تفسير سورة المنافقون

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة المنافقون من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذبني رسول الله - ﷺ - وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله - ﷺ - ومقتك، فأنزل الله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ﴾، فبعث إليّ النبي - ﷺ -، فقرأ فقال: إن الله قد صدقك يا زيد.. الحديث. أخرجه مسلم، والترمذي، وأحمد، والحاكم أطول مما هاهنا، وقال: صحيح، وأقرّه الذهبي وابن جرير.
قوله تعالى: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ...﴾ الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري - أيضًا - عن محمد بن كعب القرظي قال: سمعت زيد بن أرقم رضي الله عنه لما قال عبد الله بن أبي: لا تنفقوا على من عند رسول الله، وقال أيضًا: لئن رجعنا إلى المدينة، أخبرت به النبي - ﷺ -، فلامني الأنصار، وحلف عبد الله بن أبي ما قال ذلك، فرجعت إلى المنزل، فنمت، فدعاني رسول الله - ﷺ -، فأتيته، فقال: إن الله قد صدقك ونزَّل: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ...﴾ الحديث أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿إِذَا جَاءَكَ﴾ وحضرك ﴿الْمُنَافِقُونَ﴾؛ أي (١): حضروا مجلسك ووصلوا إليك. جمع منافق، والمنافق: هو الذي يضمر الكفر اعتقادًا ويظهر الإيمان قولًا. والنفاق: إظهار الإيمان باللسان وكتمان الكفر في الجنان. وفي "المفردات": النفاق: الدخول في الشرع من باب والخروج منه من باب. ﴿قَالوا﴾: مؤكدين كلامهم بـ ﴿إن﴾ و ﴿اللام﴾: للإيذان بأن شهادتهم هذه صادرة عن صميم قلوبهم وخلوص اعتقادهم ووفور رغبتهم ونشاطهم.
والظاهر: أنه الجواب؛ لأن الآية نظير قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾. وقيل: جوابه محذوف، و ﴿قَالوا﴾ حال، والتقدير: جاؤوك قائلين كيت وكيت، فلا تقبل منهم. وقيل: الجواب ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ وهو بعيد، وقيل: جوابه قوله: ﴿فَصَدُّوا﴾، وقيل: استئناف لبيان طريق خدعتهم؛ أي: قالوا:
(١) روح البيان.
321
﴿نَشْهَدُ﴾ الآن أو على الاستمرار ﴿إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ والشهادة قول صادر عن علم حصل بشهادة بصر أو بصيرة. والمراد بالمنافقين: عبد الله بن أبي وأصحابه. ومعنى ﴿نَشْهَدُ﴾ (١): نحلف، فهو يجري مجرى القسم، ولذلك يتلقى بما يتلقى به القسم. ومن هذا: قول قيس بن ذريح:
وَأَشْهَدُ عِنْدَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّهَا فَهَذَا لَهَا عِنْدِيْ فَمَا عِنْدَهَا لِيَا
ومثل نشهد: نعلم، فإنه يجري مجرى القسم، كما في قول الشاعر:
وَلَقَدْ عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتِي إِنَّ الْمَنَايَا لَا تَطِيْشُ سِهَامُهَا
وجملة قوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ اعتراض (٢) مقرر لمنطوق كلامهم؛ لكونه مطابقًا للواقع، ولإزالة إيهام أن قولهم هذا كذب؛ لقوله: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ...﴾ إلخ. وفيه تعظيم للنبي - ﷺ -. وقال أبو الليث: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ من غير قولهم: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾.
واعلم: أن كل ما جاء في القرآن بعد العلم من لفظة ﴿أن﴾ فهي بفتح الهمزة لكونها في حكم المفرد، إلا في موضعين:
أحدهما: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ في هذه السورة.
والثاني: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾ في سورة الأنعام. وإنما كان كذلك في هذين الموضعين لأنه يأتي بعدهما لام الخبر، فانكسرا.
أي: لأن اللام لتأكيد معنى الجملة، ولا جملة إلا في صورة المكسورة. وقال بعضهم: إذا دخلت لام الابتداء على خبرها.. تكون مكسورة؛ لاقتضاء لام الابتداء الصدارة، كما يقال: لزيدٌ قائم. وأخرت اللام لئلا يجتمع حرفا التأكيد، واختير تأخيرها لترجيح إن في التقديم لعامليته، فكسرت لأجل اللام.
﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ﴾ شهادة حقة ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾؛ أي: إنهم لكاذبون فيما أضمروه من أنك غير رسول. والإظهار (٣) في موضع الإضمار لذمهم والإشعار بعلية الحكم. أو لكاذبون فيما ضمنوا مقالتهم من أنها صادرة عن اعتقاد وطمأنينة قلب.
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
322
فإن الشهادة وضعت للإخبار الذي طابق فيه اللسان اعتقاد القلب، وإطلاقها على الزور مجاز، كإطلاق البيع على الفاسد. نظيره: قولك لمن يقول: أنا أقرأ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢)﴾: كذبت، فالتكذيب بالنسبة إلى قراءته لا بالنسبة إلى المقروء الذي هو: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢)﴾. ومن هنا يقال: إن من استهزأ بالمؤذن لا يكفر، بخلاف من استهزأ بالأذان، فإنه يكفر. قال بعضهم: الشهادة حجة شرعية تظهر الحق ولا توجبه، فهي الإخبار بما علمه بلفظ خاص، ولذلك صدق المشهود به وكذبهم في الشهادة بقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ...﴾ إلخ.
ودلت الآية على أن العبرة بالقلب وبالإخلاص، وبخلوصه يحصل الخلاص. وكان - ﷺ - يقبل من المنافقين ظاهر الإِسلام.
ومعنى الآية (١): أي إذا حضر مجلسك المنافقون، كعبد الله بن أبي وأصحابه.. قالوا: نشهد شهادة لا نشك في صدقها أنك رسول من عند الله حقًا، أوحى إليك وحيه، وأنزل عليك كتابه رحمة منه بعباده.
ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها تحقيقًا لرسالته، فقال: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا؛ لتنقذهم من الضلال إلى الهدى.
ثم بيّن كذبهم في مقالهم الذي حدثوا به، فقال: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ فيما أخبروا به؛ لأنهم لا يعتقدون صدق ما يقولون، ولا تواطىء قلوبهم ألسنتهم في هذه الشهادة.
٢ - ثم ذكر أنهم يحتالون على تصديق الناس لهم بكل يمين محرجة، فقال: ﴿اتَّخَذُوا﴾؛ أي: اتخذ المنافقون ﴿أَيْمَانَهُمْ﴾ الفاجرة، التي من جملتها ما حكي عنهم. لأن الشهادة تجري مجرى الحلف فيما يراد به من التوكيد. جمع يمين، واليمين في الحلف مستعار من اليمين التي بمعنى اليد اعتبارًا بما يفعله المحالف والمعاهد عنده. واليمين بالله الصادقة جائزة وقت الحاجة، صدرت من النبي - ﷺ -، كقوله: "والله، والذي نفسي بيده". ولكن إذا لم تكن ضرورة قوية.. يصان اسم الله العزيز عن الابتذال.
(١) المراغي.
323
أي: اتخذوا أيمانهم كلها، من شهادتهم هذه، وكل يمين سواها ﴿جُنَّةً﴾؛ أي: وقاية وترسًا عما يتوجه إليهم من المؤاخذة بالقتل والأسر والسبي، أو غير ذلك. واتخاذها جنة عبارة عن إعدادهم وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة، ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة، لا عن استعمالها بالفعل، فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية، واتخاذ الجنة لا بدّ أن يكون قبل المؤاخذة. وعن سببها كما يفصح عنه الفاء في قوله: ﴿فَصَدُّوا﴾؛ أي: فمنعوا وصرفوا من أراد الدخول في الإِسلام بأنه - ﷺ - ليس برسول، ومن أراد الإنفاق في سبيل الله بالنهي ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ سبحانه كما سيحكي عنهم. ولا ريب في أن هذا الصد منهم متقدم على حلفهم بالفعل.
وقرأ الجمهور: ﴿أَيْمَانَهُمْ﴾: بفتح الهمزة، جمع يمين. وقرأ الحسن بكسرها مصدر آمن، ولما ذكر أنهم كاذبون.. أتبعهم بموجب كفرهم، وهو اتخاذ أيمانهم جنة يستترون بها ويذبون بها عن أنفسهم وأموالهم، كما قال بعض الشعراء:
وَمَا انْتَسَبُوا إلى الإِسْلامِ إلَّا لِصَوْنِ دِمَائِهِمْ أَنْ لَا تُسَالَا
ومن أيمانهم: أيمان عبد الله بن أبيّ ومن حلف معه من قومه أنه ما قال ما نقله زيد بن أرقم إلى رسول الله - ﷺ -. وقال الأعشى الهمداني:
إِذَا أنْتَ لَمْ تَجْعَل لِعَرضِك جُنَّةً مِنَ الْمَالِ سَارَ الْقَوْمُ كُلَّ مَسِيْرِ
﴿إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: ساء الشيء الذي كانوا يعملونه من النفاق والصد. وفي ﴿سَاءَ﴾ معنى التعجب. ومعنى الآية: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾؛ أي: جعلوا أيمانهم الكاذبة وقاية وسترًا لحقن دمائهم وحفظ أموالهم، فيحلفون بالله إنهم لمنكم، ويقولون: نشهد إنك لرسول الله، حتى لا تجري عليهم أحكام الكفار من القتل والأسر وأخذ الأموال غنيمة. قال قتادة: كلما ظهر عليهم ما يوجب مؤاخذتهم.. حلفوا كاذبين، عصمة لدمائهم وأموالهم. وفي هذا تعداد لقبائح أفعالهم، وأن من عادتهم أن يستجنوا بالأيمان الكاذبة كما استجنوا بالشهادة الكاذبة. ثم حكى عنهم جريمة أخرى، وهي إضلال الناس، وصدهم عن الإِسلام، فقال: ﴿فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: فمنعوا الناس عن الدخول في الإِسلام، أي: منعوا الناس عن الإيمان والجهاد وأعمال الطاعة، بسبب ما يصدر منهم من
324
التشكيك والقدح في النبوة. هذا معنى الصد الذي بمعنى الصرف. ويجوز أن يكون من الصدود؛ أي: أعرضوا عن الدخول في سبيل الله وإقامة أحكامه.
وقصارى ذلك (١): أنهم أجرموا جريمتين:
١ - أعدوا الأيمان الكاذبة وهيؤوها لوقت الحاجة ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة.
٢ - أنهم يمنعون الناس عن الدخول في الإِسلام، وينفرونهم منه متى استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
ثم بيّن قبح مغبة ما يعملون ووبال ما يصنعون، فقال: ﴿إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: قبح فعلهم؛ إذ آثروا الكفر على الإيمان، وأظهروا خلاف ما أضمروا، وسيلقون نكالًا ووبالًا في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا: فسيفضحهم على رؤوس الأشهاد، ويظهر نفاقهم للمؤمنين بنحو قوله: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾. وأما في الآخرة: ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾.
