تفسير سورة الفاتحة

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

باب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة


قال أصحابنا جميعاً رحمهم الله : يقرأ بفاتحة الكتاب وسورة في كل ركعة من الأوليين، فإن ترك قراءة فاتحة الكتاب وقرأ غيرها فقد أساء، وتُجزيه صلاتُه. وقال مالك بن أنس : إذا لم يقرأ أمَّ القرآن في الركعتين أعاد. وقال الشافعي : أقلُّ ما يُجزي فاتحةُ الكتاب، فإن ترك منها حرفاً وخرج من الصلاة أعاد.
قال أبو بكر : روى الأعمش عن خيثمة عن عباد بن ربعي، قال : قال عمر : لا تُجزي صلاةٌ لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وآيتين فصاعداً.
وروى ابن علية عن الجريري عن ابن بريدة عن عمران بن حصين، قال : لا تُجزي صلاةٌ لا يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب وآيتين فصاعداً.
وروى معمر عن أيوب عن أبي العالية، قال : سألت ابن عباس عن القراءة في كل ركعة، قال : اقرأ منه ما قل أو كثر وليس من القرآن شيء قليل.
ورُوي عن الحسن وإبراهيم والشعبي أنّ من نسي قراءة فاتحة الكتاب وقرأ غيرها لم يُضِره، وتجزيه.
وروى وكيع عن جرير بن حازم عن الوليد بن يحيى أن جابر بن زيد قام يصلي ذات يوم فقرأ ﴿ مُدهامَّتان ﴾ [ الرحمن : ٦٤ ] ثم ركع.
قال أبو بكر : وما رُوي عن عمر وعمران بن حصين في أنها لا تُجزي إلا بفاتحة الكتاب وآيتين محمولٌ على جواز التمام لا على نفي الأصل ؛ إذ لا خلاف بين الفقهاء في جوازها بقراءة فاتحة الكتاب وحدها. والدليل على جوازها مع ترك الفاتحة، وإن كان مسيئاً، قولُه تعالى :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ] ومعناه قراءة الفجر في صلاة الفجر، لاتفاق المسلمين على أنه لا فرض عليه في القراءة وقت صلاة الفجر إلا في الصلاة ؛ والأمرُ على الإيجاب حتى تقوم دلالة الندب، فاقتضى الظاهر جوازها بما قرأ فيها من شيء، إذ ليس فيه تخصيص لشيء منه دون غيره ويدل عليه أيضاً قوله تعالى :﴿ فاقرؤُوا ما تيسر من القرآن ﴾ [ المزمل : ٢٠ ] والمراد به القراءة في الصلاة بدلالة قوله تعالى :﴿ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ﴾ [ المزمل : ٢٠ ] إلى قوله ﴿ فاقرؤوا ما تيسر من القرآن ﴾ [ المزمل : ٢٠ ] ولم تختلف الأمة أن ذلك في شأن الصلاة في الليل.
وقوله تعالى ﴿ فاقرؤوا ما تيسر من القرآن ﴾ عمومٌ عندنا في صلاة الليل وغيرها من النوافل والفرائض لعموم اللفظ. ويدل على أن المراد به جميعُ الصلاة من فرض ونفل حديثُ أبي هريرة ورفاعة بن رافع في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي الصلاة حين لم يحسنها فقال له :" ثم اقرأ ما تيسر من القرآن ". وأمْرُه بذلك عندنا إنما صدر عن القرآن، لأنا متى وجدنا للنبي صلى الله عليه وسلم أمرا يواطئ حكماً مذكوراً في القرآن وجب أن يُحكم بأنه إنما حكم بذلك عن القرآن، كقطعه السارق وجلده الزانيَ ونحوها. ثم لم يخصص نفلاً من فرض فثبت أن مراد الآية عامٌ في الجميع.
فهذا الخبر يدل على جوازها بغير فاتحة الكتاب من وجهين : أحدهما دلالته على أن مراد الآية عامٌ في جميع الصلوات، والثاني أنه مستقلٌ بنفسه في جوازها بغيرها. وعلى أن نزول الآية في شأن صلاة الليل لو لم يعاضده الخبر لم يمنع لزوم حكمها في غيرها من الفرائض والنوافل من وجهين :
أحدهما أنه إذا ثبت ذلك في صلاة الليل فسائر الصلوات مثلها، بدلالة أن الفَرض والنفل لا يختلفان في حكم القراءة، وأنَّ ما جاز في النفل جاز في الفرض مثله، كما لا يختلفان في الركوع والسجود وسائر أركان الصلاة.
