ﰡ
هى مدنية وآياتها إحدى عشرة نزلت بعد الحج.
ووجه اتصالها بما قبلها- أنه ذكر فى الأولى حال المؤمنين الذين بعث إليهم النبي الأميّ يتلو عليهم كتابه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وأمرهم بالصلاة وترك البيع حين أدائها، وفى هذه ذكر أضدادهم وهم المنافقون الذين يشهدون كذبا بأن محمدا رسول الله ويحلفون الأيمان المحرجة على ذلك، ومن ثم كان النبي يقرأ فى صلاة الجمعة فى الركعة الأولى بسورة الجمعة، فيحرض بها المؤمنين على العبادة، وفى الركعة الثانية بسورة المنافقين، فيقرّع بها المنافقين.
[سورة المنافقون (٦٣) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤)شرح المفردات
المنافق: من يظهر الإيمان ويبطن الكفر، جنّة: أي وقاية وسترا لدمائهم وأموالهم، آمنوا: أي بألسنتهم، كفروا: أي بقلوبهم، طبع: أي ختم عليها كما يختم
المعنى الجملي
وصف الله تعالى المنافقين بأوصاف هى منتهى الشناعة والقبح:
(١) أنهم كذابون يقولون غير ما يعتقدون.
(٢) أنهم لا يبالون بالحلف بالله كذبا، سترا لنفاقهم، وحقنا لدمائهم.
(٣) أنهم جبناء، فهم على ضخامة أجسامهم، وفصاحة ألسنتهم، يظنون أن كل مناد ينادى إنما يقصدهم للإيقاع بهم.
الإيضاح
(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) أي إذا حضر مجلسك المنافقون كعبد الله بن أبىّ وصحبه قالوا نشهد شهادة لا نشك فى صدقها، إنك رسول من عند الله حقا، أوحى إليك وحيه، وأنزل عليك كتابه رحمة منه بعباده.
ثم أنى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها، تحقيقا لرسالته فقال:
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) أي والله يعلم إنك لرسوله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، لتنقذهم من الضلال إلى الهدى.
ثم بيّن كذبهم فى مقالهم الذي حدّثوا به فقال:
(وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) فيما أخبروا به، لأنهم لا يعتقدون صدق ما يقولون ولا تواطئ قلوبهم ألسنتهم فى هذه الشهادة.
(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي جعلوا أيمانهم الكاذبة وقاية وسترا لحقن دمائهم وحفظ أموالهم، فيحلفون بالله إنهم لمنكم، ويقولون نشهد إنك لرسول الله، حتى لا تجرى عليهم أحكام الكفار من القتل والأسر وأخذ الأموال غنيمة.
قال قتادة: كلما ظهر عليهم ما يوجب مؤاخذتهم حلفوا كاذبين، عصمة لدمائهم وأموالهم.
وفى هذا تعداد لقبائح أفعالهم، وأن من عادتهم أن يستجنّوا بالأيمان الكاذبة، كما استجنوا بالشهادة الكاذبة.
ثم حكى عنهم جريمة أخرى وهى إضلال الناس وصدهم عن الإسلام فقال:
(فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي فمنعوا الناس عن الدخول فى الإسلام، وعن الإنفاق كما حكى عنهم سبحانه بعد.
وقصارى ذلك- أنهم أجرموا جرمين:
(١) أعدوا الأيمان الكاذبة وهيئوها لوقت الحاجة، ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة.
(٢) أنهم يمنعون الناس عن الدخول فى الإسلام وينفّرونهم منه متى استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
ثم بين قبح مغبّة ما يعملون، ووبال ما يصنعون فقال:
(إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي قبح فعلهم إذ آثروا الكفر على الإيمان، وأظهروا خلاف ما أضمروا، وسيلقون نكالا ووبالا فى الدنيا والآخرة.
أما فى الدنيا فسيفضحهم الله على رءوس الأشهاد، ويظهر نفاقهم للمؤمنين بنحو قوله: «ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره، إنّهم كفروا بالله ورسوله».
ثم ذكر ما جرأهم على الكذب والاستخفاف بالأيمان المحرجة فقال:
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي ذلك الذي فعلوه لسوء سريرتهم، وقبح طويتهم، فاستهانوا بما يأتون وما يذرون، ولم يكن همهم إلا المحافظة على دمائهم وأموالهم، ومن ثم أظهروا للناس إيمانا وأبطنوا كفرا، وقد ختم على قلوبهم فلا تهتدى إلى حق، ولا يصل إليها خير، ومن جراء ذلك عموا عما نصب من الأدلة على صدق الرسول، وصمت الآذان عن سماع ما يوجب الإيمان، فهم صم بكم عمى فهم لا يعقلون.
