ﰡ
* * *
هذه أول آية من السورة، وهي تأمر المؤمنين بأن يوفوا بالعهود التي أخذت عليهم بمقتضى الإيمان، وهي الطاعة لله تعالى ولرسوله، والقيام بالتكليفات الشرعية، فالعقد هو كل ما يلتزمه المؤمنون، سواء أكان في الأحكام التكليفية أم من العهود التي يلتزم بها العباد، وبذلك تشمل ما يعقده الإنسان مع غيره من عقود واجبة الوفاء، وما يتبادلان فيه الالتزام، كالبيع والإجارة، وغيرهما، وتشمل ما يلتزمه المؤمن من صدقات، وما يلزمه الوفاء به بحكم الإيمان، فإن الإيمان ميثاق يلتزم فيه العبد بالطاعة، فإذا عصى فقد نقض ذلك الميثاق، وذلك كما كان
والعقد على هذا: كل ارتباط يرتبط به المؤمن بموجب النقل أو بموجب العقل، وهو ما يدركه بالبديهة وأدنى نظر، سواء أكان بينه وبين نفسه بمقتضى إيمانه وخُلقه وإنسانيته، أم كان بينه وبين غيره، وكل هذا واجب الوفاء بحكم الله تعالى، فأوامر الله تعالى ونواهيه واجبة الوفاء، وعقود الإنسان مع غيره واجبة الوفاء إلا أن يكون فيها مخالفة لأمر الله تعالى ونهيه، فكل اتفاق على خلاف ذلك رد على صاحبه، ولا وفاء فيه، لقول النبي - ﷺ -: " المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا " (١) ولقوله - ﷺ -: " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولوكان مائة شرط " (٢) ولأن تنفيذ العقود التي تتضمن خلاف ما جاء عليه الشرع يكون تنفيذها نقضا لعهد المؤمن الذي يجب تنفيذه، وهو طاعة
________
(١) ذكره البخاري تعليقا: الإجارة - أجر السمسرة بلفظ: " المسلمون عند شروطهم " وأخرجه الترمذي: الأحكام - في الصلح (١٣٥٢) عن عَمْرِو بْنِ عَوْفِ الْمُزَنِيُّ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - قَالَ: " الصُّلْحُ جَائِز بَيْنَ الْمُسْلمينَ إِلا صُلْحًا حَرَّمَ حَلالا أَوْ أحَلَّ حَرَامًا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلا شَرْطا حَرَّمَ حَلالا أو أَحَلَّ حَرَامًا " قَالَ أبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَن صَحِيح.
(٢) ذكره البخاري تعليقا: بَاب الْمُكَاتَبِ وَمَا لَا يَحِلُّ مِنْ الشرُوطِ التي تُخَالفُ كِتَابَ اللَّهِ، ورواه ابن ماجه: الأحكام - باب المكاتب (٢٥٢١) عَنْ عَائِشَةَ زَوْج النًّبِيِّ - ﷺ -، كما رواه أحمد بلفظ مقارب: مسند الأنصار - باقي المسند السابق (٢٥٢٥٨) عن عائشة رضي الله عنها.
فالعقد: معناه في اللغة العربية ضم طرف إلى طرف، وربطهما ربطا محكما. يقال: عقد الرجل طرفي الحبل أو الحبلين إذا ربط أحدهما بالآخر، وضده الحل أي فك هذا الربط، وسمي الإيجاب والقبول عقدا لأنهما يضمان إرادتي المتعاقدين، ويربطان أحدهما بالآخر.
والعقد معناه في استعمال القرآن الارتباط، والعقود والعهود والمواثيق والمعاهدات والمحالفات والتعهدات والاتفاقات والالتزامات كلها في استعمال القرآن والاصطلاح الشرعي ألفاظ متقاربة المعنى المراد بها الارتباطات، سواء أكانت ارتباطات بين أفراد أو حكومات أو جماعات، وسواء أكانت ارتباطات على عمل أو على كف عن عمل. والفروق التي يقررها علماء القانون الدولي لهذه الألفاظ لا تحرف في الاصطلاح الشرعي.
والإيفاء بالعقد معناه تنفيذ ما يقتضيه والقيام بما يوجبه وافيا تاما غير منقوص، والإيفاء بالعقد والوفاء به والتوفية به ألفاظ مترادفة معناها واحد.
والمعنى بالإجمال: يا أيها المؤمنون نفذوا ارتباطاتكم، وقوموا بما تعاقدتم على القيام به وافيا تاما. وقد ذكر سبحانه العقود التي أمر بالإيفاء بها بصيغة العموم ولم يخصصها بنوع لتشمل كل ارتباط يرتبط به المؤمن، سواء أكان ارتباطه مع ربه أم ارتباطه مع نفسه أم ارتباطه مع فرد آخر، وسواء أكان ارتباط جماعتهم أو حكومتهم على عمل، أو كف عن عمل؛ ولهذا قال المحققون من المفسرين: العقود التي أمر الله المؤمنين أن يوفوا بها تشمل أربعة أنواع:
الأول: العقود التي عقدها المؤمن مع ربه بسبب إيمانه. فكل من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد التزم لله بأن يطيعه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وإحلال ما أحله وتحريم ما حرمه. فهذا عقد بين المؤمن وربه.
وسبب الالتزام فيه إيمانه. وإلى هذا أشار الله سبحانه بقوله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
الثاني: العقود التي عقدها المؤمن مع نفسه بسبب حلفه على أن يفعل فعلا أو يكف عن فعل، أو نذره أن يفعل فعلا أو يكف عن فعل؛ فكل من حلف على فعل أو كف عن فعل أو نذر فعلا أو كفا عن فعل فقد التزم أن يبر بيمينه، وأن يوفي بنذره. وسبب الالتزام يمينه أو نذره. وإلى هذا أشار الله سبحانه بقوله: (... وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ...).
الثالث: العقود التي يعقدها الأفراد بعضهم مع بعض من بيع وإجارة ورهن وشركة ومضاربة وزواج ونحوها؛ فكل من ارتبط مع غيره بعقد فعليه أن ينفذ موجب هذا العقد ولا يخل بشيء مما يقتضيه، وسبب الالتزام عقده بإرادته واختياره.
الرابع: العقود التي تعقدها الحكومة الإسلامية مع غيرها من الحكومات في السلم والحرب، فإذا تعاقدت دولة إسلامية مع أية دولة على أحكام عسكرية أو مدنية، دفاعية أو هجومية، إيجابية أو سلبية، فعلى الحكومة أن توفي بعقودها، وتنفذ التزاماتها.
فالله سبحانه أمر المؤمنين بأن يوفوا بكل الارتباطات التي يرتبطون بها أفرادا أو جماعات أو حكومات، مع ربهم، أو مع أنفسهم، أو مع أبناء نوعهم.
قال الإمام أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص المتوفى سنة (٣٧٠ هـ) في كتابه في تفسير آيات الاحكام: العقد ما يعقده العاقد مع نفسه على أمر يفعله هو، أو ما يعقده مع غيره، ويسمى اليمين على المستقبل عقدا، لأن الحالف قد ألزم نفسه الوفاء بما حلف عليه من فعل أو ترك. وكذلك العهد والأمان، لأن معطيه قد ألزم نفسه الوفاء به. وكذلك كل شرط شرطه الإنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عقد. وكذلك النذر وإيجاب القرب وما جرى مجرى
وإذا تعارض الإيفاء بعقد من هذه الأنواع الأربعة مع الإيفاء بعقد آخر منها، وجب على المؤمن أن يوفي بعقده مع ربه، ولا يجب عليه أن يوفى بعقده مع نفسه أو مع غيره إذا كان إيفاؤه بعقد منهما يخل بإيفائه بعقد ربه. فإذا حلف على ما فيه مخالفة أمر ربه فليحنث في يمينه وليوف عقده مع ربه ولا يوف بما حلف عليه؛ ولهذا ورد في الحديث " من حلف على شيء ورأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير منه وَلْيُكَفِّر عن يمينه " (١). وإذا عقد عقدا أو شرط شرطا يقضي بتحليل محرم أو تحريم حلال أو التزام بباطل شرعا فعليه أن يوفي بعقده مع ربه ولا يوفي بما يخالفه من عقود وشروط؛ ولهذا ورد في الحديث: " المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا " (٢).
وقد خاطب الله المخاطبين في أمرهم بالإيفاء بالعقود بوصف الإيمان ليشير إلى أن الإيفاء بالعقود مما يقتضيه الإيمان، وفي هذا حث على امتثال الأمر والإيفاء بالعقد. وهذا الذي أشار إليه القرآن صرح به رسول الله - ﷺ - في سنته إذ عدَّ الوفاء بالعهود من شعائر الإيمان وآيات المؤمن، ففي الحديث: " آية المؤمن ثلاث: إذا حدث صدق، وإذا اؤتمن أدَّى، وإذا وعد وفَّى " (٣) وكما ذكرهم بإيمانهم في بدء هذه السورة إذ أمرهم بالإيفاء بالعقود جملة، ذكرهم بإيمانهم في
________
(١) سبق تخريجه.
(٢) سبق تخريجه.
(٣) سبق تخريجه.
وفى تفصيل التطهر لأداء الصلاة وهي عماد الدين قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجوهَكُمْ...).
وفى تفصيل عماد الدنيا وهو الشهادة بالقسط في إقامة حقوق الله قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ...).
فالمقصود بهذا إشعار المؤمنين بأن إيفاءهم بالعقود جملة وتفصيلا هو من مقتضى الإيمان، وأن نكث العهود والإخلال بما تقتضيه العقود لَا يتفق والإيمان. فالمؤمن حقا يوفِّي بالتزاماته لربه ولنفسه ولغيره. ومن هنا نفهم معنى الحديث: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن " (١).
وإن من أوائل الأحكام الشرعية ما أحله الله تعالى، وما أحله سبحانه قيده بقيود، ولذا قال تعالى:
(... أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتلَى عَلَيْكمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ...) ابتدأ الحكم ببيان الحلال من الأطعمة، لسببين: أولهما - أن العرب كانوا يحرمون في الجاهلية على أنفسهم بعض الحيوان لأوهام ورثوها، لم يأت بها دين، ولم يتصورها عقل، وليس للتحريم سبب يدركه أهل العقول. ثانيهما - أن النص جاء للإباحة مع القيد، فهي حلال بشرط ألا تكون مما يتلى تحريمه، وسيبينه الله تعالى من بعد، والتحريم سببه أحد أمرين: أولهما - ذاتي في ذات الحيوان كالخنزير والميتة، وما يشبه الميتة من التي تردت في منخفض من الأرض فنفقت، أو نطحت فهلكت، والثاني - عرضي بحال معينة كتحريم الصيد، فالنص لإباحة مقيدة مع ذكر القيد بالإشارة إليه ثم بيانه.
________
(١) متفق عليه، وقد سبق تخريجه.
والنعم في أصل الإطلاق العربي يكون على الإبل والبقر والغنم، واشتقاقها من النعمة؛ لأنها من نِعَمه سبحانه وتعالى التي أنعم الله بها، كما قال تعالى: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأكُلُونَ).
ويصح أن يكون مثل الإبل والبقر والغنم كل حيوان أو طير يتغذى من النبات، ولم يرد نص بتحريمه فيدخل الظبي وحمار الوحش وغيرهما من آكلات الأعشاب، كما يدخل الطير غير سباعه، وغيرها.
(أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ) البهيمة في اللغة العربية: هي كل ذات أربع من الدواب. والأنعام هي الإبل والبقر والغنم ذكورها وإناثها، وقد بينها الله سبحانه في سورة الأنعام بأنها ثمانية أزواج: من الضأن اثنين (الكبش والنعجة) ومن المعز اثنين (الجَدْي والعنز) ومن الإبل اثنين (الجمل والناقة) ومن البقر اثنين (الثور أو الفحل والبقرة أو الجاموسة). فهذه هي الأنعام في لسان القرآن.
