تفسير سورة الفاتحة

تفسير الراغب
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب تفسير الراغب الأصفهاني المعروف بـتفسير الراغب .
لمؤلفه الراغب الأصفهاني . المتوفي سنة 502 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قال بعض العلماء إنما قال " بسم الله " ولم يقل " الله " لأنه لما استحب الاستعانة بالله تعالى في كل أمر يفتتح به من قراءة وغيرها، فبعضهم - يذكره - بقلبه، وبعضهم يزيد عليه ويقوله بلسانه ويكون أبلغ - و " ذكر الله مستعمل في كل ذلك " - وألفاظ الاستعانة نحو " أستعين بالله " و " اللهم أعني " ونحو ذلك كثير، فصار لفظة " بسم الله " مستغني به عن جميعها وقائماُ مقامها، ولو قال " بالله " (لكان يقتضي الاستعانة) بهذه اللفظة فقط و " اسم - ههنا - موضوع موضع المصدر، أي: التسمية، نحو قوله: وبَعَدَ عَطَائِكَ المْائَةَ الرَّتَاعاَ
أي: إعطائك، وكما وضع " السلام " موضع " التسليم ".
وذكر أبو عبيدة أن قوله " بسم الله " معناه: الله - والاسم زيادة - واحتج بقول الشاعر:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمَ السَّلاّمِ عَلَيْكُمَا...
وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَامِلاً فَقَدِ اعْتَذَرَ.
وإنما المعنى أن القائل إذا قال " الله أبتدى " فمعناه: بهذا الاسم.
وإذا قال: " بسم الله " فإن المقصود به " المسمى " فصار قول القائل " أفتتح باسم الله " يفيد فائدة أفتتح الله.
وما ذكر من الخلاف في أن " الأسم " هل هو " المسمى "؟ أو " غيره ".
فقولان قالواهما بنظرين مختلفين، وكلاهما صحيح بنظر ونظر، وذاك أن من قال: الاسم الذي هو زيد أو عمرو، هو المسى، فإنما نظر إلى نحو قولهم: " رأيت زيداً "، و " زيد رجل فاضل "، فإن " زيداً " - ههنا - عبارة عن المسمى، والرؤية تعلقت به، ومن قال: هو - غير المسمى، فإنه نظر إلى [نحو]- " قولهم ": سميت ابني زيداً و " زيد اسم حسن "، وإنما عنى: أني سميت: بهذا اللفظ الذي هو " ز ي د " وأن هذا محكوم عليه بالحسن.
فإذا - قولك: زيد حسن لفظ مشترك يصح أن يعني به أن هذا اللفظ حسن وأن يعني به أن المسمى به حسن، ونحو هذا الاشتباه في قولك: هذا إنسان، فإنه يستعمل على ضربين أحدهما
47
أن يختلف أو يشك في اسمه، فيقال: هذه إنسان أي اسمه إنسان، والثاني: أن يختلف أو يشك في جوهره، فيقال هذا إنسان أي جوهرة الإنسانية، وكثير من المواضع مثل هذا يقع فيه المغالطة، وأما تصور من قال: لو كان الاسم هو المسمى، لكان من قال: " النار " أحرقت فمه، فهذا تصور بعيد.
فإن عاقلاً لا يقول: إن هذه الحروف التي هي " ز ي د " هو الشخص.
واشتقاق " اسم ": قيل هو من " وسمت "، لأن الاسم علامة للمسمى، وهذا وإن كان من حيث المعنى يصح، فتصريف الكلمة يبطله، نحو سميت، والتسمية، أو والمسمى، ولأن ألف الوصل لا يدخل فيما حذف فاؤه نحو: " عِدَّةٌ " و " زِنَةٌ "، والضحيح: أن اصله من " السمو "، لأن الاسم شعار للمسمى ورفعه له.
وأصله: سمو، كعضو، وحنو، أو سمو، كجبل وزجمل، لقولهم في الجمع: أسماء، وقد كثر " أفعال " في جميع هذين البنائين، ولا يُجْعَلُ فُعْلاً " كتُرْسٍ " و " أتراس "، لأن باب " فُعْل " لم يمثر فيما آخره واو استثقالاً، وأما قول الشاعر:
بِاسْمِ الَّذِي في كُلَّ سُورَةٍ سمِهُ
فقد قيل إنما ضم اتباعاً لما بعده، ولو كان الميم مكسوراً لم يجز في السين الضمة، فأما لفظة: الله، فيجب أن يعلم أن اسماء الله تعالى كلها مشتقة باتفاق أهل اللغة إلا لفظة الله، فإنه مختلف فيها: فبعضهم جعلها كالعلم مستدلاً بأنه يوصف ولا يوصف به كالأسماء الأعلام، ويقوي ذلك إنه يقال بالتنوين - إلاهاً - ولأنه قال تعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾، ويعني به " الله ".
وآخرون قالوا هو مشتق، ثم اختلف بعد ذلك فيها:
فقيل: اصله " إلاه " مصدر من " اله " " يأله " أي: عبد فسمي به كقولهم في صفاته تعالى: " السلام " وهو في الأصل مصدر وزسموا الشمس " إلهة " لعبادتهم لها.
ولذلك نهاهم الله تعالى
48
بقوله: ﴿لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ﴾، وسموا الأصنام آلهة لذلك، وأصله: إلاه، فحذفوا همزته، وجعلوا الألف واللام عوضاً منها، ولكونهما عوضاً استجيز قطع الهمزة الموصولة، وإدخال حرف النداء عليه في قولهم: " يالله " وقال سيبويه - في موضع: أصله: لاه، على " فَعْل " من لاه - يلوه لياهاً، أي: احتجب، قالوا: وذلك إشارة إلى ما قال تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾، وقيل: من أله: إذا فزع، وألهه: أي: أجارهُ وأمَّنَهُ.
وإلا له اسم المفزوع إليه كالإمام لمن يؤتم به. وقيل هو من أله يأله، إذا تحير، وكأنه عنى ذلك أمير المؤمنين - ﷺ -، بقوله: " كَلَّ دونَ صفاته تحبيرُ اللغات وضل فيما هناك تصاريف والصفات "، ومنع قيل في صفة المفازة: والعاتية تأله العينُ وَسْطَهَا " وقيل: أصله: ولاه، من وَلِهَ يَوْلهُ " فقلب الواو همزة، فيكون الإله اسماً لما يُؤْلَهُ نحوه.