٣ - ثم ذكر ما جرأهم على الكذب والاستخفاف بالأيمان المحرجة، فقال: ﴿ذَلِكَ﴾ القول الشاهد بأنهم أسوأ الناس أعمالًا، ﴿بِأَنَّهُمْ﴾؛ أي: بسبب أنهم ﴿آمَنُوا﴾؛ أي: نطقوا بكلمة الشهادة كسائر من يدخل في الإِسلام. ﴿ثُمَّ كَفَرُوا﴾، أي: ظهر كفرهم بما شوهد منهم من شواهد الكفر ودلائل من قولهم: إن كان ما يقوله محمد حقًا.. فنحن حمير! وقولهم في غزوة تبوك: أيطمع هذا الرجل أن يفتح له قصور كسرى وقيصر؟ هيهات. فـ ﴿ثُمَّ﴾ للتراخي، أو: كفروا سرًا، فـ ﴿ثُمَّ﴾ للاستبعاد. ويجوز أن يراد بهذه الآية أهل الردة منهم، كما في "الكشاف". والأول أولى.
﴿فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾؛ أي: ختم عليها حتى تمرنوا على الكفر واطمأنوا به، وصارت بحيث لا يدخلها الإيمان، جزاء على نفاقهم ومعاقبة على سوء أفعالهم. ﴿فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾؛ أي: لا يفهمون حقيقة الإيمان، ولا يعرفون حقيقته أصلًا كما يعرفه المؤمنون. أي: لا يعرفون ما فيه صلاحهم ورشادهم، وهو الإيمان.
(١) المراغي.
ودلت الآية (١) على أن ذكر بعض مساوىء العاصي عند احتمال الفائدة لا يعد من الغيبة المنهي عنها، بل قد يكون مصلحة مهمة على ما روي عنه - ﷺ -: "اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس". وفي "المقاصد الحسنة": ثلاثة ليست لهم غيبة: الإِمام الجائر، والفاسق المعلن فسقه، والمبتدع الذي يدعو الناس إلى بدعته.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فَطُبِعَ﴾ بالبناء للمفعول، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور بعده. وقرأ زيد بن علي على البناء للفاعل، والفاعل ضمير يعود إلى الله سبحانه. ويدل على هذا قراءة الأعمش ﴿فطبع الله على قلوبهم﴾.
والمعنى: أي ذلك الذي فعلوه لسوء سريرتهم وقبح طويتهم، فاستهانوا بما يأتون وما يذرون، ولم يكن همهم إلا المحافظة على دمائهم وأموالهم، ومن ثم أظهروا للناس إيمانًا وأبطنوا كفرًا، وقد ختم على قلوبهم، فلا تهتدي إلى حق ولا يصل إليها خير، ومن جراء ذلك عموا عما نصب من الأدلة على صدق الرسول، وصمّت آذانهم عن سماع ما يوجب الإيمان، فهم ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾.
٤ - ثم ذكر ما لهم من جمال في الصورة واعتدال في القوام، فقال: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ﴾؛ أي: رأيت أولئك المنافقين. والرؤية بصرية والخطاب للنبي - ﷺ -، وقيل: لكل من يصلح له. ويدل عليه قراءة من قرأ ﴿يُسْمَع﴾ على البناء للمفعول. ﴿تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾؛ أي: هيئآتهم ومناظرهم. يعني: أن لهم أجسامًا تعجب من يراها؛ لما فيها من النضارة والرونق وصباحة الوجه. ﴿وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ فتحسب أن قولهم حق وصدق؛ لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم. وقد كان عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين فصبحًا جسيمًا جميلًا، وكان يحضر مجلس النبي - ﷺ -، فإذا قال.. سمع النبي - ﷺ - مقالته. قال الكلبي المراد عبد الله بن أبيّ، وجد بن قيس، ومعتب بن قيس، كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة. و ﴿اللام﴾ (٣): في قوله: ﴿تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ صلة. وقيل: تصغي إلى قولهم. وكان عبد الله بن أبيّ ونفر من أمثاله - وهم -: رؤساء المدينة - يحضرون مجلس النبي - ﷺ -، وكان النبي - ﷺ -
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
326
- ومن معه يعجبون بهياكلهم، ويسمعون إلى كلامهم. وإن الصباحة وحسن المنظر لا يكون إلا من صفاء الفطرة في الأصل، ولذا قال عليه السلام: "اطلبوا الخير عند حسان الوجوه" أي: غالبًا. وكم من رجل قبيح الوجه قضاء للحوائج. قال بعضهم:
يَدُلُّ عَلَى مَعْرُوفِهِ حُسْنُ وَجْهِهِ وَمَا زَالَ حُسْنُ الْوَجْهِ إِحْدَى الشَّوَاهِدِ
وفي الحديث: "إذا بعثتم إليَّ رجلًا.. فابعثوه حسن الوجه حسن الاسم". ثم لما رأى النبي - ﷺ - غلبة الرين على قلوب المنافقين، وانطفاء نور استعدادهم، وإبطال الهيئات الدنية العارضية خواصهم الأصلية.. أيس منهم وتركهم على حالهم.
وروي عن بعض الحكماء: أنه رأى غلامًا حسنًا وجهه، فاستنطقه لظنه ذكاء فطنته، فما وجد عنده معنى: فقال: ما أحسن هذا البيت لو كان فيه ساكن!
وجملة قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾ مستأنفة لتقرير ما تقدم من أن أجسامهم تعجب الرائي، وتروق الناظر. ويجوز أن تكون في محل الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف. أي: هم كأنهم إلخ. والخشب - بضمتين -: جمع خشبة وهي ما غلظ من العيدان. والإسناد: الإمالة، ومسندة للتكثير. فإن التسنيد تكثير الإسناد بكثرة المحال؛ أي: كأنها أسندت في مواضع. شبهوا في جلوسهم في مجالس رسول الله - ﷺ - مستندين فيها بأخشاب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونها أشباحًا خالية عن العلم والخير والانتفاع. ولذا اعتبر في الخشب التسنيد؛ لأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع، فكما أن مثل هذا الخشب لا نفع فيه فكذا هم لا نفع فيهم.
يقول الفقير: فيه إشارة إلى أن الاستناد في مجالس الأكابر أو في مجالس العلم مِن ترك الأدب؛ ولذا منع الإِمام مالك رحمه الله هارون الرشيد من الاستناد حين سمع منه "الموطأ". ودلت الآية وكذا قول النبي - ﷺ -: إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، على أن العبرة في الكمال والنقصان بالأصغرين: اللسان والقلب، لا بالأكبرين: الرأس والجسد، فإن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والأموال، بل إلى القلوب والأعمال، فرب صورة مصغرة، عند الله بمثابة الذهب.
327
وقرأ الجمهور (١): ﴿تَسْمَعْ﴾ بتاء الخطاب. وقرأ عكرمة، وعطية العوفي ﴿يسمع﴾ بالياء مبنيًا للجهول، ولقولهم: الجار والمجرور هو المفعول الذي لم يُسمَّ فاعله، وليست اللام زائدة، بل ضمن ﴿يسمع﴾ معنى يصغ ويمل، تعدى باللام وليست زائدة، فيكون: قولهم هو المسموع. وقرأ الجمهور: ﴿خُشُبٌ﴾ بضمتين والبراء بن عازب والنحويان: أبو عمرو والكسائي، وابن كثير بإسكان الشين مخففة: ﴿خشب﴾ المضموم. وقيل: جمع خشباء، كحمر جمع حمراء، وهي: الخشبة التي نخر جوفها شبهوا بها في فساد بواطنهم. وقرأ ابن المسيب، وابن جبير: ﴿خشب﴾ بفتحتين، اسم جنس، الواحد خشبة، وأنث وصفه، كقوله: ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾، أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام.
والمعنى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾؛ أي (٢): لاستواء خلقهم وجمال صورهم، كما وصفهم بالفصاحة وذرابة اللسان فقال: ﴿وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ لحلاوة منطقهم وحسن توقيع حديثهم، فإذا سمعهم سامع.. أحب أن يصغي إليهم وأن يطول حديثهم جهد الاستطاعة. ثم وصفهم بأن أفئدتهم هواء، لا عقول لهم ولا أحلام، فقال: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾؛ أي: هم أشباح بلا أرواح، لهم جمال في المنظر وقبح في المخبر، فسدت بواطنهم وحسنت ظواهرهم، فكانت كالخشب الجوفاء التي نخرها السوس، فهي مع حسنها لا ينتفع فيها بعمل ولا يستفاد منها خير. ولله در أبي نواس:
لَا تَخْدَعَنْكَ اللِّحَى وَلَا الصُّوْرُ تِسْعَةُ أَعْشَارِ مَنْ تَرَى بَقَرُ
تَرَاهُم كَالسَّحَابِ مُنْتَشِرًا وَلَيْسَ فِيْهِ لِطَالِبٍ مَطَرُ
فِي شَجَرِ السَّرْوِ مِنْهُمُ مَثَلٌ لَهُ رُواءٌ وَمَا لَهُ ثَمَرُ
ثم وصفهم بالجبن والذلة، فقال: ﴿يَحْسَبُونَ﴾؛ أي: يظنون ﴿كُلَّ صَيْحَةٍ﴾؛ أي: كل صوت مرتفع. وهو مفعول أول لـ ﴿يَحْسَبُونَ﴾، والمفعول الثاني قوله: ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: واقعة عليهم ضارة لهم. وقال بعضهم: إذا نادى مناد في العسكر لمصلحة، أو انفلتت دابة، أو نشدت ضالة، أو وقعت جلبة بين الناس.. ظنوه
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
328
إيقاعًا بهم، لجبنهم واستقرار الرعب في قلوبهم، والخائن خائف. وفي هذا زيادة تحقير لهم وتخفيف لقدرهم، كما قيل:
إِذَا رَأَى غَيْرَ شَيْءٍ ظَنَّهُ رَجُلًا
وقيل: كانوا على وجل من أن ينزل الله فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم. ﴿هُمُ الْعَدُوُّ﴾؛ أي: هم الكاملون في العداوة الراسخون فيها. فإن أعدى الأعادي: العدو المكاشر الذي يكاشرك؛ أي: يبتسم، وتحت ضلوعه داء لا يبرح بل يلزم مكانه. ولم يقل: هم الأعداء؛ لأن العدو لكونه بزنة المصادر يقع على الواحد وما فوقه. والجملة (١) مستأنفة لبيان أنهم الكاملون في العداوة.
ثم أمر الله سبحانه رسوله بأن يأخذ حذره منهم، فقال: ﴿فَاحْذَرْهُمْ﴾؛ أي: فاحذر أن تثق بقولهم وتميل إلى كلامهم، أو: فاحذر ممايلتهم لأعدائك وتخذيلهم بأصحابك، فإنهم يفشون سرك إلى الكفار. أو: فاحذر أن يتمكتوا من فرصة منك أو يطلعوا على شيء من أسرارك؛ لأنهم عيون لأعدائك من الكفار.