ولما أمر الله المؤمنين بأن يوفوا بالعقود أخذ يفصل لهم العقود التي أمرهم أن يوفوا بها، وبدأ بأولها وأحقها بالإيفاء وهي عقودهم مع ربهم بمقتضى إيمانهم، وبدأ من هذه العقود ببيان ما أباح لهم أكله والانتفاع به من الحيوان، وما حرمه، لأن هذا الأكل والانتفاع أكثر ما يعرض للإنسان، وأكثر ما يحتاج إلى معرفة حكمه، ولأن أهل الجاهلية كانوا قد جاروا وظلموا في حكمهم في الأنعام، وبنوا تحريمهم لما حرموه منها، وتحليلهم ما أحلوه منها على نزعات وثنية، وأوهام لا يصح أن يبنى عليها تحريم ولا تحليل، فجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم.
(وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ)، (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ
وجعلوا من الأنعام بحيرة وسائبة ووصيلة وحاميا. ، وهكذا ساروا في تحريم الأنعام وإحلالها على ما تقتضيه وثنيتهم، لَا على ما تقتضيه مصلحتهم. فالله سبحانه بدأ عقوده مع المؤمنين ببيان أنه أباح لهم الأنعام كلها إلا ما يتلو عليهم تحريمه منها. فهو سبحانه بدأ ببيان ما فيه قضاء على وثنيات الجاهلية، وبما فيه إشعار المؤمنين بكمال النعمة عليهم، إذ أباح لهم الأنعام كلها والانتفاع بها بكل وجوه الانتفاع، ولم يقيد هذه الإباحة بما كانت تقيده به أهل الجاهلية من قيود وشروط لَا تقوم على أساس من المصلحة، وإنما تقوم على أوهام وأباطيل لَا يصح أن يبنى عليها تحريم ما رزق الله به عباده من الطيبات، بل قيدها باستثناء ما فيه ضرر بصحة الإنسان أو دينه. وعلى النفع والإضرار يبنى التحليل والتحريم. ومن هذا نفهم الحكمة في أن الله سبحانه قال: (أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ) ولم يقل أحلت لكم الأنعام؛ لأنه أراد سبحانه التنبيه إلى أن الأنعام أحلت بوصف أنها بهيمة، وكل الأنعام ذكورها وإناثها متحقق فيها هذا الوصف، فكل الأنعام حلال لكم. وإضافة لفظ بهيمة للأنعام لتأكيد عموم الأنعام التي أحلت، وللإشارة إلى أن التفريق بين بعض الأنعام وبعضها - مع أنها كلها بهيمة - ظلم وحظر لما لَا مبرر لحظره. وفي سورة الحج: (... وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ...).
(إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) هذان استثناءان من العموم الذي دلت عليه (أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ) لأن معناها أحلت الأنعام كلها لكم جميعا.
استثنى سبحانه من الأنعام التي أحلت الأنعام التي يتلو على المؤمنين آيات تحريمها في قوله سبحانه:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّه وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ...)، وفي قوله: (حُرِّمَتَْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه...)، وفي قوله: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْق...).
والإحرام بأحد النسكين أو بهما معا معناه في الشرع نية النسكين أو أحدهما نية مقرونة بشعار من شعائر الحج كالتلبية أو سوق الهدى. فمن أحرم أي نوى أحد النسكين واتخذ شعاره لَا يحل له ما دام محرما أن يصطاد الأنعام ولا غيرها من حيوان البر، سواء أكان الصيد من أرض الحل أم من أرض الحرم. ولا يحل له الأكل والانتفاع بما اصطاده وهو محرم. وأما صيد البحر والأكل منه فهو حلال للمحرم، قال تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَللسَّيَّارَة وَحُرِّمَ عَلَيْبهُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا...).
فالمحرم لَا يحل له صيد البر؛ سواء أكان في أرض الحل أم في أرض الحرم.
وأرض الحرم لَا يحل الصيد فيها للمحرم وغير المحرم.
فمعنى (وَأَنتُمْ حُرُمٌ) أي محرمون، أو في أرض الحرم، أي وأنتم في حرمة الإحرام أو حرمة الأرض الحرام. ولله الحكمة البالغة في هذين الاستثناءين، فإنه استثنى مما أحل ما يتلو على المؤمنين من المحرمات دفعا للضرر عن دينهم وأجسامهم. وسيتبين في تفصيل المحرمات أن تحريم كل محرم منها إنما هو لدفع أذى ديني أو بدني. واستثنى ممن أحل لهم فريقين: المحرمين بأحد النسكين، لأنه أراد أن يكون إحرام المحرم شعار السلام والأمان، وتجنب العدوان حتى على الحيوان؛ ومتى عرف المحرم أنه لَا يحل له الصيد تجرد من أسلحته وآلاته وانصرف عن التفكير في إزعاج آمن أو مطاردة ضعيف، والموجود بأرض الحرم مطلقا، لأنه أراد أن تكون أرض الحرم أمنا حتى للصيد (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا...).
وقد استثنى سبحانه وتعالى من التحليل ما يتلى من بعد ذلك، وهو ما اشتمل عليه قوله تعالى من بعد: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا
وبقوله: (... مَا يُرِيذ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجِ...) فأحكامه التي ذكرها مصدرها إرادته، وهو ما يريد العسر ولا الحرج بحكمه، لَا في تحريمه المحرمات، ولا إحلاله المباحات، وإيجابه الواجبات، وكل ما أمر به أو نهى عنه أو شرعه.
ونرى أن " يحكم " تعدت من غير الباء فلم يقل تعالت كلماته: " إن الله يحكم بما يريده " بل قال: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكمُ مَا يُرِيدُ) وذلك لتضمن الحكم معنى حد الحدود، والمنع عن الموبقات، فكان التعدي بغير الباء.
وقد جاء في تفسير القرطبي: أن " هذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام، فإنها تضمنت خمسة أحكام: الأول: الأمر بالوفاء بالعقود، والثاني: تحليل بهيمة الأنعام، الثالث: استثناء ما يتلى بعد ذلك، الرابع: استثناء حال الإحرام فيما يصاد، الخامس: ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.
وحكى النقاش: أن أصحاب الكندي قالوا له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياما كثيرة، ثم خرج فقال: والله ما أقدر، ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت، فإذا هو قد كلف بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبر عن قدرته وحكمته - في سطرين،
ومن قرأ سورة الأنعام المكية ووقف على ما كان عليه أهل الجاهلية من تحريم وتحليل بناء على الأهواء والشهوات والتقاليد الوثنية، يفهم الحكمة البالغة فيما ختمت به هذه الآية من قوله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) أي لَا يحكم الحكم الذي تقتضيه الأهواء، وإنما يحكم الحكم الذي تقتضيه الحكمة والعدالة والمصلحة في الدين والدنيا، وهذا يوجب على المؤمن أن يتقبل أحكام الله بالإذعان والتسليم؛ لأن مصدرها إرادة الحكَم العدل اللَّطيف الخبير.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢)
* * *
في الآية السابقة أشار سبحانه وتعالى إلى ما أحل من طيبات، وأشار إلى مكان البيت الحرام وحرمته، وأنه لَا يحل صيده والإحرام قائم، وأن الله تعالى يحكم بما يريد، وهذا حكمه وأمره، وما على المؤمن إلا الطاعة فيما أمر به، وفي هذه الآية يبين سبحانه وتعالى ما يجب، وقد بَيَّن الحرمات التي تجب صيانتها ومن تتعلق بهم، وقد ذكر أمورا لَا يصح إحلالها، وهي شعائر الله تعالى، والشهر
________
(١) أجلاد أي مجلدات.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ..)
النداء لأهل الإيمان الصادقين في إيمانهم الذين يعملون بما يأمر، وينتهون عما ينهى، وتصدير الكلام بهذا النداء لبيان ما كان محرما في الحج وما يدعو الإسلام إلى الاستجابة إليه من مقتضيات، والإحلال معناه أن يخالف أمر الله تعالى فما يكون حراما منهيا عنه في الحج يفعله ويستحله، وما يكون مأمورا به لا يستجيب له، وشعائر الله تعالى في هذا المقام المراد بها مناسك الحج، وما حرمه فيه من ثياب في أثناء الإحرام، وما أمر به من أمور فيه من السعي بين الصفا والمروة والطواف بالبيت الحرام، والوقوف بعرفة، ورمي الجمار وسائر الأفعال، فإن هذه كلها شعائر لله تعالى، كما قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّه فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ). وكما قال تعالى في بعض هذه المناسك: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ...).
وسميت أعمال الحج شعائر، وهي جمع شعيرة، كما سميت مشاعر جمع مشعر، وهي أمور معلمة محسوسة مرئية، تدل على اتجاه القلوب إليه سبحانه وتعالى، فكان الإحرام مقترنا بمظهر حسي وهو ألا يلبس مخيطا، وأن يجهر بالتلبية، وكان الطواف وهو عمل حسي يدل على الاتجاه إلى ضيافة الرحمن، والإقامة بجوار بيته العتيق - أول بيت وضع - وفي ذلك اتصال دائم بين الرسالة الإلهية؛ إذ إن الذي بناه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فكان الطواف به رمز الوحدة في الرسالة الإلهية، وأن آخرها متصل بأولها، وأنها سلسلة متصلة الحلقات تُتم كل واحدة جزءا حتى أوفت على الغاية برسالة نبينا محمد - ﷺ -.
وكذلك السعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة في المشهد الإسلامي الأكبر، ورمي الجمار، كما فعل إبراهيم عليه السلام من قبل، وذلك مظهر للتطهر التام، والخروج من وسوسة الشيطان، ورميه والإعراض عنه.
(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦).
وهذه الأشهر لَا يحل القتال فيها، فلا يبدأ المسلمون القتال فيها، ولكن يدافعون إن اعتُدي عليهم فيها، ولهم أن يطلبوا الهدنة إن جاءت في أثناء القتال فيها، فإن كان الذين يقاتلونهم لَا يؤمنون بها استمر القتال، إذ لَا مناص منه، وقد ادَّعى كثيرون أن منع القتال في هذه الأشهر نسخ، ولا نجد دليلا يدل على النسخ، بل الأدلة تدل على دوام التحريم بل الأدلة متضافرة غلى استمرار تحريمها؛ لأن ذلك جاء في سورة المائدة، وهي من أواخر القرآن نزولا، ولأن النبي - ﷺ - ذكر التحريم في خطبة الوداع ولعل الذين ادَّعوا النسخ أخذوه من الحروب الإسلامية، والواقع أن المسلمين كانوا مضطرين للاستمرار.
والأشهر الحرم هي: ذو القعدة وذو الحجة، والمُحَرَّم، ورجب - الذي بين جمادى وشعبان - والأشهر الثلاثة الأولى فيها الحج والذهاب إليه والعودة منه، ورجب فيه العمرة، والتحريم ليكون الطريق آمنا في مدة الحج.
(وَلا الْهَدْي وَلا الْقَلائِدَ) الهدْي جمع هَدْيَة، وهو ما يُهْدَى، ويراد به هنا ما يهدى إلى البيت الحرام ليذبح في الحج، وإحلاله المنهي عنه ذبحه في غير موضع الحج، كما قال تعالى:
(... وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ...)، كما أن من إحلاله اغتصابه أو منعه من أن يصل إلى البيت الحرام، والقلائد جمع قلادة، وهي ما تُقَلَّد به الهدْي، ومن الفقهاء من خصها بالبدن (الإبل والبقر) فلا يقلد سواها، والنهي عن إحلال القلائد قد اختلف المفسرون في معناه، وأحسن ما
وإن سوق الهدي وذبحه من مناسعك الحج وفيه توسعة على سكان البيت الحرامِ، وإجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧).