فمن الناس من قال: إن ذلك قيل لأن الأشياء تأله نحوه إما تسخيراً، وإما أرادة وقصداً، كما أنه يُسَبَّحُ له لذلك.
وعلى هذا قال: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ وذلك إما تسخيراً وإما إراداة ومنهم من قال ذلك مختص بالعقول التي فطرها الله تعالى وأشار إليها بقوله: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾، لأن العقول بفطرتها دالة على وحدانية ومُنْبِئّةٌ عن وجوب شكره ما لم يدسها صاحبها كما قال تعالى: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾، ومنهم من قال: ذلك مختص بالأحوال التي ينقطع الإنسان عن غيره، فيقصده بفكره، وإليه أشار بقوله: ﴿ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُون﴾، ومنهم من قال: مختص بالعباد المخلصين والعبادة عنه بذلك كالعبادة عنه بالمحبوب، والمراد المشار إليها بقوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ وبقوله: ﴿الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾، وقد أطلق بعض الأولياء وبعض القدماء عليه تعالى لفظ المعشوق، والمشوق، إلا أن كرهه أهل العلم لأمرين: عدم التوقيف فيه، وكون العشق في هذه اللغة متعارفاً في اللذات البدنية...
49
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾: الرحمة - في اللغة - رقة مقتضية للتعطف والتفضل، فمبدأها الرقة التي هي انفعال، ومنتهاها: العطف والتفضل الذي هو فعل.
فالإنسان إذا وصف بالرحمة، فتارة يراد به حصول المبدأ الذي هو الرقة، وتارة يراد به المنتهى الذي هو التفضل والعطف، وتارة يرادان معاً، وإذا وصف بها الباري، فليس يراد به إلا المنتهى الذي هو الفعل دون المبدأ الذي هو الانفعال، إذ هو منزه عن الانفعالات وعن كل نقص تعالى الله عن ذلك، " الرؤف " فإن الرأفة انعصار القلب عن مشاهدة شدة مقتضية للإغاثة، فمتى وصف به الإنسان صح أن يراد به المبدأ الذي هو انعصار القلب.
وإذا وصف به الباري، فليس يراد به إلا الغاية التي هو الإغاثة، وعلى ذلك الجود فإنهه اختصاص بخلق مقتض لأن لا يدخر عن المحتاج ما ينتفع به عليماً يجب ومتى وصف به الباري تعالى فالمراد به النهاية التي هي ترك الإدخار دون الاختصاص بالخلق.
وهذا التفسير - أغنى في " الرحمة " - هو على ما روي عن التابعين، حيث قالوا " الرحمة من الله إنعام وإفضال، ومن الآدميين: رقة وتعطف ".
وهذه الطريقة أظهر وأبين.
وأشبه بنظر السلف، من نظر من تخبط في تفسير ذلك زاعماً أن الوصف لا يختلف معانيه باختلاف الموصوفين، وذلك أن فاعل ذلك لم يتصور أنه قد يكون بين مبدأ المعنى ومنتهاه بون بعيد.
فإن قولنا " العالم " وإن كان موضوعه للمدح، فإن مبدأ، أن يتخصص الموصوف به بمعلومات ما يخرج بها عن حد الجهالة، ووسطه: أن يحصل له معلومات كثيرة تفوق بها أكثر العلماء، وغايته: أن يحيط بجميع المعلومات بحيث لا يخفي عليه شيء، ولا يدركه سهو ولا غفلة ولا نسيان.
ومعلوم أن المبدأ لأكثر الخلائق، ووسطه ليس إلا للخصائص، ومن الأنبياء والحكماء، وغايته: ليس إلا لله تعالى: وذلك ظاهر ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ فأما لفظة ﴿الرَّحْمَنِ﴾ فليس يطلق إلا لله كلفظة الله، فإنهما اسمان اختص بهما الباري جل وعز باتفاق، ولأجل ذلك قال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ فالرحمن هو الذي كثرت رحمته وتكررت ووسعت كل شيء ولذلك فسر بأنه الذي يكون منه تعطف بعد تعطف وتفضل.
وأما ﴿الرَّحِيمِ﴾، فقد
50
يوصف به غيره إذا كان معناه: الذي كثرت رحمته، وعلى ذلك: " نديم " و " ندمان "، فإن " النديم ": هو الذي كثرت منادمته.
و" النُّدْمَانُ ": هو الذي مع كثرة ذلك منه تكررت عنه، ولذلك قال أهل اللغة: " ندمان " أبلغ من " نديم "، ولفظهما يدل على ذلك، فإن العرب إذا أرادوا زيادة معنى زادوا في اللفظ في الأمر العام، كأنما يحاكي باللفظ المعنى، نحو " قَطَعَ " و " قَطَّعَ "، و " كُبَار " و " كُبَّار "، و " أحمر: و " احمار "، وذلك فصل قد أحكم في غير هذا الموضع،
فإن قيل: ما الفائدة في الجمع بينهما مع أن " الرحمن " يقتضي معنى " الرحيم " إذ هو أبلغ منه؟ قيل: إنه تعالى لما خلق الدارين وكان في دار الدنيا منعماً على المؤمن والكاففر: واختص رحمته بالمؤمنين في الآخرة - ولذلك قيل: رحمن الدنيا، ورحيم الآخرة، وقال تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ جمع بين الوصفين، وأما ذكر " الرحيم " بعد " الرحمن " فذكر خصوص بعد عموم.
وروى عن عطاء أنه قال: كأن الله أختص بالرحمن، فلما تسمى بذلك بعض الكفار قال: " الرحمن الرحيم ": إذ كان الاسمان معاً لم وصف غير الله به بوجه.
وقدم ذكر " الله " إذ هو أخص الأسماء.
و" الرحم " و " الرحمة " مشتق بعضها من بعض، وقد دل على ذلك قوله عليه السلام: (لما خلق الله الرحم، قال: أنا الرحمن، وأنت الرحم، شقتت لك اسماً من اسمي، فو عزتي وجلالي لأصلن من وصلك، ولأقطعن من قطعك).
ومعنى ذلك أن الله تعالى لما جعل بين نفسه وبين عباده سبباً، فهو كما أنه كتب على نفسه الرحمة لعباده، وأوجب عليهم من مقابلتها شكر نعمته لما كان هو السبب الأول في وجودهم وخلق قواهم وقدرهم وسائر خيراتهم، كذا أيضاً (جعل) بين ذوي اللُّحْمَةِ بعضهم مع بعض سبباً أوجب به على الأعلى التوقر على الأدون، وعلى الأدون توقير الأعلى، فصار بين " الرحم " و " الرحمة " والرحمة مناسبة معنوية، كما أن بينهما نسبة لفظية، ولهذا عظم شكر الوالدين، فقرنه بشكره في قوله تعالى: ﴿اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ تنبيهاً أنهما السبب الأخير في وجود الولد، كما أن الله تعالى السبب الأول في وجود كل موجود.
