اجتمع القرّاء على رفع " الحمد ". وأما أهل البَدْو فمنهم من يقول : " الحمدَ لِلّه ". ومنهم من يقول : " الحمدِ لِلّه ". ومنهم من يقول : " الحمدُ لُلّهِ " فيرفع الدال واللام.
فأما مَن نَصب فإنه يقول : " الحمد " ليس باسم إنما هو مَصْدر ؛ يجوز لقائله أن يقول : أحمد اللّه، فإذا صَلح مكان المصدر ( فَعل أو يَفْعل ) جاز فيه النصب ؛ من ذلك قول اللّه تبارك وتعالى :﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ ﴾ يصلح مكانها في مثله من الكلام أن يقول : فاضربوا الرقاب. ومن ذلك قوله :﴿ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نأخذ إِلاَّ مَن وَجَدْنا مَتَاعَنا عِندَهُ ﴾ ؛ يصلح أن تقول في مثله من الكلام : نعوذ باللّه. ومنه قول العرب : سَقْياً لكَ، ورَعْياً لك ؛ يجوز مكانه : سقاك الله، ورعاك الله.
وأما من خفض الدال من " الحمدِ " فإنه قال : هذه كلمة كثرت على ألسن العرب حتى صارت كالاسم الواحد ؛ فثقُل عليهم أن يجتمع في اسم واحد من كلامهم ضَمّةٌ بعدها كسرة، أو كَسْرَةٌ بعدها ضَمّة، ووجدوا الكسرتين قد تجتمعان في الاسم الواحد مثل إِبِل ؛ فكسروا الدال ليكون على المثال من أسمائهم.
وأما الذين رفعوا الّلام فإنهم أرادوا المثال الأكثر من أسماء العرب الذي يجتمع فيه الضمتان ؛ مثلُ : الحُلُم والعُقُب.
ولا تُنْكرنّ أن يجعل الكلمتان كالواحدة إذا كَثُر بهما الكلام. ومن ذلك قول العرب : " بِأَبَا " إنما هو " بِأَبِى " الياء من المتكلم ليست من الأب ؛ فلما كَثُرَ بهما الكلام توهّموا أنهما حرف واحد فصيّروها ألفا ليكون على مثال : حُبْلَى وسَكْرَى ؛ وما أشبهه من كلام العرب. أنشدني أبو ثَرْوان :
قال الجوارِى ما ذَهَبْتَ مَذْهَبَا | وعِبْنَنِي ولم أكنْ مُعَيِّبَا |
هل أنتَ إلا ذاهبٌ لِتلْعَبَا | أرَيْتَ إنْ أعطِيتَ نَهْداً كَعْثَبَا |
أذاك أم نُعطيكَ هَيْدًا هَيْدَبَا | أَبْرَدَ في الظَّلماء من مَسِّ الصَّبَا |
لا، بل ذا كما يا بِيَبَا | أجدرُ ألاّ تَفْضَحا وتَحْرَبَا |
فأما من رفع الهاء فإنه يقول : أصلها رفعٌ في نصبها وخفضها ورفعها ؛ فأما الرفع فقولهم : " هُم قالوا ذاك "، في الابتداء ؛ ألا ترى أنها مرفوعة لا يجوز فتحها ولا كسرها ؛ والنصب في قولك : " ضَرَبَهُم " مرفوعة لا يجوز فتحها ولا كسرها ؛ فتركت في " عليهمُ " على جهتها الأولى.
وأما من قال : " عليهِم " فإنه استثقل الضمّة في الهاء وقبلها ياء ساكنة، فقال : " عليهِم " لكثرة دَور المكنىّ في الكلام. وكذلك يفعلون بها إذا اتصلت بحرف مكسور مثل " بِهِم " و " بِهُم "، يجوز فيه الوجهان مع الكسرة والياء الساكنة. ولا تبال أن تكون الياء مفتوحا ما قبلها أو مكسورا ؛ فإذا انفتح ما قبل الياء فصارت ألفاً في اللفظ لم يُجْز في " هم " إلا الرفع ؛ مثل قوله تبارك وتعالى :﴿ وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِِّ ﴾ ولا يجوز : " مَوْلاهِم الحقِّ "، وقوله ﴿ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ لا يجوز " فبِهُداهِم اقْتَدهْ ".