ولكن هل يغني عن الهدي وذبحه في منى ما يُقَوَّم به من نقود؛ لقد أجمع الفقهاء على أنه لَا تغني قيمته عنه، ما دام يستطيع الرجل أن يهدي. وقد جعل الله تعالى الصيام بدل الهدى لمن لَا يجد، فقال تعالى:
(... فَإِذَا أَمِنتمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعمْرَةِ إِلَى الْحَجٍّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن الْهَدْى فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتمْ تِلْكَ عَشرَةٌ كَامِلَةٌ...).
ولقد ثارت مناقشات حول استبدال الذبح بقيمة الهدي، لأن الناس لا يأكلون كل ما يذبح فيتلف، ووراء ذلك فشو الأوبئة ونحوها، وهذا فوق ما تنشره الدماء من أدواء.
ونقول في الجواب عن ذلك: إن هذا من ضيق عقل الإنسان، لَا من شريعة الديان، والقرآن أمر بالذبح، ولم يقل أحد من الصحابة أو من جاء بعدهم: إن قيمة الهدي تغني عنه، وكان يجب أن يفكر المفكرون في الانتفاع باللحم والدم من
(وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ) المراد الذين يقصدون البيت الحرام لأداء الحج، وقد قال بعض العلماء: إن هؤلاء الذين ينهى عن إحلالهم (بمعنى منعهم) هم من كانوا من المشركين يقصدون البيت الحرام يبتغون التجارة ورضا الله تعالى بزعمهم، وقد نسخ هذا بقوله تعالى بعد ذلك: (... إِنَّمَا الْمُشْرِكونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا...).
ولكن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا، وقد قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: " المائدة من آخر القرآن نزولا، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها " وقال الحسن البصري: ليس فيها منسوخ. وعلى ذلك نقول: إن آمِّين البيت (أي القاصدين له حجا) هم من المؤمنين، ومعنى إحلال هؤلاء منعهم من الحج لحرب أو نزاع أو بغي، بل يجب أن يكون مفتوحا للجميع، وإذا كان الله تعالى قد جعله آمنا فقد فتحه لكل المؤمنين يقصدونه، وليس لأحد أن يمنعهم، فلا يحل لأحد أن يمنع أو يُصعِّب على الناس دخول البيت الحرام.
وقد بيَّن سبحانه مقصد هؤلاء الذين يؤمون البيت، وهو أنهم يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا، وفسر بعض العلماء الفضل بأنه التجارة، أي أنهم يبتغون من رضوان الله تعالى غرضا من أغراض الدنيا، وهو التجارة، وقد يكون في التجارة جلب أرزاق لسكان الحرم، فالتجارة غير ممنوعة، ولكن القصد الأسمى هو رضوان الله تبارك وتعالى، فهو العبادة التي يكون لها القصد الأول في البيت.
وهذا هو الذي نختاره، فإن المقام مقام طلب الثواب، لَا مقام طلب المال، ولكل مقام ما يناسبه.
وإن الآية تومئ إلى مناسك الحج والقيام بها، وقد ذكرت الآية السابقة أنه لا يحل الصيد مع الإحرام، وهذه الآية بينت ما يجب على المؤمن من القيام بشعائر الحج، وفتح أبواب مكة لمن يريدها من المؤمنين، وذكرت الآية الكريمة متي يباح الصيد، فقال سبحانه: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا).
معنى الإحلال الخروج من الإحرام بالحج أو العمرة أو هما معا بأن يلبس الملابس كاملة، ويقص شعره وأظافره وغير ذلك مما كان يحرمه عليه الذي هو فيه من الحج مع لبس لباسه، والقيام بمظاهر النسك، والاتجاه إلى الله تعالى، والشعور بأنه في ضيافته عند بيته الحرام.
وإذا تحلل ذلك التحلل أبيح له ما حرمه الإحرام عليه، ومن ذلك الصيد، والأمر بالإحلال هنا ليس للطلب، فليس الصيد بمطلوب، ولكنه مباح، وقد جاءت صيغة الأمر بعد النهي، فكانت للإباحة، وهي كذلك في كل صيغة " افعل " بعد النهي غالبا، مثل قوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ...).
وذلك بعد أن نهى عن البيع عند النداء للصلاة من يوم الجمعة في قوله تعالت كلماته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).
والخلاصة أن هذا النص الكريم فيه إباحة الصيد بعد الخروج من الإحرام بعد أن كان محرَّما في أثناء الإحرام.
ولقد ساد الإسلام أرض العرب بعد أن كانت حجة الوداع، ولكن قد بقيت بعض الإحن في النفوس، ونفس المؤمن يجب أن تكون طهورا لَا يعيش فيها الحقد، ولا حب الانتقام، ولذا نهى الله تعالى عباده المؤمنين عن أن يدفعهم البغض السابق لقوم لأنهم صدوهم عن المسجد الحرام، أن يمنعوهم كما منعوهم، فإن ذلك يكون اعتداء من أهل الإيمان؛ ولذا قال سبحانه:
(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا) يجرمنكم معناها يحملنكم؛ لأن " جَرَمَ " في هذا المقام وما يشبهه معناها حمل حملا قاطعا، يقال جرمني كذا على بغضه، أي حملني عليه حملا قاطعا، ومن ذلك قول الشاعر:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة | جَرَمَت فزارة بعدها أن يغضبوا |
والشنآن: البغض الشديد، يقال شَنِئت الرجل أشْنأ شنآنا وشَنْأ أبغضه، والمعنى. لَا يحملنكم البغض الشديد لقوم بسبب أنهم صدوكم، أي منعوكم من دخول المسجد الحرام أن تعتدوا عليهم بأن تصدوهم، فالجاهلية والشرك يبرران ذلك الصد، والإسلام لَا يبرره، لأنه اعتداء على البيت الحرام، واعتداء على شعائر الله سبحانه وتعالى.
________
(١) جزء من حديث رواه مسلم: الجنائز - استئذان النبي - ﷺ - ربه (٩٧٧)، ولفظه عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: " نَهَيْتكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة ".
وهنا قراءتان لابد من ذكرهما، - أولهما، قراءة (أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) بفتح الهمزة، وهذه تشير إلى أن الصد كان في الماضي، والاعتداء مجارمة لما كان في الماضي، والقراءة الثانية (إن صَدُّوكُمْ) بكسر الهمزة (١)، ومؤداها أنه إذا كان في المستقبل من يصدكم عن المسجد الحرام، فلا تعاملوه بالمثل وتصدوه؛ لأن ذلك اعتداء.
والنص الكريم يدل على أن كل اعتداء حرام سواء أكان بالصد عن المسجد، أو كان بغيره فما حرم الصد إلا لأنه شعبة من الاعتداء.
(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) إن الاعتداء والتعاون على البر والتقوى ضدان، وعندما يُذْكَر أمر يَرِدُ على الخاطر ضده؛ ولذا أمر الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى بعد النهي عن الاعتداء. والبر: التوسع في فعل الخير للناس والطاعة لله تعالى وتطهير النفس من أدرانها، وهذا إذا لم تذكر التقوى؛ فإذا ذكرت التقوى معه، كما في هذا النص الكريم، كان البر هو الطاعة الظاهرة ونفع الناس، وإسداء المعروف لهم، وكانت التقوى تصفية النفس وتطهيرها وإخلاصها لله تعالى، وقد قال في ذلك أبو الحسن الماوردي: " ندب الله
________
(١) (إن صدوكم) بكسر الهمزة، بها قرأ ابن كثير وأبو عمرو، وقرأ الباقون بفتح الهمزة. [غاية الاختصار - سورة المائدة (٧٩٧). ج ٢، ص ٤٦٩].
وقد نهى سبحانه عن التعاون على الإثم والعدوان، فنهى عن الإثم الذي تكون مغبته على صاحبه أو تفسد قلبه، وعن العدوان على غيره.
والتعاون: معناه تبادل المعونة، ويكون في الخير بمد يد المعونة في الشدائد، وكل يجود بما عنده لأخيه، فالعالم بعلمه، والشجاع القوي بدفاعه عن الضعيف، وأن يكون المؤمنون يدا على من سواهم، ومنع الظالم من ظلمه، وإرشاد الضال، ومنع الآثام. وهذا تعاون أفرادي عام، وله أشكال كثيرة، والتعاون الجماعي بتعاون الأسرة، وتعاون الحي، وتعاون الأمة، وتعاون الجماعة الإنسانية، وكل ذلك حثَّ عليه الإسلام، ومن التعاون تأليف جماعات له، والنبي - ﷺ - أوجد أعظم تعاون جماعي وذلك بالإخاء في الإسلام.
وقد ذيل الله سبحانه النص الكريم بقوله: (إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
وهذا إنذار لمن يتعاونون على الإثم والعدوان وترهيب لغيرهم (وقد أكد الله - تعالى - هذا المعنى بثلاث مؤكدات " إنَّ " الدالة على التوكيد)، وبذكر لفظ الجلالة، والوصف بالشدة.. اللهم قِنا غضبك، وامنحنا رضاك، إنك أنت الغفور الرحيم.
* * *
* * *
في الآية السابقة بَيَّن سبحانه تحريم الصيد في وقت معين ومكان معين، وحال معينة، وهذا في البيت الحرام وفي الأشهر الحرم المخصصة للحج، كما قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ معْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ...).
وفى هذه الآية بَيَّن سبحانه وتعالى المحرمات من الحيوان الذي كان في أصله حلالا، ولكن كان التحريم فيه سببه مقترنا بهلاكه، مما يهلك بموت من غير ذبح، وكذلك بعض أجزائه، وبين تحريم حيوانات أخرى وبعض الأفعال التي تقترن بالذبح عند الذين أباحوا الميسر لأنفسهم، ولذلك قال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ) هذه الآية تبين تحريم أربعة أنواع، هي الميتة وما هو في حكمها مما يقتل ودمه لَا يخرج منه، والثاني الدم، والثالث لحم الخنزير، والرابع ما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب، وحرم مع هذا فعلا يقترن بالذبح، وهو الاستقسام بالأزلام، أي قسم اللحم بطريق الأزلام، وهي الأقداح التي تستعمل في الميسر، أو كانت تستعمل عند العرب.
والدم الذي جاء النص الكريم بتحريمه هو الدم المسفوح، الذي نص عليه في قوله تعالى في سورة الأنعام: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ...).
والمراد بالمسفوح: الذي يسفح ويراق من الحيوان، وإن غلظ وتماسك من بعد ذلك، فالدم الذي يكون جامدا بأصل خلقته وتكوينه كالكبد والطحال يكون حلالا، كما ورد عن النبي - ﷺ - أنه قال: " أحلت لنا ميتتان حلالان: ودمان حلالان الكبد والطحال، والسمك والجراد " (١).
وكان تحريم الدم لأنه ضار، إذ إنه يعسر هضمه، وسريع التعفن، ويحمل كثيرا من جراثيم الأمراض، ولا يمكن تنقيته من هذه الجراثيم كاللبن إذ يغلى.
وإن دم الحيوان السليم قد ينقل إلى الإنسان محفوظا مصونا من غير أن يتعرض للهواء فيزيدة قوة أو يعوضه عما فقده، ولكنه لَا يمكن أن يكون غذاء يتناول بالفم، ويمر على الجهاز الهضمي، إذ إنه لَا يكون قابلا للتمثيل في الجسم فوق ما يسري إليه من جراثيم تفسده وأن النفس الفطرية تعافه.
________
(١) رواه ابن ماجه: الأطعمة - الكبد والطحال (٣٣١٤)، وأحمد: مسند المكثرين من الصحابة (٥٦٩٠) عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: " أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ؛ فَأمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطحَالُ ".
وإن المقصد من ذلك ألا يأكل المؤمن إلا طيبا لَا خبث فيه.