51
(سورة الفاتحة)
قوله - عز وجل -: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾: الآية (٢) سورة الفاتحة.
الحمد: هو الثناء بالفضيلة.
والشكر: مقابلة النعمة قولاً وعملاً.
ولما كانت النعمة لا تخرج من كونها فضيلة، صار الحمد منطوياً على معنى الشكر، فكل ذكر حمد، وليس كلُّ حَمْدٍ شكراً.
ولكون الحمد أعم قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما: طالحمد هو الشكر لله والاستخذاء والإقرار بنعمه "، وقال عليه السلام " الُحَمُد رَاْسُ الشُْكِرْ، ومَاَ شَكَر الله عَبْدَ لَمْ يَحْمَدْهُ "، ولذلك قيل: الحمد لله شكراً ولم يقل: شكرت الله حمداً، ولكون الشمر بالفعل كما يكون بالقول، قيل: دابة شكور، إذا ظهر سمنها بأدنى علف لها، وقال تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾.
وأما الفرق بين " الحمد و " المدح ": فالحمد أخص، إذ لا يستحق إلا بالفعل الاختياري، والمدح قد يستحق بما يكون من قبل الله تعالى، يقال: فلان ممدوح على جوده ومحمود.
وممدوح على حسنه، ولا يقال محمود.
والمدح: أكثر ما يقال في الأشياء النافعة التي لم تبلغ الغاية، كالثروة والجلادة، والجود، والحمد يقال في ذلك، وفيما فوقه، فيقال: الجود محمود.
والله تعالى محمود.
وقل ما يقال: الله ممدوح.
ودخول الألف واللام في " الحمد " للجنس، تنبيهاً أن الحمد كله في الحقيقة لا يستحق سواه، وإن كل حمد لغيره فهو عارية له.
والله تعالى هو المستحق له في الحقيقة، إذ هو سبب كل نعمة وخير، ولذلك قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾،
إن قيل: لِمَ لَمْ يَقُلْ: الحمد لي؟ قيل: لأن ذلك تعليم منه لعباده، كأنه قال:
قولوا: بسم الله، الحمد لله، بدلالة قوله: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾
52
وقيل: إن ذلك كقول الرجل لابنه: الْحَمْدُ في كذا لأبيك، فيأتي بلفظ الغائب ليكون أبلغ.
وقيل: إن " قل " غير مقدر في هذا الموضع، لأن الله حمد نفسه ليقتدي به، في حمده، بدلالة ما روي عن النبي - ﷺ -: " ليس شيء أحب إلى الله من الحمد، أثنى على نفسه فقال: " الحمد لله "، ولأن أرفع حمد ما كان من أرفع حامد وأعرفهم بالمحمود وأقدرهم على إيفاء حقه في الحمد، وما حامد أرفع منه وأعرف بذاته وأقدر على حمده منه تعالى، كما لا محمود أرفع منه وأعلى، وقال بعضهم: كل ثناء أثنى الله على نفسه، فهو في الحقيقة إظهاره بفعله.
فحمده لنفسه: هو بث آلائه، وإظهار نعمائه بمحكمات أفعاله المقتضية لحمده.
فكأن قوله: " الحمد لله " - تقديره: الحمد لله ظاهر بآلائه، وعلى ذلك قوله: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو﴾، فإن شهادته لنفسه إيجاده الأشياء دالة على وحدانيته ناطقة بالشهادة له.
وعلى هذا قال ذو النون: لما شهد الله لنفسه، أنطق كل شيء بشهادته:
فَفيِ كُلَّ شَيَءٍ لهُ شَاهِدً...
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
وعلى ذلك قوله تعالى:
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾، وقوله: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
إن قيل: استحسن حمده لنفسه وقد علم في الشاهد استقباح حمد الإنسان نفسه حتى قيل لحكيم:
ما الذي لا يحسن وإن كان حقاً؟ فقال: مدح الرجل نفسه؟! قيل: إنما قبح ذلك من الإنسان، لأنه ما من أحد إلا والنقص فيه ظاهر، ولو لم يكن إلا في كون أثر الصنعة عليه وحاجته إلى الكمال، ومن خفي عليه نقصه، فقد خدع عنه عقله.
ثم مدح الإنسان نفسه ليس بقبيح على الإطلاق، فإن ذلك مستحسن عند تنبيه المخاطب على ما خفي عليه من حال المخاطب، كقول عالم يحث المتعلم على الأخذ عنه: اسمع مني فإنك لا تجد فيه مثلي.
وعلى ذلك قول يوسف - عليه السلام: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾
53
إن قيل: " الحمد لله " خبر.
ويقتضي مخبراً.
فما الفائدة في إيراده في الخلوات؟ قيل: أما في القرآن.
فلما ندب الله تعالى إلى تلاوته.
وأما في غيره.
فلئى ينفك من حمده في شيء من الأحوال، كما لا ينفك من نعمه اعترافاً له بها، فكأنه هو المخبر.
قوله - عز وجل -:
﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الآية: (٢) سورة الفاتحة
الرب - في الأصل - التربية: يقال: رَبَّهُ ورَبَّاهُ، فسُمي الرابُّ رباً لزيادة معنى تُصوُرَّ منه [لرحمته] ومنه قيل:
" لأن يَرُبُّني رجُل من قريش أحبُّ إلي من أن يَرُبُّني رجل من هوازن " فـ " رب العالمين ": هو المتكفل بمصلحتهم، ولا يقال: " الرب " - مطلقاً بالألف واللام - إلا الله تعالى.
وتسميتهم إياه بذلك للنظر إلى آلائه.
قال بعض المحققين - في الفرق بين قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ قال: حيث خاطب الناس كافة حثهم على اتقائه برؤية آلائه، لاشتراكهم كلهم في معرفتها وتصورهم إياها.
وحيث خاطب المؤمنين حثهم على اتقائه بلا واسطة.
و" العالم ": اسم للفلك وما يحويه، وجميع ما فيه من الجواهر والأعراض.
وهو في الأصل:: اسم لما يعلم به.
و" فاعل ": كثيراً ما يجئ في اسم الآلة التي فعل بها الشيء كـ " الطابع " و " الخاتم " و " القالب ".
