في أسماء هذه السورة وهي كثيرة، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى.
فالأول : فاتحة الكتاب سميت بذلك لأنه يفتتح بها في المصاحف وفي التعليم وفي القراءة في الصلاة، ولأن الحمد فاتحة كل كتاب كما هي فاتحة القرآن. وقيل : لأنها أول سورة نزلت من السماء.
الثاني : سورة الحمد لأن أولها الحمد.
الثالث : أم الكتاب وأم القرآن لأنها أصل القرآن وأصل كل كتاب منزل لاشتمالها على الإلهيات والمعاد وإثبات القضاء والقدر والنبوات، أو لأن فيها حاصل جميع الكتب السماوية وذلك هو الثناء على الله والاشتغال بالخدمة والطاعة وطلب المكاشفات والمشاهدات، أو لأن المقصود من جميع العلوم معرفة عزة الربوبية وذلة العبودية، أو لأنها أفضل سور القرآن كما أن مكة وهي أم القرى أشرف البلدان، أو أصل لجميع البلدان حيث دحيت من تحتها، وكما أن الحمى سميت أم ملدم لأنهم جعلوها معظم الأوجاع واللدم الضرب.
الرابع : السبع المثاني لأنها سبع آيات ولأنها تثنى في كل صلاة، أو لأن نصفها ثناء العبد للرب والنصف الآخر إعطاء الرب العبد، أو لأنها مستثناة لهذه الأمة قال صلى الله عليه وسلم :" والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة والإنجيل ولا في الزبور مثل هذه السورة وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم " أو لأنها نزلت مرتين، أو لأنها أثنية ومدائح لله تعالى.
الخامس : الوافية لأنها تجب قراءة كلها ولا يجزئ بعضها في الصلاة.
السادس : الكافية قال صلى الله عليه وسلم :" أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها عوضاً عنها ".
السابع : الشفاء والشافية لقوله صلى الله عليه وسلم " فاتحة الكتاب شفاء من كل سقم "
الثامن : الأساس لأنها أول سورة القرآن فهي كالأساس، أو لأنها تشتمل على أساس العبادات والمطالب. قال الشعبي : سمعت عبد الله بن عباس يقول : أساس الكتب القرآن، وأساس القرآن فاتحة الكتاب، وأساس الفاتحة " بسم الله الرحمن الرحيم " فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالأساس تشف بإذن الله تعالى.
التاسع : الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى :" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " يعني الفاتحة وهو من باب تسمية الشيء بمعظم أركانه. ومنه يعلم وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة.
العاشر : سورة تعليم المسألة لأن الله تعالى علم عباده فيها آداب السؤال فبدأ بالثناء ثم بالإخلاص ثم بالدعاء.
الحادي عشر : سورة الكنز لما روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال : نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش ولهذا قال أكثر العلماء : إنها مكية وخطأ مجاهداً في قوله : إنها مدنية، وكيف لا ؟ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب أنها من أول ما نزل من القرآن وأنها السبع المثاني، وسورة الحجر مكية بلا خلاف وفيها قوله تعالى :﴿ ولقد آتيناك سبعاً من المثاني ﴾ [ الحجر : ٨٧ ] ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث بضع عشرة سنة بلا فاتحة الكتاب. وقد جمع طائفة من العلماء بين القولين فقالوا إنها نزلت بمكة مرة وبالمدينة أخرى، وعلى هذا فإنها لم تثبت في المصحف مرتين لأنه لم يقع التواتر على نزولها مرتين.
ومن فضائل هذه السورة أنه لم يوجد فيها الثاء وهو الثبور ﴿ لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً ﴾ [ الفرقان : ١٤ ] والجيم وهو جهنم ﴿ وإن جهنم لموعدهم أجمعين ﴾ [ الحجر : ٤٣ ] والخاء وهو الخزي ﴿ يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ﴾ [ التحريم : ٨ ] والزاء وهو الزفير والزقوم. والشين وهو الشهيق ﴿ لهم فيها زفير وشهيق ﴾ [ هود : ١٠٦ ] والظاء وهو لظى ﴿ كلا إنها لظى ﴾ [ المعارج : ١٥ ] والفاء وهو الفراق ﴿ ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون ﴾ [ الروم : ١٤ ] فلما أسقط الله تعالى من الفاتحة هذه الحروف الدالة على العذاب وهي بعدد أبواب جهنم لقوله تعالى :﴿ لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ﴾ [ الحجر : ٤٤ ] غلب على الظن أن من قرأ الفاتحة نجا من جهنم ودخول أبوابها وتخلص من دركات النار وعذابها.
في المباحث الفقهية :
البحث الأول : أجمع الأكثرون ومنهم الشافعي على أن قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة وإن ترك منها حرفا واحداً وهو يحسنها لم تصح صلاته. وعند أبي حنيفة قراءتها غير واجبة لنا أنه صلى الله عليه وسلم واظب طول عمره على قراءتها في الصلاة فتجب علينا لقوله تعالى ﴿ فاتبعوه ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ ] وأيضاً أقيموا الصلاة معناه الصلاة التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه كان يقرأ الفاتحة فيها فتجب. وأيضاً روي في ذلك أخبار كثيرة مثل " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " " كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج " وروى رفاعة بن مالك أن رجلاً دخل المسجد وصلى، فلما فرغ من صلاته وذكر الخبر إلى أن قال الرجل : علمني الصلاة يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم :" إذا توجهت إلى القبلة فكبر واقرأ بفاتحة الكتاب " وظاهر الأمر للوجوب ولاسيما في معرض التعليم. وأيضاً الخلفاء الراشدون واظبوا على قراءتها طول العمر وقال صلى الله عليه وسلم :" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " وأيضاً المواظبة على قراءة الفاتحة توجب هجران سائر السور وذلك غير جائز إن لم تكن واجبة فثبت أنها واجبة. حجة أبي حنيفة ﴿ فاقرءوا ما تيسر من القرآن ﴾ [ المزمل : ٢٠ ] قلنا : الفاتحة هي المتيسرة المحفوظة على جميع الألسنة. ثم قال : إذا قرأ آية واحدة كفت مثل ﴿ الم ﴾ أو ﴿ حم ﴾ [ الدخان : ١ ] ﴿ والطور ﴾ [ الطور : ١ ] و﴿ مدهامتان ﴾ [ الرحمن : ٦٤ ]. أبو يوسف ومحمد : لابد من قراءة ثلاث آيات أو آية واحدة طويلة مثل آية الدين.
البحث الثاني : قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها على أن التسمية ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وإنما كتبت للفصل والتبرك وهو مذهب أبي حنيفة ومن تابعه، ولذلك لا يجهر بها عندهم في الصلاة. وقراء مكة والكوفة وفقهاؤهما على أنها آية من كل سورة وعليه الشافعي وأصحابه لما روي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فعد ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ آية، ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ آية، ﴿ الرحمن الرحيم ﴾ آية، ﴿ مالك يوم الدين ﴾ آية، ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ آية، ﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ آية، ﴿ صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ﴾ آية. وعن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ ". وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري ؟ فقلت : بلى فقال : بأي شيء تفتتح القرآن إذ افتتحت الصلاة ؟ قلت : بسم الله الرحمن الرحيم. قال : هي هي ". وبإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له :" كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة ؟ قال : أقول ﴿ الحمد لله ﴾ قال : قل ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ ". وبإسناده عن علي بن أبي طالب أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ وكان يقول : من ترك قراءتها فقد نقص في صلاته وبإسناده عن ابن عباس في قوله ﴿ ولقد آتيناك سبعاً من المثاني ﴾ [ الحجر : ٨٧ ] قال : فاتحة الكتاب. فقيل لابن عباس : فأين السابع ؟ فقال :﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله سبحانه " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين. فإذا قال العبد ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ قال الله : مجدني عبدي وإذا قال :﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ قال الله : حمدني عبدي وإذا قال :﴿ الرحمن الرحيم ﴾ قال الله : أثنى عليّ عبدي وإذا قال :﴿ مالك يوم الدين ﴾ قال الله : فوّض إلي عبدي وإذا قال :﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ قال الله : هذا بيني وبين عبدي وإذا قال :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ قال الله : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " إلى غير ذلك من الأخبار. وأيضاً التسمية مكتوبة بخط القرآن في مصاحف السلف مع توصيتهم بتجريد القرآن عما ليس منه ولذلك لم يثبتوا " آمين ". وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب : ما أعظم آية في كتاب الله ؟ قال : بسم الله الرحمن الرحيم، فصدّقه النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أنها ليست آية تامة في قوله ﴿ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ [ النمل : ٣٠ ] فتكون آية في غير هذا الموضع. وأيضاً إن أكثر الأنبياء أوجبوا على أنفسهم الابتداء بذكر الله قال نوح عند ركوب السفينة :
﴿ باسم الله مجريها ومرساها ﴾ [ هود : ٤١ ] وكتب سليمان إلى بلقيس " بسم الله الرحمن الرحيم " وقوله ﴿ إنه من سليمان ﴾ من قول بلقيس قبل فتح الكتاب، فلما فتحت الكتاب قرأت التسمية فقالت :﴿ وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ ولما ثبت الابتداء بالتسمية في حقهم ثبت في حق نبينا أيضاً ﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ] وعن عبد الله بن مسعود قال : كنا لا نعلم فصل ما بين السورتين حتى تنزل " بسم الله الرحمن الرحيم ". وعن ابن عمر قال : نزلت " بسم الله الرحمن الرحيم " في كل سورة. وأيضاً البسملة من القرآن في النمل ثم إنا نراه مكرراً بخط القرآن فوجب أن نعتقد كونه من القرآن مثل ﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ [ الرحمن : ١٣ ] ﴿ ويل يومئذ للمكذبين ﴾ [ المرسلات : ١٥ ] حجة المخالف خبر أبي هريرة أيضاً في رواية أخرى قال :" يقول الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ يقول الله حمدني عبدي " إلى آخره. قال : لم يذكر التسمية، ولو كانت آية من الفاتحة لذكرها. قلنا : إذا تعارضت الروايتان فالترجيح للمثبت لا للنافي. قالوا : التنصيف إنما يحصل إذا لم تعد التسمية آية حتى يحصل للرب ثلاث آيات ونصف وللعبد ثلاث ونصف من ﴿ إياك نستعين ﴾ إلى آخر السورة. أما إذا قلنا التسمية آية صار القسم الأول أربع آيات ونصفاً فينخرم التنصيف. قلنا : نحن نعد التسمية آية ولا نعد " أنعمت عليهم " وهذا أولى رعاية لتشابه المقاطع، ولأن غير صفة أو بدل ويختل الكلام بجعله منقطعاً عما قبله لأن طلب الاهتداء بصراط المنعم عليهم لا يجوز إلا بشرط كون المنعم عليه غير مغضوب عليه ولا ضالا بدليل قوله تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً ﴾ [ إبراهيم : ٢٨ ] فهذا المجموع كلام واحد، وهذا بخلاف ﴿ الرحمن الرحيم ﴾ فإنا لو قطعنا النظر عن الصفة كان الكلام مع الموصوف غير مختل النظام. قالوا : روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين. قلنا : قال الشافعي : لعل عائشة جعلت ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ اسماً لهذه السورة كما يقال قرأ فلان " الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ". قالوا : لو كانت من الفاتحة لزم التكرار في ﴿ الرحمن الرحيم ﴾ قلنا : التكرار للتأكيد غير عزيز في القرآن. فإن قيل : إذا عد التسمية آية من كل سورة على ما يروى عن ابن عباس، فمن تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله. فما وجه ما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سورة الملك : إنها ثلاثون آية وفي الكوثر إنها ثلاث آيات مع أن العدد حاصل بدون التسمية ؟ قلنا : إما أن تعد التسمية مع ما بعدها آية وذلك غير بعيد، ألا ترى أن قوله " الحمد لله رب العالمين " آية تامة، وفي قوله ﴿ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ﴾ [ يونس : ١٠ ] بعض آية ؟ وإما أن يراد ما هو خاصة الكوثر ثلاث آيات، فإن التسمية كالشيء المشترك فيه بين السور.
البحث الثالث : عن أحمد بن حنبل أن التسمية آية من الفاتحة، ويسرّ بها في كل ركعة. أبو حنيفة : ليست بآية ويسر بها. مالك : لا ينبغي أن يقرأها في المكتوبة لا سراً ولا جهراً. الشافعي : آية ويجهر بها لأنها بعد ما ثبت كونها من الفاتحة والقرآن لا يعقل فرق بينها وبين باقي الفاتحة حتى يسر بهذه ويجهر بذلك. وأيضاً إنه ثناء على الله وذكر له فوجب أن يكون الإعلان به مشروعاً لقوله عز من قائل ﴿ فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً ﴾ [ البقرة : ٢٠٠ ] وأيضاً الإخفاء والسر إنما يليق بما فيه نقيصة ومثلبة لا بما فيه مفخرة وفضيلة. قال صلى الله عليه وسلم :" طوبى لمن مات ولسانه رطب من ذكر الله " وكان علي بن أبي طالب يقول : يا من ذكره شرف للذاكرين. وكان مذهبه الجهر بها في جميع الصلوات، وقد ثبت هذا منه تواتراً ومن اقتدى به لن يضل. قال صلى الله عليه وسلم :" اللهم أدر الحق معه حيث دار " وروى البيهقي في السنن الكبرى عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم. وروي عن عمر وابنه وابن عباس وابن الزبير مثل ذلك، وروى الشافعي بإسناده أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود، فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار : يا معاوية سرقت من الصلاة أين " بسم الله الرحمن الرحيم " أين التكبير عند الركوع والسجود ؟ ثم إنه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير. قال : وكان معاوية شديد الشكيمة ذا شوكة، فلولا أن الجهر بالتسمية كان مقرراً عند كل الصحابة لم يجسروا على ذلك حجة المخالف ما روى البخاري في صحيحه عن أنس قال : صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين. وفي رواية ولم أسمع أحداً منهم قال :﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ وفي رواية ولم يجهر أحد منهم ببسم الله الرحمن الرحيم.
وعن عبد الله بن المغفل أنه قال : سمعني أبي وأنا أقول ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ فقال : أي بني، إياك والحدث في الإسلام ! وقد صليت خلف أبي بكر فقال :﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ وصليت خلف عمر فقال :﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ وصليت خلف عثمان فقال :﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ فإذا صليت فقل ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾. والجواب أن حديث أنس معارض بما يروى عنه أيضاً أن معاوية لما ترك التسمية في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار. وروى أيضاً أبو قلابة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. ويروى أيضاً أنه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والإسرار به فقال : لا أدري هذه المسألة، وإذا اضطربت الروايات عنه وجب الرجوع إلى سائر الدلائل. وأيضاً ففيها تهمة أخرى وهي أن علياً رضي الله عنه كان يبالغ في الجهر بالتسمية، فلما كان زمن بني أمية بالغوا في المنع من الجهر سعياً في إبطال آثار علي بن أبي طالب، فلعل أنساً خاف منهم فلهذا اضطربت أقواله. وأيضاً من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم أولى الأحلام والنهي والأكابر والعلماء على غيرهم، ولا شك أن علياً وابن عباس وابن عمر كانوا أعلى حالاً من أنس وابن المغفل وأقرب موقفاً، وأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يبالغ في الجهر لقوله تعالى
﴿ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً ﴾ [ الإسراء : ١١٠ ] فلهذا لم يسمعا. ورواية المثبت أولى من رواية النافي، والدلائل العقلية معنا ويؤيدها عمل علي بن أبي طالب كما مر.
البحث الرابع : تقديم التسمية على الوضوء سنة عند عامة العلماء وليست بواجبة خلافاً لبعض أهل الظاهر حيث قالوا : لو تركها عمداً أو سهواً لم تصح صلاته لنا قوله صلى الله عليه وسلم " توضأ كما أمرك الله " والتسمية غير مذكورة في آية الوضوء. والصحيح عندنا أن الجنب والحائض لا يقولها بقصد القراءة، والتسمية عند الذبح وعند الرمي إلى الصيد وعند إرسال الكلب مستحبة، فلو تركها عامداً أو ناسياً، لم تحرم الذبيحة عند الشافعي ولكن تركها عمداً مكروه، وعند أبي حنيفة إن ترك التسمية عمداً لم يحل، وإن نسي حل. والعلماء أجمعوا على أنه يستحب أن لا يشرع في عمل من الأعمال إلا أن يقول : باسم الله، فإذا نام قال باسم الله، وإذا انتبه قال : باسم الله، وإذا قام من المقام قال : باسم الله، وإذا أكل أو شرب قال : باسم الله، وإذا أعطى أو أخذ قال : باسم الله، ويستحب للقابلة إذا أخذت الولد من الأم أن تقول باسم الله وهذا أول أحواله من الدنيا وإذا مات وأدخل القبر قيل باسم الله وهذا آخر أحواله من الدنيا، وإذا قام من القبر قال : باسم الله، وإذا حضر الموقف قال : باسم الله، فلا جرم يدخل الجنة ببركة اسم الله.
البحث الخامس : قال الشافعي : ترجمة القرآن لا تكفي في صحة الصلاة لا في حق من يحسن القراءة ولا في حق من لا يحسنها. وقال أبو حنيفة : إنها كافية في حق القادر والعاجز. وقال أبو يوسف ومحمد : كافية في حق العاجز لا القادر لنا أنه صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده وجميع الصحابة ما قرأوا في الصلاة إلا هذا القرآن العربي فوجب علينا اتباعهم، وكيف يجوّز عاقل قيام الترجمة بأي لغة كانت وهي كلام البشر مقام كلام خالق القوى والقدر ؟ وقالوا : وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يعلم رجلاً أن شجرة الزقوم طعام الأثيم والرجل لا يحسنه. فقال : قل طعام الفاجر، ثم قال عبد الله : ليس الخطأ في القرآن أن تقرأ مكان العليم الحكيم إنما الخطأ بأن تضع آية الرحمة مكان آية العذاب. قلنا : الظن بابن مسعود غير ذلك. قالوا ﴿ وإنه لفي زبر الأولين ﴾ [ الشعراء : ١٩٦ ] ﴿ إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ﴾ [ الأعلى : ١٨، ١٩ ] ولا ريب أن القرآن بهذا اللفظ ما كان في زبر الأولين لكن بالعبرية والسريانية. قلنا إن القصص والمواعظ موجودة لا باللفظ بل بالمعنى، ولا يلزم من ذلك أن يكون الموجود فيها قرآناً، فإن النظم المعجز جزء من ماهية القرآن والكل بدون الجزء مستحيل.
البحث السادس : الشافعي في القول الجديد قال : تجب قراءة الفاتحة على المقتدي سواء أسر الإمام بالقراءة أو جهر بها. وفي القديم : تجب إذا أسر الإمام ولا تجب إذا جهر وهو قول مالك وأحمد أبو حنيفة : تكره القراءة خلف الإمام بكل حال لنا قوله تعالى ﴿ فاقرءوا ما تيسر من القرآن ﴾ [ المزمل : ٢٠ ] وقوله :" لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " يشمل المنفرد والمقتدي، وأيضاً روى الترمذي في جامعه بإسناده عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف صلى الله عليه وسلم قال : إني أراكم تقرأون خلف إمامكم قلنا : أي والله، قال : لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها. قال : وهذا حديث حسن. وأيضاً قراءتها لا تبطل الصلاة عندهم ولكن يجوّزون تركها ويبطلها عدم القراءة عندنا، فالأحوط قراءتها. احتج المخالف بقوله تعالى ﴿ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ﴾ [ الأعراف : ٢٠٤ ] وبأخبار بين ضعفها البيهقي في كتابه، ونحن نقول : أما القرآن فمخصوص بغير الفاتحة لما مر، وأما الأخبار فهب أنها صحيحة إلا أن الترجيح معنا لأن الاشتغال بقراءة القرآن من أعظم الطاعات ولأنه أحوط.
البحث السابع : مذهب الشافعي أن الفاتحة واجبة في كل ركعة فإن تركها في ركعة بطت صلاته، وبه قال أبو بكر وعمر وعلي عليهم السلام وابن مسعود ومعظم الصحابة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأوها في كل ركعة، ولأنه قال للأعرابي الذي علمه الصلاة وكذلك فأفعل في كل ركعة. وعن أبي سعيد الخدري أنه قال : أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقرأ فاتحة الكتاب في كل ركعة فريضة كانت أو نافلة. وأيضاً القراءة في كل ركعة أحوط فيجب المصير إليها. وقيل : غير واجبة أصلاً، وقيل : تجب في كل صلاة في ركعة واحدة فقط وبه يحصل امتثال قوله " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " وعند أبي حنيفة القراءة تجب في الركعتين الأوليين لقول عائشة : فرضت الصلاة في الأصل ركعتين فأقرّت في السفر وزيدت في الحضر. فهما أصل والزائد تبع. قلنا : ما ذكرنا أحوط، وقيل : تجب الفاتحة في الأوليين وتكره في الآخرتين. وعند مالك تجب في أكثر الركعات، ففي الثنائية فيهما وفي الثلاثية في اثنتين وفي الرباعية في ثلاث.
البحث الثامن : إذا ثبت أن القراءة شرط في الصلاة فلو تركها أو حرفاً من حروفها عمداً بطلت صلاته وكذا سهواً على الجديد. وما روي أن عمر بن الخطاب صلى المغرب فترك القراءة فقيل له : تركت القراءة. قال : كيف كان الركوع والسجود ؟ قالوا : حسناً. قال : فلا بأس، معارض بما روى الشعبي عنه أنه أعاد الصلاة. وأيضاً لعله ترك الجهر بالقراءة لا نفس القراءة.
البحث التاسع : يجب رعاية الترتيب في أجزاء الفاتحة وما وقع غير مرتب فغير محسوب.
البحث العاشر : إن لم يحفظ شيئاً من الفاتحة قرأ بقدرها من غيرها من القرآن، ثم من ذكر من الأذكار، ثم عليه مثل وقفة بقدرها فإن تعلم قرأ ما لم يفرغ منه.
البحث الحادي عشر : نقل عن ابن مسعود أنه كان ينكر أن تكون الفاتحة والمعوذتان من جملة القرآن والظن به أن هذا النقل عنه كذب وإلا فجحد المتواتر كيف يليق بحاله ؟
(مكية ويقال مدنية وهي سبع آيات إلا أن المكي والكوفي عدّا التسمية آية دون أنعمت عليهم ومذهب المدني والبصري والشامي بالعكس وكلماتها خمس وعشرون وحروفها مائة وثلاثة وعشرون.)