ثم دعا عليهم، فقال: ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: لعنهم وطردهم من رحمته، دعا عليهم وطلب من ذاته تعالى أن يلعنهم ويطردهم ويخزيهم ويميتهم على الهوان والخذلان. قال سعدي المفتي: ولا طلب هناك حقيقة، بل عبارة الطلب للدلالة على أن اللعن عليهم مما لا بد منه. وقال الطيبي: إنه من أسلوب التجريد، كقراءة ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: ﴿ومن كفر فأمتعه يا قادر﴾. ويجوز أن يكون تعليمًا للمؤمنين بأن يدعو عليهم بذلك. ففيه دلالة على أن للدعاء على أهل الفساد محلًا يحسن فيه، فقاتل الله المبتدعين الضالين المضلين، فإنهم شر الخصماء وأضر الأعداء. وإيراده في صورة الإخبار مع أنه إنشاء معنى للدلالة على وقوعه. وقال بعضهم: أهلكهم الله، وهو دعاء يتضمن الاقتضاء والمنابذة وتمني الشر لهم. وقيل: هي كلمة ذم وتوبيخ بين الناس، وقد تقول العرب: قاتله الله ما أشعره! فيضعونه موضع التعجب. وقيل: أحلهم محل من قاتله عدو قاهر لكل معاند يهلكه؛ لأن الله تعالى قاهر لكل معاند، فإذا قاتلهم أهلكهم.
(١) روح البيان.
329
وقوله تعالى: ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ تعجيب من حالهم؛ أي: كيف يصرفون عن الحق والنور إلى ما هم عليه من الكفر والضلال والظلمة بعد قيام البرهان.
والمعنى: قاتلهم الله بالخزي والحرمان والسوء والخذلان، كيف يعدلون عن طريق الدين الصدق وعن سبيل الهدى والرشد؟
ومعنى: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ...﴾ إلى آخر الآية؛ أي (١): كلما نادى مناد في العسكر، أو انفلتت دابة، أو نشدت ضالة.. ظنوا أن العدو قد فاجأهم وأن أمرهم قد افتضح، وأنهم هالكون لا محالة. وقد قالوا: يكاد المريب يقول: خذوني، ويكاد السارق يقول إذا رأى القيد: ضعوه في يدي؛ لما ألقي من الرعب في قلوبهم. فهم يخافون أن تهتك أستارهم وتكشف أسرارهم، ويتوقعون الإيقاع بهم ساعة فساعة. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾. وقد نظر المتنبي إلى الآية في قوله:
وَضَاقَتْ الأَرْضُ حَتَّى كَانَ هَارِبُهُمْ إِذَا رَأَى غَيْرَ شِيْءٍ ظَنَّهُ رَجُلًا
﴿هُمُ الْعَدُوُّ﴾ الذي بلغ الغاية في العداوة، ﴿فَاحْذَرْهُمْ﴾ ولا تأمنهم على سر، ولا تلتفت إلى ظاهرهم. فقلوبهم متحرقة حسدًا وبغضًا، وأعدى الأعادي: العدو والمداجي، الذي يكاشرك - يبتسم لك - وتحت ضلوعه الداء الدوي والشر المستطير.
ثم زاد سبحانه في ذمهم وتوبيخهم وعجب من حالهم، فقال: ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: لعنهم الله وطردهم من رحمته، فما أفظع حالهم وما أشدهم غفلة عن مآلهم. وهذا تعليم منه لعباده المؤمنين أن يلعنوهم. فكأنه قال: قولوا: قاتلهم الله. ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾؛ أي: كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل؟ وقد كان لهم مدكر فيما حولهم وفيما أمامهم من صدق الداعي بما أتى به من البينات الدالة على أنه مرسل من ربه. وإن تعجب من شيء.. فاعجب من جهالتهم وظنهم الفاسد أنهم على الحق، فما أعظمها محنة وأعجب بهم نقمة، جازاهم الله بها على سوء
(١) المراغي.
330
أعمالهم وقبح فعالهم.
٥ - ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ عند ظهور جناياتهم بطريق النصيحة؛ أي: قال لهم واحد من المؤمنين: قد نزل فيكم ما نزل فتوبوا إلى الله ورسوله و ﴿تَعَالَوْا﴾ وأقبلوا إلى رسول الله - ﷺ - ﴿يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ﴾ - ﷺ -، بالجزم. جواب الأمر. أي: يدع الله لكم ويطلب منه أن يغفر بلطفه ذنوبكم، ويستر عيوبكم. وهو من إعمال الثاني. لأن ﴿تَعَالَوْا﴾ يطلب رسول الله مجرورًا بـ إلى؛ أي: تعالوا إلى رسول الله، و ﴿يَسْتَغْفِرْ﴾: يطلب، فاعلًا، فأعمل الثاني، ولذلك رفعه وحذف من الأول، إذ التقدير: تعالوا إليه. ﴿لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ﴾؛ أي: حركوها استهزاء لذلك، وأمالوها وعطفوها رغبة عن الاستغفار.
وقرأ مجاهد ونافع (١)، وأهل المدينة وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، والمفضل، وأبان عن عاصم، والحسن ويعقوب بخلاف عنهما: ﴿لووا﴾ بفتح الواو مخففًا. وقرأ أبو جعفر، والأعمش، وطلحة، وعيسى، وأبو رجاء، والأعرج، وباقي السبعة بشدها للتكثير، واختار هذه القراءة أبو عبيد.
﴿وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ﴾ من الصدود بمعنى الإعراض؛ أي: يعرضون عن القائل، أو عن الاستغفار. وجملة ﴿يَصُدُّونَ﴾ حال من ضمير الغائبين؛ لأن الرؤية بصرية، وأتت بالمضارع ليدل على استمرارهم. ﴿وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾ عن ذلك؛ لغلبة الشيطنة، واستيلاء القوة الوهمية، واحتجابهم بالأنانية وتصور الخيرية. وفي الحديث: "إذا رأيت الرجل لجوجًا معجبًا برأيه.. فقد تمت خسارته". والجملة أيضًا حال من فاعل الحالة الأولى، والمعنى: ورأيتهم صادين مستكبرين.
ومعنى الآية: أي وإذا قيل (٢) لجماعة المنافقين، كعبد الله بن أبيّ: هلموا إلى رسول الله - ﷺ - يطلب لكم من ربكم غفران ذنوبكم.. صدوا وأعرضوا. قال الكلبي: لما نزل القرآن بصفة المنافقين.. مشى إليهم عشائرهم من المؤمنين وقالوا لهم: ويلكم افتضحتم بالنفاق وأهلكتم أنفسكم، فأتوا رسول الله - ﷺ - وتوبوا إليه من النفاق واسألوه أن يغفر لكم، فأبوا ذلك وزهدوا في الاستغفار، فنزلت الآية.
وقال ابن عباس: لما رجع عبد الله بن أبيّ من أحد بكثير من الناس، مقته
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
المسلمون وعنفوه وأسمعوه ما يكره، فقال له بنو أبيه: لو أتيت رسول الله - ﷺ - حتى يستغفر لك ويرضى عنك؟ قال: لا أذهب إليه ولا أريد أن يستغفر لي، وجعل يلوي رأسه، فنزلت.
٦ - ثم أيأسهم من جدوى الاستغفار لهم، فقال: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ﴾ يا محمد كما (١) إذا جاؤوك معتذرين من جناياتهم. وفي "كشف الأسرار": كان - ﷺ - يستغفر لهم على معنى سؤاله لهم بتوفيق الإيمان ومغفرة العصيان. و ﴿سَوَاءٌ﴾، اسم بمعنى مستو، خبر مقدم، و ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق به، وما بعده من المعطوف عليه والمعطوف مبتدأ بتأويل المصدر لإخراج الاستفهام عن مقامه. فالهمزة في ﴿أَسْتَغْفَرْتَ﴾ للاستفهام، ولذا فتحت وقطعت، والأصل: ﴿أاستغفرت﴾ فحذفت همزة الوصل التي هي همزة الاستفعال للتخفيف ولعدم اللبس. ﴿أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ كما إذا أصروا على قبائحهم واستكبروا عن الاعتذار والاستغفار؛ أي: استغفارك لهم وعدمه سيان لا ينفعهم ذلك، لإصرارهم على النفاق واستمرارهم على الكفر.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿أَسْتَغْفَرْتَ﴾ بهمزة التسوية التي أصلها همزة الاستفهام وطرح ألف الوصل. وقرأ أبو جعفر بمدة على الهمزة، قيل: هي عوض من همزة الوصل، وهي مثل المدة في قوله تعالى: ﴿قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ﴾ لكن هذه المدة في الاسم لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر، ولا يحتاج إلى ذلك في الفعل؛ لأن همزة الوصل فيه مكسورة. وعن أبي جعفر أيضًا ضم ميم ﴿عَلَيْهِمْ﴾ إذ أصلها الضم ووصل الهمزة. وروى معاذ بن معاذ العنبري عن أبي عمرو كسر الميم على أصل التقاء الساكنين ووصل المرة، فتسقط في القراءتين، واللفظ خبر، والمعنى على الاستفهام، والمراد: التسوية. وجاز حذف الهمزة لدلالة ﴿أَمْ﴾ عليها، كما دلت على حذفها في قوله:
بَسَبْعٍ رَمَينَ الجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ
يريد أبسبع.
﴿لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ أبدًا؛ لإصرارهم على الفسق، ورسوخهم في الكفر، وخروجهم عن دين الفطرة القيم؛ لأن الله كتب عليهم الشقاء بما كسبت أيديهم وبما اجترحت من الفسوق والعصيان، وبما ران على قلوبهم من الجحود والطغيان.
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
ثم علل ذلك بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾؛ أي: الكاملين في الفسق، الخارجين عن دائرة الاستصلاح، المنهمكين في الكفر والنفاق، أو الخارجين من دائرة المحقين الداخلين في دائرة الباطلين المبطلين؛ لأن الله لا يهدي من أحاطت به خطيئته، فلم تجد الهداية إلى قلبه سبيلًا تسلكه، ولا المواعظ والنصائح متسعًا في فؤاده، فأنى للقلب أن يهتدي وللعقل أن يرعوي؟ وماذا تفيد الآيات والنذر عن قوم لا يعقلون؟
٧ - ثم ذكر هنة أخرى لهم، فقال: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ﴾؛ أي: للأنصار، وهو استئناف جار مجرى التعليل لفسقهم أو لعدم مغفرته تعالى لهم، وهو حكاية نص كلامهم. ﴿لَا تُنْفِقُوا﴾؛ أي: لا تعطوا النفقة التي يتعيش بها ﴿عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ يعنون: فقراء المهاجرين. وقولهم: ﴿رَسُولِ اللَّهِ﴾، إما للهزء والتهكم، أو لكونه كاللقب له - ﷺ - واشتهاره به، فلو كانوا مقرين برسالته.. لما صدر عنهم ما صدر. ويجوز أن ينطقوا بغيره، لكن الله تعالى عبر به إكرامًا له وإجلالًا. ﴿حَتَّى يَنْفَضُّوا﴾؛ أي: يتفرقوا عنه ويرجعوا إلى قبائلهم وعشائرهم. وهذا إشارة إلى ابن سلول ومن وافقه من قومه. وإنما قالوه لاحتجابهم بأفعالهم عن رؤية فعل الله وبما في أيديهم عما في خزائن الله، فيتوهمون الإنفاق منهم لجهلهم؛ أي: هم الذين يقولون للأنصار: لا تطعموا محمدًا وأصحابه حتى تصيبهم مجاعة فيتركوا نبيهم حين يعضّهم الجوع بنابه.