فجعل بناؤه على هذه الصيغة لكونه كالآلة في الدلالة وعلى صانعه.
وأما جمعه، فقد قيل لأن الله تعالى بضعة عشرين عالماً.
ولما كان في جملاتها الناس جمع جمعهم إذ من شأن الإنسان - إذا شارك غيره في اللفظ - أن يكون الحكم في اللفظ له.
وقيل: لأنه عنى به أصناف الخلائق من الملائكة والجن والإنس دون غيرها - وإليه ذهب ابن عباس ومجاهد -[رضي الله عنهما]، وقيل: عنى به الناس وجعل كل واحد منهم عالماً - قال ذلك جعفر بن محمد، قال: العالمُ عالَماَن، عالم كبير، وهو الفلك بما فيه، وعالم صغير، وهو الإنسان.
54
وقال: سمَّى كُلُّ إنسان عالماًَ، لأن فيه جواهر العالم الأكبر من الأخلاط الأربعة، ولأن لحمه كالأرض الرخوة، وعظامه كالجبال، ودمه الجاري في العروق كالمياه في الأنهار، ونفسه كالريح، وشعره كالنبات.
وفيه من الملك: العقل، ومن البهائم: الشهوة، ومن النبات: النمو والتغذي.
قال: فصار عالماً يعلم به وحدانيته صانعه كما يُعْلَمُ بالعالم الكبير.
ولذلك قال تعالى:
﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾، وقال عليه السلام: " أعلمكم بنفسه أعلمكم بربه "، وقيل - فيما أنزل الله في السفر الأول:: من عرف نفسه فقد عرف ربه " وإلى نحو ذلك أشار بقوله - عز وجل -: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ﴾ تنبيهاً أنهم لو تفكروا في أنفسهم لما خفي معرفته عليهم.
وقال المفضل بن سلمة العرب تقول: " العالمين " - بالياء - في موضع النصب والرفع والجر، إلا قوماً من كنانة يقولون: " اللذون " قال: ويدل على ذلك أن " فاعل " لم يجمع السلامة قال: وعلى ذلك " الأقورين " و " الفتكرين " و " البرجين "، وذكر أن من قال: العالمون، فقد وقع عليه السهو حيث لم يجد ذلك في موضع الرفع، كما وجد الذين في موضع رفع، وذكر المبرد أن هذا سهو من قائله، لأنه رأى ذلك في القآن إما خفضاً أو نصباً.
قوله - عز وجل - ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ الآية: (٤) سورة الفاتحة.
قيل: الملك الذي يملك الأمر والنهي في الجمهور، وإنما شرط الجمهور لأن كل إنسان يملك ذلك في نفسه وما يختص به، ثم يقال له: ملك، وهذا إنما قاله بالنظر العامي وأما بالنظر الخاصي، فهو
55
في الحقيقة اسم لمن يملك السياسة من نفسه أو منها أو من غيرها، ومالك ذلك من نفسه أجل ملك وأكبر سلطان ولذلك قيل لحكيم: ما الملك الأعظم؟ فقال: أن يغلب الإنسان شهواته، بل لهذا قال عليه السلام لمن سأله أي الأعمال أشدُّ؟ فقال: " جهادُكّ هَواَكَ "، وقال: " رَجَعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر "، وحجة من قرأ ملك قوله تعالى: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ وقوله: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ والملك: مصدر " الملك " لا " المالك ".
وأما " المالك ": فهو الضابط للشيء المتصرف فيه بالحكم، ومنه " ملكت العجين ".
و" الوكيل ": وإن كان ضابطاً للشيء متصرفاً فيه - فإنه لا يقال له: " مالك " لما كانت يده يد غيره.
ويقال للصبي والمعتوه: " مالك " لما كان ذلك لهما حكماً وإن لم يكن لهما فعلاً.
وحجة قارئه قوله - عز وجل - ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾، فجعل الملك مملوكاً.
وقال ﴿وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾، وقوله: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا﴾.
فإن قيل: أيهما أبلغ؟ قيل: قال بعضهم: " مالك " أبلغ، لأنه يقال: مالك الدراهم والحيوانات والريح، ولا يقال ملكها.
وقيل: " الملك " أبلغ، لأنه لا يمكن إلا مع تعظيم.
وهما مختلفان في الحقيقة.
فإن الملك: هو المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين.
والمالك: هو المتصرف في الأعيان المملوكة على أي وجه كان.
فإن قيل: على أي وجه أضيف إلى اليوم؟ قيل: أما " ملك "، فعلى حد: يا سارق الليلة أهل الدار.
في أنه اتسع للظرف.
فجعله مفعولاً به، وأما " مالك " فمضاف إلى المفعول به.
لأنه تعالى هو موجده وضابطه.
وإذا أضيف إلى " الوقت " غير الله تعالى فيقال: فلان مالك يوم كذا.
فإنما هو على تجوز إذ كان حقيقة اليوم والوقت ليس بملك لغيره.
وأما اختصاص ذلك اليوم مع كونه في الحقيقة مالكاً لجميع الأشياء، وفي جميع الأزمنة - لأمرين: أحدهما: أنه قد ملك في الدنيا قوماً أشياء يبطل عنها ملكهم لها يوم القيامة، ولذلك قال: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾، وقال: ﴿نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا﴾، وقال: ﴿وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾
56
والثاني على وجه التعظيم، لأنهم يجعلون ما يستعظمونه ملكاً له نحو: بيت الله وناقة الله وتعظيم إياه على وجه أن اليوم الآخر لا انقضاء له ولا فناء، وجميع ما في الدنيا فإن، وقد علم أن الباقي أشرف من الفاني، فأما الدين فالجزاء، كقوله: ﴿وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾، وقيل: الدين عبارو عن الشريعة كقوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾، ومعناه يوم جزاء الدين، ومثل: الدين الطاعة، أي يوم جزاء الطاعة وخص الطاعة وإن كانت المجازاة عنها وعن المعصية لأمرين أحدهما إن كل أحد بطبعه في ذلك اليوم ولذلك قال: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ والثاني: أن الطاعة هي المقصودة بالجزاء ولأجلها خلقنا وعلى ذلك ذل قوله ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، وقرئ " مالك " - بالنصب - فقيل: هو نداء - فعلى هذا يقع في اللفظ عدول عن الخبر إلى الخطاب به.
وقيل: نصبه على المدح والعدول عن الخير إلى الخطاب حينئذ، يكون في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾
قوله - عز وجل -: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ الآية (٥) - سورة الفاتحة.
