تفسير سورة المنافقون

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة المنافقون من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ ﴾ أي حضروا عندك عبد الله بن أبي وأصحابه، وجواب الشرط قوله: ﴿ قَالُواْ ﴾ وهو الأظهر، وقيل: جوابه محذوف، أي فلا تقبل منهم، وقيل: الجواب قوله: ﴿ ٱتَّخَذُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ﴾ وهو بعيد، وسبب نزول هذه السورة،" أنه صلى الله عليه وسلم لما غزا بني المصطلق، وازدحم الناس على الماء، اقتتل رجلان، أحدهما من المهاجرين جهجاه بن أسيد، وكان أجيراً لعمر، يقود له فرسه، والثاني من الأنصار اسمه سنان الجهني، كان حليفاً لعبد الله بن أبي اقتتلا، صاح جهجاه بالمهاجرين، وسنان بالأنصار، فأعان جهجاهاً رجل من فقراء المهاجرين ولطم سناناً، فقال عبد الله بن أبي: ما صحبنا محمداً إلا لتلطم وجوهنا، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم قال لقومه: ما فعلتم بأنفسكم، قد أنزلتموهم بلادكم، وقاسمتموهم في أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم فضل الطعام لتحولوا من عندكم، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد، فسمع ذلك زيد بن أرقم فبلغه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت صاحب الكلام الذي بلغني عنك؟ فحلف أنه ما قال شيئاً وأنكر، فهو قوله: ﴿ ٱتَّخَذُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ﴾ الخ، فنزلت السورة ". قوله: ﴿ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ ﴾ يحتمل أن الشهادة على بابها نفياً للنفاق عن أنفسهم، ويحتمل أن ﴿ نَشْهَدُ ﴾ بمعنى نحلف. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ﴾ جملة معترضة بين قولهم ﴿ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ ﴾ وبين قوله: ﴿ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ ﴾ الخ، وحكمة الاعتراض، أنه لو اتصل التكذيب بقولهم: لربما توهم أن قولهم في حد ذاته كذب، فأتى بالاعتراض لدفع الابهام. قوله: (فيما أضمروه) أي من أنك غير رسول، وسماه كذباً باعتبار هذا الذي أضمروه، هذا ما أفاده المفسر، وقيل: كذبهم هو قولهم ﴿ نَشْهَدُ ﴾ لأن صدقها كونها من صميم القلب، وقولهم خلاف ما في القلب. قوله: ﴿ ٱتَّخَذُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ ﴾ بفتح الهمزة في قراءة العامة جمع يمين، وقرئ شذوذاً بكسرها بمعنى دعواهم إلى الايمان والتصديق بما جاء به محمد. قوله: ﴿ جُنَّةً ﴾ بضم الجيم أي وقاية. قوله: ﴿ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ ﴿ سَآءَ ﴾ كبئس في إفادة الذم، وفيها معنى التعجيب. قوله: ﴿ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ﴾ (باللسان) الخ، جواب عما يقال: إن المنافقين لم يحصل منهم إيمان أصلاً، بل هم ثابتون على الكفر، وايضاحه أن ثم للترتيب الاخباري، معناه أنهم آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم. قوله: (لجمالها) قال ابن عباس: كان ابن أبي جسيماً صحيحاً فصيحاً طلق اللسان، وكان قوم من المنافقين مثله، وهم رؤساء المدينة، وكانوا يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، ويستندون فيه إلى الجدر، وكان النبي ومن حضر يعجبون بهياكلهم. قوله: ﴿ وَإِن يَقُولُواْ ﴾ أي يتكلموا في مجلسك. قوله: ﴿ تَسْمَعْ ﴾ أي تسمع بمعنى تصرخ. قوله: ﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ﴾ الجملة حالية من الضمير في قولهم أو مستأنفة. قوله: (في ترك التفهم) هذا بيان لوجه الشبه، والمعنى أنهم يشبهون الاخشاب المسندة إلى الحائط، في كونهم أشباحاً خالية عن العلم والنظر. قوله: (بسكون الشين وضمها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾ أي إنهم من سوء ظنهم ورغب قلوبهم، يظنون كل نداء في العسكر، من إنشاد ضالة، أو مناداة صاعقة عليهم، وأنهم يرادون بذلك، فمقتضى كلام المفسر أن ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ مفعول ثان ليحسبون، قوله: ﴿ هُمُ ٱلْعَدُوُّ ﴾ جملة متسأنفة. قوله: (لما في قلوبهم من الرعب) متعلق بيحسبون. قوله: (أن ينزل فيهم) متعلق بالرعب. والمعنى لما في قلوبهم من الرعب من أن ينزل فيهم قرآن، يكون سبباً لإباحة دمائهم. قوله: ﴿ فَٱحْذَرْهُمْ ﴾ مرتب على قوله: ﴿ هُمُ ٱلْعَدُوُّ ﴾.