فإن قال قائل : هما مختلفان عندك لأن القراءة في الأخريين غير واجبة عندك في الفرض، وهي واجبة في النفل إذا صلاها. قيل له : هذا يدل على أن النفل آكدُ في حكم القراءة من الفرض ؛ فإذا جاز النفل مع ترك فاتحة الكتاب فالفرض أحرى أن يجوز.
والوجه الآخر أن أحداً لم يفرِّق بينهما، ومن أوجبَ فرضَ قراءة فاتحة الكتاب في أحدهما أوجبها في الآخر، ومن أسقط فرضها في أحدهما أسقطه في الآخر. فلما ثبت عندنا بظاهر الآية جوازُ النفل بغيرها وجب أن يكون كذلك حكم الفرض.
فإن قال قائل : فما الدلالةُ على جواز تركها بالآية ؟ قيل له : لأن قوله :﴿ فاقرؤوا ما تيسر من القرآن ﴾ يقتضي التخيير، وهو بمنزلة قوله : اقرأ ما شئت. ألا ترى أن من قال لرجل : بعْ عبدي هذا بما تيسر، أنه مخيّر له في بيعه له بما رأى. وإذا ثبت أن الآية تقتضي التخيير لم يجز لنا إسقاطه والاقتصارُ على شيء معين وهو فاتحة الكتاب، لأن فيه نسخ ما اقتضته الآية من التخيير.
فإن قال قائل : هو بمنزلة قوله :﴿ فما استيسر من الهَدي ﴾ [ البقرة : ١٩٦ ] ووجوب الاقتصار به على الإبل والبقر والغنم مع وقوع الاسم على غيرها من سائر ما يُهدى ويتصدق به فلم يكن فيه نسخ الآية. قيل له : إن خياره باق في ذبحه أيّها شاء من الأصناف الثلاثة، فلم يكن فيه رفعُ حكمها من التخيير ولا نسخُه وإنما فيه التخصيص. ونظير ذلك ما لو ورد أثرٌ في قراءة آية دون ما هو أقل منها لم يلزم منه نسخ الآية، لأن خياره باق في أن يقرأ أيَّما شاء من آي القرآن.
فإن قال قائل : قوله :﴿ فاقرؤوا ما تيسر من القرآن ﴾ يستعمل فيما عدا فاتحة الكتاب، فلا يكون فيه نَسْخٌ لها. قيل له : لا يجوز أن تكون عبادةٌ إلا وهي من أركانها التي لا تصح إلا بها. الثاني أن ظاهره يقتضي التخيير في جميع ما يقرأ في الصلاة، فلا يجوز تخصيصه في بعض ما يقرأ فيها دون غيرها. الثالث أن قوله :﴿ فاقرؤوا ما تيسر ﴾ أمرٌ، وحقيقتهُ ومقتضاه الواجب ؛ فلا يجوز صرفُه إلى النَّدب من القراءة دون الواجب منها.
ومما يدل على ما ذكرنا من جهة الأثر ما حدثنا محمد بن بكر، قال : حدثنا أبو داود، قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل، حدثنا حماد عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن علي بن يحيى بن خلاد عن عمر، أن رجلاً دخل المسجد فصلّى، ثم جاء فسلم على النبي عليه السلام، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، وقال له :" ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِ " فرجع الرجل فصلى كما كان يصلي. ثم جاء إلى النبي عليه السلام، فرد عليه، ثم قال له :" ارجعْ فصلِّ فإنك لم تصلِّ " حتى فعل ذلك ثلاث مرات فقال عليه السلام :" إنه لا تتم صلاةُ أحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه، ثم يكبِّر ويحمد الله تعالى ويُثني عليه، ويقرأ بما شاء من القرآن، ثم يقول : الله أكبر، ثم يركع حتى تطمئن مفاصله " وذكر الحديث.
وحدثنا محمد بن بكر، قال : حدثنا أبو داود، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يحيى بن سعيد عن عبدالله، قال : حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة، أن رجلاً دخل المسجد فصلى، ثم جاء فسلّم، وذكر نحوه، ثم قال :" إذا قمتَ إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن، ثم اركع " وذكر الحديث.
