هذه السورة مكية وآياتها سبع. والفرق بين السور المكية والمدنية : هو أن المكية أكثر إيجازا لأن المخاطبين بها هم أبلغ العرب وأفصحهم، وعلى الإيجاز مدار البلاغة عندهم، ثم إن معظمها تنبيهات وزواجر وبيان لأصول الدين بالإجمال. وقد قلت في مقدمة الطبعة الثانية لمجلد المنار الأول في أسلوب السور المكية ما نصه : إن أكثر السور المكية لاسيما المنزلة في أوائل البعثة قوارع تصخ الجنان، وتصدع الوجدان وتفزع القلوب إلى استشعار الخوف، وتدعّ العقول إلى إطالة الفكر، في الخطبين الغائب والعتيد، والخطرين القريب والبعيد، وهما عذاب الدنيا بالإبادة والاستئصال، أو الفتح الذاهب بالاستقلال، وعذاب الآخرة وهو أشد وأقوى، وأنكى وأخزى. بكل من هذا وذاك أنذرت السور المكية أولئك المخاطبين إذا أصروا على شركهم، ولم يرجعوا بدعوة الإسلام عن ضلالهم وإفكهم، ويأخذوا بتلك الأصول المجملة، التي هي الحنيفية السمحة السهلة، وليست بالشيء الذي ينكره العقل، أو يستثقله الطبع، وإنما ذلك تقليد الآباء والأجداد، يصرف الناس عن سبيل الهدى والرشاد.
راجع تلك السور العزيزة، ولاسيما قصار المفصل منها. كالحاقة ما الحاقة، والقارعة ما القارعة، وإذا وقعت الواقعة، وإذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت، وإذا زلزلت الأرض زلزالها، والذاريات ذروا، والمرسلات عرفا، والنازعات غرقا.
تلك السور التي كانت بنذرها، وفهم القوم لبلاغتها وعبرها، تفزعهم من سماع القرآن، حتى يفروا من الداعي ( ص ) من مكان إلى مكان ( ٧٤ : ٥٠ كأنهم حمر مستنفرة ٥١ فرت من قسورة ) – ( ١١ : ٥ ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه، ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ). ثم إلى السور المكية الطوال، فلا نجدها تخرج في الأوامر والنواهي عن حد الإجمال، كقوله عز وجل ( ١٧ : ٢٣ وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) – إلى ٣٧ منها، وقوله بعد إباحة الزينة وإنكار تحريم الطيبات من الرزق ( ٧ : ٣٢ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ).
وأما السور المدنية ففي أسلوبها شيء من الإسهاب، ولا سيما في مخاطبة أهل الكتاب، لأنهم أقل بلاغة وفهما من العرب الأصلاء، ولا سيما قريش، وما فيها من الكلام في أصول الدين أكثره محاجة لهم – لأهل الكتاب – ونعيٌ عليهم، وإثبات لتحريفهم ما نزل إليهم، وابتداعهم فيه وإعراضهم عن هدايته، ونسيانهم حظا مما ذكروا به، ودعوة لهم إلى التوحيد الخالص توحيد الألوهية والربوبية، وبيان لكون الإسلام الذي جاء به القرآن، هو دين جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وفي هذه السور المدنية أيضا بيان لا بد منه من الأحكام العملية في العبادات والمعاملات، الشخصية والمدنية والسياسية والحربية، ولأصول الحكومة الإسلامية والتشريع فيها، كما تراه في طوال المفصل منها، كالبقرة وآل عمران والنساء والمائدة.
وقد اختلف العلماء في المكي والمدني من السور. فقيل : المكي ما نزل في شأن أهل مكة، وإن نزوله في أهل المدينة. والمدني غيره، وقيل المكي : ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، كالذي نزل في عام الفتح وفي حجة الوداع. والصحيح الذي عليه الجمهور : أن المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها، سواء نزل بالمدينة نفسها أو ضواحيها أو في مكة عام الفتح وعام حجة الوداع، أو في غزوة من الغزوات. فالسور المكية : هي التي نزلت في أول الإسلام لأجل الدعوة إليه، ولبيان أساس الدين وكلياته، من الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، ومن ترك الشرور والمعاصي والمنكرات المعروفة للناس بعقولهم وفطرتهم، وفعل الخيرات والمعروف بحسب الرأي والاجتهاد الموكول إلى القلوب والضمائر. والسور المدنية هي التي نزلت بعد الهجرة وكثرة المسلمين وتكون جماعتهم ببيان الأحكام التفصيلية كما قلنا آنفا، وسترى ذلك مفصلا في القسمين تفصيلا.
والسور : طائفة من القرآن مؤلفة من ثلاث آيات فأكثر، لها اسم معروف بالتوقيف والرواية الثابتة بالأحاديث والآثار، قيل إن اسمها مشتق من السور الذي يحيط بالبلد. وقيل : من السور المهموز، ومعناه البقية، وبقية كل شيء جزء منه فالمراد بها جزء معين من القرآن. وقيل : من التسور، وهو العلو والارتفاع.
وقد رويت أسماء السور عن الصحابة مرفوعة وموقوفة، ولكنهم لم يكتبوها في مصاحفهم لأنهم لم يكتبوا فيها إلا ألفاظ التنزيل، لئلا يتوهم أحد من الناس إذا هم زادوا شيئا – كأسماء السور أو لفظ ﴿ آمين ﴾ بعد الفاتحة – أنه من التنزيل.
هذا ولفظ ﴿ الفاتحة ﴾ صفة مؤنث الفاتح. قال الأستاذ الإمام : سميت الفاتحة فاتحة لأنها أول القرآن في هذا الترتيب ( وتكلم عن لفظ الفاتحة وعن التاء فيه ) وتسمى أم الكتاب. وقالوا إن حديث النهي عن تسميتها هذا الاسم موضوع.
ثم قال : يتكلمون عند الكلام عن السور على المكي والمدني، وهو يفيد في معرفة الناسخ والمنسوخ، وهي مكية خلافا لمجاهد، فالإجماع على أن الصلاة كانت بالفاتحة لأول فرضيتها. ولا ريب أن ذلك كان في مكة، وقالوا هي المراد بالسبع المثاني في قوله تعالى ( ١٥ : ٨٧ ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ) وهو مكي بالنص. وقال بعضهم : إنها نزلت مرتين، مرة بمكة عند فرضية الصلاة، وأخرى بالمدينة حين حولت القبلة، وكأن صاحب هذا القول أراد الجمع بين قولين. وليس بشيء. وقال كثيرون إنها أول سورة أنزلت بتمامها.
أقول الآن : ذكر الحافظ السيوطي في الإتقان أربعة أقوال في أول ما أنزل ( أحدهما ) ﴿ ٩٦ اقرأ باسم ربك ﴾ رواه الشيخان وغيرهما من حديث عائشة ( ثانيها ) ﴿ ٧٤ يا أيها المدثر ﴾ رواه الشيخان عن سلمة بن عبد الرحمان عن جابر بن عبد الله. وجمعوا بين القولين بأن الأول هو أول ما نزل على الإطلاق، وهو صدر سورة اقرأ. والثاني أول سورة نزلت بتمامها أو الثاني أول ما نزل بعد فترة الوحي آمرا بتبليغ الرسالة. وقيل في الجمع غير ذلك كما في الإتقان ( ثالثها ) سورة الفاتحة قال في الكشاف : ذهب ابن عباس ومجاهد إلى أن أول سورة نزلت ( اقرأ ) وأكثر المفسرين إلى أن أول سورة نزلت فاتحة الكتاب. ( قال السيوطي ) : وقال ابن حجر : والذي ذهب إليه أكثر الأئمة هو الأول. وأما الذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول. وحجته ما أخرجه البيهقي في الدلائل والواحدي من طريق يونس بن بكير عن يونس بن عمرو عن أبيه عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة :" إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، فقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا. فقالت : معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك، فو الله إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث " – وفي الحديث أنه أخبر ورقة بذلك، وأن ورقة أشار عليه بأن يثبت ويسمع النداء وأنه صلى الله عليه وسلم لما خلا ناداه – أي الملك – " يا محمد قل : بسم الله الرحمان الرحيم، الحمد لله رب العالمين – حتى بلغ – ولا الضالين " قال السيوطي في الحديث : هذا مرسل رجاله ثقات، ونقل عن البيهقي احتمال أن هذا بعد نزول صدر ﴿ اقرأ باسم ربك ﴾.
هذا – وأما الأستاذ الإمام فقد رجح أنها أول ما نزل على الإطلاق، ولم يستثن قوله تعالى ﴿ اقرأ باسم ربك ﴾ ونزع في الاستدلال على ذلك منزعا غريبا في حكمة القرآن وفقه الدين فقال ما مثاله :
ومن آية ذلك : أن السنة الإلهية في هذا الكون – سواء كان كون إيجاد أو كون تشريع – أن يظهر سبحانه الشيء مجملا ثم يتبعه التفصيل بعد ذلك تدريجيا، وما مثل الهدايات الإلهية إلا مثل البذرة والشجرة العظيمة، فهي في بدايتها مادة حياة تحتوي على جميع أصولها ثم تنمو بالتدريج حتى تبسق فروعها بعد أن تعظم دوحتها ثم تجود عليك بثمرها. والفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن، وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها. ولست أعني بهذا ما يعبرون عنه بالإشارة ودلالة الحروف، كقولهم إن أسرار القرآن في الفاتحة، وأسرار الفاتحة في البسملة، وأسرار البسملة في الباء وأسرار الباء في نقطتها. فإن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليهم الرضوان ولا هو معقول في نفسه وإنما هو من مخترعات الغلاة الذين ذهب بهم الغلو إلى سلب القرآن خاصته وهي البيان.
( قال ) وبيان ما أريد هو أن ما نزل القرآن لأجله أمور ( أحدها ) التوحيد لأن الناس كانوا كلهم وثنيين وإن كان بعضهم يدعي التوحيد ( ثانيها ) وعد من أخذ به وتبشيره بحسن المثوبة ووعيد من لم يأخذ به وإنذاره بسوء العقوبة. والوعد يشمل ما للأمة وما للإفراد فيعم نعم الدنيا والآخرة وسعادتهما والوعيد كذلك يشمل نقمهما وشقاءهما. فقد وعد الله المؤمنين بالاستخلاف في الأرض والعزة والسلطان والسيادة وأوعد المخالفين بالخزي والشقاء في الدنيا كما وعد بالجنة والنعيم وأوعد بنار الجحيم في الآخرة ( ثالثها ) العبادة التي تحيي التوحيد في القلوب وتثبته في النفوس ( رابعها ) بيان سبيل السعادة وكيفية السير فيه الموصل إلى نعم الدنيا والآخرة ( خامسها ) قصص من وقف عند حدود الله تعالى وأخذ بأحكام دينه وأخبار الذين تعدوا حدوده ونبذوا أحكام دينه ظهريا لأجل الاعتبار واختيار طريق المحسنين ومعرفة سنن الله في البشر.