وإن كون لحم الخنزير ضارا فهو أمر قد قرره الطب، فلحمه يولد كثيرا من الديدان، كالدودة الوحيدة والشعرة الحلزونية التي تجيء إليه من أكل الجرذان الميتة، وإنه عَسِر الهضم لَا تكاد النفس تستسيغه، والجهاز الهضمي لَا يهضمه، وإن الذين يستطيبونه قد فسدت أذواقهم، والعادة هي التي سهلت استساغته، وكثير من المستقذرات تسهل العادة تناولها، وقد وصفه القرآن الكريم بأنه رجس، وقد صدق فيه الوصف، فهو ضار ضررا بليغا، ومستقذر استقذارا شديدا مهما يقل فيه الذين فسدت أذواقهم..
(وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) الإهلال: هو رفع الصوت، وأصله رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم أطلق على رفع الصوت لأمر يدعو إلى رفعه، ومنه أهلَّ فلان بالحج إذا رفع صوته بالتلبية والدعاء في كل مكان يناسب ذلك، وعند البيت الحرام، والإهلال لغير الله عند الذبح أن يذبحوا باسم صنم من الأصنام، وإن ذلك فيه عبادة لغير الله تعالى، فنهى عن أكل ما يذبح لذلك منعا لهذا العمل الذي هو شرك بالله تعالى، وكان النهي عن الأكل لأنه ذريعة إلى المنع المطلق. والتحريم في هذا ليس لذات الحيوان، بل لما صحبه من عمل فيه شرك بالله تعالى، وفسوق عن أمره سبحانه وتعالى.
________
(١) رواه الترمذي: الأطعمة - في أكل لحوم الجلالة وألبانها (١٨٢٤)، وأبو داود: الأطعمة (٣٧٨٥)، وابن ماجه: الذبائح - النهي عن لحوم الجلالة (٣١٨٩)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وإن الذبيحة إنما تحرم إذا كان قد ذكر غير اسم الله تعالى عليها، وإنها حلال إذا ذكر اسم الله تعالى عليها، ولكن إذا لم يذكر اسم الله تعالى عليها، ولم يذكر غيره، وكان الذابح مسلما، وكان الذبح في مكان لَا يبدو أن فيه تقربا لغير الله تعالى أتكون الذبيحة حراما أم لَا تكون؟.
قال بعض الفقهاء: لَا تحل لقوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ...)، فإذا لم يذكر اسم الله، فذلك من مواضع النهي.
وقال آخرون: إن موضع التحريم هو فيما أهل لغير الله به، والآخر على أصل الحل، ويدل على ذلك القصر في التحريم في قوله تعالى: (قُل لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا... ). وبقصر النهي في قوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ...)، على حال ما إذا ذكر غيره وما كان قبل النهي وبعده يزكي تفسيره بذلك، وسنبين ذلك عند الكلام في هذه الآية إن شاء الله تعالى.
(وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ).
الْمُنْخَنِقَةُ: هي التي تموت بخنق إما باختناقها من وثاقها، أو يخنقها غيرها ويتركها حتى تموت.
والموقوذة: هي التي وقذت بحجر، أو تضرب بعصا حتى تموت من غير تذكية شرعية، فالوقذ الرمي، والضرب الشديد.. وما يرمى بالسهم، فيموت أيعد موقوذا أم لَا يعد؟ روي أن النبي - ﷺ - قال: " إذا رميت بالمعراض (السهم الذي قد يصيب بعرضه لَا بحده) فخزق فكُلْهُ وإن أصابه بعرضه فلا تأكله، فإنه
والمتردية: هي التي تموت بسبب سقوطها من مكان مرتفع في مكان منخفض، كالتي تسقط من جبل في هاوية، أو تسقط في بئر فتموت.
والنطيحة: هي الحيوان الذي يموت من نطح أو اصطدام، فهي فعيلة بمعنى مفعولة، كذبيحة بمعنى مذبوحة، وقد كان العرب يأكلون كل هذه الأصناف الأربعة، فجاء الإسلام وحرمها، والحقيقة أنها من نوع الميتة؛ لأنها تموت ودمها محبوس فيها لم يخرج منها، ويصح أن تدخل في عموم الميتة؛ ولذلك جاء الاقتصار على ذكر الميتة في قوله تعالى:
(قُل لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمهُ...)، وهي بلا شك داخلة في عموم كلمة الميتة.
وما أكل السبع: المراد به ما افترسه ذو ناب وأظفار من سباع الحيوان كالأسد والنمر والذئب والثعلب والضبع، وغيرها من الحيوان، فما افترسه حتى مات يكون حراما سواء أكل منه أم لم يأكل، وذلك لأنه افترسه ليأكله، فأطلق اسم السبب وأريد المسبب، ولإطلاق السبب هنا معنى، ذلك أنه افترسه ليأكله، فيخرج بذلك الكلب المعلَّم الذي أطلق ليصطاد لصاحبه وسمى عند إطلاقه، فهو يفترس لا ليأكل، بل لمن أطلقه، وقالوا: إنه إذا افترسه ليأكله هو بأن أكل أكثره فإنه لا يحل الباقي لمن أطلقه.
وقد استثنى من المحرمات السابقة حال التذكية الشرعية، وهي الذبح أو ما يشبهه مما يريق الدم، ويصفيه، ولذا قال تعالى: (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) أي أن المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما افترسه السبع إذا أُدرك وهو حي، وذُكي التذكية
________
(١) رواه البخاري: الذبائح والصيد - صيد المعراض (٥٤٧٦). والوقيذ والموقوذ: ما يقتل بغير أداة حادة. راجع أطرافه في البخاري ومسلم، من رواية عدي بن حاتم رضي الله عنه.
(وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) النصب: اسم مفرد لحجر كان ينصب فيعبد، وتصب عليه دماء الذبائح، ويشرح اللحم ويوضع عليه، وكانوا يفعلون ذلك تقربا إليها، أو ليتقربوا عن طريقها، فنهى الله تعالى عن أكل ما يذبح على هذه الحجارة قطعا لدابر الوثنية والأفعال التي تؤدي إليها، وتحريم هذا هو من قبيل تحريم ما أهل لغير الله تعالى، فالمعنى فيهما واحد، والتحريم ليس لذات الشيء المذبوح، ولكن لما اقترن بالذبح من آثام وفسوق عن أمر الله تعالى.
والفعل الذي حرمه الإسلام من غير أن يتعرض لتحريم اللحم هو ما جاء في قوله تعالى:
(وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ) فقد وصفه سبحانه وتعالى بأنه فسق، والأزلام جمع زلم، وهو القدح من أقداح الميسر، وهي عشرة أقداح، منها ثلاثة غفل ليس فيها ما يدل على مقدار يؤخذ، وسبعة فيها مقادير تبين مقاديرها، فإذا عقر الجزور (٢)، قسم على مقدار ما يشتمل عليه من أجزاء ثم ضربت الأقداح، فمن يخرج له منها قدح يأخذ بمقدار ما يشتمل عليه، وبذلك يطلب كل واحد نصيبه من الجزور بهذا القمار، وقد وصف الله تعالى ذلك الفعل بأنه فسق، أي خروج على المبادئ الإسلامية، والتحريم منصب على الفعل، وليس منصبا على اللحم، وعلى ذلك إذا كانت الذبيحة قد ذكيت بالطريقة الإسلامية، وذكر اسم الله تعالى عليها، فإنها تكون حلالا، والتقسيم بهذه الطريقة يكون حراما.
________
(١) وهو قوي قادر: أي الحيوان قبل أن يصيبه ما أصابه، ما دام ذكي التذكية الشرعية قبل موته.
(٢) الجزور: البعير. ذكرا كان أو أنثى. الصحاح (جزر).
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) هذه الآية آخر آيات القرآن الكريم نزولا، وقد نزلت في عرفة في حجة
________
(١) روى الترمذي: الفتن - دماؤكم وأموالكم (٢١٥٩) عَنْ عَمْرِو بْنِ الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ لِلنَّاسِ: " أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ، أَلَا وَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ فِي بِلَادِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا وَلَكِنْ سَتَكُونُ لَهُ طَاعَةٌ فِيمَا تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَسَيَرْضَى بِهِ " قَالَ أبُو عِيسَى: وَفِي الْبَاب عَنْ أبِي بكرَةَ وَابْنِ عَبَّاس وَجَابِر وَحِذْيَم بْنِ عَمْرو السعْدِيَ وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ورواه ابن ماجه: المناسك - الخطبة يوم النحر (٣٠٥٥) عن عمرو بن الأحوص بنحوه.
ومعنى أكملت دينكم: أكملت بيان ما آمركم به وما أنهاكم عنه، وبينت ما يحل لكم وما يحرم عليكم، وأكملت الكتاب الذي تضمن شرعي، والذي هو حجتي عليكم، والحجة لكم في أمر دينكم، وأوضحت فيه الأدلة التي ترشدكم إلى تعرف ما تكون فيه حاجتكم، وما تعرفون منه بالاستنباط والتفكير مما تحتاجون إلى معرفته من أمر دينكم، وخلاصة القول: إن إكمال الدين هو إكمال بيانه. ومعنى إتمام النعمة: هو إتمام النصر، وإتمام السلطان، وذلك بفتح مكة، والسلطان في العرب، وإزالة دولة الأوثان، وجعل الكلمة العليا هي كلمة التوحيد.
ومعنى ورضيت لكم الإسلام دينا: رضيت الاستسلام لأوامري والانقياد لما شرعت لكم من أحكام، وما يجب عليكم التزامه من فرائض ومعالم وحدود (دِينًا): أي أمرا تدينون به وتطيعونه ولا تخرجون عنه، وهذا ما قرره ابن جرير، ويصح أن نقول: إن المعنى رضيت لكم التسليم بكل ما اشتمل عليه القرآن وما دعا إليه النبي - ﷺ - دينا تطيعونني بمقتضاه، والمعنيان متقاربان، وان اختلف التعبير، وعبر هنا بكلمة (رضيت) مع أن الأمر هنا أمر إيجاب وتكليف، وذلك للإشارة إلى أن المؤمن الذي يبلغ درجة المحبة لله تعالى يطيعه؛ لأن فيه مرضاته من غير نظر إلى التكليف الذي يتضمن الثواب والعقاب.
وقد جاء في تفسير ابن جرير الطبري: " فإن قال قائل: أو ما كان الله تعالى راضيا الإسلام لعباده إلا يوم أنزل هذه الآية؛ قيل لم يزل الله راضيا لخلقه الإسلام دينا، ولكنه جل شأنه لم يزل يصرف نبيه محمدا - ﷺ - وأصحابه في درجات الإسلام ومراتبه، درجة بعد درجة، ومرتبة بعد مرتبة، وحالا بعد حال، حتى أكمل لهم شرائعه ومعالمه، وبلغ بهم أقصى درجات مراتبه، ثم قال حين أنزل هذه
وإن كان مصاحبا للشرع في مواضع نزوله.
وقد يسأل سائل لماذا ذكر الله سبحانه وتعالى قوله تعالت كلماته: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) في وسط آية محرمات الأطعمة، ومحللاتها كما سيجيء، ونقول إن ذلك تنبيه إلى يوم نزول هذه الآيات، باعتبارها آخر القرآن نزولا، فكان التنبيه إلى اليوم وهو يوم عرفات؛ لأنه ذكرى الكمال، وذكره في جملة معترضة أدعى إلى التنبيه والتذكير.
(فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) التحريمات السابقة كلها في حال الاختيار، أما في حال الاضطرار، بأن يكون الشخص مضطرا للأكل ليدفع عن نفسه الموت جوعا، فإنه في هذه الحال يجوز الأكل.
