فاتحة الشيء : أوله وابتداؤه. ولما افتتح التنزيل الكريم بها، إما بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، أو باجتهاد من الصحابة كما حكى القولين القاضي الباقلانيُّ في ( ترتيب التنزيل ) سُمِّيت بذلك.
قال السيد الجرجانيّ : فاتحة الكتاب صارت علما بالغلبة لسورة الحمد، وقد يطلق عليها " الفاتحة " وحدها، فإما أن يكون علما آخر بالغلبة أيضا، لكون اللام لازمة، وإما أن يكون اختصارا، واللام كالعوض عن الإضافة إلى الكتاب، مع لمح الوصفية الأصلية.
و قال ابن جرير : سميت " فاتحة الكتاب " : لأنها يفتتح بكتابتها المصاحف ويقرأ بها في الصلوات فهي فواتح لما يتلوها من سور القرآن في الكتابة والقراءة وتسمى " أم القرآن " لتقدمها على سائر سور القرآن غيرها، وتأخر ما سواها خلفها في القراءة والكتابة تقدُّم الأم والأصل ؛ أو لاشتمالها على ما فيه من الثناء على الله بما هو أهله، والتعبد بأمره ونهيه، وبيان وعده ووعيده، أو على جملة معانيه من الحكم النظرية، والأحكام العملية التي هي سلوك الصراط المستقيم، والإطلاع على معارج السعداء، ومنازل الأشقياء.
والعرب تسمي كل أمر جامع أُمًّا، وكل مقدم له توابع تتبعه " أُمًّا " ؛ فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ " أم الرأس " وتسمى لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها " أُمًّا ".
وتسمى " السبع المثاني " جمع مثنى كمَفْعَل اسم مكان، أو مثنّى بالتشديد من التثنية / على غير قياس لأنها سبع آيات تثنّى في الصلاة أي تكرر فيها.
والأكثرون على أن الفاتحة مكية، وأنها سبع آيات.
وأصل معنى " السورة " لغة : المنزلة من منازل الارتفاع. ومن ذلك سور المدينة للحائط الذي يحويها، وذلك لارتفاعه على ما يحويه. ومنه قول نابغة بني ذبيان :
ألم تر أن الله أعطاك سُورة | ترى كل مَلْكٍ دونها يتذبذب١ |
و أما " الآية " فإما بمعنى : العلامة لأنها علامة يعرف بها تمام ما قبلها وابتداؤها، كالآية التي تكون دلالة على الشيء يستدل به عليه وإما بمعنى : القصة كما قال كعب بن زهير :
ألا أبْلِغا هذا المعرِّضَ آية : أيقظانَ قال القول، إذ قال، أم حَلَمْ
أي رسالة مني، وخبرا عني فيكون معنى الآيات " القصص " قصة تتلو قصة.
يتذبذب: يضطرب ويحار. والذبذبة: تردد الشيء المعلق في الهواء يمنة ويسرة. يقول: أعطاك الله من المنزلة الرفيعة، ما لو رامه ملك وتسامى إليه، بقي معلقا دونها حائرا يضطرب ويتردد، لا يطيق أن يبلغها..
وأصل معنى «السورة» لغة: المنزلة من منازل الارتفاع. ومن ذلك سور المدينة للحائط الذي يحويها، وذلك لارتفاعه على ما يحويه. ومنه قول نابغة بني ذبيان:
ألم تر أنّ الله أعطاك سورة... ترى كلّ ملك دونها يتذبذب
أي منزلة من منازل الشرف التي قصرت عنها منازل الملوك.
وأما «الآية» فإمّا بمعنى: العلامة- لأنها علامة يعرف بها تمام ما قبلها وابتداؤها، كالآية التي تكون دلالة على الشيء يستدلّ به عليه- وإمّا بمعنى: القصّة- كما قال كعب بن زهير:
ألا أبلغا هذا المعرّض آية:... أيقظان قال القول، إذ قال، أم حلم
أي رسالة مني، وخبرا عني- فيكون معنى الآيات «القصص» قصة تتلو قصة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (١) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)
قال الإمام ابن جرير: إن الله، تعالى ذكره، وتقدست أسماؤه، أدّب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلّم: بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وتقدم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته، وجعل- ما أدّبه به من ذلك، وعلّمه إياه- منه لجميع خلقه: سنّة يستنّون بها، وسبيلا يتبعونه عليها، فبه افتتاح أوائل منطقهم، وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم، حتى أغنت دلالة ما ظهر، من قول القائل: بسم الله، على ما بطن من مراده الذي هو محذوف. وذلك أن الباء مقتضية فعلا يكون لها جالبا، فإذا كان محذوفا يقدّر بما جعلت التسمية مبدأ له. والاسم هنا بمعنى التسمية- كالكلام بمعنى التكليم، والعطاء بمعنى الإعطاء- والمعنى: أقرأ بتسمية الله وذكره، وأفتتح القراءة بتسمية الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى. واللَّهِ علم على ذاته، تعالى وتقدس. قال ابن عباس: هو الذي يألهه كلّ شيء ويعبده وأصله «إلاه» بمعني مألوه أي معبود، فلما أدخلت عليه الألف واللام حذفت الهمزة تخفيفا لكثرته في الكلام، وبعد الإدغام فخّمت تعظيما- هذا تحقيق اللغويين.
