تفسير سورة الكافرون

اللباب
تفسير سورة سورة الكافرون من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
مكية، في قول ابن مسعود، والحسن، وعكرمة، ومدنية في أحد قولي ابن عباس، وقتادة، والضحاك١. وهي ست آيات، وست وعشرون كلمة، وأربعة وسبعون حرفا.
قال ابن الخطيب٢ :«هذه السورة تسمى سورة البراءة٣ وسورة الإخلاص، والمشفعة ».
روى الترمذي من حديث أنس - رضي الله عنه - :«إنَّها تعدِلُ ثُلثَ القُرآنِ »٤.
وروى ابن الأنباري عن أنس - رضي الله عنه - : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«قل يا أيها الكافرون تَعدلُ رُبُعَ القُرآنِ »٥.
وخرج الحافظ عبد الغني بن سعيد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - «صلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه في صلاة الفجر في سفرٍ، فقرأ :﴿ قل يا أيها الكافرون ﴾ و ﴿ قل هو الله أحد ﴾ ثم قال صلى الله عليه وسلم :«قَرَأْتُ عَلَيْكُم ثُلثَ القُرآنِ وربعهُ »٦.
[ وروى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«أتُحِبُّ يا جُبير إذا خَرجْتَ سَفَرَاً أنْ تكُونَ مِنْ أمثلِ أصْحَابِكَ هَيْئةً، وأكْثرهمْ زَاداً ؟ » قلت : نَعَمْ، «فاقْرَأ هذه السُّور الخَمْسَ من أول :﴿ قل يا أيها الكافرون ﴾ إلى ﴿ قل أعوذ برب الناس ﴾، وافتتِحْ قِرءاتَك ب «بِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرَّحيمِ ».
قال :] ٧ فوالله، لقد كنت غير كثير المال، إذا سافرت أكون أبذَّهُم هيئة، وأقلهم مالاً، فمذ قرأتهنّ صرت من أحسنهم هيئة، وأكثرهم زاداً، حتى أرجع من سفري ذلك٨.
قال ابن الخطيب٩ : والوجه في أنها تعدل ربع القرآن، هو أن القرآن يشتمل على الأمر بالمأمورات، والنهي عن المحظورات، وكل واحد منها ينقسم إلى ما يتعلق بالقلوب وإلى ما يتعلق بالجوارح، وهذه السورة مشتملةٌ على النهي عن المحرمات المتعلقة بأفعال القلوب، فيكون ربع القرآن.
وخرج ابنُ الأنباري عن نوفل بن فروة الأشجعي، قال :«جاء رجُل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أوصني، قال :«اقرأ عِنْدَ مَنَامِكَ :﴿ قُلْ يا أيها الكافرون ﴾ فإنَّها براءةٌ من الشِّركِ »١٠.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ليس في القرآن أشدّ غيظاً لإبليس - لعنه الله - من هذه السورة ؛ لأنها توحيد، وبراءة من الشرك١١.
وقال الأصمعي : كان يقال ل ﴿ قُلْ يا أيها الكافرون ﴾ و﴿ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ ﴾ المقشقشتان، أي : أنهما تبرئان من النفاق.
وقال أبو عبيدة - رضي الله عنه - : كما يقشقش الهناءُ الجرب فيبرئه١٢.
قال ابن السكيت : يقال للقرح والجدري إذا يبس وتقرف، والجرب في الإبل إذا قفل : قد توسَّف جلده، وتقشّر جلده، وتقشقش جلده.
قال ابن عباس - رضي الله عنه - : سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمدُ، هلمّ فلنعبد ما تعبد، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كلِّه، فإن كان ما جئت به خيراً مما بأيدينا، كنّا قد شاركناك فيه، وأخذنا بحظِّنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما بيدك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه، فأنزل الله - عز وجل - ﴿ قُلْ يا أيها الكافرون ﴾، ونزل قوله :﴿ قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون ﴾ [ الزمر : ٦٤ ]، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين في الحرم، وفيه الملأ من قريش، فقام صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم، حتى فرغ من السورة، فأيسوا منه عند ذلك١٣.
وروى أبو صالح عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو استلمت بعض هذه الآلهة لصدقناك، فنزل جبريل - عليه السلام - بهذه السورة فيئسوا منه وآذوه، وآذوا أصحابه١٤.
فإن قيل : لم وصفهم في هذه السورة بالكافرين، وفي السورة الأخرى بالجاهلين كما تقدم ؟
فالجوابُ : لأن هذه السورة بتمامها نزلت فيهم، فتكون المبالغة فيها أشد، فبولغ فيها بالوصف الأشنع، وهو الكفر ؛ لأنه مذموم مطلقاً، والجهل كالشجرة، والكفر كالثمرة، فقد يذم عند التقييد، كقوله صلى الله عليه وسلم :«عِلْمُ الإنْسَانِ عِلمٌ لا يَنْفَعُ، وجَهْلٌ لا يَضُرُّ ».
فإن قيل : قال في سورة التحريم :﴿ يا أيها الذين كَفَرُواْ ﴾ [ الآية : ٧ ]، بغير «قُلْ »، وهنا - جلَّ وعز - ذكر «قُلْ » وذكره باسم الفاعل.
فالجواب : أنه في سورة «التحريم » إنما يقال لهم يوم القيامة، وثمَّ لا يكون رسولاً إليهم، فإذا زال الواسطة، ويكونون في ذلك الوقت مطيعين، لا كافرين، فلذلك ذكره بلفظ الماضي.
وأما هاهنا فكانوا موصوفين بالكفر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً إليهم، فقال تعالى :﴿ قُلْ يا أيها الكافرون ﴾.
فإن قيل : هذا خطاب مع الكل، وكان فيهم من يعبد الله تعالى، كاليهود، والنصارى، فلا يجوز أن يقال لهم :﴿ لا أعبدُ ما تَعْبُدُونَ ﴾، ولا يجوز أيضاً أن يكون قوله :﴿ وَلاَ أنْتُمَ عَابِدُونَ ما أعْبدُ ﴾ خطاباً مع الكل ؛ لأن في الكفار من آمن، فعبد الله.
فالجواب : أن هذا الخطاب مشافهة مع أقوام مخصوصين، وهم الذين قالوا : نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة، وأيضاً لو حملنا الخطاب على العموم دخله التخصيص، وإذا حملناه على خطاب المشافهةِ لم يلزم ذلك.

فصل


قال القرطبي١٥ : الألف واللام ترجع إلى معنى المعهود، وإن كانت للجنس من حيث إنها كانت صفة ل «أي » ؛ لأنها مخاطبة لمن سبق في علم الله تعالى أنه سيموت على كُفرهِ، فهي من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم ؛ ونحوه عن الماوردي : نزلت جواباً وعتاباً، وعنى بالكافرين قوماً معينين، لا جميع الكافرين ؛ لأن منهم من آمن، فعبد الله، ومنهم من مات، أو قتل على كفره، وهم المخاطبون بهذا القول، وهم المذكورون.