والمخمصة: المجاعة التي تورث ضمور البطن، وقد فسر النبي - ﷺ - حال الضرورة التي تبيح بعض هذه المحرمات بأن يجيء الصبوح والغبوق، ولا يجد ما يأكله، أي يجيء اليوم كله، ولا يجد طعاما يأكله (١)، وشرط رفع الإثم عن تناول المحرم للضرورة ألا يتجاوز حد الضرورة؛ لذلك قال تعالى (غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ) أي مائل إليه راغب فيه يتجاوز حد الضرورة، وهذا يتلاقى مع قوله تعالى في سورة البقرة: (... فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ...).
ومعنى النص الكريم: فمن اضطر إلى تناول المحرم، وهو في حال جوع شديد وهو غير طالب لهذا المحرم، ولا يتجاوز حد الضرورة، فإن الله تعالى يرفع عنه الإثم؛ لأن الله تعالى غفور رحيم، فهو رحيم في جاده؛ ولذا جعل الضرورة مسوغه للمحذور، وهو غفور يغفر الذنوب ويفتح باب التوبة إحباده.
اللهم ارحمنا واغفر لنا، ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا.
* * *
________
(١) سبق تخريج ما في معناه من حديث.
* * *
كانت الآية السابقة في بيان المحرمات، وبعضها كانت العرب تستبيحه، فالخنزير كان مستباحا عند العرب، وكذلك أنواع الحيوان الذي لَا يذكى تذكية تهرق دمه، وتنقي اللحم والعظم من أوضاره، فكان ذلك التحريم دافعا لأن يتأثم بعض المسلمين، ويسألوا عن المحلل من الأطعمة واللحوم، بعد ذكر المحرم، وقد سألوا عن ذلك، كما يدل النص الكريم
يتضمن السؤال معنى القول، كأن تأويل الكلام هكذا: يسألونك قائلين: ماذا أحل لنا؟ وكان التفاتا من الحاضر إلى الغائب للتنبيه ولتوجيه الذهن؛ ولأن في السياق حكاية عنهم، كما يقال: أقسم فلان ليفعلن كذا، فتضمن الحكاية جعل للتحدث بضمير الغائب موضعا، ولو كان الحديث بضمير الحاضر لكان له موضع أيضا، ولكن نسق القرآن أبلغ وأقوم، وأدعى للتنبيه والالتفات، وقوله تعالى:
(مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ) يصح أن نعتبر ماذا كلها اسم استفهام مبتدأ خبره جملة أحل لهم، وقد اختار ذلك الزمخشري في الكشاف، فقال: " و " ماذا " مبتدأ، و " أحل لهم " خبره، كقولك أي شيء أحل لهم " وموضوع السؤال هو ما أحل لهم من
(قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ) أمر الله تعالى نبيه أن يتولى الجواب، لأن النبي - ﷺ - هو المبلغ للرسالة، وهو المبين لهم والمرشد، وهو المرجع، ومما يتفق مع مقام الرسالة أن يكون هو المجيب، ولكن إذا كان اتجاه الناس إلى ربهم والضراعة تكون الإجابة منه سبحانه من غير توسط أحد؛ ولذا قال تعالى:
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ...)، أمر الله تعالى أن يجيب هو سؤالهم الخاص بالحلال والحرام، لأنه يتعلق ببيان رسالته التي بعث بها، وعمله الذي يتولاه، وهو بيان الشرع للناس، والطيبات التي أحلت - هي غير المحرمات التي حرمت، وما تستطيبه النفوس، ولا تستقذره وتعافه، وبعض الفقهاء ومنهم المالكية فسروا الطيبات بالحلال الذي لم يحرم في نص من كتاب أو سنة، من غير نظر إلى أن الناس يستطيبونه أو لا يستطيبونه، وبعض آخر من الفقهاء ومنهم الإمام الشافعي قالوا: إن الطيب هو الذي تستطيبه النفوس ولا تستقذره، ولم يثبت تحريمه بنص، وعلو، ذلك لا يحل ما نص على تحريمه، لأنه خبيث قذر جاء النص بتحريمه، ولا يحل أيضا المستقذر الذي تعافه النفوس، كالخنافس وشبهها من هوام الأرض، ومثلها كل حيوان أو طعام يثبت ضرره بالإنسان طبيا أو يستقذره طبعيا، لأن هذا الدين دين الفطرة، فما تعافه النفوس المستقيمة لَا يكون حلالا، وعندي أن هذا هو المعنى المستقيم.
وقد بين سبحانه فيما أحل صيد الكلب ونحوه من الفهود والطيور؛ لأن ذلك كان من مواضع سؤالهم، فقال:
وبعض العلماء لَا يقدر محذوفا، بل يجعل الخبر هو الجملة الطلبية: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) ويكون قوله تعالى: (مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ) حالا بعد حال، وصاحب الحال، ضمير الخطاب في قوله: (وَمَا عَلَّمْتُم) حال كونكم (مُكَلِّبِينَ) معلمين، وتقدير الكلام يكون هكذا.. وأحل لكم ما أمسكن لكم من صيد الجوارح؛ وذلك لأن الخبر محل الفائدة، ودخلت الفاء الخبر؛ لأن الجملة طلبية، ولأن ما موصولة، والفاء تدخل في خبر الموصول، مثل قوله تعالى: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا)، لتضمن الموصول أحيانا معنى الشرط.
والتكليب تعليم الكلاب - ومما يشبهها - الصيد، فهو اسم فاعل اشتق من الكلب، أو أخذ من الكلب باعتبار أن الكلب طيع ألوف أقرب الحيوان إلى تعلم الصيد، وقد قال تعالى ما يفيد تعليم كل حيوان له مثل خواص الكلب في الطاعة والمهارة، والاستعداد للتعلم، فقال تعالى: (مِّنَ الْجَوَارِحِ) وهذا يعم كل حيوان يمكن أن يعلم الصيد، والجارح معناه الكاسب، أي الحيوانات التي من شأنها أن تكسب صيدا كما يكسب الإنسان، أو معناه: الذي يخدش الجسم بالجروح، فإن ذلك لَا يستغني عنه الصيد، إذ إنه لَا يمكنه أن يسيطر على الحيوان غالبا إلا إذا جرحه بانيابه، وهذا هو الذي نختاره.
وقوله تعالى: (تُعَلِّمونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ) حال على اعتبار أن من مبتدأ، خبره (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)، وهي حال بعد حال كما أشرنا، وذلك الذي اخترناه، وعلى تقدير محذوف، والمعنى: صيد ما علمتم من الجوارح، تكون جملة تعلمونهن مما علمكم مستأنفة.
وقد استنبط الإمام مالك من هذا النص أن الكلاب طاهرة، وليست نجسة، وقال: كيف يحل صيدها وينجس لحمها؛ ورد بهذه الآية الخبر الوارد عن النبي - ﷺ - الذي جاء فيه " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا أولاهن بالتراب الطاهر " (١) والجمهور على أن حل صيده لَا يستوجب طهارته.
والأمر في قوله تعالى (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكمْ) للإباحة، ومعنى قوله تعالى: (أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)، أي أمسكنه محبوسا عليكم، ولأجلكم، وقد روي عن النبي - ﷺ -: " إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله، وإن أمسك عليك وأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل، ولم يأكل منه، فكله " (٢)، فإن أخذ الكلب ذكاة.
________
(١) رواه النسائي: المياه - تعفير الإناء بالتراب (٣٣٧) وبنحوه رواه البخاري: الوضوء (١٦٧) ومسلم: الطهارة (٤١٨) كما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد بالفاظ مقاربة.
(٢) عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ، فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ، وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ، وَإِنْ رَمَيْتَ سَهْمَكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا، فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ، فَكُلْ إِنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ، فَلَا تَأْكُلْ ". رواه مسلم: الصيد والذبائح - الصيد بالكلاب العلمة (١٩٢٩).
والحنفية فصلوا تفصيلا حسنا في تفسير قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمُ) فقالوا: إن عاد بأكثره فقد أمسك على صاحبه، وإن عاد بأقله، فقد أمسك على نفسه، وبذلك يقع النهي عن الأكل الذي ورد عن النبي - ﷺ - فكان تفصيلهم تفسيرا لقوله تعالى: (أَمْسَكْنَ عَلَيْكمْ).
والأحاديث الواردة في الباب تشترط كلها أن يذكر اسم الله تعالى عند الإرسال ليقوم الصيد مقام الذبح، وهذا هو قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّه عَلَيْه وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ).
ثبت من الأحاديث - وقد روينا بعضها - أن ذكر اسم الله تعالى يكون عند الإرسال، لَا عند الأكل، وإن التسمية عند الإرسال تقوم مقام التسمية عند الذبح، وإن الإرسال مع التسمية على من أرسله يكون كالتذكية الشرعية إلا إذا أدرك حيا، فإنه لَا بد من التذكية؛ لأن قيام التسمية والإرسال مقام التذكية لتعذرها، إذا جيء به حيا فإن التذكية ممكنة فلا يغني عنها ما يقوم مقامها، عند عدم إمكانها، والواو في العطف لَا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا، وذكرت آخرا لأنها من تقوى الله تعالى، فكان اقتراتها بالأمر العام بالتقوى من التنسيق البياني الحكيم، وهو الذي يتناسب مع الذكر الحكيم.
واختلف العلماء في التسمية عند الإرسال كاختلافهم في وجوب التسمية عند الذبح، فقال الظاهرية: إنها واجبة حملا للأمر هنا على الوجوب، ولقوله تعالى في مقام آخر: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ...). وقال الشافعي: إنها مستحبة هنا، وقريب من ذلك قال الحنفية: إلا أن يكون الترك
وقد ذيَّل الله سبحانه وتعالى الآية بالأمر بالتقوى والتذكير بالحساب، وذلك لتذكير الناس عند الطعام بأن يكونوا في ظل تقوى الله تعالى بألا يسرفوا في الطعام فيفسدوا أجسامهم، وألا يتعدوا القدر المطلوب، أو لَا يأكلوا حق الغير، وما يكون محرما، لتعلق حق الناس؛ ولذلك يقول الله تعالى بعد الأمر بالأكل: (... وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
ويقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّه لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين).
* * *
* * *
الظاهر أن هذه الآية وما قبلها من آيات، من قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكَمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) نزلت في يوم واحد؛ ولذلك كان قوله (الْيَوْمَ أُحِلَّ) إلى آخره.. هو ذات اليوم في قوله تعالى: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ)، وقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى...) فهو يوم واحد؛ لأن المعرفة إذا أعيدت معرفة كان المقصود واحدا، وهذا الكلام السامي كله نزل يوم عرفة، وهو تسجيل لأحكام باقية إلى يوم القيامة، والطيبات هي ما ذكر في الآية السابقة، وهي الحلال غير المستقذر طبعا وفطرة، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل أيضا، والجمهور قد اتفقوا على أن الطعام هو الحيوان الحلال لقوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكمْ وَلِلسَّيَّارَةِ...)، ولقوله تعالى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيل عَلَى نَفْسِهِ)، ولقوله تعالى: (قُل لاُّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ محرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا).
والجمهور على حل ذبائح أهل الكتاب إذا أهريق الدم، وقد اتفق الجمهور على حل هذه الذبائح، والخلاف عندهم فيما عدا الذبائح التي ثبت حلها بالنص، وأما غير الذبائح فهو قسمان: القسم الأول: ما لَا عمل لهم فيه كالفاكهة والبر، وهو حلال بالاتفاق، والقسم الثاني: ما لهم فيه عمل وهو قسمان أيضا: أحدهما: ما يحتمل دخول النجاسات فيه كاستخراج الزيوت من النباتات أو الحيوانات، وهذا قد اختلف فيه الفقهاء، فمنهم من منعه لاحتمال النجاسة ومن هؤلاء ابن عباس؛ لأن احتمال النجاسة ثابت، وهو يمنع الحل، وقد تبع هذا الرأي بعض المالكية، ومن هؤلاء الطرطوشي، وقد صنف في تحريم جبن النصارى، ويجري مجرى الجبن الزيت، وعلى هذا الرأي يجري مجراها السمن الهولاندي وما شابهه. ولكن الجمهور على جواز ذلك ما دام لم يثبت أنه اختلط بهذا النوع من الطعام نجاسة.