هذه هي الأمور التي احتوى عليها القرآن وفيها حياة الناس وسعادتهم الدنيوية والأخروية والفاتحة مشتملة عليها إجمالا بغير ما شك ولا ريب فأما التوحيد ففي قوله تعالى ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ لأنه ناطق بأن كل حمد وثناء يصدر عن نعمة ما فهو له تعالى ولا يصح ذلك إلا إذا كان سبحانه مصدر كل نعمة في الكون تستوجب الحمد ومنها نعمة الخلق والإيجاد والتربية والتنمية ولم يكتف باستلزام العبارة لهذا المعنى فصرح به بقوله ﴿ رب العالمين ﴾ ولفظ ( رب ) ليس معناه المالك والسيد فقط بل فيه معنى التربية والإنماء وهو صريح بأن كل نعمة يراها الإنسان في نفسه وفي الآفاق منه عز وجل فليس في الكون متصرف بالإيجاد ولا بالاشقاء والإسعاد سواه.
التوحيد أهم ما جاء لأجله الدين ولذلك لم يكتف في الفاتحة بمجرد الإشارة إليه بل استكمله بقوله ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ فاجتث بذلك جذور الشرك والوثنية التي كانت فاشية في جميع الأمم وهي اتخاذ أولياء من دون الله تعتقد لهم السلطة الغيبية ويدعون لذلك من دون الله ويستعان بهم على قضاء الحوائج في الدنيا ويقترب بهم إلى الله زلفى وجميع ما في القرآن من آيات التوحيد ومقارعة المشركين هو تفصيل لهذا الإجمال.
وأما الوعد والوعيد : فالأول منهما مطوى في ﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ فذكر الرحمة في أول الكتاب – وهي التي وسعت كل شيء – وعد بالإحسان. وقد كررها مرة ثانية تنبيها لنا على أمره إيانا بتوحيده وعبادته رحمة منه سبحانه بنا لأنه لمصلحتنا ومنفعتنا. وقوله تعالى ﴿ مالك يوم الدين ﴾ يتضمن الوعد والوعيد معا لأن معنى الدين الخضوع أي أن له تعالى في ذلك اليوم السلطان المطلق والسيادة التي لا نزاع فيها لا حقيقة ولا ادعاء وأن العالم كله يكون فيه خاضعا لعظمته ظاهرا وباطنا، يرجو رحمته ويخشى عذابه،
لا أذكر ما قاله الأستاذ الإمام في البسملة من حيث لفظها وإعرابها وهل هي آية أو جزء آية من الفاتحة أو ليست منها، فإن الخلاف في ذلك مشهور. وقد اختصر الأستاذ القول فيه اختصارا وقال : إنها على كل حال من القرآن فنتكلم عليها كسائر الآيات.
وأقول الآن : أجمع المسلمون على أن البسملة من القرآن وأنها جزء آية من سورة النمل. واختلفوا في مكانها من سائر السور فذهب إلى أنها آية من كل سورة علماء السلف من أهل مكة فقهائهم وقرائهم ومنهم ابن كثير : وأهل الكوفة منهم عاصم والكسائي من القراء، وبعض الصحابة والتابعين من أهل المدينة والشافعي في الجديد وأتباعه والثوري وأحمد في أحد قوله والإمامية. ومن المروي عنهم ذلك من علماء الصحابة علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة، ومن علماء التابعين سعيد بن جبير وعطاء والزهري وابن المبارك، وأقوى حججهم في ذلك إجماع الصحابة ومن بعدهم على إثباتها في المصحف أول كل سورة سوى سورة براءة ( التوبة )، مع الأمر بتجريد القرآن عن كل ما ليس منه، ولذلك لم يكتبوا ( آمين ) في آخر الفاتحة، وأحاديث منها ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ أنزلت علي آنفا سورة فقرآ : بسم الله الرحمان الرحيم ﴾، وروى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة – وفي رواية انقضاء السورة – حتى ينزل عليه بسم الله الرحمان الرحيم. وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط الشيخين. وروى الدارقطني من حديث أبي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأتم الحمد لله ( أي سورة الحمد لله ) فاقرؤا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها أم القرآن والسبع المثاني وبسم الله الرحمان الرحيم إحدى آياتها ". وذهب مالك وغيره من علماء المدينة والأوزاعي وغيره من علماء الشام وأبو عمرو ويعقوب من قراء البصرة إلى أنها آية مفردة أنزلت لبيان رؤوس السور والفصل بينها، وعليه الحنفية، وقال حمزة من قراء الكوفة وروى عن أحمد أنها آية من الفاتحة دون غيرها، وثمة أقوال أخرى شاذة.
هذا- وقد قال الأستاذ الإمام : القرآن إمامنا وقدوتنا فافتتاحه بهذه الكلمة إرشاد لنا بأن نفتتح أعمالنا بها، فما معنى هذا ؟ ليس معناه أن نفتتح أعمالنا باسم من أسماء الله تعالى بأن نذكره على سبيل التبرك أو الاستعانة به بل أن نقول هذه العبارة ﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ فأنها مطلوبة لذاتها.
أقول الآن : الاسم هو اللفظ الذي يدل على ذات من الذوات كحجر وخشب أو زيد أو معنى من المعاني كالعلم والفرح. وقال ابن سيده هو اللفظ الموضوع على الجوهر أو العرض. وقال الراغب الاسم ما يعرف به ذات الشيء وأصله. وقال كثيرون أنه مشتق من السمو وأن أصله سمو لأن تصغيره سمي وجمعه أسماء.
والسمو العلو كأن الإسم يعلو مسماه بكونه عنوانا له ودليلا عليه. وقال آخرون إنه من السمة وهي العلامة وأصله وسم. وقال بعض الباحثين في الكلام والفلسفة إن الإسم يطلق على نفس الذات والحقيقة والوجود والعين وهي عندهم أسماء مترادفة. وهذا القول ليس من اللغة في شيء ولا هو من الفلسفة النافعة بل من الفلسفة الضارة وإن قال الألوسي بعد نقله عن ابن فورك والسهلي " وهما ممن يعض عليه بالنواجذ ". بل لا ينبغي أن يذكر مثل هذا القول إلا لأجل النهي عن إضاعة الوقت في قراءة ما بنى من السفسطة في إثبات قول القائلين إن الاسم عين المسمى، وقد كتبوا لغوا كثيرا في هذه المسألة، وقلما ترى أحدا رضي كلام غيره فيها، ولكن قد يرضيه كلام نفسه الذي يؤيد به ما لم يفهمه من كلام غيره.
والحق أن الاسم هو اللفظ الذي ينطق به لسانك ويكتبه قلمك، كقولك : الشمس أوزيد أو مكة. والمسمى هو الكوكب المعروف أو الشخص المعين أو البلد المحدد، وقد يكون بعيدا عنك عند إطلاق الاسم. ولفظ " اسم " اسم لهذا النوع من اللفظ الذي يدل على الجواهر والأعراض دون الأحداث التي تسمى في النحو أفعالا. ومدلوله مثل مدلول لفظ إنسان : يطلق على أفراد كثيرة كلفظ " الشمس " الذي تنطق به وتكتبه، ولفظ " زيد " ولفظ " مكة " وغير ذلك من أسماء الموجودات. فالاسم غير المسمى في اللغة. وقد أخطأ من نسب إلى سيبويه غير هذا، كما قال ابن القيم، بل قال في كتابه ( بدائع الفوائد ) : ما قال نحوي قط ولا عربي إن الاسم عين المسمى، وذكر بعض من قال باتحاد الاسم والمسمى بالتسمية، وبين الخطأ في ذلك، وأن معنى ﴿ سبح اسم ربك الأعلى ﴾ سبح ربك ذاكرا اسمه الأعلى، ومعنى ﴿ سبح باسم ربك ﴾ سبحه ناطقا باسمه العظيم.
ومنشأ الاشتباه عند بعضهم أن الله تعالى أمرنا بذكره وتسبيحه في آيات وبذكر اسمه وتسبيح اسمه في آيات أخرى، فقال تعالى ( ٨ : ٧٣ ) :﴿ واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ﴾ ( ٧٦ : ٢٣ ) ﴿ واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ﴾ ( ٢٢ : ٤٠ ) ﴿ ومساجد يذك فيها اسم الله كثيرا ﴾ ( ( ٦ : ١١٨ ) ﴿ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مومنين ﴾ ( ١١٩ ) ﴿ وما لكم ألا تاكلوا مما ذكر اسم الله عليه ﴾ ( ٢٢ : ٣٦ ) ﴿ فاذكروا اسم الله عليها صواف ﴾ أي البدن عند نحرها. وقال تعالى :( ٣٣ : ٤٠ ) ﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ( ٤١ ) وسبحوه بكرة وأصيلا ﴾ ( ٢ : ١٢٧ ) ﴿ فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ﴾ ( ٣ : ١٩٠ ) ﴿ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأر ﴾ ( ٤ : ١٠٢ ) ﴿ فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ﴾ وقال تعالى في التسبيح :( ٧ : ٢٠٥ ) ﴿ إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ﴾ أي يسبحون ربك فعدى التسبيح بنفسه إلى ضمير الرب كما عدّاه بنفسه إلى اسم الرب في قوله تعالى ( ٨٧ : ١ ) ﴿ سبح اسم ربك الأعلى ﴾ وبالياء في قوله ( ٥٩ : ٩٦ ) ﴿ فسبح باسم ربك العظيم ﴾ وقال ( ٥٧ : ١ ) ﴿ سبح لله ما في السموات والأرض ﴾ ومثله كثير. وقال تعالى ﴿ فتبارك الله * ٢٥ : ١ تبارك الذي نزل الفرقان ﴾ كما قال ( ٥٥ : ٧٨ ) ﴿ تبارك اسم ربك ﴾.