قال بعض النحويين: " إياك " كله اسم واحد.
وقال بعضهم: " الكاف " هو الاسم.
و" أياً ": وصلة له.
وهذان لا تنافي بينهما في الحقيقة، لأن ذلك بنظرين مختلفين، وذاك أن الضمير المتصل إذا قدم أو فصل بينه وبين المتصل به لا يحسن النطق به مفرداً، فضم إليه: " إيا " ليصير بذلك كلاماً مستقلاً.
فمن قال: الضمير هو الكاف، فإنما اعتبر بذلك بعد انضمام " إيا " إلى الضمير.
والعرب كما أنهم يتحرون بالحروف المركبة إفادة المعنى، فقد يأتون ببعضها تهذيباً للفظ وتحسيناً له، بدلالة إدخالهم الحروف بين الحرفين المتنافرين في
57
التركيب، لئلا يقبح التفوه بهما.
وذلك قد أشبع الكلام فيه في غير هذا الكتاب.
" فـ إيا ": جعل وصلة لتحسين اللفظ بالضمير إذا قدم لما لم يحسن أن يقال: ل ألزمت.
وهُ ضربت كما أتوا بـ " ذي " لما أرادوا للوصف باسم الجنس في نحو قولهم: " مررت برجل ذي مال ".
وأتى بـ " الذي " لما أريد أن توصف بالمعرفة بالجمل.
وعلى ذلك لأتى " مثل " مع " الكاف " في نحو كمثله شيء لما لم يحسن إدخال الكاف على الضمير، فيقال: كَكَ، وكَهُ.
و" العبادة ": التذلل، ومنه: طريق معبد.
وفي المتعارف.
الاشتغال بالخدمة، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾
والعبد على ضربين: عبد بالإيجاد والتسخير: وذلك يطلق على كل أحد، وإياه عنى بقوله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ وعبد على طريق التخصيص وذلك قوله: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ واستثناهم إبليس بقوله ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ وقوله: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾.
فعلى الثاني: يصح أن يقال: فلان ليس عبداً.
وعلى هذا قيل: فلان عبد الهوى، وعبد الشهوة، وعبد الطاغوت، وقال تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾ وعلى ذلك قال عليه السلام: " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم "، والاستعانة: طلب المعونة، وهي ضربان: ضروري في الأمر وغير ضروري: فالضروري: ما لا يتم إيجاد الفعل من دونه، وبوجوده يوصف الإنسان بالاستطاعة للفعل.
وبعدمه يوصف بالعجز عنه، وهي بالقول المجمل أربعة: بنية صحيحة للفاعل وتصوره للفعل، وتأتي مادة له، وآلة يعمل بها، وذلك متصور في الكاتب، فإنه يحتاج إلى بنية صحيحة، وهي العضو: وإلى تصور لها وهو: المعرفة.
وإلة آلات كالدواة والقلم، وإلى مادة توجد الفعل فيها، وهو الكاغد.
وغير ضروري: وهو ما يصح إيجاد الفعل من دونه، لكن ربما يكون فيه الصعوبة، كمن يقصد مكاناً بعيداً فيعيره صديق له مركوباً، فيسهل عليه طريقه، فغير الضروري لا يمكن حصره.
ويصح التكليف من دون وجوده، وهو المعبر عنه بالتوفيق والتسهيل، وتسميه العامة: سعادة الجد، وجودة البخت.
وفي تيسيره ودفع ضده يستعمل في كثير من
58
الأدعية.
فإذا ثبت هذه الجملة.
فالاستعانة بالله: طلب الأمرين.
فبحصول الضروريات من المعاون يتوصل إلى اكتساب الثواب، وبحصول غير الضروريات منها يتسهل علينا السلوك إليها.
إن قيل: كيف قال: " إياك " نعبد ولو قال: " نعبدك " كان أوجز منه لفظاً؟ قيل: إن عادتهم أن يقدموا من الفاعل والمفعول ما القصد الأول إليه، والاهتمام متوجه نحوه، وإن كان في ذكر الجملة القصدان جميعاً.
تقول: بالأمير استخف الجند - إذا كان القصد الأول ذكر من وقع به استخفاف الجند - و " الأمير أستخف بالجند - إذا كان القصد الأول إلى من أقدم على الاستخفاف بهم.
ولما كان القصد الأول - في هذا الموضع - ذكر المعبود دون الإخبار عن إتخاذ عبادتهم، كان تقديم ذكره أولى.
وعلى هذا قوله تعالى:
﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ﴾ وأيضاً، ففي ذكر المفعول إشارة إلى إثبات الحكم المذكور ونفيه عن غيره تقول: إليك أفزع تنبيهاً أني لا أفزع إلا إليك.
وإذا قال: أفزع إليك، فليس فيه المعنى وعلى هذا فسر ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما فقال: معناه: لا نوجد غيرك وقال بعضهم: إنما نبه تعالى بتقديم ذكر أن تكون نظر العباد من المعبود إلى عبادتهم له لا من العبادة إلى المعبود، وعلى ذلك فضل ما حكي الله عن نبينا - عليه السلام - إذ قال: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ فنظر من الله تعالى إلى نفسه على ما حكى عن موسى عليه السلام حين قال: ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي﴾ فقدم ذكر نفسه، ونظر منها إلى ربه
إن قيل: لم كرر إياك؟.
قيل لأنه لو قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، لكان يصح أن يعتقد أن الاستعانة بغيره، وكان إعادته أبلغ.
إن قيل: لم قدم العبادة على الاستعانة، وحق الاستعانة أن تكون مقدمة، إذ لا سبيل إلى عبادته إلا بمعونته؟ قيل: قد قالوا: هو على التقديم والتأخير.
وقيل: الواو لا تقتضي الترتيب.
والوجه - في ذلك - أن الله تعالى علم خلقه بذلك أن يقدموا حقه ثم يسألوه ليمونوا مستحقين للإجابة.
ويجوز أن يكون قوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾: في موضع الحال، نحو قول الشاعر:
بَأَيْدِيّ رِجَالٍ لَمْ يشُيِمُوا سُيُوفَهُمْ...
ولم يكْثُر الْقَتْلَى بِهَا حِينَ سُلَّتِ.
59
فقوله: " ولم يكثر القتلى بها " في موضع الحال.
قوله - عز وجل -: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾: الآية (٦) - سورة الفاتحة.