فصل


قال ابن الأنباري : وقرأ من طعن في القرآن١٦ :«قل للذين كفروا، لا أعبد ما تعبدون » وزعم أن ذلك هو الصواب، وذلك افتراء على ربِّ العالمين، وتضعيف لمعنى هذه السورة، وإبطال ما قصده الله من أن يذل نبيه للمشركين، بخطابه إياهم بهذا الخطاب المزري، وإلزامهم ما يأنف منه كل ذي لُبّ وحجر، وذلك أن الذي يدعيه من اللفظ الباطل، قراءتنا تشتمل عليه في المعنى، وتزيد تأويلاً ليس في باطلهم، وتحريفهم، فمعنى قراءتنا : قل للذين كفروا، يا أيها الكافرون، دليل صحة هذا أن العربي إذا قال لمخاطبه : قل لزيد : أقبل إلينا، فمعناه، قل لزيد يا زيد أقبل إلينا، فقد وقعت قراءتنا على كل ما عندهم، وسقط من باطلهم أحسن لفظ، وأبلغ معنى، إذ كان الرسول - عليه السلام - يعتمدهم في ناديهم فيقول لهم :«يا أيُّها الكَافِرُونَ » وهو يعرف أنهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفرِ، ويدخلوا في جملة أهله، إلا وهو محروس ممنوع من أن تنبسط عليه منهم يد، أو تقع به من جهتهم أذية، فمن لم يقرأ :﴿ قُلْ يا أيها الكافرون ﴾، كما أنزلها الله، أسقط آية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبيل أهل الإسلام ألاَّ يسارعوا إلى مثلها، ولا يعتمدوا نبيهم باختزال الفضائل عنه، التي منحه الله إياها، وشرفه بها.
١ ينظر تفسير الماوردي (٦/٣٥٧)..
٢ ينظر: الفخر الرازي ٣/١٢٧..
٣ الذي في الرازي : المنابذة..
٤ أخرجه الترمذي رقم (٢٨٩٥)، من حديث أنس وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
وأخرجه أحمد (٣/١٤٦- ١٤٧)، والخطيب (١١/٣٨٠)..

٥ له شواهد من حديث ابن عمر وابن عباس وأنس. حديث ابن عمر أخرجه الحاكم (١/٥٦٦)، من طريق غسان عن جعفر بن ميسرة عن أبيه عن نافع عن ابن عمر به. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ورده الذهبي بقوله: قلت: بل جعفر بن ميسرة منكر الحديث جدا قاله أبو حاتم وغسان ضعفه الدارقطني.
حديث ابن عباس أخرجه الترمذي (٢٨٩٦)، والحاكم (١/٥٦٦). وقال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يمان بن المغيرة. وقال الحاكم: صحيح الإسناد وتعقبه الذهبي فقال: قلت: بل يمان ضعفوه.
حديث أنس ينظر الحديث السابق..

٦ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٩٣)، وعزاه إلى ابن الضريس والحاكم في "الكنى" وابن مردويه عن ابن عمر..
٧ سقط من: أ..
٨ أخرجه أبو يعلى (١٣/٤١٤)، رقم (٧٤١٩)، من حديث جبير بن مطعم وذكره البيهقي في "مجمع الزوائد" (١٠/١٣٣- ١٣٤)، وقال: رواه أبو يعلى وفيه من لم أعرفهم.
وذكره ابن حجر في "المطالب العالية (٣/٣٩٨)، رقم (٣٨٠٩)..

٩ ينظر الفخر الرازي ٣٢/١٢٧..
١٠ أخرجه أبو داود (٥٠٥٥)، والترمذي (٣٩٠٣)، والدارمي (٢/٥٣٨)، وأحمد (٥/٤٥٦)، والحاكم (١/٥٦٥)، وابن حبان (٢٣٦٣- موارد)، عن فروة بن نوفل عن أبيه، وصححه الحاكم.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٩٤)، وزاد نسبته إلى ابن الأنباري في المصاحف وابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب..

١١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/١٥٣)..
١٢ ينظر المصدر السابق..
١٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٧٢٧ -٧٢٨)، عن ابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٩٢)، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم والطبراني..
١٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/١٥٤)..
١٥ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ٢٠/١٥٤..
١٦ وهذا فيه نظر، فقد نقل ابن عطية هذه القراءة عن صحابيين كبيرين، وهما أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود، ينظر: المحرر الوجيز ٥/٥٣١..