والمحرم ما ثبت أنه قد دخله نجاسة، بأن دخله أجزاء من الخمر أو الميتة أو الخنزير، أو غير ذلك من المحرمات.
(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الإحصان يطلق على أربعة معان: الإسلام، ولا موضع له هنا؛ لأن الكلام في غير المسلمات، والثاني، التزوج، ولا موضع له هنا أيضا، لأن المتزوجة لَا تحل مسلمة أو كتابية، والثالث، العفة، والرابع، الحرية، وهذان المعنيان لهما موضع القول، فبعض الفقهاء قرر أن المراد بالمحصنات من أهل الكتاب العفيفات، ويكون الوصف للترغيب في طلب العفة، والعمل على الانتقاء والاختيار، وعلى هذا
وبعض الفقهاء ومنهم الشافعية قالوا: إن المراد بالمحصنات من أهل الكتاب الحرائر، فلا يحل من نساء أهل الكتاب إلا الحرائر، وقد ذكر هذا بقوله تعالى:
(وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ...)،
فقيد زواج الإماء هنا بأن يكنَّ من المؤمنات، كذلك قيد زواج الكتابيات هنا بأن يكنَّ من الحرائر.
والشيعة يمنعون زواج الكتابيات، على اعتبار أنهن يشركن في عبادتهن، والله تعالى يقول: (وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مؤْمِنَةٌ خَيْرٌ من مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ...)، ولكن إجماع غير الشيعة قد انعقد على إباحة الزواج من الكتابيات.
وقد ذكر سبحانه وتعالى وجوب المهور لهن، فقال تعالى: (... إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ).
أي إذا آتيتموهن مهورهن، وسمي المهر هنا أجرا، لتأكيد وجوبه، وقد قال تعالى من قبل: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً...)، أي عطاء، فذكر الأجر في هذا المقام لكيلا يكون ثمة استهانة بأي حق من حقوقهن، كما أكد العمل على عفتهن بقوله تعالى: (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) أي طالبين بهذا الزواج الإعفاف، والصون لأنفسكم وأنفسهن، وحماية عرضكم وعرضهن، فمعنى الإحصان هنا العفة، بأن يجعل نفسه في حصن من الزنى، ويجعلها في حصن
________
(١) عن ابن عباس قال: لما ولدت مارية القبطية إبراهيمَ ابن النبي - ﷺ -، قال رسول الله - ﷺ -: " أعتقها ولدُها ". رواه الدارقطني (٤١٤٨) ج ٤، ص ١٣٢. قال ابن هشام: وأما إبراهيم فمن مارية القبطية التي أهداها له المقوقس صاحب إسكندرية من كورة أنصنا.
وزواج الكتابيات قد يغري بالانحراف عن الدين كما نرى في عصرنا؛ ولذا كان عمر ينهى عنه كبار الصحابه كطلحة بن عبيد الله؛ ولذا حذر سبحانه من الكفر بعد هذه الإباحة فقد قال تعالى: (وَمَن يَكْفُرْ بالإِيمَان فَقَدْ حَبطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
أصل الحبط: هو تلف الدابة من كثرة ما تتناول من طعام لَا يناسبها، والإيمان هنا الشرائع والأحكام، والكفر بها الاستهانة بها وعدم الأخذ بما تدعو إليه، والمعنى: ومن ينحرف عن دينه، ولا يؤمن ويذعن لأحكام الإسلام فقد تلف ما كان يعمله من خير؛ وذهب، وهو في الآخرة من الخاسرين، ولم يقل سبحانه في هذا المقام - ومن يكفر بالله - بل قال: (وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ) للإشارة إلى أن الإغراء بإفساد الدين من جهة النساء يبتدئ بالأعمال، ثم ينتهي إلى العقيدة، وهو سبحانه الذي يقي النفوس من الزلل، ويحفظها من الشر، اللهم احفظ قلوبنا فلا تزيغ، ونفوسنا فلا تنحرف، وعقولنا فلا تضل، إنك سميع الدعاء.
* * *
* * *
كانت الآيات السابقات، في بيان ما يحل وما يحرم من الأطعمة، ومن يحل من النساء، وذلك يتعلق بغذاء الأجسام وتبعتها، وإن هذه الآية الكريمة لبيان غذاء الروح، وهو الصلاة، ففي الأوليات غذاء الأبدان، وفي هذه غذاء النفوس، وفوق ذلك إن هذه الآية بيان للوضوء والاغتسال، وما يقوم مقامهما، وهذان يكونان من نتائج الغذاء والزواج، فكان التلازم بينهما ثابتا، لأن نواقض الوضوء والجنابة إنما تكون من نتائج الطعام في هذه الدنيا، ومن نتائج متعة الزواج بما يكون بين الزوجين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) النداء للمؤمنين، والمنادى به الاستعداد للصلاة، بأخذ وسيلتها، وهو الوضوء والاغتسال إن كان ما يوجبها.
وكان النداء بوصف الإيمان للإشارة إلى أن الصلاة ركن الإسلام الركين، حتى إن بعض الحنابلة قرر أن من تركها عامدا، وداوم على تركها لَا يكون مسلما، وأجمع المسلمون على أن من أنكر فرضية الصلوات الخمس بركعاتها يكون كافرا، ولا يدخل في زمرة المسلمين. كشأن من ينكر أمرا من الدين بالضرورة.
وقوله: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) في ظاهرة أن القيام إلى الصلاة سابق على الوضوء على أن الوضوء سابق على الصلاة، وقد أجاب عن ذلك الزمخشري في الكشاف بجوابين:
والجواب الثاني - أن قوله تعالى: (قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) معناه: تهيأتم لها واستعددتم، يقال: قام للأمر إذا تهيأ له وأخذ الأهبة للاستعداد له، والدخول فيه، ويرشح لهذا المعنى في نظرنا التعدية بـ " إلى "؛ إذ مؤاده استعددتم وتهيأتم متجهين للصلاة، وذلك لَا يكون بأدائها، إنما يكون بأخذ الأهبة لها، والسير إليها.
وإن هذا النص الكريم: (قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)، وما اشتمل عليه من عبارات يفيد أمرين بظاهره:
أولهما: أن الوضوء، وهو يشتمل على الأركان الأربعة وغسل الوجه واليدين ومسح الرأس، وغسل الرجلين لَا بد فيه من القصد إليه وإرادته، وعلى ذلك تكون نية الوضوء بالقصد إليه لأجل الصلاة، باعتبار أن قصده لأجل الصلاة، لَا للنظافة ونحوها - لَا بد منها لتحقق الوضوء لأنه للتهيئة لأجل الصلاة.
وقد قال مالك والشافعي؛ وأحمد والليث بن سعد؛ وإسحاق بن راهويه، وأئمة آل البيت: إن النية ركن من أركان الوضوء ومعناها القصد إلى الصلاة بالوضوء طالبا رضا الله تعالى، وقد فسرها البيضاوي بقوله: " النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالا أو مآلا، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله تعالى، وامتثال حكمه ".
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن النية في الوضوء ليست بفرض، لأن الوضوء ليس عبادة مقصودة، ولكنه وسيلة للعبادة، والنية شرط في العبادة نفسها باعتبارها المقصد، وليست فرضا في الوسيلة، بل الوسيلة تتحقق بمجرد تحقق الغسل للأعضاء المذكورة والمسح للرأس، فمن حصل منه هذا، ولو لم يقصد العمل لأجل الصلاة يتحقق الوضوء، ويستدلون على أن الوضوء وسيلة للعبادة بظاهر الآية، إذا كان النص الكريم: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) فهو شرع سبيلا لعبادة ووسيلة، وليس غاية.
والأمر الثاني الذي يفيده ظاهر النص (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ): وهو أن الوضوء واجب عند التهيؤ والقيام لكل صلاة، فالوضوء واجب لكل صلاة، وبذلك قال الظاهرية، فقالوا: إن الصلاة واجبة لكل مفروضة، وأخذوا في ذلك بظاهر النص الكريم، ولكن الثابت في السنة غير ذلك، فقد روي عن النبي - ﷺ - أنه كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح مسح على خفيه فصلى الصلوات الخمس بوضوء واحد، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: " صنعت شيئا لم تكن تصنعه " فقال - ﷺ -: عمدا فعلته " (٢). ومعنى ذلك أنه - ﷺ - فعله عمدا في هذه الجموع الحاشدة ليبين أنه ليس بفرض أن يتوضأ لكل صلاة. فدل هذا على أن
________
(١) متفق عليه وقد سبق تخريجه.
(٢) رواه الترمذي: الطهارة - يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد (٦١)، والنسائي: الطهارة - الوضوء لكل صلاة (١٣٣)، عن بريدة بن الحصيب، كما رواه أبو داود وأحمد وابن ماجه بلفظ: " عمدا صنعته ".
والذي نراه أن الآية في الذين قام بهم موجب الوضوء من إحداث ما ينقض الوضوء السابق، والدليل على ذلك قوله تعالى:
(وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ منكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) فدل هذا بصريح اللفظ على أن موجب التيمم هو إحداث الحدث الموجب للوضوء، إذا لم يكن الماء، فيقوم التراب مقام الماء، وهذا يدل على أنه لَا يكون الوضوء واجبا للصلاة إلا إذا حدث نقض للوضوء السابق، والآية بيان واحد يتمم بعضه بعضا.
(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْن) ولنذكر هذه الأركان ركنا ركنا وقبل ذلك نذكر أمرين:
أولهما: أنه في قوله (وَأَرْجُلَكُمْ) فيها قراءتان إحداهما بفتح اللام على حذف فعل، والمعنى: امسحوا برءوسكم واغسلوا أرجلكم، والثانية - قراءتها بكسر اللام عطفا على قوله تعالى: (بِرُءُوسِكُمْ) (١) والمعنى: هو الغسل لَا المسح، بحمل القراءة الثانية على القراءة الأولى، ويكون السبب في عطفها على الرءوس، للإشارة إلى وجوب عدم الإسراف، لأن الرجلين مظنة الإسراف في الماء، فعطف وجوب الغسل فيها على وجوب المسح لمنع الإسراف، بحيث يكون الغسل ليس بعيدا بُعدا تاما عن المسح.
________
(١) (وأرجلَكم) قرأها بالفتح: ابن عامر، ونافع والكسائي، ويعقوب وحفص، وأبو زيد عن المفضل عن عاصم، والأعشى إلا النقار، وقرأ الباقون بالجر. غاية الاختصار - سورة المائدة - (٧٩٩).
والأمر الثاني: الترتيب بين هذه الأركان بحيث يُغسل الوجه أولا ثم اليدان ثانيا، ثم من بعدها مسح الرأس، ثم غسل الرجلين، وقد قال الجمهور بوجوب ذلك؛ لأنها ذكرت مرتبة في القرآن، وعمل النبي - ﷺ - كان على ذلك الترتيب دائما، والنبي هو مفسر القرآن، ولو كان الترتيب غير لازم لخالفه النبي - ﷺ - ولو مرة واحدة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: الترتيب ليس بفرض؛ لأن الآية كان العطف فيها بالواو، والواو لَا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا.
ومما يتصل بهذه أيبتدأ في غسل الأيدي والرجلين باليمين وجوبا، أم أن ذلك سنة؟ الجمهور الأعظم على أن التيامن سنة وليس بفرض، ومذهب الشيعة وجوب التيامن في الطهارة.
والموالاة في الوضوء، قد ذهب الأوزاعي ومالك وأحمد إلى وجوبه، وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى سنيته، وعندي أن الموالاة هي الأمر المعقول، وأنه إذا قطع المتوضى وضوءه بعمل أجنبي، وجب استئنافه مبتدئا بأوله.