قال أبو بكر : قال في الحديث الأول :" ثم اقرأ ما شئت " وفي الثاني :" ما تيسّر " فخيره في القراءة بما شاء. ولو كانت قراءة فاتحة الكتاب فرضاً لعلَّمه إياها مع علمه بجهل الرجل بأحكام الصلاة، إذ غير جائز الاقتصار في تعليم الجاهل على بعض فروض الصلاة دون بعض، فثبت بذلك أن قراءتها ليست بفرض. وحدثنا عبد الباقي بن قانع، حدثنا أحمد بن علي الحزار، قال : حدثنا عامر بن سيّار، قال : حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عثمان، حدثنا سفيان عن أبي نضرة عن أبي سعيد، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا صلاة إلا بقراءة يقرأ فيها فاتحة الكتاب أو غيرها من القرآن ".
وقد حدثنا محمد بن بكر، قال : حدثنا أبو داود، قال : حدثنا وهب بن بقية عن خلد عن محمد بن عمرو عن علي بن يحيى بن خلاد عن رفاعة بن رافع بهذه القصة، قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبِّر ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ " وذكر تمام الحديث، فذكر فيه قراءة أم القرآن وغيرها، وهذا غيرُ مخالف للأخبار الأُخر، لأنه محمولٌ على أنه يقرأ بها إن تيسر، إذ غير جائز حملهُ على تعيين الفرض فيها لما فيه من نسخ التخيير المذكور في غيره ؛ ومعلوم أن أحد الخبرين غير منسوخ بالآخر إذ كانا في قصة واحدة.
فإن قال قائل : لما ذكر في أحد الخبرين التخييرَ فيما يقرأ، وذكر في الآخر الأمر بقراءة فاتحة الكتاب من غير تخيير، وأثبت التخيير فيما عداها بقوله :" وبما شاء الله أن تقرأ " بعد فاتحة الكتاب، ثبت بذلك أن التخيير المذكور في الأخبار الأخر إنما هو فيما عدا فاتحة الكتاب، وأن ترك ذكر فاتحة الكتاب إنما هو إغفالٌ من بعض الرواة، ولأن في خبرنا زيادة وهو الأمر بقراءة فاتحة الكتاب بلا تخيير.
قيل له : غيرُ جائز حملُ الخبر الذي فيه التخيير مطلقاً على الخبر المذكور فيه فاتحة الكتاب على ما ادعيت، لإمكان استعمالهما من غير تخصيص، بل الواجب أن نقول : التخييرُ المذكور في الخبر المطلق حكمه ثابتٌ في الخبر المقيد بذكر فاتحة الكتاب، فيكون التخيير عاماً في فاتحة الكتاب وغيرها، كأنه قال : اقرأ بأم القرآن إن شئت وبما سواها ؛ فيكون في ذلك استعمالُ زيادة التخيير في فاتحة الكتاب، دون تخصيصه في بعض القراءة دون بعض.
ويدل عليه أيضاً ما حدثنا محمد بن بكر، قال : حدثنا أبو داود، قال : حدثنا إبراهيم بن موسى، قال : حدثنا عيسى عن جعفر بن ميمون البصري، قال : حدثنا أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة : قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اخرج فنادِ في المدينة أنه لا صلاة إلا بقرآن، ولو بفاتحة الكتاب فما زاد ". وقوله :" لا صلاة إلا بالقرآن " يقتضي جوازها بما قرأ به من شيء. وقوله :" ولو بفاتحة الكتاب فما زاد ". يدل أيضاً على جوازها بغيرها، لأنه لو كان فرض القراءة متعيناً بها لما قال :" ولو بفاتحة الكتاب فما زاد " ولقال : بفاتحة الكتاب.
ومما يدل على ما ذكرنا حديثُ ابن عيينة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أيّما صلاة لم يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خِدَاج " ورواه مالك وابن جريج عن العلاء عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، واختلافهما في السند على هذا الوجه لا يوهنه، لأنه قد روي أنه قد سمع من أبيه ومن أبي السائب جميعاً. فلما قال :" فهي خِدَاج " والخِدَاج الناقصة، دلَّ ذلك على جوازها مع النقصان، لأنه لو لم تكن جائزة لما أطلق عليها اسم النقصان، لأن إثباتها ناقصة ينفي بطلانها ؛ إذ لا يجوز الوصف بالنقصان لما لم يثبت منه شيء. ألا ترى أنه لا يقال للناقة إذا حالت فلم تحمل أنها قد أخْدَجَت، وإنما يقال : أخدجت وخَدَجَتْ، إذا ألقت ولدها ناقِصَ الخلقة أو وضعته لغير تمامٍ في مدة الحمل. فأما ما لم تحمل فلا توصف بالخِداج. فثبت بذلك جواز الصلاة بغير فاتحة الكتاب، إذ النقصان غير نافٍ للأصل، بل يقتضي ثبوت الأصل حتى يصح وصفها بالنقصان.