مكية، في قول ابن مسعود، والحسن، وعكرمة، ومدنية في أحد قولي ابن عباس، وقتادة، والضحاك. وهي ست آيات، وست وعشرون كلمة، وأربعة وسبعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قال ابن الخطيب: «هذه السورة تسمى سورة البراءة وسورة الإخلاص، والمشفعة».
روى الترمذي من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «إنَّها تعدِلُ ثُلثَ القُرآنِ».
وروى ابن الأنباري عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قل يا أيها الكافرون تَعدلُ رُبُعَ القُرآنِ».
527
وخرج الحافظ عبد الغني بن سعيد عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «صلَّى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأصحابه في صلاة الفجر في سفرٍ، فقرأ: ﴿قل يا أيها الكافرون﴾ و ﴿قل هو الله أحد﴾ ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» قَرَأْتُ عَلَيْكُم ثُلثَ القُرآنِ وربعهُ «».
[وروى جبير بن مطعم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «» أتُحِبُّ يا جُبير إذا خَرجْتَ سَفَرَاً أنْ تكُونَ مِنْ أمثلِ أصْحَابِكَ هَيْئةً، وأكْثرهمْ زَاداً «؟ قلت: نَعَمْ، فاقْرَأ هذه السُّور الخَمْسَ من أول: ﴿قل يا أيها الكافرون﴾ إلى ﴿قل أعوذ برب الناس﴾، وافتتِحْ قِرءاتَك ب» بِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرَّحيمِ «».
قال:] فوالله، لقد كنت غير كثير المال، إذا سافرت أكون أبذَّهُم هيئة، وأقلهم مالاً، فمذ قرأتهنّ صرت من أحسنهم هيئة، وأكثرهم زاداً، حتى أرجع من سفري ذلك.
قال ابن الخطيب: والوجه في أنها تعدل ربع القرآن، هو أن القرآن يشتمل على الأمر بالمأمورات، والنهي عن المحظورات، وكل واحد منها ينقسم إلى ما يتعلق بالقلوب وإلى ما يتعلق بالجوارح، وهذه السورة مشتملةٌ وكل واحد منها ينقسم إلى ما يتعلق بالقلوب وإلى ما يتعلق بالجوارح، وهذه السورة مشتملةٌ على النهي عن المحرمات المتعلقة بأفعال القلوب، فيكون ربع القرآن. وخرج ابنُ الأنباري عن نوفل بن فروة الأشجعي، قال: " جاء رجُل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أوصني، قال: " اقرأ عِنْدَ مَنَامِكَ: ﴿قُلْ يا أيها الكافرون﴾ فإنَّها براءةٌ من الشِّركِ «».
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: ليس في القرآن أشدّ غيظاً لإبليس - لعنه الله - من هذه السورة؛ لأنها توحيد، وبراءة من الشرك.
وقال الأصمعي: كان يقال ل ﴿قُلْ يا أيها الكافرون﴾ و ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ﴾ المقشقشتان، أي: أنهما تبرئان من النفاق.
528
وقال أبو عبيدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: كما يقشقش الهناءُ الجرب فيبرئه.
قال ابن السكيت: يقال للقرح والجدري إذا يبس وتقرف، والجرب في الإبل إذا قفل: قد توسَّف جلده، وتقشّر جلده، وتقشقش جلده.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، لقوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: يا محمدُ، هلمّ فلنعبد ما تعبد، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كلِّه، فإن كان ما جئت به خيراً مما بأيدينا، كنّا قد شاركناك فيه، وأخذنا بحظِّنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما بيدك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه، فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿قُلْ يا أيها الكافرون﴾، ونزل قوله:
﴿قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون﴾ [الزمر: ٦٤]، فغدا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المسلمين في الحرم، وفيه الملأ من قريش، فقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقرأها عليهم، حتى فرغ من السورة، فأيسوا منه عند ذلك.
وروى أبو صالح عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - أنهم قالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لو استلمت بعض هذه الآلهة لصدقناك، فنزل جبريل - عليه السلام - بهذه السورة فيئسوا وآذوه، وآذوا أصحابه.
فإن قيل: لم وصفهم في هذه السورة بالكافرين وفي السورة الأخرى بالجاهلين كما تقدم؟.
فالجوابُ: لأن هذه السورة بتمامها نزلت فيهم، فتكون المبالغة فيها أشد فبولغ فيها بالوصف الأشنع، وهو الكفر، لأنه مذموم مطلقاً، والجهل كالشجرة، والكفر كالثمرة فقد يذم عند التقييد، كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «عِلْمُ الإنْسَانِ عِلمٌ لا يَنْفَعُ، وجَهْلٌ لا يَضُرُّ».
فإن قيل: قال في سورة التحريم: ﴿يا أيها الذين كَفَرُواْ﴾ [الآية: ٧]، بغير «قُلْ»، وهنا - جلَّ وعز - ذكر «قُلْ» وذكره باسم الفاعل.
فالجواب: أنه في سورة «التحريم» إنما يقال لهم يوم القيامة، وثمَّ لا يكون رسولاً إليهم، فإذا زال الواسطة، ويكونون في ذلك الوقت مطيعين، لا كافرين، فلذلك ذكره بلفظ الماضي.
وأما هاهنا فكانوا موصوفين بالكفر، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولاً إليهم، فقال تعالى: ﴿قُلْ يا أيها الكافرون﴾.
529
فأن قيل: هذا خطاب مع الكل، وكان فيهم من يعبد الله تعالى، كاليهود، والنصارى، فلا يجوز أن يقال لهم: ﴿لا أعبدُ ما تَعْبُدُونَ﴾، ولا يجوز أيضاً أن يكون قوله: ﴿وَلاَ أنْتُمَ عَابِدُونَ ما أعْبدُ﴾ خطاباً مع الكل؛ لأن في الكفار من آمن، فعبد الله.
فالجواب: أن هذا الخطاب مشافهة مع أقوام مخصوصين، وهم الذين قالوا: نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة وأيضاً لو حملنا الخطاب على العموم دخله التخصيص، وإذا حملناه على خطاب المشافهةِ لم يلزم ذلك.

فصل


قال القرطبي: الألف واللام ترجع إلى معنى المعهود، وإن كانت للجنس من حيث إنها كانت صفة ل «أي»، لأنها مخاطبة لمن سبق في علم الله تعالى أنه سيموت على كُفرهِ، فهي من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم؛ ونحوه عن الماوردي: نزلت جواباً وعتاباً وعنى بالكافرين قوماً معينين، لا جميع الكافرين، لأن منهم من آمن، فعبد الله، ومنهم من مات، أو قتل على كفره، وهم المخاطبون بهذا القول، وهم المذكورون.

فصل


قال ابن الأنباري: وقرأ من طعن في القرآن: «قل للذين كفروا، لا أعبد ما تعبدون» وزعم أن ذلك هو الصواب، وذلك افتراء على ربِّ العالمين، وتضعيف لمعنى هذه السورة، وإبطال ما قصده الله من أن يذل نبيه للمشركين، بخطابه إياهم بهذا الخطاب المزري، وإلزامهم ما يأنف منه كل ذي لُبّ وحجر وذلك أن الذي يدعيه من اللفظ الباطل، قراءتنا تشتمل عليه في المعنى، وتزيد تأويلاً ليس في باطلهم، وتحريفهم، فمعنى قراءتنا: قل للذين كفروا، يا أيها الكافرون، دليل صحة هذا: أن العربي إذا قال لمخاطبه: قل لزيد: أقبل إلينا، فمعناه، قل لزيد يا زيد أقبل إلينا، فقد وقعت قراءتنا على كل ما عندهم، وسقط من باطلهم أحسن لفظ، وأبلغ معنى، إذ كان الرسول - عليه السلام - يعتمدهم في ناديهم فيقول لهم: «يا أيُّها الكَافِرُونَ» وهو يعرف أنهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفرِ، ويدخلوا في جملة أهله، إلا وهو محروس ممنوع من أن تنبسط عليه منهم بدٌ، أو تقع به من جهتهم أذية، فمن لم يقرأ: ﴿قُلْ يا أيها الكافرون﴾، كما أنزلها الله، أسقط آية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وسبيل أهل الإسلام ألاَّ يسارعوا إلى مثلها، ولا يعتمدوا نبيهم باختزال الفضائل عنه، التي منحه الله إياها، وشرفه بها.
530

فصل في الكلام على «يا»


