ﰡ
(١) - إِذَا جَاءَ المُنَافِقُونَ إِلَى مَجْلِسِكَ يَا مُحَمَّدُ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ رُسُولُ اللهِ حَقّاً وَصِدْقاً، وَقَدْ أَرْسَلَكَ اللهُ تَعَالَى إِلَى الخَلْقِ كَافَّةً، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ وَحْيَهُ وَقُرْآنَهُ، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ إِلَى النَّاسِ لِتُبَلِّغَهُمْ مَا أَوْحَاهُ إِليكَ رَبُّكَ، وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ الذِينَ قَالُوا مَا قَالُوا لَكَاذِبُونَ فِيمَا يَقُولُونَ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْتَقِدُونَ صِدَقَ مَا يَقُولُونَ.
المُنَافِقُ - هُوَ الذِي يُظْهِرُ الإِيْمَانَ وَيُبْطِنُ الكُفْرَ وَهُوَ بِصُوَرةٍ عَامَّةٍ مِنْ يَقُولُ غَيْرَ مَا يَعْتَقِدُ.
(٢) - جَعَلَ هَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ أَيْمَانَهُم الكَاذِبَةَ وِقَايَةً لَهُمْ لِحَقْنِ دِمَائِهِمْ، وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ فَيِحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ، وَيَقُولُونَ نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ لِيَغْتَرَّ بِهِمْ مَنْ لاَ يَعْرِفُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ، وَيَعْتَقدَ بِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ فَيَطْمَئِنَّ إِلَيهِمْ، وَليَسْتَغِلُّوا هَذَا الاطْمئْنَانَ إِليهِمْ لِيَنْصِرفُوا إِلَى العَمَلِ عَلَى صَرْفِ النَّاسِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الإِسْلاَمِ، فَسَاءَ عَمَلُهُمْ وَقَبُحَ إِذْ آثرُوا الكُفْرِ عَلَى الإِيْمَانِ، وَأَظْهَرُوا خلاَفَ مَا يَعْتَقِدُونَ، وَسَيَلْقَوْنَ عِقَابَ ذَلِكَ العَمَلِ السَّيِّئِ فِي الآخِرَةِ.
جُنَّةً - وِقَايَةً لأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.
(٣) - وَذَلِكَ الذِي فَعَلُوهُ إِنَّمَا أَقْدَمُوا عََلَيْهِ لِسُوءِ سَرِيرَتِهِمْ، وَقُبْحِ طَوّيتِهِمْ، فَاسْتَهَانُوا بِمَا يَفْعَلُونَ، وَكُلُّ هَمِّهِم المُحَافَظَةُ عَلَى دِمَائِهِم وَأَمْوَالِهِمْ، لِذَلِكَ أَظْهَرُوا للنَّاسِ الإِيْمَانَ وأَبْطَنُوا الكُفْرَ، وَقَدْ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِليهَا الإِيمْانُ الحَقُّ، فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَفْقَهُونَ.
آمَنُوا - بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَمْ يُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ.
فَطَيَعَ - فَخَتَمَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ.
لاَ يَفْقَهُونَ - لاَ يَعْرِفُونَ حَقِيقَةََ الإِيْمَانِ.
(٤) - وَإِذَا رَأَيْتَ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ تُعْجِبُكَ صُوَرُهُمْ، وَإِذَا تَكَلَّمُوا تُعْجِبُكَ أَقْوَالَهُمْ لأَنَّهُمْ ذَوُو صُورٍ مُتَنَاسِقَةٍ، وَذَوُو لَسَنٍ وَفَصَاحَةٍ، وَلَكِنَّهُمْ فِي الحَقِيقَةِ أَشْبَاحٌ بِلاَ أَرْوَاحٍ، وَقُلُوبُهُمْ فَارِغَةٌ مِنَ الإِيْمَانِ فَكَأَنَّهُمْ خُشُبٌ جَوْفَاءُ قَدْ نَخَرَ السُّوسُ دَاخِلَهَا، وَهُمْ فِي غَايةِ الهَلَعِ وَالجَزَعِ، يَحْسَبُونَ كُلَّ صَوْتٍ يَقَعُ أَنَّ البَلاَءَ قَدْ جَاءَهُمْ، وَأَنَّ أَمْرَهُمْ قَدِ افْتَضَحَ، وَأَنَّهُمْ هَالِكُونَ لاَ مَحَالَةَ.