ثم رد عليهم وخطأهم فيما يقولون، فقال: ﴿وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: ولله جميع ما في السماوات والأرض من شيء، وبيده مفاتيح أرزاق العباد، لا يقدر أحد أن يعطي أحدًا شيئًا إلَّا بمشيئته.
وهذا رد (١) وإبطال لما زعموا من أن عدم إنفاقهم يؤدي إلى انفضاض الفقراء من حوله - ﷺ -، ببيان أن خزائن الأرزاق بيد الله خاصة، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء. ومن تلك الخزائن المطر والنبات. قال الراغب: قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إشارة منه إلى قدرته تعالى على ما يريد إيجاده، أو إلى الحالة التي أشير إليها بقوله - ﷺ -: "فرغ ربكم من الخلق والأجل والرزق". والمراد من
(١) روح البيان.
الفراغ: إتمام القضاء، فهو مذكور بطريق التمثيل. يعني: أتم قضاء هذه الكليات في علمه السابق. والخزائن: جمع خزانة، وهي: ما يخزن فيه الأموال النفيسة ويحفظ، كما سيأتي.
قرأ الجمهور (١): ﴿يَنْفَضُّوا﴾ من الانفضاض، وهو التفرق. وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي: ﴿يُنْفَضُّوا﴾ من أنفض القوم إذا فنيت أزوادهم، يقال: نَفَضَ الرجل وعاءه من الزاد فَأَنْفَضَ.
﴿وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾ ذلك؛ لجهلهم بالله وبشؤونه، ولذلك يقولون من مقالات الكفر ما يقولون، ولا يعلمون أن خزائن الأرزاق بيد الله عز وجل، وأنه الباسط القابض المعطي المانع، لجهلهم بسنن الله في خلقه، وأن الله قد كفل الأرزاق لعباده في أي مكان كانوا، متى عملوا وجدوا في الحصول عليها.
٨ - ثم ذكر هنة ثالثة لهم، وهي أعظمها، فقال: ﴿يَقُولُونَ﴾؛ أي: يقول المنافقون - عبد الله بن أبيّ وأصحابه -: والله ﴿لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ﴾ والمراد: رجوعهم من غزوة بني المصطلق، كما مر. وإنما أسند القول إلى المنافقين مع كون القائل واحدًا من أفرادهم، وهو عبد الله بن أبيّ لكونه كان رئيسهم وصاحب أمرهم، وهم راضون بما يقوله سامعون له مطيعون. ﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ﴾ يريد أنفسهم ﴿مِنْهَا﴾؛ أي: من المدينة ﴿الْأَذَلَّ﴾ يريد النبي - ﷺ - وأصحابه. ثم رد الله سبحانه على قائل قلت المقالة فقال: ﴿وَلِلَّهِ﴾ سبحانه لا لغيره ﴿الْعِزَّةُ﴾ والقدرة التامة والغلبة والقوة ﴿وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: ولمن أعزه من رسوله والمؤمنين لا لغيرهم، كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من المنافقين والكافرين؛ أي: فالعزة والغلبة لله وحده ولمن أفاضها عليه من رسله وصالحي عباده لا لغيرهم.
قال الواسطي - رحمه الله تعالى - (٢): عزة الله: أن لا يكون شيء إلا بمشيئته وإرادته، وعزة المرسلين: أنهم آمنون من زوال الإيمان، وعزة المؤمنين: أنهم آمنون من دوام العقوبة. وقال عزة الله: العظمة والقدرة، وعزة الرسول: النبوة والشفاعة، وعزة المؤمنين: التواضع والسخاء والعبودية. دل عليه قوله - ﷺ -: "أنا سيد ولد
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
334
آدم ولا فخر"؛ أي: لا أفتخر بالسيادة، بل افتخر بالعبودية، وفيها عزتي، إذ لا عزة إلا في طاعة الله ولا ذل إلا في معصية الله. وقال بعضهم: عزة الله: قهره من دونه، وعزة رسوله: بظهور دينه على سائر الأديان كلها، وعزة المؤمنين: استذلالهم اليهود والنصارى، كما قال: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. وقيل: عزة الله: الولاية، لقوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ﴾، وعزة رسوله: الكفاية، لقوله تعالى: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥)﴾، وعزة المؤمنين: الرفعة؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.
يقول الفقير: أشار تعالى بالترتيب إلى أن العزة له بالأصالة والدوام، وصار الرسول مظهرًا له في تلك العزة، ثم صار المؤمنون مظاهر له - ﷺ - فيها. فعزة الرسول بواسطة عزة الله وعزة المؤمنين بواسطة الرسول، سواء أعاصروه - ﷺ - أم أتوا بعده، إلى قيام الساعة. وجميع العزة لله؛ لأن عزة الله له تعالى صفة، وعزة الرسول وعزة المؤمنين فعلًا ومنةً وفضلًا كما قال القشيري - رحمه الله تعالى -: العز الذي للرسول وللمؤمنين هو لله تعالي خلقًا وملكًا، وعزه سبحانه له وصفًا، فإذا العزة كلها لله. وبهذا يجمع بين قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾، وبين قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾.
ومن أدب مَنْ عرف أنه تعالى هو العزيز: أن لا يعتقد لمخلوق إجلالًا؛ ولهذا قال - ﷺ -: "من تواضع لغني لأجل غناء.. ذهب ثلثا دِينه". قال أبو علي الدقاق - رحمه الله -: إنما قال: "ثلثا دينه" لأن التواضع يكون بثلاثة أشياء: بلسانه، وبدنه، وقلبه. فإذا تواضع له بلسانه وبدنه ولم يعتقد له العظمة بقلبه.. ذهب ثلثا دِينه، فإن اعتقدها بقلبه أيضًا.. ذهب كل دِينه. لهذا قيل: إذا عظم الرب في القلب.. صغر الخلق في العين. ومتى عرفت أنه معز.. لم تطلب العز إلا منه، ولا يكون العز إلا في طاعته.
والمعنى (١): أي يقول عبد الله أبيّ ومن يلوذ به من صحبه: لئن عدنا إلى المدينة.. لنخرجنكم منها أيها المؤمنين، فإننا الأقوياء الأشداء الأعزاء وأنتم الضعفاء الأذلاء، فرد الله عليهم مقالهم، فقال: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛
(١) المراغي.
335
أي: ولله الغلبة والقوة ولمن أعزه الله من الرسول والمؤمنين.
روي: أن عبد الله بن عبد الله بن أبي - وكان مؤمنًا مخلصًا - سل سيفه على أبيه عندما أشرفوا على المدينة. وقال: لله علي أن لا أغمده حتى تقول محمد الأعز وأنا الأذل، فلم يبرح حتى قال ذلك.
وروي: أنه وقف واستل سيفه، وجعل الناس يقرون عليه حتى جاء أبوه، فقال: وراءك، قال: ما لك ويلك؟، قال: والله لا تجوز من هنا حتى يأذن لك رسول الله - ﷺ -، فإنه العزيز وأنت الذليل، فرجع حتى لقي رسول الله - ﷺ -، وكان إنما يسير ساقه - في آخر الجيش - فشكا إليه ما صنع ابنه، فأرسل إليه النبي - ﷺ - أن خل عنه يدخل، ففعل. ﴿وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ من فرط جهلهم وغرورهم، فيهذون ما يهذون. أي: لا يعلمون أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن العاقبة للمتقين، وأن الله ينصر من ينصره، كما قال: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾. وسننه تعالى لا تبديل فيها ولا تغيير، وهو لا بدّ جاعل عباده المؤمنين هم الأعزاء كما وعد وجعل مخالفيه هم الأذلاء، ولا دخل للمال والنشب، ولا للحسب والنسب في تلك القوة التي يمد بها من يشاء والنصرة التي يمنحها عباده المخلصين، وأن الله منجز وعده لنبيه كما أنجزه لمن قبله من رسله، وقد تم لهم الظفر على أعدائهم الضالين.
ولعل ختم (١) الآية الأولى بـ ﴿يَفْقَهُونَ﴾، والثانية بـ ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ للتفنن المعتبر في البلاغة، مع أن في الأول بيان عدم كياستهم وفهمهم، وفي الثاني بيان حماقتهم وجهلهم. وفي "برهان القرآن": الأول متصل بقوله: ﴿وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وفيه غموض يحتاج إلى فطنة، والمنافق لا فطنة له، والثاني متصل بقوله: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أن الله معز أوليائه ومذل أعدائه.
وعبارة "فتح الرحمن": ختم هنا بـ ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾، وفيما مر بـ ﴿لَا يَفْقَهُونَ﴾، لأن الأول متصل بقوله: ﴿وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وفي معرفتها غموض
(١) روح البيان.
336
يحتاج إلى فطنة وفقه، فناسب نفي الفقه في الأول، والثاني متصل بقوله: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ﴾ وفي معرفتها غموض زائد يحتاج إلى علم، فناسب نفي العلم عنهم.
فالمعنى: لا يعلمون أن الله معز أوليائه ومذل أعدائه.
وقرأ الجمهور (١): ﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا﴾ الأذل بالبناء للفاعل، فالأعز فاعل والأذل مفعول. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة: ﴿لنُخرجَنَّ﴾ بالنون، ونصب الأعز والأذل، فالأعز مفعول والأذل حال. وقرأ الحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني ﴿لنَخرُجَنَّ﴾ بنون الجماعة مفتوحة وضم الراء، ونصب الأعز على الاختصاص، كما قالوا: نحن العرب أقرى الناس للضيف. ونصب الأذل على الحال، وحكى هذه القراءة أبو حاتم، وحكى الكسائي والفراء: أن قومًا قرأوا: ﴿لَيَخْرِجَنَّ﴾ بالياء المفتوحة وضم الراء، فالفاعل: الأعز، ونصب الأذل على الحال. وقرىء مبنيًا للمفعول وبالياء، الأعز مرفوع به، الأذل نصبًا على الحال ومجيء الحال بصورة المعرفة متأول عند البصريين. فما كان منها بأل فعلى زيادتها، لا أنها معرفة.
٩ - ولما ذكر سبحانه وتعالى قبائح المنافقين.. رجع إلى خطاب المؤمنين، مرغبًا لهم في ذكره فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله إيمانًا صادقًا ﴿لَا تُلْهِكُمْ﴾؛ أي: لا تشغلكم ﴿أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ﴾؛ أي: الاعتناء بها والتمتع بها ﴿عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ سبحانه؛ أي: عن أداء فرائضه من الصلاة، والزكاة، والحج وسائر ما أوجبه عليكم. يقال: ألهاه الشيء، إذا شغله؛ أي: لا يشغلكم (٢) الاهتمام بتدبير أمورها والاعتناء بمصالحها والتمتع بها عن الاشتغال بذكره تعالى من الصلاة وسائر العبادات المذكرة للمعبود. ففي ذكر الله مجاز، أطلق السبب وأريد المسبب.