قال ابنُ الخطيب: روي عن عليّ بن أبي طالبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن «يا» نداء النفس، و «أي» نداء القلب و «ها» نداء للروح.
وقيل «يا» نداء الغائب، و «أي» للحاضر، و «ها» للتنبيه، كأنه - عزَّ وجلَّ - يقول: أدعوك ثلاثاً، ولا تجبني مرة.
قوله: ﴿لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾. في «مَا» هذه في هذه السورة وجهان:
أحدهما: أن تكون بمعنى «الذي».
والثانية: فالأمر فيها واضح؛ لأنها غير عقلاء. و «ما» أصلها أن تكون لغير العقلاء، وإذا أريد بها الباري - تعالى - كما في الثانية والرابعة، فاستدلّ به من جوز وقوعها على أولي العلمِ، ومن منع جعلها مصدرية، والتقدير: ولا أنتم عابدون عبادتي، أي: مثل عبادتي.
وقال أبو مسلم: «ما» في الأوليين بمعنى «الذي» والمقصود: المعبود، و «ما» في الأخريين مصدرية، أي: لا أعبد عبادتكم المبنية على الشَّك وترك النظر، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين، فيحصل من مجموع ذلك ثلاثة أقوال: أنها كلَّها بمعنى «الذي»، أو مصدرية، أو الأوليان بمعنى الذي، والثالثة والرابعة مصدرية، لكان حسناً، حتى لا يلزم وقوع «ما» على أولي العلم، وهو مقتضى من يمنع وقوعها على أولي العلم، كما تقدم.