وقد ناقش في كون الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بمعنى واحد، العلّامة الشيخ محمد عبده المصريّ في مباحثه التفسيرية قائلا: إن ذلك غفلة نسأل الله أن يسامح صاحبها- ثم قال: - وأنا لا أجير لمسلم أن يقول، في نفسه أو بلسانه: إن في القرآن كلمة جاءت لتأكيد غيرها ولا معنى لها في نفسها، بل ليس في القرآن حرف جاء لغير معنى مقصود. والجمهور: على أن معنى الرحمن المنعم بجلائل النعم، ومعنى الرحيم المنعم بدقائقها. وبعضهم يقول: إن الرحمن هو المنعم بنعم عامة تشمل الكافرين مع غيرهم، والرحيم المنعم بالنعم الخاصة بالمؤمنين. وكل هذا تحكم باللغة مبنيّ على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. ولكن الزيادة تدل على الوصف مطلقا، فصيغة الرَّحْمنِ تدل على كثرة الإحسان الذي يعطيه، سواء كان جليلا أو دقيقا.
وأما كون أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأكثر حروفا أعظم من أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأقل حروفا، فهو غير معنيّ ولا مراد، وقد قارب من قال: إن معنى الرَّحْمنِ المحسن بالإحسان العام. ولكنه أخطأ في تخصيص مدلول الرحيم بالمؤمنين، ولعل الذي حمل من قال: إن الثاني مؤكد للأول- على قوله هذا- هو عدم الاقتناع بما قالوه من التفرقة، مع عدم التفطّن لما هو أحسن منه، ثم قال: والذي أقول: إن لفظ «رحمن» وصف فعليّ فيه معنى المبالغة- كفعّال- ويدل في استعمال اللغة على الصفات العارضة- كعطشان وغرثان وغضبان- وأما لفظ «رحيم» فإنه يدل في الاستعمال على المعاني الثابتة كالأخلاق والسجايا في الناس- كعليم وحكيم وحليم وجميل- والقرآن لا يخرج عن الأسلوب العربيّ البليغ في الحكاية عن صفات الله عز وجل التي تعلو عن مماثله صفات المخلوقين، فلفظ الرَّحْمنِ يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل وهي إفاضة النعم والإحسان، ولفظ الرَّحِيمِ يدل على منشأ هذه الرحمة والإحسان، وعلى أنها من الصفات الثابتة الواجبة، وبهذا المعنى لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر، ولا يكون الثاني مؤكّدا للأول. فإذا سمع العربيّ وصف الله جلّ ثناؤه ب الرَّحْمنِ، وفهم منه أنه المفيض للنعم فعلا، لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما- لأن الفعل قد
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (١) : آية ٢]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢)
الْحَمْدُ لِلَّهِ أي الثناء بالجميل، والمدح بالكمال ثابت لله دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه. واللام في الْحَمْدُ للاستغراق أي استغراق جميع أجناس الحمد وثبوتها لله تعالى تعظيما وتمجيدا- كما
في الحديث: «اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله».