رأى بعضهم أن يجمع بين هذه الآيات بجعل الاسم عين المسمى، وأن ذكر الله وذكر اسمه وتسبيحه وتسبيح اسمه واحد، لأن اسمه عين ذاته، وأن هذا خير من القول بأن لفظ " اسم " مقحم زائد. والصواب أن الذكر في اللغة ضد النسيان وهو ذكر القلب ولذلك قرنه بالتفكر في سورة آل عمران ( ٣ : ١٩٠ ) وهما عبادتان قلبيتان، وقال ﴿ ١٨ : ٢٤ واذكر ربك إذا نسيت ﴾ ويطلق الذكر أيضا على النطق باللسان لأنه دليل على ذكر القلب وعنوان وسبب له، وإنما يذكر اللسان اسم الله تعالى كما يذكر من كل الأشياء أسماءها، دون ذوات مسمياتها ؛ فإذا قال نار لا يقع جسم النار على لسانه فيحرقه، وإذا قال الظمآن " ماء " لا يحصل مسمى هذا اللفظ في فيه فينقع غلته، فذكر الله تعالى في القلب هو تذكر عظمته وجلاله وجماله ونعمه، وورد التصريح بالأمر بذكر نعمة الله وآلاء الله. وذكره باللسان هو ذكر أسمائه الحسنى وإسناد الحمد والشكر والثناء إليه، وكذلك تسبيحه تعالى، فالقلب يسبح باعتقاد كماله وتذكر تنزيهه عما لا يليق به، واللسان يسبحه بإضافة التسبيح إلى أسمائه من غير ذكر للفظ الاسم. روى أحمد وأبو داود ابن ماجة والحاكم في مستدركه وابن حبان في صحيحه عن عقبة بن عامر قال : لما نزلت ﴿ فسبح اسم ربك العظيم ﴾ قال لنا رسول صلى الله صلى الله عليه وسلم " اجعلوها في ركوعكم " فلما نزلت ﴿ سبح اسم ربك الأعلى ﴾ قال :" اجعلوها في سجودكم " والمراد أن يقولوا ﴿ سبحان ربي العظيم ﴾ " لا سبحان اسم ربي العظيم " فقد روى أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه الترمذي عن حذيفة قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول في ركوعه " سبحان ربي العظيم " وفي سجوده " سبحان ربي الأعلى ". ولهذا ورد في الكلام عن الذبائح ذكر اسم الله عليها ﴿ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ﴾ وتقدم آنفا ذكر عدة آيات في هذا – فعلم من هذا التحقيق أن الاسم غير المسمى وأن ذكر الاسم مشروع، وذكر المسمى مشروع، والفرق بينهما ظاهر كالصبح، وكذلك التسبيح والتبارك، فكما يعظم الله يعظم اسمه الكريم، فيذكر مقرونا بالحمد والشكر والثناء والتقديس. وقد صرحوا بأن تعمد إهانة أسماء الله تعالى في اللفظ والكتابة كفر لأنه لا يمكن أن يأتي من مؤمن. ا ه ما زدته الآن.
وقال الأستاذ الإمام ما معناه : عندما تقول إنني أذكر اسم الله تعالى كالعزيز الحكيم لا تعني أنك تذكر لفظ " اسم " فلو كان قولهم إن المراد من الابتداء بالكلمة " بسم الله " التبرك باسم الله : هو الصواب لكان ينبغي أن يكون قولك " بالله الرحمان الرحيم " مثل ﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ وقوله تعالى ﴿ باسم الله مجراها ومرساها ﴾ وقد قال بعضهم إن الإضافة ههنا للبيان أي أفتتح كلامي بسم الله، ولكن يقتضي أن يكون لفظ ﴿ الرحمان الرحيم ﴾ واردا على اللفظ وهو غير صحيح. وإرادة أن الأسماء الثلاثة هي المبينة للفظ الاسم تمحل ظاهر، فما المقصود إذا من هذا التعبير ؟
مثل هذا التعبير مألوف عند جميع الأمم ومنهم العرب وهو أن الواحد منهم إذا أراد أن يفعل أمرا ما لأجل أمير أو عظيم بحيث يكون متجردا من نسبته إليه ومنسلخا عنه، يقول أعمله باسم فلان ويذكر ذلك الأمير أو السلطان لأن اسم الشيء دليل وعنوان عليه، فإذا كنت أعمل عملا لا يكون له وجود ولا أثر، لولا السلطان الذي به أمر، أقول إن عملي هذا باسم السلطان، أي إنه معنون باسمه ولولاه لما عملته. فمعنى ابتدئ عملي ﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ أنني أعمله بأمره وله لا لي ولا أعمله باسمي مستقلا به على أنني فلان. فكأني أقول إن هذا العمل لله لا لحظ نفسي. وفيه وجه آخر وهو أن القدرة التي أنشأت بها العمل هي من الله تعالى فلولا ما منحني منها لم أعمل شيئا، فلم يصدر عني هذا العمل إلا باسم الله ولم يكن باسمي إذ لولا ما آتاني من القوة عليه لم أستطع أن آتيه. وقد تم هذا المعنى بلفظ ﴿ الرحمان الرحيم ﴾ كما هو ظاهر.
وحاصل المعنى أنني أعمل عملي متبرئا من أن يكون باسمي بل هو باسمه تعالى لأنني أستمد القوة والعناية منه وأرجو إحسانه عليه، فلولاه لم أقدره عليه ولم أعمله، بل وما كنت عاملا له على تقدير القدرة عليه لولا أمره ورجاء فضله فلفظ الإسم معناه مراد، ومعنى لفظ الجلالة مراد أيضا، وكذلك كل من لفظ الرحمان الرحيم. وهذا الاستعمال معروف مألوف في كل اللغات. وأقربه إليكم اليوم ما ترونه في المحاكم النظامية حيث يبتدئون الأحكام قولا وكتابة باسم السلطان فلان أو الخديو فلان.
ومعنى البسملة في الفاتحة أن جميع ما يقرر في القرآن من الأحكام والآيات وغيرها هو لله ومنه ليس لأحد غير الله فيه شيء. ا ه.
أقول هذا صفوة ما قرره في متعلق ﴿ باسم الله ﴾ ومعناها. وهاهنا نظر آخر فيه، وهو أن القرآن كان وحيا يلقيه الروح الأمين في قلب النبي صلى الله عليه وسلم وكل سورة منه مبتدأة ببسملة، فمتعلق البسملة من ملك الوحي تعلم من أول آية نزل بها وهي قوله تعالى ﴿ اقرأ باسم ربك ﴾. فمعنى البسملة الذي كان يفهمه النبي صلى الله عليه وسلم من روح الوحي : إقرأ يا محمد هذه السورة باسم الله الرحمان الرحيم على عباده، أي اقرأها على أنها منه تعالى لا منك فإنه برحمته بهم أنزلها عليك لتهديهم بها إلى ما فيه الخير
قالوا : إن معنى الحمد الثناء باللسان، وقيده بالجميل لأن كلمة " ثناء " تستعمل في المدح والذم جميعا، يقال : أثنى عليه شرا، كما يقال أثنى عليه خيرا، ويقولون إن " أل " التي في الحمد هي للجنس في أيّ فرد من أفراده لا للاستغراق ولا للعهد المخصوص، لأنه لا يصار إلى كل منهما في فهم الكلام إلا بدليل وهو غير موجود في الآية، ومعنى كون الحمد لله تعالى بأي نوع من أنواع هو أن أي شيء يصح الحمد عليه فهو مصدره وإليه مرجعه فالحمد له على كل حال.
وهذه الجملة خبرية ولكنها استعملت لإنشاء الحمد. فأما معنى الخبرية فهو إثبات أن الثناء الجميل في أي أنواعه تحقق فهو ثابت له تعالى وراجع إليه، لأنه متصف بكل ما يحمد عليه الحامدون. فصفاته أجل الصفات، وإحسانه عمّ جميع الكائنات، ولأن جميع ما يصح أن يتوجه إليه الحمد مما سواه فهو منه جل ثناؤه، إذ هو مصدر الكون كله، فيكون له ذلك الحمد أولا وبالذات. والخلاصة أن أي حمد يتوجه إلى محمود ما فهو لله تعالى سواء لاحظه الحامد أو لم يلاحظه. وأما معنى الإنشائية فهو أن الحامد جعلها عبارة عما وجهه من الثناء إلى الله تعالى في الحال.
هذا ملخص ما قاله الأستاذ الإمام، وأقول الآن : التعريف المشهور بين العلماء للحمد أنه الثناء باللسان على الجميل الاختياري، أي الفعل الجميل الصادر عن فاعله باختياره أي سواء أسدى هذا الجميل إلى الحامد أم لا. ا ه وأزيد عليهم أنه قد يحمد غير الفاعل المختار تنزيلا له منزلة الفاعل في نفعه، ومنه : إنما يحمد السوق من ربح. وهذا هو المتبادر من استعمال اللغة. وحذف بعضهم قيد الاختيار ليدخل في الحمد الثناء على صفات الكمال ولذلك وصف بعضهم الجميل الاختياري بقوله : سواء كان من الفضائل – أي الصفات الكمالية لصاحبها – أو الفواضل – وهي ما يتعدى أثره من الفضل إلى غير صاحب الفضل. والظاهر أن الحمد على الفضائل وصفات الكمال إنما يكون باعتبار ما يترتب عليها من الأفعال الاختيارية وما عدا هذا من الثناء تسميه العرب مدحا. يقال : مدح الرياض ومدح المال ومدح الجمال، ولا يطلق الحمد على مثل هذه الأشياء، وقيل هما مترادفان. والمقام المحمود للنبي صلى الله عليه وسلم هو ما يحمد فيه لما يناله الناس كلهم من خير دعائه وشفاعته على المشهور. وسيأتي تفسيره في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد يقال : إن ما ذكر هو الحمد الذي يكون من بعض الناس لبعض، وأما الله عز وجل فإنه يحمد لذاته باعتبار أنها مصدر جميع الوجود الممكن وما فيه من الخيرات والنعم، أو مطلقا خصوصية له، إذ ليست ذات أحد من الخلق كذاته. ويحمد لصفاته باعتبار تعلقها وآثارها كما سترى بيانه في تفسير الرب والرحمان والرحيم.