ثم ذكر ما لهم من جمال فى الصورة واعتدال فى القوام فقال:
(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) أي لاستواء خلقهم، وجمال صورهم.
كما وصفهم بالفصاحة وذرابة اللسان فقال:
(وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لحلاوة منطقهم وحسن توقيع حديثهم فإذا سمعهم سامع أحب أن يصفى إليهم، وأن يطول حديثهم جهد الاستطاعة.
ثم وصفهم بأن أفئدتهم هواء لا عقول لهم ولا أحلام فقال:
(كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) أي هم أشباح بلا أرواح، لهم جمال فى المنظر، وقبح فى المخبر، فسدت بواطنهم، وحسنت ظواهرهم، فكانت كالخشب الجوفاء التي نخرها السوس، فهى مع حسنها لا ينتفع فيها بعمل، ولا يستفاد منها خير، ولله در أبى نواس:
لاتخذ عنك اللحى ولا الصّور... تسعة أعشار من ترى بقر
تراهم كالسراب منتشرا... وليس فيه لطالب مطر
فى شجر السّرو منهم مثل... له رواه وما له ثمر
ثم وصفهم بالجبن والذلة فقال:
ونحو الآية قوله تعالى: «أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ، فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ» وقد نظر المتنبي إلى الآية فى قوله:
وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم | إذا رأى غير شىء ظنه رجلا |
(فَاحْذَرْهُمْ) ولا تأمنهم على سر، ولا تلتفت إلى ظاهرهم، فقلوبهم متحرقة حسدا وبغضا، وأعدى الأعداء العدو المداجى الذي يكاشرك (يبتسم لك) وتحت ضلوعه الداء الدوىّ، والشر المستطير.
ثم زاد سبحانه فى ذمهم وتوبيخهم، وعجّب من حالهم فقال:
(قاتَلَهُمُ اللَّهُ) أي لعنهم الله وطردهم من رحمته، فما أفظع حالهم، وما أشدهم غفلة عن مآلهم.
وهذا تعليم منه لعباده المؤمنين أن يلعنوهم، فكأنه قال: قولوا قاتلهم الله.
(أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل، وقد كان لهم مدّكر فيما حولهم، وفيما أمامهم من صدق الداعي بما أتى به من البينات الدالة على أنه مرسل من ربه.
وإن تعجب من شىء فاعجب من جهالتهم وظنهم الفاسد أنهم على الحق، فما أعظمها محنة، وأعجب بها نقمة، جازاهم الله بها على سوء أعمالهم، وقبح فعالهم
[سورة المنافقون (٦٣) : الآيات ٥ الى ٨]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨)شرح المفردات
لوّوا رءوسهم: أي حوّلوها استهزاء، يصدون: أي يعرضون عن القائل، الفاسقين: أي الخارجين من طاعة الله وطاعة الرسول، المنهمكين فى أنواع الشرور والآثام، حتى ينفضّوا: أي حتى يتفرقوا، خزائن السموات والأرض: أي خزائن الأرزاق فيهما، لا يفقهون: أي لا يعلمون علما صادرا عن إدراك لجلال الله وقدرته، والأعزّ: أي المنافقون، والأذل فى زعمهم رسول الله ﷺ وصحبه، والعزة:
الغلبة والنصر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر كذب المنافقين فى قولهم للرسول صلى الله عليه وسلم: نشهد إنك لرسول الله، وبيّن شنيع أفعالهم، بترويجها بالأيمان الفاجرة، ثم أعقبه بذكر جبنهم وصلفهم، وأنهم أجسام البغال، وأحلام العصافير، ثم أردفه ببيان أنهم أعداء الله حقا أعقب هذا بذكر ما صدر منهم مما يثبت كذبهم ونفاقهم، بما لا يدع شبهة لمن يلتمس لهم المعاذير، ويبرئهم من النفاق فمن ذلك:
(٢) أنهم قالوا: لئن رجعنا من وقعة بنى المصطلق (قبيلة من اليهود) إلى المدينة لنخرجن الأذلاء محمدا وصحبه منها.
ثم نعى عليهم ما قالوا بأنهم قوم لا حلوم لهم، ولا هم يفقهون جليل قدرة الله وبديع صنعه.
