تفسير سورة الأعلى

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الأعلى من كتاب مختصر تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

- ١ - سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى
- ٢ - الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى
- ٣ - وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى
- ٤ - وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى
- ٥ - فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَى
- ٦ - سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى
- ٧ - إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى
- ٨ - وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى
- ٩ - فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى
- ١٠ - سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى
- ١١ - وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى
- ١٢ - الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى
- ١٣ - ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَ: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ قَالَ: «سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى» (أخرجه أحمد وأبو داود). وقوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾ أَيْ خَلَقَ الْخَلِيقَةَ وَسَوَّى كل مخلوق في أحسن الهيئات، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِي قدَّر فَهَدَى﴾، قَالَ مُجَاهِدٌ: هَدَى الْإِنْسَانَ لِلشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ، وَهَدَى الْأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا، وَهَذِهِ
629
الآية كقوله تعالى: ﴿وقال رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ أَيْ قَدَّرَ قَدْرًا وَهَدَى الْخَلَائِقَ إِلَيْهِ، كَمَا ثبت في صحيح مسلم: «إِنَّ اللَّهَ قدَّر مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء» (أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً). وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾ أَيْ مِنْ جَمِيعِ صُنُوفِ النَّبَاتَاتِ وَالزُّرُوعِ، ﴿فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَى﴾ قَالَ ابْنُ عباس: هشيماً متغيراً، وقوله تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ أَيْ يَا مُحَمَّدُ ﴿فَلاَ تَنْسَى﴾ وَهَذَا إخبار من الله تعالى وَوَعْدٌ مِنْهُ لَهُ، بِأَنَّهُ سَيُقْرِئُهُ قِرَاءَةً لَا يَنْسَاهَا ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ﴾ وَهَذَا اخْتِيَارُ ابن جرير، وقال ابن قَتَادَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينسى إلا ما شآء الله، وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾ أَيْ يَعْلَمُ مَا يَجْهَرُ بِهِ الْعِبَادُ، وَمَا يُخْفُونَهُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾ أَيْ نُسَهِّلُ عليك أفعال الخير، ونشرع لك شرعاً سهلاً سمحاً، لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا حَرَجَ وَلَا عُسْرَ، وقوله تعالى: ﴿فذكِّر إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى﴾ أَيْ ذَكِّرْ حَيْثُ تنفع التذكرة، ومن ههنا يُؤْخَذُ الْأَدَبُ فِي نَشْرِ الْعِلْمِ فَلَا يَضَعُهُ عند غير أهله، كما قال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ فتنة لبعضهم. وقال: حدثوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ ورسوله؟ وقوله تعالى: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾ أَيْ سَيَتَّعِظُ بِمَا تُبَلِّغُهُ يَا مُحَمَّدُ مَنْ قَلْبُهُ يَخْشَى اللَّهَ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ مُلَاقِيهِ، ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا ولا يحيى﴾ أي لا يموت فيستريح، ولا يحيى حَيَاةً تَنْفَعُهُ بَلْ هِيَ مُضِرَّةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ بِسَبَبِهَا يَشْعُرُ مَا يُعَاقَبُ بِهِ مِنْ أَلِيمِ العذاب وأنواع النكال، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فيها ولا يحيون ولكن أناس تُصِيبُهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ - أَوْ قَالَ بِخَطَايَاهُمْ - فَيُمِيتُهُمْ إماتة حتى إذا ما صَارُوا فَحْمًا أَذِنَ فِي الشَّفَاعَةِ فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ، فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ، فَيَنْبُتُونَ نبات الحبة في حميل السيل" (أخرجه أحمد ومسلم)، ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إنكم ماكثون﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ من عذابها﴾ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا المعنى.
630
- ١٤ - قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى
- ١٥ - وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى
- ١٦ - بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
- ١٧ - وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى
- ١٨ - إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى
- ١٩ - صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾ أَيْ طَهَّرَ نَفْسَهُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، واتبع ما أنزل الله على الرسول صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ أَيْ أَقَامَ الصَّلَاةَ فِي أَوْقَاتِهَا ابْتِغَاءَ رضوان الله وامتثالاً لشرع الله، روي عن جابر بن عبد الله يرفعه ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ قَالَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ، وَشَهِدَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ قَالَ: «هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا والاهتمام بها» (أخرجه الحافظ البزار). وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الصلوات الخمس، واختاره ابن جرير، وعن عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ
630
كَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِإِخْرَاجِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَيَتْلُو هذه الآية: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الآية: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ زَكَّى مَالَهُ وَأَرْضَى خَالِقَهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ أَيْ تُقَدِّمُونَهَا عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَتُبْدُونَهَا عَلَى مَا فيه نفعكم وصلاحكم في معاشكم ومعادكم، ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ أَيْ ثَوَابُ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَأَبْقَى، فَإِنَّ الدنيا دانية فَانِيَةٌ، وَالْآخِرَةَ شَرِيفَةٌ بَاقِيَةٌ، فَكَيْفَ يُؤْثِرُ عَاقِلٌ مَا يَفْنَى عَلَى مَا يَبْقَى، وَيَهْتَمُّ بِمَا يَزُولُ عَنْهُ قَرِيبًا وَيَتْرُكُ الِاهْتِمَامَ بِدَارِ الْبَقَاءِ والخلد؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لا عقل له» (أخرجه أحمد عن عائشة مرفوعاً) عن عجرفة الثَّقَفِيِّ قَالَ: اسْتَقْرَأْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ فَلَمَّا بَلَغَ ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ تَرَكَ الْقِرَاءَةِ وَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: آثَرْنَا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: آثَرْنَا الدُّنْيَا لِأَنَّا رَأَيْنَا زِينَتَهَا وَنِسَاءَهَا وَطَعَامَهَا وَشَرَابَهَا، وَزُوِيَتْ عَنَّا الْآخِرَةُ، فَاخْتَرْنَا هَذَا الْعَاجِلَ وَتَرَكْنَا الْآجِلَ، وَهَذَا مِنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّوَاضُعِ والهضم، وفي الحديث: «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى ما يفنى» (أخرجه أحمد عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى﴾ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّجْمِ: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى ربك المنتهى﴾ الآيات إلى آخرهن؛ وهكذا قال عكرمة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ يَقُولُ: الْآيَاتُ الَّتِي فِي ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قِصَّةُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الصُّحُفِ الْأُولَى، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّ هَذَا﴾ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، ثم قال تعالى: ﴿إن هذا﴾ أي مضمون الْكَلَامِ ﴿لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ وهذا الذي اختاره حَسَنٌ قَوِيٌّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ زيد نحوه، والله أعلم.
631
- ٨٨ - سورة الغاشية
632

[مقدمة]

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كان يقرأ بسبح اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَالْغَاشِيَةِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ ويوم الجمعة (أخرجه مسلم وأصحاب السنن).
632

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

632
Icon