تفسير سورة المنافقون

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة المنافقون من كتاب مختصر تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- ١ - إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لِرَسُولِهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ
- ٢ - اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
- ٣ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ
- ٤ - وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ المنافقين، أنهم إنما يتفهون بالإسلام ظاهراً فَأَمَّا فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ فَلَيْسُوا كَذَلِكَ بَلْ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ أَيْ إِذَا حَضَرُوا عِنْدَكَ وَاجَهُوكَ بِذَلِكَ، وأظهروا لك ذلك، وليس كَمَا يَقُولُونَ وَلِهَذَا اعْتَرَضَ بِجُمْلَةٍ مُخْبِرَةٍ أَنَّهُ رسول الله فقال: ﴿والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾. ثم قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ أَيْ فِيمَا أخبروا به لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ صِحَّةَ مَا يَقُولُونَ وَلَا صِدْقَهُ، وَلِهَذَا كَذَّبَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَادِهِمْ، وقوله تَعَالَى: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي اتقوا الناس بالأيمان الكاذبة لِيُصَدَّقُوا فِيمَا يَقُولُونَ فَاغْتَرَّ بِهِمْ مَنْ لَا يعرف جلية أمرهم، فاعتقدوا أنهم مسلمون، وَهُمْ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْبَاطِنِ لا يألون الإسلام وأهله خيالاً، فَحَصَلَ بِهَذَا الْقَدْرِ ضَرَرٌ كَبِيرٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾، وقوله تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ، ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ أَيْ إِنَّمَا قُدِّرَ عَلَيْهِمُ النِّفَاقُ لِرُجُوعِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرَانِ، واستبدالهم الضلالة بالهدى، ﴿فَطُبِعَ الله عَلَى
قُلُوبِهمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾
أَيْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى قُلُوبِهِمْ هُدًى، وَلَا يَخْلُصُ إِلَيْهَا خير فلا تعي ولا تهتدي. وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ أي وكانوا أشكالاً حسنة وذوي فصاحة وألسنة، وإذا سَمِعَهُمُ السَّامِعُ يُصْغِي إِلَى قَوْلِهِمْ لِبَلَاغَتِهِمْ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي
503
غاية الضعف والخور والهلع والجزع، ولهذا قال تعالى: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ أَيْ كُلَّمَا وَقَعَ أمر أَوْ خَوْفٌ، يَعْتَقِدُونَ لِجُبْنِهِمْ أَنَّهُ نَازِلٌ بِهِمْ، كما قال تعالى: ﴿فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الموت﴾ فَهُمْ جَهَامَاتٌ وَصُوَرٌ بِلَا مَعَانِي، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ أَيْ كَيْفَ يُصرَفُونَ عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ، وفي الحديث: "إِنَّ لِلْمُنَافِقِينَ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا: تَحِيَّتُهُمْ لَعْنَةٌ، وَطَعَامُهُمْ نُهْبَةٌ، وَغَنِيمَتُهُمْ غُلُولٌ، وَلَا يَقَرَبُونَ الْمَسَاجِدَ إِلَّا هَجْرًا، وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا دَبْرًا، مُسْتَكْبِرِينَ، لَا يَأْلَفُونَ وَلَا يُؤْلَفُونَ، خُشُبٌ بِاللَّيْلِ صُخب بالنهار" (أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً، وقال يزيد بن مرة: سُخُب بالنهار أي بالسين).
504
- ٥ - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رؤوسهم وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مستكبرون
- ٦ - سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
- ٧ - هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تنفقوا على من عند رسول الله حَتَّى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ
- ٨ - يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُنَافِقِينَ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ أنهم ﴿إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رؤوسهم﴾ أَيْ صَدُّوا وَأَعْرَضُوا عَمَّا قِيلَ لَهُمُ اسْتِكْبَارًا عَنْ ذَلِكَ وَاحْتِقَارًا لِمَا قِيلَ لَهُمْ، وَلِهَذَا قال تعالى: ﴿وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ﴾ ثُمَّ جَازَاهُمْ عَلَى ذلك فقال تعالى: ﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾. عن سفيان ﴿لوّوا رؤوسهم﴾ حَوَّلَ سُفْيَانُ وَجْهَهُ عَلَى يَمِينِهِ، وَنَظَرَ بِعَيْنِهِ شزراً، ثم قال هو هذا (رواه عنه ابن أبي حاتم)، وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ هَذَا السِّيَاقَ كُلَّهُ نَزَلَ فِي (عَبْدِ اللَّهِ بن أبي سَلُولٍ) كَمَا سَنُورِدُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى. قال قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي، وَذَلِكَ أَنَّ غُلَامًا مِنْ قَرَابَتِهِ انْطَلَقَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَدَّثَهُ بِحَدِيثٍ عَنْهُ وَأَمْرٍ شَدِيدٍ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ وَيَتَبَرَّأُ مِنْ ذَلِكَ، وأقبلت الأنصار على ذلك الغلام فلاموه وعزلوه وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ مَا تَسْمَعُونَ، وَقِيلَ لِعَدُوِّ اللَّهِ: لَوْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَلْوِي رَأْسَهُ، أَيْ لَسْتُ فاعلاً.