[سورة الفاتحة (١) : الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)
القراآت:
«مالك» : بالألف سهل ويعقوب وعاصم وعلي وخلف، والباقون ملك:
الرحيم ملك مدغما: أبو عمرو، كذلك يدغم كل حرفين التقيا من كلمتين إذا كانا من جنس واحد مثل قالَ لَهُمْ [البقرة: ٢٤٩] أو مخرج واحد مثل وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ [النساء:
١٠٢] أو قريبي المخرج مثل خَلْقُكُمْ [لقمان: ٢٨] ولَقَدْ جاءَكُمْ [البقرة: ٩٢] سواء كان الحرف المدغم ساكنا مثل أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ [البقرة: ٢٦١] ويسمى بالإدغام الصغير، أو متحركا فأسكن للإدغام مثل قِيلَ لَهُمْ [البقرة: ١١] ولَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ [البقرة: ٢٠] ويسمى بالإدغام الكبير إلا أن يكون مضاعفا نحو أُحِلَّ لَكُمْ [البقرة: ١٨٧] ومَسَّ سَقَرَ [القمر: ٤٨] أو منقوصا مثل وَما كُنْتَ تَرْجُوا [القصص: ٨٦] ونْتُ تُراباً
[النبأ: ٤٠] ونعني بالمنقوص الأجوف المحذوف العين أو مفتوحا قبله ساكن مثل الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا [النحل: ١٤] والْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها [النحل: ٨] إلا في مواضع أربعة كادَ يَزِيغُ [التوبة: ١١٧] وقالَ رَبِّ [المؤمنون: ٢٦] في كل القرآن والصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هود: ١١٤] وبَعْدَ تَوْكِيدِها [النحل: ٩١] أو يكون الإظهار أخف من الإدغام نحو أَفَأَنْتَ تَهْدِي [يونس: ٤٣] أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ [الزخرف: ٤٠] وعن يعقوب إدغام الجنسين في جميع القرآن إذا التقيا من كلمتين. «الصراط» بإشمام الراء هاهنا وفي جميع
الوقوف:
العالمين (لا) لاتصال الصفة بالموصوف. الرحيم (لا) لذلك. الدين (ط) للعدول عن الغائب إلى المخاطب. نستعين (ط) لابتداء الدعاء. المستقيم (لا) لاتصال البدل بالمبدل. أنعمت عليهم (لا) لاتصال البدل أو الصفة. الضالين (هـ).
التفسير:
روي عن جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال في كتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ» «١»
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» »
فذكر العلماء أن النهي عن تفسير القرآن بالرأي لا يخلو إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط، أو المراد به أمر آخر، وباطل أن يكون المراد به أن لا يتكلم أحد في تفسير القرآن إلا بما سمعه فإن الصحابة رضي الله عنهم قد فسروا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه. وليس كل ما قالوه سمعوه، كيف
وقد دعا النبي ﷺ لابن عباس «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» «٣»
فإن كان التأويل مسموعا كالتنزيل فما فائدة تخصيصه بذلك؟! وإنما النهي يحمل على وجهين:
أحدهما: أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأوّل القرآن على وفق هواه ليحتج على تصحيح غرضه، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى. وهذا قد يكون مع العلم بأن المراد من الآية ليس ذلك، ولكن يلبس على خصمه. وقد يكون مع الجهل وذلك إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ويترجح ذلك الجانب برأيه وهواه، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه. وقد يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلا من القرآن ويستدل عليه بما يعلم أنه ما
(٢) رواه الترمذي في كتاب التفسير سورة الفاتحة.
(٣) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب ١٠. مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث ١٣٨. أحمد في مسنده (١/ ٢٦٦، ٣١٤).
الوجه الثاني: أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغريب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة والاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير. فالنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير أوّلا ليتقي به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع للتفهم والاستنباط. والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة كقوله تعالى وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها [الإسراء: ٥٩] معناه آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها. فالناظر إلى ظاهر العربية يظن المراد أن الناقة كانت مبصرة ولم تكن عمياء، وما يدري بما ظلموا وإنهم ظلموا غيرهم أو أنفسهم. وما عدا هذين الوجهين فلا يتطرق النهي إليه ما دام على قوانين العلوم العربية والقواعد الأصلية والفرعية. واعلم أن مقتضى الديانة أن لا يؤوّل المسلم شيئا من القرآن والحديث بالمعاني بحيث تبطل الأعيان التي فسرها النبي صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح مثل: الجنة والنار والصراط والميزان والحور والقصور والأنهار والأشجار والثمار وغيرها، ولكنه يجب أن يثبت تلك الأعيان كما جاءت. ثم إن فهم منها حقائق أخرى ورموزا ولطائف بحسب ما كوشف فلا بأس، فإن الله تعالى ما خلق شيئا في عالم الصورة إلا وله نظير في عالم المعنى، وما خلق شيئا في عالم المعنى وهو الآخرة إلا وله حقيقة في عالم الحق وهو غيب الغيب، وما خلق في العالمين شيئا إلا وله أنموذج في عالم الإنسان والله تعالى أعلم.
والتفسير أصله الكشف والإظهار وكذلك سائر تقاليبه. من ذلك: سفرت المرأة كشفت عن وجهها، والسفر لأنه يكشف به عن وجوه الحوائج، ومنه السرف لأنه يكشف به عن ماله حينئذ. والرفس لأنه يكشف عن عضوه وانكشاف حال المقيد في رسفانه واضح.
فمن التفسير ما يتعلق باللغة ومنه ما يتعلق بالصرف أو النحو أو المعاني أو البيان إلى غير ذلك من العلوم كما أشرنا إلى ذلك في آخر المقدمة العاشرة، ومنه أسباب النزول وذكر القصص والأخبار وغير ذلك. ونحن على أن نورد بعد القرآن مع الترجمة القراءة ثم الوقوف ثم أسباب النزول ثم التفسير الشامل لجميع ذلك، ثم التأويل إن كان، ولم نذكره في التفسير ونذكر منه ما هو أقرب إلى الإمكان والله المستعان. فلنشتغل بتفسير الفاتحة فنقول:
في البسملة مسائل:
الأولى: الجار والمجرور لا بد له من متعلق وليس بمذكور فيكون مقدرا وأنه يكون فعلا أو اسما فيه رائحة الفعل. وعلى التقديرين فإما أن يقدر مقدما أو مؤخرا نحو: أبدأ
قال صلى الله عليه وسلم: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر»
وإما تعلق الدهن بالإنبات في قوله تعالى تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: ٢٠] أي متبركا باسم الله أقرأ كما في قوله «بالرفاء والبنين» أي أعرست متلبسا بالرفاء وهذا أعرب وأحسن. أما كونه أدخل في العربية فلأنه لا يعرفه إلا من له دربة بفنون الاستعمالات بخلاف الأول فإنه مبتذل. وأما كونه أحسن فلأن جعل اسم الله كالآلة خروج عن الأدب، لأن الآلة من حيث إنها آلة غير مقصود بالذات، واسم الله تعالى عند الموحد أهم شيء وأنه مقول على ألسنة العباد تعليما لهم كيف يتبركون باسمه وكيف يعظمونه، وكذلك الحمد لله رب العالمين إلى آخره.
الثانية: أنهم استحسنوا تفخيم اللام وتغليظها من لفظ «الله» بعد الفتحة والضمة دون الكسرة أما الأول فللفرق بينه وبين لفظ اللات في الذكر، ولأن التفخيم مشعر بالتعظيم، ولأن اللام الرقيقة تذكر بطرف اللسان والغليظة تذكر بكل اللسان فكان العمل فيه أكثر، فيكون أدخل في الثواب وهذا كما جاء في التوراة: أحبب ربك بكل قلبك. وأما الثاني فلأن النقل من الكسرة إلى اللام الغليظة ثقيل على اللسان لكونه كالصعود بعد الانحدار. وإنما لم يعدّوا اللام الغليظة حرفا والرقيقة حرفا آخر كما عدوا الدال حرفا والطاء حرفا آخر مع أن
الثالثة: طولوا الباء من بسم الله إما للدلالة على همزة الوصل المحذوفة، وإما لأنهم أرادوا أن لا يستفتحوا كتاب الله إلا بحرف معظم. وكان يقول عمر بن عبد العزيز لكتابه:
طولوا الباء وأظهروا السين ودوّروا الميم تعظيما لكتاب الله. وقال أهل الإشارة: الباء حرف منخفض في الصورة، فلما اتصل بكتابة لفظ «الله» ارتفعت واستعلت. فلا يبعد أن القلب إذا اتصل بحضرة الله يرتفع حاله ويعلو شأنه.
الرابعة: إبقاء لام التعريف في الخط على أصله في لفظ الله كما في سائر الأسماء المعرفة، وأما حذف الألف قبل الهاء فلكراهتهم اجتماع الحروف المتشابهة في الصورة عند الكتابة ولأنه يشبه اللات في الكتابة. قال أهل الإشارة: الأصل في قولنا «الله» الإله وهو ستة أحرف ويبقى بعد التصرف أربعة في اللفظ: ألف ولامان وهاء، فالهمزة من أقصى الحلق، واللام من طرف اللسان، والهاء من أقصى الحلق، وهذه حال العبد يبتدىء من النكرة والجهالة ويترقى قليلا قليلا في مقامات العبودية حتى إذا وصل إلى آخر مراتب الوسع والطاقة ودخل في عالم المكاشفات والأنوار، أخذ يرجع قليلا قليلا حتى ينتهي إلى الفناء في بحر التوحيد كما قيل: النهاية رجوع إلى البداية. وأما حذف الألف قبل النون من لفظ «الرحمن» فهو جائز في الخط ولو كتب كان أحسن.
الخامسة: الاسم أحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون، وهو عند البصريين في الأصل سمو بدليل تكسيره على أسماء وتصغيره على سمّي وتصريفه على سميت ونحوه، فاشتقاقه من السمو وهو العلو مناسب لأن التسمية تنويه بالمسمى وإشادة بذكره. وقيل: لأن اللفظ معرف للمعنى، والمعرف متقدم على المعرف في المعلومية فهو عال عليه حذفوا عجزه كما في «يد» و «دم» فبقي حرفان أو لهما متحرك والثاني ساكن، فلما حرك الساكن للإعراب أسكن المتحرك للاعتدال فاحتيج إلى همزة الوصل إذ كان دأبهم أن يبتدؤا بالمتحرك ويقفوا على الساكن حذرا من اللكنة والبشاعة. ومنهم من لم يزد الهمزة وأبقى السين بحاله فيقول: سم كما قال: باسم الذي في كل سورة سمه. وقد يضم السين فيقال: «سم» كأن الأصل عنده «سمو». وعند الكوفيين اشتقاق الاسم من الوسم والسمة، لأن الاسم كالعلامة المعرّفة. وزيف بأنه لو كان كذلك لكان تصغيره وسيما وجمعه أو ساما.
السابعة: وضع الأسماء والأفعال سابق على وضع الحروف، لأن الحروف رابطة بينهما. والظاهر أن وضع الأسماء سابق على وضع الأفعال لأن الاسم لفظ دال على الماهية والفعل لفظ دال على حصول الماهية لشيء من الأشياء في زمان معين، فكأن الاسم مفرد والفعل مركب والمفرد سابق على المركب طبعا فيكون سابقا عليه وضعا وأيضا الفعل مفتقر إلى الفاعل، والفاعل لا يفتقر إلى الفعل. وأيضا الاسم مستغن في الإفادة عن الفعل دون العكس، والأظهر أن أسماء الماهيات سابقة بالرتبة على الأسماء المشتقات، لأن الأولى مفردة والثانية مركبة، ويشبه أن تكون أسماء الصفات سابقة بالرتبة على أسماء الذوات القائمة بأنفسها لأنا لا نعرف الذوات إلا بتوسط الصفات القائمة بها والمعرف معلوم قبل المعرّف فيناسب السبق في الذكر.
الثامنة: أقسام الأسماء الواقعة على المسميات تسعة: أولها: لاسم الواقع على الذات.
ثانيها: الاسم الواقع على الشيء بحسب جزء من أجزائه كاليحوان على الإنسان ثالثها: الواقع عليه بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته كالأسود والحارّ. رابعها: الواقع عليه بحسب صفة
صفة حقيقية مع صفة سلبية كالمفهوم من مجموع قولنا قادر لا يعجز عن شيء وعالم لا يجهل شيئا. ثامنها: صفة إضافية مع صفة سلبية كالأول، فإن معناه سابق غير مسبوق.
تاسعها صفة حقيقية مع صفة إضافية وصفة سلبية، فهذه أقسام الأسماء لا تكاد تجد اسما خارجا عنها، سواء كان لله تعالى أو لمخلوقاته.
التاسعة: هل لله تعالى بحسب ذاته المخصوصة اسم أم لا؟ ذكر بعضهم أن حقيقته تعالى لما كانت غير مدركة للبشر فكيف يوضع له اسم مخصوص بذاته؟ وما الفائدة في ذلك؟ أقول: لا ريب أن الإدراك التام عبارة عن الإحاطة التامة، والمحاط لا يمكن أن يحيط بمحيطه أبدا، وأنه تعالى بكل شيء محيط فلا يدركه شيء مما دونه كما ينبغي، إلا أن وضع الاسم للذات لا ينافي عدم إدراكه كما ينبغي، وإنما ينافي عدم إدراكه مطلقا. فيجوز أن يقال الشيء الذي تدرك منه هذه الآثار واللوازم مسمى بهذا اللفظ، وأيضا إذا كان الواضع هو الله تعالى وأنه يدرك ذاته لا محالة على ما هو عليه، فله أن يضع لذاته اسما مخصوصا لا يشاركه فيه غيره حقيقة، وإذا كان وضع الاسم لتلك الحقيقة المخصوصة ممكنا فينبغي أن يكون ذلك الاسم أعظم الأسماء وذلك الذكر أشرف الأذكار، لأن شرف العلم والذكر بشرف المعلوم والمذكور. فلو اتفق لعبد من عبيده المقربين الوقوف على ذلك الاسم حال ما يكون قد تجلى له معناه، لم يبعد أن تنقاد له عوالم الجسمانيات والروحانيات. ثم القائلون بأن الاسم الأعظم موجود اختلفوا فيه على وجوه. منهم من قال: هو ذو الجلال والإكرام ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» «١»
ورد بأن الجلال من الصفات السلبية والإكرام من الإضافية، ومن البين أن حقيقته المخصوصة مغايرة للسلوب والإضافات. ومنهم من يقول: إنه الحي القيوم
لقوله ﷺ لأبيّ بن كعب حين قال له: ما أعظم آية في كتاب الله؟
فقال: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. فقال صلى الله عليه وسلم: «ليهنك العلم يا أبا المنذر».
وزيف بأن الحي هو الدرّاك الفعال وهذا ليس فيه عظمة ولأنه صفة، وأما القيوم فمعناه كونه قائما بنفسه مقوّما لغيره، والأول مفهوم سلبي وهو استغناؤه عن غيره، والثاني إضافي. ومنهم من قال:
إن أسماء الله تعالى كلها عظيمة لا ينبغي أن يفاوت بينها، ورد بما مرّ من أن اسم الذات
روت أسماء بنت زيد أن رسول الله ﷺ قال: «اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ [البقرة: ١٦٣] وفاتحة سورة آل عمران الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:
١- ٢]
وعن بريدة أن رسول الله ﷺ سمع رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فقال:
«والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي بهن أجاب وإذا سئل به أعطى».
ولا شك أن اسم الله في الآية والحديث أصل والصفات مرتبة عليه هذا، وأما الاسم الدال على المسمى بحسب جزء من أجزائه فمحال في حق الله تعالى، لأن ذاته تعالى مبرأ عن شائبة التركيب بوجه من الوجوه. وأما الاسم الدال بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته المخصوصة، فتلك الصفة إما أن تكون هي الوجود، وإما أن تكون كيفية من كيفيات الوجود، وإما أن تكون صفة أخرى مغايرة للوجود ولكيفيات الوجود، فهذه ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الأسماء الدالة على الوجود منها الشيء ويجوز إطلاقه على الله تعالى عند الأكثرين لقوله تعالى قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الأنعام: ١٩] أي ذاته.
وفي الخبر «كان الله ولم يكن شيء غيره»
ولأن الشيء عبارة عما يصح أن يعلم ويخبر عنه وذاته تعالى كذلك. حجة المخالف قوله تعالى اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: ١٦] فلو كان الله تعالى شيئا لزم أن يكون خالق نفسه. ومثله وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن: ١] قلنا: خص بالدليل العقلي. قالوا: ليس من صفات المدح. قلنا: نعم هو خير من لا شيء، وإن كان سائر الأشياء مشتركة معه في ذلك كالموجود والكريم والحليم، فإن كلا منها مدح بالنسبة إلى من لا وجود له ولا كرم ولا حلم، بل الشيء بالحقيقة هو وباقي الأشياء شيئيتها مستعارة كوجودها ومنها الموجود.
وأطبق المسلمون على جواز إطلاقه عليه تعالى وكيف لا؟ ومعنى قول الموحد لا إله إلا الله أي لا إله في الوجود إلا الله. ومنها الذات ولا شك في جواز إطلاقه عليه إذ يصدق على كل حقيقة أنها ذات الصفات أي صاحبة الصفات القائمة بها، ويؤيد ذلك ما
روي عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «إن إبراهيم لم يكذّب إلا في ثلاث: ثنتين في ذات الله» «١» -
أي في
وقال ﷺ «أنت كما أثنيت على نفسك»
أي على ذاتك وحقيقتك. ومنها الشخص
قال: «لا شخص أغير من الله تعالى ومن أجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» «ولا شخص أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين» «ولا شخص أحب إليه المدحة من الله» «١»
والمراد بالشخص الحقيقة المتعينة الممتازة عما عداها. ومنها النور قال عز من قائل: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: ٣٥] وليس المراد به ما يشبه الكيفية المبصرة وإنما المراد أنه الظاهر في نفسه المظهر لغيره. وإذ لا ظهور ولا إظهار فوق ظهوره وإظهاره فإنه واجب الوجود لذاته أزلا وأبدا، ومخرج جميع الممكنات من العدم إلى الوجود. فإذن هو نور الأنوار تعالى وتقدس، وسوف يأتيك تمام التحقيق إذا وصلنا إلى سورة النور وهو أعلم بحقائق الأمور. ومنها الصورة وقد
ورد في الخبر «أن الله خلق آدم على صورته» «٢»
فقيل: معناه خلق آدم على صورته التي كان عليها يعني ما تولد من نطفة ودم وما كان جنينا، ورضيعا بل خلقه الله تعالى رجلا كاملا دفعة واحدة.
وقيل في حديث آخر «لا تقبحوا الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن»
المراد من الصورة الصفة كما يقال: صورة هذه المسألة كذا أي خلقه على صفته في كونه خليفة في أرضه متصرفا في جميع الأجسام الأرضية كما أنه تعالى نافذ القدرة في جميع العالم. ويمكن أن يقال: الصورة إشارة إلى وجه المناسبة التي ينبغي أن تكون بين كل علة ومعلولها، فإن الظلمة لا تصدر عن النور وبالعكس، وكنا قد كتبنا في هذا رسالة. ومنها الجوهر وأنه لا يطلق عليه بمعنى موجود لا في موضوع، أي إذا وجد كان وجودهن بحيث لا يحتاج إلى محل يقوم به ويستغني المحل عنه، لأن ذلك ينبىء عن كون وجوده زائدا على ماهيته.
وإنما يمكن أن يطلق عليه بمعنى آخر وهو كونه قائما بذاته غير مفتقر إلى شيء في شيء أصلا لكن الإذن الشرعي حيث لم يرد بذلك وجب الامتناع عنه. ومنها الجسم ولا يطلقه عليه إلا المجسمة، فإن أرادوا الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة فمحال للزوم التركيب والتجزي، وإن أرادوا معنى يليق بذاته من كونه موجودا قائما بالنفس غنيا عن المحل فالإذن الشرعي لم يرد به فلزم الامتناع. ومنها الماهية والآنية أي الحقيقة التي يسأل عنها بما هي
(٢) رواه أحمد في مسنده (٢/ ٢٤٤، ٢٥١). البخاري في كتاب الاستئذان باب ١. مسلم في كتاب البر حديث ١١٥. [.....]
القسم الثاني في الأسماء الدالة على كيفية الوجود منها القديم وهو في اللغة يفيد طول المدة، وفي الشرع يرادفه الأزلي، ويراد بهما ما لا أول له في الطرف الماضي كالأبدي في الطرف المستقبل. وكذا السرمدي واشتقاقه من السرد التوالي والتعاقب، زيدت الميم للمبالغة. ونعني بالنسبة في هذه الألفاظ أنه تعالى منسوب إلى عدم البداية والنهاية في كلا طرفي الامتداد الوهمي المسمى بالزمان. ومنها الممتد والمستمر ونعني بهما تلاحق الأجزاء وتعاقب الأبعاض، ولا يخفى أن أمثال هذه الألفاظ إنما يصح إطلاقها بالحقيقة على الزمان والزمانيات، وأما في حق الله جل ذكره فلا يصح إلا بالمجاز بعد التوقيف. ومنها الباقي قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن: ٢٦، ٢٧] وأنه تعالى أحق الأشياء بهذا الاسم. ومنها الدائم وهو كالباقي. ومنها واجب الوجود لذاته أي ذاته اقتضى وجوده، وما بالذات لا ينفك عنه أبدا فهو ممتنع الفناء والعدم أزلا وأبدا ولهذا قيل: خداي معناه خوداي أي أنه جاء بنفسه. ومنها الكائن قال تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [الفتح: ٤]
وفي بعض الأدعية المأثورة عن النبي ﷺ «يا كائنا قبل كل كون، ويا حاضرا مع كل كون، ويا باقيا بعد انقضاء كل كون»
واعلم: أن لفظة «كان» تفيد الحصول والثبوت والوجود، إلا أن هذا قسمان: منه ما يفيد حصول الشيء في نفسه، ومنه ما يفيد حصول موصوفية شيء بشيء. والأول يتم باستناده إلى ذلك الشيء وهي التامة، والثاني لا يتم إلا بذكر شيئين وهي الناقصة نحو: كان زيد عالما أي حصل موصوفية زيد بالعلم وكلا القسمين يجوز إطلاقه عليه تعالى.
