فبعد أن وصف الله تعالى نفسه بصفات الكمال، وأن كل شيء في هذا الوجود يسبح له، بين أنه بعث في هذه الأمة رسولا منهم يتلو عليهم القرآن الكريم، ويزكيهم بالأخلاق الفاضلة، ويطهرهم من الشرك والخرافات، ويفقّههم في الدين ويسلحهم بالعلم النافع، ليحملوا راية الإسلام، وينشروا مشعل الهداية في العالم.
وأنه سيجيء بعدهم آخرون منهم يسيرون على هدى الإسلام وينشرون هذا الدين في الشرق والغرب تحت راية القرآن.
ثم نعى على اليهود تركهم العمل بالتوراة، وتعاليهم على الناس، ودعواهم بأنهم أولياء الله وأحباؤه، وتحداهم أن يتمنوا الموت إن كانوا صادقين، ولكنهم لا يتمنونه أبدا، لحرصهم على الحياة، وجمع المال، وعبادة المادة، مع أن كل إنسان في هذا الوجود مصيره إلى الموت.
ثم يأتي إلى موضوع صلاة الجمعة، وبذلك سميت " سورة الجمعة " بقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ﴾.
فعلى المؤمنين أن يسارعوا إلى صلاة الجمعة عندما يسمعون النداء، ويجب أن يتركوا أعمالهم وتجارتهم ويتوجهوا إلى المساجد أينما كانوا، وبعد أن تنقضي الصلاة لهم أن يسعوا إلى أعمالهم وطلب الرزق.
وفي ختام السورة يعاتب الله بعض المؤمنين على تركهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، وذهابهم إلى السوق لرؤية العير القادمة من الشام. ذلك أن هذا لا يليق بالمؤمنين، فعليهم أن يلزموا المسجد إلى نهاية الصلاة، والله قد تكفل لهم بالرزق وهو خير الرازقين.
ﰡ
يسبّح لله وينزّهه عما لا يليق به كلُّ ما في هذا الوجود من بشرٍ وحيوان وشجر وجماد، هو الملكُ القُدّوس المنزه عن النقائص، المتصفُ بالكمال، ﴿ العزيز الحكيم ﴾.
يزكيهم : يطهّرهم من الشرك.
والله تعالى هو الذي أرسلَ رسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم من العرب الأميين الذين لا يقرأون ولا يكتبون، كي يتلو عليهم القرآن، ويزكّيهم بالأخلاق الفاضلة ويطهرهم من الشرك وعبادة الأوثان، ويعلّمهم الشرائع والعلم النافع ليقودوا العالم وينشروا القِيَم الفاضلة في الشرق والغرب.. وقد كان ذلك من أولئك الأميين بفضل الإسلام وتحت راية القرآن.
﴿ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾
وأي ضلالٍ أكبر من عبادة الأصنام وإتيان الفواحش، كما قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يخاطب النجاشيّ ملكَ الحبشة لما هاجروا إليه :
« أيها الملك كنّا قوماً أهلَ جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجِوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصِدقه وأمانته وعفافه. فدعانا إلى الله لنوحّده ولنعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان. وأمرَنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة وصلة الرحم، وحُسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكْل مال اليتيم، وقذف المحصنات. وأمَرَنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ».
وبعثه الله تعالى إلى جماعات آخرين من العرب وغيرِهم من جميع العالم
لم يجيئوا بعد، سيأتون ويحملون مِشعلَ الهداية وينشرون نور الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. وهذا يعني أن هذه الأمة المباركة موصولةُ الحلقات ممتدة في جميع أطراف الأرض على مدى الزمان، تحمل هذه الأمانةَ وتُخرج الناس من الظلمات إلى النور. والتاريخُ شاهد على ذلك، وهذه الآية من دلائل النبوة، ومن الأدلّة على أن القرآن من عند الله.
﴿ وَهُوَ العزيز الحكيم ﴾ والله ذو العزة والسلطان.