ولنذكر كل ركن، ونبدأ بالأول وهو غسل الوجه، وهو معروف، ولكن الفقهاء يذكرون له تعريفا، وحدا، فحده من أعلى تسطيح الجبهة إلى أسفل اللحيين طولا، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضا.
وموضع النظر عند الفقهاء هو في وجوب غسل الوجه أيجب غسل الظاهر والباطن فيه، وبعبارة أوضح أيدخل في الغسل المضمضة والاستنشاق، أم أنهط سنتان زائدتان؟ قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وابن المنذر، وبعض فقهاء الشيعة إن المضمضة والاستنشاق من غسل الوجه، والجمهور على أنه لا يدخل في غسل الوجه إلا ظاهره، وقول أحمد ومن معه.
والكعبان هما الجزءان البارزان في أعلى القدم، والخلاف في دخولهما هو كالخلاف في دخول المرفقين، والحجة واحدة.
والمسح يكون في الرأس، لقوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) وقد اتفقوا على أن مسح الرأس كله مطلوب، ولكن على أنه سنة عند الجمهور، وعند مالك مطلوب على وجه الفرضية.
والشافعي قال: إن المطلوب مسح بعض الرأس؛ لأن الباء للبعضية، وقال الثوري والأوزاعي والليث: يجزئ بعض الرأس ويمسح المقدم، وعلى هذا أحمد والناصر والباقر والصادق من أئمة آل البيت، وقال أبو حنيفة: يمسح ربع الرأس مستدلا بما روى من أن النبي - ﷺ - أتى كناسة قوم فبال وتوضأ ومسح في وضوئه على ناصيته (١)، والناصية تساوي ربع الرأس.
________
(١) عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: " كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْتَهَى إِلَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا " فَتَنَحَّيْتُ فَقَالَ: «ادْنُهْ» فَدَنَوْتُ حَتَّى قُمْتُ عِنْدَ عَقِبَيْهِ «فَتَوَضَّأَ فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ " رواه مسلم: آلطهارة - الرخصة في ذلك (١٣)، كما رواه البخاري: الوضوء - البول قائما وقاعدا (٢٢٤) بغير زيادة " فمسح على خفيه ". والسباطة: موضع رمي التراب والأوساخ. وقد رواه أصحاب السنن بمثل رواية مسلم.
كلمة جنب: وصف للرجل والمرأة، والجمع والمفرد، فيقال: رجل جنب وامرأة جنب ونساء جنب، وهو لفظ مشتق من الجنابة وهي ما يكون بسبب الاتصال بين الرجل والمرأة، وسمي ذلك جنابة لأنه يجنبهما الصلاة، ولما يكون من معنى التقارب بينهما بحيث يكون أحدهما بجنب الآخر، وفي حكم الجنابة بهذا المعنى الحيض والنفاس، ومعنى النص الكريم: أنه لَا بد من التطهر من الجنابة عند القيام للصلاة والاستعداد لها، والتطهر: هو الاغتسال وهو العناية بصب الماء على كل جزء يمكن أن يصل إليه، فالضمضة والاستنشاق لَا بد منهما في الوضوء، وتوصيل المياه إلى منابت الشعر بالنسبة للرجال لازم باتفاق الفقهاء، أما بالنسبة للنساء فقد قال بعضهم ومنهم الحنفية قالوا: إنه إذا كان للمرأة ضفائر لا تحل عند النساء دفعا للحرج، ولكن تحل عند الرجال (١)، وعلى أي حال لَا بد من صب الماء صبا، ولا يكتفى بالمسح.
والتعبير بكلمة " فاطهروا " فيها إشارة إلى وجوب العناية في تعميم الماء وإشارة إلى أن النجاسة المعنوية عمت كل أجزاء الجسم، فوجب أن تكون الطهارة عامة لكل أجزاء الجسم.
وإن غسل الجسم عند توافر سببه، وهو التماسّ أو الحيض أو النفاس - فيه إنعاش للجسم وتعويض بعد الإنهاك الشديد، فوق ما فيه من نظافة، واستمرار لها باستمرار موجبها.
وبعد أن بيَّن سبحانه وجوب الوضوء والتطهر بالماء ذكر ما يحل محل الماء إن لم يوجد أو تعذر استعماله، فقال تعالت كلماته:
________
(١) روى مسلم: الحيض - حكم ضفائر المغتسلة (٣٣٠) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي فَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ قَالَ: " لَا. إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ ".
ثم ذكر الله سبحانه وتعالى قاعدة لتسويغ التيمم، وهي ما إذا حدث المسبب الموجب ولم يوجد الماء، فقال:
(أَوْ جَاءَ أَحَدٌ منكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) واللفظان الكريمان كنايتان عن أمور يستهجن ذكرها في بليغ الكلام، فمعنى جاء أحد منكم من الغائط كناية عن كل نواقض الوضوء التي تخرج من السبيلين، والغائط: هو الأرض التي يذهب إليها الرجل ليقضي حاجته. ومعنى لامستم النساء: كناية عما يكون بين المرء وزوجته مما يوجب الاغتسال، وهي كناية قرآنية علَّم الله سبحانه وتعالى الناس منها حسن التعبير وعدم الرفث في القول. وهنا إشارتان بيانيتان: إحداهما: في التعبير بـ " أو " في قوله: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ منكُم) بدل الواو، إذ إن " أو " فيها معنى الإضراب والانتقال من الخاص إلى العام، وكأنه قيل إذا كنتم في مرض أو سفر لَا يمكن معهما استعمال الماء بيسر وسهولة أو بشكل عام حدث ما يوجب الوضوء أو الاغتسال، فلم تجدوا ماء فتيمموا إلى آخره - الثانية: أن قوله تعالى: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ منكُم مِّنَ الْغَائِطِ) بلفظ المفرد إشارة إلى وجوب الذهاب إلى قضاء الحاجة فرادى، والعودة فرادى للاستتار.
(مَا يُرِيدُ اللَّه لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذا الكلام يفيد النفي المؤكد بأنه ليس في الدين حرج، أي ضيق ومشقة، وقد تأكد النفي بنفي الإرادة، وهي نقيض نفي الوقوع، وبحذف موضوع الإرادة، وهذا يقتضي عمومه والمعنى لَا يريد الله سبحانه أي أمر فيه مشقة أو ضيق لكيلا يترتب عليه أن يكون عليكم حرج وضيق في الدين، وتأكد النفي باللام في قوله: (لِيَجْعَلَ عَلَيْكم) فهي التي تسمى لام الجحود أي النفي المؤكد، والمعنى: ما كان من أمر الله تعالى في عباده أن يجعل الدين عليهم فيه مشقة مجهدة أو ضيق وحرج؛ ولذا شرع التيمم بدل الوضوء، وغير ذلك مما ييسر العبادات ويسهلها، كما قال تعالى: (... يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكمُ الْعُسْرَ...)، ولكن يريد الله لكم طهارة الجسم من الأرجاس، وليرحض عنه الأوساخ، وطهارة النفس وتزكيتها بالإخلاص لله تعالى، وليتم نعمته عليكم بالتيسير والتسهيل والمداومة على الطاعات، والتأليف بالعبادات بين جماعتكم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي يعدكم ذلك الإعداد الطاهر النزه في الجسم والروح لتكون حالكم حال من يرجى منه شكر النعمة، والاستمرار على طاعة الله وتنفيذ أوامره.. اللهم اجعلنا من عبادك الشاكرين.
* * *
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى ما به غذاء الأبدان، وهو كل طيب لَا خبث فيه، ثم أشار إلى ما فيه غذاء الأرواح وطهارة الأبدان، وهو الصلاة والوضوء لها، والاغتسال عند الإقدام عليها، فذكر الأطعمة الحلال، وذكر ما به بقاء أنس البشرى، وهو الزواج، ثم الوضوء وأركانه، والاغتسال والتيمم، وبعد أن ذكر ذلك الغذاء الفردي من جسم وروح ذكر الثمرة الطيبة لذلك، وهي بناء مجتمع إنساني سليم، أساسه الثقة والعدالة، وابتدأ سبحانه وتعالى بذكر نعم الله، ثم بذكر العدالة التي هي قوام هذا الوجود الإنساني، فقال تعالى:
(وَاذْكرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكمْ وَمِيثَاقَهُ الَذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) الخطاب في هذه الآية للذين آمنوا، فهو امتداد للسياق الذي كان يتعلق بالصلاة، وما قبله من بيان الحلال والحرام كان يتعلق بالذين آمنوا، فالآية الكريمة سائرة على هذا النسق البياني الرائع، والأمر في الآية لطلب تذكر أمرين جليلين، وهما نعمة الله تعالى التي أنعمها على المؤمنين، وهي آلاء جليلة عظيمة، وتشمل نوعين من النعم، عامة وخاصة، فالعامة تعم الناس جميعا مشركهم ومؤمنهم، وهي نعمة الوجود، وتسخير الكون بكل ما فيه لبني الإنسان، والخاصة ما أسداه الله تعالى إلى المؤمنين، إذ هداهم وإذ كانوا قليلا فكثرهم، وكانوا متفرقين
والأمر الثاني الذي ذكرهم الله تعالى به هو الميثاق الذي عقدوه مع الله تعالى، والميثاق في اللغة: هو العقد الموثق المؤكد بيمين الله تعالى، وقد كان العهد من جانبهم يوجب عليهم السمع والطاعة فيما يأمرهم به الله تعالى، وفيما ينهاهم عنه، فالعهد فيه التزام من جانبهم، وهو السمع والطاعة، ووعد من جانب الله تعالى بأن يوليهم نعمه، ويهبهم النصر من لدنه، وهو العزيز الحكيم، وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك العهد، بقوله: (الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ) أي الذي عقده سبحانه وتعالى معكم، وتبادل معكم توثيقه وتأكيده؛ إذ إن واثق تقتضي المبادلة، فالله تعالى ذو الجلال والإكرام هو الذي تولى ذلك الميثاق.
والمفسرون يتكلمون في الميثاق ما هو؛ قيل: هو الميثاق الذي أخذ بمقتضى الفطرة، ولكن ذلك الميثاق لَا يخص المؤمنين، بل يعم البشر، وقيل: إنه الميثاق الذي كان بين النبي - ﷺ - وأهل يثرب في العقبة (١)، ولكن هذا يخص الأنصار، ولا يعم المؤمنين، والحق أنه الميثاق الذي كان التواثق فيه على أساس التزام المؤمنين بالسمع والطاعة، كما عين النص الكريم موضوعه إذ قال سبحانه: (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) أي في الوقت الذي التزمتم فيه بالسمع والطاعة، وقد اختار ذلك ابن جرير (وهو قول ابن عباس) وقال في اختياره: " وأولى الأقوال بالصواب في تأويل
________
(١) عن عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ، وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: " بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ " فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ. رواه البخاري: الإيمان - علامة الإيمان (١٨)، ومسلم: الحدود (١٧٠٩).