القسم الثالث في الصفات الحقيقية المغايرة للوجود ولكيفيات الوجود. الفلاسفة والمعتزلة أنكروا قيام مثل هذه الصفات بذات الله تعالى أشد إنكار لأن واجب الوجود لذاته يجب أن يكون واحدا من جميع جهاته، ولأن تلك الصفة لو كانت واجبة الوجود لزم شريك للباري مع أن الجمع بين الوجود الذاتي وبين كونه صفة للغير، والصفة مفتقرة إلى الموصوف محال، وإن كانت ممكنة الوجود فلها علة موجدة، ومحال أن يكون هو الله تعالى
برى القلم إذا أصلحه وجعله موافقا لغرض معين. ومنها ألفاظ تدل على إيجاد شيء بعينه وأنها تكاد تكون غير متناهية. ومنها ألفاظ تدل على إيجاد النوع الفلاني لأجل الحكمة
وأما الصفات السلبية فمنها ما يعود إلى الذات كقولنا إنه ليس جوهرا ولا جسما ولا مكانيا ولا زمانيا ولا حالا ولا محلا ولا مفتقرا إلى شيء غيره، تعالى في ذاته وفي صفاته، وإنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. ومنها ما يعود إلى الصفات، ولا يخفى أن كل صفة من صفات النقص يجب تنزيه الله عنها، وذلك إما راجع إلى أضداد العلم كنفي النوم لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: ٢٥٥] وكنفي النسيان وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم: ٦٤] وكنفي الجهل لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ: ٣] وكأن لا يمنعه العلم ببعض المعلومات عن العلم بغيره لا يشغله شأن عن شأن. وإما راجع إلى أضداد القدرة ككونه منزها في أفعاله عن التعب والنصب وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [ق: ٣٨] وإنه لا يحتاج في فعله إلى الآلات وتقديم المادة والمدّة إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: ٤٠] وأنه لا يتفاوت في قدرته القليل والكثير وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل: ٧٧] وأنه لا تنتهي قدرته إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم: ١٩] وإما راجع إلى صفة الوحدة كنفي الأنداد والأضداد لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١] مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ [المؤمنون: ٩١] أو إلى صفة الاستغناء وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ [الأنعام: ١٤] ومنها ما يعود إلا الأفعال لا يخلق الباطل وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص: ٢٧] لا يخلق اللعب وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الأنبياء: ١٧] لا يخلق العبث أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [المؤمنون: ١١٥] لا يرضى بالكفر، لا يريد الظلم، لا يحب الفساد لا يؤذي من غير سابقة جرم ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء: ١٤٦] لا ينتفع بطاعات المطيعين ولا يتضرر بمعاصي المذنبين إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: ٧] ليس لأحد أن يعترض عليه في أفعاله وأحكامه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: ٢٣] لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران: ٩] ومن أسماء السلوب القدوس والسلام لأنه منزه وسالم من نقائص الإمكان.
واللطيف قد يراد به إيصال المنافع إلى الغير بطرق خفية عجيبة، والتحقيق أنه الذي ينفذ تصرفه في جميع الأشياء. ومنها ما يرجع إلى الكلام وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء:
١٦٤] وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً [الشورى: ٥١] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ [البقرة:
٣٠] ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: ٣٠] وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء: ١٢٢] إِنَّما أَمْرُهُ [يس: ٨١] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ [النساء: ٥٨] وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا [النساء: ١٢٢] فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم: ٩] وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً [النساء: ١٤٧] كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً [الدهر: ٢٢] وذلك أنه أثنى على عبده بمثل قوله كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: ١٨، ١٩] وهذا صورة الشكر. ومنها ما يرجع إلى الإرادات يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة: ١٨٥] رضي الله عنهم أي صار مريدا لأفعالهم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: ٥٤] وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة: ١٠٨] يريد إيصال الخير إليهم كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [الإسراء: ٣٨]. الأشعرية:
الكراهية عبارة عن إرادة عدم الفعل. المعتزلة: له صفة أخرى غير الإرادة. ومنها ما يرجع إلى السمع والبصر إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: ٤٦] إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء: ١] لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الأنعام: ١٠٣] وأما الصفات الإضافية مع السلبية فكالأول لأنه مركب من معنيين: أحدهما أنه سابق على غيره، والثاني لا يسبق عليه غيرهن وكالآخر فإنه الذي يبقى بعد غيره ولا يبقى بعد غيرهن، وكالقيوم فإنه
ورد «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري» «١»
والرداء أرفع من الإزار. وأيضا اختص تحريم الصلاة بالله أكبر دون الله أعظم. ولا ريب أن إطلاق العظمة والكبر على الله تعالى بحسب الحجمية والمقدار كما للأجسام محال للزوم التبعيض والتجزئة. ومنها العلي والمتعالي، فإن العلو بالمعنى المستلزم للتمكن محال على الله فإما أن يراد بمثل هذه الألفاظ مزيد الرتبة والشرف على الممكنات، وإما أن يقال: إنا نطلق هذه الأسماء للإذن الشرعي فنكل معانيها إلى مراد الله تعالى، وإما أن نستمد في إدراكها بضرب من الكشف والعيان.
(العاشر في الأسماء المضمرة) قال عز من قائل: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا [طه:
١٤] ولا يصح لغيره هذا الذكر إلا حكاية. وما جاء من قول بعض أهل الكمال: أنا من أهوى ومن أهوى أنا. إشارة إلى كمال المحبة وغاية إرادة الاتصاف بصفة المحبوب وفناء إرادته في إرادته، وقال: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: ٨٧] ولا يصح هذا إلا من العبد بشرط الحضور والمشاهدة. وقال لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:
٢٥٥] وإنما يصح هذا من الغائبين. واعلم أن درجات الحضور مختلفة بالقرب والبعد وكمال التجلي ونقصانه، فكل حاضر غائب بالنسبة إلى ما فوق تلك الدرجة، ورب غائب حاضر كما قيل:
أيا غائبا حاضرا في الفؤاد | سلام على الغائب الحاضر |
فلهذا ينادي نداء الغائبين ويقول: يا هو. ومنها أنه إذا قال: يا هو فقد حكم على كل ما سوى الله تعالى بأنه نفي محض، لأنه لو حصل في الوجود شيئان لكان قوله «هو» صالحا لهما جميعا فلا يتعين النداء. ومنها إذا قال: يا رحمن فكأنه يتذكر رحمته أو يطلب رحمته، وكذا إذا قال: يا كريم وغيره من الصفات. فأما إذا قال: «يا هو» فكأنه استغرق في بحر العرفان وفني عما سوى الذات. ومنها إذا قال: «يا هو» فكأنه يقول: أجلّ حضرتك أن أمدحك، وأثني عليك بسلب نقائص المخلوقات عنك وهي صفات الجلال نحو: لا جسم ولا جوهر ولا عرض ولا في المحل، أو بإسناد كمالات الممكنات إليك وهي صفات الإكرام ككونه مرتبا للموجودات على النحو الأكمل، بل لا أمدحك ولا أثني عليك إلا بهويتك من حيث هي. ومنها أن هذا الذكر يفيد أن المنادي بسيط محض لا طريق إلى تصوره إلا بالإشارة العقلية. ومنها أن العبد كأنه دهش حتى ذهل عن كل ما يوصف به مالكه إلا عن هذه الإشارة. ولاختصاص هذا الذكر بهذه الأسرار ذكر الغزالي لا إله إلا الله توحيد العوام، ولا إله إلا هو توحيد الخواص. وذلك أن قوله «لا هو» معناه كل شيء هالك، وقوله «إلا هو» معناه إلا وجهه. ومن جملة الأذكار الشريفة: يا هو يا من لا هو إلا هو، يا أزل يا أبد يا دهر يا ديهور يا من هو الحي الذي لا يموت. ولقد لقنني بعض المشايخ من الذكر: يا هو يا من هو هو يا من لا هو إلا هو يا من لا هو بلا هو إلا هو. فالأول فناء عما سوى الله، والثاني فناء في الله، والثالث فناء عما سوى الذات، والرابع فناء عن الفناء عما سوى الذات.
الحادي عشر في بقية مباحث الأسماء اختلفوا في أسماء الله تعالى توقيفية أم لا. فمال بعضهم إلى التوقيف لأنا نصف الله تعالى بكونه عالما ولا نصفه بكونه طبيبا وفقيها ومستيقنا، فلولا أن أسماءه توقيفية لوصف بمثلها وإن كان على سبيل التجوز. القائلون بعدم التوقيف احتجوا بأن أسماء الله تعالى وصفاته مذكورة بالفارسية والتركية وأن شيئا منها لم يرد في القرآن ولا في الأخبار، مع أن المسلمين أجمعوا على جواز إطلاقها. والجواب أن عدم التوقيف في غير اللغة العربية لا يوجب عدمه في العربية، وبأن الله تعالى قال: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف: ١٨٠] وكل اسم دل على صفات الكمال ونعوت الجلال كان حسنا ويجوز إطلاقه. والجواب أنه يجوز ولكن بعد التوقيف لم قلتم إنه ليس كذلك؟ والغزالي فرق بين
٥٤] ومنها الغضب وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الفتح: ٦] ومنها التعجب بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ [الصافات: ١٢] فيمن قرأ بضم التاء. والتعجب حالة للقلب تعرض عند الجهل بسبب الشيء ومنها التكبر الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر: ٢٣] ومنها الحياء إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا [البقرة: ٢٦] والحياء تغير يعرض للقلب والوجه عند فعل شيء قبيح. والقانون في تصحيح هذه الألفاظ أن يقال لكل واحدة من هذه الأحوال أمور توجد معها في البداية وآثار تصدر منها في النهاية مثاله: الغضب حالة تحصل في القلب عند غليان دمه وسخونة مزاجه، والأثر الحاصل منها في النهاية إيصال الضرر إلى المغضوب عليه.
فالغضب في حقه تعالى محمول على الأثر الحاصل في النهاية لا الأمر الكائن في البداية، وقس على هذا. قيل: إن لله تعالى أربعة آلاف اسم، ألف منها في القرآن والأخبار، وألف في التوراة، وألف في الإنجيل، وألف في الزبور. وقد يقال: ألف آخر في اللوح المحفوظ ولم يصل ذلك إلى البشر وهذا غير مستبعد، فإن أقسام صفات الله تعالى بحسب السلوب والإضافات لا تكاد تنحصر، وكل من كان اطلاعه على آثار حكمة الله تعالى في تدبير العالم العلوي والعالم السفلي أكثر كان اطلاعه على أسماء الله أكثر. وإن قلنا: إن له بكل مخلوق اسما وكذا بكل خاصية ومنفعة فيه كمنافع الأعضاء والحيوان والنبات والأحجار، خرجت الأسماء عن حيز العد والإحصاء كما قال عز من قائل: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: ٣٤] فإن قلت: إنا نرى في كتب العزائم أذكارا غير معلومة ورقى غير مفهومة وقد تكون كتابتها أيضا غير معلومة، فما بال تلك الأذكار والرقى؟ قلت: لا نشك أن تلك الكلمات إن لم تدل على شيء أصلا لم تفد، وإن دلت فأحسن أحوال تلك الكلمات أن تكون شيئا من هذه الأدعية. ولا ريب أن الأذكار المعلومة أدخل في التأثير من قراءة تلك المجهولات، إلا أن أكثر الناس إذا قرأوا هذه الأذكار المعلومة ولم يكن لهم نفوس مشرقة تجذب بهم إلى عالم القدس ويلوح عليهم أثر الإلهيات، لم يكد يظهر عليهم شروق أنوارها ولهذا قد
ورد «رب تال للقرآن والقرآن يلعنه»
نعوذ بالله من هذه الحالة. أما إذا قرأوا تلك الألفاظ المجهولة ولم يفهموا منها شيئا وحصلت عندهم أوهام أنها كلمات عالية، استولى الفزع والرعب على قلوبهم فيحصل لهم بهذا السبب نوع تجرد عن الجسمانيات وتوجه إلى الروحانيات فتتأثر نفوسهم وتؤثر، وهذا وجه مناسب في قراءة الرقى المجهولة. واعلم أن
قال صلى الله عليه وسلم: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة» «١»
«الأرواح جنود مجندة» «٢»
«اعملوا فكل ميسر لما خلق له» «٣»
فهذا تمام البحث عن مطلق الأسماء.
(الثاني عشر في الأبحاث المختصة باسم الله) المختار عند الخليل ومتابعيه وعند أكثر الأصوليين والفقهاء أن هذا اللفظ ليس بمشتق البتة، وأنه اسم علم له سبحانه وتعالى. لأنه لو كان مشتقا لكان معناه معنى كليا لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه، وحينئذ لا يكون قولنا «إلا الله» موجبا للتوحيد المحض. فلا يدخل الكافر بقوله: «أشهد أن لا إله إلا الله» في الإسلام كما لو قال: «أشهد أن لا إله إلا الرحمن» أو «إلا الملك» لا يدخل بذلك في الإسلام بالاتفاق. وأيضا الترتيب العقلي ذكر الذات ثم تعقيبه بالصفات نحو: زيد الفقيه الأصولي النحوي. ثم إنا نقول: الله الرحمن الرحيم العالم القادر ولا نقول بالعكس، فدل ذلك على أن «الله» اسم علم. وقراءة من قرأ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [إبراهيم: ١، ٢] بخفض اسم الله ليست لأجل أن جعله وصفا وإنما هو للبيان، فوازنه وزان قولك: «مررت بالعالم الفاضل الكامل زيد». وأيضا قال تعالى:
هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: ٦٥] وليس المراد به الصفة والإلزام خلاف الواقع، فوجب أن يكون المراد اسم العلم وليس ذلك إلا الله. حجة القائلين باشتقاقه قوله عز من قائل
(٢) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ٢. مسلم في كتاب البر حديث ١٥٩، ١٦٠. أحمد في مسنده (٢/ ٢٩٥، ٥٢٧).
(٣) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٩٢ باب ٣- ٥. مسلم في كتاب القدر حديث ٦- ٨. أبو داود في كتاب السنة باب ١٦. الترمذي في كتاب القدر باب ٣. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٠.
أحمد في مسنده (١/ ٦، ٢٩).
وقيل: اشتقاقه من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه. فالنفوس لا تسكن إلا إليه تعالى، والعقول لا تقف إلا لديه، لأن الكمال محبوب لذاته أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُوا [الرعد: ٢٨- ٢٩] وقيل: من الوله وهو ذهاب العقل سواء فيه الواصلون إلى ساحل بحر العرفان والواقفون في ظلمات الجهالة وتيه الخذلان. وقيل: من لاه ارتفع لأنه تعالى ارتفع عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات.
وقيل: من أله في الشيء إذا تحير فيه، لأن العقل وقف بين إقدام على إثبات ذاته نظرا إلى وجود مصنوعاته، وبين تكذيب لنفسه لتعاليه عن ضبط وهمه وحسه، فلم يبق إلا أن يقر بالوجود والكمال مع الاعتراف بالعجز عن إدراك كنه الجلال والجمال، وهاهنا العجز عن درك الإدراك إدراك.
وقيل: من لاه يلوه إذا احتجب، لأنه بكنه صمديته محتجب عن العقول. فإنا إنما
وقيل: من أله الفصيل إذا ولع بأمه، لأن العباد مولعون بالتضرع إليه في البليات وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [الروم: ٣٣] هذا شأن الناقصين، وأما الكاملون فهو جليسهم وأنيسهم أبدا. شكا بعض المريدين كثرة الوسواس فقال الشيخ: كنت حدّادا عشر سنين وقصارا عشرا وبوابا عشرا. فقيل: وكيف وما رأينا منك؟ قال: القلب كالحديد ألينه بنار الخوف عشرا، ثم شرعت في غسله عن الأوضار والأوزار عشرا، ثم وقفت على باب القلب عشرا أسل سيف «لا إله إلا الله» فلم أترك حتى يخرج منه حب غير الله ويدخل فيه حب الله، فلما خلت عرصة القلب من غيره وقويت فيه محبته سقطت من بحر عالم الحلال قطرة من النور فغرق القلب فبقي في تلك القطرة وفني عن الكل ولم يبق فيه إلا محض سر «لا إله إلا الله».
وقيل: من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به فألهه أي أجاره. والمجير للخلائق من كره المضارّ هو الله وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ [المؤمنون: ٨٨] ومن لطائف اسم الله أنك إذا لم تتلفظ بالهمزة بقي «الله» وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الفتح: ٤] فإن تركت من هذه البقية اللام الأولى بقيت البقية على صورة «له» لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [البقرة: ٢٥٥] وإن تركت اللام الباقية أيضا بقي الهاء المضمومة من «هو» قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: ١] والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع هما هم. هذا بحسب اللفظ، وأما بحسب المعنى فإذا دعوت الله به فكأنك دعوته بجميع الصفات بخلاف سائر الأسماء ولهذا صحت كلمة الشهادة به فقط والله تعالى أعلم.
(الثالث عشر فيما يتعلق بالرحمن الرحيم) الرحمن فعلان من رحم، والرحيم فعيل منه واشتقاقه من الرحمة وهي ترك عقوبة من يستحقها أو إرادة الخير لأهله. وأصله الرقة والتعطف ومنه الرحم لرقتها وانعطافها على ما فيها. واختلف في منع صرف رحمن إذ ليس له مؤنث على فعلى كعطشى، ولا على فعلانة كندمانة، فمن شرط في منع صرف فعلان صفة وجود فعلي صرفه، ومن شرط فيه انتفاء فعلانة لم يصرفه، وإذا تساقط الدليلان للتعارض فللصرف وجه، وهو أن الأصل في الأسماء الصرف ولمنع الصرف وجه وهو
متى أدن منه ينأ عني ويبعد وقال قوم: الرحمن أشد مبالغة استدلالا بالزيادة في اللفظ على الزيادة في المعنى.
قالوا: ولهذا جاء رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا، وربما يقال رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، لأن رحمته في الدنيا عمت المؤمن والكافر والبر والفاجر، وفي الآخرة اختصت بالمؤمنين. فالرحمن خاص اللفظ عام المعنى والرحيم بالعكس. أما خصوص الرحمن فمن حيث لا يسمى به إلا الله تعالى لأنه من الصفات الغالبة كالدبران والعيوق، وأما عمومه فمن حيث إنه يشمل جميع الموجودات من طريق الخلق والرزق والنفع. وأما عموم الرحيم فاشتراك تسمية الخلق به، وأما خصوصه فرجوعه إلى اللطف بالمؤمنين والتوفيق. الضحاك:
الرحمن بأهل السماء حيث أسكنهم السموات وطوقهم الطاعات وأنطق ألسنتهم بأنواع التسبيحات وجنبهم الآفات وقطع عنهم المطامع واللذات، والرحيم بأهل الأرض حيث أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب. فقال عكرمة: الرحمن برحمة واحدة والرحيم بمائة رحمة كما
قال صلى الله عليه وسلم: «إن لله تعالى مائة رحمة وإنه أنزل منها رحمة واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه فيها يتعاطفون وبها يتراحمون وأخر تسعا وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة» «١»
قال ابن المبارك: الرحمن الذي إذا سئل أعطى، والرحيم الذي إذا لم يسأل غضب.
قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يسأل الله يغضب عليه» «٢»
الرحمن بالنعماء وهي ما أعطى وحبا، والرحيم باللأواء وهي ما صرف وزوى. الرحمن بالإنقاذ من النار وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آل عمران: ١٠٣] والرحيم بإدخالهم الجنان ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر: ٤٦] الرحمن الراحم القادر على كشف الضر، والرحيم الراحم وإن لم يقدر على كشف الضر. وتسمية مسيلمة الكذاب بالرحمن تعنت منهم واقتطاع من أسماء الله تعالى. قال عطاء: ولذلك قرنه الله تعالى بالرحيم لأن هذا المجموع لم يسم غيره. وإنما قدم الرحمن وهو الأعلى على الرحيم، والعادة التدرج من الأدنى إلى الأعلى، لأن الرحمن يتناول عظائم النعم وأصولها، فإردافه بالرحيم كالتتمة ليتناول ما دق منها ولطف. واعلم أن الأشياء التي أنعم الله تعالى بها على الخلق أربعة أقسام:
(٢) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب ٢٤.
الثاني: أن يكون نافعا لا ضروريا كالمال في الدنيا وكسائر العلوم والمعارف في الآخرة.
الثالث: أن يكون ضروريا لا نافعا كالآفات والعلل ولا نظير لهذا القسم في الآخرة الرابع: أن لا يكون نافعا ولا ضروريا كالفقر في الدنيا والعذاب في الآخرة. وبالجملة فكل نعمة أو نقمة دنيوية أو أخروية فإنما تصل إلى العبد أو تندفع عنه برحمة الله تعالى وفضله من غير شائبة غرض ولا ضميمة علة، لأنه الجواد المطلق والغني الذي لا يفتقر، فينبغي أن لا يرجى إلا رحمته ولا يخشى إلا عقابه. (الرابع عشر في نكت شريفة). الأولى:
كل العلوم تندرج في الكتب الأربعة، وعلومها في القرآن، وعلوم القرآن في الفاتحة، وعلوم الفاتحة في «بسم الله الرحمن الرحيم»، وعلومها في الباء، من بسم الله، وذلك أن المقصود من كل العلوم وصول العبد إلى الرب، وهذه الباء للإلصاق، فهو يوصل العبد إلى الرب وهو نهاية المطلب وأقصى الأمد. وقيل: إنما وقع ابتداء كتاب الله تعالى بالباء دون الألف، لأن الألف تطاول وترفع والباء انكسر وتساقط ومن تواضع لله رفعه الله.
الثانية: مرض موسى عليه السلام واشتد وجع بطنه، فشكا إلى الله فدله على عشب في المفازة فأكله فعوفي بإذن الله، ثم عاوده ذلك المرض في وقت آخر فأكل ذلك العشب فازداد مرضه، فقال: يا رب أكلته أوّلا فاشتفيت به وأكلته ثانيا فضرني. فقال: لأنك في المرة الأولى ذهبت مني إلى الكلأ فحصل فيه الشفاء. وفي الثانية: ذهبت منك إلى الكلأ فازداد المرض. أما علمت أن الدنيا كلها سم وترياقها اسمي.