قال الإمام ابن القيّم في «طريق الهجرتين» : الملك والحمد في حقه تعالى متلازمان. فكل ما شمله ملكه وقدرته شمله حمده، فهو محمود في ملكه، وله الملك والقدرة مع حمده. فكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدرته، يستحيل خروجها عن حمده وحكمته. ولهذا يحمد سبحانه نفسه عند خلقه وأمره لينبّه عباده على أن مصدر خلقه وأمره عن حمده. فهو محمود على كل ما خلقه وأمر به حمد شكر وعبودية وحمد ثناء ومدح، ويجمعهما التبارك، فَتَبارَكَ اللَّهُ يشمل ذلك كله. ولهذا ذكر هذه الكلمة عقيب قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف: ٥٤]. فالحمد أوسع الصفات وأعم المدائح. والطرق إلى العلم به في غاية الكثرة، والسبيل إلى اعتباره في ذرات العالم وجزئياته، وتفاصيل الأمر والنهي واسعة جدا، لأن جميع أسمائه، تبارك وتعالى، حمد، وصفاته حمد، وأفعاله حمد، وأحكامه حمد، وعدله حمد، وانتقامه من أعدائه حمد، وفضله في إحسانه إلى أوليائه حمد، والخلق والأمر إنما قام بحمده، ووجد بحمده، وظهر بحمده، وكان الغاية هي حمده، فحمده سبب ذلك وغايته ومظهره وحامله. فحمده روح كل شيء، وقيام كل شيء بحمده، وسريان حمده في الموجودات، وظهور آثاره فيه أمر مشهود بالأبصار والبصائر. - ثم قال-: وبالجملة فكل صفة علياء، واسم حسن، وثناء جميل، وكل حمد ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو لله عزّ وجلّ على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها، وجميع ما يوصف به، ويذكر به، ويخبر عنه به فهو محامد له وثناء وتسبيح وتقديس، فسبحانه وبحمده لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه.
رَبِّ الْعالَمِينَ الرب يطلق على السيد المطاع وعلى المصلح وعلى المالك. -
والْعالَمِينَ جمع عالم وهو: الخلق كله وكل صنف منه. وإيثار صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع الأجناس. والتعريف لاستغراق أفراد كل منها بأسرها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (١) : آية ٣]
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣)
إيرادهما عقد وصف الربوبية من باب قرن الترغيب بالترهيب الذي هو أسلوب التنزيل الحكيم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (١) : آية ٤]
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)
قرأ عاصم والكسائيّ بإثبات ألف مالِكِ والباقون بحذفها. قال الزمخشريّ:
ورجحت قراءة (ملك) لأنه قراءة أهل الحرمين، وهم أولى الناس بأن يقرءوا القرآن غضا طريا كما أنزل، وقراؤهم الأعلون رواية وفصاحة. ولقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: ١٦] فقد وصف ذاته بأنه الملك يوم القيامة. والقرآن يتعاضد بعضه ببعض، وتتناسب معانيه في المواد. وثمة مرجحات أخرى.
وقال بعضهم: إن قراءة مالِكِ أبلغ، لأن الملك هو الذي يدبر أعمال رعيته العامة، ولا تصرّف له بشيء من شؤونهم الخاصة. وتظهر التفرقة في عبد مملوك في مملكة لها سلطان، فلا ريب أن مالكه هو الذي يتولى جميع شؤونه دون سلطانه.
ومن وجوه تفضيلها: إنها تزيد بحرف، ولقارئ القرآن بكل «١» حرف عشر حسنات
أخرج الترمذي في ثواب القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر. عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول: آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف».
والدِّينِ الحساب والمجازاة بالأعمال. ومنه: «كما تدين تدان» أي: مالك أمور العالمين كلها في يوم الدين. وتخصيصه بالإضافة إمّا لتعظيمه وتهويله، أو لبيان تفرده تعالى بإجراء الأمر وفصل القضاء فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (١) : آية ٥]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)
قال الطبريّ: أي لك، اللهم، نخشع ونذلّ ونستكين. إقرارا لك بالربوبية لا لغيرك- قال- والعبودية عند جميع العرب أصلها الذلة، وأنها تسمّي الطريق المذلل الذي قد وطئته الأقدام، وذلّلته السابلة «معبّدا» ومنه قيل للبعير المذلل بالركوب في الحوائج «معبّد» ومنه سمي العبد «عبدا» لذلّته لمولاه انتهى.
وفيه إعلام بما صدع به الإسلام من تحرير الأنفس لله تعالى وتخليصها لعبادته وحده. أعني: أن لا يشرك شيئا ما معه، لا في محبته كمحبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب، فإن كل ذلك إنما يستحقه فاطر الأرض والسموات وحده. وذلك أن لفظ العبادة يتضمن كمال الذّل بكمال الحب. فلا بد أن يكون العابد محبّا للإله المعبود كمال الحب، ولا بد أن يكون ذليلا له كمال الذل، وهما لا يصلحان إلا لله وحده. فهو الإله المستحق للعبادة، الذي لا يستحقها إلّا هو، وهي كمال الحب والذل والإجلال والتوكل والدعاء بما لا يقدر عليه إلّا هو، تعالى. وقد أشار لذلك تقديم المفعول، فإن فيه تنبيها على ما يجب للعبد من تخصيصه ربّه بالعبادة، وإسلامه وجهه لله وحده، لا كما كان عليه المشركون الذين ظهر النبي صلى الله عليه وسلّم عليهم، فقد كانوا متفرقين في عبادتهم، متشاكسين في وجهتهم:
منهم من يعبد الشمس والقمر، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الأحبار والرهبان، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار... إلى غير ذلك، كما بينه القرآن الكريم في قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ [فصلت: ٣٧] الآية. وفي قوله تعالى:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا
[سبأ: ٤٠- ٤١]. وفي قوله تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ [المائدة: ١١٦] الآية.