﴿ رب العالمين ﴾ يشعر هذا الوصف ببيان وجه الثناء المطلق. ومعنى الرب السيد المربي الذي يسوس مسوده ويربيه ويدبره. ولفظ " العالمين " جمع عالم بفتح اللام جمع المذكر العاقل تغليبا. وأريد به جميع الكائنات الممكنة، أي إنه رب كل ما يدخل في مفهوم لفظ العالم. وما جمعت العرب لفظ العالم هذا الجمع إلا لنكتة تلاحظها فيه وهي أن هذا اللفظ لا يطلق عندهم على كل كائن وموجود كالحجر والتراب وإنما يطلقونه على كل جملة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العاقل الذي جمعت جمعه، إن لم تكن منه، فيقال عالم الإنسان وعالم الحيوان وعالم النبات. ونحن نرى أن هذه الأشياء هي التي يظهر فيها معنى التربية الذي يعطيه لفظ " رب " لأن فيها مبدأها وهو الحياة والتغذي والتوالد، وهذا ظاهر في الحيوان، ولقد كان السيد ( أي جمال الدين الأفغاني ) رحمه الله تعالى يقول : الحيوان شجرة قطعت رجلها من الأرض فهي تمشي، والشجرة حيوان ساخت رجلاه في الأرض فهو قائم في مكانه يأكل ويشرب، وإن كان لا ينام ولا يغفل.
هذا ملخص ما قاله الأستاذ الإمام. وأزيد الآن أن بعض العلماء قال إن المراد بالعالمين هنا أهل العلم والإدراك من الملائكة والإنس والجن، ويؤثر عن جدنا الإمام جعفر الصادق عليه الرضوان أن المراد به الناس فقط كما يدل على هذا وذاك استعمال القرآن في مثل ﴿ أتأتون الذكران من العالمين ﴾ أي الناس، ومثل ﴿ ليكون للعالمين نذيرا ﴾. ويرى بعضهم أنه على هذا مشتق من العلم. ومن قال يعم جميع أجناس المخلوقات يرى أنه مشتق من العلامة.
وربوبية الله للناس تظهر بتربيته إياهم، وهذه التربية قسمان : تربية خلقية بما يكون به نموهم وكمال أبدانهم وقواهم النفسية والعقلية – وتربية شرعية تعليمية وهي ما يوحيه إلى أفراد منهم ليكمل به فطرتهم بالعلم والعمل إذا اهتدوا به. فليس لغير رب الناس أن يشرع للناس عبادة ولا أن يحرم عليهم ويحل لهم من عند نفسه بغير إذن منه تعالى.
أقول الآن : إنني لا أرى وجها للبحث في عد ذكر ﴿ الرحمان الرحيم ﴾ في سورة الفاتحة تكرارا أو إعادة مطلقا أما على القول بأن البسملة ليست آية منها فظاهر، وأما على القول بأنها آية منها فيحتاج إلى بيان، وهو أن يجعلها آية منها ومن كل سورة يراد به ما تقدم شرحه آنفا من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقنها ويبلغها للناس على أنها ( أي السورة ) منزلة من عند الله تعالى أنزلها برحمته لهداية خلقه وأنه صلى الله عليه وسلم لا كسب له فيها ولا صنع، وإنما هو مبلغ لها بأمر الله تعالى. فهي مقدمة للسور كلها إلا سورة براءة المنزلة بالسيف وكشف الستار عن نفاق المنافقين، فهي بلاء على من أنزل أكثرها في شأنهم لا رحمة بهم. وإذا كان المراد ببدء الفاتحة بالبسملة أنها منزلة من الله رحمة بعباده فلا ينافي ذلك أن يكون من موضوع هذه السورة بيان رحمة الله تعالى مع بيان ربوبيته للعالمين، وكونه الملك الذي يملك وحده جزاء العالمين على أعمالهم، وأنه بهذه الأسماء والصفات كان مستحقا للحمد من عباده، كما أنه مستحق له في ذاته، ولهذا نسب الحمد إلى اسم الذات، الموصوف بهذه الصفات.
والحاصل أن معنى الرحمة في بسملة كل سورة هو أن السورة منزلة برحمة الله وفضله فلا يعد ما عساه يكون في أول السورة أو أثنائها من ذكر الرحمة مكررا مع ما في البسملة، وإن كان مقرونا بذكر التنزيل كأول سورة فصلت ﴿ حم تنزيل من الرحمان الرحيم ﴾ لأن الرحمة في البسملة للمعنى العام في الوحي والتنزيل، وفي السور للمعنى الخاص الذي تبينه السورة وقد لاحظ هذا المعنى من قال إن البسملة آية مستقلة فاصلة بين السور. وأما من قال إنها آية من كل سورة فمراده أنها تقرأ عند الشروع في قراءتها، وأن من حلف ليقرأن سورة كذا لا يبرأ إلا إذا قرأ البسملة معها، وأن الصلاة لا تصح إلا بقراءتها أيضا.
هذا – وأما حظ العبد من وصف الله بالربوبية فهو أن بحمده تعالى عليه وبشكره له باستعمال نعمه التي تتربى بها القوى الجسدية والعقلية فيما خلقت لأجله فليحسن تربية نفسه وتربية من يوكل إليه تربيته من أهل وولد ومريد وتلميذ، وباستعمال نعمته بهداية الدين في تربية نفسه الروحية والاجتماعية وكذا تربية من يوكل إليه تربيتهم. وأن لا يبغي كما بغى فرعون فيدعي أنه رب الناس، وكما بغى فراعنة كثيرون ولا يزالون يبغون بجعل أنفسهم شارعين يتحكمون في دين الناس بوضع العبادات التي لم ينزلها الله تعالى، وبقولهم هذا حلال، وهذا حرام من عند أنفسهم أو من عند أمثالهم، فيجعلون أنفسهم شركاء لله في ربوبيته. قال تعالى ﴿ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ﴾ وفسر النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابا بمثل هذا.
وأما حظ العبد من وصف الله بالرحمة فهو أن يطالب نفسه بأن يكون رحيما بكل من يراه مستحقا للرحمة من خلق الله تعالى حتى الحيوان الأعجم، وأن يتذكر دائما أنه يستحق بذلك رحمة الله تعالى. قال صلى الله عليه سلم " إنما يرحم الله من عباده الرحماء " رواه الطبراني عن جرير بسند صحيح. وقال " الراحمون يرحمهم الرحمان تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم. من حديث ابن عمر. ورويناه مسلسلا بالأولية من طريق الشيخ أبي المحاسن محمد القاوقجي الطرابلسي الشامي. وقال صلى الله عليه وسلم " من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة "، رواه البخاري في الأدب المفرد والطبراني عن أبي أمامة وأشار السيوطي في الجامع الصغير إلى صحته. ومما يدل على الترغيب في رحمة الحيوان والرفق به بغير لفظ الرحمة حديث " في كل ذات كبد حرّى أجر " رواه أحمد وابن ماجة عن سراقة بن مالك ؛ وأحمد أيضا عن عبد الله ابن عمرو. وهو حديث صحيح.
ومن مباحث اللغة أن لفظ الرحمان خاص بالله تعالى كلفظ الجلالة. قالوا لم يسمع عن أحد من العرب أنه أطلقه على غير الله تعالى، وكذلك لفظ " رحمان " غير معرّف، قالوا لم يرد إطلاقه على غير الله تعالى إلا في شعر لبعض الذين فتنوا بمسيلمة الكذاب قال فيه * وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا * وقيل إن هذا تعنت وغلو، لا من الاستعمال المعروف عند العرب. وأما العرب فكانت تطلق لفظ رب على الناس، يقولون : رب الدار ورب هذه الأنعام مثلا لا رب الأنعام مطلقا. قال عبد المطلب في يوم الفيل : أما الإبل فأنا ربها وأما البيت فإن له ربا يحميه. وقال تعالى في حكاية قول يوسف عليه السلام في مولاه عزيز مصر " إنه ربي أحسن مثواي ". ويرى بعض العلماء أن هذا الاستعمال ممنوع في الإسلام واستدل بالنهي في الحديث عن قول المملوك لسيده " ربي " والصواب أن يمنع ما ورد النص به كهذا الاستعمال وما من شأنه ألا يقال إلا في البارئ تعالى كلفظ الرب بالتعريف مطلقا ولفظ رب الناس رب المخلوقات رب العالمين وما أشبه ذلك.
قرأ عاصم والكسائي ويعقوب " مالك " والباقون " ملك " وعليها أهل الحجاز والفرق بينهما أن المالك ذو الملك بكسر الميم والملك ذو الملك بضمها، والقرآن يشهد للأولى بمثل قوله ﴿ يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ﴾ وللثانية بقوله ﴿ لمن الملك اليوم ﴾ قال بعضهم إن قراءة ملك أبلغ لأن هذا اللفظ يفهم منه معنى السلطان والقوة والتدبير. وقال آخرون إن القراءة الأخرى أبلغ لأن الملك هو الذي يدبر أعمال رعيته العامة ولا تصرف له بشيء من شؤونهم الخاصة والمالك سلطته أعم. قال الأستاذ الإمام : وإنما تظهر هذه التفرقة في عبد مملوك في مملكة لها سلطان، فلا ريب أن مالكه هو الذي يتولى جميع شئونه دون سلطان.
وأقول الآن الظاهر أن قراءة " ملك " أبلغ لأن معناها المتصرف في أمور العقلاء المختارين بالأمر والنهي والجزاء ولهذا يقال ﴿ ملك الناس ﴾ ولا يقال ملك الأشياء. قاله الراغب. وقال في " ملك يوم الدين " تقديره الملك في يوم الدين لقوله " لمن الملك اليوم ؟ لله الواحد القهار " ا ه وإنما كان هذا أبلغ لأن السياق يدلنا على أن المراد بالآية تذكير المكلفين بما ينتظرهم من الجزاء على أعمالهم رجاء أن تستقيم أحوالهم. ومعنى ﴿ مالك يوم الدين ﴾ قد يستفاد من قوله ﴿ رب العالمين ﴾ على أن مجموع القراءتين يدل على المعنيين فكلاهما ثابت ولكن القراءة في الصلاة بملك يوم الدين تثيره من الخشوع ما لا تثيره القراءة الأخرى التي يفضلها بعضهم لأنها تزيد حرفا في النطق وورد في الحديث أن للقارئ بكل حرف كذا حسنة ولكن فاتهم أن حسنة واحدة تكون أكبر تأثيرا في القلب خير من مائة حسنة يكن دونها في التأثير.