الثالثة: باتت رابعة ليلة في التهجد والصلاة، فلما انفجر الصبح نامت فدخل السارق دارها وأخذ ثيابها، وقصد الباب فلم يهتد إلى الباب فوضعها فوجد الباب، وفعل ذلك ثلاث مرات فنودي من زاوية البيت: ضع القماش واخرج فإن نام الحبيب فالسلطان يقظان.
الرابعة: كان بعض العارفين يرعى غنما فحضر في غنمه الذئب ولا يضر أغنامه، فمر عليه رجل وناداه متى اصطلح الغنم والذئب؟ قال الراعي: من حين اصطلح الراعي مع الله.
الخامسة: روي أن فرعون قبل أن ادعى الإلهية قصد أو أمر أن يكتب باسم الله على بابه الخارج، فلما ادعى الإلهية وأرسل الله إليه موسى ودعا فلم ير به أثر الرشد قال: إلهي كم أدعوه ولا أرى به خيرا، فقال تعالى: يا موسى لعلك تريد إهلاكه، أنت تنظر إلى كفره
السادسة: سمى نفسه رحمانا ورحيما فكيف لا يرحم؟ روي أن سائلا وقف على باب رفيع فسأل شيئا فأعطي قليلا فجاء بفأس وأخذ يخرب الباب، فقيل له: لم تفعل؟ قال: إما أن تجعل الباب لائقا بالعطية أو العطية لائقة بالباب. إلهي كما أثبت في أول كتابك صفة رحمتك فلا تجعلنا محرومين من فضلك.
السابعة: إذا اشترى العبيد شيئا من الدواب أو المتاع وضعوا عليه سمة الملك لئلا يطمع فيه العدوّ، فالله تعالى يقول: عبدي عدوّك الشيطان فإذا شرعت في عمل وطاعة فاجعل عليها سمتي وقل: «بسم الله الرحمن الرحيم».
الثامنة: اجعل ذكر الله قرينك حتى لا تبعد عنه في أحوالك.
روي أن النبي ﷺ دفع خاتما إلى أبي بكر وقال: اكتب فيه «لا إله إلا الله» فدفعه إلى النقاش وقال: اكتب فيه «لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم» فكتب النقاش ذلك، فأتى أبو بكر بذلك الخاتم إلى النبي ﷺ فرأى النبي فيه «لا إله إلا الله محمد رسول الله ﷺ أبو بكر الصديق» فقال: يا أبا بكر ما هذه الزوائد؟ فقال: يا رسول الله ما رضيت أن أفرق اسمك من اسم الله فما رضي الله أن يفرق اسمي عن اسمك.
التاسعة: أن نوحا ﷺ لما ركب السفينة قال: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هود: ٤١] فنجا بنصف هذه الكلمة، فما ظنك بمن واظب على الكلمة طول عمره كيف يبقى محروما عن النجاة؟
العاشرة: الناس ثلاثة: سابق بالخيرات ومقتصد وظالم لنفسه. فقال: الله للسابقين، الرحمن للمقتصدين، الرحيم للظالمين. الله معطي العطاء، الرحمن المتجاوز عن زلات الأولياء، الرحيم الساتر لعيوب الأغنياء. يعلم منك ما لو علمه أبواك لفارقاك، ولو علمت المرأة لجفتك، ولو علمت الأمة لأقدمت على الفرار، ولو علم الجار لسعى في تخريب الدار. الله يوجب ولايته اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: ٢٥٧] الرحمن يستدعي محبته إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا [مريم: ٩٦] الرحيم يفيض رحمته وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: ٤٣] هو رحيم بهم في ستة مواضع: في القبر وحسراته، والقيامة وظلماته، وقراءة الكتب وفزعاته، والصراط ومخافاته، والنار ودركاته، والجنة ودرجاته.
الثانية عشرة: كتب عارف «بسم الله الرحمن الرحيم» وأوصى أن تجعل في كفنه.
فقيل له في ذلك؟ فقال: أقول يوم القيامة: إلهي بعثت كتابا وجعلت عنوانه «بسم الله الرحمن الرحيم» فعاملني بعنوان كتابك.
الثالثة عشرة: «بسم الله الرحمن الرحيم» تسعة عشر حرفا والزبانية تسعة عشر، فالله تعالى يدفع بليتهم بهذه الحروف التسعة عشر.
الرابعة عشرة: اليوم بليلته أربع وعشرون ساعة، ثم فرض خمس صلوات في خمس ساعات فبقي التسعة عشرة ساعة لا تستغرق بذكر الله تعالى، وهذه التسعة عشر حرفا تقع كفارات للذنوب الواقعة في تلك التسع عشرة.
الخامسة عشرة: لما كانت سورة التوبة مشتملة على القتال والبراءة لم يكتب في أولها «بسم الله الرحمن الرحيم» وأيضا السنة أن يقال عند الذبح: «بسم الله والله أكبر» ولا يقال:
«بسم الله الرحمن الرحيم» فلما وفقك الله لذكر هذه الكلمات كل يوم سبع عشرة مرة في الصلوات المفروضة دل ذلك على أنه ما خلقك للقتل والعذاب وإنما خلقك للرحمة والثواب.
السادسة عشرة:
قال صلى الله عليه وسلم: «من رفع قرطاسا من الأرض فيه بسم الله الرحمن الرحيم إجلالا لله تعالى كتب عند الله من الصدّيقين وخفف عن والديه وإن كانا من المشركين»
وعن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت «بسم الله الرحمن الرحيم» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول ما نزلت هذه الآية على آدم قال: أمن ذريتي من العذاب ما داموا على قراءتها، ثم رفعت فأنزلت على إبراهيم عليه السلام فتلاها وهو في كفة المنجنيق فجعل الله عليه النار بردا وسلاما، ثم رفعت بعده فما أنزلت إلا على سليمان وعندها قالت الملائكة: الآن تم والله ملكك، ثم رفعت فأنزلها الله تعالى عليّ، ثم يأتي أمتي يوم القيامة وهم يقولون: «بسم الله الرحمن الرحيم» فإذا وضعت أعمالهم في الميزان ترجحت حسناتهم.
وعن أبي هريرة
وعن أنس أن رسول الله ﷺ قال: «ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا نزعوا ثيابهم أن يقولوا بسم الله الرحمن الرحيم»
والإشارة فيه إذا صار هذا الاسم حجابا بينك وبين أعدائك من الجن في الدنيا أفلا يصير حجابا بينك وبين الزبانية في العقبى؟.
كانت لنفسي أهواء مفرّقة | فاستجمعت إذ رأتك النفس أهوائي |
فصار يحسدني من كنت أحسده | وصرت مولى الورى مذ صرت مولاي |
تركت للناس دنياهم ودينهم | شغلا بذكرك يا ديني ودنيائي |
وأما تفسير الفاتحة ففيه أيضا مسائل: الأولى: في أسماء هذه السورة وهي كثيرة، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى.
فالأول: فاتحة الكتاب سميت بذلك لأنه يفتتح بها في المصاحف وفي التعليم وفي القراءة في الصلاة، ولأن الحمد فاتحة كل كتاب كما هي فاتحة القرآن. وقيل: لأنها أول سورة نزلت من السماء.
الثاني: سورة الحمد لأن أولها الحمد.
الثالث: أم الكتاب وأم القرآن لأنها أصل القرآن وأصل كل كتاب منزل لاشتمالها على الإلهيات والمعاد وإثبات القضاء والقدر والنبوات، أو لأن فيها حاصل جميع الكتب السماوية وذلك هو الثناء على الله والاشتغال بالخدمة والطاعة وطلب المكاشفات والمشاهدات، أو لأن المقصود من جميع العلوم معرفة عزة الربوبية وذلة العبودية، أو لأنها أفضل سور القرآن كما أن مكة وهي أم القرى أشرف البلدان، أو أصل لجميع البلدان حيث دحيت من تحتها، وكما أن الحمى سميت أم ملدم لأنهم جعلوها معظم الأوجاع واللدم الضرب.
قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة والإنجيل ولا في الزبور مثل هذه السورة وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم» «١»
أو لأنها نزلت مرتين، أو لأنها أثنية ومدائح لله تعالى.
الخامس: الوافية لأنها تجب قراءة كلها ولا يجزىء بعضها في الصلاة.
السادس: الكافية
قال صلى الله عليه وسلم: «أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها عوضا عنها».
السابع: الشفاء والشافية
لقوله ﷺ «فاتحة الكتاب شفاء من كل سقم» «٢».
الثامن: الأساس لأنها أول سور القرآن فهي كالأساس، أو لأنها تشتمل على أساس العبادات والمطالب.
قال الشعبي: سمعت عبد الله بن عباس يقول: أساس الكتب القرآن، وأساس القرآن فاتحة الكتاب، وأساس الفاتحة «بسم الله الرحمن الرحيم» فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالأساس تشف بإذن الله تعالى.
التاسع: الصلاة
قال النبي ﷺ حكاية عن الله تعالى: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» «٣».
يعني الفاتحة وهو من باب تسمية الشيء بمعظم أركانه. ومنه يعلم وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة.
العاشر: سورة تعليم المسألة لأن الله تعالى علم عباده فيها آداب السؤال فبدأ بالثناء ثم بالإخلاص ثم بالدعاء.
الحادي عشر: سورة الكنز لما
روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش
ولهذا قال أكثر العلماء: إنها مكية وخطؤا مجاهدا في قوله: إنها مدنية، وكيف لا؟
وقد صح عن النبي ﷺ في حديث أبي بن كعب أنها من أول ما نزل من القرآن وأنها السبع المثاني،
وسورة الحجر مكية بلا خلاف وفيها قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: ٨٧] ولا يسعنا القول بأن رسول الله ﷺ لبث بضع عشرة سنة بلا فاتحة الكتاب. وقد جمع طائفة من العلماء بين القولين فقالوا إنها
(٢) رواه الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب ١٢.
(٣) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث ٣٨، ٤٠. أبو داود في كتاب الصلاة باب ١٣٢. الترمذي في كتاب تفسير سورة الفاتحة باب ١. النسائي في كتاب الافتتاح باب ٢٣.
ومن فضائل هذه السورة أنه لم يوجد فيها الثاء وهو الثبور لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الفرقان: ١٤] والجيم وهو جهنم وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: ٤٣] والخاء وهو الخزي يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم: ٨] والزاء وهو الزفير والزقوم. والشين وهو الشهيق لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود: ١٠٦] والظاء وهو لظى كَلَّا إِنَّها لَظى [المعارج: ١٥] والفاء وهو الفراق وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم: ١٤] فلما أسقط الله تعالى من الفاتحة هذه الحروف الدالة على العذاب وهي بعدد أبواب جهنم لقوله تعالى: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر: ٤٤] غلب على الظن أن من قرأ الفاتحة نجا من جهنم ودخول أبوابها وتخلص من دركات النار وعذابها.
الثانية: في المباحث اللفظية.
الحمد مبتدأ والله خبره أي الحمد ثابت لله. وأصله النصب الذي هو قراءة بعضهم بإضمار فعله كقولهم شكرا وعجبا وسبحانك ومعاذ الله، فعدل إلى الرفع للدلالة على ثبات المعنى واستقراره نحو قوله تعالى فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [الذاريات: ٢٥] ولهذا كان تحية إبراهيم عليه السلام أحسن من تحيتهم كما جاء وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها.
[النساء: ٨٦] ومما يدل على أن أصله النصب أن قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ بيان لحمدهم فكأنه قيل: كيف يحمدون؟ فقيل: إياك نعبد. والأصل توافق الجملتين. واللام في «الحمد» لتعريف الجنس ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو.
والاستغراق وهم لأنه لو سلم كونه اللام للاستغراق فحمد أبويه مثلا لا يدخل فيه. وأيضا نحو نحمد الله لا يفهم منه إلا حقيقة الحمد من حيث هي فكذا ما ناب منابه وهو الحمد لله.
وقرأ بعضهم بكسر الدال اتباعا، وبعضهم بضم اللام.
الرب المالك، ربه يربه فهو رب، أو مصدر وصف به للمبالغة كالعدل. وهو مطلقا مختص بالله تعالى، ومضافا يجوز إطلاقه على غيره نحو: رب الدار ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ [يوسف: ٥٠] وقرىء بالنصب على المدح أو بتقدير نحمد. والعالم اسم موضوع للجمع كالأنام والرهط، وهو ما يعقل من الملائكة والثقلين قاله ابن عباس والأكثرون. وقيل: كل ما علم به الخالق من الجواهر والأعراض كقوله تعالى قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ
[الشعراء: ٢٣، ٢٤] فعلى الأول مشتق من العلم وخصوا بالذكر للتغليب، وعلى الثاني من العلامة وجمع ليشمل كل جنس مما سمي به، وجمع بالواو والنون تغليبا لما فيه من صفات العقلاء. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ صفة أخرى.
واليوم هو المدة من طلوع نصف جرم الشمس إلى غروب نصف جرمها، أو من ابتداء طلوعها إلى غروب كلها، أو من طلوع الفجر الثاني إلى غروبها، وهذا في عرف الشرع.
ويراد به في الآية الوقت لعدم الشمس ثمة. والدين الجزاء بالخير والشر
«كما تدين تدان» «١»
وإضافة اسم الفاعل إلى الظرف اتساع وإجراء للظرف مجرى المفعول به مثل: يا سارق الليلة أهل الدار. وإنما أفادت التعريف حتى جاز وقوعه صفة للمعرفة لأنه إما بمعنى الماضي نحو وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ [الأعراف: ٤٨] وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [الزمر: ٧٣] أو بمعنى الاستمرار نحو: زيد مالك العبيد. فيكون بمعنى من يملك المفيد للاستمرار نحو: فلان يعطي ويمنع. وحينئذ لا تعمل، فتكون الإضافة حقيقية، وقرىء بنصب الكاف ورفعها مدحا، وبسكون اللام مخفف ملك مكسور اللام وبجعله فعلا ماضيا ونصب يوم ومليك رفعا ونصبا وجرا. «ايا» ضمير منصوب منفصل ولا محل لكاف الخطاب نحو «أرأيتك» وهو مذهب الأخفش والمحققين وحكاية الخليل «إذا بلغ الرجل الستين فإياه وايا الشواب» شاذ. والأصل نعبدك ونستعينك، فلما قدم الضمير المتصل للاختصاص صار منفصلا. وقرىء إياك بتخفيف الياء، وأياك بفتح الهمزة والتشديد، وهياك بقلب الهمزة هاء، قال طفيل:
فهياك والأمر الذي إن تراحبت | موارده ضاقت عليك مصادره |
وقد يختص مواقعه بفوائد وسننظم لك في سلك التقرير فائدته في هذا الموضع. والعبادة أقصى غاية الخضوع. طريق معبد أي مذلل، وثوب ذو عبدة في غاية الصفاقة وقوة النسج هدى يتعدى باللام أو بإلى إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: ٩] وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: ٥٢] فعومل معاملة اختار في قوله تعالى وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: ١٥٥] والأصل فيه الإمالة ومنه إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف:
١٥٦] أي ملنا والهدية لأنها تمال من ملك إلى ملك والهدي للذي يساق إلى الحرم أي أمل
كقوله: «ولقد أمر على اللئيم يسبني».
أو لأن المغضوب عليهم والضالين خلاف المنعم عليهم فهو كقولك: عليك بالحركة غير السكون ويجوز أن يكون بدلا وإن كان نكرة من معرفة ولا نعت للإفادة. والفرق بين عليهم الأولى والثانية، أن الأولى محلها النصب على المفعولية، والثانية محلها الرفع على أنها مفعول أقيم مقام الفاعل. وأصل النعمة المبالغة والزيادة يقال: دققت الدواء فأنعمت دقه أي بالغت في دقه. وكل ما في القرآن من ذكر النعمة بكسر النون فهي المنة والعطية. والنعمة بفتح النون التنعم وسعة العيش وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ [الدخان: ٢٧] والغضب في اللغة الشدة وقد عرفت معناه بحسب إطلاقه على الخلق وعلى الخالق. وأصل الضلال الغيبوبة ضل الماء في اللبن إذا غاب فيه، وضل الكافر غاب عن الحق. قال تعالى: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السجدة: ١٠] و «غير» هاهنا بمعنى «لا» و «لا» بمعنى «غير» ولذلك جاز عطف أحدهما على الآخر. تقول: أنا زيدا غير ضارب كما تقول: أنا زيدا لا ضارب. ويعضده ما قرىء وغير الضالين وقرأ أيوب السختياني ولا الضألين بالهمزة كما قرأ عمرو بن عبيد ولا جأن وآمين مدا وقصرا معناه استجب، كما أن رويد معناه أمهل.
وعن ابن عباس عن رسول الله ﷺ معناه إفعل.
(الثالث في المباحث الفقهية). البحث الأول: أجمع الأكثرون ومنهم الشافعي على أن قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة وإن ترك منها حرفا واحدا وهو يحسنها لم تصح صلاته.
وعند أبي حنيفة قراءتها غير واجبة لنا أنه ﷺ واظب طول عمره على قراءتها في الصلاة
فتجب علينا لقوله تعالى فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: ١٥٣] وأيضا أقيموا الصلاة معناه الصلاة التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه كان يقرأ الفاتحة فيها فتجب. وأيضا روي في ذلك أخبار كثيرة مثل
«لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»
«كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج» «١»
وظاهر الأمر للوجوب ولا سيما في معرض التعليم. وأيضا الخلفاء الراشدون واظبوا على قراءتها طول العمر
وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين» «١»
وأيضا المواظبة على قراءة الفاتحة توجب هجران سائر السور وذلك غير جائز إن لم تكن واجبة فثبت أنها واجبة. حجة أبي حنيفة فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: ٢٠] قلنا: الفاتحة هي المتيسرة المحفوظة على جميع الألسنة. ثم قال: إذا قرأ آية واحدة كفت مثل الم أو حم [الدخان: ١] وَالطُّورِ [الطور: ١] ومُدْهامَّتانِ [الرحمن: ٦٤]. أبو يوسف ومحمد: لا بد من قراءة ثلاث آيات أو آية واحدة طويلة مثل آية الدين.
البحث الثاني: قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها على أن التسمية ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وإنما كتبت للفصل والتبرك وهو مذهب أبي حنيفة ومن تابعه، ولذلك لا يجهر بها عندهم في الصلاة. وقراء مكة والكوفة وفقهاؤهما على أنها آية من كل سورة وعليه الشافعي وأصحابه لما
روي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: قرأ رسول الله ﷺ فاتحة الكتاب فعد «بسم الله الرحمن الرحيم» آية، «الحمد لله رب العالمين» آية، «الرحمن الرحيم» آية، «مالك يوم الدين» آية، «إياك نعبد وإياك نستعين» آية، «اهدنا الصراط المستقيم» آية «صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين» آية.
وعن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن «بسم الله الرحمن الرحيم» «٢»
وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري؟
فقلت: بلى فقال: بأي شيء تفتتح القرآن إذ افتتحت الصلاة؟ قلت: ببسم الله الرحمن الرحيم. قال: هي هي.
وبإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي ﷺ قال له: كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة؟ قال: أقول «الحمد لله» قال: قل «بسم الله الرحمن الرحيم»
وبإسناده عن علي بن أبي طالب أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ «بسم الله الرحمن الرحيم» وكان يقول: من ترك قراءتها فقد نقص في صلاته
وبإسناده عن ابن عباس في قوله وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: ٨٧] قال: فاتحة الكتاب. فقيل لابن عباس: فأين السابع؟ فقال: «بسم الله الرحمن الرحيم».
وعن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال:
إلى غير ذلك من الأخبار. وأيضا التسمية مكتوبة بخط القرآن في مصاحف السلف مع توصيتهم بتجريد القرآن عما ليس منه ولذلك لم يثبتوا «آمين». وأيضا
قال ﷺ لأبي بن كعب: ما أعظم آية في كتاب الله؟ قال: بسم الله الرحمن الرحيم، فصدّقه النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعلوم أنها ليست آية تامة في قوله إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النمل: ٣٠] فتكون آية في غير هذا الموضع. وأيضا إن أكثر الأنبياء أوجبوا على أنفسهم الابتداء بذكر الله قال نوح عند ركوب السفينة: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هود: ٤١] وكتب سليمان إلى بلقيس «بسم الله الرحمن الرحيم» وقوله إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ من قول بلقيس قبل فتح الكتاب، فلما فتحت الكتاب قرأت التسمية فقالت: وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ولما ثبت الابتداء بالتسمية في حقهم ثبت في حق نبينا أيضا أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: ٩٠] وعن عبد الله بن مسعود قال: كنا لا نعلم فصل ما بين السورتين حتى تنزل «بسم الله الرحمن الرحيم». وعن ابن عمر قال: نزلت «بسم الله الرحمن الرحيم» في كل سورة. وأيضا البسملة من القرآن في النمل ثم إنا نراه مكررا بخط القرآن فوجب أن نعتقد كونه من القرآن مثل فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن: ١٣] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: ١٥] حجة المخالف
خبر أبي هريرة أيضا في رواية أخرى قال: يقول الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد «الحمد لله رب العالمين» يقول الله حمدني عبدي» «٢» إلى آخره.
قال: لم يذكر التسمية، ولو كانت آية من الفاتحة لذكرها. قلنا: إذا تعارضت الروايتان فالترجيح للمثبت لا للنافي.
قالوا: التنصيف إنما يحصل إذا لم تعد التسمية آية حتى يحصل للرب ثلاث آيات ونصف وللعبد ثلاث ونصف من «إياك نستعين» إلى آخر السورة. أما إذا قلنا التسمية آية صار القسم الأول أربع آيات ونصفا فينخرم التنصيف. قلنا: نحن نعد التسمية آية ولا نعد «أنعمت عليهم» وهذا أولى رعاية لتشابه المقاطع، ولأن غير صفة أو بدل ويختل الكلام بجعله
(٢) المصدر السابق. [.....]
روت عائشة أن النبي ﷺ كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين. قلنا: قال الشافعي:
لعل عائشة جعلت «الحمد لله رب العالمين»
اسما لهذه السورة كما يقال قرأ فلان «الحمد لله الذي خلق السموات والأرض». قالوا: لو كانت من الفاتحة لزم التكرار في «الرحمن الرحيم» قلنا: التكرار للتأكيد غير عزيز في القرآن. فإن قيل: إذا عد التسمية آية من كل سورة على ما يروى عن ابن عباس، فمن تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله.
