تفسير سورة الفاتحة

آراء ابن حزم الظاهري في التفسير
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب آراء ابن حزم الظاهري في التفسير .
لمؤلفه ابن حزم . المتوفي سنة 456 هـ
[ ١ ] : مسألة : في تحقيق المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه في إنكاره كون الفاتحة، والمعوذتين من القرآن.
قال ابن حزم :
كل ما روي عن ابن مسعود : من أن المعوذتين، وأم القرآن لم تكن في مصحفه ؛ فكذب موضوع لا يصح ؛ وإنما صحت عنه قراءة عاصم١، عن زر بن حبيش٢، عن ابن مسعود، وفيها أم القرآن، والمعوذتان٣ ٤.
الاستعاذة
وفيها مسألتان :
[ ٢ ] : المسألة الأولى : في حكم الاستعاذة.
ومذهب ابن حزم : أنها فرض عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها.
قال ابن حزم :
وفرض على كل مصل أن يقول إذا قرأ : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " لا بد له في كل ركعة من ذلك لقول الله تعالى :﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ﴾٥
ومن الخطأ أن يأمر الله تعالى بأمر ثم يقول قائل بغير برهان من قرآن، ولا سنة : هذا الأمر ليس فرضا، لاسيما أمره تعالى بالدعاء في أن يعيذنا من كيد الشيطان ؛ فهذا أمر متيقن : أنه فرض ؛ لأن اجتناب الشيطان، والفرار منه ؛ وطلب النجاة منه : لا يختلف اثنان في أنه فرض، ثم وضع الله تعالى ذلك علينا عند قراءة القرآن.
قال ابن حزم : فلم يبق إلا قول من أوجب التعوذ : فرضا، في قراءة القرآن في الصلاة وغير الصلاة، على عموم الآية المذكورة.
١ حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، ثنا أحمد بن عون الله، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عاصم العنزي عن ابن جبير بن مطعم، عن أبيه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الصلاة قال : " الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيرا، ثلاثا، الحمد لله كثيرا، الحمد لله كثيرا، الحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان، من همزه، ونفخه ونفثه " ٦
٢ حدثنا حمام، ثنا ابن مفرج، ثنا ابن الأعرابي، ثنا الدبري، ثنا عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن سعيد الجريري، ثنا يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن عثمان بن أبي العاص الثقفي قال : قلت : يا رسول الله حال الشيطان بيني وبين قراءتي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ذلك شيطان يقال له : خنزب ؛ فإذا حسسته فتعوذ واتفل عن يسارك ثلاثا " ٧.
٣ وعن ابن جريج، عن عطاء قال : الاستعاذة واجبة لكل قراءة في الأرض في الصلاة وغيرها ويجزئ عنك، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
قال ابن جريج : فقلت له : من أجل :﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ﴾ قال : نعم٨ ٩.
[ ٣ ] : المسألة الثانية : في محل الاستعاذة من القراءة.
ومذهب ابن حزم أنها تكون قبل القراءة.
قال ابن حزم :
روينا من طريق معمر : عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين : أنه كان يتعوذ من الشيطان في الصلاة قبل أن يقرأ أم القرآن، وبعد أن يقرأ أم القرآن١٠.
قال ابن حزم : ومن قال بقول بن سيرين وأخذ به فيرى التعوذ سنة قبل افتتاح القراءة ؛ لأنه فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقل القراء جيلا بعد جيل، وفرضا بعد أن يقرأ ما يقع عليه اسم القرآن، ولو أنه كلمتان، على نص الآية ؛ لأنها توجب التعوذ بعد القراءة بظاهرها.
قال ابن حزم : إلا أنه قد صح إجماع جميع قراء أهل الإسلام جيلا بعد جيل على الابتداء بالتعوذ متصلا بالقراءة قبل الأخذ في القراءة، مبلغا إلينا من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا قاض على كل ذلك. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا توضأ أحدكم فليستنثر " ١١
وصح أنه عليه السلام استنثر في أول وضوئه١٢ وبالله تعالى التوفيق١٣.
