ﰡ
٤١٨- قال الشافعي رحمه الله : قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ إِذَا جَاءكَ اَلْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اَللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ إلى :﴿ يَفْقَهُونَ ﴾.
قال الشافعي : فبين أن إظهار الإيمان ممن لم يزل مشركا حتى أظهر الإيمان، وممن أظهر الإيمان ثم أشرك بعد إظهاره ثم أظهر الإيمان، مانع لدَمِ من أظهره في أي هذين الحالين كان، وإلى أي كفر سار كفر يُسِرُّه أو كفر يُظْهرُه. وذلك أنه لم يكن للمنافقين دين يظهر كظهور الدين الذي له أعياد وإتيان كنائس، وإنما كان كفر جحد وتعطيل، وذلك بين في كتاب الله عز وجل ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن الله عز وجل أخبر المنافقين بأنهم اتخذوا أيمانهم جنة، يعني ـ والله أعلم ـ من القتل، ثم أخبر بالوجه الذي اتخذوا به أيمانهم جنة فقال :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ﴾ فأخبر عنهم بأنهم آمنوا ثم كفروا بعد الإيمان كفرا إذا سئلوا عنه أنكروه وأظهروا الإيمان وأقروا به، وأظهروا التوبة منه، وهم مقيمون فيما بينهم وبين الله على الكفر. قال الله عز وجل ثناؤه :﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ اَلْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَـامِهِمْ ﴾١ فأخبر بكفرهم وجحدهم الكفر، وكذب سرائرهم بجحدهم، وذكر كفرهم في غير آية وسماهم بالنفاق إذ أظهروا الإيمان وكانوا على غيره، قال الله عز وجل :﴿ اِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ فِى اِلدَّرَكِ اِلاَسْفَلِ مِنَ اَلنّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ﴾٢.
فأخبر عز وجل عن المنافقين بالكفر، وحكم فيهم بعلمه من أسرار خلقه ما لا يعلمه غيره بأنهم في الدرك الأسفل من النار، وأنهم كاذبون بأيمانهم، وحكم فيهم جل ثناؤه في الدنيا بأن ما أظهروا من الإيمان ـ وإن كانوا به كاذبين ـ لهم جنة من القتل، وهم المسرون الكفر، المظهرون الإيمان. وبين على لسانه صلى الله عليه وسلم مثل ما أنزل في كتابه من أن إظهار القول بالإيمان جنة من القتل، أقر من شهد عليه بالإيمان بعد الكفر أن لهم حكم المسلمين من الموارثة والمناكحة وغير ذلك من أحكام المسلمين.
فكان بينا في حكم الله عز وجل في المنافقين، ثم حكم رسوله صلى الله عليه وسلم، أن ليس لأحدٍ أن يحكم على أحد بخلاف ما أظهر من نفسه، وأن الله عز وجل إنما جعل للعباد الحكم على ما أظهر، لأن أحدا منهم لا يعلم ما غاب إلا ما علمه الله عز وجل فوجب على من عقل عن الله أن يجعل الظنون كلها في الأحكام معطلة، فلا يحكم على أحد بظن، وهكذا دلالة سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانت لا تختلف. أخبرنا يحيى بن حسان، عن الليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد٣، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار٤، عن المقداد بن الأسود، أنه أخبره أنه قال : يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال : أسلمت لله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« لا تقتله » فقلت يا رسول الله إنه قطع يدي ثم قال ذلك بعد أن قطعها، أفأقتله يا رسول الله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« لا تقتله، فإنك إن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها »٥.
قال الشافعي رحمه الله : فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله حرم دم هذا بإظهاره الإيمان في حال خوفه على دمه، ولم يبحه بالأغلب، أنه لم يسلم إلا متعوذا من القتل بالإسلام.
قال الشافعي : أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، أن رجلا سارَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ندر ما سارَّه به حتى جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« أليس يشهد أن لا إله إلا الله ؟ » قال : بلى، ولا شهادة لهُ، قال :« أليس يصلي ؟ » قال : بلى، ولا صلاة له. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :« أولئك الذين نهاني الله عنهم »٦.
قال الشافعي : فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم المستأذن في قتل المنافق إذ أظهر الإسلام أن الله نهاه عن قتله، وهذا موافق كتاب الله عز وجل بأن الإيمان جنة، وموافق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم أهل الدنيا. وقد أخبر الله عنهم أنهم في الدرك الأسفل من النار.
أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« لا أزال أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله »٧.
قال الشافعي رحمه الله : وهذا موافق ما كتبنا قبله من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبين أنه إنما يحكم على ما ظهر، وأن الله تعالى ولي ما غاب، لأنه عالم بقوله :« وحسابهم على الله » وكذلك قال الله عز وجل فيما ذكرنا وفي غيره، فقال :{ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن
شَىْءٍ }٨ وقال عمر رضي الله عنه لرجل كان يعرفه بما شاء الله في دينه : أمؤمن أنت ؟ قال : نعم. قال : إني لأحسبك متعوذا. قال : أما في الإيمان ما أعاذني فقال عمر : بلى٩.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجل هو من أهل النار، فخرج أحدهم معه حتى أثخن١٠ الذي قال من أهل النار فآذته الجراح، فقتل نفسه١١. ولم يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما استقر عنده من نفاقه، وعلم إن كان علمه من الله فيه من أن حقن دمه بإظهار الإيمان. ( الأم : ٦/١٥٦-١٥٨. ون الأم : ١/٢٥٩ و ٥/١٢٨ و ٧/٢٩٥. وأحكام الشافعي : ١/٢٩٣-٢٩٥ و ١/٢٩٧. )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
٤١٩- قال الشافعي : الأحكام على الظاهر والله ولي المغيب. ومن حكم على الناس بالإزكان١٢ جعل لنفسه ما حظر الله تعالى عليه ورسوله صلى الله عليه وسلم، لأن الله عز وجل إنما يولي الثواب والعقاب على المغيب، لأنه لا يعلمه إلا هو جل ثناؤه. وكلف العباد أنْ يأخذوا من العباد بالظاهر، ولو كان لأحدٍ أن يأخذ بباطن عليه دلالة كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وما وصفت من هذا يدخل في جميع العلم.