الهداية: دلالة بلطف، ومنه الهدية، وهوادي الوحش متقدماتها، لكونها هادية لسائرها، وخص ما كان دلالة بفعلت نحو: هديته الطريق، وما كان من الإعطاء ب " أفْعَلْتُ " نحو: أهديت الهدية "، و " أهديت إلى البيت "، ولما تصور العروس على وجهين، قيل فيه: هديت وأهديت،
فإن قيل: كيف جعلت الهدى دلالة بلطف، وقد قال الله تعالى: ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾، وقال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾؟ قيل: إن ذلك على حسب استعمالهم اللفظ على التهكم كما قال:
وَخَيْلٌ قَدْ دَلَفْتُ لَهُ بِخَيْلٍ...
تَحِيُةُ بَيْنِهِمْ ضرَبٌ وَجيِعُ
والهداية: هي الإرشاد إلى الخيرات قولاً وفعلاً، وهي من الله تعالى على منازل بغضها يترتب على بعض، لا يصح حصول الثاني إلا بعد الأول، ولا الثالث إلا بعد الثاني، فأول المنازل: إعطاؤه العبد القوي التي بها يهتدي إلى مصالحه، إما تسخيراً، وإما طوعاً، كالمشاععر الخمسة، والقوى الفكرية، وبعض ذلك أعطاه الحيوانات، وبعضه خص به الإنسان.
وعلى ذلك دل قوله تعالى: ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾، وهذه الهداية إما تسخير وإما تعليم، وإلى نحوه أشار بقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ وقوله تعالى: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾، وقال في الإنسان بما أعطاه من العقل وعرفه من
60
الرشد: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ وقال: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ وقال في ثمود: ﴿فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ وثانيها: الهداية بالدعاء وبعثة الأنبياء عليهم السلام وإياها عنى بقوله تعالى ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ وبقوله: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ وهذه الهداية تنسب تارة إلى الله - عز وجل - وتارة إلى النبي - عليه السلام - وتارة إلى القرآن قال تعالى ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ وثالثها: هداية يوليها صالحي عباده بما اكتسبوه من الخيرات.
وهي الهداية المذكورة في قوله - عز وجل - ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾، وقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾، وقوله ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾، وهذه الهداية هي المعنية بقوله: ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾، ويصح أن ننسب هذه الهداية إلى الله - عز وجل - فيقال: هو آثرهم بها من حيث أنه هو السبب في وصولهم إليها، ويصح أن يقال: اكتسبوها من حيث أنهم توصلوا إليها باجتهادهم، فمن قصد سلطاناً مسترفداً فأعطاه، يصح أن يقال إن السلطان خوله، ويصح أن يقال: " فلان اكتسبه بسعيه "، ولانطواء ذلك على الأمرين قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾، فنبه أن ذلك بجهدهم وبفضله جميعاً، وهذه الهداية يصح أن يقال هي مباحة للعقلاء كلهم، ويصح أن يقال: هي مباحة للعقلاء كلهم، ويصح أن يقال هي مجظورة إلا على أوليائه لما كان في إمكان جميع العقلاء أن يترشحوا لتناولها ومن قبل أنها لا يسهل تناولها قبل أن يتشكل الإنسان بشكل مخصوص بتقديم عبادات، وقد قال بعض المحققين: الهدى من الله كثير، ولا يبصره إلا البصير ولا يعمل به إلا اليسير، ألا ترى إلى نجوم السماء ما أكثرها، ولا يهتدي بها إلا العماء، وقال بعض
61
الأولياء: إن مثل هداية الله مع الناس كمثل سيل مر على قلات وغداير، فيتناول كل قلت منها بقدر سعته، ثم قال قوله: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾، وقال بعضهم: هي كمطر أتى على أرضين، فتنتفع كل أرض بقدر ترشيحها للانتفاع به، والمنزلة الرابعة من الهداية، التمكين من مجاورته في دار الخلد وإياها عنى الله تعالى: بقوله: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا﴾ فإذا ثبت ذلك فمن الهداية ما لا ينفي عن أحد بوجه، ومنها ما ينفي عن بعض ويثبت لبعض، ومن هذا الوجه قال تعالى لنبيه - ﷺ -: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾، وقال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، وقال: ﴿وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ﴾، فإنه عنى الهداية التي هي التوفيق وإدخال الجنة دون التي هي الدعاء، لقزله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، وقال في الأنبياء: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾، فقوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ فسر على وجوه بحسب أنظار مختلفة إلى الوجوه المذكورة: الأول: أنع عنى الهداية العامة، وأمر أن ندعو بذلك، وإن كان هو قد فعله لا محالة، ليزيدنا ثواباً بالدعاء، كما أمرنا أن نقول: " اللهم صل على محمد ".
الثاني: قيل: وفقنا لطريقه الشرع.
الثالث: احرسنا عن استغواء الغواة وإستهواء الشهوات، واعصمنا من الشبهات.
الرابع: زدنا هدى واستنجاحاً لما وعدت بقولك: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾.
وقولك: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾، الخامس: قيل: علمنا العلم الحقيقي، فذلك سبب الخلاص، وهو المعبر عنه بالنور في قوله تعالى: ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾، السادس: قيل سؤال الجنة، لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾
62
وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ الاية.
فهذه الأقاويل اختلف باختلاف أنظارهم إلى أبعاض الهداية وجزئياتها والجميع يصح مراداً بالآية إذ لا تنافي بينها.
وبالله التوفيق.
وقوله: ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ " يقال: الصراط، والسراط، والزراط، والأصل من: سرطت الطعام، وزردته: إذا ابتلعته، وسمي الطريق بذلك تصوراً أنه إما أن يبتلعه سالكه، أو يبتلع هو سالكه، ذلك ألا ترى أنه قيل: فلان أكلته المفازة - إذا أضمْرَتَهُ أو أهْلَكَتْهُ.
وأكل المفازة - إذا قطعها - وعلى هذا النحو قال [أبو تمام]
رَعَتْهُ اْلَفَيافي بَعْدَمَا كَانّ حِقْبَةٌ...
رَعَاهَا وَمَاءُ الرَّوْضِ يَنْهَلُّ سَاكِبُهْ
ويقال: قتل أرضاً عالمها.
وقتلت أرض جاهلها.
وسمي الطريق: " الَّقّمْ وْاُلْملْتَقِم " - على هذا المحو - وذلك في معنى: " الملقوم " كالنقض والرفض في معنى " المنقوض " و " المرفوض ".
و" المستقيم ": القائم بالقسط، قال:
أمير المؤمنين على صراطٌ...
إذا أعْوَج الْموَارِدُ مُستَقيمُ.