وقال أبو إسحاق فِي قِصَّةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِيمٌ هُنَاكَ اقْتَتَلَ عَلَى الْمَاءِ (جَهْجَاهُ بْنُ سَعِيدٍ الْغِفَارِيُّ) وَكَانَ أَجِيرًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ و (سنان بن يزيد)، فَقَالَ سِنَانٌ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْجَهْجَاهُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَنَفَرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ عِنْدَ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي) فَلَمَّا سَمِعَهَا قَالَ: قَدْ ثَاوَرُونَا فِي بِلَادِنَا وَاللَّهِ مَا مَثَلُنَا وَجَلَابِيبُ قُرَيْشٍ هَذِهِ إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: سمِّن كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، وَاللَّهِ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ
504
الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، ثُمَّ أَقْبَلُ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَقَالَ: هَذَا مَا صَنَعْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلَادَكُمْ، وَقَاسَمْتُمُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ، أَمَا وَاللَّهِ لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم من بِلَادِكُمْ إِلَى غَيْرِهَا، فَسَمِعَهَا (زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ) رضي الله عنه فَذَهَبَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وهو غليم عنده عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مُرْ عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ فَلْيَضْرِبْ عُنُقُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَكَيْفَ إِذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ يَا عُمَرُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، لَا، وَلَكِنْ نَادِ يا عمر: الرَّحِيلِ"، فَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبي أَنَّ ذَلِكَ قَدْ بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَتَاهُ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، وَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا قَالَ، مَا قَالَ عَلَيْهِ (زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ) وَكَانَ عِنْدَ قَوْمِهِ بِمَكَانٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَسَى أَن يَكُونَ هَذَا الْغُلَامُ أَوْهَمَ وَلَمْ يُثْبِتْ مَا قَالَ الرَّجُلُ، وَرَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَجِّرًا فِي سَاعَةٍ كَانَ لَا يَرُوحُ فِيهَا، فلقيه (أسيد بن الحضير) رضي الله عنه، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِتَحِيَّةِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لقد رحت في ساعة مبكرة مَا كُنْتَ تَرُوحُ فِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا بَلَغَكَ مَا قَالَ صَاحِبُكَ ابْنُ اُبي؟ زَعَمَ أَنَّهُ إِذَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ سَيُخْرِجُ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ»، قَالَ: فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْعَزِيزُ وَهُوَ الذَّلِيلُ، ثم قال: ارفق به يا رسول الله، فَوَاللَّهِ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِكَ، وَإِنَّا لَنَنْظِمُ لَهُ الْخَرَزَ لِنُتَوِّجَهُ، فَإِنَّهُ لَيَرَى أَنْ قَدِ سلبته مُلْكًا، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ حتى أمسوا وليلته حَتَّى أَصْبَحُوا، وَصَدَرَ يَوْمَهُ حَتَّى اشْتَدَّ الضُّحَى، ثُمَّ نَزَلَ بِالنَّاسِ لِيَشْغَلَهُمْ عَمَّا كَانَ مِنَ الْحَدِيثِ، فَلَمْ يَأْمَنِ النَّاسُ أَنْ وَجَدُوا مَسَّ الْأَرْضِ فَنَامُوا، وَنَزَلَتْ سُورَةُ الْمُنَافِقِينَ، وَقَالَ الْحَافِظُ أبو بكر البيهقي، عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رجُلاً مِنَ الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجرين: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»، وَقَالَ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي بْنِ سَلُولَ) وَقَدْ فَعَلُوهَا: وَاللَّهِ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأذل، قال جَابِرٌ: وَكَانَ الْأَنْصَارُ بِالْمَدِينَةِ أَكْثَرَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حِينَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ كَثُرَ الْمُهَاجِرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْهُ لَا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» (رواه البيهقي، ورواه أحمد والبخاري ومسلم بنحوه). وروى الإمام أحمد، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي: لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. قَالَ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ قَالَ، فَحَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ، فَلَامَنِي قَوْمِي وَقَالُوا: مَا أَرَدْتَ إِلَى هَذَا؟ قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فَنِمْتُ كَئِيبًا حَزِينًا، قَالَ، فَأَرْسَلَ إليَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ عُذْرَكَ وَصَدَّقَكَ»، قَالَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ﴾ حَتَّى بَلَغَ ﴿لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأذل﴾ (أخرجه الإمام أحمد ورواه البخاري عند هذه الآية).