قوله: ﴿ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ ﴾ إخبار بهلاكهم أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك. قوله: (أهلكهم) وقيل: معناه لعنهم وأبعدهم عن رحمته. قوله: (بعد قيام البرهان) أي على حقيقة الإيمان.
قوله: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ ﴾ الخ، روي أنه نزل القرآن بفضيحتهم وكذبهم، أتاهم عشائرهم من المؤمنين وقالوا: ويحكم افتضحتم وأهلكتم أنفسكم، فائتوا رسول الله وتوبوا اليه من النفاق، واسألوه أن يستغفر لكم، فلووا رؤوسهم، أي حركوها إعراضاً وإباء، وروي أن ابن أبي لوى رأسه وقال لهم: قد أشرتم علي بالإيمان فآمنت، وبإعطاء زكاة مالي ففعلت، ولم يبق إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد، فنزل ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ ﴾ الخ، فلم يلبث ابن أبي إلا أياماً قلائل، حتى اشتكى ومات منافقاً، قوله: (بالتخفيف والتشديد) قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ ﴾ رأى بصرية وجملة ﴿ يَصُدُّونَ ﴾ حال من الهاء، وقوله: ﴿ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ﴾ حال من الواو في ﴿ يَصُدُّونَ ﴾.
قوله: ﴿ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ﴾ الخ، هذا تيئيس من إيمانهم، أي استغفارك وعدمه سواء، فهم لا يؤمنون لسبق الشقاوة لهم. قوله: (استغنى) أي في التوصل للنطق بالساكن قوله: (بهمزة الاستفهام) أشار بذلك إن قراءة العامة بفتح الهمزة من غير مد، وهي في الأصل همزة الاستفهام، والآن همزة التسوية. قوله: ﴿ ٱلْفَـٰسِقِينَ ﴾ أي الكافرين الذين سبق في علم الله كفرهم. قوله: ﴿ هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ ﴾ الخ، استئناف جار مجرى التعليل لفسقهم. قوله: (من الأنصار) أي المخلصين في الإيمان، وصحبتهم للمنافقين بحسب ظاهر الحال. قوله: ﴿ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ ﴾ الظاهر أنه حكاية ما قالوه بعينه، لأنهم منافقون يقرون برسالته ظاهراً، ويحتمل أنهم عبروا بغير هذه العبارة، فغيرها الله إجلالاً لنبيه صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ ﴾ أي لأجل أن يتفرقوا، بأن يذهب كل واحد منهم إلى أهله وشغله بالمعاش. قوله: ﴿ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ الجملة حالية، أي قالوا ما ذكر، والحال أن الرزق بيده تعالى لا بأيديهم، فالمعطي المانع هو الله تعالى، وإذا سد باب يفتح الله عشرة. قوله: ﴿ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾ أي لا يفهمون أن لله خزائن السماوات والأرض.