وقد روى أيضاً عباد بن عبدالله بن الزبير عن عائشة عن النبي عليه السلام، قال :" كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فيه خِداج " فأثبتها ناقصةً، وإثباتُ النقصان يوجب ثبوت الأصل على ما وصفنا. وقد رُوي أيضاً عن النبي عليه السلام :" إن الرجل ليصلي الصلاة يكتب له نصفُها خمسُها عشرُها " فلم يبطل جزء بنقصانها.
فإن ق

باب القول في ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾


قال أبو بكر : الكلام فيها من وجوه : أحدها : معنى الضمير الذي فيها. والثاني : هل هي من القرآن في افتتاحه ؟ والثالث : هل هي من الفاتحة أم لا ؟ والرابع : هل هي من أوائل السور ؟ والخامس : هل هي آية تامة أم ليست بآية تامة ؟ والسادس : قراءتها في الصلاة. والسابع : تكرارها في أوائل السور في الصلاة. والثامن : الجهر بها. والتاسع : ذكر ما في مضمرها من الفوائد وكثرة المعاني.
فنقول : إن فيها ضمير فعل لا يستغني الكلام عنه ؛ لأن الباء مع سائر حروف الجر لا بد أن يتصل بفعل إما مظهر مذكور، وإما مضمر محذوف، والضمير في هذا الموضع ينقسم إلى معنيين : خبر وأمر، فإذا كان الضمير خبرا كان معناه : أبدأ بسم الله، فحذف هذا الخبر وأضمر ؛ لأن القارئ مبتدئ، فالحال المشاهدة منبئة عنه، مغنية عن ذكره، وإذا كان أمرا كان معناه : ابدءوا بسم الله، واحتماله لكل واحد من المعنيين على وجه واحد. وفي نسق تلاوة السورة دلالة على أنه أمر، وهو قوله تعالى :﴿ إياك نعبد ﴾. ومعناه : قولوا إياك، كذلك ابتداء الخطاب في معنى قوله :﴿ بسم الله ﴾. وقد ورد الأمر بذلك في مواضع من القرآن مصرحا وهو قوله تعالى :﴿ اقرأ باسم ربك ﴾ فأمر في افتتاح القراءة بالتسمية كما أمر أمام القراءة بتقديم الاستعاذة، وهو إذا كان خبرا فإنه يتضمن معنى الأمر ؛ لأنه لما كان معلوما أنه خبر من الله بأنه يبدأ باسم الله ففيه أمر لنا بالابتداء به والتبرك بافتتاحه ؛ لأنه إنما أخبرنا به لنفعل مثله، ولا يبعد أن يكون الضمير لهما جميعا، فيكون الخبر والأمر جميعا مرادين، لاحتمال اللفظ لهما فإن قال قائل : لو صرح بذكر الخبر لم يجز أن يريد به المعنيين جميعا من الأمر والخبر، كذلك يجب أن يكون حكم الضمير في انتفاء إرادة الأمرين، قيل له : إذا أظهر صيغة الخبر امتنع أن يريدهما لاستحالة كون لفظ واحد أمرا وخبرا في حال واحد ؛ لأنه متى أراد بالخبر الأمر كان اللفظ مجازا، وإذا أراد به حقيقة الخبر كان حقيقة، وغير جائز أن يكون اللفظ الواحد مجازا حقيقة، لأن الحقيقة هي اللفظ المستعمل في موضعه، والمجاز ما عدل به عن موضعه إلى غيره، ويستحيل كونه مستعملا في موضعه ومعدولا به عنه في حال واحد ؛ فلذلك امتنع إرادة الخبر والأمر بلفظ واحد، وأما الضمير فغير مذكور، وإنما هو متعلق بالإرادة ولا يستحيل إرادتهما معا عند احتمال اللفظ لإضمار كل واحد منهما، فيكون معناه حينئذ : أبدأ بسم الله على معنى الخبر، وابدءوا أنتم أيضا به اقتداء بفعلي وتبركا به.
غير أن جواز إرادتهما لا يوجب عند الإطلاق إثباتهما إلا بدلالة ؛ إذ ليس هو عموم لفظ مستعمل على مقتضاه وموجبه. وإنما الذي يلزم حكم اللفظ إثبات ضمير محتمل لكل واحد من الوجهين. وتعيينه في أحدهما موقوف على الدلالة.