فما وجه ما
روي عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال في سورة الملك: إنها ثلاثون آية وفي الكوثر إنها ثلاث آيات
مع أن العدد حاصل بدون التسمية؟ قلنا: إما أن تعد التسمية مع ما بعدها آية وذلك غير بعيد، ألا ترى أن قوله «الحمد لله رب العالمين» آية تامة، وفي قوله وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: ١٠] بعض آية؟ وإما أن يراد ما هو خاصة الكوثر ثلاث آيات، فإن التسمية كالشيء المشترك فيه بين السور.
البحث الثالث: عن أحمد بن حنبل أن التسمية آية من الفاتحة، ويسرّ بها في كل ركعة. أبو حنيفة: ليست بآية ويسر بها. مالك: لا ينبغي أن يقرأها في المكتوبة لا سرا ولا جهرا. الشافعي: آية ويجهر بها لأنها بعد ما ثبت كونها من الفاتحة والقرآن لا يعقل فرق بينها وبين باقي الفاتحة حتى يسر بهذه ويجهر بذلك. وأيضا إنه ثناء على الله وذكر له فوجب أن يكون الإعلان به مشروعا لقوله عز من قائل فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [البقرة: ٢٠٠] وأيضا الإخفاء والسر إنما يليق بما فيه نقيصة ومثلبة لا بما فيه مفخرة وفضيلة.
قال صلى الله عليه وسلم: «طوبى لمن مات ولسانه رطب من ذكر الله»
وكان علي بن أبي طالب يقول: يا من ذكره شرف للذاكرين.
وكان مذهبه الجهر بها في جميع الصلوات، وقد ثبت هذا منه تواترا ومن اقتدى به لن يضل.
قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم أدر الحق معه حيث دار» «١»
وروى البيهقي في السنن الكبرى عن أبي هريرة قال: كان رسول الله ﷺ يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم. وروي عن عمر وابنه وابن عباس وابن الزبير مثل ذلك،
وروى الشافعي بإسناده أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ «بسم الله الرحمن الرحيم» ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود، فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار: يا معاوية سرقت من
«الحمد لله رب العالمين». وصليت خلف عثمان فقال: «الحمد لله رب العالمين» فإذا صليت فقل: «الحمد لله رب العالمين». والجواب أن حديث أنس معارض بما يروى عنه أيضا أن معاوية لما ترك التسمية في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار.
وروى أيضا أبو قلابة عن أنس أن رسول الله ﷺ وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم.
ويروى أيضا أنه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والإسرار به فقال: لا أدري هذه المسألة، وإذا اضطربت الروايات عنه وجب الرجوع إلى سائر الدلائل. وأيضا ففيها تهمة أخرى وهي
أن عليا رضي الله عنه كان يبالغ في الجهر بالتسمية
، فلما كان زمن بني أمية بالغوا في المنع من الجهر سعيا في إبطال آثار علي بن أبي طالب، فلعل أنسا خاف منهم فلهذا اضطربت أقواله. وأيضا من المعلوم أن النبي ﷺ كان يقدم أولى الأحلام والنهي والأكابر والعلماء على غيرهم، ولا شك أن عليا وابن عباس وابن عمر كانوا أعلى حالا من أنس وابن المغفل وأقرب موقفا،
وأنه ﷺ ما كان يبالغ في الجهر لقوله تعالى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا [الإسراء: ١١٠] فلهذا لم يسمعا.
ورواية المثبت أولى من رواية النافي، والدلائل العقلية معنا ويؤيدها عمل علي بن أبي طالب كما مر.
البحث الرابع: تقديم التسمية على الوضوء سنة عند عامة العلماء وليست بواجبة خلافا لبعض أهل الظاهر حيث قالوا: لو تركها عمدا أو سهوا لم تصح صلاته لنا
قوله ﷺ «توضأ كما أمرك الله»
والتسمية غير مذكورة في آية الوضوء. والصحيح عندنا أن الجنب والحائض لا يقولها بقصد القراءة، والتسمية عند الذبح وعند الرمي إلى الصيد وعند إرسال الكلب مستحبة، فلو تركها عامدا أو ناسيا، لم تحرم الذبيحة عند الشافعي ولكن تركها عمدا مكروه، وعند أبي حنيفة إن ترك التسمية عمدا لم يحل، وإن نسي حل. والعلماء أجمعوا على أنه يستحب أن لا يشرع في عمل من الأعمال إلا أن يقول: باسم الله، فإذا نام قال باسم الله، وإذا انتبه قال: باسم الله، وإذا قام من المقام قال: باسم الله، وإذا أكل أو شرب قال:
البحث الخامس: قال الشافعي: ترجمة القرآن لا تكفي في صحة الصلاة لا في حق من يحسن القراءة ولا في حق من لا يحسنها. وقال أبو حنيفة: إنها كافية في حق القادر والعاجز. وقال أبو يوسف ومحمد: كافية في حق العاجز لا القادر لنا أنه ﷺ والخلفاء من بعده وجميع الصحابة ما قرأوا في الصلاة إلا هذا القرآن العربي فوجب علينا اتباعهم، وكيف يجوّز عاقل قيام الترجمة بأي لغة كانت وهي كلام البشر مقام كلام خالق القوى والقدر؟
وقالوا: وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يعلم رجلا أن شجرة الزقوم طعام الأثيم والرجل لا يحسنه. فقال: قل طعام الفاجر، ثم قال عبد الله: ليس الخطأ في القرآن أن تقرأ مكان العليم الحكيم إنما الخطأ بأن تضع آية الرحمة مكان آية العذاب. قلنا: الظن بابن مسعود غير ذلك. قالوا وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: ١٩٦] إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الأعلى: ١٨، ١٩] ولا ريب أن القرآن بهذا اللفظ ما كان في زبر الأولين لكن بالعبرية والسريانية. قلنا: إن القصص والمواعظ موجودة لا باللفظ بل بالمعنى، ولا يلزم من ذلك أن يكون الموجود فيها قرآنا، فإن النظم المعجز جزء من ماهية القرآن والكل بدون الجزء مستحيل.
البحث السادس: الشافعي في القول الجديد قال: تجب قراءة الفاتحة على المقتدي سواء أسر الإمام بالقراءة أو جهر بها. وفي القديم: تجب إذا أسر الإمام ولا تجب إذا جهر وهو قول مالك وأحمد أبو حنيفة: تكره القراءة خلف الإمام بكل حال لنا قوله تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: ٢٠]
وقوله «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» «١»
يشمل المنفرد والمقتدي، وأيضا
روى الترمذي في جامعه بإسناده عن عبادة بن الصامت أن النبي ﷺ صلى الصبح فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف ﷺ قال: إني أراكم تقرءون خلف إمامكم قلنا: أي والله، قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها. قال:
وهذا حديث حسن.
وأيضا قراءتها لا تبطل الصلاة عندهم ولكن يجوّزون تركها ويبطلها عدم القراءة عندنا، فالأحوط قراءتها. احتج المخالف بقوله تعالى وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [الأعراف: ٢٠٤]
البحث السابع: مذهب الشافعي أن الفاتحة واجبة في كل ركعة فإن تركها في ركعة بطلت صلاته، وبه قال أبو بكر وعمر وعلي عليهم السلام وابن مسعود ومعظم الصحابة، لأنه ﷺ كان يقرأوها في كل ركعة، ولأنه قال للأعرابي الذي علمه الصلاة وكذلك فأفعل في كل ركعة.
وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: أمرنا النبي ﷺ أن نقرأ فاتحة الكتاب في كل ركعة فريضة كانت أو نافلة.
وأيضا القراءة في كل ركعة أحوط فيجب المصير إليها. وقيل:
غير واجبة أصلا، وقيل: تجب في كل صلاة في ركعة واحدة فقط وبه يحصل امتثال
قوله «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» «١»
وعند أبي حنيفة القراءة تجب في الركعتين الأوليين لقول عائشة: فرضت الصلاة في الأصل ركعتين فأقرّت في السفر وزيدت في الحضر. فهما أصل والزائد تبع. قلنا: ما ذكرنا أحوط، وقيل: تجب الفاتحة في الأوليين وتكره في الآخرتين.
وعند مالك تجب في أكثر الركعات، ففي الثنائية فيهما وفي الثلاثية في اثنتين وفي الرباعية في ثلاث.
البحث الثامن: إذا ثبت أن القراءة شرط في الصلاة فلو تركها أو حرفا من حروفها عمدا بطلت صلاته وكذا سهوا على الجديد. وما روي أن عمر بن الخطاب صلى المغرب فترك القراءة فقيل له: تركت القراءة. قال: كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا: حسنا. قال:
فلا بأس، معارض بما روى الشعبي عنه أنه أعاد الصلاة. وأيضا لعله ترك الجهر بالقراءة لا نفس القراءة.
البحث التاسع: يجب رعاية الترتيب في أجزاء الفاتحة وما وقع غير مرتب فغير محسوب.
البحث العاشر: إن لم يحفظ شيئا من الفاتحة قرأ بقدرها من غيرها من القرآن، ثم من ذكر من الأذكار، ثم عليه مثل وقفة بقدرها فإن تعلم قرأ ما لم يفرغ منه.
البحث الحادي عشر: نقل عن ابن مسعود أنه كان ينكر أن تكون الفاتحة والمعوذتان من جملة القرآن والظن به أن هذا النقل عنه كذب وإلا فجحد المتواتر كيف يليق بحاله؟
والمدح قد يكون قبل الإحسان وقد يكون بعده، والحمد إنما يكون بعد الإحسان. والمدح قد يكون منهيا عنه
قال صلى الله عليه وسلم: «احثوا التراب في وجوه المداحين» «١»
والحمد مأمور به مطلقا
قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يحمد الناس لم يحمد الله»
والمدح عبارة عن القول الدال على أنه مختص بنوع من أنواع الفضائل باختياره وبغير اختياره، والحمد قول دال على أنه مختص بفضيلة اختيارية معينة وهي فضيلة الإنعام إليك وإلى غيرك، ولا بد أن يكون على جهة التفضيل لا على سبيل التهكم والاستهزاء، والشكر على النعمة الواصلة إليك خاصة وهو باللسان، وقد يكون بالقلب والجوارح قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة | يدي ولساني والضمير المحجبا |
قوله ﷺ «الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لم يحمده»
وإنما جعله رأس الشكر لأن ذكر النعمة باللسان والثناء على موليها أشيع لها وأدل على مكانها من الاعتقاد وأداء الجوارح لخفاء عمل القلب، وما في عمل الجوارح من الاحتمال بخلاف عمل اللسان وهو النطق الذي يفصح عن كل خفي. والحمد نقيضه الذم ولهذا قيل: الشعير يؤكل ويذم. والمدح نقيضه الهجاء، والشكر نقيضه الكفران، إذا عرفت ذلك فنقول: إذا قال المدح لله لم يدل ذلك على كونه تعالى فاعلا مختارا لما مر أن المدح قد يكون لغير المختار. ولو قال: الشكر لله كان ثناء بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل. وإذا قال: الحمد لله فكأنه يقول سواء أعطيتني أو لم تعطني فإنعامك واصل إلى كل العالمين وأنت مستحق للحمد العظيم، ولا ريب أن هذا أولى. وقيل:
الحمد لله على ما دفع من البلاء، والشكر لله على ما أعطى من النعماء، والنعمة في الإعطاء أكثر من النعمة في دفع البلاء، فكأنه يقول: أنا شاكر لأدنى النعمتين فكيف بأعلاهما؟
ويمكن أن يقال: إن المنع غير متناه والإعطاء متناه، والابتداء بشكر دفع البلاء الذي لا نهاية له أولى، وأيضا دفع الضرر أهم من جلب النفع فتقديمه أحرى.
الثانية: لو قال: أحمد الله أفاد كون ذلك القائل على حمده، وإذا قال: الحمد لله أفاد أنه كان محمودا قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين. وأيضا الحمد لله معناه أن مطلق الحمد
وقال صلى الله عليه وسلم: «من لم يحمد الناس لم يحمد الله» ؟
قلنا: المنعم في الحقيقة هو الله لأنه خلق تلك الداعية في ذلك المنعم بعد أن خلق تلك النعمة وسلط المنعم عليها ومكن المنعم عليه من الانتفاع وأمنه من فوات الانقطاع، ولهذا قال عز من قائل وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: ٥٣] وأيضا كل مخلوق ينعم على غيره فإنه يطلب بذلك الإنعام عوضا إما ثوبا أو ثناء، أو تحصيل خلق أو تخلصا من رذيلة البخل. وطالب العوض لا يكون منعما ولا مستحقا للحمد في الحقيقة، أما الله سبحانه فإنه كامل لذاته والكامل لذاته لا يطلب الكمال، لأن تحصيل الحاصل محال فكان عطاؤه جودا محضا، فثبت أن لا مستحق للحمد إلا الله تعالى.
الثالثة: إنما لم يقل «احمدوا الله» لأن الإنسان عاجز عن الإتيان بحمد الله وشكره فلم يحسن أن يكلف فوق ما يستطيعه، وذلك أن نعم الله على العباد غير محصورة وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: ٣٤] وإذا امتنع الوقوف عليها امتنع اقتداره على الشكر والثناء اللائق بها. وأيضا إنما يمكنه القيام بحمد الله وشكره إذا أقدره الله على ذلك الحمد والشكر وخلق في قلبه داعية ذلك وأزال عنه العوائق والصوارف، وكل ذلك إنعام من الله فيتسلسل. وأيضا الاشتغال بالحمد والشكر معناه أن المنعم عليه يقابل إنعام المنعم بشكر نفسه، ومن اعتقد أن حمده وشكره يساوي نعمة الله فقد أشرك، وهذا معنى قول الواسطي «الشكر شرك» أما إذا قال: «الحمد لله» فالمعنى أن كمال الحمد حقه وملكه سواء قدر الخلق على الإتيان به أو لم يقدروا. ونقل أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك وشكري لك لا يتم إلا بإنعامك علي وهو أن توفقني لذلك الشكر؟ فقال: يا داود لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني بحسب قدرتك وطاقتك.
الرابعة:
عن النبي ﷺ «إذا أنعم الله على عبد فقال: «الحمد لله» يقول الله تعالى: انظروا إلى عبدي أعطيته ما لا قدر له فأعطاني ما لا قيمة لا»
ومعناه أن ما أنعم الله على العبد شيء واحد، وإذا قال: الحمد لك فمعناه المحامد التي أتى بها الأولون والآخرون من الملائكة
الخامسة: لا شك أن الوجود خير من العدم، وأن وجود كل ما سوى الله فإنه حصل بإيجاد الله وجوده، فإنعام الله تعالى واصل إلى كل من سواه، فإذا قال العبد: «الحمد لله» فكأنه قال: الحمد لله على كل مخلوق خلقه، وعلى كل محدث أحدثه من نور وظلمة وسكون وحركة وعرش وكرسي وجني وإنسي وذات وصفة وجسم وعرض من أزل الآزال إلى أبد الآباد، وأنا أشهد أنها بأسرها لك لا شركة لأحد فيها معك.
السادسة: التسبيح مقدم على التحميد لأنه يقال: سبحان الله والحمد لله. فما السبب في وقوع البداءة بالتحميد؟ والجواب أن التسبيح داخل في التحميد دون العكس، فإن التسبيح يدل على كونه مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص، والتحميد يدل على كونه محسنا إلى العباد، ولا يكون محسنا إليهم إلا إذا كان عالما بجميع المعلومات ليعلم مواقع الحاجات وإلا إذا كان قادرا على المقدورات ليقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه، وإلا إذا كان غنيا في نفسه وإلا شغله حاجة نفسه عن حاجة غيره، فثبت أن كونه محسنا لا يتم إلا بعد كونه منزها عن النقائص والآفات.
السابعة: الحمد له تعلق بالماضي وهو وقوعه شكرا على النعم السابقة، وتعلق بالمستقبل وهو اقتضاء تجدد النعم لقوله تعالى لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: ٧] فبالأول يغلق عنك أبواب النيران، وبالثاني يفتح لك أبواب الجنان، فإن الحمد لله ثمانية أحرف بعدد أبواب الجنة.
الثامنة: الحمد لله كلمة جليلة لكنه يجب أن تذكر في موضعها ليحصل المقصود. قال السري: منذ ثلاثين سنة أستغفر الله لقولي مرة واحدة الحمد لله. وذلك أنه وقع الحريق في بغداد وأحرقت دكاكين الناس فأخبرني واحد أن دكاني لم يحترق فقلت: الحمد لله. وكان من حق الدين والمروءة أن لا أفرح بذلك، فأنا في الاستغفار منذ ثلاثين سنة. فالحمد على نعم الدين أفضل من الحمد على نعم الدنيا، والحمد على أعمال القلوب أولى من الحمد على أعمال الجوارح، والحمد على النعم من حيث إنها عطية المنعم أولى من الحمد عليها من حيث هي نعم، فهذه مقامات يجب اعتبارها حتى يقع الحمد في موضعه اللائق به.
العاشرة: لا يحسن عندنا أن يقدّر قولوا: «الحمد لله» لأن الإضمار خلاف القياس، ولأن الوالد إذا قال لولده: أعمل كذا وكذا فلم يمتثل كان عاقا، فالأولى أن يقول الأمر الفلاني ينبغي أن يفعل. ثم إن كان الولد بارا فإنه يجيبه ويطيعه وإن كان عاقا كان إثمه أقل، فكذلك إذا قال: الحمد لله فمن كان مطيعا حمده ومن كان عاصيا كان إثمه أقل، بخلاف ما لو قدر «قولوا الحمد لله».
الحادية عشرة: شنعت الجبرية على المعتزلة ومن يجري مجراهم بأنكم تثبتون للعبد فعلا واختيارا، واستحقاق الحمد إنما يكون على أشرف النعم وهو الإيمان، فلو كان الإيمان بفعل العبد لكان المستحق للحمد هو العبد. والجواب أن الإيمان باختيار العبد لكن الاختيار أيضا مستند إلى الله تعالى فاستحق الحمد لذلك. وشنعت المعتزلة على الجبرية بأن قوله «الحمد لله» لا يتم إلا على مذهبنا لأن المستحق للحمد على الإطلاق هو الذي لا قبح في فعله ولا جور في قضيته، وعندكم لا قبح إلا وهو فعله، ولا جور إلا وهو حكمه.
والجواب أن القبح والجور إنما يثبتان لو أمكن تصور الفعل المخصوص في القابل المخصوص أحسن وأتم مما صدر لكنه محال، فإنه تعالى حكيم وكل ما يصدر عن الحكيم كان على أفضل ما يمكن بالنسبة إلى المحل المخصوص.
الثانية عشرة: اختلفوا في أن شكر المنعم واجب عقلا أو شرعا. فمنهم من قال عقلا ومن جملة أدلتهم قوله «الحمد لله» فإنه يدل على ثبوت الاستحقاق على الإطلاق. وأيضا عقبه بقوله «رب العالمين» وترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، فدل ذلك على أن استحقاقه للحمد ثابت بكونه ربا للعالمين قبل مجيء الشرع وبعده. والجواب أن استحقاقه لمثل هذا الحمد عرفناه من قبل الشرع. واعلم أن الحمد سبيله سبيل سائر الأذكار والعبادات في أنها إنما يؤتى بها لا لأن الله تعالى مستكمل بها ولا لأنه تعالى مجازي بها، ولكنها لتحقيق نسبة العبودية وإضافة الإمكان الله حسبي الخامس في فوائد قوله رب العالمين.
الأولى: الموجود إما واجب لذاته وهو الله سبحانه وتعالى فقط، وإما ممكن لذاته وهو كل ما سواه ويسمى العالم كما مر، وذلك إما متحيز أو صفة للمتحيز أو لا هذا ولا ذاك.
الأرواح وهي إما سفلية خيرة كالجن، أو شريرة كالشياطين. وإما علوية متعلقة بالأجسام كملائكة السموات
قال صلى الله عليه وسلم: «ما في السموات موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو قاعد»
أو غير متعلقة وهي الملائكة المقربون وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: ٣١] ولأن كل موجود سوى الواجب يحتاج إلى الواجب في الوجود. وفي البقاء أيضا فهو إله العالمين من حيث إنه أخرجها من العدم إلى الوجود، ورب العالمين من حيث إنه يبقيها حال استقرارها.
فكل من كان أكثر إحاطة بأحوال الموجودات وتفاصيلها كان أكثر وقوفا على تفسير قوله رَبِّ الْعالَمِينَ.
الثانية: المربي قسمان: أحدهما أن يربي ليربح عليهم، والثاني أن يربي ليربحوا عليه. والأول شأن المخلوقين الذين غرضهم من التربية إما ثواب أو ثناء أو تعصب أو غير ذلك، والثاني دأب الحق سبحانه وتعالى كما
قال: «خلقتكم لتربحوا عليّ لا لأربح عليكم»
وكيف لا يربحون عليه وأنه متعال عن الاستكمال منزه عن أن يحدث في خزائنه بسبب التربية والإفادة والإفاضة اختلال يحب الملحين في الدعاء ويَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ [فاطر: ١] يكفي علمه من المقال ويغني كرمه عن السؤال وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [طه:
٩٨] ويربي كل حي كرما وحلما وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: ١٢، ١٣، ١٤] فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ
[عبس: ٢٤- ٣٢] أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً [النبأ: ٦- ١٦].
الثالثة: لما كان الله أحسن الأسماء عقبه بأكمل الصفات وهو رَبِّ الْعالَمِينَ إذ
الرابعة: رب العالمين ثم إنه يربيك كأنه ليس له عبد سواك وهو الله الواحد الأحد الصمد، وأنت تخدمه كأنّ لك أربابا غيره فما إنصافك أيها الإنسان؟ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ [الأنبياء: ٤٢] خلقت لعبادة الرب فلا تهدم حقيقتك بمعصية الرب، الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب.
السادس: في فوائد قوله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
الأولى: الرحمن بما لا يتصور صدوره من العباد، والرحيم بما يقدر عليه العباد. أنا الرحمن لأنك تسلم إليّ نطفة مذرة فأسلمها إليك صورة حسنة، أنا الرحيم لأنك تسلم إليّ طاعة ناقصة فأسلم إليك جنة خالصة.
الثانية: ذهب بعضهم إلى ملك فقال: جئتك لمهم يسير. فقال: أطلب المهم اليسير من الرجل اليسير. فكأن الله تعالى يقول: لو اقتصرت على الرحمن لاحتشمت مني ولتعذر عليك سؤالي الأمور اليسيرة، فأنا الرحمن لتطلب مني الأمور العظيمة، وأنا الرحيم لتطلب مني شراك نعلك وملح قدرك.