قوله: ﴿ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ ﴾ الخ، حكاية لبعض قبائحهم التي قالوها. قوله: (من غزة بني المصطلق) وكانت في السنة الرابعة، وقيل في الثالثة، وسببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه، وقائدهم الحرث بن أبي ضرار، وهو أبو جويرية زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع ذلك، خرج اليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع، من ناحية قديد إلى الساحل فوقع القتال، فهزم الله المصطلق، وأمكن رسوله من أبنائهم ونسائهم وأموالهم، وكان سبيهم سبعمائة، فلما أخذ النبي جويرية من السبي لنفسه أعتقها وتزوجها، فقال المسلمون: صار بنو المصطلق أصهار رسول الله، فأطلقوا ما بأيديهم من السبي إكراماً لرسول الله، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: ما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها من جويرية، ولقد اعتق بتزويج رسول الله لها مائة أهل بيت من بني المصطلق. قوله: ﴿ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ ﴾ الجملة حالية، أي قالوا ما ذكر، والحال أن العزة لله الخ، وعزة الله قهره وغلبته لأعدائه، وعزة رسوله اظهار دينه على الأديان كلها، وعزة المؤمنين نصر الله إياهم على أعدائهم. قوله: ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ ختم هذه الآية بلا يعلمون، وما قبلها بلا يفقهون، لأن الأول متصل بقوله:﴿ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾[المنافقون: ٧] وفي معرفتها غموض يحتاج إلى فقه، فناسب نفي الفقة، وهذا متصل بقوله: ﴿ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ ﴾ الخ، وفي معرفته غموض زائد يحتاج إلى علم، فناسب نفي العلم عنهم. قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الخ، نهي للمؤمنين عن التشبه بالمنافقين، في الاغترار بالأموال والأولاد. قوله: (الصلوات الخمس) هذا قول الضحاك، وقال الحسن: عن جميع الفرائض، وقيل عن الحج والزكاة، وقيل عن قراءة القرآن، وقيل عن سائر الأذكار وهو الأتم. قوله: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ ﴾ أي لإيثارهم الفاني على الباقي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً ". قوله: ﴿ مَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ من تبعيضية، وفي التبعيض بإسناد الرزق منه تعالى إلى نفسه، زيادة ترغيب في الامتثال، حيث كان الرزق له تعالى بالحقيقة، ومع ذلك اكتفى منهم ببعضه. قوله: ﴿ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ ﴾ أي أماراته ومقدماته. قوله: ﴿ فَيَقُولَ رَبِّ ﴾ معطوف على ﴿ أَن يَأْتِيَ ﴾ مسبب عنه. قوله: (بمعنى هلا) أي التي معناها التحضيض، ويخص بما لفظه ماض، وهو في تأويل المضارع كما هنا، واللائق هنا أن تكون بمعنى العرض الذي هو الطلب بلين ورفق، لاستحالة معنى التحضيض هنا الطلب بحث وإزعاج. قوله: (ولو التمني) أي والتقدير على هذا، ليتك أخرتني إلى أجل قريب. قوله: ﴿ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ﴾ أي زمن قليل، فأستدرك فيه ما فاتني. قوله: (بالزكاة) أي وبكل حق واجب، كالديون وحقوق العباد. قوله: ﴿ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ برسم بدون واو كما في خط المصحف، وأما اللفظ ففيه قراءتان سبعيتان إثبات الواو والنصب بالعطف على ﴿ فَأَصَّدَّقَ ﴾ المنصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية في جواب العرض، أو التمني وحذف الواو والجزم بالعطف على ﴿ فَأَصَّدَّقَ ﴾ لملاحظة جزمها في جواب الطلب، أي إن أخرتني أصدق وأكن. قوله: (عند الموت) أي رؤية امارته كما تقدم. قوله: ﴿ وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً ﴾ جملة مستأنفة جواب عن سؤال مقدر تقديره هل يؤخر هذا التمني؟ فقال: ﴿ وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً ﴾ الخ، وهو نكرة في سياق النفي تعم، قوله: (بالياء والتاء) أي فالباء لمناسبة قوله: ﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ ﴾ والتاء المثناة فوق لمناسبة قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ ﴾.
- تتمة - استنبط بعضهم في هذه الآية عمر النبي صلى الله عليه وسلم، لأن السورة تمام ثلاث وستين، وعقبت بالتغابن الذي هو ظهور الغبن بوفاته صلى الله عليه وسلم وهو من المعاني الإشارية.
Icon