روى أن رسول الله ﷺ حين غزا بنى المصطلق علا المريسيع (ماء لهم) وهزمهم وقتل وأسر- ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري، وكان أجيرا لعمر بن الخطاب، وسنان الجهني، وكان حليف عبد الله بن أبىّ، واقتتلا فصرخ جهجاه وقال: يا للمهاجرين، وصرخ سنان وقال: يا للأنصار، فأعان جهجاها رجل من المهاجرين ولطم سنانا فقال عبد الله بن أبىّ للمهاجرين: ما صحبنا محمدا إلا لنلطم، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل، ثم قال لقومه: لو أمسكتم عن هذا وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق قال: إذا ترعد أنف كثيرة بيثرب (يريد ﷺ أنه يهيج الشر) قال:
فإن كرهت أن يقتله مهاجر فأمر به أنصاريا، قال: فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟. ثم قال لعبد الله: أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني، قال:
والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك، وإن زيدا (يريد زيد بن أرقم الذي بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم) لكاذب، فنزلت هذه الآيات، فقال رسول الله ﷺ لزيد: يا غلام إن الله صدّقك وكذب المنافقين، فلما بان كذب عبد الله قيل له: قد نزلت فيك آي شداد، فأذهب إلى رسول الله ﷺ يستغفر
الإيضاح
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي وإذا قيل لجماعة المنافقين كعبد الله بن أبىّ: هلموا إلى رسول الله ﷺ يطلب لكم من ربكم غفران ذنوبكم، صدوا وأعرضوا، استكبارا وعتوّا.
قال الكلبي: لما نزل القرآن بصفة المنافقين مشى إليهم عشائرهم من المؤمنين وقالوا لهم: ويلكم افتضحتم بالنفاق، وأهلكتم أنفسكم، فائتوا رسول الله ﷺ وتوبوا إليه من النفاق، واسألوه أن يغفر لكم، فأبوا ذلك وزهدوا فى الاستغفار فنزلت الآية.
وقال ابن عباس: لما رجع عبد الله بن أبىّ من أحد بكثير من الناس مقته المسلمون وعنّفوه وأسمعوه ما يكره فقال له بنو أبيه: لو أتيت رسول الله ﷺ حتى يستغفر لك ويرضى عنك، قال: لا أذهب إليه ولا أريد أن يستغفر لى، وجعل يلوّى رأسه فنزلت:
ثم أيأسهم من جدوى الاستغفار لهم فقال:
(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) أي الاستغفار لهم وعدمه سيان لا يجديانهم نفعا، لأن الله قد كتب عليهم الشقاء بما كسبت أيديهم، وبما اجترحت من الفسوق والآثام، وبما ران على قلوبهم من الجحود والطغيان ثم علل ذلك بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي إن الله لا يهدى من أحاطت به خطيئته فلم تجد الهداية إلى قلبه سبيلا تسلكه، ولا المواعظ والنصائح متسعا فى فؤاده،
ثم ذكر هنة أخرى لهم فقال:
(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي هم الذين يقولون للأنصار: لا تطعموا محمدا وأصحابه حتى تصيبهم مجاعة، فيتركوا نبيهم حين يعضّهم الجوع بنابه.
ثم رد عليهم وخطّأهم فيما يقولون فقال:
(وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ولله جميع ما فى السموات والأرض من شىء، وبيده مفاتيح أرزاق العباد، لا يقدر أحد أن يعطى أحدا شيئا إلا بمشيئته.
(وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) ذلك لجهلهم بسنن الله فى خلقه، وأن الله قد كفل الأرزاق لعباده فى أي مكان كانوا متى عملوا وجدوا فى الحصول عليها.
ثم ذكر هنة ثالثة لهم وهى أعظمها فقال:
(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) أي يقول عبد الله ابن أبىّ ومن يلوذ به من صحبه: لئن عدنا إلى المدينة لنخرجنكم منها أيها المؤمنون فإننا الأقوياء الأشداء الأعزاء، وأنتم الضعفاء الأذلاء.
ثم رد عليهم مقالهم فقال:
(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) أي ولله الغلبة والقوّة، ولمن أعزه الله من الرسول والمؤمنين.
روى «أن عبد الله بن عبد الله بن أبىّ، وكان مؤمنا مخلصا، سلّ سيفه على أبيه عند ما أشرفوا على المدينة وقال: لله علىّ ألا أغمده حتى تقول: محمد الأعز وأنا الأذل، فلم يبرح حتى قال ذلك».
وروى «أنه وقف واستل سيفه وجعل الناس يمرون عليه حتى جاء أبوه فقال:
وراءك، قال مالك ويلك؟ قال والله لا تجوز من هنا حتى يأذن لك رسول الله
(وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن العاقبة للمتقين، وأن الله ينصر من ينصره كما قال «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» وسنته تعالى لا تبديل فيها ولا تغيير، وهو لا بد جاعل عباده المؤمنين هم الأعزاء كما وعد، وجاعل مخالفيه هم الأذلاء.
ولا دخل للمال والنشب، ولا للحسب والنسب، فى تلك القوّة التي يمد بها من يشاء، والنصرة التي يمنحها عباده المخلصين، وإن الله منجز وعده لنبيه، كما أنجزه لمن قبله من رسله، وقد تم لهم الظفر على أعدائهم الضالين.