الثالثة: الولد إذا أهمل حال ولده ولم يؤدبه ظن أن ذلك رحمة وهو في الحقيقة عذاب. من لم يؤدبه الأبوان أدبه الملوان، وعكسه حال من تقطع يده لأكلة فيها، أو يضرب لتعليم حرفة، أو لتأدب بخصلة شريفة. فكل ما في العالم من محنة وبلية فهو في الحقيقة رحمة ونعمة وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [البقرة: ٢١٦] وقصة موسى مع الخضر كما تجيء في موضعها تؤيد ما ذكرناه، والحكيم المحقق هو الذي يبني الأمور على الحقائق لا على الظواهر، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير.
الرابعة: أعطى مريم عليها السلام رحمة وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا [مريم:
٢١] فصارت سببا لنجاتها من توبيخ الكفار والفجار، وأعطانا رحمة وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: ١٠٧] فكيف لا ننجو بسببه من عذاب النار.
الخامسة: وصف النبي ﷺ بالرحمة فكان من حاله أنه لما كسرت أسنانه
قال: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعملون، وأنه يوم القيامة يقول: أمتي أمتي.
فلما وصف نفسه بكونه
السادسة: حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: كنت ضيفا لبعض القوم، فقدم المائدة فنزل غراب وسلب رغيفا فاتبعته تعجبا، فنزل في بعض التلال فإذا هو برجل مقيد مشدود اليدين، فألقى الغراب ذلك الرغيف على وجهه. وعن ذي النون أنه قال: كنت في البيت إذ وقعت في قلبي داعية أن أخرج من البيت، فانتهيت إلى شط النيل فرأيت عقربا قويا يعدو، فلما وصل إلى النيل فإذا هو بضفدع على طرف النهر، فقفز العقرب عليه وأخذ الضفدع يسبح، فركبت السفينة فاتبعته حتى إذا وصل الضفدع إلى الطرف الآخر نزل العقرب عن ظهره وأخذ يعدو، فتبعته فرأيت شابا نائما تحت شجرة وعنده أفعى يقصده، فلما قرب الأفعى من ذلك الشاب وصلت العقرب إلى الأفعى ولدغتها والأفعى أيضا لدغتها وماتتا معا. وفي أدعية العرب: يا رازق النعاب في عشه. وحكايته أن ولد الغراب لما يخرج من البيض يكون كأنه قطعة لحم فتهجره أمه تنفرا منه، حتى إذا خرج ريشه عادت إليه، فيبعث الله تعالى إليه في تلك المدة ذبابا يغتذي به.
وروي أن فتى قربت وفاته واعتقل لسانه عن شهادة أن لا إله إلا الله، فأتوا النبي ﷺ وأخبروه، فقام فدخل عليه وكان يعرض عليه الشهادة ولا يعمل لسانه فقال صلى الله عليه وسلم: أما كان يصلي أما كان يزكي أما كان يصوم؟ فقالوا: بلى.
فقال: فهل عق والدته؟ قالوا: نعم. فقال: هاتوا أمه. فأتي بعجوز عوراء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
هلا عفوت عنه؟ فقالت: لا أعفو عنه لأنه لطمني ففقأ عيني. فقال صلى الله عليه وسلم: هاتوا بالحطب والنار فقالت: وما تصنع بالنار؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أحرقه بالنار بين يديك جزاء بما عمل. فقالت:
عفوت عفوت أللنار حملته تسعة أشهر أللنار أرضعته سنتين فأين رحمة الأم؟ فعند ذلك انطلق لسانه وذكر «أشهد أن لا إله إلا الله»
والنكتة أنها كانت رحيمة فقط ولم تجوّز الإحراق، فالرحمن الرحيم كيف يجوز إحراق عبد واظب على ذكر الرحمن الرحيم سبعين سنة؟
قال صلى الله عليه وسلم: إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الإنس والجن والطير والبهائم والهوام فيها يتعاطفون ويتراحمون، وأخر تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة» «١»
ولعل هذا على سبيل التفهيم والتمثيل وإلا فكرمه بلا غاية ورحمته بلا نهاية.
الأولى: من قضية العدالة الفرق بين المحسن والمسيء، والمطيع والعاصي، والموافق والمخالف، ولا يظهر ذلك إلا في يوم الجزاء إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: ١٥] يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: ٦- ٨]
روي أنه يجاء برجل يوم القيامة وينظر في أحوال نفسه فلا يرى لنفسه حسنة البتة، فيأتيه النداء يا فلان ادخل الجنة بعملك. فيقول: إلهي ماذا عملت؟ فيقول الله: ألست لما كنت نائما تقلب من جنب إلى جنب ليلة كذا فقلت في خلال ذلك «الله»، ثم غلبك النوم في الحال فنسيت؟ أما أنا فلا تأخذني سنة ولا ولا نوم، فما نسيت ذلك. ويجاء برجل وتوزن حسناته بسيئاته فتخف حسناته فتأتيه بطاقة فتثقل ميزانه فإذا فيها شهادة «أن لا إله إلا الله» فلا يثقل مع ذكر الله غيره.
واعلم أن حقوق الله تعالى على المسامحة لأنه غني عن العالمين، وأما حقوق العباد فهي أولى بالاحتراز عنها.
روي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما المفلس؟ قالوا:
المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال: إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم يطرح في النار» «١».
الثانية: من قرأ «مالك» احتج بوجوه: الأول أن فيه حرفا زائدا فيكون ثوابه أكثر.
الثاني: في القيامة ملوك ولا مالك إلا الله. الثالث: المالكية سبب لإطلاق التصرف والملكية ليست كذلك. الرابع: العبد أدون حالا من الرعية فيكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية. الخامس: الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك بالاختيار بخلاف المملوك. السادس: الملك يجب عليه رعاية حال الرعية
«كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» «٢»
ولا يجب على الرعية خدمة الملك، أما المملوك فيجب عليه خدمة مالكه وأن لا يستقل في الأمر إلا بإذنه حتى إنه لا يصح منه القضاء والإمامة والشهادة، ويصير مسافرا
(٢) رواه البخاري في كتاب الجمعة باب ١١. مسلم في كتاب الإمارة حديث ٢٠. أبو داود في كتاب الإمارة باب ١. الترمذي في كتاب الجهاد باب ٢٧. أحمد في مسنده (٢/ ١٠٨).
«يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم» «١»
والملك يطمع فيك والمالك أنت تطمع فيه، والملك لا يختار من العسكر إلا كل قوي سويّ ويترك من كان مريضا عاجزا، والمالك إن مرض عبده عالجه، وإن ضعف أعانه. الملك له هيبة وسياسة، والمالك له رأفة ورحمة واحتياجنا إلى الرأفة والرحمة أشد من احتياجنا إلى الهيبة والسياسة. وأما المتفرعة على الثانية فإنه في الدنيا ملك الملوك قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ [آل عمران: ٢٦] وفي الآخرة لا ملك إلا هو لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: ١٦] وملكه لا يشبه ملك المخلوقين لأنهم إذ بذلوا قلّت خزائنهم ونفدت ذخائرهم، وأنه سبحانه كلما كان أكثر عطاء كان أوسع ملكا. فإن أعطاك عشرة أولاد زاد في ملكه عشرة أعبد. ومن لوازم ملكه كمال الرحمة فلهذا قرن بقوله «ملك يوم الدين» قوله «رب العالمين الرحمن الرحيم» ومثله الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الفرقان: ٢٦] قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ [الناس: ١، ٢] فمن اتصف بهذه الصفة من ملوك الدنيا صدق عليه أنه ظل الله في الأرض. الكفر سبب لخراب العالم تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [مريم: ٩٠] والطاعة تتضمن صلاح المعاش والمعاد مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: ٩٧] فعلى الناس أن يطيعوا ملوكهم، وعلى الملوك أن يطيعوا مالك الملك حتى تنتظم أمور معاشهم ومعادهم لما وصف نفسه بأنه «ملك يوم الدين» أظهر للعالمين كمال عدله بنفي الظلم تارة وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق: ٢٩] وبثبوت العدل أخرى وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الأنبياء: ٤٧] فلا
فلعل ملك البلد عزم على الظلم فلشؤم ظلمه صار هكذا، فتاب أنو شروان في قلبه وأناب، وقال للصبي: أعطني رمانة أخرى فعصرها فوجدها أطيب من الأولى فقال للصبي: لم بدلت هذه الحالة؟ فقال: لعل الملك تاب عن ظلمه. فلما وجد أنو شروان مقالة الصبي مطابقة لأحواله في قلبه تاب بالكلية، فكان من ميامن عدله أن
ورد في حقه قول نبينا ﷺ «ولدت في زمن الملك العادل».
الثالثة: كونه مالكا وملكا معناه أنه قادر على ترجيح جانب وجود الممكنات على عدمها، وأنه قادر على نقلها من صفة إلى صفة كما يشاء من غير مانع ولا منازع. وعلى قضية الحكمة والعدالة فهو الملك الحق وأنه ملك يوم الدين أيضا، لأن القدرة على إحياء الخلق بعد إماتتهم والعلم بتلك الأجزاء المتفرقة من أبدان الناس لا يختص به أحد غيره، فإذا كان الحشر والنشور لا يتأتى إلا بعلم يتعلق بجميع المعلومات وقدرة تنفذ في كل الممكنات، فلا مالك ليوم الدين إلا الله. فإن قيل: لا يكون مالكا إلا إذا كان المملوك موجودا لكن القيامة غير موجودة فينبغي أن يقال «مالك يوم الدين» بالتنوين بدليل أنه لو قال: أنا قاتل زيد كان إقرارا، ولو قال: أنا قاتل زيدا كان تهديدا. قلنا: لما كان قيام القيامة أمرا حقا لا يجوز الإخلال به في الحكمة، جعل وجوده كالشيء القائم في الحال.
ولو قيل: من مات فقد قامت قيامته زال السؤال.
الرابعة: قالت القدرية: إن كان الكل من الله فثواب الرجل على ما لم يعمله عبث وعقابه على ما لم يفعله ظلم، فيبطل كونه مالكا ليوم الدين. قلنا: خلق الجنة وخلق أهلا لها، وخلق النار وخلق أهلا لها، وذلك أن له صفة لطف وصفة قهر كما ينبغي لكل ملك.
فخلق لكل صفة مظهرا ولا يسأل عما يفعل، لأن كل سؤال ينقلب فهو باطل.
الخامسة: في هذه السورة من أسماء الله تعالى خمسة: الله، الرب، الرحمن، الرحيم، المالك. كأنه يقول: خلقتك أولا فأنا الله، ثم ربيتك بأصناف النعم فأنا الرب، ثم
السادسة: الحمد والمدح والتعظيم فيما بين الناس إنما يكون لكونه كاملا في ذاته وإن لم يكن له إحسان إليك، وإما لكونه محسنا إليك، وإما رجاء وطمعا في المستقبل، وإما خوفا ورهبة، فكأنه سبحانه يقول: إن كنتم تعظمون للكمال الذاتي فاحمدوني فإني أنا الله، وإن كنتم تعظمون للإحسان السالف فأنا رب العالمين، وإن كنتم تعظمون للإحسان المترقب فأنا الرحمن الرحيم، وإن كنتم تعظمون رهبة عن العقاب فأنا مالك يوم الدين.
الثامن: في فوائد قوله «إياك نعبد».
الأولى: لا شك أن تقديم المفعول مفيد للاختصاص أي لا نعبد أحدا سواك والحاكم فيه الذوق السليم. واستحقاق هذا الاختصاص لله تعالى ظاهر، لأن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم فلا تليق إلا لمن صدر منه غاية الإنعام وهو الله تعالى. وذلك أن للعبد أحوالا ثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل. أما الماضي فقد كان معدوما فأوجده وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم: ٩] أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: ١٢٢] وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة: ٢٨] وكان جاهلا فعلمه أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النحل: ٧٨] ثم أسمعه وأبصره وأعقله وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ [الملك: ٢٣] فهو إله بهذه المعاني. وأما الحاضر فحاجاته كثيرة، ووجوه افتقاره غير محصورة من أول عمره إلى آخره مع انفتاح أبواب المعصية وانخلاع ربقة الطاعة، فهو رب رحمن رحيم من هذه الوجوه. وأما المستقبل فأموره المتعلقة بما بعد الموت وأنه مالك يوم الدين بهذه الحيثية، فلا مفزع للعبد في شيء من أحواله إلا إليه، فلا يستحق عبادة العبد إلا هو. وأيضا ثبت بالدلائل القاطعة وجوب كونه تعالى عالما قادرا جوادا غنيا حكيما إلى غير ذلك من الصفات الكمالية، وأما كون غيره من الفلكيات والطبائع والنفوس كذلك فمشكوك فيه وإن كنا نجزم بأنه لا تأثير لها فوجب طرح المشكوك والأخذ باليقين، فلا معبود بالحق إلا الله سبحانه، وأيضا العبودية ذلة ومهانة، فكلما كان المولى أشرف وأعلى كانت العبودية أهنأ وأمرأ. ولما كان الله تعالى أشرف الموجودات وأعلاها وأولاها بالصفات العلى، فعبوديته أولى، وأيضا كل ما سوى الواجب الغني ممكن فقير، والفقير مشغول بحاجة نفسه
الثانية: تقديم ذكر الله تعالى يورث الخشية والمهابة حتى لا يلتفت في العبادة يمينا وشمالا بخلاف العكس. (يحكى) أن واحدا من المصارعين الأستاذين صارع بعض من هو دونه ولا يعرفه، فصرع الأستاذ مرارا فقيل له: فلان الأستاذ فانصرع في الحال وما ذاك إلا لاحتشامه بعد عرفانه. وأيضا ذكره تعالى أوّلا مما يورث العبد قوة يسهل بها عليه ثقل العبودية فوجب تقديمه، كما أن من أراد حمل ثقيل يقدم عليه دواء أو غذاء بعينه على ذلك، كما أن العاشق يسهل عليه جميع الآلام عند حضور معشوقه. وأيضا إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: ٢٠١] فالنفس إذا مسها طائف الشيطان من الكسل والغفلة والبطالة طلع لها جلال الله من مشرق «إياك نعبد» فتصير مبصرة مستعدة لأداء حق العبودية. وأيضا إن بدأ بالعبادة فض إبليس قلبه أن المعبود من هو فيلقي في نفسه وساوس، أما إذا غير هذا الترتيب وقال: «إياك نعبد» كان بعيدا عن احتمال الشرك. وأيضا الواجب لذاته متقدم في الوجود فيناسب أن يكون مقدما في الذكر. وأيضا المحققون نظرهم على المعبود لا على العبادة، وعلى المنعم لا على النعمة، ولهذا قيل لبني إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [البقرة: ٤٠] ولأمة محمد فَاذْكُرُونِي [البقرة: ١٥٢] فذكر المعبود عندهم أولى من ذكر العبادة.
الثالثة: النون في قوله «نعبد» فيه وجوه من الحكمة منها: أنه تشريف من الله تعالى للعبد حيث لقنه لفظا ينبىء عن التعظيم والتكريم كقوله حكاية عن نفسه نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: ٢] كأنه قال: لما أظهرت عبوديتي ولم تستنكف أن تكون عبدا ليّ جعلناك أمة إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: ١٢٠] ومنها أنه لو قال: إياك أعبد كان إخبارا عن كونه عبدا فقط، ولما قال: «إياك نعبد» صار معناه إني واحد من عبيدك، ولا ريب أن الثاني أدخل في الأدب والتواضع. ومنها أن يكون تنبيها على أن الصلاة بالجماعة أولى
قال صلى الله عليه وسلم: «التكبيرة الأولى في صلاة الجماعة خير من الدنيا وما فيها»
وهاهنا نكتة وهي أن الإنسان إذا أكل الثوم أو البصل فليس له أن يحضر الجماعة كيلا يتأذى منه جاره، وإذا كان ثواب الجماعة لا يفي بهذا القدر من الإيذاء فكيف يفي بما هو أكثر من ذلك إيذاء للمسلمين من الغيبة والتهمة والنميمة والسعاية وسائر أنواع الظلم؟ ومنها أن يكون المراد أعبدك والملائكة معي والحاضرون بل جميع عبادك الصالحين. ومنها أن المؤمنين إخوة فكأن الله تعالى قال: لما أثنيت عليّ بقولك «الحمد ﷺ رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين»
الرابعة: من عرف فوائد العبادة طاب له الاشتغال بها وثقل عليه الاشتغال بغيرها لأن الكمال محبوب لذاته وأكمل أحوال الإنسان اشتغاله بخدمة مولاه، فإنه يستنير قلبه بنوره ويشرق عليه من جماله ولهذا قد
ورد «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار»
وأيضا التكاليف أمانة إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الأحزاب: ٧٢] وأداء الأمانة واجب عقلا وشرعا إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء: ٥٨] وأداء الأمانات من أحد الجانبين سبب لأدائها من الجانب الآخر. قال بعض الصحابة: أتى أعرابي باب المسجد فنزل عن ناقته وتركها ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار ودعا بما شاء فتعجبنا، فلما خرج لم يجد الناقة فقال: إلهي أديت أمانتك فأين أمانتي؟ قال الراوي: فزدنا تعجبا، فلم يمكث حتى جاء رجل على ناقته وقد قطع يده وسلم الناقة إليه.
وقال ﷺ لابن عباس: «يا غلام احفظ الله في الخلوات يحفظك في الفلوات».
وأيضا الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى دار السرور، وركون من الخلق إلى حضرة الحق، وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة. (يحكى) عن أبي حنيفة أن حية سقطت من السقف وتفرق الناس وهو في الصلاة فلم يشعر به. ووقعت الأكلة في بعض أعضاء عبد الله بن الزبير واحتاجوا إلى قطع ذلك العضو فقطع وهو في الصلاة ولم يشعر به.
وعن رسول الله ﷺ أنه كان حين يشرع في الصلاة كانوا يسمعون من صدره أزيزا كأزيز المرجل.
ومن استبعد فليقرأ قوله تعالى فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يوسف:
٣١] فإذا كان لجمال البشر مثل هذا التأثير فكيف جلال الله وعظمته إذا تجلى على قلب الموحد العابد؟! وقد تحدث الحيرة والدهش عن رؤية بعض السلاطين فكيف إذا كان الوقوف بين يدي رب العالمين؟! واعلم أن العبادة لها ثلاث درجات، لأنه إما أن يعبد الله رغبة في ثوابه أو رهبة من عقابه، ويختص باسم الزاهد حيث يعرض عن متاع الدنيا وطيباتها طمعا فيما هو أشرف منها وأدوم، وهذه مرتية نازلة عند المحققين. وإما أن يعبد الله تشرفا بعبادته أو بقبول تكاليفه أو بالانتساب إليه، وهذه مرتبة متوسطة وتسمى بالعبودية. وإما أن
أصلي لله فإنه لو قال: أصلي لثواب الله أو هربا من عقابه فسدت صلاته. (يحكى) أن عابدا في بني إسرائيل اعتزل وعبد الله تعالى سبعين سنة، فأرسل الله تعالى إليه ملكا فقال: إن عبادتك غير مقبولة فلا تشق على نفسك ولا تجاهد، فأجاب العابد بأن الذي عليّ هو العبودية وإني لا أزال أفعل ما عليّ، فأما القبول وعدم القبول فموكول إلى المعبود. فرجع الملك فقال الله: بم أجاب العابد؟ فقال: أنت أعلم يا رب، إنه قال كذا وكذا. فقال الله تعالى: ارجع إليه وقل له: قبلنا طاعتك بسبب ثبات نيتك. والتحقيق أن إثبات نسبة الإمكان هو قصارى مجهود العابدين ونهاية مطامح أبصار العارفين. وفي العبادة انشراح صدور المؤمنين وإنها عاقبة حال المتقين. قال عز من قائل وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:
٩٧- ٩٩] ولأن العبودية أشرف المقامات. مدح الله تعالى نبيه في قوله سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: ١] وافتخر عيسى بذلك أول ما نطق فقال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم: ٣٠] وكان عليّ يقول: كفاني فخرا أن أكون لك عبدا وكفاني شرفا أن تكون لي ربا.
اللهم إني وجدتك إلها كما أردت، فاجعلني عبدا كما أردت. ومنهم من قال: العبودية أشرف من الرسالة، فبالعبودية ينصرف من الخلق إلى الحق، وبالرسالة ينصرف من الحق إلى الخلق، وبالعبودية ينعزل عن التصرفات، وبالرسالة يقبل على التصرفات، ولهذا نال شرف التقدم في قول الموحد «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
[النساء:
١٧٢].
التاسع: في فوائد قوله «وإياك نستعين».
الأولى: لا شك أن للعبد قدرة بها يتمكن من الفعل والترك، وإنما يحصل الرجحان بمرجح. ولو كان ذلك المرجح من عند العبد عاد التقسيم، فلا بد أن ينتهي إلى الله تعالى.
وأيضا كل الخلائق يطلبون طريق الحق مع استوائهم في القدرة والعقل والجد والطلب، ولا يفوز به إلا بعضهم، فليس ذلك إلا بإعانة الحق. وأيضا قد يطلب الإنسان حاجة من غيره ويدافعه مدة مديدة ثم يقضي حاجته، فإلقاء تلك الداعية في القلب ليس إلا من الله، فثبت أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله. وتظهر فائدة الاستعانة في أنه ربما جعل الله تعالى ذلك واسطة إلى نيل المطلوب كالشبع الحاصل عقيب أكل الطعام ونحوه، فيسقط اعتراض الجبري والقدري فافهم.
الثالثة: لا أريد بالإعانة غيرك اقتداء بالخليل صلّى الله عليه وسلّم حيث قيد نمروذ يديه ورجليه ورماه إلى النار فجاءه جبرائيل وقال: هل لك حاجة؟ فقال له: أما إليك فلا. قال: فاسأل الله.
قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي. وهاهنا نكتة وهي أن المؤمن في الصلاة مقيدة رجلاه عن المشي، ويداه عن البطش، ولسانه إلا عن القراءة والذكر، فكما أن الله قال يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء: ٦٩] فكذلك تقول له نار جهنم: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.
الرابعة: لا أستعين غيرك لأن الغير لا يمكنه إعانتي إلا إذا أعنته، فأنا أقطع الواسطة ولا أنظر إلا إلى إعانتك.