١ هو عاصم بن بهدلة وهو ابن النجود الأسدي، مولاهم الكوفي، أبو بكر المقرئ صدوق، له أوهام، حجة في القراءة وحديثه في الصحيحين مقرون روى له الجماعة، مات سنة ١٢٨هـ التقريب (٣٦٥/١).
٢ هو زر بن حبيش بن حباشة، الأسدي الكوفي أبو مريم، ثقة، جليل، مخضرم روى له الجماعة مات سنة ٨١ أو٨٢أو٨٣هـ التقريب (٢٥٤/١).
٣ انظر المبسوط في القراءات العشر (٤٨).
٤ المحلى (٣٢/١).
٥ النحل: ٩٨.
٦ رجال الإسناد:
*محمد بن سعيد بن نبات بن محمد بن عمر بن سعيد بن نبات الأموي: من أهل قرطبة يكنى أبا عبد الله، روى عن أبي جعفر بن عون الله وكان معتنيا بالآثار جامعا للسنن، ثقة في روايته، ضابطا لكتبه، توفي سنة ٤٢٩هـ انظر: بغية الملتمس (٦٨) والصلة لابن بشكوال (٤٢٩/٢)
*أحمد بن عون الله بن حدير بن يحيى القرطبي، البزاز، سمع من قاسم ابن أصبغ وجماعة كان شيخا صدوقا صالحا صارما في السنة متشددا على أهل البدع توفي سنة ٣٧٨هـ انظر: تاريخ علماء الأندلس (٥٥) بغية الملتمس(٦٩) سير أعلام النبلاء (٣٩٠/ ١٦)
* قاسم ابن أصبغ بن محمد بن يوسف بن ناصح، أبو محمد القرطبي سمع من أبي عبد الله الخشني، أثنى عليه غير واحد، وانتهى إليه علو الإسناد في الأندلس، توفي سنة ٣٤٠هـ انظر: تاريخ علماء الأندلس (٢٨٦) بغية الملتمس (٣٩٠) سير أعلام النبلاء (٤٧٢/١٥)
* محمد بن بشار بن عثمان العبدي، البصري، أبو بكر، بندار، ثقة، روى له الجماعة، مات سنة ٢٥٢هـ وله بضع وثمانون سنة التقريب (١٥٦/٢)
* محمد بن جعفر المدني البصري، المعروف، بغندر ثقة صحيح الكتاب، إلا أن فيه غفلة، روى له الجماعة، مات سنة ٢٩٣أو ٢٩٤هـ التقريب (١٦٠/٢)
* شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي مولاهم أبو بسطام الواسطي، ثم البصري، ثقة حافظ متقن كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال، وذب عن السنة، وكان عابدا، روى له الجماعة مات سنة ١٦٠هـ التقريب (٣٣٨/١)
* عمرو بن مرة بن عبد الله بن طارق، الجملي، المرادي، أبو عبد الله الكوفي، الأعمى ثقة عابد، كان لا يدلس، ورمي بالإرجاء، روى له الجماعة، مات سنة ١١٨هـ وقيل قبلها التقريب (٨٤/١)
* عاصم بن عمير، هو ابن أبي عمرة العنزي، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن حجر: مقبول الثقات لابن حبان (٢٥٦/٧) التقريب (١/٣٦٧)
* نافع بن جبير بن مطعم النوفلي، أبو محمد، أو أبو عبد الله، المدني، ثقة فاضل، روى له الجماعة مات سنة ٩٩هـ التقريب (٣٠٠/٢)
* جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي، النوفلي صحابي عارف بالأنساب، روى له الجماعة، مات سنة ٥٨ أو ٥٩ هـ التقريب (١٣٠/١)
تخريج الحديث: أخرجه الإمام أحمد في مسنده، حديث (١٦٧١٥) (١١٥/٤)، وحديث (١٦٧٣٧) (١١٨/٤) وحديث (١٦٧٦١) (١٢١/٤) وأبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، حديث (٧٦٤) وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة باب الاستعاذة في الصلاة، حديث (٨٠٧) وابن حبان في صحيحه (٧٨/٥) والطبراني في الكبير (١٣٤/٢) والحاكم في المستدرك (٣٦٠/١) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" والبيهقي في السنن الكبرى (٣٥/ ٢) جميعهم من طريق عمرو بن مرة، عن عاصم به. وعاصم العنزي لم يوثقه إلا ابن حبان، وقال الألباني: مجهول أ هـ وقد ضعف الحديث به: البخاري في التاربخ الكبير (٤٨٨/٦) والألباني في الإرواء (٥٤/٢ـ ٥٥) وله شاهد من حديث أبي أمامة أخرجه الإمام أحمد في مسنده، حديث (٢٢١٧٤) (٣١٨/٥) وفيه راو لم يسم..