[سورة المنافقون (٦٣) : الآيات ٩ الى ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١)
شرح المفردات
لا تلهكم: أي لا تشغلكم، وذكر الله: العبادات المذكرة به، والمال والأولاد يراد بها زخرف الدنيا، الخاسرون فى تجارتهم: إذ باعوا العظيم بالحقير، لولا: كلمة تفيد تمنى حصول ما بعدها.
بعد أن حكى مقال المنافقين من أنهم الأعزاء، وأن المؤمنين هم الأذلاء، اغترارا بما لهم من مال ونشب، وأن ذلك هو الذي صدهم عن طاعة الله، وجعلهم يعرضون عن الإيمان بالله إيمانا حقا، ويؤدون فرائضه، ويقومون بما يقربهم من رضوانه أردف ذلك بنهي المؤمنين أن يكونوا مثلهم فى ذلك، بل عليهم أن يلهجوا بذكر الله آناء الليل وأطراف النهار، ويؤدوا ما فرض عليهم من العبادات، ولا يشغلهم عن ذلك زخرف هذه الحياة من مال ونشب وأولاد وجاه، فما متاع الحياة الدنيا فى الآخرة إلا قليل ثم أمرهم أن ينفقوا أموالهم فى أعمال البر والخير ولا يؤخروا ذلك حتى يحل الموت فيندموا حيث لا ينفع الندم، ويتمنوا أن يطيل الله أعمارهم ليعوضوا بعض ما فاتهم، ولكن أنّى لهم ذلك ولكل نفس أجل محدود لا تعدوه، والله خبير بما يعملون، وهو مجازيهم على أعمالهم، إن خيرا وإن شرّا.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) أي لا يشغلكم تدبير أموالكم، والعناية بشؤون أولادكم، عن القيام بحقوق ربكم، وأداء فرائضه التي طلبها منكم، واجعلوا للدنيا حظا من اهتمامكم، وللآخرة مثله، وهذا ما عناه
الحديث: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا».
وبهذا امتازت الملة الحنيفية السمحة، فما طلب من المؤمنين أن يكونوا ماديين يتكالبون على جمع حطام الدنيا كما يفعل اليهود، ولا أن يكونوا روحانيين يجردون أنفسهم من لذات هذه الحياة، ويتبتلون إلى ربهم كما يفعل المسيحيون، كما يرشد إلى هذا قوله تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ
وقوله: «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا».
ثم توعد من يفعل ذلك فقال:
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي ومن تلهّ بالدنيا وشغلته عن حقوق الله فقد باء بغضب من ربه، وخسرت تجارته، إذ باع خالدا باقيا، واشترى فانيا زائلا وكيف يرضى عاقل بمثل هذه التجارة الخاسرة؟
ومن أهم ما يقرب العبد من ربه، ويجعله يفوز برضوانه- رحمة البائسين من عباده، وبذل المال فى الوجوه التي فيها سعادة الأمة، وإعلاء شأن الملة، وانتشار الدعوة، ومن ثم قال:
(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وأنفقوا بعض ما أعطيناكم من فضلنا من الأموال، شكرا على النعمة، ورحمة بالفقراء من عباده، وادخروا ذلك ليوم العرض والحساب، فتجنوا ثمار ما عملتم، ولا تدخروه فى صناديقكم، وتدعوه لوارثكم، فربما أضاعه فيما لا يكسبكم حمدا ولا مدحا، بل يكسبكم ذما وقدحا.
وقد جاء فى الخبر: «أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام»
وجاء أيضا: «يا ابن آدم ليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، أو تصدّقت فأبقيت».
ولا تنتظروا حتى يحين وقت الاحتضار، وتروا الموت رأى العين، ثم تتمنون أن لو مدّ الله فى الأجل، وأطال العمر، لتتداركوا ما فات، وتحسنوا العمل، وتساعدوا البائسين وذوى الحاجة، فهيهات هيهات، فليس ذا وقت الندم.
ندم البغاة ولات ساعة مندم | والبغي مرتع مبتغيه وخيم |
(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) فعليكم أن تستعدوا قبل حلول الأجل، وتهيئوا الزاد ليوم المعاد «فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ. وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ. نارٌ حامِيَةٌ».
وفى هذا عبرة لمن اعتبر، ولم يفرّط فى أداء الحقوق والواجبات.
ثم حذرهم وأنذرهم بأنه رقيب عليهم فى كل ما يأتون وما يذرون فقال:
(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فمجازيكم على الإحسان إحسانا، وعلى الإساءة إعراضا عنه وسخطا، وبعدا عن رضوانه: إنك لا تجنى من الشوك العنب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله.
تضمنت هذه السورة شيئين
(١) وصف المنافقين وبيان سيىء خصالهم من الكذب والأيمان الفاجرة والجبن.
(٢) حث المؤمنين على الطاعة وإنفاق المال قبل انقضاء الأجل.