تفسير سورة الكافرون

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الكافرون من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية، في قول ابن مسعود والحسن وعكرمة، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك، وتسمى أيضاً سورة المعابدة والإخلاص ؛ لأنها في إخلاص العبادة والدين كما أن﴿ قل هو الله أحد ﴾ في إخلاص التوحيد، واجتماع النفاق فيهما محال لمن اعتقدهما وعمل بهما. ويقال لها ولسورة الإخلاص : المقشقشتان، أي : المبرئتان من النفاق. قال الشاعر :
أعيذك بالمقشقشتين مما أحاذره ومن نظر العيون
وهي ست آيات، وست وعشرون كلمة، وأربعة وسبعون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الذي لا يستطيع أحد أن يقدره حق قدره ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ برحمته من أوجب عليهم شكره ﴿ الرحيم ﴾ الذي وفق أهل ودّه فالتزموا نهيه وأمره.

وقوله تعالى :﴿ قل ﴾ أي : يا أشرف الخلق ﴿ يا أيها الكافرون ﴾ إلى آخر السورة نزل في رهط من قريش منهم الحارث بن قيس السهمي، والعاص بن وائل، والوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب بن أسد، وأمية بن خلف. قالوا : يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك، ونشركك في أمرنا كله، تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيراً كنا قد شركناك فيه، وأخذنا حظاً منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه، فقال : معاذ الله أن نشرك به غيره، قالوا : فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد إلهك، قال : حتى أنظر ما يأتي إليّ من ربي، فأنزل الله تعالى هذه السورة، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش، فقام على رؤوسهم ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة، فأيسوا منه عند ذلك، وأذوه وأصحابه، وفي مناداتهم بهذا الوصف الذي يسترذلونه في بلدهم، ومحل عزهم وحميتهم إيذان بأنه محروس منهم علم من أعلام النبوّة.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى في التحريم :﴿ يا أيها الذين كفروا ﴾ [ التحريم : ٧ ] وهاهنا قال :﴿ قل يا أيها الكافرون ؟ ﴾.
أجيب : بأنّ في سورة التحريم إنما يقال لهم يوم القيامة، وثم لا يكون رسولاً إليهم، فأزال الواسطة، فيكونون في ذلك الوقت مطيعين لا كافرين، فلذلك ذكره تعالى بلفظ الماضي، وأمّا هنا فكانوا موصوفين بالكفر، وكان الرسول رسولاً إليهم، فقال تعالى :﴿ قل يا أيها الكافرون ﴾، أي : الذي قد حكم بثباتهم على الكفر فلا انفكاك لهم عنه، فستروا ما تدلّ عليه عقولهم من الاعتقاد الحق لو جردّوها من أدناس الحظ وهم كفرة مخصوصون، وهم من حكم بموته على الكفر بما طابقه من الواقع، ودل عليه التعبير بالوصف دون الفعل، واستغرق اللام كل من كان على هذا الوصف في كل مكان وكل زمان، والتعبير بالجمع الذي هو أصل في القلة، وقد يستعار للكثرة إشارة إلى البشارة بقلة المطبوع على قلبه من العرب المخاطبين بهذا في حياته صلى الله عليه وسلم.
وقال الله تعالى له :﴿ قل يا أيها الكافرون ﴾ لأنه صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالرفق واللين في جميع الأمور كما قال تعالى :﴿ ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ] وقال تعالى :﴿ فبما رحمة من الله لنت لهم ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ] وقال تعالى :﴿ بالمؤمنين رؤوف رحيم ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ] ثم كان مأموراً بأن يدعوهم إلى الله تعالى بالوجه الأحسن، فلذا خاطبهم بيا أيها فكانوا يقولون : كيف يليق هذا التغليظ بذلك الرفق، فأجاب بأني مأمور بهذا الكلام، لا أني ذكرته من عند نفسي.
ولما كان القصد إعلامهم بالبراءة منهم من كل وجه، وأنه لا يبالي بهم بوجه ؛ لأنه محفوظ منهم، قال :
﴿ لا أعبد ﴾ أي : الآن ﴿ ما تعبدون ﴾ من دون الله من المعبودات الظاهرة والباطنة بوجه من وجوه العبادات في سرّ ولا علن ؛ لأنه لا يصلح للعبادة بوجه.