٧ رجال الإسناد:
* حمام ابن أحمد بن عبد الله بن محمد بن أكدر بن حمام، الأطروش، من أهل قرطبة، يكنى أبا بكر، قال فيه ابن حزم: "كان واحد عصره في البلاغة، وفي سعة الرواية، ضابطا لما قيده" روى عن ابن مفرج، وروى عنه ابن حزم، توفي سنة ٤٢١هـ انظر: جذوة المقتبس (١٨٧) والصلة لابن بشكوال (١٥٣/١) وبغية الملتمس (٢٦٣)
* ابن مفرج: هو محمد بن أحمد بن محمد بن يحيى بن مفرج الأموي، مولاهم القرطبي، يكنى أبا عبد الله، وقيل: أبا بكر، سمع أبا سعيد بن الأعرابي وقال عنه بن الفرضي: "كان حافظا للحديث، عالما به بصيرا بالرجال، صحيح النقل، جيد الكتاب على كثرة ما جمع" توفي سنة ٣٠٨هـ
انظر: تاريخ علماء الأندلس (٣٦٧)، جذوة المقتبس (٣٨) بغية الملتمس (٤١)، وسير أعلام النبلاء (٣٩٠/١٦)
* أحمد بن محمد بن زياد بن بشر بن درهم، الإمام المحدث القدوة الصادق الحافظ، أبو سعيد الأعرابي البصري الصوفي، نزيل مكة، وشيخ الحرم، حمل "السنن" عن أبي داود، وله في غضون الكتاب، زيادات في المتن والسند، توفي سنة ٣٤٠ هـ انظر: سير أعلام النبلاء (٤٠٧/١٥) ولسان الميزان (٣٠٨/١)
* الدبري: هو إسحاق بن إبراهيم بن عباد الصنعاني، الشيخ العالم المسند الصدوق، أبو يعقوب، رواية عبد الرزاق، سمع تصانيفه منه في سنة ٢١٠ هـ باعتناء أبيه به، وكان حدثا، فإن مولده في سنة ١٩٥هـ، وسماعه صحيح قال ذلك الذهبي توفي سنة ٢٨٥ هـ انظر: سير أعلام النبلاء (٤١٦/١٣) ولسان الميزان (٣٤٩/١)
* عبد الرزاق بن همام بن نافع، الحميري، مولاهم أبو بكر الصنعاني، ثقة حافظ مصنف، شهير عمي في آخر عمره فتغير، وكان يتشيع أخرج له الجماعة، مات سنة ٢١١ هـ التقريب (٤٦٨/١)
* سفيان بن سعيد بن مسروق بن حمزة بن حبيب الثوري، أبو عبد الله من الحافظ المتقنين، والفقهاء في الدين، توفي سنة ١٢٤ هـ انظر: مشاهير علماء الأنصار (١٦٩/١)، تاريخ بغداد (١٥١/٩)
* سعيد بن إياس الجريري، أبو مسعود البصري، ثقة روى له الجماعة، اختلط قبل موته بثلاث سنين، مات سنة ١٤٤هـ التقريب (٢٨٣/١)
* يزيد بن عبد الله بن الشخير، العامري، أبو العلاء البصري ثقة، روى له الجماعة مات سنة ١١١هـ وقيل قبلها، وكان مولده في خلافة عمر، فوهم من زعم أن له رؤية التقريب (٣٧٦/٢)
* عثمان بن أبي العاص الثقفي، الطائفي، أبو عبد الله، صحابي شهير، استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف روى له مسلم، وأو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، ومات في خلافة معاوية بالبصرة التقريب ١٣/٢
تخريج الحديث: أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة حديث (٢٢٠٣) من طريق سعيد الجريري، عن يزيد، به.