( استدراكات وبيان لأغلاط معنوية )
- أشرنا إلى حديث الأجر على حروف القرآن في التلاوة ولم نذكر تخريجه كعادتنا، وهو في الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعا من طريق محمد بن كعب القرظي بلفظ " من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول " ألم " حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف " قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. ثم قال : روي من غير هذا الوجه عن أبي الأحوص عن ابن مسعود رفعه بعضهم ووقفه بعض. اه أقول : وهو في مستدرك الحاكم بلفظ " إن هذا القرآن مأدبة الله فاقبلوا من مأدبته ما استطعتم. إن هذا القرآن حبل الله والنور المبين والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يزيغ فيستعتب ولا يعوج فيقوم، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد، اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات، أما أني لا أقول " ألم " حرف ولكن ألف ولام وميم " قال الحاكم هذا حديث صحيح ولم يخرجاه بصالح ابن عمر. اه. أقول : رواه من طريق صالح ابن عمر عن إبراهيم بن مسلم الهجري – بفتح الهاء والجيم – قال الحافظ الذهبي في تلخيصه : صالح ثقة خرج له مسلم ولكن إبراهيم بن مسلم ضعيف اه أقول : ومما أخذ عليه رفع عدة أحاديث موقوفة-.
و ( الدين ) يطلق في اللغة على الحساب وعلى المكافأة وورد " كما تدين تدان " وقال الشاعر :
ولم يبق سوى العدوا *** ن دنّاهم كما دانوا
وعلى الجزاء وهو قريب من معنى المكافأة، وعلى الطاعة، وعلى الإخضاع وعلى السياسة يقال : دنته، ودينته فلانا ( بالتشديد ) أي وليته سياسته وهو قريب من معنى الإخضاع، وعلى الشريعة وما يؤخذ العباد به من التكاليف. والمناسب هنا من هذه المعاني الجزاء والخضوع. وإنما قال ﴿ يوم الدين ﴾ ولم يقل " الدين " لتعريفنا بأن للدين يوما ممتازا عن سائر الأيام، وهو اليوم الذي يلقى فيه كل عامل عمله ويوفّى جزاءه.
ولسائل أن يسأل : أليست كل الأيام أيام جزاء. وكل ما يلاقيه الناس في هذه الحياة من البؤس هو جزاء على تفريطهم في أداء الحقوق والقيام بالواجبات التي عليهم ؟ والجواب بلى إن أيامنا التي نحن فيها قد يقع فيها الجزاء على أعمالنا ولكن ربما لا يظهر لأربابه إلا على بعضها دون جميعها. والجزاء على التفريط في العمل الواجب إنما يظهر في الدنيا ظهورا تاما بالنسبة إلى مجموع الأمة لا إلى كل فرد من الأفراد، فما من أمة انحرفت عن صراط الله المستقيم ولم تراع سننه في خليقته إلا وأحل بها العدل الإلهي ما تستحق من الجزاء كالفقر والذل وفقد العزة والسلطة. وأما الأفراد فإننا نرى كثيرا من المسرفين الظالمين يقضون أعمارهم منغمسين في الشهوات واللذات، نعم إن ضمائرهم توبخهم أحيانا وإنهم لا يسلمون من المنغصات، وقد يصيبهم النقص في أموالهم، وعافية أبدانهم، وقوة عقولهم. ولكن هذا كله لا يقابل بعض أعمالهم القبيحة، لا سيما الملوك والأمراء الذين تشقى بأعمالهم السيئة أمم وشعوب. كذلك نرى من المحسنين في أنفسهم وللناس من يبتلى بهضم حقوقه، ولا ينال الجزاء الذي يستحقه على عمله، فإن كان ينال رضاء نفسه وسلامة أخلاقه وصحة ملكاته، فما ذلك كل ما يستحق، وفي ذلك اليوم يوفى كل فرد من أفراد العاملين جزاءه كاملا لا يظلم شيئا منه، كما قال تعالى ﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾ علمنا الله أنه رحمان رحيم ليجذب قلوبنا إليه، ولكن هل يشعر كل عباده بهذه المنة فينجذبوا إليه الانجذاب المطلوب ؟ أليس فينا من يسلك كل سبيل. لا يبالي بمستقيم ومعوج ؟ بلى، ولهذا أعقب سبحانه ذكر الرحمة بذكر الدين، فعرفنا أنه يدين العباد ويجازيهم على أعمالهم، فكان من رحمته بعباده أن رباهم بنوعي التربية كليهما : الترغيب والترهيب، كما تشهد بذلك آيات القرآن الكثيرة ﴿ نبئ عبادي أنى أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم ﴾.
ما هي العبادة ؟ يقولون هي الطاعة مع غاية الخضوع، وما كل عبارة تمثل المعنى تمام التمثيل، وتجليه للأفهام واضحا لا يقبل التأويل، فكثيرا ما يفسرون الشيء ببعض لوازمه ويعرفون الحقيقة برسومها، بل يكتفون أحيانا بالتعريف اللفظي ويبينون الكلمة بما يقرب من معناها، ومن ذلك هذه العبارة، التي شرحوا بها معنى العبادة، فإن فيها إجمالا وتساهلا. وإننا إذا تتبعنا آي القرآن وأساليب اللغة واستعمال العرب لعبد وما يماثلها ويقاربها في المعني – كخضع وخنع وأطاع وذل – نجد أنه لا شيء من هذه الألفاظ يضاهي " عبد " ويحل محلها ويقع موقعها، ولذلك قالوا : إن لفظ " العباد " مأخوذ من العبادة فتكثر إضافته إلى الله تعالى، ولفظ " العباد " مأخوذ من العبادة فتكثر إضافته إلى الله تعالى، ولفظ " العبيد " تكثر إضافته إلى غير الله تعالى لأنه مأخوذ من العبودية بمعنى الرق، وفرق بين العبادة والعبودية بذلك المعنى. ومن هنا قال بعض العلماء إن العبادة لا تكون في اللغة إلا لله تعالى ولكن استعمال القرآن يخالفه،
يغلو العاشق في تعظيم معشوقه والخضوع له غلوا كبيرا حتى يفنى هواه في هواه، وتذوب إرادته في إرادته، ومع ذلك لا يسمى خضوعه هذا عبادة بالحقيقة. ويبالغ كثير من الناس في تعظيم الرؤساء والملوك والأمراء، فترى من خضوعهم لهم وتحريهم مرضاتهم ما لا تراه من المتحنثين القانتين، دع سائر العابدين، ولم يكن العرب يسمون شيئا من هذا الخضوع عبادة، فما هي العبادة إذا ؟
تدل الأساليب الصحيحة والاستعمال العربي الصراح على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها، واعتقاده بسلطة لا يدرك كنهها وماهيتها. وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به ولكنها فوق إدراكه، فمن ينتهي إلى أقصى الذل لملك من الملوك لا يقال إنه عبده، وإن قبل موطئ أقدامه، ما دام سبب الذل والخضوع معروفا وهو الخوف من ظلمه المعهود، أو الرجاء بكرمه المحدود، اللهم إلا بالنسبة إلى الذين يعتقدون أن الملك قوة غيبية سماوية أفيضت على الملوك من الملأ الأعلى، واختارتهم للاستعلاء على سائر أهل الدنيا، لأنهم أطيب الناس عنصرا، وأكرمهم جوهرا، وهؤلاء هم الذين انتهى بهم هذا الاعتقاد، إلى الكفر والإلحاد، فاتخذوا الملوك آلهة وأربابا وعبدوهم عبادة حقيقة.
للعبادة صور كثيرة في كل دين من الأديان شرعت لتذكير الإنسان بذلك الشعور بالسلطان الإلهي الأعلى الذي هو روح العبادة وسرها، ولكل عبادة من العبادات الصحيحة أثر في تقويم أخلاق القائم بها وتهذيب نفسه، والأثر إنما يكون عن ذلك الروح والشعور الذي قلنا إنه منشأ التعظيم والخضوع، فإذا وجدت صورة العبادة خالية من هذا المعنى لم تكن عبادة، كما أن صورة الإنسان وتمثاله ليس إنسانا.
خذ إليك عبادة الصلاة مثلا وانظر كيف أمر الله بإقامتها، دون مجرد الإتيان بها. وإقامة الشيء هي الإتيان به مقوما كاملا يصدر عن علته وتصدر عنه آثاره. وآثار الصلاة ونتائجها هي ما أنبأنا الله تعالى بها بقوله ﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ﴾ وقوله عز وجل ﴿ إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، إلا المصلين ﴾ وقد توعد الذين يأتون بصورة الصلاة من الحركات والألفاظ مع السهو عن معنى العبادة وسرها فيها المؤدي إلى غايتها بقوله ﴿ فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراءون ويمنعون الماعون ﴾ فسماهم مصلين لأنهم أتوا بصورة الصلاة، ووصفهم بالسهو عن الصلاة الحقيقية التي هي توجه القلب إلى الله تعالى المذكر بخشيته، والمشعر للقلوب بعظم سلطانه، ثم وصفهم بأثر هذا السهو وهو الرياء ومنع الماعون. وذكر الأستاذ الإمام أن الرياء ضربان : رياء النفاق وهو العمل لأجل رؤية الناس، ورياء العادة وهو العمل بحكمها من غير ملاحظة معنى العمل وسره وفائدته، ولا ملاحظة من يعلم له ويقترب إليه به، وهو ما عليه أكثر الناس، فإن صلاة أحدهم في طور الرشد والعقل هي عين ما كان يحاكي به أباه في طور الطفولية عندما يراه يصلي يستمر على ذلك بحكم العادة من غير فهم ولا عقل، وليس لله شيء في هذه الصلاة. وقد ورد في بعض الأحاديث أن من لن تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا وأنها تلف كما يلف الثوب البالي ويضرب بها وجهه. وأما الماعون فهو المعونة والخير الذي تقدم في الآية الأخرى أن من شأن الإنسان أن يكون منوعا له إلا المصلين.
( استدراكات وبيان لأغلاط معنوية )
- الاستشهاد بحديث " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا " من سياق شيخنا غير مخرج وهو في الكبير للطبراني من حديث ابن عباس وسنده ضعيف.
والاستعانة طلب المعونة وهي إزالة العجز والمساعدة على إتمام العمل الذي يعجز المستعين عن الاستقلال به بنفسه.
ثم تكلم الأستاذ الإمام على حصر العبادة والاستعانة في الله تعالى الذي دل عليه تقديم المفعول ( إياك ) على الفعل ( نعبد ) و ( نستعين ) فقال ما مثاله.