الخامسة: «إياك نعبد» تورث العجب بالعبادة فأردفه بقوله «وإياك نستعين» لإزالة ذلك.
السادسة: هاهنا مقامان: معرفة الربوبية ومعرفة العبودية، وعند اجتماعهما يحصل الربط المذكور في قوله أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: ٤٠] أما معرفة الربوبية فكمالها مذكور في قوله «الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين» فانتقال العبد من العدم السابق إلى الوجود يدل على كونه إلها، وحصول الفوائد للعبد حال وجوده يدل على كونه ربا رحمانا رحيما، وأحوال معاده تدل على أنه مالك يوم الدين، وأما معرفة العبودية فمبدؤها «إياك نعبد» وكمالها «إياك نستعين» في جميع المطالب، وإذا تم الوفاء بالعهدين ترتبت عليه الثمرة وهو قوله: «اهدنا» إلى آخره. وهذا ترتيب لا يتصور أحسن منه.
السابعة: في الالتفات الوارد في السورة وجوه: منها أن المصلي كان أجنبيا عند الشروع في الصلاة، فلا جرم أثنى على الله بالألفاظ الغائبة إلى قوله: «مالك يوم الدين».
ثم الله تعالى كأنه يقول: حمدتني وأقررت بأني إله، رب العالمين، رحمن رحيم، مالك يوم الدين، فنعم العبد أنت يا عبد. رفعنا الحجاب وأبدلنا البعد بالقرب فتكلم بالمخاطبة وقل «إياك نعبد». ومنها أنه لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه تلك الصفات العظام من كونه
ومنها أن الدعاء بالحضور أولى كما أن الثناء في الغيبة أوقع وأحرى، وهكذا فعل الأنبياء عليهم السلام رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: ٢٣] رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً [الشعراء: ٨٣] رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤] رَبِّ أَرِنِي [الأعراف: ١٤٣] رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ [الأنبياء: ٨٩] ومنها أنه إذا شرع في الصلاة نوى القربة فأثنى على الله بما هو أهله، فاستجاب الله دعاءه في تحصيل تلك القربة ونقله إلى مقام الحضور من مقام الغيبة.
الثامنة: اعلم أن المشركين طوائف، منهم من اتخذ إلهه من الأجسام المعدنية كالحجر والذهب والفضة والنحاس، ومنهم من اتخذه من النبات كالشجر المعين، ومنهم من اتخذه من الإنسان كعبدة المسيح وعزير، ومنهم من اتخذه من الأجسام البسيطة، إما السفلية كعبدة النار وهم المجوس، أو العلوية كعبدة الشمس والقمر وسائر الكواكب.
ومنهم من قال: مدبر العالم نور وظلمة وهم الثنوية، ومنهم من قال: الملائكة عبارة عن الأرواح الفلكية ولكل إقليم روح من الأرواح الفلكية يدبره وكذا لكل نوع من أنواع هذا العالم، فيتخذون لتلك الأرواح صورا وتماثيل ويعبدونها وهم عبدة الملائكة. ومنهم من قال: للعالم إلهان، أحدهما خير وهو الله، والآخر شرير وهو إبليس. إذا عرفت ذلك فنقول: قد مر أن «الحمد لله» يتضمن التسبيح له وسائر الصفات منبئة عن سبب إثبات جميع أنواع «الحمد لله» «وإياك نعبد» يدل على التوحيد المحض والبراءة من كل ما يعبد من دون الله، وأن الله أكبر من جميع المعبودين، فيقوم مقام قوله «لا إله إلا الله والله أكبر» «وإياك نستعين» يدل على قوله «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» فثبت أن سورة الفاتحة مشتملة إلى هنا على الذكر المشهور «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
العاشر في فوائد قوله «اهدنا الصراط المستقيم».
الأولى: سئل أن طلب الهداية من المؤمن وهو مهدي تحصيل للحاصل. وأجيب بأن المراد منه صراط الأولين في تحمل ما يشق، وكان تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى. يحكى أن نوحا عليه السلام كان يضرب في كل يوم مرات بحيث يغشى عليه وكان
وعن خباب قال: شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه ويجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون
وأيضا كأن العبد يقول: الأحباب يدعونني إلى طريق، والأعداء إلى طريق ثان، والشيطان إلى ثالث. وكذا القول في الشهوة والغضب والاعتقادات والآراء، والعقل ضعيف، والعمر قصير، والقضاء عسير، فاهدني هذا الطريق السوي الذي لا أزيغ به. حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يسير إلى بيت الله، فإذا أعرابي على ناقة له. فقال: يا شيخ إلى أين؟ فقال: إلى بيت الله. قال: كأنك مجنون، لا أرى لك مركبا ولا زادا والسفر طويل! فقال إبراهيم: إن لي مراكب كثيرة ولكنك لا تراها. قال: وما هي؟ قال: إذا نزلت عليّ بلية ركبت مركب الصبر، وإذا أسديت إليّ نعمة ركبت مركب الشكر، وإذا ألم بي القضاء ركبت مركب الرضا، وإذا دعتني النفس إلى شيء علمت أن ما بقي من العمر أقل مما مضى. فقال الأعرابي: سر بإذن الله فأنت الراكب وأنا الراجل.
وقيل: الصراط القرآن أو الإسلام وليس بشيء، إذ يصير المعنى اهدنا صراط المتقدمين، مع أنه لم يكن لهم قرآن ولا إسلام، اللهم إلا أن يراد أصول هذه الشريعة وقوانينها كما قال فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: ٩٠].
وعن علي كرم الله وجهه: ثبتنا على الهداية كقوله رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا [آل عمران: ٨]
فكم من عالم يزل ومهتد يضل. وفي اختيار لفظ الصراط دون الطريق أو السبيل، تذكير للصراط الذي هو الجسر الممدود بين طرفي جهنم، سهل الله تعالى علينا عبوره ووروده.
الثانية: إنما قبل «اهدنا» بلفظ الجمع لأن الدعاء متى كان أعم كان إلى الإجابة أقرب، ولهذا قال بعض العلماء لتلميذه: إذا قلت قبل القراءة «رضي الله عنك، وعن جماعة المسلمين» فإياك وأن تنساني في قولك «وعن جماعة المسلمين» فإن ذلك أوقع عندي من قولك «رضي الله عنك»، لأن هذا تخصيص بالدعاء ويجوز أن لا يقبل، وأما قولك «وعن المسلمين» فإنه أرجى لأنه لا بد أن يكون في المسلمين من يستحق الإجابة، وإذا أجاب الله دعاء في البعض فهو أكرم من أن يرده في الباقي. ومن هنا
ورد في السنة أن يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل كل دعاء وبعده
، لأن الدعاء في الطرفين مستجاب البتة لأنه في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم فيستجاب الوسط بتبعية ذلك لا محالة. وأيضا
قال صلّى الله عليه وسلّم: «ادعوا الله بألسنة ما عصيتموه بها».
قالوا: يا رسول الله، ومن لنا بتلك الألسنة؟ قال: يدعو بعضكم لبعض لأنك ما عصيت بلسانه وهو ما عصى بلسانك» وأيضا «الحمد لله» شامل لحمد جميع الحامدين، و «إياك نعبد» لعبادة الجميع، «وإياك نستعين» لاستعانة الكل، فلا جرم لما طلب الهداية طلبها للكل كما طلب الاقتداء بالصالحين جميعا في قوله: «صراط الذين أنعمت عليهم» والفرار من الطالحين جميعا في قوله: «غير المغضوب عليهم ولا الضالين». وإذا كان كذلك في الدنيا
الثالثة: الخط المستقيم أقرب خط يصل بين النقطتين، والعبد عاجز فلا يليق بضعفه إلا الطريق المستقيم. وأيضا المستقيم واحد وما سواه معوجة يشبه بعضها بعضا في الاعوجاج، فكان أبعد من الخوف وأقرب إلى الخلاص. وأيضا ميل الطباع إلى الاستقامة أكثري فلهذه الأسباب سئل الصراط المستقيم.
الحادي عشر في فوائد قوله «صراط الذين أنعمت عليهم».
الأولى: حد النعمة بأنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، لأنه لو قصد الفاعل منفعة نفسه أولا على جهة الإحسان لم يكن نعمة فلا يستحق الشكر. ثم نقول: كل ما يصل إلى الخلق من نفع أو دفع ضر فهو من الله تعالى لقوله وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: ٥٣] ولأن الواصل من جهة غير الله ينتهي إليه أيضا لأنه الخالق لتلك النعمة، وكذلك للمنعم ولداعية ذلك الإنعام فيه. والنعم الواصلة إلينا بطاعاتنا هي أيضا من الله تعالى لأنها بتوفيقه وإعانته بأن أتاح الأسباب وأزاح الأعذار. وأول نعمة من الله تعالى على عبيده نعمة الحياة التي بها يمكن الانتفاع بالمنافع والاحتراز عن المضارّ قال تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة: ٢٨] ثم عقب ذلك بقوله هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: ٢٩].
الثانية: هل لله تعالى على الكافر نعمة أم لا؟ أنكر ذلك بعض أصحابنا لوجوه منها:
قوله «صراط الذين أنعمت عليهم» فإنه لو كان له على الكفار نعمة لزم طلب صراط الكفار لأن المبدل منه وهو الصراط المستقيم في حكم المنحى. والجواب أن قوله «غير المغضوب عليهم ولا الضالين» يدفع ذلك، ومنها قوله وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران: ١٧٨] والجواب أنه لا يلزم من أن لا يكون الإملاء خيرا ونعمة لهم أن لا يكون أصل الحياة وسائر أسباب الانتفاع نعمة، فإن الإملاء تأخير النقمة بعد ثبوت استحقاقها، فما قبل هذه الحالة لا يكون كذلك. على أن نفس الإملاء أيضا تمتيع حالي قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ [البقرة: ١٢٦] وليس هذا كمن جعل السم في الحلواء على ما ظن، وإنما هو كمن ناول شخصا حلواء لذيذة غير مسمومة ولكن ذلك الشخص لفساد مزاجه أو لاستعماله الحلواء لا كما ينبغي أفسد مزاج الحلواء أيضا وصيره كالسم القاتل بالنسبة إليه، ولهذا
قال صلّى الله عليه وسلّم: «نعم
وكيف لا تعم نعم الله تعالى وقد قال على العموم: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً [البقرة: ٢١، ٢٢] وقال: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة: ٢٨] كل ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم. وقال: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: ١٣] وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الأعراف: ١٧] والشكر لا يكون إلا بعد النعمة.
الثالثة: ما المراد بالنعمة المذكورة في قوله «أنعمت عليهم» ؟ قلنا: يتناول كل من كان لله عليه نعمة دينية ودنيوية. ثم إنه يخرج بقوله «غير المغضوب عليهم ولا الضالين» كل من عليه نعمة دنيوية فقط ويبقى الذين أنعم الله عليهم في الدنيا والآخرة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وكما أن أصل النعم الدنيوية هي الحياة المستتبعة لكل المنافع، فكذلك أصل النعم الدينية هو الإيمان المستلزم لجميع الخيرات والسعادات. وكما أن كمال البدن بالحياة فكمال النفس بالإيمان وموتها بفقده إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النمل: ٨٠] وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر: ٢٢] وكما أن حياة البدن من الله فكذا الإيمان منه وبتوفيقه. وإضافة الإيمان إلى العبد إضافة الأثر إلى القابل وبذلك القبول يستأهل الثواب. والمؤمن لا يبقى مخلدا في النار، فإن من شرفه الله تعالى بأعظم الأنعام لن يعاقبه بأشد الآلام، فما الإنعام إلا بالإتمام. قيل: لو كان رعاية الأصلح على الله واجبا لم يكن ذلك إنعاما لأن أداء الواجب لا يسمى إنعاما. قلت: النزاع لفظي لأن الأصلح لا بد أن يصدر عنه، ولا يليق بحكمته وكماله خلاف ذلك ثم ما شئت فسمه.
الثاني عشر في فوائد قوله «غير المغضوب عليهم ولا الضالين».
الأولى: من المغضوب عليهم ومن الضالون؟ قلت: المغضوب عليهم هم المائلون في كل خلق أو اعتقاد إلى طرف التفريط ومنهم اليهود، والضالون هم المائلون إلى طرف الإفراط ومنهم النصارى. وإنما خص الأولون بالغضب عليهم لأن الغضب يلزمه البعد والطرد، والمفرّط في شيء هو المعرض عنه غير مجد بطائل فهو بعيد عن ذلك. وأما المفرط فقد أقبل عليه وجاوز حد الاعتدال، فغاب عن المقصود ومني بالحرمان كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ [الأنعام: ٧١] فاليهود فرطوا في شأن نبي الله ولم يطيعوه وآذوه حتى قالوا بعد أن نجاهم الله من عدوّهم يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: ١٣٨] لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: ٥٥] ولهذا قال عز
٦٩] والنصارى أفرطوا وقالوا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: ٣٠] إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:
٧٣]
روي عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «غير المغضوب عليهم اليهود والضالون النصارى»
وتصديق ذلك من كتاب الله حيث قال في اليهود وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:
١١٢] وفي النصارى وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [المائدة: ٧٧] هذا شأن الفريقين. وأما المؤمنون فطلبوا الوسط بين المنحرفين وذلك من لطف الله تعالى بهم وفضله عليهم وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: ١٤٣] كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: ١١٠] وخير الأمور أوسطها.
الثانية: الآية تدل على أن أحدا من الملائكة والأنبياء ما أقدم على عمل أو اعتقاد يخالف الحق وإلا لكان ضالا لقوله تعالى فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس: ٣٢] يصلح للاقتداء به والاهتداء بطريقه.
الثالثة: ما الفائدة في أن عدل من أن يقول اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلى ما عدل؟ قلت: الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف كما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا»
فقوله «صراط الذين أنعمت عليهم» يدل على الرجاء، وباقي الآية يدل على الخوف، فيكمل الإيمان بطرفيه وركنيه.
الثالث عشر: في تفسير السورة مجموعة وفيه مناهج:
المنهج الأول: نسبة عالم الغيب إلى عالم الشهادة، ونسبة الأصل إلى الفرع، والنور إلى الظلمة، فكل شاهد. فله في الغائب أصل وإلا كان كسراب زائل وخيال باطل، وكل غائب فله في الشاهد مثال وإلا كان كشجرة بلا ثمرة ومدلول بلا دليل، وكل شريف فهو بالنسبة إلى ما دونه مطاع كما قال عز من قائل ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: ٢٠، ٢١] والمطاع في عالم الروحانيات مطاع في عالم الجسمانيات، والمطاع في عالم الأرواح هو المصدر، والمطاع في عالم الأجسام هو المظهر. ولا بد من أن يكون بينهما ملاقاة ومجانسة وبهما تتم سعادة الدارين لأنهما يدعوان إلى الله بالرسالة.
وحاصل الدعوة أمور سبعة تشتمل عليها خواتيم سورة البقرة، أربعة منها تتعلق بالمبدأ وهي معرفة الربوبية أعني معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:
٢٨٥] واثنان منها تتعلق بالوسط أحدهما مبدأ العبودية وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا [البقرة:
وخامسها وَاغْفِرْ لَنا [البقرة: ٢٨٦] لأنا التجأنا بكليتنا إليك وتوكلنا في جميع الأمور عليك «إياك نعبد وإياك نستعين». وسادسها وَارْحَمْنا [البقرة: ٢٨٦] لأنا طلبنا الهداية منك «اهدنا الصراط المستقيم» وسابعها أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة: ٢٨٦] «صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين». فهذه المراتب ذكرها محمد ﷺ في عالم الروحانيات عند صعوده إلى المعراج، فلما نزل من المعراج فاض أثر المصدر على المظهر فوقع التعبير عنها بسورة الفاتحة، فمن قرأها في صلاته صعدت هذه الأنوار من المظهر إلى المصدر كما نزلت في عهد الرسول ﷺ من المصدر إلى المظهر، فلهذا السبب
قال صلى الله عليه وسلم: «الصلاة معراج المؤمن».
المنهج الثاني: المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها في الأصل ثلاثة: الشهوة والغضب والهوى. الشهوة بهيمية، والغضب سبعية، والهوى شيطانية أرضية، ولهذا قال:
فالشهوة آفة لكن الغضب أعظم منها، والغضب آفة لكن الهوى أعظم منه. قال تعالى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ [النحل: ٩] أي الشهوة، والمنكر الغضب، والبغي الهوى، فبالشهوة يصير الإنسان ظالما لنفسه، وبالغضب ظالما لغيره، وبالهوى لربه، ولهذا
قال ﷺ «الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر وظلم لا يترك وظلم عسى الله أن يتركه، فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك بالله، والظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضا، والظلم الذي عسى الله أن يتركه هو ظلم الإنسان نفسه»
ونتيجة الشهوة الحرص والبخل، ونتيجة الغضب العجب والكبر، ونتيجة الهوى الكفر والبدعة. ويحصل من اجتماع هذه الست في بني آدم خصلة سابعة هي الحسد وهو نهاية الأخلاق الذميمة، كما أن الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة، ولهذا السبب ختم الله تعالى مجامع الشرور الإنسانية بالحسد في قوله تعالى:
روي أن إبليس أتى باب فرعون وقرع الباب فقال فرعون: من هذا؟ قال: إبليس ولو كنت إلها ما جهلت. فلما دخل قال فرعون: أتعرف في الأرض شرا مني ومنك؟ قال: نعم، الحاسد، وبالحسد وقعت فيما وقعت.
ثم نقول: الأسماء الثلاثة في التسمية دافعة للأخلاق الثلاثة الأصلية، والآيات السبع التي هي الفاتحة دافعة للأخلاق السبعة، بيان ذلك من عرف الله تباعد عنه شيطان الهوى أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: ٢٣] يا موسى خالف هواك فإني ما خلقت خلقا نازعني في ملكي إلا هواك. ومن عرف أنه رحمن لم يغضب لأن منشأ الغضب طلب الولاية والولاية للرحمن الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الفرقان: ٢٦] ومن عرف أنه رحيم صحح نسبته إليه فلا يظلم نفسه ولا يلطخها بالأفعال البهيمية. وأما الفاتحة فإذا قال «الحمد لله» فقد شكر الله واكتفى بالحاصل فزالت شهوته، ومن عرف أنه رب العالمين زال حرصه فيما لم يجد وبخله فيما وجد، ومن عرف أنه «مالك يوم الدين» بعد أن عرف إنه «الرحمن الرحيم» زال غضبه، ومن قال: «إياك نعبد وإياك نستعين» زال كبره بالأول وعجبه بالثاني، وإذا قال «اهدنا الصراط المستقيم» اندفع عنه شيطان الهوى، وإذا قال «صراط الذين أنعمت عليهم» زال عنه كفره، وإذا قال «غير المغضوب عليهم ولا الضالين» اندفعت بدعته، وإذا زالت عنه الأخلاق الستة اندفع عنه الحسد، ثم إن جملة القرآن كالنتائج والشعب من الفاتحة وكذا جميع الأخلاق الذميمة كالنتائج والشعب من تلك السبعة، فلا جرم القرآن كله كالعلاج لجميع الأخلاق الذميمة. وهنا نكتة دقيقة تتعلق بالرب والإله وبسببها ختم القرآن عليها، كأنه قال: إن أتاك الشيطان من قبل الشهوة فقل أعوذ برب الناس، وإن أتاك من قبل الغضب فقل ملك الناس، وإن أتاك من قبل الهوى فقل إله الناس.
المنهج الثالث: في أن سورة الفاتحة جامعة لكل ما يفتقر إليه الإنسان في معرفة المبدأ والوسط والمعاد «الحمد لله» إشارة إلى إثبات الصانع المختار العليم الحكيم المستحق للحمد والثناء والتعظيم. «رب العالمين» يدل على أن ذلك الإله واحد وأن كل العالمين ملكه وملكه وليس في العالم إله سواه، ولهذا جاء في القرآن الاستدلال بخلق الخلائق كثيرا قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة: ٢٥٨] الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء: ٧٨] رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: ٥٠] رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: ٢٦] اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: ٢١] اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق: ١، ٢] وهذه الحالة كما أنها
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه | فكل قرين بالمقارن يقتدي |
قال ﷺ حكاية عن الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد «بسم الله الرحمن الرحيم» يقول الله: ذكرني عبدي. وإذا قال: «الحمد لله رب العالمين» يقول الله: حمدني عبدي وإذا قال: «الرحمن الرحيم» يقول الله: عظمني عبدي. وإذا قال: «مالك يوم الدين» يقول الله: مجدني عبدي-
وفي رواية فوض إلي عبدي- وإذا قال: «إياك نعبد» يقول الله: عبدي عبدي وإذا قال: «وإياك نستعين» يقول الله:
توكل عليّ عبدي-
وفي رواية وإذا قال: «اهدنا الصراط المستقيم» يقول الله: هذا لعبدي ما سأل «١»
فقوله «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي»
إشارة إلى أن أهم مهمات العبد أن يستنير
وقوله «إذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله ذكرني عبدي»
مناسب لقوله تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ «١»
«أنا جليس من ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه»
والذكر مقام عال شريف ذكره الله تعالى في القرآن كثيرا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب: ٤١] وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ [الأعراف: ٢٠٥] تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: ٢٠١] الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمران: ١٩١] ولهذا وقع الابتداء به.
وقوله «ذكرني عبدي»
دل على أن ذاته المخصوصة صارت مذكورة بقوله «بسم الله الرحمن الرحيم» وهذا يدل على أن الله اسم علم.
وقوله «إذا قال: الله رب العالمين يقول الله: حمدني عبدي»
يدل على أن مقام الحمد أعلى من مقام الذكر لأنه أو كلام في أول خلق العالم حيث قالت الملائكة: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة: ٣٠] وآخر كلام في الجنة وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: ١٠] ولأن الفكر في ذات الله تعالى غير ممكن
«تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله»
وكل من تفكر في مخلوقاته ومصنوعاته كان وقوفه على رحمته وفضله وإحسانه أكثر فيحمد الله تعالى أكثر،
فقوله «حمدني عبدي»
شهادة من الله تعالى على وقوف العبد بعقله وفكره على وجوه فضله وإنعامه في ترتيب العالم وتربية العالمين، وأنه أقر بقلبه ولسانه بكرمه وإحسانه.