نسأل الله تعالى أن يرد زعماء هذه الأمة إلى دينهم، ويبصّرهم شئون أمتهم ويهديهم سواء السبيل.
ثم لم يحملوها : لم يعملوا بها.
الأسفار : جمع سِفر وهي الكتب، السفر الكتاب.
الكلام في هذه الآية الكريمة عن اليهود وكَذِبهم، وتعنُّتِهِم، وتبجُّحهم، فبعد أن منّ الله على هذه الأمة بإرسال رسول من أنفسِهم. قال اليهود : إن هذا الرسولَ لم يُبعث إليهم، ولذلك يردّ الله عليهم مقالهم بأنهم لو عملوا بالتوراة وفهموها حقَّ الفهم، لرأوا فيها وصفَ النبي الكريم والبشارة به، وأنه يجب عليهم اتّباعه، لأنه رسول ورحمة للعالمين.
وما مثلُهم في حَملِهم للتوراة وتركهم العملَ بها إلا كمثل الحمار الذي يحمل الكتبَ ولا يفهم منها شيئا، ولا يجديه حملُها نفعا.
ثم زاد في توبيخهم بقوله :
﴿ بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ﴾.
وكيف يهتدون وهم متكبرون وقد رانَ الضلالُ على قلوبهم ؟.
أولياء الله : أحبّاء الله.
ثم زاد الله تعالى في توبيخهم على تماديهم في الغيّ والضلال بأن تحداهم أن يتمنّوا الموت إذا كانوا صادقين في زعمهم أنهم وحدَهم أحباءُ الله وأولياؤه. فقال :
﴿ قُلْ يا أيها الذين هادوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾.
قل لهم أيها الرسول : أيها اليهود، إن كنتم تزعمون أنكم على هدى من ربكم، وأنكم أحباء الله وحدكم، فتمنوا من الله الموتَ حتى تذهبوا إليه إن كنتم صادقين، وتلاقوا ربكم.
ثم أخبر الله تعالى بأنهم لن يتمنوا الموت أبدا، لما يعلمون من سوء أفعالهم وكذبهم على الله وعلى الناس، ﴿ والله عَلِيمٌ بالظالمين ﴾ لا يخفى عليه شيء.
والشهادة : ما شاهدوه وعلموه.
ثم أخبر أن الموتَ عاقبة كل حيّ، لا مهربَ منه فقال :
﴿ قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
قل لهم أيها الرسول : إنكم ميتون، ولا مهرب لكم من الموت، ثم تُرجَعون إلى خالقكم الذي يعلمُ السر والعلانية، فيخبركم بما كنتم تعملون، وتحاسَبون على كل ما قلتموه وعملتموه. وأيّ تهديد ووعيد أشد من هذا القول لو كانوا يعقلون ! !
فاسعَوا إلى ذكر الله : فامشوا إلى الصلاة.
وذروا البيع : اتركوه.
الحديثُ في هذه الآية الكريمة عن صلاةِ الجمعة، وهي ركعتان بعد خطبتين يلقيهما الإمام، وهي فرضُ عَين، وقد ثبتت فرضيتها بالكتاب والسنّة والإجماع.
وتجب صلاةُ الجمعة على المسلم الحرّ العاقلِ البالغ المقيمِ القادرِ على السعي إليها، ولا تجب على المرأة والصبيّ، والمريضِ والمسافر، وكلِّ معذور مرخَّص له في ترك الجماعة، كعذر المطر والوحل والبرد ونحو ذلك،
ولا تصحّ إلا جماعة.
وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل يوم الجمعة، وفضل الصلاة فيها، والحثّ عليها والاستعداد لها بالغسل والثياب النظيفة والطِّيب.