فصل في التكرار في الآية


اختلفوا في التَّكرار - هاهنا - هل هو للتأكيد، أم لا؟ وإذا لم يكن للتأكيد فقوله تعالى: ﴿وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ﴾ تأكيد لقوله ﴿لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ وقوله: ﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ ثانياً تأكيد لقوله: ﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ أولاً.
ومثله: ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ١٣]، و ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات: ١٥] في سورتيهما، و ﴿كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [التكاثر: ٣، ٤]، و ﴿كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ﴾ [النبأ: ٤ ٥] وفي الحديث: «فَلاَ آذَنُ ثُمَّ لا آذنُ، إنَّما فَاطِمةُ بَضعَةٌ منِّي» ؛ وقال الشاعر: [مجزوء الكامل]
531
وقوله: [الرجز]
٥٣٣٠ - هَلاَّ سَألْتَ جُموعَ كِنْ دّةَ يَوْمَ ولَّوْا أيْنَ أيْنَا
٥٣٣١ - يَا عَلْقَمَهْ يَا عَلْقَمَهْ يَا عَلْقَمَهْ خَيْرَ تَمِيمٍ كُلِّهَا وأكْرمَهْ
وقوله: [الرجز]
٥٣٣٢ - يَا أقَرعُ بْنُ حَابِسٍ يَا أقْرَعُ إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ
وقوله: [الطويل]
٥٣٣٣ - ألا يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي ثَلاثَ تَحِيَّاتٍ وإنْ لَمْ تَكَلَّمِ
وقوله: [الرجز]
٥٣٣٤ - يَا جَعْفَرٌ يَا جَعْفَرٌ يَا جَعْفَر إنْ أكُ دَحْدَاحَاً فأنت أقْصَرُ
وقوله: [المديد]
٥٣٣٥ - يَا لَبكْرٍ أنْشِزُوا لِي كُلَيْبَاً يَا لَبكْرٍ أيْنَ أيْنَ الفِرَارُ
قالوا: والقرآن جاء على أساليب كلام العرب، وفائدة التكرير هنا، قطع أطماع الكفار وتحقيق الإخباربموافقتهم على الكفر وأنهم لا يسلمون أبداً.
وقيل: هذا على مطابقة قولهم: تعبد آلهتنا ونعبد إلهك [ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك، ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك]، فنجري على هذا أبداً سنةٌ وسنةً، فأجيبوا عن كل ما قالوه بضده، أي: أن هذا لا يكون أبداً.
وقال جماعة: ليس للتأكيد، فقال الأخفش: «لا أعبدُ» الساعة «مَا تَعْبُدُونَ، ولا أنْتُم عَابِدُونَ» السنة «ما أعبدُ» فلا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد؛ فزال التوكيد إذ قد تقيد كل جملة بزمان مغاير؛ انتهى.
وفيه نظر، كيف يقيد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نفي عبادته لما يعبدون بزمان؟ هذا مما لا يصح، وفي أسباب النزول أنهم سألوه أن يعبد آلهتهم سنة، فنزلت، فكيف يستقيم هذا؟.
وجعل أبو مسلم التغاير بما تقدم عنه، وهو كون «ما» في الأوليين بمعنى «الذي»، وفي الأخريين: مصدرية، وفيه نظر من حيث إن التكرار إنَّما هو من حيث المعنى، وهذا موجود، كيف قدر «مَا».
532
وقال ابن عطية: لما كان قوله: «لا أعْبدُ» محتملاً أن يراد به الآن، ويبقى المستقبل منتظراً ما يكون فيه جاء البيان بقوله: ﴿وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ﴾ أبداً وما حييت، ثم جاء قوله: ﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ الثاني حتماً عليهم أنهم لا يؤمنون أبداً كالذي كشف الغيب، كما قيل لنوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:
﴿لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ﴾ [هود: ٣٦]، فهذا معنى التَّرديد في هذه السورة، وهو بارع الفصاحة، وليس بتكرار فقط، بل فيه ما ذكرته انتهى.
وقال الزمخشريُّ: «لا أعبد» أريد به العبادة فيما يستقبل؛ لأن «لا» لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال، كما أن «أن» لا تدخل إلاَّ على مضارع في معنى الحال، ألا ترى [أنَّ «لَنْ» تأكيد فيما تنفيه «لا».
وقال الخليل في «لن» : إن أصله:] «لا أن» والمعنى: لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي ﴿وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ﴾ أي: ما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه، يعني: لم تعهد مني عبادة صنمٍ في الجاهلية فيكف ترجى مني في الإسلام؛ ﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ أي: وما عبدتم في وقت وما أنا على عبادته.
فإن قلت: فهلاَّ قيل: ما عبدت كما قيل: ما عبدتم؟.
قلت: لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل المبعث، وهو لم يكن ليعبد الله - تعالى - في ذلك الوقت.
فإن قلت: فلم جاء على «ما» دون «من» ؟ قلت: لأن المراد الصفة كأنه قال: لا أعبد الباطل، ولا تعبدون الحق.
وقيل: إن «ما» مصدرية، أي: لا أعبد عبادتكم، ولا تعبدون عبادتي انتهى.
[يعني أنه أريد به الصفة، وقد تقدم تحقيق ذلك في سورة «والشمس وضحاها» ].
وناقشه أبو حيَّان، فقال: أما حصره في قوله: لأن «لا» لا تدخل، وفي قوله: إنَّ «مَا» تدخل، فليس بصحيح، بل ذلك غالب فيهما، لا متحتم، وقد ذكر النحاةُ دخول «لا» على المضارع يراد به الحال، ودخول «ما» على المضارع يراد به الاستقبال، وذلك مذكور في المبسُوطات من كتب النحو. ولذلك لم يذكر سيبويه ذلك بأداة الحصر، إنما قال: وتكون «لا» نفياً، لقوله: «نفعل» ولم يقع الفعلُ، قال: «وأمَّا» مَا «فهي نفي، لقوله: هو يفعل إذا كان في حال الفعل. فذكر الغالب فيهما.
533
وأما قوله تعالى: ﴿وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ﴾، أي: وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه، فلا يستقيم، لأن» عابدٌ «اسم فاعل قد عمل فيما عبدتم، فلا يفسر بالماضي، إنما يعتبر بالحال، أو الاستقبال، وليس مذهبه في اسم الفاعل مذهب الكسائي، وهشام في جواز إعماله ماضياً.
وأما قوله: ﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ أي: وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته ف»
عَابِدُون «قد أعمله في:» مَا أعبدُ «، فلا يفسر بالماضي.
وأما قوله: «وهو لم يكن»
، إلى آخره، فسوء أدب على منصب النبوة، وغير صحيح؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يزل مُوحِّداً لله تعالى، مُنزِّهاً له عن كل ما لا يليق بجلاله سبحانه مجتنباً لأصنامهم يقف على مشاعر إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ويحجّ البيت، وهذه عبادة، وأي عبادة أعظم من توحيد الله تعالى ونبذ أصنامهم، ومعرفة الله - تعالى - أعظم العبادات.
قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦].
قال المفسرون: أي ليعرفون، فسمى الله تعالى المعرفة به عبادة انتهى.
قال شهاب الدين: ويجاب عن الأول: أنه من بنى أمره على الغالب، فلذلك أتى بالحصرِ، وأما ما حكاه سيبويه، فظاهر معه، حتى يقوم دليل على غيره، وعن إعماله اسم الفاعل مفسراً له بالماضي بأنه على حكاية الحال، كقوله تعالى: ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ﴾ [الكهف: ١٨]، وقوله تعالى: ﴿والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ٧٢]، وأما كونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يزل منزهاً موحداً لله تعالى، فمسلم ذلك. وقوله: «وهذه أعظم العبادات» فمسلم أيضاً، ولكن المراد في الآية عبادة مخصوصة، وهي الصلاة المخصوصة؛ لأنها تقابل بها ما كان المشركون يفعلونه من سجودهم لأصنامهم، وصلاتهم لها، فقابل هذا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بصلاته لله تبارك وتعالى، ولكن بقي كلام الزمخشري يفهم أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن متعبداً قبل المبعث، وهو مذهب ساقط الاعتبار؛ لأن الأحاديث الصحيحة ترده، وهي: أنه كان يتحنَّثُ، كان يتعبد، كان يصوم، كان يطوف، كان يقف، ولم يقل بخلاف ذلك إلا شذوذ من الناس.
وفي الجملة، فالمسألة خلافية، وإذا كان متعبداً فبأي شرع كان يتعبدُ به؟ فقيل: شريعة نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وقيل: إبراهيم عليه السلام.
وقيل: موسى.
وقيل: عيسى - صلوات الله عليهم أجمعين -، وذلك مذكور في الأصول.
534
ثم قال أبو حيان: والذي أختاره في هذه الجمل أنه نفى عبادته في المستقبل؛ لأن الغالب في «لا» أن تنفى المستقبل، ثم عطف عليه ﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ نفياً للمستقبل؛ لأن اسم الفاعل العامل، الحقيقة فيه: دلالته على الحال، ثم عطف عليه ﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ نفياً للحال على سبيل المقابلة، فانتظم المعنى، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يعبد ما يعبدون حالاً، ولا مستقبلاً وهم كذلك، إذ قد حتم الله موافاتهم على الكفر، ولما قال: ﴿لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ فأطلق «ما» على الأصنام، قابل الكلام ب «ما» في قوله: «مَا أعبدُ» وإن كان المراد الله، لأن المقابلة تسوغ فيها ما لا يسوغ في الانفراد وهذا مذهب من يقول: إن «مَا» لا تقع على آحاد أولي العلم، أما من جوز ذلك، وهو منسوب إلى سيبويه، فلا يحتاج إلى استعذار بالتقابل.
قال القرطبيُّ: كانوا يعبدون الأوثان، فإذا ملُّوا وثناً، وسئمُوا العبادة له رفضوه، ثم أخذوا وثناً غيره بشهوة نفوسهم، فإذا مروا بحجارة تعجبهم ألقوا هذه، ورفعوا تلك، فعظموها، ونصبوها آلهة يعبدونها، فأمر أن يقول: ﴿لا أعبدُ مَا تعبدُون﴾ اليوم من هذه الآلهة التي بيْن أيديكم، ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿ولا أنتُم عَابدوُنَ مَا أعبدُ﴾ إنما تعبدون الوثنَ الذي اتخذتموه، وهو عندكم الآن، ﴿وَلاَ أنتُمْ عَابِدونَ ما أعبدُ﴾، فإني أعبد إلهي.
قوله: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾. أتى بهاتين الجملتين الإثباتيتين بعد جملة منفية لأنه لما ذكر أنّ الأهم انتفاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من دينهم، بدأ بالنفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه، فلما تحقق النفيُ رجع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى خطابه بقوله: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ﴾ مهادنة لهم، ثم نسخ ذلك الأمر بالقتال.
وفتح الياء في «لِيَ» : نافع وهشام وحفص والبزي بخلاف عنه، وأسكنها الباقون.
وحذف «الياء» من «ديني» وقفاً ووصلاً: السبعة، وجمهور القراء، وأثبتها في الحالين سلام ويعقوب، وقالوا: لأنها اسم مثل الكاف في «دينك» والثاني قد تقدم إيضاحه.

فصل


في الكلام معنى التهديد، كقوله تعالى: ﴿لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ [البقرة: ١٣٩]، أي: إن رضيتم بدينكم، فقد رضيناه بديننا، ونسخ هذا الأمر بالقتال.
[وقيل: السورة منسوخة.
535
وقيل: ما نسخ منها شيء؛ لأنها خبر، ومعنى لكم دينكم: أي جزاء دينكم، ولي دين: أي جزاء ديني، وسمى دينهم ديناً؛ لأنهم اعتقدوه].
وقيل: المعنى: لكم جزاؤكم ولي جزائي، أي: لأن الدين الجزاء.
وقيل: الدِّين العقوبة، لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله﴾ [النور: ٢]، والمعنى: لكم العقوبة من ربِّي، ولي العقوبة من أصنامكم، فأنا لا أخشى عقوبة الأصنام؛ لأنها جمادات، وأما أنتم فيحق عليكم أن تخافوا عقوبة جبَّار السَّماوات والأرض. وقيل: الدين الدعاء، لقوله تعالى: ﴿فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ [غافر: ١٤]، وقوله: ﴿وَمَا دُعَآءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾ [الرعد: ١٤].
وقيل: الدين العادة؛ قال الشاعر: [الوافر]
٥٣٣٦ - تَقُولُ إذَا دَرأتُ لهَا وضِينِي أهَذَا دِينهُ أبَداً ودينِي
والمعنى: لكم عادتكم المأخوذة من أسلافكم ومن الشيطان، ولي عادتي من ربي.