وذلك قد تصور على وجهين: أحدهما: أنه إشارة إلى أن الطريق المستقيم " واحدة " بإضافتها إلى طرق الضلال واحد، وطرق الضلال كثيرة، وعلى هذا النحو، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾، وروى أن النبي - ﷺ - قال: " ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط ستور مرخاة، وعلى رأس الصراط داع يقول: " أدخلوا الصراط ولا تعوجوا "، ثم قال: " الصراط: الإسلام، والستور المرخاة: محارم الله.
وذلك الداعي: " القرآن "، وعلى هذا فسر الآية.
63
فقيل: الصراط المستقيم: القرآن.
وقيل: الإسلام، وقيل: سنة النبي - ﷺ -، وهذا كله إشارة إلى شيء واحد وإن اختلفت العبارات.
والثاني أن طريق النجاة بإضافة بعضها إلى بعض كثيرة، ولكن بعضها أقصد، وبعضها أبعد، وأقصد الطرق الطريق المستقيم الذي هو طريق السابقين دون طريق المقتصدين الظالمين وإن كانا مؤديين إلى النجاة أيضاً، ولكنهما أبعد، ألا ترى أنه قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ - الآية - فجعل ثلثهم مصطفين، ولكون بعض الطرق أقرب من بعض، قال النبي عليه السلام في قوم: " إنهم يدخلون الجنة قبل آخرين بكذا سنة).
قوله - عز وجل -: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾: الآية (٧) - سورة الفاتحه.
الإنعام: إيصال الإحسان إلى الغير، والنعمة - يقال فيما يرتضيه العقل وإن كان كريه المحتمل - والنعمة - قد يقال فيكا يستلذه الهوى، وإن كان كريه العاقبة - هذا هو الحقيقة، وإن كان قد يعد الإنسان بسوء تصوره بعض ما يستلذه هواه نعمة وإن كان وخيم العقبى.
ونعمة الله، وإن كانت لا تحصى، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ فهي بالقول المجمل ضربان دنيوي وأخروي.
فالدنيوي ضربان موهبي ومكتسبي.
فالموهبي: ثلاثة: أشرفها: العقل وقواه من الفهم والحفظ والفكر والنطق.
ثم البدن: وقواه من الصحة والقوة والجمال والكمال.
ثم ما يكنفه من الخارج كالماء والجاه والأقارب والأصدقاء.
وأما المكتسب: فأربعة:
64
وأما المكتسب فأربعة:
- الحكمة والعفة وعنها يصدر الجود والنجدة وعنها يصدر الصبر والعدالة.
وهي ثلاث: عدالة في نفس الإنسان.
وذلك بأن يجعل هواه تابعاً لعقله، وعدالة بين العبد وخالقه وذلك في توفية حق العبادات، وعدالة بين كل إنسان وبين غيره في المعاملات، وهذه الأربعة ينطوي عليها العبادة المأمور بها في قوله: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، وأما الأخروي: فرضاء الخالق.
ومعاشرة الملائكة.
وبقاء الأبد.
والغني عن كل حاجة إلا إليه تعالى.
وعلى ذلك دل قوله تعالى: ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ فالنعمة الحقيقية التي لا غناء عنعا، ويقال لها الخير المطلق هي الأخروية، فأما الدنيوية فضربان: ضرب هو نافع ضروري في الإيصال إلى الخير المطلق، وهي المكتسبات، فإنها ضرورية فيه، إذ لا يمكن الوصول إلى نعيم الآخرة إلا بها أو ببعضها، ولذلك قال تعالى ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وضرب غير ضروري، وقد يكون تارة نافعاً في بلوغ المقصود، وتارة ضاراً فيه، نحو المال والجاه والقوة والجمال، ولذلك لا يقال في الملك: إنه نعمة على الإطلاق، لأنه قد يكون نعمة لزيد، ونقمة على عمرو، ولهذا قيل " " رب مغبوط بأمر وهو داؤه.
ومرحوم بأمر هو شفاؤه " ولذلك قال بعض الصالحين: (يا من منعه عطاء)، وقال آخر: (يا من لا يستحق بمنعه الشمر سواه)، وعماد ذلك كله في إيصالنا إلى المقصود من نعيم الآخرة توفيق الله - عز وجل -، فقد قيل لبعض الحكماء: ما الذي لا يستغنى عنه في كل حال؟ فقال: التوفيق.
إذا ثبت معرفة أنواع النعم، على أن قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾: يعني به من سهلت عليهم طريق الفوز بإعطائهم ما يمكنهم منه، ومنهم ما يثبطهم عنه، ومن المفسرين من قال: أراد به أن عرفهم مكائد الشيطان وخيانة النفس، ومنهم من قال: عنى الإنعام عليهم بالعلم والفهم وكل هذا أبعاض للحكمة، فالوجه: أن يجري ذلك على العموم في كل ما صح أن يكون نعمة بدلالة قوله تعالى: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾، وهؤلاء المنعم عليهم: المعنيون بقوله تعالى:
65
﴿الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ هم المذكورين بقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾
وقوله - عز وجل -: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ الآية: (٧) - سورة الفاتحة
أصل " الغضب ": غليان دم القلب إرادة الانتقام، ومبدأ الغضب: انفعال مكروه، بدلالة قوله عليه السلام: " إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار " وقال عليه السلام: " اتقوا الغضب، فإنها جمرة توقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه فمن وجد من ذلك شيئاً، فليلزم الأرض " والغضب: " والغم " ثوران في النفس، وهما من أصل واحد - إلا أنه متى كان معه الطمع في الوصول إلى الانتقام كان غضباً، وإذا لم يكن معه الطمع كان غماً، فإذا: الغم والحزن: هما ما ينال الإنسان ممن فوقه، والغضب ما يناله ممن هو دونه، فيختلفان لا بالذات، ولهذا قال بعض المحدثين: " فحزن كل أخي حزن أخو الغضب ".
فإذا ثبت ذلك، فالغضب من الصفات التي لو خلينا ومجرد العقل لم نجوز وصف الباري - عز وجل - بها، لكن أطلقنا عليه ذلك لما جسرنا السمع، وفسح لنا الشرع على معنى صحيح هو أنه قد تقم أن الصفات - التي مبدؤها انفعالات، ومنتهاها فعل - متى وصف الباري تعالى به أريد به المنتهى دون المبدأ، فإذا المراد بالغضب في صفته تعالى: إرادة الانتقام، وعلى هذا فسر المتكلمون: فقال بعضهم: هو إرادة الانتقام، وقال بعضهم، هو ذم العصاة، وقال بعضهم: هو حنس من العقال، وقال بعضهم: هو استجتزة البطش.