وَهَؤُلاَءِ هُمُ الأَعْدَاءُ الحَقِيقِيًُّونَ لِلاِسْلاَم وَالمُسْلِمِينَ فَلاَ تَأْمَنْهُمْ عَلَى سِرٍّ، لأَنَّ قُلُوبَهُمْ مُتَحَرِّقَةٌ حَسَداً وَبُغْضاً، لَعَنَهُمُ اللهُ وَطَرَدَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، فَمَا أَقْبَحَ حَالَهُمْ، وَمَا أَشَدَّ غَفْلَتَهُمْ، فَكَيْفَ يُصْرِفُونَ عَنِ الحَقِّ إِلَى البَاطِلِ، وَعَنِ الإِيْمَانِ إِلَى الكُفْرِ؟
خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ - أَخْشَابٌ مُسَنَّدَةٌ إِلَى الحَائِطِ.
هُمُ العَدُوُّ - هُمُ الرَّاسِخُونَ فِي العَدَاوَةِ.
أَنَّى يُؤْفَكُونَ - كَيْفَ يُصْرِفُونَ عَنِ الحَقِ إِلى البَاطِلِ.
(رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ وَالَّلوَاتِي تَلِيهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ غَزَا بَنِي المُصْطَلِقِ، فَازْدَحَمَ عَلَى المَاءِ أَجِيرٌ لِعُمَرَ بِنِ الخَطَّّّابِ وَرَجُلٌ مِنْ حُلَفَاءِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، وَاقْتَتَلاَ فَنَادَى أَجِيرُ عُمَرَ يَا لِلمْهَاجِرِينَ. وَصَاحَ الآخَرُ يَا لِلأَنْصَارِ، فَتَصَايِحَ القَوْمُ، وَقَالَ عَبْدُ اللهُ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولِ لِمَنْ حَوْلَهُ: مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ المُهَاجِرِينَ إِلاَّ كَمَا قَالَ القَائِلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، إِنَّا وَاللهِ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعْزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ. وَقَالَ لأَصْحَابِهِ هَذَا مَا صَنَعْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ أَحْلَلْتُمُوهُ بِلاَدَكُمْ، وَقَاسَمْتُمُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ، أَمَّا وَاللهِ لَوْ كَفَفْتُمْ عَنْهُمْ لَتَحَوَّلُوا عَنْكُمْ مِنْ بِلاَدِكُمْ إِلَى غَيْرِهَا.
وَنَقَلَ الحَدِيثَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ غَلاَمٌ اسْمُهُ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، فَاقْتَرَحَ عَمَرُ بْنُ الخَطَّابِ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يَسْمَحَ لَهُ بِضَرْبِ عُنُقِ ابْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، فَرَفَضَ الرَّسُولُ ذَلِكَ الاقْتِرَاحَ. واسْتَدْعَى الرَّسُولُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ وَسَأَلَهُ عَمَّا قَالَ، فَأَنْكَرَ وَحَلَفَ إِنَّ الغُلاَمَ لَكَاذِبٌ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَاتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: يَا غُلاَمُ صَدَّقَكَ اللهُ، وَكَذَّبَ المُنَافِقِينَ.
وَلَمَّا بَانَ كَذِبُ ابْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، قِيلَ لَهُ نَزَلَتْ فِيكَ آيٌ شِدَادٌ فَاذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللهِ يَسْتَغْفِرْ لَكَ، فَلَوَى رَأْسَهُ وَقَالَ: أَمَرْتُمُونِي أَنْ أُوْمِنَ فآمَنْتُ، وَأَمْرَتُمُونِي أَنْ أُزَكِّي فَزَكَّيْتُ، وَمَا بَقِيَ إِلاَّ أَنْ أَسْجُدَ لِمُحَمَّدٍ، وَبَعْدَ أَيَّامِ قَلِيلَةٍ اشْتَكَي هَذَا المُنَافِقُ مَرَضاً وَمَاتْ).
لَوَّوْا رُؤُوسَهمْ - عَطَفُوهَا إِعْرَاضاً وَاسْتِهْزَاءً.
(٦) - وَسَوَاءٌ اسْتَغْفَرْتَ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَنْ يَغْفِرَ ذُنُوبَهُمْ وَآثَامَهُمْ، لأَنَّ اللهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمِ الشَّقَاءَ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الفِسْقِ، وَمَا رَانَ عَلَى قٌلقوبِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ.
