ﰡ
وهي إحدى عشرة آية مدنية
[سورة المنافقون (٦٣) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤)وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦)
قوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ، إذا حرف من حروف التوقيت، وجوابه قوله:
فَاحْذَرْهُمْ وهذا إعلام من الله تعالى بنفاقهم وكذبهم وغرورهم. قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ يعني: يقولون ذلك بلسانهم دون قلوبهم. وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ من غير قولهم.
وَاللَّهُ يَشْهَدُ يعني: يبيِّن إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ يعني: إنهم مصدقون في قولهم، ولكنهم كاذبون بأنهم أرادوا به الإيمان.
ثم قال عز وجل: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً يعني: حلفهم جُنَّة من القتل، وقرأ بعضهم:
اتخذوا إيمانهم بكسر الألف، يعني: اتخذوا إظهارهم الإسلام وتصديقهم ستراً. لأنفسهم، وقراءة العامة: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ بالنصب يعني: استتروا بالحلف. وكلما ظهر نفاقهم، حلفوا
إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ يعني: بئس ما كانوا يعملون، حيث أظهروا الإيمان وأسروا الكفر، وصدوا الناس عن الإيمان.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ يعني: ذلك الحلف وصرف الناس عن الإيمان بأنهم آمَنُوا يعني:
أقروا باللسان علانية، ثُمَّ كَفَرُوا يعني: كفروا في السر. فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ بالكفر، فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ الهدى ولا يرغبون فيه.
قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَهُمْ يعني: المنافقين، تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ يعني: عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق، كان رجلاً جسيماً فصيحاً يعني: يعجبك منظرهم وفصاحتهم. وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ يعني: تصدقهم فتحسب أنهم محقون. كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ، قال مقاتل: فيها تقديم، يقول: كأن أجسامهم خشب مسندة بعضها على بعض قائماً، وإنها لا تسمع ولا تعقل، ويقال: خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يعني: خشب أسند إلى الحائط، ليس فيها أرواح، فكذلك المنافقون لا يسمعون الإيمان ولا يعقلون. قرأ الكسائي، وأبو عمرو، وابن كثير في إحدى الروايتين كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ بجزم الشين، والباقون بالضم، ومعناهما واحد، وهو جماعة الخشب.
فوصفهم بتمام الصور، ثم أعلم أنهم في ترك التفهم بمنزلة الخشب. ثم قال: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، فوصفهم بالجبن أي: كلما صاح صائح، ظنوا أن ذلك لأمر عليهم ويقال: إن كل من خاطب النبيّ صلّى الله عليه وسلم، كانوا يخافون ويظنون أنه مخاطب يخاطبه في أمرهم، وكشف نفاقهم. ثم أمر أن يحذرهم، وبيّن أنهم أعداؤه فقال: هُمُ الْعَدُوُّ يعني: هم أعداؤك، فَاحْذَرْهُمْ ولا تأمن من شرهم. ثم قال: قاتَلَهُمُ اللَّهُ يعني: لعنهم أَنَّى يُؤْفَكُونَ يعني: من أين يكذبون؟ ويقال: من أين يصرفون عن الحق؟.
ثم قال عز وجل: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ يعني:
عطفوا رؤوسهم رغبة عن الاستغفار وأعرضوا عنه. وذلك أن عبد الله بن أبي ابن سلول قيل له: يا أبا الحباب قد أنزل فيك آي: شداد، فاذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستغفر لك، فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أؤمن، فقد آمنت. وامرتموني أن أعطي زكاة مالي، فقد أعطيت.
وما بقي إلا أن أسجد لمحمد صلّى الله عليه وسلم. قرأ نافع لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ بالتخفيف، والباقون بالتشديد.
ومن قرأ بالتخفيف، فهو من لوى يلوي ومن قرأ بالتشديد، فهو للتكثير. ثم قال: وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ يعني: يعرضون عن الاستغفار مستكبرين عن الإيمان في السر. ثم أخبر: أن الاستغفار لا ينفعهم، ما داموا على نفاقهم، فقال: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، لأنهم منافقون. إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ يعني:
لا يرشدهم إلى دينه، لأنهم لا يرغبون فيه.