٨ رجال الإسناد:
ـ عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكي ثقة فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل، روى له الجماعة مات سنة ١٥٠ هـ أو بعدها وقد جاوز السبعين وقيل جاوز المائة، ولم يثبت التقريب (٤٨٢/١)
ـ عطاء بن أبي رباح، واسم أبي رباح: أسلم القرشي، مولاهم المكي، ثقة فقيه فاضل، لكنه كثير الإرسال روى له الجماعة مات سنة ١١٤هـ على المشهور، وقيل: إنه تغير بآخره، ولم يكن ذلك منه التقريب (٢٧/٢)
تخريج الأثر : أخرجه عبد الرزاق في المصنف (٨٣/٢) عن ابن جريج به وإسناده صحيح.

٩ المحلى (٢٧٨/٢ـ ٢٨١) باختصار.
١٠ رجال الإسناد:
* معمر بن راشد الأزدي مولاهم، أبو عروة البصري، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل إلا أن في روايته عن ثابت، والأعمش وهشام بن عروة شيئا، وكذا فيما حدث به بالبصرة روى له الجماعة مات سنة ١٥٤هـ وهو ابن ثمان وخمسين سنة التقريب (٢٧٠/٢)
* أيوب بن تميمة، كيسان السختياني: أبو بكر البصري، ثقة ثبت حجة، من كبار الفقهاء العباد روى له الجماعة مات سنة ١٣١ هـ وله خمس وستون التقريب (٩٨/١)
* محمد بن سيرين الأنصاري، أبو بكر بن أبي عمرة، البصري، ثقة ثبت عابد، كبير القدر، كان لا يرى الرواية بالمعنى روى له الجماعة مات سنة ١١٠هـ التقريب (١٧٨/٢ـ١٧٩)
تخريج الأثر: أخرجه عبد الرزاق في المصنف (٨٦/٢) عن معمر، به وابن أبي شيبة في المصنف (٢٦٩/١) عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب به وإسناده صحيح.

١١ أخرجه البخاري، في كتاب الوضوء باب الاستنثار في الوضوء، حديث (١٦١) ومسلم في كتاب الطهارة باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار، حديث (٢٣٧).
١٢ انظر: البخاري كتاب الوضوء، باب غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة حديث (١٤٠) ومسلم كتاب الطهارة باب في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم حديث (٢٣٦).
١٣ المحلى (٢٨٠/٢ـ ٢٨١)باختصار.
قوله تعالى :﴿ بسم الله الرحمن الرحيم١ ﴾
[ ٤ ] : مسألة : في البسملة هل هي آية من الفاتحةَ ؟
قال ابن حزم :
من كان يقرأ برواية من عد من القراء ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ آية من [ أم ] ١ القرآن ؛ لم تجزه الصلاة إلا بالبسملة وهم : عاصم بن أبي النجود، وحمزة، والكسائي، وعبد الله بن كثير٢، وغيرهم من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.
ومن كان يقرأ برواية من لا يعدها من أم القرآن : فهو مخير بين أن يبسمل، وبين أن لا يبسمل وهم : ابن عامر، وأبو عمرو، ويعقوب، وفي بعض الروايات عن نافع٣.
وقال مالك : لا يبسمل المصلي إلا في صلاة التراويح في أول ليلة من الشهر
وقال الشافعي : لا تجزئ صلاة إلا ب ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾.
قال ابن حزم : وأكثروا من الاحتجاج بما لا حجة لأي من الطائفتين فيه.