وقوله تعالى: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً [آل عمران: ٨٠] الآية. وفي قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: ١٩- ٢٠].
وحديث «١» أبي واقد الليثيّ قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها «ذات أنواط» فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الله أكبر، إنها السنن، قلتم- والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ- إلى قوله: وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [الأعراف: ١٣٨- ١٤٠] رواه الترمذيّ وصححه.
وأما عبادتهم للأحبار والرهبان ففي قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: ٣١]،
فروى الإمام أحمد والترمذي «٢» عن عديّ بن حاتم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلّم يقرأ هذه الآية اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم، قال: «أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمون، ويحلّون ما حرّم الله فتحلّونه؟» فقلت: بلى قال: «فتلك عبادتهم».
فالعبادة أنواع وأصناف، ولا يتم الإيمان إلّا بتوحيدها كلها لله سبحانه. وقد بينت السنة أن الدعاء هو العبادة. أي ركنها المهم الأعظم. وأصله من التنزيل الكريم قوله تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي
أخرجه الترمذي في: الفتن، باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم. وهذا نصه: عن أبي واقد الليثيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم. فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلّم:
«سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ. والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم»
. (٢)
أخرج الترمذيّ في: التفسير، سورة التوبة، حدثنا الحسين بن مرثد. عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلّم وفي عنقي صليب من ذهب. فقال: «يا عدي، اطرح عنك هذا الوثن». وسمعته يقرأ في سورة براءة: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، قال: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم. ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه».
وفي الخبر: «الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل» «١».
قال شمس الدين بن القيم: ولهذا كان العبد مأمورا في كل صلاة أن يقول:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ والشيطان يأمر بالشرك، والنفس تطيعه في ذلك، فلا تزال النفس تلتفت إلى غير الله، إما خوفا منه، أو رجاء له، فلا يزال العبد مفتقرا إلى تخليص توحيده من شوائب الشرك، ولذا أخبر سبحانه عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره في ثلاثة مواضع من كتابه، وكيف يقدره حق قدره من جعل له عدلا وندا يحبه، ويخافه، ويرجوه، يذل ويخضع له، ويهرب من سخطه، ويؤثر مرضاته، والمؤثر لا يرضى بإيثاره انتهى.
(فائدة) قال بعض السلف: الفاتحة سرّ القرآن، وسرّها هذه الكلمة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ: فالأول تبرّؤ من الشرك، والثاني تبرّؤ من الحول والقوة، والتفويض إلى الله عزّ وجلّ. وهذا المعنى في غير آية من القرآن كما قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: ١٢٣]، قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا [الملك: ٢٩]، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: ٩].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (١) : آية ٦]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)
أي ألهمنا الطريق الهادي، وأرشدنا إليه، ووفقنا له.
قال الإمام الراغب في تفسيره: «الهداية دلالة بلطف. ومنه الهدية، وهوادي الوحش وهي متقدّماتها لكونها هادية لسائرها. وخص ما كان دلالة بفعلت نحو:
هديته الطريق، وما كان من الإعطاء بأفعلت نحو أهديت الهدية، ولما يصور العروس على وجهين: قيل فيه: هديت وأهديت. فإن قيل: كيف جعلت الهدى دلالة بلطف وقد قال تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: ٢٣] وقال تعالى:
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ [الحج: ٤] قيل:
أخرج الإمام أحمد في المسند، ٤/ ٤٠٣. عن أبي موسى الأشعري قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات ليلة فقال: «أيها الناس. اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل» فقال له من شاء أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: «قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم».
وخيل قد دلفت لها بخيل | تحيّة بينهم ضرب وجيع! |
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: ١٠]، وقال في ثمود: فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: ١٧]، وثانيهما الهداية بالدعاء وبعثه الأنبياء عليهم السلام.
وإياها عنى بقوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [السجدة: ٢٤].
وبقوله: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد: ٧]، وهذه الهداية تنسب تارة إلى الله عز وجل، وتارة إلى النبيّ عليه السّلام، وتارة إلى القرآن. قال الله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: ٩].