ويجوز للنساء والصبية أن يحضروا الجمعة، فقد كانت النساء تحضر المسجدَ على عهد رسول الله وتصلّي معه. ومن صلى الجمعةَ سقطت عنه فريضة الظهر، ومن أراد زيادة فليرجع إلى كتب الفقه.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ﴾
يا أيها الذين آمنوا : إذا أُذَّن للصلاة يوم الجمعة فاذهبوا إلى المسجد لحضور الصلاة وذِكر الله، واتركوا البيعَ وكلَّ عمل من الأعمال، وامشوا إلى الصلاة بسَكينة ووقار، ولا تسرعوا في مشيكم. والأفضلُ أن يبكّر الإنسان بالذهاب إلى المسجد، فإذا لم يستطع فليمشِ الهوينا. فقد روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة قال : بينما نحن نصلّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبةَ رجالٍ، فلما صلى قال : ما شأنكم ؟ قالوا : استعجلنا إلى الصلاة. قال : فلا تفعلوا، إذا أتيتم فامشُوا وعليكم السَكينة، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتمّوا ».
﴿ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
ذلك الذي أُمِرْتم به أنفعُ لكم إن كنتم من ذوي العلم الصحيح، فصلاةُ الجمعة عبادة من العبادات الممتازة لأنها تنظم المسلمين وتعوّدهم على النظام، وفيها الخطبة فيها موعظةٌ حسنة وتعليم للمسلمين بما ينفعهم في دينهم ودنياهم.
روى الإمام أحمد عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :« من اغتسلَ يوم الجمعة، ومسَّ من طِيب أهله إن كان عنده، وليس أحسنَ ثيابه، ثم خرج يأتي المسجد، فيركع إن بدا له، ولم يؤذِ أحدا، ثم أنصتَ اذا خرج إمامُه حتى يصلي، كانت كفارةً لما بينها وبين الجمعة الأخرى ».
فانتشِروا : تفرقوا في طلب الرزق والعمل.
فإذا أديتم الصلاة فتفرقوا في الأرض لمتابعة أعمالكم ومصالحكم الدنيوية التي فيها معاشُكم، واطلبوا من فضلِ الله ما تشاؤون من خَيري الدنيا والآخرة، واذكُروا الله بقلوبكم وألسنتِكم كثيراً، لعلّكم تفوزون بالفلاح في الدنيا والآخرة.
هذا هو روح الإسلام : الجمعُ بين المحافظة على الجسم والروح معا، وهذا هو التوازن الذي يتّسم به الدين الإسلامي، كما جاء في قوله تعالى :﴿ وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين ﴾ [ القصص : ٧٧ ]. هل هناك أجملُ وأحلى من هذا الكلام ؟.
انفضّوا : انصرفوا.
روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدمت عِير ( إبل محمَّلة طعاما وغير ذلك من الشام ) فابتدرها الناس حتى لم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلاً أنا فيهم وأبو بكر وعمر، فأنزل الله تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ﴾...
والذي قدِم بهذه التجارة دِحْيةُ الكلبي من الشام، وكانت العادةُ إذا قدمت هذه العير يُضرب بالطبل ليؤذَنَ الناسُ بقدومها، فيخرجوا ليبتاعوا منها، فيخرج الناس. فصادف مجيءُ هذه العِير وقتَ صلاة الجمعة، فترك عدد من المصلّين الصلاة وذهبوا إليها. فعاتبهم الله على ذلك وأفهمهم أن الصلاة لها وقتٌ محترم
ولا يجوز تركها. ثم رغّبهم في سماع العظات من الأئمة وأن الله عنده ما هو خير من اللهو ومن التجارة، فقال :
﴿ قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة والله خَيْرُ الرازقين ﴾
فاطلبوا رزقه وتوكلوا عليه، ولا يأخذ كل إنسان إلا ما كُتب له. والله كفيل بالأرزاق للجميع.
وكان عراك بن مالك، رضي الله عنه، إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال : اللهم إنّي أجبتُ دعوتك، وصلّيت فريضتك، وانتشرت كما أمرتَني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين. عراك هذا من التابعين من الفقهاء العلماء.
والحمد لله أولا وآخرا.