مثل الرواية عن أنس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر، وعثمان، يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ لا قبلها ولا بعدها٤ وعن أبي هريرة مثل هذا٥.
قال ابن حزم : وهذا كله لا حجة فيه، لأنه ليس في شيء من هذه الأخبار نهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قراءة ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ وإنما فيها : أنه عليه السلام كان لا يقرؤها.
وقد عارضت هذه الأخبار أخبار أخر منها :
١ ما روينا من طريق أحمد بن حنبل : حدثنا وكيع، ثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس قال : صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا لا يجهرون ب﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾٦
٢ ورويناه أيضا : فلم يجهروا ب﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾
فهذا يوجب أنهم كانوا يقرءونها ويسرون بها، وهذا أيضا الإيجاب فيه لقراءتها.
وكذلك سائر الأخبار.
قال ابن حزم : والحق من هذا أن النص قد صح بوجوب قراءة أم القرآن فرضا، ولا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أن هذه القراءات حق كلها مقطوع به، مبلغة كلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام، عن الله عز وجل بنقل الملوان٧، فقد وجب إذ كلها حق أن يفعل الإنسان في قراءته أي ذلك شاء ؛ وصارت ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ في قراءة صحيحة آية من أم القرآن، وفي قراءة صحيحة ليست آية من أم القرآن.
مثل لفظة ﴿ هو ﴾ في قوله تعالى في سورة الحديد :﴿ هو الغني الحميد ﴾٨ وكلفظة ﴿ من ﴾ في قوله تعالى :﴿ من تحتها الأنهار ﴾٩ في سورة ( براءة ) على رأس المائة آية هما من السورتين في قراءة من قرأ بهما، وليستا من السورتين في قراءة من لم يقرأ بهما.
ومثل هذا في القرآن وارد في ثمانية مواضع، ذكرناها في كتاب القراءات١٠، وآيات كثيرة وسائر ذلك من الحروف يطول ذكرها. كزيادة ميم ﴿ منها ﴾ في سورة الكهف١١، وفي حم عسق :﴿ فبما كسبت ﴾١٢
وهاءات في مواضع كثيرة في يس :﴿ وما علمناه ﴾١٣، وفي الزخرف :﴿ تشتهيه الأنفس ﴾١٤، و ﴿ لم يتسنه ﴾١٥، وغير ذلك.
والقرآن أنزل على سبعة أحرف، كلها حق، وهذا كله حق، وهذا كله من تلك الأحرف بصحة الإجماع المتيقن على ذلك وبالله تعالى التوفيق١٦.
١ هذه الزيادة ليست في الأصل، وأثبتها بدلالة سياق الكلام الآتي بعدها.
٢ التيسير في القراءات السبع (٢٦) والنشر في القراءات العشر (٢٥٩/١).
٣ (٣) التيسير في القراءات السبع (٢٦) والنشر في القراءات العشر (٢٥٩/١).
٤ أخرجه مسلم في كتاب الصلاة باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة، حديث (٣٩٩).
٥ عن نعيم المجمر قال: صليت وراء أبي هريرة فقرأ ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ ثم قرأ بأم القرآن حتى إذا بلغ ﴿غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾ فقال: آمين فقال الناس: آمين ويقول كلما سجد: الله أكبر وإذا قام من الجلوس في الاثنتين قال: الله أكبر وإذا سلم قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم
أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح باب قراءة ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ حديث (٩٠٤).

