تفسير سورة التكاثر

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة التكاثر من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحدادي اليمني .

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾ ؛ أي شغلَتْكم المباهاةُ والمفاخرَةُ بكثرةِ المال والعدد عن طاعةِ ربكم حتى مِتُّمْ ودُفِنْتُم في المقابرِ قبلَ أنْ تَتوبُوا، ويقالُ لِمَن ماتَ : زارَ حُفرتَهُ، وتوَسَّدَ لَحْدَهُ. هذا خطابٌ لِمَن حرصَ على الدُّنيا وجَمَعَ أموالها وهو يريدُ التكاثرَ والتفاخرَ بها.
وَقِيْلَ : إنَّ هذه السُّورةَ نزَلت في حَيَّيْنِ من قُريش ؛ أحدُهما : بنو عبدِ مَناف، والآخرُ : بنو سَهْمٍ، فعَدُّوا أيُّهم أكثرَ، فكثَّرهم بنو عبدِ مناف، فقال بنو سهمٍ : إنما أهلَكَنا البغيُ في الجاهليَّة، فعُدُّوا أمواتَنا وأمواتَكم وأحياءَنا وأحياءَكم، فتعادُّوا فكثَّرهم بنو سهمٍ، فأنزلَ اللهُ هذه السورة تَهديداً لهم. والمعنى : شغَلَكم التفاخرُ بالأنساب والمناقب عن توحيدِ الله حتى عدَدتُم الموتَى في المقابرِ.
ثم زادَ في وعيدهم فقالَ :﴿ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ أي حقّاً سوفَ تعلمون ماذا تَلقَون من العذاب عند الموت وفي القبرِ، ﴿ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ أي ثُم حقّاً سوف تعلَمُون ماذا تَلقَون في الآخرةِ من عذابها، ولا بدَّ أن يكون المرادُ بهذا الثاني غير المرادِ الأول، وكيف يكون هذا تِكرَاراً، وقد دخلَ بينهما حرفُ (ثُمَّ) التي هي للتراخِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴾ ؛ قال بعضُهم : جوابُ هذا محذوفٌ ؛ أي حقّاً لو علِمتُم ماذا ينْزِلُ بكم في الآخرةِ علمَ اليقينِ لَمَا تفاخَرتُم في الدُّنيا، وما ألْهاكُم التكاثرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾ ؛ أي لتَرَوْنَّ الجحيمَ في الموقفِ إن متُّم على هذا، ﴿ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾ ؛ مُعاينةً، إذا دخَلتُموها، وتشاهدون في الآخرةِ كلَّ ما شكَكتُم فيه في الدُّنيا، ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ ؛ ثم لتُسأَلُنَّ يومَ القيامةِ عن اشتغالِكم بنعيمِ الدُّنيا حتى ترَكتُم ما لَزِمَكم من الفرائضِ.
واختلَفُوا في هذا السُّؤال، قال بعضُهم : هو سؤالُ توبيخٍ وتقريع للكفَّار في النار، يقالُ للكافرِ وهو في النار : أين ذهبَ تفاخُركَ ومُلكُكَ ومملكتُكَ وعدَدُكَ، ويؤيِّدُ هذا ما رُوي :" أنَّ أبَا بَكْرٍ رضي الله عنه سَأَلَ النَّبيَّ ﷺ عَنْ أكْلَةٍ أكَلَهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي بَيْتِ أبي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ الأَنْصَاريِّ مِنْ لَحْمٍ وَخُبْزِ شَعِيرٍ وَمَاءٍ عَذْبٍ وَبُسْرِ قَدْ ذنَّبَ، فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللهِ أتَخَافُ عَلَيْنَا أنْ يَكُونَ عَلَيْنَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي نُسْأَلُ عَنْهُ ؟ فَقَالَ ﷺ :" إنَّ ذلِكَ لِلْكُفَّار، ثُمَّ ثَلاَثٌ لاَ يَسْأَلُ اللهُ الْعَبْدَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : مَا يُوَاري بهِ عَوْرَتَهُ، وَمَا يُقِيمُ بهِ صُلْبَهُ، وَمَا يُكِنُّهُ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ. وَهُوَ مَسْؤُولٌ بَعْدَ ذلِكَ عَنْ كُلِّ نِعْمَةٍ " ".
وقالَ ﷺ :" مَا أنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ مِنْ نِعْمَةٍ صَغِيرَةٍ أوْ كَبيرَةٍ فَقَالَ عَلَيْهَا : الْحَمْدُ للهِ، إلاَّ أُعْطِيَ خَيْراً مِمَّا أخَذ ".
وعن أنسٍِ قالَ :" جَاءَ جِبْرِيلُ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ : مَنْ يَسْتَطِيعُ أنْ يُؤَدِّيَ شُكْرَ مَا أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ ؟ قَالَ :" مَنْ عَلِمَ أنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ مِنْ قِبَلِ اللهِ فَقَدْ أدَّى شُكْرَهَا " ".
وسُئل ابنُ مسعودٍ عن النعيم المذكور في هذه الآيةِ فقال :((الأَمْنُ وَالصِّحَّةُ))، وسُئل عليٌّ رضي الله عنه عَنْ ذلكَ فقال :((خُبْزُ الشَّعِيرِ، وَالْمَاءُ الْقِرَاحُ)). ويقالُ : إنَّه باردُ الشَّراب، وظلُّ المساكنِ، وشبَعُ البطونِ. ويقالُ : يُسْألُ عن الماء الباردِ في شدَّة الحرِّ، وعن الماءِ الحارِّ في شدَّة البردِ.
وهذا كلُّه محمولٌ على ما إذا تشاغلَ بشيءٍ من هذه المباحات، فتركَ بها واجباً عليه، وأمَّا إذا لم يكن ذلك، فإنه لا يُسأل عنها ولا يُحاسَبُ عليها.
وعن رسولِ الله ﷺ أنه قالَ :" النَّعِيمُ الْمَاءُ الْبَاردُ وَالرُّطَبُ " وقال عبدُالله ابنُ عمرَ :((هُوَ الْمَاءُ الْبَاردُ فِي الصَّيْفِ)). وفي الخبرِ المأثور :" أنَّ أوَّلَ مَا يَسْأَلُ اللهُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أنْ يَقُولَ لَهُ :" ألَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ ؟ ألَمْ أرْوكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَاردِ ؟ ".
وقال ﷺ :" " إذا شَرِبَ أحَدُكُمُ الْمَاءَ، فَلْيَشْرَبْ أبْرَدَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ " قِيلَ : وَلِمَ ؟ قَالَ :" لأَنَّهُ أطْفَأُ لِلْمَرْءِ، وَأنْفَعُ لِلعِلَّةِ، وَأبْعَثُ لِلشُّكْر "
Icon