أمرنا الله تعالى بأن لا نعبد غيره ؛ لأن السلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب ليست إلا له دون غيره، فلا يشاركه فيها أحد فيعظم تعظيم العبادة، وأمرنا بأن لا نستعين بغيره أيضا وهذا يحتاج إلى البيان لأنه أمرنا أيضا في آيات أخرى بالتعاون ﴿ ٥ : ٢ وتعاونوا على البر والتقوى ﴾ فما معنى حصر الاستعانة به مع ذلك ؟
الجواب أن كل عمل يعمله الإنسان تتوقف ثمرته ونجاحه على حصول الأسباب التي اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون مؤدية إليه، وانتفاء الموانع التي من شأنها بمقتضى الحكمة أن تحول دونه، وقد مكن الله تعالى الإنسان بما أعطاه من العلم والقوة من دفع بعض الموانع وكسب بعض الأسباب، وحجب عنه البعض الآخر، فيجب علينا أن نقوم بما في استطاعتنا من ذلك، ونبذل في إتقان أعمالنا كل ما نستطيع من حول وقوة، وأن نتعاون ويساعد بعضنا بعضا على ذلك، ونفوض الأمر فيما وراء كسبنا إلى القادر على كل شيء، ونلجأ إليه وحده، ونطلب المعونة المتممة للعمل والموصلة لثمرته منه سبحانه وتعالى دون سواه، إذ لا يقدر على ما وراء الأسباب الممنوحة لكل البشر على السواء إلا مسبب الأسباب، ورب الأرباب، فقوله تعالى ﴿ وإياك نستعين ﴾ متمم لمعنى قوله ﴿ إياك نعبد ﴾ لأن الاستعانة بهذا المعنى فزع من القلب إلى الله وتعلق من النفس به، وذلك من مخ العبادة، فإذا توجه العبد بها إلى غير الله تعالى كان ضربا من ضروب العبادة الوثنية التي كانت ذائعة في زمن التنزيل وقبله، وخصت بالذكر لئلا يتوهم الجهلاء أن الاستعانة بمن اتخذوهم أولياء من دون الله، واستعانوا بهم فيما وراء الأسباب المكتسبة لعامة الناس، هي كالاستعانة بسائر الناس في الأسباب العامة، فأراد الحق جل شأنه أن يرفع هذا اللبس عن عباده ببيان أن الاستعانة بالناس فيما هو في استطاعة الناس إنما هو ضرب من استعمال الأسباب المسنونة، وما منزلتها إلا كمنزلة الآلات فيما هي آلات له، بخلاف الاستعانة بهم، في شؤون تفوق القدر والقوى الموهبة لهم، والأسباب المشتركة بينهم، كالاستعانة في شفاء المرض بما وراء الدواء، وعلى غلبة العدو بما وراء العدة والعدة، فإن ذلك مما لا يجوز الفزع والتوجه فيه إلى غير الله تعالى صاحب السلطان الأعظم، على ما لا يصل إليه سلطان أحد من العالم.
ضرب الأستاذ الإمام مثلا لذلك الزارع يبذل جهده في الحرث والعذق وتسميد الأرض وريها، ويستعين بالله تعالى على إتمام ذلك بمنع الآفات والجوائح السماوية أو الأرضية، ومثل بالتاجر يحذق في اختيار الأصناف ويمهر في صناعة الترويج، ثم يتكل على الله فيما بعد ذلك. ثم قال : ومن هنا تعلمون أن الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة والقبور على قضاء حوائجهم، وتيسير أمورهم، وشفاء أمراضهم، ونماء حرثهم وزرعهم، وهلاك أعدائهم، وغير ذلك من المصالح، هم عن صراط التوحيد ناكبون، وعن ذكر الله معرضون.
أرشدتنا هذه الكلمة الوجيزة ﴿ وإياك نستعين ﴾ إلى أمرين عظيمين هما معراج السعادة في الدنيا والآخرة :
( أحدهما ) أن نعمل الأعمال النافعة ونجتهد في إتقانها ما استطعنا، لأن طلب المعونة لا يكون إلا على عمل بذل فيه المرء طاقته فلم يوفه حقه، أو يخشى أن لا ينجح فيه، فيطلب المعونة على إتمامه وكماله، فمن وقع من يده القلم على المكتب لا يطلب المعونة من أحد على إمساكه، ومن وقع تحت عبء ثقيل يعجز على النهوض به وحده، يطلب المعونة من غيره على رفعه، ولكن بعد استفراغ القوة في الاستقلال به، وهذا الأمر هو مرقاة السعادة الدنيوية، وركن من أركان السعادة الأخروية.
( وثانيهما ) ما أفاد الحصر من وجوب تخصيص الاستعانة بالله تعالى وحده فيما وراء ذلك، وهو روح الدين وكمال التوحيد الخالص، الذي يرفع نفوس معتقديه ويخلصها من رق الأغيار، ويفك إرادتهم من أسر الرؤساء الروحانيين، والشيوخ الدجالين، ويطلق عزائمهم من قيد المهيمنين الكاذبين، من الأحياء والميتين، فيكون المؤمن مع الناس حرا خالصا وسيدا كريما، ومع الله عبدا خاضعا ﴿ ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ﴾.
وأقول أيضا : إن عبادة الله تعالى هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لألوهيته، واستعانته هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لربوبيته، أما الأول فظاهر لأنه هو الإله الحق فلا يعبد بحق سواه، وأما الثاني : فلأنه هو المربى للعباد الذي وهب جميع ما تكمل به تربيتهم الصورية والمعنوية. ومن هنا تعلم أن إيراد ذكر العبادة والاستعانة بعد ذكر اسم الجلالة الأعظم، واسم الرب الأكرم، إنما هو لترتبهما عليهما من قبيل ترتيب النشر على اللف. والاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكل على الله وتحل محله، وهو كمال التوحيد والعبادة الخالصة. ولذلك جمع القرآن بينهما في مثل قوله تعالى ﴿ ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه ﴾.
فهذه الاستعانة هي ثمرة التوحيد واختصاص الله تعالى بالعبادة، فإن من معنى العبادة : الشعور بأن السلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب العامة، الموهوبة من الله تعالى لعباده كافة، هي لله وحده، كما تنطق به الآية التي استشهدنا بها آنفا على قرن العبادة بالتوكل، فمن كان موحدا خالصا لا يستعين بغير الله تعالى قط، فما كان من أنواع المعونة داخلا في حلقات سلسلة الأسباب كان طلبه بسببه طلبا من الله تعالى، ولكنه يحتاج في تحقق ذلك إلى قصد وملاحظة وشهود قلبي، وما كان غير داخل فيها يتوجه في طلبه إلى الله تعالى بلا واسطة ولا حجاب، وبهذا البيان تعلم أنه لا منافاة بين التوحيد والتوكل وبين الأخذ بالأسباب وإقامة سنن الله تعالى فيها، بل الكمال والأدب في الجميع بينهما، فالسيد المالك إذا نصب لعبده وخدمه مائدة يأكلون منها غدوا وعشيا، وجعل لهم خدما يقومون بأمرها، لا يكون طلب الطعام منه إلا بالاختلاف إلى المائدة، وإنما ينبغي أن لا يغفلوا بها وبخدمها عن ذكر صاحب الفضل الذي أنشأها بماله وسخر أولئك الخدم للآكلين عليها، ولا عن حمده وشكره، فهذا مثال مائدة السكون بأسبابه ومسبباته. والعبد إذا احتاج شيئا من الأشياء التي لم يجعل
ذكر الأستاذ الإمام أولا ما قالوه في معنى الهداية لغة من أنها الدلالة بلطف على ما يوصل إلى المطلوب، ثم بين أنواعها ومراتبها فقال ما مثاله : منح الله تعالى الإنسان أربع هدايات يتوصل بها إلى سعادته ( أولاها ) هداية الوجدان الطبيعي والإلهام الفطري، وتكون للأطفال منذ ولادتهم، فإن الطفل بعد ما يولد يشعر بألم الحاجة إلى الغذاء، فيصرخ طالبا له بفطرته، وعندما يصل الثدي إلى فيه يلهم التقامه وامتصاصه. ( الثانية ) هداية الحواس والمشاعر وهي متممة للهداية الأولى في الحياة الحيوانية، ويشارك الإنسان فيهما الحيوان الأعجم، بل هو فيهما أكمل من الإنسان، فإن حواس الحيوان وإلهامه يكملان له بعد ولادته بقليل، بخلاف الإنسان فإن ذلك يكمل فيه بالتدريج في زمن غير قصير، ألا تراه عقب الولادة لا تظهر عليه علامات إدراك الأصوات والمرئيات، ثم بعد مدة يبصر ولكنه لقصر نظره يجهل تحديد المسافات، فيحسب البعيد قريبا فيمد يديه ليتناوله وإن كان قمر السماء، ولا يزال يغلط حسه حتى في طور الكمال.
( الهداية الثالثة : العقل ) خلق الله الإنسان ليعيش مجتمعا ولم يعط من الإلهام والوجدان ما يكفي مع الحس الظاهر لهذه الحياة الاجتماعية كما أعطى النحل والنمل فإن الله قد منحها من الإلهام ما يكفيها لأن تعيش مجتمعة يؤدى كل واحد منها وظيفة العمل لجميعها، ويؤدى الجميع وظيفة العمل للواحد، وبذلك قامت حياة أنواعها كما هو مشاهد.
أما الإنسان فلم يكن من خاصة نوعه أن يتوفر له مثل ذلك الإلهام، فحباه الله هداية هي أعلى من هداية الحس والإلهام، وهي العقل الذي يصحح غلط الحواس والمشاعر ويبين أسبابه، وذلك أن البصر يرى الكبير على البعد صغيرا، ويرى العود المستقيم في الماء معوجا، والصفراوي يذوق الحلو مرا. والعقل هو الذي يحكم بفساد مثل هذا الإدراك.