٦ رجال الإسناد:
ـ وكيع ابن الجراح بن مليح الرؤاسي أبو سفيان الكوفي، ثقة حافظ عابد، روى له الجماعة مات سنة ١٩٧ هـ التقريب (٣٣٨/٢)
ـ شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي، مولاهم أبو بسطام الواسطي، ثم البصري، ثقة حافظ متقن أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من جرح وعدل، توفي سنة ١٦٠هـ انظر: سير أعلام النبلاء (٢٠٢/٧) التقريب (٣٣٨/١)
ـ قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي، أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت، يقال: ولد أكمه، روى له الجماعة، مات سنة مائة وبضع عشرة التقريب (١٢٩/٢ـ١٣٠)
تخريج الحديث:
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (٤٤٨/١) والإمام أحمد في مسنده، حديث (١٢٨٢٩) (٢٢٦/٣) والدارقطني في سننه (٣١٥/١) وابن عبد البر في الإنصاف (٢١٦ـ ٢١٧) جميعهم من طريق وكيع عن شعبة، عن قتادة، به
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (١/٢٠٣) من طريق الأعمش عن شعبة، به
وأخرجه النسائي في كتاب الافتتاح، باب ترك الجهر بـ ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ حديث (٩٠٦) وابن الجارود في المنتقى (٧١/١) كلاهما من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة به
وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (٢٥٠/١) والطحاوي في شرح معاني الآثار (٢٠٣/١) والطبراني في الكبير (٢٢٨/١) وأبو نعيم في الحلية (١٧٩/٦) جميعهم من طريق الحسن، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر رضي الله عنهم كانوا يسرون ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾
درجة الحديث:
قال الزيلعي في نصب الراية (٤٤٨، ٤٤٥/١) رجال هذه الروايات كلهم ثقات مخرج لهم في الصحيح أ هـ وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (٢٢٢/١).

٧ الملوان: تعاقب الليل والنهار، يقال: لا أفعله ما اختلف الملوان، أي: الليل والنهار مختار الصحاح (٢٦٤/١) لسان العربة (١٩٠/١٣).
٨ الآية: ٢٤ قرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر: ﴿فإن الله الغني الحميد﴾ بغير ﴿هو﴾ وقرأ الباقون: ﴿فإن الله هو الغني الحميد﴾ بزياد ﴿هو﴾ انظر: المبسوط في القراءات العشر (٣٦٣)ةة.
٩ التوبة ١٠٠ قرأ ابن كثير وحده ﴿وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار﴾ بزيادة ﴿من﴾ وقرأ الباقون بغير زيادة ﴿من﴾ المبسوط في القراءات العشر (١٩٦) والتيسير في القراءات السبع (٩٧).
١٠ لم أجدها في الكتاب المذكور.
١١ قرأ أبو جعفر ونافع، وابن كثير، وابن عامر: ﴿لأجدن خيرا منها منقلبا﴾ [الكهف: ٣٦] بزيادة الميم على التثنية، وقرأ الباقون بغير ميم انظر: المبسوط في القراءات العشر (٢٣٥) والتيسير في القراءات السبع (١١٧).
١٢ الآية ٣٠: قرأ أبو جعفر ونافع، وابن عامر: ﴿وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم﴾ بغير فاء، وقرأ الباقون: ﴿فبما كسبت أيديكم﴾ بالفاء انظر: المبسوط في القراءات العشر (٣٣٢) والتيسير في القراءات السبع (١٥٨).
١٣ الآية ٦٩: ولم أقف على القراءات فيها.
١٤ الآية ٧١: قرأ أبو جعفر ونافع، وابن عامر، وحفص، عن عاصم: ﴿وفيها ما تشتهيه الأنفس﴾ بزيادة هاء في آخره وقرأ الباقون ﴿ما تشتهي الأنفس﴾ بغير هاء، انظر : المبسوط في القراءات العشر (٣٣٦)والتيسير في القراءات السبع (١٦٠).
١٥ البقرة: ٢٥٩ قرأ حمزة والكسائي، ويعقوب وخلف: ﴿لم يتسنه﴾ بحذف الهاء في الوصل، وقرأ الباقون بإثبات الهاء إذا وصلوا انظر: المبسوط في القراءات العشر (١٣٣ـ ١٣٤).
١٦ المحلى (٢٨٣/٢ـ ٢٨٥).
قوله تعالى :﴿ مالك يوم الدين٤ ﴾
[ ٥ ] : مسألة : في معنى الدين في الآية واستعمالاته في القرآن واللغة.