فصل


قال ابن الخطيب: «جرت العادة بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المناكرة، وذلك غير جائز؛ لأن القرآن أنزل ليتدبر فيه، ويعمل بموجبه، فلا يتمثّل به». والله أعلم.
536
سورة النصر
537
قوله :﴿ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾. في «مَا » هذه في هذه السورة وجهان :
أحدهما : أن تكون بمعنى «الذي ».
والثانية : فالأمر فيها واضح ؛ لأنها لغير عقلاء. و «ما » أصلها أن تكون لغير العقلاء، وإذا أريد بها الباري - تعالى - كما في الثانية والرابعة، فاستدلّ به من جوز وقوعها على أولي العلمِ، ومن منع جعلها مصدرية، والتقدير : ولا أنتم عابدون عبادتي، أي : مثل عبادتي.
وقال أبو مسلم :«ما » في الأوليين بمعنى «الذي »، والمقصود : المعبود، و «ما » في الأخريين مصدرية، أي : لا أعبد عبادتكم المبنية على الشَّك وترك النظر، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين، فيحصل من مجموع ذلك ثلاثة أقوال : أنها كلَّها بمعنى «الذي »، أو مصدرية، أو الأوليان بمعنى الذي، والثالثة والرابعة مصدرية، لكان حسناً، حتى لا يلزم وقوع «ما » على أولي العلم، وهو مقتضى من يمنع وقوعها على أولي العلم، كما تقدم.

فصل في التكرار في الآية


اختلفوا في التَّكرار - هاهنا- هل هو للتأكيد، أم لا ؟ وإذا لم يكن للتأكيد فقوله تعالى :﴿ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾ تأكيد لقوله ﴿ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾، وقوله :﴿ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴾ ثانياً تأكيد لقوله :﴿ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴾ أولاً. ومثله :﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ الرحمن : ١٣ ]، و ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ في سورتيهما، و ﴿ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ التكاثر : ٣، ٤ ]، و ﴿ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ﴾ [ النبأ : ٤ ٥ ] وفي الحديث :«فَلاَ آذَنُ ثُمَّ لا آذنُ، إنَّما فَاطِمةُ بَضعَةٌ منِّي »١ ؛ وقال الشاعر :[ مجزوء الكامل ]
٥٣٣٠- هَلاَّ سَألْتَ جُموعَ كِنْ دّةَ يَوْمَ ولَّوْا أيْنَ أيْنَا٢
وقوله :[ الرجز ]
٥٣٣١- يَا عَلْقَمَهْ يَا عَلْقَمَهْ يَا عَلْقَمَهْ خَيْرَ تَمِيمٍ كُلِّهَا وأكْرمَهْ٣
وقوله :[ الرجز ]
٥٣٣٢- يَا أقَرعُ بْنُ حَابِسٍ يَا أقْرَعُ إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ٤
وقوله :[ الطويل ]
٥٣٣٣- ألا يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي*** ثَلاثَ تَحِيَّاتٍ وإنْ لَمْ تَكَلَّمِ٥
وقوله :[ الرجز ]
٥٣٣٤- يَا جَعْفَرٌ يَا جَعْفَرٌ يَا جَعْفَر*** إنْ أكُ دَحْدَاحَاً فأنت أقْصَرُ٦
وقوله :[ المديد ]
٥٣٣٥- يَا لَبكْرٍ أنْشِرُوا لِي كُلَيْبَاً يَا لَبكْرٍ أيْنَ أيْنَ الفِرَارُ٧
قالوا : والقرآن جاء على أساليب كلام العرب، وفائدة التكرير هنا قطع أطماع الكفار وتحقيق الإخبار بموافقتهم على الكفر، وأنهم لا يسلمون أبداً.
وقيل : هذا على مطابقة قولهم : تعبد آلهتنا ونعبد إلهك [ ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك، ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك ]٨، فنجري على هذا أبداً سنة وسنةً، فأجيبوا عن كل ما قالوه بضده، أي : أن هذا لا يكون أبداً.
وقال جماعة : ليس للتأكيد، فقال الأخفش :«لا أعبدُ » الساعة «مَا تَعْبُدُونَ، ولا أنْتُم عَابِدُونَ » السنة «ما أعبدُ »، فلا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد ؛ فزال التوكيد ؛ إذ قد تقيد كل جملة بزمان مغاير ؛ انتهى.
وفيه نظر، كيف يقيد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفي عبادته لما يعبدون بزمان ؟ هذا مما لا يصح، وفي أسباب النزول أنهم سألوه أن يعبد آلهتهم سنة، فنزلت، فكيف يستقيم هذا ؟
وجعل أبو مسلم التغاير بما تقدم عنه، وهو كون «ما » في الأوليين بمعنى «الذي »، وفي الأخريين : مصدرية، وفيه نظر من حيث إن التكرار إنَّما هو من حيث المعنى، وهذا موجود، كيف قدر «مَا ».
وقال ابن عطية٩ : لما كان قوله :«لا أعْبدُ » محتملاً أن يراد به الآن، ويبقى المستقبل منتظراً ما يكون فيه، جاء البيان بقوله :﴿ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾ أبداً وما حييت، ثم جاء قوله :﴿ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴾ الثاني حتماً عليهم أنهم لا يؤمنون أبداً كالذي كشف الغيب، كما قيل لنوح - عليه الصلاة والسلام - :﴿ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ ﴾ [ هود : ٣٦ ]، فهذا معنى التَّرديد في هذه السورة، وهو بارع الفصاحة، وليس بتكرار فقط ؛ بل فيه ما ذكرته. انتهى.
وقال الزمخشريُّ١٠ :«لا أعبد » أريد به العبادة فيما يستقبل ؛ لأن «لا » لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال، كما أن «أن » لا تدخل إلاَّ على مضارع في معنى الحال، ألا ترى [ أنَّ «لَنْ » تأكيد فيما تنفيه «لا ».
وقال الخليل في «لن » : إن أصله :] ١١ «لا أن »، والمعنى : لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي ﴿ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾ أي : ما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه، يعني : لم تعهد مني عبادة صنمٍ في الجاهلية، فيكف ترجى مني في الإسلام ؛ ﴿ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴾ أي : وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته.
فإن قلت : فهلاَّ قيل : ما عبدت، كما قيل : ما عبدتم ؟ قلت : لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل المبعث، وهو لم يكن ليعبد الله - تعالى - في ذلك الوقت. فإن قلت : فلم جاء على «ما » دون «من » ؟ قلت : لأن المراد الصفة، كأنه قال : لا أعبد الباطل، ولا تعبدون الحق.
وقيل : إن «ما » مصدرية، أي : لا أعبد عبادتكم، ولا تعبدون عبادتي. انتهى.
[ يعني أنه أريد به الصفة، وقد تقدم تحقيق ذلك في سورة «والشمس وضحاها » ].
وناقشه أبو حيَّان، فقال١٢ : أما حصره في قوله : لأن «لا » لا تدخل، وفي قوله : إنَّ «مَا » تدخل، فليس بصحيح ؛ بل ذلك غالب فيهما، لا متحتم، وقد ذكر النحاةُ دخول «لا » على المضارع يراد به الحال، ودخول «ما » على المضارع يراد به الاستقبال، وذلك مذكور في المبسُوطات من كتب النحو. ولذلك لم يذكر سيبويه ذلك بأداة الحصر، إنما قال١٣ : وتكون «لا » نفياً، لقوله :«نفعل » ولم يقع الفعلُ، قال :«وأمَّا » مَا «فهي نفي، لقوله : هو يفعل إذا كان في حال الفعل. فذكر الغالب فيهما.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ولما قال :﴿ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ فأطلق «ما» على الأصنام، قابل الكلام ب «ما» في قوله :«مَا أعبدُ» وإن كان المراد الله، لأن المقابلة تسوغ فيها ما لا يسوغ في الانفراد، وهذا مذهب من يقول : إن «مَا» لا تقع على آحاد أولي العلم، أما من جوز ذلك، وهو منسوب إلى سيبويه، فلا يحتاج إلى استعذار بالتقابل.
قال القرطبيُّ٣ : كانوا يعبدون الأوثان، فإذا ملُّوا وثناً، وسئمُوا العبادة له رفضوه، ثم أخذوا وثناً غيره بشهوة نفوسهم، فإذا مروا بحجارة تعجبهم ألقوا هذه، ورفعوا تلك، فعظموها، ونصبوها آلهة يعبدونها، فأمر أن يقول :﴿ لا أعبدُ مَا تعبدُون ﴾ اليوم من هذه الآلهة التي بيْن أيديكم، ثم قال صلى الله عليه وسلم :﴿ ولا أنتُم عَابدوُنَ مَا أعبدُ ﴾ إنما تعبدون الوثنَ الذي اتخذتموه، وهو عندكم الآن، ﴿ وَلاَ أنتُمْ عَابِدونَ ما أعبدُ ﴾، فإني أعبد إلهي.