( الهداية الرابعة : الدين ) يغلط العقل في إدراكه كما تغلط الحواس، وقد يهمل الإنسان استخدام حواسه وعقله فيما فيه سعادته الشخصية والنوعية ويسلك بهذه الهدايات مسالك الضلال، فيجعلها مسخرة لشهواته ولذاته حتى تورده موارد الهلكة. فإذا وقعت المشاعر في مزالق الزلل، واسترقت الحظوظ والأهواء العقل فصار يستنبط لها ضروب الحيل، فكيف يتسنى للإنسان مع ذلك أن يعيش سعيدا ؟ وهذه الحظوظ والأهواء ليس لها حد يقف الإنسان عنده، وما هو بعائش وحده، وكثيرا ما تتطاول به إلى ما في يد غيره، فهي لهذا تقتضي أن يعدو بعض أفراده على بعض، فيتنازعون ويتدافعون، ويتجادلون ويتجالدون، ويتواثبون ويتناهبون حتى يفني بعضهم بعضا، ولا تغني عنهم تلك الهدايات شيئا ؟ فاحتاجوا إلى هداية ترشدهم في ظلمات أهوائهم، إذا هي غلبت على عقولهم، وتبين لهم حدود أعمالهم ليقفوا عندها، ويكفوا أيديهم عما وراءها. ثم إن مما أودع في غرائز الإنسان الشعور بسلطة غيبية متسلطة على الأكوان ينسب إليها كل ما لا يعرف له سببا. لأنها هي الواهبة كل موجود ما به قوام وجوده، وبأن له حياة وراء هذه الحياة المحدودة، فهل يستطيع أن يصل بتلك الهدايات الثلاث إلى تحديد ما يجب عليه لصاحب تلك السلطة الذي خلقه وسواه، ووهبه هذه الهدايات وغيرها، وما فيه سعادته في تلك الحياة الثانية، كلا إنه في أشد الحاجة إلى هذه الهداية الرابعة – الدين – وقد منحه الله تعالى إياها.
أشار القرآن إلى أنواع الهداية التي وهبها الله تعالى للإنسان في آيات كثيرة منها قوله تعالى ﴿ وهديناه النجدين ﴾ أي طريقي السعادة والشقاوة والخير والشر.
قال الأستاذ الإمام : وهذه تشمل هداية الحواس الظاهرة والباطنة وهداية العقل وهداية الدين. ومنها قوله تعالى " ﴿ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ﴾ أي دللناهم على طريقي الخير والشر، فسلكوا سبل الشر المعبر عنه بالعمى. وذكر غير هاتين الآيتين مما في معناهما، ثم قال :
بقي معنا هداية أخرى وهي المعبر عنها بقوله تعالى ﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ فليس المراد من هذه الهداية ما سبق ذكره، فالهداية في الآيات السابقة بمعنى الدلالة، وهي بمنزلة إيقاف الإنسان على رأس الطريقين المهلك والمنجي، مع بيان ما يؤدى إليه كل منهما، وهي مما تفضل الله به على جميع أفراد البشر. وأما هذه الهداية فهي أخص من تلك والمراد بها إعانتهم وتوفيقهم للسير في طريق الخير والنجاة مع الدلالة، وهي لم تكن ممنوحة لكل أحد كالحواس والعقل وشرع الدين١
ولما كان الإنسان عرضة للخطأ والضلال في فهم الدين وفي استعمال الحواس والعقل على ما قدمنا كان محتاجا إلى المعونة الخاصة فأمر الله بطلبها منه في قوله ﴿ إهدنا الصراط المستقيم ﴾ فمعنى ﴿ إهدنا الصراط المستقيم ﴾ دلنا دلالة تصحبها معونة غيبية من لدنك تحفظنا بها من الضلال والخطأ. وما كان هذا أول دعاء علمنا الله تعالى إياه، إلا لأن حاجتنا إليه أشد من حاجتنا إلى كل شيء سواه، ثم بين معنى الصراط ( وهو الطريق ) واشتقاقه وقراءة الصراط بالسين المهملة واشتقاقها على نحو ما في كتب اللغة والتفسير، ومعنى المستقيم وهو ضد المعوج وقال : ليس المراد بمقابل المستقيم المعوج ذا التمعج والتعاريج بل المراد كل ما فيه انحراف عن الغاية التي يجب أن ينتهي سالكه إليها. والمستقيم في عرف الهندسة أقرب موصل بين طرفين، وهذا المعنى لازم للمعنى اللغوي كما هو ظاهر بالبداهة. وإنما قلنا إن المراد بمقابل المستقيم كل ما فيه انحراف لأن كل من يميل وينحرف عن الجادة يكون أضل عن الغاية ممن يسير عليها في خط ذي تعاريج، لأن هذا الأخير قد يصل إلى الغاية بعد زمن طويل. ولكن الأول لا يصل إليها أبدا. بل يزداد عنها بعدا كلما أوغل في السير وانهمك فيه.
وقد قالوا إن المراد بالصراط المستقيم الدين أو الحق أو العدل أو الحدود ونحن نقول إنه جملة ما يوصلنا إلى سعادة الدنيا والآخرة من عقائد وآداب وأحكام وتعاليم. لم سمى الموصل إلى السعادة من ذلك صراطا وطريقا ؟ خذ الحق مثلا وهو العلم الصحيح بالله وبالنبوة وبأحوال الكون والناس تر معنى الصراط فيه واضحا، لأن السبيل أو الصراط ما أسلكه وأسير فيه لبلوغ الغاية التي أقصدها كذلك الحق الذي يبين لي الواقع الثابت في العقيدة الصحيحة هو كالجادة بين السبل المتفرقة المضلة فالطريق الواضح للحس، يشبه الحق للعقل والنفس، سير حسي، وسير معنوي، كذلك إذا اعتبرت هذا المعنى في الحدود والأحكام تجده واضحا – قسمت أحكام الأعمال إلى واجب ومندوب ومباح ومحرم ومكروه فكان هذا مريحا لنا من تمييز الخير من الشر بأنفسنا واجتهادنا، فبيان الأحكام بالهداية الكبرى وهي الدين كالطريق يسلك بالعمل. ومع هذا تجد الشهوات تتلاعب بالأحكام وترجعها إلى أهوائها كما يصرف السفهاء عقولهم وحواسهم فيما يرديهم.
وهذا التلاعب بالدين إنما يصدر من علمائه. وضرب الأستاذ الإمام لذلك مثلا أحد الشيوخ المتفقهين سرق كتابا من وقف أحد الأروقة في الأزهر مستحلا له بحجة أن قصد الواقف الانتفاع به وهو يحصل بوجود الكتاب عنده وأنه قد يفوت النفع ببقائه في الرواق حيث وضعه والواقف إذ لا يوجد فيه من يفهمه مثله بزعمه ! ! واستحلال المحرمات بمثل هذا التأويل ليس بقليل، ولذلك كان الإنسان محتاجا أشد الاحتياج إلى العناية الإلهية الخاصة لأجل الاستقامة والسير في تلك الهدايات الأربع سيرا مستقيما يوصل إلى السعادة. لهذا نبهنا الله جل شأنه أن نلجأ إليه ونسأله الهداية ليكون عونا لنا ينصرنا على أهوائنا وشهواتنا، وأن تكون استعانتنا في ذلك به لا بسواه، بعد أن نبذل ما نستطيع من الفكر والجهاد في معرفة ما أنزل إلينا من الشريعة والأحكام وأخذ أنفسنا بما نعلم من ذلك. وهذا أفضل ما نطلب فيه المعونة منه جل شأنه لاشتماله على خيري الدنيا والآخرة. فهو بهذه الآية يعلمنا كيف نستعين بعد أن علمنا اختصاصه بالاستعانة في قوله ﴿ وإياك نستعين ﴾.
( قال الأستاذ ) الصراط المستقيم هو الطريق الموصل إلى الحق ولكنه تعالى ما بينه بذلك كما بينه في نحو سورة العصر١ وإنما بينه بإضافته إلى من سلك هذا الصراط كما قال في سورة الأنعام ﴿ فبهداهم اقتده ﴾ وقد قلنا إن الفاتحة مشتملة على إجمال ما فصل في القرآن حتى من الأخبار، التي هي مثل الذكرى والاعتبار، وينبوع العظة والاستبصار، وأخبار القرآن كلها تنطوي في إجمال هذه الآية.
( قال ) فسر بعضهم المنعم عليهم بالمسلمين والمغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى. ونحن نقول إن الفاتحة أول سورة نزلت كما قال الإمام علي رضي الله عنه وهو أعلم بهذا من غيره، لأنه تربى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وأول من آمن به، وإن لم تكن أول سورة على الإطلاق فلا خلاف في أنها من أوائل السور ( كما مر في المقدمة ) ولم يكن المسلمون في أول نزول الوحي بحيث يطلب الاهتداء بهداهم وما هداهم إلا من الوحي، ثم هم المأمورون بأن يسألوا أن يهديهم هذه السبيل سبيل من أنعم الله عليهم من قبلهم، فأولئك غيرهم، وإنما المراد بهذا ما جاء في قوله تعالى ﴿ فبهداهم اقتده ﴾ وهم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من الأمم السالفة. فقد أحال على معلوم أجمله في الفاتحة وفصله في سائر القرآن بقدر الحاجة. فثلاثة أرباع القرآن تقريبا قصص : وتوجيه للأنظار إلى الاعتبار بأحوال الأمم، في كفرهم وإيمانهم، وشقاوتهم وسعادتهم، ولا شيء يهدي الإنسان كالمثلات والوقائع. فإذا امتثلنا الأمر والإرشاد، ونظرنا في أحوال الأمم السابقة، وأسباب علمهم وجهلهم، وقوتهم وضعفهم، وعزهم وذلهم ؛ وغير ذلك مما يعرض للأمم – كان لهذا النظر أثر في نفوسنا يحملنا على حسن الأسوة والاقتداء بأخبار تلك الأمم فيما كان سبب السعادة والتمكن في الأرض، واجتناب ما كان سبب الشقاوة أو الهلاك والدمار. ومن هنا ينجلي للعاقل شأن علم التاريخ وما فيه من الفوائد والثمرات، وتأخذه الدهشة والحيرة إذا سمع أن كثيرا من رجال الدين من أمة هذا كتابها يعادون التاريخ باسم الدين، ويرغبون عنه، ويقولون إنه لا حاجة إليه ولا فائدة له. وكيف لا يدهش ويحار والقرآن ينادي بأن معرفة أحوال الأمم من أهم ما يدعو إليه هنا الدين ؟ ﴿ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات ﴾.