وثالثها هداية يوليها صالحي عباده بما اكتسبوه من الخيرات، وهي الهداية المذكورة في قوله عز وجل: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ، وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ [الحج: ٢٤]. وقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: ٩٠] وقوله: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: ٦٩].
وهذه الهداية هي المعنيّة بقوله: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ [الحديد: ٢٨].
ويصح أن ننسب هذه الهداية إلى الله عز وجل فيقال: هو آثرهم بها من حيث إنه هو السبب في وصولهم إليها. ويصح أن يقال: اكتسبوها من حيث أنهم توصلوا إليها باجتهادهم. فمن قصد سلطانا مسترفدا فأعطاه، يصح أن يقال: إن السلطان خوّله.
ويصح أن يقال: فلان اكتسب بسعيه، ولانطواء ذلك على الأمرين، قال تعالى:
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد: ١٧]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ [يونس: ٩]. فنبه أن ذلك بجهدهم وبفضله جميعا.
وقال بعض الأولياء: إن مثل هداية الله مع الناس كمثل سيل مرّ على قلات وغدران، فيتناول كلّ قلت منها بقدر سعته- ثم تلا قوله- أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [الرعد: ١٧] وقال بعضهم: هي كمطر أتى على أرضين فينتفع كل أرض بقدر ترشيحها للانتفاع به.
(والمنزلة الرابعة) من الهداية التمكين من مجاورته في دار الخلد، وإياها عنى الله بقوله وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف: ٤٣]. فإذا ثبت ذلك فمن الهداية ما لا ينفى عن أحد بوجه. ومنها ما ينفى عن بعض ويثبت لبعض، ومن هذا الوجه قال تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلّم:
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: ٥٦]. وقال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة: ٢٧٢]، وقال: وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ [الروم: ٥٣]. فإنّه عنى الهداية- التي هي التوفيق وإدخال الجنة- دون التي هي الدعاء لقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: ٥٢]. وقال في الأنبياء: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [الأنبياء: ٧٣]. فقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فسّر على وجوه بحسب أنظار مختلفة إلى الوجوه المذكورة: (الأول) أنه عنى الهداية العامة، وأمر أن ندعو بذلك- وإن كان هو قد فعله لا محالة- ليزيدنا ثوابا بالدعاء، كما أمرنا أن نقول: اللهم صلّ على محمد. (الثاني) قيل: وفقنا لطريقة الشرع. (الثالث) احرسنا عن استغواء الغواة واستهواء الشهوات، واعصمنا من الشبهات. (الرابع) زدنا هدى استنجاحا لما وعدت بقولك: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن: ١١]. وقولك: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد: ١٧].
(الخامس) قيل: علمنا العلم الحقيقيّ فذلك سبب الخلاص، وهو المعبّر عنه بالنور في قوله: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ [النور: ٣٥] (السادس) قيل: هو سؤال الجنة، لقوله تعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ [محمد: ٤- ٥]. وقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ [يونس: ٩] الآية. فهذه الأقاويل اختلفت
كما أشار لذلك شيخ الإسلام تقيّ الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مبحث له مهم، نأثره عنه هنا، لما فيه من الفوائد الجليلة. قال رحمه الله:
ينبغي أن يعلم أن الاختلاف الواقع من المفسرين وغيرهم على وجهين:
أحدهما ليس فيه تضادّ وتناقض، بل يمكن أن يكون كل منهما حقا، وإنما هو اختلاف تنوع أو اختلاف في الصفات أو العبارات. وعامة الاختلاف الثابت عن مفسري السلف من الصحابة والتابعين هو من هذا الباب. فإن الله سبحانه إذا ذكر في القرآن اسما مثل قوله اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فكل من المفسرين يعبّر عن الصراط المستقيم بعبارة تدلّ بها على بعض صفاته، وكل ذلك حق بمنزلة ما يسمى الله ورسوله وكتابه بأسماء، كل اسم منها يدل على صفة من صفاته. فيقول بعضهم:
الصراط المستقيم كتاب الله أو اتباع كتاب الله. ويقول الآخر: الصراط المستقيم هو الإسلام أو دين الإسلام. ويقول الآخر: الصراط المستقيم هو السنّة والجماعة. ويقول الآخر: الصراط المستقيم طريق العبودية، أو طريق الخوف والرضا والحب، وامتثال المأمور، واجتناب المحظور، أو متابعة الكتاب والسنّة، أو العمل بطاعة الله، أو نحو هذه الأسماء والعبارات. ومعلوم أن المسمى هو واحد، وإن تنوعت صفاته وتعددت أسماؤه وعباراته، وكثير من التفسير والترجمة تكون من هذا الوجه. ومنه قسم آخر وهو أن يذكر المفسر والمترجم معنى اللفظ على سبيل التمثيل لا على سبيل الحدّ والحصر- مثل أن يقول قائل من العجم: ما معنى الخبز؟ فيشار له إلى رغيف- وليس المقصود مجرد عينه، وإنما الإشارة إلى تعيين هذا الشخص تمثيلا. وهذا كما إذا سئلوا عن قوله: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: ٣٢]. أو عن قوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: ١٢٨]. أو عن الصالحين أو الظالمين، ونحو ذلك من الأسماء العامة الجامعة التي قد يتعسّر أو يتعذّر على المستمع أو المتكلم ضبط مجموع معناه، إذ لا يكون محتاجا إلى ذلك فيذكر له من أنواعه وأشخاصه ما يحصل به غرضه، وقد يستدلّ به على نظائره. فإن الظالم لنفسه هو تارك المأمور فاعل المحظور. والمقتصد هو فاعل الواجب وتارك المحرّم. والسابق هو فاعل الواجب والمستحب وتارك المحرم والمكروه. فيقول المجيب بحسب حاجة السائل: الظالم الذي يفوّت الصلاة، أو
وتقدم في مقدمة الكتاب بسط لهذا البحث فارجع إليه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أيضا في تحقيق هذه الآية:
«كل عبد مضطر دائما إلى مقصود هذا الدعاء وهو هداية الصراط المستقيم.
فإنه لا نجاة من العذاب إلّا بهذه الهداية، ولا وصول إلى السعادة إلّا به، فمن فاته هذا الهدى فهو: إما من المغضوب عليهم، وإما من الضالين، وهذا الاهتداء لا يحصل إلّا بهدى الله مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف: ١٧]. فإن الصراط المستقيم: أن تفعل في كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل، ولا تفعل ما نهيت عنه. وهذا يحتاج في كل وقت إلى أن تعلم: ما أمر به في ذلك الوقت، وما نهى عنه، وإلى أن يحصل لك إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة لترك المحظور. والصراط المستقيم قد فسّر بالقرآن والإسلام وطريق العبودية، وكل هذا حق، فهو موصوف بهذا وبغيره، فحاجته إلى هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته، بخلاف الحاجة إلى الرزق والنصر، فإن الله يرزقه، وإن انقطع رزقه مات- والموت لا بدّ منه- فإن كان من أهل الهداية، كان سعيدا بعد الموت، وكان الموت موصلا له إلى السعادة الدائمة الأبدية، فيكون رحمة في حقه. وكذلك النصر- إذا قدّر أنه قهر وغلب حتى قتل- فإذا كان من أهل الهداية إلى الاستقامة مات شهيدا، وكان القتل من تمام نعمة الله عليه. فتبين أن حاجة العباد إلى الهدى أعظم من حاجتهم إلى الرزق والنصر، بل لا نسبة بينهما، فلهذا كان هذا الدعاء مفروضا عليهم في الصلاة- فرضها ونفلها- وأيضا فإن هذا الدعاء يتضمن الرزق والنصر:
(فائدة) الصراط المستقيم أصله الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ويستعار لكل قول أو عمل يبلغ به صاحبه الغاية الحميدة. فالطريق الواضح للحسّ، كالحق للعقل، في أنه: إذا سير بهما أبلغا السالك النهاية الحسنى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفاتحة (١) : آية ٧]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)
أي: بطاعتك وعبادتك، وهم المذكورون في قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء: ٦٩].
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قال الأصفهانيّ: وإنما ذكر تعالى هذه الجملة لأن الكفار قد شاركوا المؤمنين في إنعام كثير عليهم، فبين بالوصف أن المراد بالدعاء ليس هو النعم العامة، بل ذلك نعمة خاصة. ثم إن المراد بالمغضوب عليهم والضالين: كلّ من حاد عن جادة الإسلام من أيّ فرقة ونحلة. وتعيين بعض المفسرين فرقة منهم من باب تمثيل العام بأوضح أفراده وأشهرها، وهذا هو المراد بقول ابن أبي حاتم: لا أعلم بين المفسرين اختلافا في أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصارى.
(فوائد) الأولى: يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها: «آمين» ومعناه:
اللهم استجب، أو كذلك فليكن، أو كذلك فافعل. وليس من القرآن. بدليل أنه لم يثبت في المصاحف. والدليل على استحباب التأمين ما
رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ «١» عن وائل بن حجر قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ غير المغضوب عليهم
هذا حديث حسن، وفي الباب عن عليّ وأبي هريرة، وروي عن عليّ وابن مسعود وغيرهم.
وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا تلا غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قال «آمين» حتى يسمع من يليه من الصف الأول» «١». رواه أبو داود.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه» «٢».
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعا: «إذا قال- يعني الإمام- ولا الضالين فقولوا: آمين، يجبكم الله» «٣».
الثانية: في ذكر ما اشتملت عليه هذه السورة من العلوم:
اعلم أن هذه السورة الكريمة قد اشتملت- وهي سبع آيات- على حمد الله تعالى، وتمجيده، والثناء عليه: بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين، وعلى إرشاد عبيده إلى سؤاله والتضرّع إليه والتبرؤ من حولهم وقوتهم، وإلى إخلاص العبادة له، وتوحيده بالألوهية، تبارك وتعالى، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم- وهو الدين القويم- وتثبيتهم عليه حتى يفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين.
واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة، وهم المغضوب عليهم والضالون.
قال العلامة الشيخ محمد عبده في تفسيره:
(٢) أخرجه البخاري في: الأذان، باب جهر الإمام بالتأمين. ومسلم في: الصلاة، حديث، ٧٢.
(٣)
أخرجه مسلم في: الصلاة، حديث ٦٢ ونصه: عن أبي موسى الأشعريّ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خطبنا فبيّن لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا، فقال «إذا صليتم فأقيموا صفوفكم. ثم ليؤمكم أحدكم.
فإذا كبر فكبروا. وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين. يجبكم الله. فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم»
.
أحدها التوحيد: لأن الناس كانوا كلهم وثنيين- وإن كان بعضهم يدّعى التوحيد- ثانيها وعد من أخذ به، وتبشيره بحسن المثوبة، ووعيد من لم يأخذ به، وإنذاره بسوء العقوبة. والوعد يشمل ما للأمة وما للأفراد، فيعم نعم الدنيا والآخرة وسعادتهما. والوعيد- كذلك- يشمل نقمهما وشقاءهما. فقد وعد الله المؤمنين:
بالاستخلاف في الأرض، والعزّة، والسلطان، والسيادة. وأوعد المخالفين، بالخزي والشقاء في الدنيا. كما وعد في الآخرة بالجنة والنعيم وأوعد بنار الجحيم.
ثالثها العبادة التي تحيي التوحيد في القلوب وتثبته في النفوس.
رابعها بيان سبيل السعادة وكيفية السير فيه الموصل إلى نعم الدنيا والآخرة.
خامسها قصص من وقف عند حدود الله تعالى وأخذ بأحكام دينه، وأخبار الذين تعدوا حدوده ونبذوا أحكام دينه ظهريا لأجل الاعتبار، واختيار طريق المحسنين.
هذه هي الأمور التي احتوى عليها القرآن، وفيها حياة الناس وسعادتهم الدنيوية والأخروية، والفاتحة مشتملة عليها إجمالا بغير ما شك ولا ريب.
فأمّا التوحيد ففي قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لأنه ناطق بأن كل حمد وثناء يصدر عن نعمة ما فهو له تعالى، ولا يصح ذلك إلّا إذا كان سبحانه مصدر كلّ نعمة في الكون تستوجب الحمد، ومنها نعمة الخلق والإيجاد والتربية والتنمية. ولم يكتف باستلزام العبارة لهذا المعنى فصرّح به بقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ. ولفظ «رب» ليس معناه المالك والسيد فقط، بل فيه معنى التربية والإنماء. وهو صريح بأن كل نعمة يراها الإنسان في نفسه وفي الآفاق منه عزّ وجلّ. فليس في الكون متصرف
«وأما الوعد والوعيد: فالأول منهما مطويّ في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فذكر الرحمة في أول الكتاب، وهي التي وسعت كل شيء. وعد بالإحسان- لا سيما وقد كررها مرة ثانية- تنبيها لنا على أن أمره إيانا بتوحيده وعبادته رحمة منه سبحانه بنا، لأنه لمصلحتنا ومنفعتنا. وقوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يتضمن الوعد والوعيد معا، لأن معنى الدين الخضوع، أي: إن له تعالى في ذلك اليوم السلطان المطلق والسيادة التي لا نزاع فيها، لا حقيقة ولا ادعاء، وإن العالم كله يكون فيه خاضعا لعظمته- ظاهرا وباطنا- يرجو رحمته، ويخشى عذابه، وهذا يتضمن الوعد والوعيد. أو معنى الدين الجزاء وهو: إما ثواب للمحسن، وإما عقاب للمسيء، وذلك وعد ووعيد. وزد على ذلك أنه ذكر بعد ذلك الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وهو الذي من سلكه فاز، ومن تنكبه هلك. وذلك يستلزم الوعد والوعيد.