كذلك قولنا في نظائره نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ﴾ لأن الحكم لما تعلق بضمير يحتمل رفع الحكم رأسا ويحتمل المأثم لم يمتنع إرادة الأمرين بأن لا يلزمه شيء، ولا مأثم عليه عند الله لاحتمال اللفظ لهما وجواز إرادتهما، إلا أنه مع ذلك ليس بعموم لفظ فينتظمهما، فاحتجنا في إثبات المراد إلى دلالة من غيره، وليس يمتنع قيام الدلالة على إرادة أحدهما بعينه أو إرادتهما جميعا. وقد يجيء من الضمير المحتمل لأمرين ما لا يصح إرادتهما معا، نحو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ﴿ : إنما الأعمال بالنيات ﴾. معلوم أن حكمه متعلق بضمير يحتمل جواز العمل ويحتمل أفضليته فمتى أراد الجواز امتنعت إرادة الأفضلية ؛ لأن إرادة الجواز تنفي ثبوت حكمه مع عدم النية، وإرادة الأفضلية تقتضي إثبات حكم شيء منه لا محالة مع إثبات النقصان فيه ونفي الأفضلية، ويستحيل أن يريد نفي الأصل ونفي الكمال الموجب للنقصان في حال واحد. وهذا مما لا يصح فيه إرادة المعنيين من نفي الأصل وإثبات النقص، ولا يصح قيام الدلالة على إرادتهما.
قال أبو بكر : وإذا ثبت اقتضاؤه لمعنى الأمر انقسم ذلك إلى فرض ونفل فالفرض هو ذكر الله عند افتتاح الصلاة في قوله تعالى :﴿ قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى ﴾ فجعله مصليا عقيب الذكر، فدل على أنه أراد ذكر التحريمة وقال تعالى :﴿ واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ﴾. قيل إن المراد به ذكر الافتتاح.
روي عن الزهري في قوله تعالى :﴿ وألزمهم كلمة التقوى ﴾ قال : هي ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ ؛ وكذلك هو في الذبيحة فرض، وقد أكده بقوله :﴿ فاذكروا اسم الله عليها صواف ﴾ وقوله :﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ﴾. وهو في الطهارة والأكل والشرب وابتداء الأمور نفل. فإن قال قائل هلا أوجبتم التسمية على الوضوء بمقتضى الظاهر لعدم الدلالة على خصوصه مع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :﴿ لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ﴾ قيل له : الضمير ليس بظاهر، فيعتبر عمومه، وإنما ثبت منه ما قامت الدلالة عليه ؛ وقوله " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " على جهة نفي الفضيلة لدلائل قامت عليه.

باب القول في أنها من القرآن


قال أبو بكر : لا خلاف بين المسلمين أن ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ من القرآن في قوله تعالى :﴿ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ﴾. وروي ﴿ أن جبريل عليه السلام أول ما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن قال له : اقرأ قال : ما أنا بقارئ قال له :{ اقرأ باسم ربك الذي خلق ﴾ }. وروى أبو قطن عن المسعودي عن الحارث العكلي أن النبي عليه السلام كتب في أوائل الكتب : باسمك اللهم، حتى نزل ﴿ بسم الله مجراها ومرساها ﴾ فكتب : بسم الله، ثم نزل قوله تعالى :﴿ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ﴾ فكتب فوقه : الرحمن، فنزلت قصة سليمان فكتبها حينئذ. ومما سمعنا في سنن أبي داود، قال : قال الشعبي ومالك وقتادة وثابت { إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ حتى نزلت سورة النمل. } { وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد أن يكتب بينه وبين سهيل بن عمرو كتاب الهدنة بالحديبية قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : اكتب ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ فقال له سهيل : باسمك اللهم، فإنا لا نعرف الرحمن ! إلى أن سمح بها بعد. فهذا يدل على أن ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ لم يكن من القرآن، ثم أنزلها الله تعالى في سورة النمل.
