وعلة ظهور حركة المنافقين في المدينة أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء إلى المدينة كان له بها قوة، وكان معظم أهل المدينة مسلمين، حتى لم يبق بيت عربي فيها إلا دخله الإسلام، فكان موقف الرسول فيها من مركز القوة، على خلاف موقفه في مكة، حيث لم يكن له تلك القوة، ولا ذلك النفوذ حتى يكون هناك فئة من الناس ترهبه أو ترجو خيره.. فتتملقه وتتزلّف إليه في الظاهر، وتتآمر عليه وتكيد له ولأصحابه وتمكر بهم في الخفاء.
فظهرت حركة المنافقين، فكانوا يتظاهرون بالإسلام، ويصلون مع المسلمين، ويحضرون مجالسهم ويستمعون إلى الرسول الكريم، وإذا خرجوا من عنده حرّفوا ما سمعوا من الأقوال، واجتمعوا مع شياطينهم من اليهود، وأخذوا يتآمرون على المسلمين، ويطعنون فيهم، ويحاولون أن يزعزعوا إيمان الضعفاء من المسلمين. وكان لهم دور كبير في زعزعة إيمان بعضهم عن طريق الإرجاف وبثّ الأكاذيب في المدينة، ففضحهم القرآن الكريم في أكثر من سورة.
وهنا تذكر السورة أنهم يعلنون إيمانهم بألسنتهم غير صادقين، ويجعلون أيمانهم الكاذبة وقاية لهم من وصف الكفر الذي هم عليه، ومجازاتهم به. وقد وصفتهم بوصف عجيب فبينت أنهم ذوو أجسام حسنة تعجب من رآها، وأصحاب فصاحة تعزّ السامعين وهم مع ذلك فارغة قلوبهم من الإيمان كأنهم خشب مسندة لا حياة فيهم. ﴿ هم العدو فاحذرهم، قاتلهم الله أنّى يؤفكون ﴾.
وبينت السورة بوضوح أن ما زعمه المنافقون من أنهم أعزة وأن المؤمنين أذلة، وما توعدوا به المؤمنين من إخراجهم من المدينة، كله هراء سخيف. فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين. ﴿ ولكن المنافقين لا يعلمون ﴾.
وفي ختام السورة يوجه الله الخطاب للمؤمنين، بأن لا تلهيهم أموالهم
ولا أولادهم عن ذكر الله، وأن ينفقوا في سبيل الله، من قبل أن يأتي أحدهم الموت، فيندم ويتمنى أن لو تأخر أجله ﴿ ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها، والله خبير بما تعملون ﴾.
ﰡ
لقد وصف الله تعالى المنافقين هنا بأوصاف قبيحة في منتهى الشناعة، فهم كذّابون يقولون غير ما يعتقدون، قد تستّروا بأيمانهم، يحلِفون كذبا بالله سَتراً لنفاقهم وحقناً لدمائهم، وهم يصدّون الناس عن الإسلام، ويأمرونهم أن لا ينفقوا على المسلمين. وأنهم جُبناء، فرغم ضخامة أجسامهم، وفصاحة ألسنتهم يظلون في خوف دائم، يظنّون كل صيحة عليهم.
ولذلك كشف أمرهم هنا بوضوح فقال تعالى :
﴿ إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ﴾.
فالله تعالى يخبر الرسول الكريم أن المنافقين عندما يأتون إليه ويحلفون عنده بأنهم مؤمنون به، يكونون غير صادقين، والله يعلم أن سيدنا محمداً رسول الله، ولذلك أكد بيان كذبهم بقوله :
﴿ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ ﴾
كذبوا فيما أخبَروا به، لأنهم لا يعتقدون ما يقولون، ﴿ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ [ آل عمران : ١٦٧ ].
ثم بين أنهم يحلفون كذباً بأنهم مؤمنون حتى يصدّقهم الرسول الكريم، ومن يغتَرُّ بهم من المؤمنين.
جعلوا أيمانهم الكاذبة وقايةً وستراً لهم من افتضاح أمرهم، فصدوا الناس عن سبيل الله. فما أقبح ما هم عليه من الكفر والكذب ! !
لا يفقهون : لا يعلمون.
ثم بين الله تعالى أنهم آمنوا بالإسلام قولاً ظاهرا، ولكنهم كفروا به عملاً، فطبع الله على قلوبهم ﴿ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾.
تسمع لقولهم : لفصاحتهم وحسن حديثهم.
خشُب مسندة : جمع خشبة، يعني أنهم أجسام فارغة لا حياة فيها.
يحسبون كل صيحة عليهم : فهم لشعورهم بالذنب وبحقيقة حالهم، يظنون أن كل صوت أو حركة عليهم.
قاتلَهم الله : لعنهم الله وطردهم من رحمته.
يؤفكون : يصرفون عن الحق.
ثم وصف هيئاتهم الظاهرة والباطنة، فأجسامُهم في الظاهر حسنة تُعجِب الناس، ومنطقهم حسن، ولكلامهم حلاوة، أما في الباطن فهم خُشُبٌ لا فائدة فيها، أشباح بلا أرواح، فسدت بواطنهم، وحسنت ظواهرهم.