١ تقدم تخريجه..
٢ البيت لعبيد بن الأبرص، ينظر ديوانه (١٣٦)، وشرح شواهد المغني (٩١)، والقرطبي ٢٠/١٥٥، والدر المصون ٦/٥٨٠..
٣ ينظر القرطبي ٢٠/١٥٥، والدر المصون ٦/٥٨١، وفتح القدير ٥/٥٠٧..
٤ تقدم..
٥ تقدم..
٦ ينظر المفصل ٥/٩٣..
٧ هو للمهلهل بن ربيعة، ينظر خزانة الأدب ٢/١٦٢، وشرح أبيات سيبويه ١/٤٦٦، والكتاب ٢/٢١٥، واللامات ص ٨٧، واللسان (لوم)، والخصائص ٣/٢٢٩، والقرطبي ٢٠/١٥٥، والدر المصون ٦/٥٨١..
٨ سقط من : أ..
٩ المحرر الوجيز ٥/٥٣١..
١٠ الكشاف ٤/٨٠٨..
١١ سقط من: أ..
١٢ البحر المحيط ٨/٥٢٣..
١٣ ينظر: الكتاب ٢/٣٠٥ -٣٠٦..
وأما قوله تعالى :﴿ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾، أي : وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه، فلا يستقيم، لأن «عابدٌ » اسم فاعل قد عمل فيما عبدتم، فلا يفسر بالماضي، إنما يعتبر بالحال، أو الاستقبال، وليس مذهبه في اسم الفاعل مذهب الكسائي، وهشام في جواز إعماله ماضياً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ولما قال :﴿ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ فأطلق «ما» على الأصنام، قابل الكلام ب «ما» في قوله :«مَا أعبدُ» وإن كان المراد الله، لأن المقابلة تسوغ فيها ما لا يسوغ في الانفراد، وهذا مذهب من يقول : إن «مَا» لا تقع على آحاد أولي العلم، أما من جوز ذلك، وهو منسوب إلى سيبويه، فلا يحتاج إلى استعذار بالتقابل.
قال القرطبيُّ٣ : كانوا يعبدون الأوثان، فإذا ملُّوا وثناً، وسئمُوا العبادة له رفضوه، ثم أخذوا وثناً غيره بشهوة نفوسهم، فإذا مروا بحجارة تعجبهم ألقوا هذه، ورفعوا تلك، فعظموها، ونصبوها آلهة يعبدونها، فأمر أن يقول :﴿ لا أعبدُ مَا تعبدُون ﴾ اليوم من هذه الآلهة التي بيْن أيديكم، ثم قال صلى الله عليه وسلم :﴿ ولا أنتُم عَابدوُنَ مَا أعبدُ ﴾ إنما تعبدون الوثنَ الذي اتخذتموه، وهو عندكم الآن، ﴿ وَلاَ أنتُمْ عَابِدونَ ما أعبدُ ﴾، فإني أعبد إلهي.