القول في أنها من فاتحة الكتاب
قال أبو بكر : ثم اختلف في أنها من فاتحة الكتاب أم لا ؛ فعدها قراء الكوفيين آية منها ولم يعدها قراء البصريين وليس عن أصحابنا رواية منصوصة في أنها آية منها، إلا أن شيخنا أبا الحسن الكرخي حكى مذهبهم في ترك الجهر بها، وهذا يدل على أنها ليست منها عندهم لأنها لو كانت آية منها عندهم لجهر بها كما جهر بسائر آي السور. قال الشافعي : هي آية منها، وإن تركها أعاد الصلاة، وتصحيح أحد هذين القولين موقوف على الجهر والإخفاء، على ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
القول في هل هي من أوائل السور
قال أبو بكر : ثم اختلف في أنها آية من أوائل السور أو ليست بآية منها، على ما ذكرنا من مذهب أصحابنا أنها ليست بآية من أوائل السور لترك الجهر بها ولأنها إذا لم تكن من فاتحة الكتاب فكذلك حكمها في غيرها ؛ إذ ليس من قول أحد أنها ليست من فاتحة الكتاب وأنها من أوائل السور. وزعم الشافعي أنها آية من كل سورة، وما سبقه إلى هذا القول أحد لأن الخلاف بين السلف إنما هو في أنها آية من فاتحة الكتاب أو ليست بآية منها، ولم يعدها أحد آية من سائر السور. ومن الدليل على أنها ليست من فاتحة الكتاب حديث سفيان بن عيينة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :﴿ قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل فإذا قال :{ الحمد لله رب العالمين ﴾ قال الله : حمدني عبدي، وإذا قال :﴿ الرحمن الرحيم ﴾ قال : مجدني عبدي أو أثنى علي عبدي، وإذا قال :﴿ مالك يوم الدين ﴾ قال : فوض إلي عبدي، وإذا قال :﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ قال : هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فيقول عبدي :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ إلى آخرها، قال : لعبدي ما سأل } فلو كانت من فاتحة الكتاب لذكرها فيما ذكر من آي السورة، فدل ذلك على أنها ليست منها. ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عبر بالصلاة عن قراءة فاتحة الكتاب وجعلها نصفين، فانتفى بذلك أن تكون ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ آية منها من وجهين : أحدهما : أنه لم يذكرها في القسمة ؛ الثاني أنها لو صارت في القسمة لما كانت نصفين، بل كان يكون ما لله فيها أكثر مما للعبد لأن ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ ثناء على الله تعالى لا شيء للعبد فيه فإن قال قائل : إنما لم يذكرها لأنه قد ذكر الرحمن الرحيم في أضعاف السورة، قيل له : هذا خطأ من وجهين : أحدهما : أنه إذا كانت آية غيرها فلا بد من ذكرها، ولو جاز ما ذكرت لجاز الاقتصار بالقرآن على ما في السورة منها دونها. ووجه آخر، وهو أن قوله بسم الله فيه ثناء على الله، وهو مع ذلك اسم مختص بالله تعالى لا يسمى به غيره، فالواجب لا محالة أن يكون مذكورا في القسمة ؛ إذ لم يتقدم له ذكر فيما قسم من آي السورة وقد روي هذا الخبر على غير هذا الوجه، وهو ما حدثنا به محمد بن بكر، قال : حدثنا أبو داود، قال : حدثنا القعنبي عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ قال الله : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل يقول العبد :{ الحمد لله رب العالمين ﴾ فيقول الله : حمدني عبدي، فيقول :﴿ الرحمن الرحيم ﴾ يقول الله : أثنى علي عبدي، يقول العبد :﴿ مالك يوم الدين ﴾ يقول الله : مجدني عبدي، وهذه الآية بيني وبين عبدي، يقول العبد :﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ يقول الله : فهذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل } فذكر في هذا الحديث في ﴿ مالك يوم الدين ﴾ أنه بيني وبين عبدي نصفين هذا غلط من راويه ؛ لأن قوله تعالى :﴿ مالك يوم الدين ﴾ ثناء خالص لله تعالى لا شيء للعبد فيه كقوله :﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾. وإنما جعل قوله :﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ بينه وبين العبد لما انتظم من الثناء على الله تعالى ومن مسألة العبد. ألا ترى أن سائر الآي بعدها من قوله تعالى :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ جعلها للعبد خاصة ؛ إذ ليس فيه ثناء على الله، وإنما هو مسألة من العبد لما ذكر ومن جهة أخرى أن قوله :﴿ مالك يوم الدين ﴾ لو كان بينه وبين العبد، وكذلك قوله :﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ لما كان نصفين على قول من يعد ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ آية بل كان يكون لله تعالى أربع وللعبد ثلاث.
ومما يدل على أن البسملة ليست من أوائل السور وإنما هي للفصل بينها ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود، قال : حدثنا عمرو بن عون، قال : أخبرنا هشيم عن عوف الأعرابي عن يزيد القاري، قال : سمعت ابن عباس رضي الله عنهما قال : قلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه : ما حملكم عل
Icon