[سورة المنافقون (٦٣) : الآيات ٧ الى ١١]
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١)ثم قال: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا يعني:
يتفرقوا. وروى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا في غزوة، فكسح رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري يا للأنْصارِ وقال:
المهاجري: يا للمهاجرين. فسمع النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فقال: «مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ، دَعُوهَا فَإنَّهَا فِتْنَةٌ». فقال عبد الله بن أبي: والله لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة، لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل. فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب رأس هذا المنافق فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «دَعْهُ لا يَتَحَدَّث النَّاسُ أنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أصْحَابَهُ».
وروى معمر، عن قتادة أن عبد الله بن أبي قال لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله، فإنكم لو لم تنفقوا عليهم قد انفضوا. قال: فاقتتل رجلان، أحدهما من جهينة، والآخر من غفار وكانت جهينة حليف الأنصار، فظهر عليهم الغفاري، فقال رجل منهم عظيم النفاق يعني: عبد الله بن أبي: عليكم صاحبكم حليفكم، فو الله ما مثلنا ومثل محمد صلّى الله عليه وسلم إلا كما قال القائل: سمِّن كلبك يأكلك. أما والله لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة. لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذلّ.
وروى معمر، عن الحسن: أن غلاماً جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله، إني سمعت أن عبد الله بن أبي يقول كذا. فقال: فلعلك غضبت عليه. فقال: أما والله يا نبي الله، فلقد سمعته يقول، فقال: فلعله أخطأ سمعك. فقال: لا والله يا نبي الله، لقد سمعته يقول. فأنزل الله تعالى تصديقاً للغلام لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ. فأخذ النبيّ صلّى الله عليه وسلم بأذن الغلام، وقال:
«وَعَتْ أُذُنُكَ يَا غُلامُ»، فنزل قوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
قال الله تعالى: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: مفاتيح السموات وهي المطر والرزق، ومفاتيح الأرض وهي النبات. وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لاَّ يَفْقَهُونَ أمر الله تعالى.
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ يعني: القوي مِنْهَا يعني:
من المدينة الذليل يعني: محمداً صلّى الله عليه وسلم وأصحابه. قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ يعني:
المقدرة والمنعة لله ولرسوله. وَلِلْمُؤْمِنِينَ، حيث قواهم الله تعالى ونصرهم وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ يعني: لا يصدقون في السر. ويقال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ يعني: القدرة، ويقال: نفاذ الأمر وَلِرَسُولِهِ، وهو عزة النبوة والرسالة وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وهو عز الإيمان والإسلام، أعزهم الله فِى الدنيا والآخرة. ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ.
ثم قال عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ يعني: لا تشغلكم أموالكم وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ يعني: عن طاعة الله تعالى. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يعني: من لم يعمل بطاعته ولم يؤمن بوحدانيته، فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ يعني: المغبونين بذهاب الدنيا وحرمان الآخرة. ثم قال عز وجل: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ يعني: تصدقوا مما رزقناكم، أي:
مما رزقكم الله من الأموال. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ يعني: يقول: يا سيدي ردني إلى الدنيا، فَأَصَّدَّقَ يعني: فأتصدق، ويقال: أصدق بالله. وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ يعني: أفعل كما فعل المؤمنون.
وروى الضحاك، عن ابن عباس أنه قال: مَنْ كَانَ له مال يجب فيه الزكاة فلم يزكه، أو مال يبلغه بيت الله فلم يحج، سأل عند الموت الرجعة قال: فقال رجل: اتق الله يا ابن عباس، سألت الكفار الرجعة. قال: إني أقرأ عليك بهذا القرآن. ثم قرأ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى قَولِه: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ فقال رجل: يا ابن عباس، وما يوجب الزكاة؟ قال:
مائتان فصاعداً. قال: فما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة. قرأ أبو عمرو، فَأَصَّدَّقَ وأكون بالواو وفتح النون، والباقون وَأَكُنْ بحذف الواو بالجزم. فمن قرأ وأكون، فإنه عطفه على موضع فَأَصَّدَّقَ، لأنه على معنى إن أخرتني أصدق وأكن، ولم يعطفه على اللفظ. قال أبو عبيدة: قرأت في مصحف عثمان هكذا بغير واو. ثم قال: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها يعني: إذ جاء وقتها. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من الخير والشر، فيجازيكم. قرأ عاصم في رواية أبي بكر يَعْلَمُونَ بالياء على معنى الخبر عنهم، والباقون بالتاء على معنى المخاطبة والله أعلم.