قوله «وإذا قال: الرحمن الرحيم» «يقول الله: عظمني عبدي»
يدل ذلك على أن الإله الكامل المكمل المنزه عن الشريك والنظير والمثل والند والضد، هو في غاية الرحمة والفضل والكرم مع عباده. ولا شك أن غاية ما يصل العقل والفهم والوهم إليه من تصور معنى الكمال والجلال ليس إلا هذا المقام وهو التعظيم لله.
وقوله «وإذا قال: مالك يوم الدين يقول الله: مجدني عبدي»
أي نزهني وقدسني عن الظلم وعن شبهة الظلم حيث قضيت معادا يحشر إليه العباد ويقضي فيه بين الظالم والمظلوم والقوي والضعيف.
أيحسب الظالم في ظلمه | أهمله القادر أم أمهلا |
ما أهملوه بل لهم موعد | لن يجدوا من دونه موئلا |
معناه أن «إياك نعبد» يدل على إقدام العبد على الطاعة والعبادة ولا يتم ذلك إلا بإعانة الله بخلق داعية فيه خالصة عن المعارض، فإن العبد غير مستقل بالإتيان بذلك العمل فهو المراد من قوله «وإياك نستعين»
وقوله «وإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم يقول الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل»
تقريره أن أهل العلم مختلفون بالنفي والإثبات في جميع المسائل الإلهية أو أكثرها، وفي المعاد والنبوات وغيرها مع استواء الكل في العقل والنظر. فالاهتداء إلى ما هو الحق في الأمر نفسه ليس إلا بهداية الله تعالى وإرشاده كما قالت الملائكة سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا [البقرة: ٣٢] وقال إبراهيم عليه السلام لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام: ٧٧] وقال موسى رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:
٢٥، ٢٦].
المنهج الخامس: آيات الفاتحة سبع والأعمال المحسوسة في الصلاة أيضا سبعة:
القيام والركوع والانتصاب منه والسجود الأول والانتصاب منه والسجود الثاني والقعدة.
فهذه الأعمال كالشخص والفاتحة لها كالروح، وإنما يحصل الكمال عند اتصال الروح بالجسد، فقوله «بسم الله الرحمن الرحيم» بإزاء القيام، ألا ترى أن الباء في بسم الله لما اتصل باسم الله حصل قائما مرتفعا. وأيضا التسمية لبداية الأمور
«كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله أبتر»
والقيام أيضا أول الأعمال. وقوله «الحمد لله رب العالمين» بإزاء الركوع لأن الحمد في مقام التوحيد نظرا إلى الحق وإلى الخلق والمنعم والنعمة، لأنه الثناء على الله بسبب الإنعام الصادر منه إلى العبد، فهو حالة متوسطة بين الإعراض والاستغراق، كما أن الركوع متوسط بين القيام والسجود، وأيضا ذكر النعم الكثيرة مما يثقل الظهر فينحني وقوله «الرحمن الرحيم» مناسب للانتصاب، لأن العبد لما تضرع إلى الله بالركوع فاللائق برحمته أن يرده إلى الانتصاب ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا قال العبد: سمع الله لمن حمده نظر الله إليه بالرحمة»
وقوله «مالك يوم الدين» مناسب للسجدة الأولى لدلالته على كمال القهر والجلال والكبرياء وذلك يوجب الخوف الشديد المستتبع لغاية الخضوع. وقوله «إياك نعبد وإياك نستعين» مناسب للقعدة بين السجدتين لأن إياك نعبد إخبار عن السجدة التي تقدمت و «إياك نستعين» استعانة بالله في أن يوفقه للسجدة الثانية، وقوله «اهدنا الصراط المستقيم» سؤال لأهم الأشياء فيليق به السجدة الثانية ليدل على نهاية الخشوع. وقوله «صراط الذين أنعمت عليهم» إلخ. مناسب للقعود لأن العبد لما أتى بغاية التواضع قابله الله بالإكرام والقعود بين يديه وحينئذ يقرأ «التحيات لله» كما أن محمدا ﷺ قرأها في معراجه فالصلاة معراج المؤمن.
«من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار».
المنهج السابع: إنه كان لرسول الله ﷺ معراجان: من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم من المسجد الأقصى إلى عالم الملكوت. هذا في عالم الحس، وأما في عالم الأرواح، فمن الشهادة إلى الغيب، ثم من الغيب إلى غيب الغيب، فهذا بمنزلة قوسين متلاصقين، فتخطاهما محمد ﷺ فكان قاب قوسين. وقوله «أو أدنى» إشارة إلى فنائه في نفسه. والمراد بعالم الشهادة كل ما يتعلق بعالم الجسم والجسمانيات، وبعالم الأرواح ما فوق ذلك من الأرواح السفلية، ثم المتعلقة بسماء سماء إلى الملائكة الحافين من حول العرش، ثم إلى حملة العرش ومن عند الله الذين طعامهم ذكر الله وشرابهم محبته وأنسهم بالثناء عليه ولذتهم في خدمته لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: ١٩، ٢٠] وهكذا يتصاعد إلى أن ينتهي إلى نور الأنوار وروح الأرواح ولا يعلم تفاصيلها إلا الله أو من ارتضاه، والمقصود أن نبينا ﷺ لما عرج وأراد أن يرجع قال رب العزة: المسافر إذا عاد إلى وطنه أتحف أصحابه وإن تحفة أمتك الصلاة الجامعة بين المعراجين الجسماني بالأفعال والروحاني بالأذكار. فليكن المصلي ثوبه طاهرا وبدنه طاهرا لأنه بالوادي المقدس طوى. وأيضا عنده ملك وشيطان، ودين ودنيا، وعقل وهوى، وخير وشر، وصدق وكذب، وحق وباطل، وحلم وطيش، وقناعة وحرص، وسائر الأخلاق المتضادة والصفات المتنافية، فلينظر أيها يختار فإنه إذا استحكمت المرافقة تعذرت المفارقة، اختار الصديق صحبة محمد ﷺ فلم يفارقه في الدنيا وفي القبر ويكون معه في القيامة وفي الجنة، وصحب كلب أصحاب الكهف فلزمهم في الدنيا والآخرة قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: ١١٩] ثم إذا تطهر فليرفع يديه إشارة إلى توديع الدنيا والآخرة وليوجه قلبه وروحه وسره إلى الله ثم ليقل «الله أكبر» أي من كل الموجودات بل هو أكبر من أن يقاس إليه غيره بأنه أكبر منه، ثم ليقل
«سبحانك اللهم وبحمدك»
وفي هذا المقام ينكشف له نور سبحات الجلال، ثم ليقل «تبارك اسمك» إشارة إلى الدوام المنزه عن الإفناء والإعدام ليطالع حقيقة الأبد في البقاء،
بقوله «سبحانك اللهم وبحمدك»
وقولك «وجهت وجهي» معراج الخليل صلى الله عليه وسلم، وقولك «إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي» معراج الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم. فقد جمع المصلي بين معراج الملائكة المقربين ومعراج عظماء الأنبياء والمرسلين ثم إذا فرغت من هذه الحالة فقل «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» لتدفع العجب عن نفسك، وفي هذه المقام يفتح لك أحد أبواب الجنة وهو باب المعرفة، وبقولك «بسم الله الرحمن الرحيم» يفتح باب الذكر، وبقولك «الحمد لله رب العالمين» يفتح باب الشكر، وبقولك «الرحمن الرحيم» يفتح باب الرجاء، وبقولك «مالك يوم الدين» يفتح باب الخوف، وبقولك «إياك نعبد وإياك نستعين» بفتح باب الإخلاص المتولد من معرفة العبودية ومعرفة الربوبية وبقولك «اهدنا الصراط المستقيم» يفتح باب الدعاء والتضرع ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: ٦٠] وبقولك: «صراط الذين أنعمت» إلخ. يفتح باب الاقتداء بالأرواح الطيبة والاهتداء بأنوارهم، فجنات المعارف الربانية انفتحت لك أبوابها الثمانية بهذه المقاليد الروحانية، فهذا بيان المعراج الروحاني في الصلاة، وأما الجسماني فأولى المراتب أن تقوم بين يدي الله كقيام أصحاب الكهف إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الكهف: ١٤] بل قيام أهل القيامة يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: ٦] ثم اقرأ «سبحانك اللهم وبحمدك» ثم «وجهت وجهي» ثم «الفاتحة» وبعدها «ما تيسر لك من القرآن» واجتهد في أن تنظر من الله إلى عبادتك حتى تستحقرها، وإياك أن تنظر من عبادتك إلى الله فإنك إن فعلت ذلك صرت من الهالكين وهذا سر قوله: «إياك نعبد وإياك نستعين» واعلم أن نفسك إلى الآن جارية مجرى خشبة عرضتها على نار خوف الجلال فلانت، فاجعلها منحنية بالركوع ثم اتركها لتستقيم مرة أخرى، فإن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض طاعة الله إلى نفسك
«فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى»
فإذا عادت إلى استقامتها فانحدر إلى الأرض بغاية التواضع واذكر ربك بغاية العلو وقل: «سبحان ربي الأعلى» فإذا سجدت ثانية حصل لك ثلاثة أنواع من الطاعة. ركوع واحد وسجدتان،
«إذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه» «١»
فإذا سمع الملائكة ذلك اشتاقوا إلى العبد فقال الله تعالى: إن الملائكة اشتاقوا إلى زيارتك وقد جاؤوك زائرين فابدأ بالسلام عليهم لتكون من السابقين، فقل عن اليمين وعن الشمال «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» فلا جرم إذا دخل المصلون الجنة فالملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتهم فنعم عقبى الدار.
المنهج الثامن: أعظم المخلوقين جلالة ومهابة المكان والزمان، فالمكان فضاء لا نهاية له، وخلاء لا غاية له، والزمان امتداد وهمي شبيه بنهر خرج من قعر جبل الأزل فامتد ودخل في قعر الأبد، فلا يعرف لانفجاره مبدأ ولا لاستقراره منزل. فالأول والآخر صفة الزمان، والظاهر والباطن صفة المكان، وكمال هذه الأربعة «الرحمن الرحيم» فالحق سبحانه وسع المكان ظاهرا وباطنا، ووسع الزمان أولا وآخرا، وهو منزه عن الافتقار إلى المكان والزمان، فإنه كان ولا مكان ولا زمان، فعقد المكان بالكرسي وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [البقرة: ٢٥٥] وعقد الزمان بالعرش وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هود: ٧] لأن جري الزمان يشبه جري الماء، فالعلو صفة الكرسي وَسِعَ كُرْسِيُّهُ [البقرة: ٢٥٥] والعظمة صفة العرش رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة: ١٢٩] وكمال العلو والعظمة لله
«الكبرياء ردائي والعظمة إزاري» «١»
ولا يخفى أن الرداء أعظم من الإزار وفوق جميع الصفات صفة الجلال وهي تقدسه في هويته المخصوصة عن مناسبة الممكنات وبه استحق الإلهية، ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» «٢»
وفي التنزيل وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن: ٢٧] فالمصلي يبتغي وجه الله، والداخل على السلطان يجب أن يتطهر من الأدناس والأرجاس، وأولى المراتب التطهر من دنس الذنوب تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم: ٨] ثم من الدنيا حلالها وحرامها وهو الزهد، ثم من الكونين الدنيا والآخرة وهو مقام المعرفة، ثم من الالتفات إلى أعماله وهو مقام الإخلاص، ثم من الالتفات إلى عدم الالتفات وهو مقام المحسنين، ثم من الالتفات إلى كل ما سوى الله وهو مقام الصديقين، ثم قم قائما فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، [الروم: ٣٠] واستحضر في نفسك جميع أقسام العالم من الروحانيات والجسمانيات فقل «الله أكبر» أي من الكل كما مر، أو من لا يراني ولا يسمع كلامي كما
قال النبي ﷺ «الإحسان أن نعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» «٣»
أو أكبر من أن تصل إليه عقول الخلق وأفهامهم كما
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: التوحيد أن لا تتوهمه أو أكبر من أن يقدر الخلق على قضاء حق عبوديته فإذا قلت «الله أكبر» فأجل طرف عقلك في ميادين جلال الله وقل «سبحانك اللهم وبحمدك» ثم قل «وجهت وجهي» ثم انتقل إلى عالم الأمر والتكليف واجعل سورة الفاتحة مرآة لكي تبصر فيها عجائب الدنيا والآخرة، وتطلع منها على أنوار أسماء الله الحسنى وصفاته العليا والأديان السالفة والكتب الإلهية والشرائع النبوية فتصل إلى الشريعة ومنها إلى الطريقة ومنها إلى الحقيقة وتشاهد درجات الكاملين ودركات الناقصين، فإذا قلت «بسم الله الرحمن الرحيم» أبصرت به الدنيا فباسمه قامت السموات والأرضون، وإذا قلت «الحمد لله رب العالمين» أبصرت به الآخرة فبالحمد قامت الآخرة وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: ١٠] وإذا قلت «الرحمن الرحيم» أبصرت به عالم الجمال المشتمل على أصول النعم وفروع النوال، وإذا قلت «مالك يوم الدين» أبصرت به عالم الجلال وما يحصل هناك من الأحوال والأهوال، وإذا قلت
(٢) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩١. أحمد في مسنده (٤/ ١٧٧). [.....]
(٣) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٣١ باب ٢. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٥٧. الترمذي في كتاب الإيمان باب ٤. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ٥٩. أحمد في مسنده (١/ ٢٧، ٥١).
. روي أن لله ملكا تحت العرش اسمه حزقيل. فأوحى إليه أيها الملك طر فطار ثلاثين ألف سنة، ثم ثلاثين ألف سنة، فلم يبلغ من أحد طرفي العرش إلى الثاني فأوحى الله إليه: لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ إلى الطرف الثاني من العرش. فقال الملك عند ذلك: سبحان ربي الأعلى.
أما فوائد السجدتين فالأولى الأزل والثانية الأبد، والقعدة بينهما هي الدنيا، فتعرف بأزليته أنه لا أول له فتسجد له، وبأبديته أنه لا آخر له فتسجد له ثانيا. وأيضا الأولى فناء الدنيا في الآخرة، والثانية فناء الآخرة في جلال الله تعالى، وأيضا الأولى فناء الكل في أنفسها، والثانية بقاؤها ببقائه، وأيضا الأولى انقياد عالم الشهادة لقدرته، والثانية انقياد عالم الأرواح لعزته أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: ٥٤] وأيضا الأولى سجدة الشكر بمقدار ما أعطانا من معرفة ذاته وصفاته، والثانية سجدة الخوف مما فاتنا من أداء حقوق كبريائه. وأيضا صلاة القاعدة على النصف من صلاة القائم فتواضع السجدتين بإزاء تواضع ركوع واحد، وأيضا ليكونا شاهدين للعبد على أداء العبادة، وأيضا ليناسب الوجود الأخذ من الوحدة إلى الكثرة ومن الفردية إلى الزوجية، وأيضا الانتصاب صفة الإنسان والانحناء صفة الأنعام والجثوم صفة النبات. ففي الركوع هضم للنفس بمرتبة واحدة، وفي السجود بمرتبتين، ولعل ما فاتنا من الفوائد أكثر مما أدركنا.
المنهج التاسع في اللطائف:
عن النبي ﷺ أن إبراهيم ﷺ سأل ربه فقال: ما جزاء من حمدك؟ فقال تعالى: الحمد لله فاتحة الشكر وخاتمته.
فقال أهل التحقيق: من هاهنا جعلها الله فاتحة كتابه وخاتمة كلام أحبائه في جنته وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: ١٠]
وعن علي عليه السلام أن أول ما خلق الله العقل من نوره المكنون، ثم قال له:
تكلم فقال: الحمد لله فقال الرب: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعز عليّ منك.
ونقل عن
محمد وأحمد. وعند هذا
قال ﷺ «أنا في السماء أحمد وفي الأرض محمد»
فأهل السماء في تحميد الله ورسوله أحمدهم، والله تعالى في تحميد أهل الأرض كما قال: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء: ١٩] ورسول الله محمدهم.
أخرى: الحمد لا يحصل إلا عند الفوز بالرحمة والنعمة، فلما كان الحمد أول الكلمات وجب أن تكون النعمة والرحمة أول الأفعال فلهذا
قال «سبقت رحمتي غضبي» «١».
أخرى: أن رسول الله ﷺ اسمه أحمد أي أكثر الحامدين حمدا فوجب أن تكون رحمة الله في حقه أكثر فلهذا جاء رحمة للعالمين.
أخرى: إن من أسماء رسول الله ﷺ سوى اسمه محمد وأحمد الحامد والمحمود على ما جاء في الروايات، وكلها تدل على الرحمة، لأن الحمد يتضمن النعمة فقال تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر: ٤٩] فقوله «نبىء» إشارة إلى محمد وهو مذكور قبل العباد، والياء في قوله «عبادي» ضمير الله سبحانه. وكذا في «أني» و «أنا» و «الغفور» و «الرحيم» صفتان لله، فالعبد يمشي يوم القيامة وقدامه الرسول ﷺ مع خمسة أسماء تدل على الرحمة، وخلفه خمسة ألفاظ من أسماء الله تعالى تدل على الرحمة، ورحمة الرسول كثيرة وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: ١٠٧] ورحمة الله تعالى غير متناهية وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: ١٥٦] فكيف يضيع المذنب فيما بين هذه الأصناف من الرحمة؟!.
أخرى: في الفاتحة عشرة أشياء، خمسة من صفات الربوبية: الله الرب الرحمن الرحيم المالك، وخمسة من صفات العبودية: العبادة الاستعانة طلب الهداية طلب الاستقامة طلب النعمة في قوله «أنعمت عليهم» وكأنه قيل «إياك نعبد» لأنك أنت الله «وإياك نستعين» يا رب اهدنا يا رحمن، وارزقنا الاستقامة يا رحيم، وأفض علينا سجال فضلك يا مالك.
٤] فترك العصيان، وتجلى للأبدان بصفة القهر والمالكية لأن البدن غليظ كثيف فيحتاج إلى قهر شديد لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: ١٦] فدان. فلمكان هذه التجليات انغلقت له أبواب النيران وفتحت عليه أبواب الجنان ورجع القهقرى كما جاء، فلطاعة الأبدان قال: «إياك نعبد» ولطاعة النفس البهيمية قال: «وإياك نستعين» على ترك اللذات وارتكاب المنكرات، ولطاعة النفس السبعية قال: «اهدنا وأرشدنا وعلى دينك ثبتنا» ولطاعة النفس الشيطانية طلب الاستقامة فقال: «اهدنا الصراط المستقيم» ولجوهره العقلي الملكي طلب مرافقة الأرواح المقدسة لا المدنسة فقال: «صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين».
أخرى: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت فشهادة أن لا إله إلا الله من تجلي نور اسم الله، وإقام الصلاة من تجلي نور اسم الرب لأن الرب من التربية، والعبد يربي أمانة عدد الصلاة، وإيتاء الزكاة من تجلي اسم الرحمن لأن الزكاة سببها الرحمة على الفقراء، وصوم رمضان من تجلي اسم الرحيم لأن الصائم إذا جاع يذكر جوع الفقراء فيعطيهم (يحكى) أن يوسف حين تمكن من مصر كان لا يشبع فقيل له في ذلك؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجياع. وأيضا الصائم يرحم نفسه لأنه إذا جاع حصل له فطام عن الالتذاذ بالمحسوسات، فعند الموت يسهل عليه مفارقتها. ووجوب الحج من تجلي اسم «مالك يوم الدين» لأن الحج يوجب هجرة الوطن ومفارقة الأهل والولد وذلك يشبه سفر القيامة. وأيضا الحاج يكون عاريا حافيا حاسرا وهو يشبه أحوال القيامة.
أخرى: الحواس خمس ولكل أدب فأدب البصر ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم:
١٧] فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: ٢] وأدب السمع الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: ١٨] وأدب الذوق يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون:
٥١] وأدب الشم إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ [يوسف: ٩٤] وأدب المس وَالَّذِينَ هُمْ
[المؤمنون: ٦] فاستعن بأنوار الأسماء الخمسة: الله الرب الرحمن الرحيم المالك، على تأديب هذه الحواس الخمس.
أخرى: الشطر الأول من الفاتحة مشتمل على الأسماء الخمسة لله فيفيض أنوارها على الأسرار، والشطر الثاني مشتمل على الصفات الخمس للعبد فتصعد منها أسراره إلى تلك الأنوار ويحصل للعبد معراج في قراءته، وتقرير الأسرار أن حاجة العبد إما لدفع ضر أو جلب خير، وكل منهما إما في الدنيا وإما في الآخرة، فهذه أربعة، وهاهنا قسم خامس هو الأشرف وذلك الإقبال على طاعة الله وعبوديته لا لأجل رغبة أو رهبة، فإن شاهدت نور اسم الله لم تطلب منه شيئا سوى الله، وإن طالعت نور الرب طلبت منه خيرات الجنة، وإن طالعت نور الرحمن طلبت منه خيرات الدنيا، وإن طالعت نور الرحيم طلبت منه العصمة عن مضار الآخرة، وإن طالعت نور «مالك يوم الدين» طلبت منه الصون عن آفات الدنيا الموقعة في عذاب الآخرة أعاذنا الله منها.
أخرى: للتجلي ثلاث مراتب: تجلي الذات قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام: ٩١] وهذا لعظماء الأنبياء والملائكة المقربين وهذه نهاية الأحوال ويدل عليه اسم الله، وتجلي الصفات وهو في أواسط الأحوال ويكون للأولياء وأولي الألباب الذين يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا [آل عمران: ١٩١] ويدل عليه اسم الرحمن. وتجلي الأفعال والآيات وهو في بداية الأحوال ويكون لعامة العباد الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى [طه: ٥٣- ٥٤] ويدل علي لفظ الرحيم رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [غافر:].
أخرى: في الفاتحة كلمتان مضافتان إلى اسم الله «بسم لله» و «الحمد لله» بسم الله لبداية الأمور والحمد الله لخواتيم الأمور، «بسم الله» ذكر «والحمد الله» شكر ببسم الله أستحق الرحمة رحمن الدنيا، وبالحمد لله أستحق رحمة أخرى رحيم الآخرة. كلمتان أضيف إليهما اسمان لله «رب العالمين» «مالك يوم الدين» فالربوبية لبداية حالهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: ١٧٢] والملك لنهاية حالهم لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:
١٦] وبينهما اسمان مطلقان لوسط حالهم
«الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» «١».