يرى ابن حزم أن " الدين " يأتي في اللغة بمعنى، الجزاء وفي القرآن بمعنى الجزاء والشريعة، أما في آية الفاتحة فهو بمعنى : الجزاء.
قال ابن حزم : الدين هو الجزاء في أصول اللغة تقول العرب : كما تدين تدان، وهو في الشريعة واقع على الجزاء أيضا. قال تعالى :﴿ ملك١يوم الدين٤ ﴾٢ أي : يوم الجزاء.
ويقع أيضا على جميع الشرائع قال عز وجل :﴿ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين٨٥ ﴾٣ يريد : شريعة.
وقال تعالى :﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾٤ وقال تعالى :﴿ لكم دينكم ولي دين٦ ﴾٥ ٦.
١ قرأ الجمهور أبو جعفر ونافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة ـ: "ملك" بغير ألف، وقرأ عاصم، والكسائي، ويعقوب، وأبو حاتم، وخلف: "مالك" بالألف انظر المبسوط في القراءات العشر ٨٣ والتيسير في القراءات السبع، لأبي عمرو الداني (٢٧).
٢ الفاتحة: ٣.
٣ آل عمران: ٨٥.
٤ آل عمران: ١٩.
٥ الكافرون ٦.
٦ الدرة فيما يجب اعتقاده (٤٣٢، ٤٣١).
قوله تعالى ﴿ اهدنا الصراط المستقيم٦ ﴾
[ ٦ ] : مسألة : في أنواع الهداية في القرآن
ذكر ابن حزم نوعين من أنواع الهداية في القرآن وهما :
١ هداية الدلالة والبيان.
٢ وهداية التوفيق والإلهام.
قال ابن حزم :
الهدى الذي أعطاه الله تعالى جميع الناس، هو غير الهدى الذي أعطاه بعضهم ومنعه بعضهم فلم يعطهم إياه.
والهدى في اللغة العربية من الأسماء المشتركة التي يقع الاسم منها على مسمين مختلفين بنوعهما فصاعدا فالهدى يكون بمعنى :
١ الدلالة : تقول : هديت فلانا الطريق، بمعنى أريته إياه، وأوقفته عليه، وأعلمته إياه، سواء سلكه أو تركه.
وتقول : فلان هاد للطريق ؛ أي هو دليل فيه، فهذا هو الهدى الذي هدى الله تعالى ثمود١ وجميع الجن والملائكة، وجميع الإنس كافرهم ومؤمنهم، لأنه تعالى دلهم على الطاعات والمعاصي وعرفهم ما يسخط مما يرضي.
٢ ويكون الهدى بمعنى التوفيق والعون على الخير، والتيسير له، وخلقه لقبول الخير في النفوس، فهذا هو الذي أعطاه الله عز وجل الملائكة كلهم، والمهتدين من الإنس والجن، ومنعه الكفار والفاسقين فيما فسقوا به، ولو أعطاهم إياه لما كفروا ولا فسقوا، وبالله تعالى التوفيق٢.
وقال : إن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ﴾٣، وقال تعالى :﴿ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ﴾٤.
فصح يقينا أن الهدى الواجب على النبي صلى الله عليه وسلم هو الدلالة وتعليم الدين، وهو غير الهدى الذي ليس هو عليه وإنما هو لله تعالى وحده أ. ه٥.
وقد مثل ابن حزم للنوع الأول بقوله تعالى :﴿ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ﴾٦ وبقوله تعالى :﴿ إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ﴾٧.
وللنوع الثاني بقوله تعالى :﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ﴾٨ وبقوله تعالى :﴿ إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ﴾٩.
١ يريد قوله تعالى: ﴿وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى﴾ [فصلت: ١٧].
٢ الفصل (٧٧/٢).
٣ البقرة: ٢٧٢.
٤ الشورى: ٥٢.
٥ الفصل (٧٨/٢).
٦ فصلت: ١٧.
٧ الإنسان: ٣.
٨ النحل: ٢٦.
٩ النحل: ٣٧.
Icon