طريق أُخْرَى: قال الإمام أحمد رحمه الله، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عَمِّي فِي غَزَاةٍ فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبي بْنِ سَلُولٍ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَئِنْ رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي، فَذَكَرَهُ عَمِّي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ إليَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثْتُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى عبد الله بن أُبي ابن سلول وأصحابه، فحلفوا بالله مَا قَالُوا، فكذَّبني رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصدَّقه، فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ
505
يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ، وَجَلَسْتُ فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ عَمِّي: مَا أَرَدْتَ إِلَّا أَنْ كَذَّبَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَقَتَكَ! قَالَ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ ﴿إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ﴾، قَالَ، فَبَعَثَ إليَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليَّ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ» (أخرجه الإمام أحمد). وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ أَنَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي لَمَّا بَلَغَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِيهِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي فِيمَا بَلَغَكَ عَنْهُ، فَإِنْ كُنْتَ فَاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ، فَأَنَا أَحْمِلُ إِلَيْكَ رَأْسَهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَتِ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ لَهَا مِنْ رَجُلٍ أَبَرَّ بِوَالِدِهِ مِنِّي، إِنِّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ غيري فيقتله فلا تدعني أَنْظُرُ إِلَى قَاتِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي يَمْشِي فِي النَّاسِ، فَأَقْتُلُهُ فَأَقْتُلُ مُؤْمِنًا بِكَافِرٍ فَأَدْخُلُ النَّارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ نَتَرَفَّقُ بِهِ وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ ما بقي معنا» (رواه محمد بن إسحاق بن يسار)، وذكر عكرمة أَنَّ النَّاسَ لَمَّا قَفَلُوا رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ وقف (عبد الله بن عبد الله) عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ وَاسْتَلَّ سَيْفَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ،
فَلَمَّا جَاءَ أَبُوهُ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي) قَالَ لَهُ ابْنُهُ: وَرَاءَكَ، فَقَالَ: مالك ويلك؟ فقال: والله لا تجوز من ههنا حتى يأذن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ الْعَزِيزُ وَأَنْتَ الذَّلِيلُ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شكا إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي ابْنَهُ، فَقَالَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لا يدخلها حتى تأذن له، فأذنه لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: أما إذا أَذِنَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجز الآن، وقال الحميدي في مسنده: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي بْنِ سَلُولٍ لِأَبِيهِ: وَاللَّهِ لَا تَدْخُلِ الْمَدِينَةَ أَبَدًا حَتَّى تَقُولَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَعَزُّ وَأَنَا الْأَذَلُّ، قَالَ: وَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يا رسول الله إنه قد بلغني أنك تريد قتل أبي، فوالذي بعثل بالحق لئن شئت أو آتيك برأسه لأتيتك، فإني أكره أن أرى قاتل أبي (رواه الحميدي في مسنده).
506
- ٩ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذلك فأولئك هُمُ الخاسرون
- ١٠ - وأنفقوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ
- ١١ - وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ، وَنَاهِيًا لَهُمْ عَنْ أَنْ تَشْغَلَهُمُ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ عَنْ ذَلِكَ، وَمُخْبِرًا لَهُمْ بِأَنَّهُ مَنِ التهى بمتاع الدنيا وزينتها عن طَاعَةِ رَبِّهِ وَذِكْرِهِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْخَاسِرِينَ
الَّذِينَ يَخْسَرُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ حَثَّهُمْ على الإنفاق في طاعته فقال: ﴿وأنفقوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾، فَكُلُّ مُفَرِّطٍ يَنْدَمُ عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ليستعتب ويستدرك ما فاته وهيهات، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل﴾، وقال تعالى: ﴿حتى إِذَا جاءهم أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تركت﴾، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾
506
أَيْ لَا يَنْظُرُ أَحَدًا بَعْدَ حُلُولِ أَجْلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ وَأَخْبَرُ بِمَنْ يَكُونُ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ وَسُؤَالِهِ، مِمَّنْ لَوْ رُدَّ لَعَادَ إِلَى شر مما كان عليه، ولهذا قال تعالى: ﴿والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾. روى الترمذي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُبَلِّغُهُ حَجَّ بَيْتِ رَبِّهِ، أَوْ تَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ زَكَاةٌ فَلَمْ يَفْعَلْ، سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ الْكُفَّارُ، فَقَالَ: سَأَتْلُو عَلَيْكَ بِذَلِكَ قُرْآنًا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخاسرون * وأنفقوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين﴾ إلى قوله: ﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ قَالَ: فَمَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ؟ قَالَ: إِذَا بَلَغَ الْمَالُ مِائَتَيْنِ فَصَاعِدًا، قَالَ: فَمَا يُوجِبُ الْحَجَّ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالْبَعِيرُ (أخرجه الترمذي عن الضحاك عن ابن عباس، قال ابن كثير: ورواية الضحاك عن ابن عباس فيها انقطاع). وروى ابن أبي حاتم، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ذَكَرْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزِّيَادَةَ فِي الْعُمْرِ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُؤَخِّرُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجْلُهَا، وَإِنَّمَا الزِّيَادَةُ فِي الْعُمْرِ أَنْ يَرْزُقَ اللَّهُ الْعَبْدَ ذُرِّيَّةً صَالِحَةً يَدْعُونَ لَهُ، فَيَلْحَقُهُ دُعَاؤُهُمْ فِي قبره» (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء).
507
- ٦٤ - سورة التغابن.
508
Icon