فإن قال قائل : ما دل على ما وصفت من أنه لا يحكم بالباطن ؟ قيل : كتاب الله ثم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر الله تبارك تعالى المنافقين فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ إِذَا جَاءكَ اَلْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اَللَّهِ ﴾ قرا إلى :﴿ فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اِللَّهِ ﴾١٣ فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتناكحون ويتوارثون، ويسهم لهم إذا حضروا القسمة، ويحكم لهم أحكام المسلمين، وقد أخبر الله تعالى ذكره عن كفرهم، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم اتخذوا أيمانهم جنة من القتل بإظهار الأَيْمان على الإِيمان. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه. فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ به فإنما أقطع له بقطعة من النار »١٤. فأخبرهم أنه يقضي بالظاهر، وأن الحلال والحرام عند الله على الباطن، وأن قضاءه لا يُحلُّ للمقضي له ما حرّم الله تعالى عليه إذا علمه حراما.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« قد آن لكم أن تنتهوا عن محارم الله تعالى فمن أصاب منكم من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإنه من يُبْدِ لنا صفحة نقِم عليه كتاب الله »١٥. فأخبرهم أنه لا يكشفهم عما لا يبدون من أنفسهم، وأنهم إذا أبْدَوا ما فيه الحق عليهم أخذوا بذلك، وبذلك أمر الله تعالى ذكره فقال :﴿ وَلا تَجَسَّسُواْ ﴾١٦ وبذلك أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ( ٤١٩- الأم : ٤/١١٤. )
٢ - النساء: ١٤٥..
٣ - عطاء بن يزيد الليثي. عن: تميم، وأبي أيوب. وعنه: الزهري، وسهيل، وأبو عبيد الحاجب. ت سنة: ١٠٧هـ. الكاشف: ٢/٢٦٢. ون التهذيب: ٥/٥٨٢. وقال في التقريب: ثقة..
٤ - عبيد الله بن عدي بن الخيار النوفلي، الفقيه. عن: عمر، وعثمان، والكبار. وعنه: عروة بن الزبير، وجعفر بن عمرو بن أمية، وجماعة مدنيون. الكاشف: ٢/٢٢٤. ون الإصابة: ٤/٤٠١. والتهذيب: ٥/٣٩٧. وقال في التقريب: عد في الصحابة، وعده العجلي وغيره في ثقات كبار التابعين..
٥ - سبق تخريجه..
٦ - رواه مالك في قصر الصلاة في السفر (٩) باب: جامع الصلاة (٢٤)(ر٨٤) قال ابن عبد البر: هكذا رواه سائر رواة الموطا مرسلا إلا روح بن عبادة فإنه رواه عن مالك متصلا مسندا. ن التمهيد: ١٠/١٥١.
ورواه البيهقي متصلا عن عبيد الله بن عدي بن الخيار عن عبد الله بن عدي الأنصاري في كتاب الجنائز باب: ما يستدل به على أن المراد بهذا الكفر كفر يباح به دمه لا كفر يخرج به عن الإيمان بالله ورسوله إذا لم يجحد وجوب الصلاة ٣/٣٦٧ وفي كتاب المرتد باب: ما يحرم به الدم ٨/١٩٦.
ورواه الشافعي في المسند (ر٨)..
٧ - سبق تخريجه..
٨ - الأنعام: ٥٢..
٩ - رواه البيهقي عن الشافعي في كتاب المرتد باب: ما يحرم به الدم من الإسلام..
١٠ - أثخن: إذا غلب وقهر. وأثخن في العدو: بالغ. وأثخنته الجراحة: أوهنته. والإثخان في الشيء: المبالغة فيه والإكثار منه. اللسان: ثخن..
١١ - رواه البخاري في الجهاد (٦٠) باب: إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر (١٧٨)(ر٢٨٩٧)، وفي المغازي (٦٧) باب: غزوة خيبر (٣٦)(ر٣٩٦٧)، وفي القدر (٨٥) باب: العمل بالخواتيم (٤)(ر٦٢٣٢).
ورواه مسلم في الإيمان (١) باب: بيان غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه (٤٧)(ر١١١)..
١٢ - الإزْكَانُ والزَّكَنُ: التفرُّس والظَنُّ. يقال: زَكِنْتُهُ صالحا أي ظننته. الصحاح: زكن..
١٣ - المنافقون: ١-٢..
١٤ - أخرجه البخاري بلفظ قريب منه عن أم سلمة في المظالم (٥١) باب: إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه (١٧)(ر٢٣٢٦).
وأخرجه مسلم في الأقضية (٣٠) باب: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (٣)(ر١٧١٣).
وأخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، عن أم سلمة. وأحمد في مسند أبي هريرة. والشافعي في المسند (ر١٦٣٩)..
١٥ - سبق تخريجه..
١٦ - الحجرات: ١٢..