ومثله مما قالوا فيه بالوجهين إذا وليته ياء ساكنة أو كسرة، قوله :﴿ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ ﴾ و﴿ حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً ﴾ يجوز رفع الألف من " أمّ " و " أمها " وكسرها في الحرفين جميعا لمكان الياء. والكسرة مثل قوله تبارك وتعالى :﴿ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ ﴾، وقول من رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " أُوصي امرأً بِأمّه ". فمن رفع قال : الرفع هو الأصل في الأمّ والأمّهات. ومن كسر قال : هي كثيرة المجرى في الكلام ؛ فاستثقل ضمةً قبلها ياء ساكنة أو كسرة. وإنما يجوز كسر ألف " أمّ " إذا وليها كسرة أو ياء ؛ فإذا انفتح ما قبلها فقلت : فلان عند أمّه، لم يجز أن تقول : عند إمّه، وكذلك إِذا كان ما قبلها حرفا مضموما لم يجز كسرها ؛ فتقول : اتّبعتُ أمّه، ولا يجوز الكسر.
وكذلك إذا كان ما قبلها حرفا مجزوما لم يكن في الأمّ إلا ضم الألف ؛ كقولك : من أُمّه، وعن أُمّه. ألا ترى أنك تقول : عنهُم ومِنهُم ( واضربهُم ). ولا تقول : عنهِم ولا مِنهِم، ولا اضِربهِم. فكل موضع حَسُن فيه كسر الهاء مثل قولهم : فيهم وأشباهها، جاز فيه كسر الألف من " أمّ " وهي قياسها. ولا يجوز أن تقول : كتب إلى إِمّه ولا على إِمّه ؛ لأن الذي قبلها ألف في اللفظ وإنما هي ياء في الكتاب : " إلى " و " على ". وكذلك : قد طالت يدا أُمه بالخير. ولا يجوز أن تقول : يدا إِمّه. فإن قلت : جلس بين يَدي أَمِّه ؛ جاز كسرها وضمها لأن الذي قبلها ياء. ومن ذلك أن تقول : هم ضاربو أُمّهاتهم ؛ برفع الألف لا يكون غيره. وتقول : ما هم بضاربي أُمّهاتهم وإِمّهاتهم ؛ يجوز الوجهان جميعا لمكان الياء. ولا تُبال أن يكون ما قبل ألف " أمّ " موصولا بها أو منقطعا منها ؛ والوجهان يجوزان فيه ؛ تقول : هذهِ أمّ زيد وإِمُّ زيد. وإذا ابتدأتها لم تكن إلا مرفوعة، كم كانت " هُم " لا تكون إلا مرفوعة في الابتداء، فأما " هم " فلا تكسر إلا مع حرف يتصل بها لا يفرق بينه وبينها مثل " بِهِم ".
وقوله تعالى :﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم... ﴾
بخفض " غيرِ " لأنها نعت للذين، لا للهاء والميم من " عليهم ". وإنما جاز أن تكون " غير " نعتاً لمعرفة ؛ لأنها قد أضيفت إلى اسم فيه ألف ولام، وليس بمصمودٍ له ولا الأوّل أيضا بمصمود له، وهي في الكلام بمنزلة قولك : لا أمرّ إلا بالصادق غيرِ الكاذب ؛ كأنك تريد بمن يصدق ولا يكذب. ولا يجوز أن تقول : مررت بعبد الله غيرِ الظريفِ إلا على التكرير ؛ لأن عبد الله مُوَقّت، و " غير " في مذهبِ نكرةٍ غير موقتة، ولا تكون نعتا إلا لمعرفة غير موقتة. والنصب جائز في " غير " تجعله قطعا من " عليهم ". وقد يجوز أن تجعل " الذين " قبلها في موضع توقيت، وتخفض " غيرِ " على التكرير : " صراط غيرِ المغضوب عليهم ".
وأما قوله تعالى :﴿ وَلاَ الضَّالِّينَ... ﴾
فإن معنى " غير " معنى " لا " فلذلك رُدّت عليها " ولا ". هذا كما تقول : فلان غير محسن ولا مُجْمِل ؛ فإِذا كانت " غير " بمعنى سوى لم يجز أن تُكَرَّ عليها " لا " ؛ ألا ترى أنه لا يجوز : عندي سوى عبد الله ولا زيد.
وقد قال بعض من لا يعرف العربية : إن معنى " غير " في " الحمد " معنى " سوى "، وإن " لا " صلة في الكلام، واحتجَّ بقول الشاعر :
*** في بئرِ لا حُورٍ سَرَى وما شَعَرْ ***
وهذا [ غير ] جائز ؛ لأن المعنى وقع على ما لا يتبين فيه عمله، فهو جَحْد محض. وإنما يجوز أن تجعل " لا " صلة إذا اتصلت بَجحْد قبلها ؛ مثل قوله :
ما كان يرضى رسولُ اللهِ دينَهم | والطيِّبان أبو بكر ولا عمرُ |