﴿ ولا أنتم عابدون ﴾ أي : الآن ﴿ ما أعبد ﴾ وهو الله تعالى وحده.
﴿ ولا أنا عابد ﴾، أي : في الاستقبال ﴿ ما عبدتم ﴾ من دون الله تعالى.
﴿ ولا أنتم عابدون ﴾أي : في الاستقبال ﴿ ما أعبد ﴾ وهو الله وحده لا شريك له، وهذا خطاب لمن علم الله تعالى منهم أنهم لا يؤمنون. وإطلاق ما على الله تعالى على جهة المقابلة، وبهذا زال التكرار، ووجه التكرار كما قال أكثر أهل المعاني : هو أن القرآن نزل بلسان العرب وعلى مجارى خطابهم، ومن مذاهبهم التكرار لإرادة التأكيد والإفهام، كما أنّ من مذاهبهم الاختصار لإرادة التخفيف والإيجاز، فالقائل بالتأكيد يقول : قوله تعالى :﴿ ولا أنا عابد ما عبدتم ﴾ تأكيد لقوله تعالى :﴿ لا أعبد ما تعبدون ﴾ [ التكاثر : ٣ ٤ ]، وقوله تعالى :﴿ ولا أنتم عابدون ما أعبد ﴾ ثانياً تأكيد لقوله تعالى :﴿ ولا أنتم عابدون ما أعبد ﴾، ومثله ﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ [ الرحمن : ٧٧ ] و﴿ ويل يومئذ للمكذبين ﴾ [ المرسلات : ١٥ ] في سورتيهما، و﴿ كلا سوف تعلمون ٣ ثم كلا سوف تعلمون ﴾ [ التكاثر : ٣ ٤ ]، وفي الحديث :«فلا آذن ثم لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني ». وفائدة التأكيد هنا قطع أطماع الكفار، وتحقيق الأخبار، وهو إقامتهم على الكفر، وأنهم لا يسلمون أبداً، وعلى الأوّل قد تقيدت كل جملة بزمان غير الزمان الآخر. قال ابن عادل : وفيه نظر، كيف يقيد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفي عبادته لما يعبدون بزمان، وهذا مما لا يصح. اه. وقد يردّ هذا بأنه صلى الله عليه وسلم نفى في الجملة الأولى الحال، وفي الثانية الاستقبال. وقول البيضاوي : فإن ( لا ) لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الاستقبال، كما أنّ ما لا تدخل إلا على المضارع بمعنى الحال، جرى على الغالب فيهما.
ولما أيس منهم صلى الله عليه وسلم قال :﴿ لكم دينكم ﴾ أي : الذي أنتم عليه من الشرك ﴿ ولي دين ﴾ أي : الذي أنا عليه من التوحيد، وهو دين الإسلام، وفي هذا معنى التهديد كقوله تعالى :﴿ لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ﴾ [ القصص : ٥٥ ] أي : إن رضيتم بدينكم فقد رضينا بديننا، وهذا كما قال الجلال المحلي : قبل أن يؤمر بالحرب. وقيل : السورة كلها منسوخة، وقيل : ما نسخ منها شيء ؛ لأنها خبر، ومعنى لكم دينكم، أي : جزاء دينكم ولي دين، أي : جزاء ديني، وسمي دينهم ديناً ؛ لأنهم اعتقدوه. وقيل : المعنى : لكم جزاؤكم ولي جزائي ؛ لأنّ الدين الجزاء. وحذفت ياء الإضافة من دين للتبعية وقفاً ووصلاً. قرأ نافع وهشام وحفص والبزي -بخلاف عنه- بفتح الياء، والباقون بإسكانها.
فائدة : قال الرازي : جرت العادة بأنّ الناس يتمثلون بهذه الآية عند المتاركة، وذلك غير جائز ؛ لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به ؛ بل ليتدبر فيه، فيعمل بموجبه.
Icon