وأما العبادة، فبعد أن ذكرت في مقام التوحيد بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، أوضح معناها بعض الإيضاح بقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي: إنه قد وضع لنا صراطا سيبيّنه ويحدده. ويكون مناط السعادة في الاستقامة عليه، والشقاء في الانحراف عنه. وهذه الاستقامة عليه هي روح العبادة. ويشبه هذا قوله تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: ١- ٣]. فالتواصي بالحق والصبر هو كمال العبادة بعد التوحيد. والفاتحة بجملتها تنفخ روح العبادة في المتدبر لها. وروح العبادة هي إشراب القلوب خشية الله، وهيبته، والرجاء لفضله، لا الأعمال المعروفة من فعل وكفّ وحركات اللسان والأعضاء. فقد ذكرت العبادة في الفاتحة قبل ذكر الصلاة وأحكامها، والصيام وأيامه، وكانت هذه الروح في المسلمين قبل أن يكلفوا بهذه الأعمال البدنية، وقبل نزول أحكامها التي فصلت في القرآن تفصيلا ما، وإنما الحركات والأعمال مما يتوسل به إلى حقيقة العبادة. ومخ العبادة الفكر والعبرة، وأما الأخبار والقصص ففي قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ تصريح بأن هنالك قوما تقدموا وقد شرع الله شرائع لهدايتهم، وصائح يصيح: ألا فانظروا في الشؤون
فتبين من مجموع ما تقدم: أن الفاتحة قد اشتملت إجمالا على الأصول التي يفصلها القرآن تفصيلا. فكان إنزالها أولا موافقا لسنة الله تعالى في الإبداع، وعلى هذا تكون الفاتحة جديرة بأن تسمى «أم الكتاب».
الثالثة: مما صح في فضلها من الأخبار: ما
رواه البخاريّ في صحيحه عن أبي سعيد بن المعلّى رضي الله عنه قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه وسلّم فلم أجبه. فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي. فقال: ألم يقل الله اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ؟ - ثم قال لي: «لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟» ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن نخرج، قلت: يا رسول الله ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن. قال:
«الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» «١».
وروى الإمام أحمد والترمذيّ بإسناد حسن صحيح عن أبي هريرة، نحوه، غير أن القصة مع أبيّ بن كعب، وفي آخره: «والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، إنها السبع المثاني» «٢»
. واستدل بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض، كما هو المحكي عن كثير من العلماء منهم: إسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن العربيّ وابن الحضار من المالكية، وذلك بيّن واضح.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده. والترمذي في: ثواب القرآن، باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب.
وفي بعض روايات مسلم: أن أبا سعيد الخدريّ هو الذي رقى ذلك السليم- يعني اللديغ، يسمونه بذلك تفاؤلا-.
وروى مسلم والنسائيّ عن ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلّم سمع نقيضا من فوقه، فرفع فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم. فنزل منه ملك. فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم. فسلّم وقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبيّ قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته «٢».
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج (ثلاثا) غير تمام» «٣» فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام. فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول:
«قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله، حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال مجدني عبدي- وقال مرّة فوّض إليّ عبدي- فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل»
. ويكفي من شرح الفاتحة هذا المقدار الجليل، والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل.
(٢) أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ٢٥٤.
(٣) أخرجه مسلم في: الصلاة، حديث ٣٨.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البقرةجميعها مدنيّ بلا خلاف. وآيها مائتان وست وثمانون. وقد صح في فضلها عدة أخبار:
منها ما
في مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذيّ والنسائيّ عن أبي هريرة رضى الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا، فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان» «١»
. وقال الترمذيّ: حسن صحيح.
وروى ابن حبان في صحيحه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم. «إن لكل شيء سناما، وإن سنام القرآن البقرة، وإن من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام».
وروى مسلم عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صوافّ تحاجّان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة» «٢».
(وقوله الزهراوين: أي المنيرتين- في الإعجاز أو في وفرة الأحكام- والغياية:
ما أظلك من فوقك. والفرق: القطعة من الشيء. والصواف: المصطفة. والبطلة:
السحرة. ومعنى لا تستطيعها: لا تستطيع النفوذ في قارئها، أو لا يمكنهم حفظها.
والله أعلم).
(٢) أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ٢٥٢.