وأما قوله :﴿ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴾ أي : وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته، ف «عَابِدُون » قد أعمله في :«مَا أعبدُ »، فلا يفسر بالماضي.
وأما قوله :«وهو لم يكن »، إلى آخره، فسوء أدب على منصب النبوة، وغير صحيح ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يزل مُوحِّداً لله تعالى، مُنزِّهاً له عن كل ما لا يليق بجلاله سبحانه، مجتنباً لأصنامهم، يقف على مشاعر إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ويحجّ البيت، وهذه عبادة، وأي عبادة أعظم من توحيد الله تعالى ونبذ أصنامهم، ومعرفة الله - تعالى - أعظم العبادات.
قال الله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ الذاريات : ٥٦ ].
قال المفسرون : أي ليعرفون، فسمى الله تعالى المعرفة به عبادة انتهى.
قال شهاب الدين١ : ويجاب عن الأول : أنه من بنى أمره على الغالب، فلذلك أتى بالحصرِ، وأما ما حكاه سيبويه، فظاهر معه، حتى يقوم دليل على غيره، وعن إعماله اسم الفاعل مفسراً له بالماضي بأنه على حكاية الحال، كقوله تعالى :﴿ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ ﴾ [ الكهف : ١٨ ]، وقوله تعالى :﴿ والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [ البقرة : ٧٢ ]، وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يزل منزهاً موحداً لله تعالى، فمسلم ذلك. وقوله :«وهذه أعظم العبادات » فمسلم أيضاً، ولكن المراد في الآية عبادة مخصوصة، وهي الصلاة المخصوصة ؛ لأنها تقابل بها ما كان المشركون يفعلونه من سجودهم لأصنامهم، وصلاتهم لها، فقابل هذا صلى الله عليه وسلم بصلاته لله تبارك وتعالى، ولكن بقي كلام الزمخشري يفهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبداً قبل المبعث، وهو مذهب ساقط الاعتبار ؛ لأن الأحاديث الصحيحة ترده، وهي : أنه كان يتحنَّثُ، كان يتعبد، كان يصوم، كان يطوف، كان يقف، ولم يقل بخلاف ذلك إلا شذوذ من الناس.
وفي الجملة، فالمسألة خلافية، وإذا كان متعبداً فبأي شرع كان يتعبدُ به ؟ فقيل : شريعة نوح عليه الصلاة والسلام.
وقيل : إبراهيم عليه السلام.
وقيل : موسى.
وقيل : عيسى - صلوات الله عليهم أجمعين -، وذلك مذكور في الأصول.
ثم قال أبو حيان٢ : والذي أختاره في هذه الجمل أنه نفى عبادته في المستقبل ؛ لأن الغالب في «لا » أن تنفي المستقبل، ثم عطف عليه ﴿ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴾ نفياً للمستقبل ؛ لأن اسم الفاعل العامل، الحقيقة فيه : دلالته على الحال، ثم عطف عليه ﴿ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴾ نفياً للحال على سبيل المقابلة، فانتظم المعنى، أنه صلى الله عليه وسلم لا يعبد ما يعبدون حالاً، ولا مستقبلاً وهم كذلك، إذ قد حتم الله موافاتهم على الكفر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ولما قال :﴿ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ فأطلق «ما» على الأصنام، قابل الكلام ب «ما» في قوله :«مَا أعبدُ» وإن كان المراد الله، لأن المقابلة تسوغ فيها ما لا يسوغ في الانفراد، وهذا مذهب من يقول : إن «مَا» لا تقع على آحاد أولي العلم، أما من جوز ذلك، وهو منسوب إلى سيبويه، فلا يحتاج إلى استعذار بالتقابل.
قال القرطبيُّ٣ : كانوا يعبدون الأوثان، فإذا ملُّوا وثناً، وسئمُوا العبادة له رفضوه، ثم أخذوا وثناً غيره بشهوة نفوسهم، فإذا مروا بحجارة تعجبهم ألقوا هذه، ورفعوا تلك، فعظموها، ونصبوها آلهة يعبدونها، فأمر أن يقول :﴿ لا أعبدُ مَا تعبدُون ﴾ اليوم من هذه الآلهة التي بيْن أيديكم، ثم قال صلى الله عليه وسلم :﴿ ولا أنتُم عَابدوُنَ مَا أعبدُ ﴾ إنما تعبدون الوثنَ الذي اتخذتموه، وهو عندكم الآن، ﴿ وَلاَ أنتُمْ عَابِدونَ ما أعبدُ ﴾، فإني أعبد إلهي.


١ الدر المصون ٦/٥٨٢..
٢ البحر المحيط ٨/٥٢٣..
قوله :﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾. أتى بهاتين الجملتين الإثباتيتين بعد جملة منفية ؛ لأنه لما ذكر أنّ الأهم انتفاؤه صلى الله عليه وسلم من دينهم، بدأ بالنفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه، فلما تحقق النفيُ رجع صلى الله عليه وسلم إلى خطابه بقوله :﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ ﴾ مهادنة لهم، ثم نسخ ذلك الأمر بالقتال.
وفتح الياء في «لِيَ » : نافع وهشام وحفص والبزي بخلاف عنه، وأسكنها١ الباقون.
وحذف «الياء » من «ديني » وقفاً ووصلاً : السبعة، وجمهور القراء، وأثبتها في الحالين سلام ويعقوب، وقالوا : لأنها اسم مثل الكاف في «دينك »، والثاني قد تقدم إيضاحه.

فصل


في الكلام معنى التهديد، كقوله تعالى :﴿ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٣٩ ]، أي : إن رضيتم بدينكم، فقد رضينا بديننا، ونسخ هذا الأمر بالقتال.
[ وقيل : السورة منسوخة.
وقيل : ما نسخ منها شيء ؛ لأنها خبر، ومعنى لكم دينكم : أي جزاء دينكم، ولي دين : أي جزاء ديني، وسمى دينهم ديناً ؛ لأنهم اعتقدوه ]٢.
وقيل : المعنى : لكم جزاؤكم ولي جزائي، أي : لأن الدين : الجزاء.
وقيل : الدِّين : العقوبة، لقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله ﴾ [ النور : ٢ ]، والمعنى : لكم العقوبة من ربِّي، ولي العقوبة من أصنامكم، فأنا لا أخشى عقوبة الأصنام ؛ لأنها جمادات، وأما أنتم فيحق عليكم أن تخافوا عقوبة جبَّار السَّماوات والأرض. وقيل : الدين : الدعاء، لقوله تعالى :﴿ فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾ [ غافر : ١٤ ]، وقوله :﴿ وَمَا دُعَآءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾ [ الرعد : ١٤ ].
وقيل : الدين : العادة ؛ قال الشاعر :[ الوافر ]
٥٣٣٦- تَقُولُ إذَا دَرأتُ لهَا وضِينِي أهَذَا دِينهُ أبَداً ودينِي٣
والمعنى : لكم عادتكم المأخوذة من أسلافكم ومن الشيطان، ولي عادتي من ربي.

فصل


قال ابن الخطيب٤ :«جرت العادة بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المناكرة، وذلك غير جائز ؛ لأن القرآن أنزل ليتدبر فيه، ويعمل بموجبه، فلا يتمثّل به ». والله أعلم.
١ ينظر: السبعة ٦٩٩، والحجة ٦/٤٤٩ -٤٥٠، وإعراب القراءات ٢/٥٣٩، والمحرر الوجيز ٥/٥٣١، والدر المصون ٦/٥٨٣..
٢ سقط من: ب..
٣ تقدم..
٤ الفخر الرازي ٣٢/١٣٧..
Icon