لاستنكار أمر، وقال بعضهم: هو الانتقام، وهذه التفاسير عنهم متقاربة [وكلها] لنظرهم منه إلى منتهى الغضب دون مبدئه، وأما الضلال والخطأ: فالعدول عن الصراط المستقيم عن الصواب، سواء كان العدول عن ذلك عمداً
66
أو سهوا، وسواء كان يسيراً أو كثيراً، والصواب من الشيء يجري " مجرى القرطاس " من المرمى في أنه هو الصواب.
وباقية ضلال وخطأ.
ولهذا قال الحكماء: كوننا أخياراً من وجه واحد، وكوننا أشراراًَ من وجوه كثيرة، ولهذا روي عن بعض الصالحين أنه رأى النبي - ﷺ - في منامه، فقال له: ما الذي شيبك يا رسول الله - حيث قلت: " شيبتني هود وأخواتها "؟ فقال: مثل قوله: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾ واصعوبة الصواب وكونه واحداً، قال عليه السلام: (استقيموا ولن تحصوا)، وعلى هذا النظر قال: (من اجتهم فأصاب فله اجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر)
فإذا ثبت أن كل عدول عن الغرض والمقصود يقال له خطأ وضلال، وأن الصواب في نهاية الصعوبة، علم أنه ليس كل ضلال وخطأ يستحق به العقاب الدائم.
بل كما يسمى أكبر الكبائر نحو: الكفر ضلالاً وباطلاً وخطأ وقد يسمى بذلك اصغر الصغائر.
قال يجب أن يشككنا مشكك إذا رأينا بعض الأولياء موصوفاً بضلال وخطأ، كما رأينا الكافر موصوفاً بهما، فقد يتقارب الوصفان حداً، وموصوفاً هما متباعدان، فغرض الضلال والخطأ عريض، والتفاوت بين أدناه وأقصاه كثير.
ولذلك قال تعالى للنبي - ﷺ -: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ أي: ووجدك غير مهتد إلى ما سبق إليك من النبوة والعلم، ونحوه قوله: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ وقد يعبر عن سوء الاختيار بالضلال نحو قوله: ﴿فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾، ويعبر عن الخيبة بالضلال والغي والخطأ، كما قال في الكفار: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾، فإذا ثبت ذلك،
67
فقد روي عن النبي - ﷺ - أنه قال: " المغضوب عليهم " - ههنا: اليهود، و " الضالين ": النصارى، ودل على ذلك قوله في اليهود ﴿مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾، وقوله في النصاري: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾،
إن قيل: كيف فسر على ذلك كلا الفريقين ضال ومغضوب عليه؟ قيل: هو كذلك، ولكن خص تعالى كل فريق منهم بصفة كانت أغلب عليهم، وإن شاركوا غيرهم في صفات ذم.
إن قيل: ما الفائدة في ترادف الوصفين، وأحدهما يقتضي الآخر؟ قيل إن: اقتضاء أحدهما الآخر من حيث المعنى، وليس من شرط الخطاب أن يقتصر في الأوصاف على ما يقتضي وصفاً آخر دون ذلك الآخر.
ألا ترى أنك تقول: " حي سميع، بصير "، والسمع والبصر يقتضي الحياة.
ثم ليس من شرط ذلك أن يكون ذكره لغواً، وإنما ذكر ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ لأن الكفار قد شاركوا المؤمنين في إنعام كثير عليهم، فبين بالوصف أن المراد بالدعاء، ليس هو النعم العامة، بل ذلك نعمة مخصوصة، وقوله: " غير " إذا خفض: فصفة، ويصح أن يوصف ما فيه الألف واللام، ويدل على الجنس بـ " غير " و " مثل " وأخواتها، لكونه قريباً من النكرة ولا يصح أن يوصف به ما فيه الألف واللام، ودل على العهد، ولا سائر المعارف، ويجوز خفضه على البدل: وإذا نصب: فحال: إما من الضمير في " عليهم " أو من " الذين " قال الأخفش: ويصح أن يكون استثناء.
ولم يجوز ذلك الفراء، لأن الاستثناء لا يعطف عليه بـ " لا "، لا تقول: رأيت القوم إلا زيداً ولا عمرواً، قال أبو علي الغمري - رحمه الله - من جعله استثناء فإنه يقول: أدخل عليه " لا " حملاً على المعنى قولهم: " أتاني القوم إلا زيداً " أتوني لا زيداً.
وتجعل " لا " زائدة "، وزل أبو علي الجبائي في قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} زلة عظيمة في النحو، وقال: ذكر " المغضوب " بلفظه المفرد، وهو يعني الجماعة، قال: إلا أن هذا يجوز في سعة الكلام، وخفي عليه أن المتعدي بالجار يدخل التثنية والجمع على الضمير المتصل به دون لفظ المفعول.
68
وقوله: (آمين): قيل: هو اسم الفعل، كصه ومه، ومعناه: استجب - وذلك عن الحسن - وإليه ذهب الأحفش، ويدل على كونه اسم فعل ما روي أن موسى كان يدعو وهارون - عليهما السلام - كان يؤمن، فقال تعالى: ﴿قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا﴾، فكما أن قول [موسى عليه السلام] ﴿ارَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾ جملة، فكذل قول هارون (آمين) جملة من حيث المعنى، وقال مجاهد وابن جبير وجعفر بن محمد: هو اسم من أسماء الله - عز وجل -
وقال أبو علي الغنوي: تأويل ما قالوه: إن هذا الاسم لما تضمن الضمير المرفوع، وهو ذكر الله، قالوا: هو اسم الله، لأن الكلمة كما هي اسمه وما روي عن أمير المؤمنين -[رضي الله عنه] أنه قال: آمين خاتم رب العالمين ختم به دعاء عبده، فقد قيل: إن ذلك ليس بتفسير لآمين.
وإنما هو وصف له.
ومن قال: " آمين " بالمد: فقد قال الأحفش: هو اسم أعجمي نحو " حاميم ".
وقال محمد بن يزيد: هو علي مثال عاصين، وليس يعني أنه جميع، ولا أن النون فتحت كما فتحت في عاصين، وإنما يريد: أن لفظه كلفظه: وقيل إن الألف: فيه زيادة للمد، نحو: " ينباع " و " أتطور " في: " ينبع " و " أنظر ".
69
Icon