من الله على عصمة نبيه أن يكون له معبود سواه، وأن يتنقل في المعبودات تنقل الكافرين.
أما المسألة الرابعة : وهي أنه لم يأت النفي في حقهم إلا باسم الفاعل، وفي جهته جاء بالفعل تارة، وباسم الفاعل أخرى.
فذلك - والله أعلم- لحكمة بديعة وهي : أن المقصود الأعظم براءته من معبوديهم بكل وجه وفي كل وقت. فأتى أولا بصيغة الفعل الدالة على الحدوث والتجدد، ثم أتى في هذا النفي بعينه بصيغة اسم الفاعل في الثاني : أن هذا ليس وصفي ولا شأني، فكأنه قال : عبادة غير الله لا تكون فعلا لي ولا وصفا لي. فأتى بنفيين لمنفيين مقصودين بالنفي.
وأما في حقهم فإنما أتى بالاسم الدال على الوصف والثبوت دون الفعل. أي أن الوصف الثابت اللازم العائد لله منتف عنكم، فليس هذا الوصف ثابتا لكم، وإنما ثبت لمن خص الله وحده بالعبادة، لم يشرك معه فيها أحدا، وأنتم لما عبدتم غيره فلستم من عابديه. وإن عبدوه في بعض الأحيان، فإن المشرك يعبد الله ويعبد معه غيره، كما قال أهل الكهف :﴿ وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله ﴾ [ الكهف : ١٦ ] أي اعتزلتم معبوديهم، إلا الله، فإنكم لم تعتزلوه. وكذا قال المشركون عن معبوديهم :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣١ ] فهم كانوا يعبدون معه غيره، فلم ينف عنهم الفعل لوقوعه منهم، ونفى الوصف ؛ لأن من عبد غير الله لم يكن ثابتا على عبادة الله موصوفا بها.
فتأمل هذه النكتة البديعة، كيف تجد في طيها أنه لا يوصف بأنه عابد لله، وأنه عبده المستقيم على عبادته : إلا من انقطع إليه بكليته، وتبتل إليه تبتيلا، لم يلتفت إلى غيره، ولا عبدا له.
وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة، التي هي إحدى سورتي الإخلاص، التي تعدل ربع القرآن، كما جاء في بعض السنن. وهذا لا يفهمه كل أحد، ولا يدركه إلا من منحه الله فهما من عنده. فلله الحمد والمنة.
وأما المسألة الخامسة، وهي : أن النفي في هذه السورة أتى بأداة «لا » دون «لن »، فلما تقدم تحقيقه عن قرب أن النفي «بلا » أبلغ منه «بلن » وأن لا أدل على دوام النفي وطوله من «لن »، وأنها للطول والمد الذي في لفظها طال النفي بها واشتد، وأن هذا ضد ما فهمته الجهمية والمعتزلة من أن «لن » إنما تنفي المستقبل، ولا تنفي الحال المستمر النفي في الاستقبال، وقد تقدم تقرير ذلك بما لا تكاد تجده في غير هذا التعليق، فالإتيان «بلا » متعين هنا. والله أعلم.
وأما المسألة السادسة : وهي اشتمال هذه السورة على النفي المحض، وهذا هو خاصة هذه السورة العظيمة، فإنها سورة البراءة من الشرك، كما جاء في وصفها : أنها براءة من الشرك. فمقصودها الأعظ