قال بعضهم: الذكر بالقلب: خوف الله، وباللسان: قراءة القرآن، والتسبيح والتهليل، والتمجيد والتكبير، وتعلم علم الدين وتعليمه، وغيرها وبالأبدان: الصلاة وسائر الطاعات. والمراد: نهيهم عن التلهي بها؛ أي: عن ترك ذكر الله بسبب الاشتغال بها. وتوجيه النهي إليها للمبالغة بالتجوز بالسبب عن المسبب، كقوله تعالى: ﴿فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ﴾. وقد ثبت أن المجاز أبلغ. وقال بعضهم: هو
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
كناية؛ لأن الانتقال من لا تلهكم إلى معنى قولنا: لا تلهوا.. انتقال من اللازم إلى الملزوم.
وقد كان المنافقون بخلاء بأموالهم؛ ولذا قالوا: ﴿لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ ومتعززين بأولادهم وعشائرهم، مشغولين بهم وبأموالهم عن الله، وطاعته وتعاون رسوله - ﷺ - فنهى المؤمنين أن يكونوا مثلهم في ذلك. ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾؛ أي: التلهي بالدنيا عن الدين، والاشتغال بما سواه عنه ولو في أقل حين. ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾؛ أي: الكاملون في الخسران، حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني. وفي الحديث: ما طلعت الشمس إلا بجنبيها ملكان يناديان ويسمعان الخلائق غير الثقلين: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم، ما قل وكفى خير مما كثر وألهى".
ومعنى الآية (١): أي لا يشغلكم تدبير أموالكم والعناية بشؤون أولادكم عن القيام بحقوق ربكم وأداء فرائضه التي طلبها منكم، واجعلوا للدنيا حظًا من اهتمامكم وللآخرة مثله. وهذا ما عناه الحديث: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا".
وبهذا امتازت الملة الحنيفية السمحة، فما طلب من المؤمنين أن يكونوا ماديين يتكالبون على جمع حطام الدنيا كما يفعل اليهود، ولا أن يكونوا روحانيين يجردون أنفسهم من لذات هذه الحياة ويتبتلون إلى ربهم كما يفعل المسيحيون، كما يرشد إلى هذا قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾، وقوله: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾. ثم توعد من يفعل ذلك، فقال: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾؛ أي: ومن تلَّه بالدنيا وشغلته عن حقوق الله.. فقد باء بغضب من ربه وخسرت تجارته، إذ باع خالدًا باقيًا واشترى فانيًا زائلًا، وكيف يرضى عاقل بمثل هذه التجارة الخاسرة.
١٠ - ومن (٢) أهم ما يقرب العبد من ربه ويجعله يفوز برضوانه: رحمة البائسين من عباده، وبذل المال في الوجوه التي فيها سعادة الأمة وإعلاء شأن الملة وانتشار
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
338
الدعوة، ومن ثم قال: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾؛ أي: بعض ما أعطيناكم تفضلًا من غير أن يكون حصوله من جهتكم، ادخارًا للآخرة. فالمراد (١): الإنفاق الواجب، نظرًا إلى ظاهر الأمر، كما في "الكشاف"، ولعل التعميم أولى وأنسب بالمقام. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ بأن يشاهد دلائله ويعاين أماراته ومخايله. وتقديم المفعول على الفاعل للاهتمام بما تقدم والتشويق إلى ما تأخر ولم يقل: من قبل أن يأتيكم الموت فتقولوا، إشارة إلى أن الموت يأتيهم واحدًا بعد واحد حتى يحيط بالكل. ﴿فَيَقُولَ﴾ عند تيقنه بحلوله: يا ﴿رَبِّ﴾؛ أي: يا ربي ويا مالك أمري ﴿لَوْلَا أَخَّرْتَنِي﴾؛ أي: هلا أخرتني وأمهلتني، فـ ﴿لَوْلَا﴾ للتحضيض. وقيل: لا زائدة للتأكيد ولو للتمني؛ بمعنى: لو أخرتني؛ أي: هلا أمهلتني وأخرت موتي ﴿إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ وأمد قصير وساعة أخرى قليلة، وقال أبو الليث: يا سيدي! ردني إلى الدنيا وأبقني زمانًا غير طويل. وفي "عين المعاني": مثل ما أجلت لي في الدنيا. ﴿فَأَصَّدَّقَ﴾؛ أي: فأتصدق بمالي. وهو بقطع الهمزة؛ لأنها للتكلم وهمزته مقطوعة، وبتشديد الصاد؛ لأن أصله: أتصدق من التصدق، فأدغمت التاء في الصاد، وبالنصب؛ لأنه مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء في جواب التحضيض. أو التمني في قوله: ﴿لَوْلَا أَخَّرْتَنِي﴾. ﴿وَأَكُنْ مِنَ﴾ عبادك ﴿الصَّالِحِينَ﴾ المراعين لحقوق الله وحقوق العباد، بالجزم عطفًا في محل ﴿فَأَصَّدَّقَ﴾، كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن من الصالحين. وفيه إشارة إلى أن التصدق من أسباب الصلاح والطاعة، كما أن تركه من أسباب الفساد والفسق.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فَأَصَّدَّقَ﴾ بإدغام التاء في الصاد، وانتصابه على أنه جواب التمني. وقرأ أبي، وابن مسعود، وسعيد بن جبير: ﴿فأتصدق﴾ بالتاء بدون إدغام على الأصل. وقرأ الجمهور السبعة: ﴿وَأَكُنْ﴾ بالجزم عطفًا على محل ﴿فَأَصَّدَّقَ﴾، كأنه قيل: إن أخرتني.. أصدق وأكن. وقرأ الحسن وابن جبير، وأبو رجاء، وابن أبي إسحاق، ومالك بن دينار، والأعمش، وابن محيصن وعبد الله بن الحسن العنبري، وأبو عمرو: ﴿وأكون﴾ بالنصب عطفًا على ﴿فَأَصَّدَّقَ﴾ وكذا في مصحف عبد الله وأبي، ولكن قال أبو عبيد: رأيت في مصحف عثمان ﴿أكن﴾ بغير
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
339
واو، وقرأ عبيد بن عمير: ﴿وأكون﴾ بضم النون على الاستئناف؛ أي: وأنا أكون، وهو وعد الصلاح.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من كان له مال تجب فيه الزكاة فلم يزكه، أو مال يبلغه إلى بيت الله فلكم يحج.. يسأل عند الموت الرجعة.
فائدة: والفرق بين التصدق والهدية: أن التصدق للمحتاج بطريق الترحم والهدية للحبيب لأجل المودة. ولذا كان - ﷺ - يقبل الهدية لا الصدقة، فرضًا كانت أو نفلًا.
ومعنى الآية (١): أي وأنفقوا بعض ما أعطيناكم من فضلنا من الأموال شكرًا على النعمة ورحمة بالققراء من عباده، وادخروا ذلك ليوم العرض والحساب فتجنوا ثمار ما عملتم، ولا تدخروه في صناديقكم لوارثكم فربما أضاعه فيما لا يكسبكم حمدًا ولا مدحًا، بل يكسبكم ذمًا وقدحًا. وقد جاء في الخبر: "أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام"، وجاء أيضًا: "يا ابن آدم"! ليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، أو تصدقت فأبقيت". ولا تنتظروا حتى يحين وقت الاحتضار، وتروا الموت رأي العين، ثم تتمنون أن لو مد الله في الأجل وأطال العمر لتتداركوا ما فات وتحسنوا العمل وتساعدوا البائسين، وذوي الحاجة، فهيهات هيهات، فليس ذا وقت الندم:
نَدِمَ الْبُغَاةُ وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمِ وَالْبَغُيُ مَرْتَعُ مُبْتَغِيهِ وَخيمُ
١١ - فأنى للعمر أن يطول، وللحياة أن تزيد ولكل نفس أجل لا تعدوه، وعمر لا يزيد ولا ينقم، فماذا يفيد التمني، وماذا ينفع الندم والجسرة؟ وذلك ما عناه سبحانه بقوله: ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ﴾ سبحانه ﴿نَفْسًا﴾؛ أي: لن يؤخر نفسًا ولن يمهلها، مطيعة أو عاصية، صغيرة أو كبيرة ﴿إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا﴾؛ أي: آخر عمرها، أو انتهى، إن أريد بالأجل الزمان الممتد من أول العمر إلى آخره. فعليكم أن تستعدوا قبل حلول الأجل، وهيئوا الزاد ليوم المعاد {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (٩) وَمَا أَدْرَاكَ مَا
(١) المراغي.
340
هِيَهْ (١٠) نَارٌ حَامِيَةٌ (١١)}. وفي هذا عبرة لمن اعتبر ولم يفرط في أداء الحقوق والواجبات. واستنبط (١) بعضهم عمر النبي - ﷺ - من هذه الآية، فالسورة رأس ثلاث وستين سورة، وعقبها بالتغابن ليظهر التغابن في فقده.
ثم حذرهم وأنذرهم بأنه رقيب عليهم في كل ما يأتون وما يذرون، فقال: ﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ لا يخفى عليه شيء منه، فمجازيكم على الإحسان إحسانًا، وعلى الإساءة إعراضًا عنكم وسخطًا وبعدًا عن رضوانه. إنك لا تجني من الشوك العنب، فسارعوا في الخيرات، واستعدوا لما هو آت.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ بالفوقية، خطابًا للناس كلهم. وقرأ أبو بكر عن عامر، والسلمي بالتحتية، خص الكفار بالوعيد، ويحتمل العموم.
الإعراب
﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (١)﴾.
﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه منصوب بجوابه، ﴿جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ﴾: فعل ومفعول به، وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إِذَا﴾ الشرطية، وجملة ﴿إِذَا﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿نَشْهَدُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿إِنَّكَ﴾: ناصب واسمه، ﴿لَرَسُولُ اللَّهِ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿رسول الله﴾: خبره، وجملة ﴿إن﴾ جواب القسم لا محل لها من الإعراب. لأن معنى ﴿نَشْهَدُ﴾: نحلف فهو جارٍ مجرى القسم. وعبّر عن الحلف بالشهادة؛ لأن كل واحد منهما إثبات لأمر عين. ﴿وَاللَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: اعتراضية، ﴿الله﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَعْلَمُ﴾: خبره، والجملة الاسمية اعتراضية لاعتراضها بين قولهم: ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ وبين قوله: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ﴾. ﴿إِنَّكَ﴾: ناصب واسمه، ﴿لَرَسُولُهُ﴾: خبره. ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، وجملة ﴿إن﴾ سادة مسد مفعولي ﴿يَعْلَمُ﴾. ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ﴾: ﴿الواو﴾:
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
341
عاطفة، ﴿الله﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَشْهَدُ﴾: خبره، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿إِذَا﴾، ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾: ناصب واسمه، ﴿لَكَاذِبُونَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿كاذبون﴾ خبره، وجملة ﴿إن﴾ جواب القسم المعنوي لأن ﴿يَشْهَدُ﴾ بمعنى: يحلف، فيجري مجرى فعل القسم.
﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٣)﴾.
﴿اتَّخَذُوا﴾: فعل ماض وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان كذبهم وحلفهم عليه. ﴿أَيْمَانَهُمْ﴾: مفعول به، ﴿جُنَّةً﴾: مفعول ثان، ﴿فَصَدُّوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿صدوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿اتَّخَذُوا﴾، ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿صدوا﴾، ﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿سَاءَ﴾ خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة ﴿سَاءَ﴾ فعل ماض بمعنى: قبح ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ، ﴿بِأَنَّهُمْ﴾: جار ومجرور خبره، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿أنهم﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ خبر ﴿أنَّ﴾، ﴿ثُمَّ كَفَرُوا﴾: معطوف على آمنوا، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر مجرور بالباء السببية؛ أي: بسبب إيمانهم ثمَّ كُفرهم. ﴿فَطُبِعَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿طبع﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿كَفَرُوا﴾. ﴿فَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة سببية، ﴿هم﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يَفْقَهُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿طبع﴾.
﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾.
﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل، ﴿رَأَيْتَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، ﴿تُعْجِبُكَ﴾: فعل مضارع، ومفعول به، ﴿أَجْسَامُهُمْ﴾: فاعل، والجملة جواب ﴿إذا﴾ وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة. ﴿وَإِنْ﴾: الواو: عاطفة، ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿يَقُولُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إنْ﴾، ﴿تَسْمَعْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها ﴿لِقَوْلِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿تَسْمَعْ﴾، وجملة
342
﴿إنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿إذا﴾.
﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤)﴾.
﴿كَأَنَّهُمْ﴾: حرف نصب وتشبيه واسمه، ﴿خُشُبٌ﴾: خبره، ﴿مُسَنَّدَةٌ﴾: صفة ﴿خُشُبٌ﴾، وجملة ﴿كَأَنَّ﴾ مستأنفة، أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هم مشبهون بخشب مسندة، أو حال من الضمير في ﴿قولهم﴾، ﴿يَحْسَبُونَ﴾: فعل وفاعل مرفوع بثبوت النون، ﴿كُلَّ صَيْحَةٍ﴾: مفعول أول لـ ﴿حسب﴾، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور في موضع المفعول الثاني لـ ﴿حسب﴾؛ أي: كائنة عليهم. والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿هُمُ الْعَدُوُّ﴾: مبتدأ، وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿فَاحْذَرْهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنهم عدو لك وأردت بيان ما هو الأصلح لك.. فأقول لك: احذرهم. ﴿احذر﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر، و ﴿الهاء﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول به، وفاعل، والجملة جملة دعائية لا محل لها من الإعراب، ﴿أَنَّى﴾: اسم استفهام بمعنى: كيف في محل النصب على الحال، مبني على السكون، ﴿يُؤْفَكُونَ﴾: فعل مضارع ونائب فاعل، والجملة إنشائية لا محل لها من الإعراب.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥)﴾.
﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به، ﴿تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ﴾: نائب فاعل محكي لـ ﴿قِيلَ﴾، وجملة ﴿قِيلَ﴾ في محل الخفض بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها. وإن شئت قلت: ﴿تَعَالَوْا﴾: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾، ﴿يَسْتَغْفِرْ﴾: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به، ﴿رَسُولُ اللَّهِ﴾: فاعل. و ﴿رَسُولُ اللَّهِ﴾: تنازع فيه كل من ﴿تَعَالَوْا﴾، و ﴿يَسْتَغْفِرْ﴾؛ لأن ﴿تَعَالَوْا﴾ يطلبه مجرورًا بإلى، و ﴿يَسْتَغْفِرْ﴾ يطلبه فاعلًا؛ أي: تعالوا إلى رسول الله،
343
يستغفر لكم رسول الله. ﴿لَوَّوْا﴾: فعل ماضي، وفاعل، ﴿رُءُوسَهُمْ﴾: مفعول به، والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾ مستأنفة. ﴿وَرَأَيْتَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿لَوَّوْا﴾. والرؤية بصرية تتعدى إلى مفعول واحد، وجملة ﴿يَصُدُّونَ﴾ في محل النصب حال من مفعول ﴿رأيتهم﴾، وجملة ﴿وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾ في محل النصب حال من الواو في ﴿رَأَيْتَهُمْ﴾.
﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٦)﴾.
﴿سَوَاءٌ﴾: خبر مقدم، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به، ﴿أَسْتَغْفَرْتَ﴾: ﴿الهمزة﴾: حرف تسوية وسبك واستفهام، ﴿أَسْتَغْفَرْتَ﴾: فعل وفاعل، وقد استغني بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَسْتَغْفَرْتَ﴾، والجملة الفعلية مع همزة التسوية في تأويل مصدر مرفوع، على أنه مبتدأ مؤخر، والتقدير: وسواء عليهم استغفارك لهم وعدمه. والجملة مستأنفة. ﴿أَمْ﴾: هي المعادلة لهمزة التسوية، وهي حرف عطف، ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿تَسْتَغْفِرْ﴾: فعل ضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿أستغفرت﴾؛ أي: استغفارك لهم وعدم استغفارك لهم سيان. ﴿لَن﴾: حرف نفي ونصب واستقبال. ﴿يَغْفِرَ الله﴾: فعل، وفاعل منصوب بـ ﴿لَن﴾، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّ اللهَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب.
﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (٧)﴾.
﴿هُمُ الَّذِينَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، ﴿يَقُولُونَ﴾: صلة الموصول، ﴿لَا تُنْفِقُوا﴾ إلى قوله: ﴿حَتَّى يَنْفَضُّوا﴾: مقول محكي لـ ﴿يَقُولُونَ﴾. وإن شئت قلت: ﴿لَا﴾: ناهية جازمة، ﴿تُنْفِقُوا﴾: فعل مضارع، وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، ﴿عَلَى مَنْ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُونَ﴾، ﴿عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ﴾: ظرف متعلق بمحذوف صلة ﴿من﴾ الموصولة، ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وتعليل، ﴿يَنْفَضُّوا﴾: فعل مضارع، وفاعل منصوب بأن المضمرة وجوبًا بعد
344
حتى الجارة، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى اللام، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿لَا تُنْفِقُوا﴾؛ أي: لا تنفقوا عليهم لأجل انفضاضهم. ﴿وَلِلَّهِ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ﴾: مبتدأ مؤخر، ومضاف إليه، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿يَقُولُونَ﴾، ولكنها حالة سببية؛ أي: قالوا ما ذُكر، والحال: أن الرزق بيده تعالى. ﴿وَلَكِنَّ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لكن﴾: حرف نصب واستدراك، ﴿الْمُنَافِقِينَ﴾: اسمه، وجملة ﴿لَا يَفْقَهُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿لكن﴾ معطوفة على الجملة الاسمية قبلها.
﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٨)﴾.
﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف بعاطف مقدر على ﴿يَقُولُونَ﴾ الأول؛ لأن سبب القولين وقائلهما واحد. ﴿لَئِنْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم ﴿إن﴾: حرف شرط جازم، ﴿رَجَعْنَا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿إِلَى الْمَدِينَةِ﴾: متعلق بـ ﴿رَجَعْنَا﴾، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، تقديره: إن رجعنا إلى المدينة.. يخرج الأعز منها الأذل، وجملة الشرط معترضة بين القسم وجوابه. ﴿لَيُخْرِجَنَّ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم مؤكدة للأولى ﴿يخرجن﴾ فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ﴿الْأَعَزُّ﴾: فاعل، ﴿مِنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿يخرجن﴾، ﴿الْأَذَلَّ﴾: مفعول به. والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مقول لـ ﴿يَقُولُونَ﴾. ﴿وَلِلَّهِ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿لِلَّهِ﴾ خبر مقدم: ﴿الْعِزَّةُ﴾: مبتدأ مؤخر ﴿وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ معطوفان على ﴿لِلَّهِ﴾، والجملة في محل النصب حال من فاعل لـ ﴿يَقُولُونَ﴾، ما مر نظيره آنفًا؛ أي: قالوا ما ذُكر، والحال: أن كل من له نوع بصيرة يعلم أن العزة لله... إلخ. ﴿وَلَكِنَّ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿لكن﴾ معطوفة على ما قبلها.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٩)﴾.
345
﴿يَا أَيُّهَا﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿الَّذِينَ﴾: بدل من أي، وجملة النداء مستأنفة. وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول، ﴿لَا﴾: ناهية جازمة، ﴿تُلْهِكُمْ﴾: فعل مضارع، مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، والكاف مفعول به، ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾: فاعل، ﴿وَلَا أَوْلَادُكُمْ﴾: معطوف على ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾، والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُلْهِكُمْ﴾، ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، ﴿يَفعَل﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿ذلِكَ﴾: مفعول به، ﴿فَأُولَئِكَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب، ﴿أولئك﴾: مبتدأ، ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل، ﴿الْخَاسِرُونَ﴾: خبر، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه جواب شرط لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة النهي.
﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠)﴾.
﴿وَأَنْفِقُوا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿أَنْفِقُوا﴾: فعل أمر مبني على حذف النون، و ﴿الواو﴾: فاعل، و ﴿مِنْ مَا﴾: متعلق به، والجملة الفعلية معطوفة أيضًا على جملة النهي، على كونها جواب النداء، ﴿رَزَقْنَاكُمْ﴾: فعل، وفاعل ومفعول به، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة والعائد محذوف تقديره: رزقناكموه، ﴿مِنْ قَبْلِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿أنفقوا﴾ أو متعلق بـ ﴿أنفقوا﴾، ﴿أَن﴾: حرف مصدر ونصب ﴿يَأْتِيَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أنَ﴾، ﴿أَحَدَكُمُ﴾: مفعول به، ﴿الْمَوْتُ﴾: فاعل، والجملة الفعلية مع ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ أي: أنفقوا من قبل إتيان الموت أحدكم. ﴿فَيَقُولَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿يقول﴾: فعل مضارع معطوف على يأتي، وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿أَحَدَكُمُ﴾، ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف، حذف منه حرف النداء للتخفيف، وياء الإضافة اجتزاء عنها بالكسرة، وجملة النداء في محل النصب مقول لـ ﴿يقول﴾. ﴿لَوْلَا﴾: حرف تحضيض، أو ﴿لو﴾: حرف تمن، و ﴿لا﴾ زائدة كما مر، ﴿أَخَّرْتَنِي﴾: فعل وفاعل ومفعول به، ونون وقاية، ﴿إِلَى أَجَلٍ﴾: متعلق به، ﴿قَرِيبٍ﴾: صفة ﴿أَجَلٍ﴾، والجملة التحضيضية في محل النصب مقول لـ ﴿يقول﴾ على كونه جواب النداء،
346
﴿فَأَصَّدَّقَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿أصدق﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب التحضيض أو التمني، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره: أنا، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى؛ تقديره: لولا تأخيرك إياي إلى أجل قريب فتصدقي. ﴿وَأَكُنْ﴾: على قراءة الجزم: مجزوم بالعطف على محل قوله: ﴿فَأَصَّدَّقَ﴾؛ لأنه في تقدير: إن أخرتني.. أصدق وأكن من الصالحين. وعلى قراءة النصب: معطوف على لفظ ﴿فَأَصَّدَّقَ﴾. وعلى قراءة الرفع: فعلى الاستئناف، كما مر جميع ذلك في مبحث القراءة. واسم ﴿أكن﴾ ضمير مستتر يعود على المتكلم ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾: خبره.
﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١١)﴾.
﴿وَلَن﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة على مقدر تقديره: فلا يؤخر هذا المتمني ولن يؤخر الله... إلخ. فكأنه عطف علة على معلول؛ أي: لا يؤخر هذا المتمني؛ لأن الله لا يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها. ﴿يُؤَخِّرَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿لن﴾، ولفظ الجلالة ﴿اللَّهُ﴾ فاعل، ﴿نَفْسًا﴾: مفعول به، ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ ﴿يُؤَخِّرَ﴾، ﴿جَاءَ أَجَلُهَا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها؛ أي: لا يؤخرها وقت مجيء أجلها. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿خَبِيرٌ﴾: خبره، والجملة مستأنفة مسوقة للتهديد، ﴿بمَا﴾: متعلق بـ ﴿خَبِيرٌ﴾، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا﴾: جمع منافق، اسم فاعل من نافق الرباعي، ينافق نفاقًا، والنفاق: إظهار الإيمان باللسان، وكتمان الكفر بالقلب. فالمنافق: هو الذي يضمر الكفر اعتقادًا ويظهر الإيمان قولًا. وفي "المفردات": النفاق: الدخول في الشرع من باب والخروج منه من باب آخر من النافقاء، إحدى حجرتي اليربوع والثعلب والضب، يكتمها ويظهر غيرها، فإذا أتي من قبل القاصعاء - وهو الذي يدخل منه - ضرب النافقاء برأسه فانتفق. والنفق: هو السرب في الأرض النافذ. ﴿نَشْهَدُ﴾ والشهادة: قول صادر عن علم حصل بشهادة بصر أو بصيرة. ﴿فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يقال: صده عن الأمر صدًا؛ أي: منعه وصرفه، وصد عنه صدودًا؛ أي:
347
أعرض. ﴿جُنَّةً﴾؛ أي: وقاية وترسًا عما يتوجه إليهم من المؤاخذة بالقتل والسبي. وأصل الجن: ستر الشيء عن الحاسة، يقال: جنه اللحل، وأجنه، والجنان - بالفتح -: القلب لكونه مستورًا عن الحاسة، والمجن والجنة: الترس الذي يجن صاحبه، والجنة بالفتح: كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض. ﴿سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ساء هذه هي الجارية مجرى بئس في إفادة الذم، ومع ذلك ففيها معنى التعجب وتعظيم أمرهم عند السامعين: كما في "أبي السعود".
﴿فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ من الطبع، والطبع: أن يصور الشيء بصورة ما، كطبع السكة وطبع الدراهم. وهو أعم من الختم وأخص من النقش، كما في "المفردات"؛ أي: ختم على قلوبهم كما يختم بالطابع على ما يراد حفظه حتى لا يؤخذ منه شيء. ﴿تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾؛ أي: لصباحتها وتناسب أعضائها، أصله من العجب، والشيء العجيب هو الذي يعظم في النفس أمره لغرابته. والتعجب: حيرة تعرض للنفس بواسطة ما يتعجب منه. ﴿خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾ والخشب بضمتين: جمع خشبة، كأكم وأكمة، أو جمع خشب محركة، كأسد وأسد. وهو ما غلظ من العيدان. والإسناد: الإمالة، والتعبير بـ ﴿مسندة﴾ للتكثير؛ فإن التسنيد تكثير الإسناد بكثرة المَحَالِّ؛ أي: كأنها أسندت إلى مواضع. ﴿كُلَّ صَيْحَةٍ﴾ والصيحة: رفع الصوت. وفي "القاموس": الصيحة. الصوت بأقصى الطاقة. ﴿يُؤْفَكُونَ﴾: من الأفك بفتج الهمزة، بمعنى الصرف عن الشيء؛ لأن الإفك بالكسر بمعنى الكذب. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا﴾: أصله تعاليوا، فأعل بالقلب والحذف، إلا أن واحد الماضي: تعالى، بإثبات الألف المقلوبة عن الياء المقلوبة عن الواو الواقعة رابعة، وواحد الأمر: تعال، بحذفها وقفًا وفتح اللام. وأصل معنى التعالي: الارتفاع، فإذا أمرت منه قلت: تعال وتعالوا، فتعالوا جمع أمر الحاضر في صورة الماضي، ومعناه: ارتفعوا، فيقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه، ثم كثر واتسع فيه حتى استعمل في كل داع يطلب المجيء في المفرد وغيره، لما فيه من حسن الأدب؛ أي: هلموا وأتوا. ومن الأدب أن لا يقال: تعال فلان، أو تعاليت يا فلان، أو أنا متعال، أو فلان متعال، بأي معنى أريد؛ لأنه مما اشتهر به الله سبحانه، فتعالى الله الملك الحق علوًا كبيرًا.
﴿لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ﴾ يقال: لوى الرجل رأسه، أماله، والتشديد للتكثير لكثرة
348
المَحالِّ، وهي الرؤوس. وأصله: لويوا، بوزن فعلوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت لالتقائها ساكنة بواو الجماعة. ﴿وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ﴾؛ أي: يعرضون، من الصدود بمعنى الإعراض. أصله: يصددون، بوزن يفعلون، نقلت حركة الدال الأولى إلى الصاد فسكنت فأدغمت في الدال الثانية.
﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ﴾ وسواء: اسم بمعنى مستو، والهمزة فيه مبدلة من ياء. وقوله: ﴿أَسْتَغْفَرْتَ﴾: حذفت منه همزة الوصل للاستغناء عنها بهمزة الاستفهام. ﴿وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ والخزائن: جمع خزانة - بالكسر - كعصائب وعصابة، وهي ما يخزن فيه الأموال النفيسة وتحفظ، وكذا المخزن - بالفتح - وقد سبق البسط فيه في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾. ﴿الْأَعَزُّ﴾: اسم تفضيل على وزن أفعل، وأصله: الأعزز، نقلت حركة الزاي الأولى إلى العين فسكنت فأدغمت في الثانية. ﴿الْأَذَلَّ﴾: كذلك أيضًا صيغة تفضيل، أصله: الأذلل، نقلت حركة اللام الأولى إلى الذال، فسكنت فأدغمت في اللام الثانية. ﴿لَا تُلْهِكُمْ﴾ في "الصحاح": لهت عن الشيء - بالكسر - ألهى لهيًا ولهيانًا، إذا سلوت وتركت ذكره وأضربت عنه. وفي "القاموس": لها كدعا، وسلا، وغفل، وترك ذكره، كتلهى وألهاه شغله، ولهوت بالشيء - بالفتح - ألهو لهوًا إذا لعبت به. ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ﴾ أصله: فأتصدق، أبدلت التاء صادًا وأدغمت في الصاد. ﴿وَأَكُنْ﴾ قرىء: ﴿وأكون﴾ بالنصب، وهو معطوف على ﴿فَأَصَّدَّقَ﴾ لفظًا؛ لأن ﴿فَأَصَّدَّقَ﴾ منصوب بإضمار ﴿أن﴾ لوقوعه في جواب التمني؛ لأن ﴿لَوْلَا﴾ هنا معناها التمني، وقرىء: ﴿وَأَكُنْ﴾ بالجزم، وهو معطوف على موضع ﴿فَأَصَّدَّقَ﴾، لأن موضعه قبل دخول الفاء الجزم؛ لأنه جواب التمني، وجواب التمني إذا كان بغير فاء، ولا واو.. حكمه الجزم؛ لأنه غير واجب، ففيه مشابهة للشرط وجوابه، ولذلك يجزم كما يجزم جواب الشرط؛ لأنه غير واجب، إذ يجوز أن يقع ويجوز أن لا يقع.
فالمعنى على هذا: إن أخرتني.. أصدق وأكن. انظر "الكشف عن وجوه القراءات وعللها" لمكي بن أبي طالب (ج/
٢ - ص/٣٢٣) ولكن في قوله: إن ﴿لولا﴾ هنا معناها التمني، فيه نظر، والذي يظهر: أن معناها التحضيض؛ كما مرّ.
قلت: وهذا مما يسميه النحاة عطف التوهم، فكأن المتكلم توهم أن الفاء لم
349
تدخل فجزم الفعل على الأصل، وأصله: وأكون، فلما جزم الفعل.. صار أكون، فاجتمع ساكنان فحذفت الواو، حكاه سيبويه عن الخليل.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: تأكيد المنافقين كلامهم بـ ﴿إنَّ﴾، و ﴿اللام﴾: في قوله: ﴿قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ للإيذان بأن شهادتهم هذه صادرة عن صميم قلوبهم وخلوص اعتقادهم كما مر.
ومنها: التأكيد بالقسم، و ﴿إنَّ﴾ و ﴿اللام﴾ في قوله: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ زيادة في التقرير والبيان.
ومنها: الجملة الاعتراضية في قوله ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾. جاءت معترضة بين الشرط وجوابه؛ لبيان أنهم ما قالوا ذلك عن اعتقاد، ولدفع توهم تكذيبهم في دعواهم الشهادة بالرسالة. والأصل: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (١)﴾. فجاءت الجملة الاعتراضية تقريرًا لمنطوق كلامهم لكونه مطابقًا للواقع.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ لغرض ذمهم والإشعار بعلية الحكم، وكان الظاهر أو يقال: إنهم لكاذبون، لسبق المرجع.
ومنها: إطلاق الشهادة التي هي الإخبار عن حق على زورهم مجازًا، كإطلاق البيع على الفاسد.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ﴾، لأن اليمين حقيقة في الجارحة، فاستعير للحلف اعتبارًا بما يفعله المحالف عنده من المصافحة.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿جُنَّةً﴾ لأن الجنّة حقيقة فيما يستتر به ويتقى به من المحذور كالترس، ثم استعير لما يجعلونه وقاية لدمائهم
350
وأموالهم أو إظهار الإِسلام.
ومنها: الطباق بين ﴿آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ وبين ﴿الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾.