وهاهنا سؤال وهو : كيف يأمرنا الله تعالى باتباع صراط من تقدمنا وعندنا أحكام وإرشادات لم تكن عندهم، وبذلك كانت شريعتنا أكمل من شرائعهم، وأصلح لزماننا وما بعده ؟ والقرآن يبين لنا الجواب وهو أنه يصرح بأن دين الله في جميع الأمم واحد، وإنما تختلف الأحكام بالفروع التي تختلف باختلاف الزمان، وأما الأصول فلا خلاف فيها. قال تعالى ﴿ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ﴾ الآية وقال تعالى ﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ﴾ الآية. فالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر، وترك الشر وعمل البر، والتخلق بالأخلاق الفاضلة، مستو في الجميع. وقد أمرنا الله بالنظر فيما كانوا عليه، والاعتبار بما صاروا إليه، لنقتدي بهم في القيام على أصول الخير. وهو أمر يتضمن الدليل على أن في ذلك الخير والسعادة. على حسب طريقة القرآن في قرن الدليل بالمدلول والعلة بالمعلول، والجمع بين السبب والمسبب. وتفصيل الأحكام التي هذه كلياتها بالإجمال نعرفه من شرعنا وهدى نبينا عليه الصلاة والسلام ا ه بتفصيل وإيضاح.
وأزيد هنا أن في الإسلام من ضروب الهداية ما قد يعد من الأصول الخاصة بالإسلام، ويرى أنه مما يستدرك على ما قرره الأستاذ الإمام، كبناء العقائد في القرآن على البراهين العقلية والكونية، وبناء الأحكام الأدبية والعملية على قواعد المصالح والمنافع ودفع المضار والمفاسد، وكبيان أن للكون سننا مطردة تجري عليها عوالمه العاقلة وغير العاقلة، وكالحث على النظر في الأكوان، للعلم والمعرفة بما فيها من الحكم والأسرار، التي يرتقي بها العقل وتتسع بها أبواب المنافع للإنسان، وكل ذلك مما امتاز به القرآن. والجواب عن هذا أنه تكميل لأصول الدين الثلاث التي بعث بها كل نبي مرسل لجعل بنائه رصينا مناسبا لارتقاء الإنسان. وأما تلك الأصول وهي الإيمان الصحيح وعبادة الله تعالى وحده وحسن المعاملة مع الناس فهي التي لا خلاف فيها.
وأما وصفه تعالى الذين أنعم عليهم بأنهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فالمختار فيه أن المغضوب عليهم هم الذين خرجوا عن الحق بعد علمهم به، والذين بلغهم شرع الله تعالى ودينه فرفضوه ولم يتقبلوه، انصرافا عن الدليل، ورضاه بما ورثوه من القيل، ووقوفا عند التقليد، وعكوفا على هوى غير رشيد، وغضب الله يفسرونه بلازمه وهو العقاب، ووافقهم الأستاذ الإمام، والذي ينطق على مذهب السلف أن يقال أنه شأن من شؤونه تعالى يترتب عليه عقوبته وانتقامه – وأن الضالين هم الذين لم يعرفوا الحق البتة، أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح الذي يقرن به العمل كما سيأتي تفصيله. وقرن المعطوف في قوله ﴿ ولا الضالين ﴾ بلا لما في " غير " من معنى النفي أي وغير الضالين ففيه تأكيد للنفي. وهو يدل على أن الطوائف ثلاث. المنعم عليهم، والمغضوب عليهم والضالون. ولا شك أن المغضوب عليهم ضالون أيضا لأنهم بنبذهم الحق وراء ظهورهم قد استدبروا الغاية واستقبلوا غير وجهتها فلا يصلون منها إلى مطلوب، ولا يهتدون فيها إلى مرغوب، ولكن فرقا بين من عرف الحق فأعرض عنه على علم، وبين من لم يظهر له الحق فهو تائه بين الطرق لا يهتدي إلى الجادة الموصلة منها، وهم من لم تبلغهم الرسالة، أو بلغتهم على وجه لم يتبين لهم فيه الحق، فهؤلاء هم أحق باسم الضالين، فإن الضال حقيقة هو التائه الواقع في عماية لا يهتدي معها إلى المطلوب، والعماية في الدين هي الشبهات التي تلبس الحق بالباطل وتشبه الصواب بالخطأ.
الأستاذ الإمام : الضالون على أقسام ( الأول ) من لم تبلغهم الدعوة إلى الرسالة، أو بلغتهم على وجه لا يسوق إلى النظر، فهؤلاء لم يتوفر لهم من أنواع الهداية سوى ما يحصل بالحس والعقل، وحرموا رشد الدين، فإن لم يضلوا في شؤونهم الدنيوية ضلوا لا محالة فيما تطلب به نجاة الأرواح وسعادتها في الحياة الأخرى.
على أن من شأن الدين الصحيح أن يفيض على أهله من روح الحياة ما به يسعدون في الدنيا والآخرة معا، فمن حرم الدين حرم السعادتين، وظهر أثر التخبط والاضطراب في أعماله المعاشية، وحل به من الرزايا ما يتبع الضلال والخبط عادة، سنة الله في هذا العالم ولن تجد لسنته تبديلا. أما أمرهم في الآخرة فعلى أنهم لن يساووا المهتدين في منازلهم، وقد يعفو الله عنهم وهو الفعال لما يريد.
وأزيد في إيضاح كلام الأستاذ أن الذين حرموا هداية الدين لا يعقل أن يؤاخذوا في الآخرة على ترك شيء مما لا يعرف إلا بهذه الهداية. وهذا هو معنى كونهم غير مكلفين، وعليه جمهور المتكلمين، لقوله تعالى في سورة الإسراء ﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ ومن قال إنهم مكلفون بالعقل لا يظهر وجه لقوله إلا إذا أراد أن حالهم في الآخرة تكون على حسب ارتقاء أرواحهم بهداية العقل وسلامة الفطرة إذ لا شك أن من لم يبعث فيهم رسول يتفاوتون في إدراكهم وأعمالهم بتفاوت استعدادهم الفطري وما يصادفون من حسن التربية وقبحها. وبهذا يجمع بين القولين في تكليفهم وعدمه أو يفصل بينها. وما يعطيهم الله تعالى إياه في الآخرة على حسب حالهم في الخير والشر والفضيلة والرذيلة – يكون جزاء عادلا على أعمالهم الاختيارية ويزيدهم من فضله إن شاء. وسأفصل في هذا المعنى في تفسير الآيات المنزلة فيه إن شاء الله تعالى. وأعود الآن إلى إتمام سياق الأستاذ، قال :
( القسم الثاني ) من بلغته الدعوة على وجه يبعث على النظر، فساق همته إليه، واستفرغ جهده فيه، ولكن لم يوفق إلى الإيمان بما دعي إليه، وانقضى عمره وهو في الطلب، وهذا القسم لا يكون إلا أفراد متفرقة في الأمم ولا يعم حاله شعبا من الشعوب، فلا يظهر له أثر في أحوالها العامة، وما يكون لها من سعادة وشقاء في حياتها الدنيا. أما صاحب هذه الحالة فقد ذهب بعض الأشاعرة إلى أنه ممن ترجى له رحمة الله تعالى، وينقل صاحب هذا الرأي مثله عن أبي الحسن الأشعري.
وأما على رأي الجمهور فلا ريب في أن مؤاخذته أخف من مؤاخذة الجاحد الذي أنكر التنزيل، واستعصى على الدليل، وكفر بنعمة العقل، ورضى بحظه من الجهل،
( القسم الثالث ) من بلغتهم الرسالة وصدقوا بها، بدون نظر في أدلتها ولا وقوف على أصولها، فاتبعوا أهوائهم في فهم ما جاءت به من أصول العقائد، وهؤلاء هم المبتدعة في كل دين، ومنهم المبتدعون في دين الإسلام، وهم المنحرفون في اعتقادهم عما تدل عليه جملة القرآن وما كان عليه السلف الصالح وأهل الصدر الأول، ففرقوا الأمة إلى مشارب، يغص بمائها الوارد، ولا يرتوي منها الشارب، ( قال ) وإني أشير إلى طرف من آثارهم في الناس : يأتي الرجل إلى دوائر القضاء فيستحلف بالله تعالى العظيم، أو بالمصحف الكريم، وهو كلام الله القديم، أنه ما فعل كذا فيحلف وعلامة الكذب بادية على وجهه، فيأتيه المستحلف من طريق آخر ويحمله على الحلف بشيخ من المشايخ الذين يعتقد لهم الولاية، فيتغير لونه، وتضطرب أركانه، ثم يرجع في أليته، ويقول الحق، ويقر بأنه فعل ما حلف أولا أنه لم يفعله، تكريما لاسم ذلك الشيخ وخوفا منه أن يسلب عنه نعمة أو يحل به نقمة، إذا حلف باسمه كاذبا. فهذا ضلال في أصول العقيدة يرجع إلى الضلال في الإيمان بالله تعالى وما يجب له من الوحدانية في الأفعال، ولو أردنا أن نسرد ما وقع فيه المسلمون من الضلال في العقائد الأصلية بسبب البدع التي عرضت على دين الإسلام لطال المقال، واحتيج إلى وضع مجلدات في وجوه الضلال، ومن أشنعها أثرا، وأشهدها ضررا، خوض رؤساء الفرق منه في مسائل القضاء والقدر، والاختيار والجبر، وتحقيق الوعد والوعيد، وتهوين مخالفة الله على نفوس العبيد.
إذا وزنا ما في أدمغتنا من الاعتقادات بكتاب الله تعالى من غير أن ندخلها أولا فيه يظهر لنا كوننا مهتدين أو ضالين. وأما إذا أدخلنا ما في أدمغتنا في القرن وحشرناها فيه أولا فلا يمكننا أن نعرف الهداية من الضلال لاختلاط الموزون بالميزان. فلا يدري ما هو الموزون من الموزون به – أريد أن يكون القرآن أصلا تحمل عليه المذاهب والآراء في الدين، لا أن تكون المذاهب أصلا والقرآن هو الذي يحمل عليها، ويرجع بالتأويل أو التحريف إليها، كما جرى عليه المخذولون، وتاه فيه الضالون.
( القسم الرابع ) ضلال في الأعمال، وتحريف للأحكام عما وضعت له، كالخطأ في فهم معنى الصلاة والصيام وجميع العبادات، والخطأ في فهم الأحكام التي جاءت في المعاملات، ولنضرب لذلك مثلا : الاحتيال في الزكاة بتحويل المال إلى ملك الغير قبل حلول الحول ثم استرداده بعد مضي قليل من الحول الثاني، حتى لا تجب الزكاة فيه، ويظن المحتال أنه بحيلته قد خلص من أداء الفريضة، ونجا من غضب من لا تخفى عليه خافية، ولا يعلم أنه بذلك قد هدم ركنا من أهم أركان دينه، وجاء بعمل من