(٧) - وَهَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ هُمُ الذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ: لاَ تُنْفِقُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ وَأَصْحَابِهِ مِنَ المُهَاجِرِينَ فَيَتَحوَّلُوا عَنْكُمْ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، وَيَنْفَضَّ عَنْ مُحَمَّدٍ مَنْ حَوْلَهُ إِذَا عَضَّهُمْ الجُوعُ. وَهَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ جَاهِلُونَ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ مَالِكُ جَمِيعِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَبِيدِهِ مَفَاتِيحُ أَرْزَاقِ العِبَادِ فَلاَ يَصِلُ شَيءٌ إِلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا هَذَا القَوْلَ.
حَتَّى يَنْفَضُّوا - حَتَّى يَتَفَرَّقُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ.
(٨) - وَيَقَولُ هَؤُلاَءِ المَنَافِقُونَ: إِذَا رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ فَإِنَّنَا سَنُخْرِجُ المُؤْمِنِينَ مِنْهَا، لأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنْفُسَهُمْ هُم الأَقْوِيَاءَ الأَعِزَّاءَ فِيهَا لَكَثْرَةِ جَمْعِهِمْ، وَوَفْرَةِ مَالِهِمْ، وَأَنَّ المُؤْمِنِينَ ضِعَافٌ قَلِيلُو العَدَدِ.
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ قَائِلاً: إِنَّ العِزَّةَ للهِ وَحْدَهُ، فَهُوَ ذُو الجَلاَلِ والعِزَّةِ، ثُمَّ تَكُونُ العِزَّةُ مِنْ بِعْدِهِ لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ ﷺ، ثُمَّ لِلْمُؤْمِنِينَ الذِينَ يَسْتَغِزُّونَ بِعِزِّ اللهِ، وَبِنَصْرِهِ، فَهُمْ أَعِزَةٌ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَيَظُنُّونَ أَنَّ العِزَّةَ بِوَفْرَةِ المَالِ وَكَثْرَةِ النَّاصِرِ.
(وَروِي أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنَ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ - وَكَانَ مُؤْمِناً مُخْلِصاً فِي إِيْمَانِهِ - لَمَّا سَمِعَ مَقَالَةَ أَبِيهِ هَذِهِ اسْتَلَّ سَيْفَهُ وَوَقَفَ بِبَابِ المَدِينَةِ، وَلَمْ يَسْمَحْ لأَبِيهِ أَنْ يَدْخُلَ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ بِالدُّخُولِ، ثُمَّ قَالَ لأَبِيهِ: عَلَيَّ لله أَلاَّ أُغْمِدَ سَيْفِي حَتَّى تَقُولَ: مُحَمَّدٌ الأَعَزُّ، وَأَنَّا الأَذَلُّ.
فَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى قَالَ: ثُمَّ أَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ بالدُّخُولِ إِلَى المَدِينَةِ فَدَخَلَ).
رَجَعْنَا - عُدْنَا مِنْ غَزْوتنَا.
ليُخْرجَنَّ الأَعَزُّ - الأَشَدُّ قُوَّةً وَغَلَبَةً - يَعْنُونَ أَنْفُسَهُمْ.
الأَذَلُّ - الأَضْعَفُ وَالأَهْوَنُ - وَيَعْنُونَ بِذَلِكَ المُسْلِمِينَ المُهَاجِرِينَ.
(٩) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ وَبِأَلاَّ يَشْغَلَهُمْ مَا لَهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِهَّمْ، وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّ مَنِ التَهَى عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ وَطَاعَتِهِ بِمَتَاعِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينتِهَا، فَإِنَّهُ مِنَ الخَاسِرِينَ الذِينَ يَخْسَرُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ.
لاَ تُلِهِكُمْ - لاَ تَشْغَلْكُمْ وَتَصْرِفْكُمْ.
ذِكَرِ اللهِ - عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ.
(١٠) - يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَلَى الإِنْفَاقِ فِي طَاعَتِهِ مِنَ المَالِ الذِي جَعَلَهُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَحِينَ أَجَلُهُمْ فَيَقُولُ هَؤُلاَءِ الذِينَ قَصَّرُوا فِي الطَّاعَةِ، وَفِي الإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَرْضَاتِهِ: يَا رَبِّ لَوْ أَنَّكَ أَخَّرْتَنِي مُدَّةً يَسِيرَةً، فَأْنْفِقَ فِي طَاعَتِكَ، وأَسْتَجِيبَ لأَمْرِكَ، وأَكُونَ مِنْ عِبَادِكَ المُخْلِصِينَ الصَّالِحِينَ، الذِينَ تَرْضَى عَنْهُمْ.
لَوْلاَ أخَّرْتَنِي - هلاَّ أَمْهَلْتَنِي وَأَخَّرْتَنِي.