ومنها: التشبيه المرسل التمثيلي في قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾ فالمشبه: هم، أي: رؤوساء المنافقين أو المدينة، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله - ﷺ -، ويستندون فيه إلى الجدر، وكان النبي ومن حضر يتعجبون أو هياكلهم المنصوبة. والمشبه به هو: الخشب المنصوبة المسندة إلى الحائط. ووجه الشبه: كون الجانبين أشباحًا خالية عز العلم والنظر، على حدّ قتل حسان - رضي الله عنه -:
لَا بَأْسَ بِالْقَوْمِ مِنْ طُوْلٍ وَمِنْ عِظَمٍ جِسْمُ الْبِغَالِ وَأَحْلاَمُ الْعَصَافِيرِ
ومنها: التشبيه التمثيلي أيضًا في قوله: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: إنهم لجبنهم وهلع نفوسهم واضطراب قلوبهم إذا نادى مناد في المعسكر، أو انفلتت دابة، أو نشدت ضالّة.. وجفت قلوبهم وزايلهم رشدهم، وحسبوا أن هناك شرًا يتربص بهم وكيدًا ينتظر الإيقاع بأرواحهم. وقد رمق الأخطل سماء هذا المعنى، فقال:
مَا زِلْتَ تَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَهُمْ خَيْلًا تَكِرُّ عَلَيْهِمُ وَرِجَالًا
يقول الأخطل: لا زلت يا جرير تظن كل شيء بعد خذلان قومك خيلًا تكر؛ أي: ترجع بسرعة عليهم لكثرة ما يساورك من الخوف. وغلا المتنبي في هذا المعنى، فقال:
وَضَاقَتِ الأَرْضُ حَتَّى صَارَ هَارِبُهُمْ إِذَا رَأَى غَيْرَ شَيْءٍ ظَنَّهُ رَجُلًا
ويمكن أن يقال: إن وجه الشبه هو عزوب أحلامهم وفراغ قلوبهم من الإيمان. ولم يكتف بالتشبيه بالخشب بل جعلها مسندة إلى الحائط لعدم الانتفاع بها؛ لأنها إذا كانت في سقف أو مكان.. ينتفع بها.
ومنها: أسلوب التجريد في قوله: ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ كقراءة ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله: ﴿ومن كفر فأمتعه يا قادر﴾.
ومنها: إيراد اللعنة في صورة الإخبار مع أنه إنشاء معنى في قوله: {قَاتَلَهُمُ
351
اللَّهُ} للدلالة على وقوعه وتحققه.
منها: طباق السلب في قوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾.
ومنها: القول بالموجب في قوله: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾، لأن حقيقة القول بالموجب: رد الخصم كلام خصمه من فحوى كلامه، فإن موجب قتل المنافقين الآنف ذكره في الآية: إخراج الرسول المنافقين أو المدينة، وقد كان ذلك، ألا ترى أن الله تعالى قال على إثر ذلك: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾. ومن أمثلته قتل ابن الحجاج
البغدادي:
قُلْتُ ثَقَّلْتُ إِذْ أَتَيْتُ مِرَارًا قَالَ ثَقَّلْتَ كَاهِلِيْ بِالأَيَادِي
ومنها: الكناية في قوله: ﴿لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ﴾؛ لأن الانتقال فيه من ﴿لَا تُلْهِكُمْ﴾ إلى معنى قولنا: لا تلهوا انتقال من اللازم إلى الملزوم.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾؛ لأن المراد بالذكر فرائضه ومأموراته، حب أطلق المسبب وأريد السبب.
ومنها: تقديم المفعول على الفاعل في قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ للاهتمام بما تقدم والتشويق إلى ما تأخر.
ومنها: العدول عن قول: من قبل أن يأتيكم الميت إلى قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ للإشارة إلى أن الميت يأتيهم واحدًا بعد واحد حتى يحيط بالكل.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
352
خلاصة ما تضمنته هذه السورة
اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية:
١ - وصف المنافقين وبيان سيء خصالهم من الكذب والأيمان الفاجرة والجبن.
٢ - حث المؤمنين على الطاعة وإنفاق المال قبل انقضاء الأجل.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
353
سورة التغابن
سورة التغابن نزلت بعد التحريم، قال "البيضاوي": سورة التغابن اختلف فيها. وهي (١) مدنية في قول الأكثرين، وقال الضحَّاك: هي مكية، وقال الكلبي: هي مدنية ومكية. وأخرج ابن الضريس، وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس قال: نزلت سورة التغابن بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج النحاس عن ابن عباس قال: نزلت سورة التغابن بمكة، إلا آيات من آخرها نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى رسول الله - ﷺ - جفاء أهله وولده، نانزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ...﴾ إلى آخر السورة ثلاث آيات. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار نحوه.
وآيها: ثماني عشرة آية، وكلماتها: مئتان وإحدى وأربعون كلمة، وحروفها: ألف وسبعون حرفًا.
ومناسبتها لما قبلها من ثلاثة أوجه (٢):
١ - أنه في السورة قبلها ذكر حال المنافقين وخاطب بعد ذلك المؤمنين، وهنا قسم الناس قسمين: مؤمنًا وكافرًا.
٢ - نهى هناك عن الاشتغال بالأولاد عن ذِكر الله، وهنا ذكر أن الأموال والأولاد فتنة.
٣ - في السورة السابقة حث على الإنفاق في سبيل الله، وفي ذكر التغابن حث عليه أيضًا.
وقال أبي حيان (٣): مناسبة هذه السورة لما قبلها: أن ما قبلها مشتمل على
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
354
حال المنافقين، وفي آخرها خطاب المؤمنين، فأتبعه بما يناسبه من قوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾. وهذا تقسيم في الإيمان والكفر بالنظر إلى الاكتساب عند جماعة من المتأولين لقوله - ﷺ -: "كل مولود يولد على الفطرة"، وقوله تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ انتهى.
الناسخ والمنسوخ فيها: وقال أبي عبد الله، محمد بن حزم: سورة التغابن ليس فيها منسوخ وفيها ناسخ، وهو قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ...﴾ الآية (١٦) نسخ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾، لمَّا اشتكى المسلمين من ذلك.
تسميتها: سميت بلفظ التغابن لذِكره فيها.
ومن فضائلها: ما أخرجه البخاري في "تاريخه" عن عبد بن عمرو قال: ما من مولود يولد إلا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من أول سورة التغابن. ومنها: ما روي عن النبي - ﷺ -: "من قرأ سورة التغابن.. دفع عنه موت الفجأة".
والله أعلم
* * *
355

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٥) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)﴾.
المناسبة
تقدم لك بيان مناسبة أول هذه السورة لآخر السابقة. وأما قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أن الله سبحانه لما (١) بسط الأدلة على عظيم قدرته وواسع علمه، وأنه خلق السماوات والأرض
(١) المراغي.
356
وأنه صورهم فأحسن صورهم، وأنه يعلى السر والنجوى.. حذر المشركين من كفار مكة على تماديهم في الكفر والجحود بآياته وإنكار رسالة نبيه محمد - ﷺ -، وبين لهم عاقبة يحل بهم من العذاب في الدنيا والآخرة، وضرب لهم الأمثال بالأمم المكذبة من قبلهم، فقد كذبوا رسلهم وتمادوا في عنادهم وقالوا: أيرسل الله من البشر رسلًا؟ فحلت بهم نقمة ربهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فأصبحت ديارهم خرابًا يباسًا، كأن لم يغنوا بالأمس، فهلا يكون ذلك عبرة لهم فيثوبوا إلى رشدهم ويرجعوا إلى ربهم لو كانوا من أرباب النهى؟
قوله تعالى: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سلف انكار المشركين للألوهية ثم إنكارهم للنبوة بقولهم: أبشر يهدوننا، ثم أعقبه بأنهم سيلقون الوبال والنكال جزاء ما فعلوا.. أردف ذلك بذكر إنكارهم للبعث، ثم إثبات تحققه، وأنه كائن لا محالة، وأن كل أمرىء سيجازى بما فعل يوم يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد حين يغبن الكفار في شرائهم؛ لأنهم اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، ويفوز المؤمنون في تجارتهم بالصفقة الرابحة، لأن الله اشترى منهم أموالهم وأنفسهم بالجنة فضلًا منه ورحمة.
قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما (١) ذكر فيما سلف أن الناس قسمان: كافر بالله مكذب لرسله لا يألو جهدًا في إيصال الأذى بهم، ومؤمن بالله مصدق لرسله، وهو يعمل الصالحات.. أردف ذلك ببيان أن ما يصيب الإنسان من خير وشر فهو بقضاء الله وقدره بحسب النظم التي وضعها في الكون، فعلى الإنسان أن يجد ويعمل ثم لا يبالي بعد ذلك بما يأتي به القضاء؛ لعلمه بأن ما فوق ذلك ليس في طاقته ولو يهوله أمره ولن يحزن عليه. ثم أمر بعد ذلك بطاعة الله وطاعة الرسول، وأبان أن تولي الكافرين عن الرسول لن يضيره شيئًا فإنه قد أدى رسالته، وما على الرسول إلا البلاغ، وأن على المؤمن أن يتوكل على الله وحده، وهو يكفيه شر ما أهمه.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ...﴾ إلى آخر
(١) المراغي.
357
السورة. مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما (١) أمر بطاعة الله وطاعة رسوله، وذكر أن المؤمن ينبغي له أن يتوكل على الله تعالى ولا يعتمد إلا عليه.. ذكر هذا أن من الأولاد والزوجات أعداء لآبائهم وأزواجهم، يثبطونهم عن الطاعة ويصدونهم عن تلبية الدعوة لما فيه رفعة شأن الدين وإعلاء كلمته، فعليكم أن تحذروهم ولا تتعبوا أهواءهم حتى لا تكونوا إخوان الشياطين يزينون لكم المعاصي، ويصدونكم عن الطاعة. ثم أردف هذا ببيان أن الإنسان مفتون بماله وولده، فإنه ربما عصى الله تعالى بسببهما فغصب المال أو غيره لأجلهما، فعليه أن يتقي الله ما استطاع إلى ذلك سبيلًا ولينفق ذو سعة من سعته، فمن جاد بماله ووقى نفسه الشحّ.. فهو الفائز بخيري الدنيا والآخرة، ومن أقرض الله سبحانه قرضًا حسنًا.. فالله يضاعف له الحسنة بعشرة أضعافها إلى سبع مئة ضعف، وهو عالم بما يغيب عن الإنسان وما يشاهد له، وهو العزيز الحكيم في تدبير شؤون عباده.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (٢): ما أخرجه الترمذي والحاكم، وصححاه عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: نزلت هذه الآية: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ...﴾ الآية. في قوم من أهل مكة أسلموا فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتوا المدينة، فلما قدموا على رسول الله - ﷺ -.. رأوا الناس قد فقهوا، فهَمُّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا...﴾ الآية.
وأخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة التغابن كلها بمكة، إلا هؤلاء الآيات: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ...﴾ نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، كان ذا أهل وولد، فكان إذا أراد الغزو.. بكوا إليه ووقفوه، فقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق ويقيم. فنزلت هذه الآية وبقية الآيات إلى آخر السورة بالمدينة.
(١) المراغي.
(٢) لباب النقول.
358
Icon