ثم وصفهم بالجبن والذلة إذا سمعوا أي صوت أو حركة ظنّوا أنهم المقصودون، وأن أمرهم قد افتُضِح :﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾ وأنهم هالكون لا محالة. ﴿ هُمُ العدو فاحذرهم ﴾ أيها الرسول، ولا تأمنهم أبدا.
ثم زاد في ذمهم وتوبيخهم فقال :
﴿ قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ لعنهم الله وطردَهم من رحمته كيف يُصرَفون عن الحق إلى ما هم عليه من النفاق.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي : خشب بإسكان الشين. والباقون : خشب بضم الخاء والشين.
يصدّون : يعرِضون.
ولما افتضح أمرهم ونزل القرآن بصفتهم، جاءهم أقرباؤهم، وقالوا لهم : افتضحتم بالنفاق، فتوبوا إلى الله واذهبوا إلى الرسول واطلبوا أن يستغفر لكم، فأمالوا رؤوسهم استهزاءً واستكبارا، ولم يقبلوا ذلك.
قراءات :
قرأ نافع : لووا رؤوسهم بفتح الواو الأولى بلا تشديد، والباقون : لووا رؤوسهم بتشديد الواو الأولى المفتوحة.
فالاستغفار وعدمه سِيّان، لا يُجديهم نفعا، لأن الله كَتَبَ عليهم الشقاء، بما كسبتْ أيديهم.
عندما غزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بني المصطَلَق ( وهم قوم من خزاعة من القحطانيين ) وهاجمهم على ماءٍ لهم يقال له المريسيع من ناحية قديد قرب الساحل - هزمهم وساق إبلهم وأموالهم ونساءهم سبايا. وكان في تلك الغزوة رأس المنافقين عبد الله بن أُبَيّ. وقد وقع شجارٌ بين غلام لعمر بن الخطاب وغلام لعبد الله بن أبي، وكاد يقع شر كبير بين المهاجرين والأنصار لولا أن تدخّل الرسول الكريم وحسم الخلاف وسار بالناس باتجاه المدينة.
في هذه الأثناء قال عبد الله بن أبي : لقد كاثَرنا المهاجرون في ديارنا، واللهِ ما نحن وهم إلا كما قال المثل :« سَمِّنْ كَلبك يأكلك » أما واللهِ لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجنَّ الأعزُّ منها الأذل، ثم قال لأتباعه : لو أمسكتم عن هذا وذويه فضلَ الطعام لم يركبوا رقابكم، فلا تنفِقوا عليهم حتى ينفضّوا من حول محمد.
فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنقَ هذا المنافق، فقال له : فكيف إذا تحدّث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ؟
ثم قال رسول الله لعبد الله بن أُبي : أنت صاحبُ هذا الكلام الذي بلغني، قال : والله الذي أنزل عليك الكتابَ ما قلتُ شيئا من ذلك، وإن الذي بلَّغك لكاذب. فنزلت هذه الآيات.
﴿ هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ ﴾.
هؤلاء المنافقون - عبد الله بن أبي وأتباعه - يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله من المؤمنين حتى يتفرقوا عنه، ﴿ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات والأرض ﴾ ولكنهم نسوا أن الله هو الرازق، وله جميع هذا الكون وما فيه من أرزاق يعطيها من يشاء، ﴿ ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ ﴾ لجهلهم بسنن الله في خلقه، وأنه كفل الأرزاق لعباده في أي مكان كانوا متى عملوا وجدّوا في الحصول عليها.
لولا أخّرتني : هلاّ أخّرتني.
وهم الذين ﴿ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل ﴾ يعني بذلك عبد الله بن أُبي ومن معه من المنافقين، ﴿ وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ فالله له العزة والغلبة، ولمن أعزه الله من الرسول الكريم والمؤمنين، ﴿ ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
روي أن عبد الله بن عبد الله بن أُبي، وكان من خيار الصحابة المؤمنين عندما أشرف على المدينة وقف وسلّ سيفه وقال لأبيه : لله عليَّ أن لا أغمده حتى تقول : محمد الأعز وأنا الأذل. فلم يبرح حتى قال عبد الله بن أبيّ ذلك.
لا قيمة لها من غير إيمان خالص، وإنفاق في سبيل الله، وأن كل إنسان له أجل لا بد منتهٍ إليه، والله خبير بما يعملون.
فعلى المؤمنين أن لا يكونوا مثل المنافقين، فلا تلهيهم أموالهم ولا أولادهم عن ذكر الله آناء الليل وإطراف النهار، وعليهم أن يؤدوا ما فُرض عليهم من العبادات.
قراءات :
قرأ الجمهور : فاصدق وأكن بجزم أكن على محل أصدق. كان الكلام هكذا : إن أخرتني أصدَّق وأكن. وقرأ أبو عمرو وابن محيصن ومجاهد : وأكون بالنصب عطفا على أصدق، والله أعلم، والحمد لله وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
ثم حذّرنا جميعا وأنذرنا بأنه رقيب على الجميع في كل ما يأتون ويذرون فقال :﴿ والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾. وهكذا يربينا الله تعالى بهذا القرآن الكريم.