وكان التذكير بهذين الأمرين ليقوم المؤمنون بحقهما، فيما يتعلق بمعاملة الغير، وفي علاقتهم بالناس من حيث إقامة العدالة لذات الله تعالى لَا يريدون إلا وجهه الكريم، وليكون القسط والميزان أساس أعمالهم.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بنعمه عليهم وميثاقه الذي واثقهم عليه، على أساس السمع والطاعة، طلب إليهم أمرا آخر هو أساس الاستجابة للميثاق، وهو تقوى الله تعالى بأن يستشعروا دائما عظمته، ويتخذوا وقاية لأنفسهم من معصية الله تعالى، فإن التقوى هي أساس الطاعة، وهي لب الاستجابة لما جاء في ميثاق الله تعالى، وهو أعلى ميثاق في الوجود، لَا ميثاق يدانيه إلا إذا كان مشتقا منه، بأن يكون أساسه السمع والطاعة لله في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر، وإن التقوى لله موضعها القلوب، وهي التي تحرك الجوارح، فلا طاعة إلا إذا انبعثت من القلب عن طواعية ورضا واطمئنان؛ ولذا قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) وتكرار ذكر الله تعالى لإشعار المؤمنين برقابته، وإلى أنه فوقهم ومطلع عليهم، ومراقبتهم بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى، والله تعالى عليم علما لَا يدرك كنهه بكل شيء بما تخفيه وما تكنه الأفئدة. وذات الصدور هي: الأمور الملازمة للصدور التي تخفيها ولا تظهرها، فهي بالنسبة للصدور كالصاحب بالنسبة لصاحبه يلازمه ولا يبعد عنه، ولا ينكشف. فهي من ناحية أنها لَا تخرج من الصدر تعد مصاحبته، ويعبر عنها بذات الصدر، كما يقال: فلان ذو مال. أي ملازم له.
* * *
* * *
معنى النص الكريم:
يَا أيُّهَا الذين اتصفوا بالإيمان بالله والخضوع، وكان ذلك الإيمان عنوانهم الذي يعرفون به، وشرفهم الذين يتشرفون به، كونوا قوامين لله، أي اجعلوا أنفسكم وإحساسكم ومشاعركم مطبوعة على أن تقوم لله ولأجل محبته سبحانه وطلب رضاه، لَا لهوى النفس ومنازع الشهوات، وكونوا شاهدين بالحق، لَا تطلبون سواه، وهذا هو المعنى الجلي المقرب لما اشتمل عليه النص الكريم، وهو أعْلى من أن تتسع عبارتنا لمعناه.
وهنا ملاحظات بيانية يجب اعتبارها والإشارة إلى كمال الحكمة في عمومها:
الأولى: (كونُوا) فهو أمر بالكينونة بأن يجعلوا القيام لله تعالى، والاعتبار به، والأخذ بهديه جزءا من كيانهم، وذلك بأن يستمروا على الطاعة ويديموا عليها، فإن الدوام على الفعل والاستمرار عليه يجعل النفس تنطبع به، ويكون جزءا منها، فالأمر بـ " كونوا " يتضمن الاستمرار والدوام، وأحب الأعمال إلى الله تعالى ما أمكن الاستمرار عليه، ليكون عادة للنفس بمنزلة الطبيعة، فالعادة طبع ثان، ولقد قال النبي - ﷺ -: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ " (١).
ثانيهما: قوله تعالى: (قَوَّامِينَ لِلَّهِ) فإن قوام معناها: من يبالغ بالقيام بالشيء وإتقانه والإتيان به على الوجه الأكمل، وكونه لله تعالى معناه أن تكون تلك المبالغة في الفعل لأجل الله تعالى، لَا شيء سواه، وهذا يتضمن " أمرين "
________
(١) سبق تخريجه.
وثانيهما: أن يكون ذلك لله، بأن يكون أصل العمل لله، وأن يكون إتقانه لله تعالى، فيتجه في كل الأعمال إلى الله تعالى، فالعامل في المصنع يعمل لله إن قصد بذلك نفع عباده، والتاجر كذلك، وإذا قصد بأعماله وجه الله، وما فيها من خير للعموم كان في عبادة مسستمرة، وليست العبادة مقصورة على الصلاة والصوم والحج، بل كل عبادة إذا قصد بها وجه الله تعالى، ولقد قال النبي - ﷺ -: " لا يؤمن أحدكم، حتى يحب الشيء لَا يحبه إلا لله " (٢).
الثالثة: في قوله تعالى (شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) فإن شهداء تدل على الحضور، وعلى الإثبات وأداء الشهادة، وعلى الحكم وهي في النص الكريم تشمل كل هذا، فالمعنى: لَا يحكمون إلا بالقسط أي العدل، ولا يشهدون إلا بالعدل ولا يشهدون الزور، ولا يحضرون، إلا مايكون قسطا وعدلا، وما يكون قسطاسا مستقيما لاتحيّف فيه ولا انحراف، والمؤدى أن يكون حضورهم في القسط، ونطقهم بالقسط، وحكمهم بالقسط، وعملهم بالقسط، فلا يكون إلا للخير، وفي سبيل الخير دائما.
وعبر بالقسط، لأنه شامل للخير كله، ولأن العدل ميزان الخير، ولذا قال من بعد: (وَلا يَجْرِمَنَّكمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا).
الجرم في أصل معناه اللغوي: القطع، فيقال جرم الثمار أي قطعها، ثم أطلق على الكسب، وغلب على الكسب الإثم، ومنه أجرم بمعنى ارتكب إثما، لأنه كسبه، وقد يتضمن معنى الحمل معِ اشتماله على معنى الكسب الآثم، وهذا هو القريب من المعنى هنا، فمعنى (وَلا يجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ) لَا يحملنكم حملا آثما
________
(١) سبق تخريجه.
(٢) سبق تخريج ما في معناه من حديث صحيح.
والمعنى هناك: أنه لَا يصح أن يحمل البغض بسبب الصد عن المسجد الحرام على الاعتداء، ففيها أمر بعدم الاعتداء - أما هنا، فإن فيها أمرا بالعدالة حتى مع الأعداء، فالعدالة نظام هذا الوجود الإنساني، وبجمع الآيتين، يكون المعنى المقرب لمراد الله سبحانه أنه لَا يصح أن يكون البغض الشديد حاملا على الاعتداء، ولا أن يكون البغض الشديد حاملا على منع الحقوق، بل يعطي كل ذي حق حقه، ولو كان عدوا مبينا، فالحق ليس منحة من شخص لشخص يسلبه إن أبغض، ويعطيه إن أحب، بل إن التكمين منه واجب مقدس أمر الله سبحانه وتعالى به، وحث عليه، وقد روي في الحديث القدسي: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا " (١). ولا ينتظم الوجود الإنساني بغير العدل، وقد روى الطبراني عن جابر بن عبد الله أن النبي - ﷺ - قال: " إذا ظُلم أهل الذمة كانت الدولة دولة العدو " (٢) ومعنى هذا الحديث: أنه لَا يصح أن يظلم غير المسلم الذي يعيش مع المسلمين، والدولة إذا ظلمت رعاياها من غير المسلمين لا تكون دولة الإسلام بل تكون دولة الأعداء.
وازنوا بين حكم الإسلام وحكم الأقوياء في هذا الزمان الذين يستبيحون كل شيء من غير حريجة من أخلاق أو دين.
(اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) الضمير في قوله " هو " يعود إلى العدل الذي تضمنه قوله تعالى: (اعْدِلُوا) وقوله تعالى من قبل: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى
________
(١) جزء من حديث قدسي طويل سبق تخريجه من رواية مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه.
(٢) عن جابرِ بنِ عبدِ الله قالَ: قالَ رسولُ الله - ﷺ -: " إِذَا ظُلِمَ اهْلُ الذمَّةِ كَانَتِ الدَّوْلَةُ دَولَةَ العَدُوِّ، واِذَا كَثُرَ الزنا كَثُرَ السِّبَا، وإِذَا كَثُرَ اللُّوطِيةُ رَفَعَ الله - عَزَ وجَل - يَدَهُ عَنِ الخَلقِ فَلا يُبَالِي في أيِّ وَادٍ هَلكوا ". رواه الطبراني.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) أمرنا الله تعالى بالتقوى في كل الأمور في ذات أنفسنا بأن نراقب الله في كل عمل نعمله، فلا نعمل إلا طيبا، ولا نقول إلا طيبا، ولا نأكل إلا طيبا، ونخشى الله حق خشيته، ونقوم بعبادته
________
(١) سبق تخريجه، وهو صحيح رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد ذيل الله سبحانه وتعالى الأمر بالتقوى، بما يدل على علم الله تعالى بكل أعمالنا، حتى خلجات صدورنا، وما يحوك في قلوبنا، فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). أي أن الله جل جلاله عليم علما دقيقا، فالخبرة: هي العلم الدقيق الذي لَا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، عليم، هذا النوع من العلم بكل ما نعمل، وما ظهر منه وما بطن، وهو يجازينا بما نعمل، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ومن ينوي الخير، فهو محتسب له، ومن ينوي الشر، ويعدل عنه اختيارا لَا يحتسب عليه إثم.. اللهم وفقنا لتقواك، واهدنا لما يرضيك، وقربنا ولا تباعدنا إنك عليم حكيم.
* * *
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١٠) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
* * *
بين الله سبحانه وتعالى غذاء الأبدان بطيب الأطعمة، وغذاء الأرواح بالصلاة، فذكر مقوماتها، ثم ذكر سبحانه وتعالى، التكليفات الشرعية التي هي
وإن ذلك الوعد إنما يستحقه الذين قاموا بما ألزمهم به الميثاق، وهو الإيمان والطاعة، إذ قالوا سمعنا وأطعنا، وقد عبر الله تعالى عن السمع والاستجابة للسماع والإنصات للأدلة والإذعان لها بالإيمان، فالإيمان: هو العماد الذي يقوم عليه الميثاق الذي التزمه المؤمنون، والطاعة لأوامر الله تعالى ونواهيه هي التي عبر الله تعالى عنها بقوله تعالى:
(وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وما من مقام ذكر فيه المؤمنون بالمدح إلا اقترن به قيامهم بالعمل الصالح، لأن العمل الصالح ثمرته، ومثل الإيمان من غير عمل صالح يقدمه المؤمن كمثل شجرة جرداء لَا تثمر ثمرا ولا تظل مستظلا، والأكثرون من العلماء على أن الإيمان ناقص إذا لم يصحبه عمل، لأن الإيمان يزيد وينقص عند كثيرين ويزيد ولا ينقص عند آخرين، وعند هؤلاء يكون الإيمان من غير عمل إيمانا غير كامل.
وقال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) في مواضع كثيرة... وإصلاح الله تعالى الإنسان يكون تارة بخلقه إياه صالحا، وتارة بإزالة ما فيه من فساد بعد إصلاحه، وتارة بالحكم له بالصلاح... ".
وإذا كان عمل الصالحات هو استجابة المؤمن لأمر الله ونهيه، أو تنفيذ لقول المؤمنين: " سمعنا وأطعنا " فمؤدى ذلك أن الله تعالى لَا يكلف عباده إلا ما فيه صلاح أمورهم ورفع الفساد عنهم، فما من أمر كلف الله تعالى عباده أن يقوموا به إلا كان فيه صلاح لهم ومنفعة، وما من أمر نهاهم عنه إلا كان فيه مفسدة، وعلى مقدار ما في الشيء من نفع تكون قوة المطالبة به، وعلى مقدار ما فيه من شر يكون مقدار النهي عنه، وبذلك يتبين أن الشرع الإسلامي كله جاء لخير العباد وصلاحهم، والرحمة بهم، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالمِينَ)، وعلى ذلك لَا يصح لمؤمن بالله واليوم الآخر، أن يقول: إن نصوص القرآن أو السنة جاءت بأحكام فيها مضرة؛ فإن ذلك أقصى العناد، وغاية ما يريده أهل الفساد، وما يبتغيه الذين يريدون أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى ما وعد به الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فقال: (لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ). فهذا النص الكريم هو بيان للوعد الذي وعد الله تعالى به عباده المؤمنين، فذكر الوعد بهما في قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). ثم ذكر البيان، وفي ذكر البيان بعد الإبهام فضل تمكين للإعْلام،
هذا هو الأمر الأول، أما الأمر الثاني: فهو الأجر العظيم، وهو الثواب، وسماه الله تعالى أجرا، أي أنه استحقاق على عمل صالح، وذلك كان من الله تكرما وفضلا، فكل شيء بفضل الله تعالى، وهو ذو الفضل العظيم.
* * *
* * *
بعد أن ذكر سبحانه جزاء الذين آَمنوا وعملوا الصالحات ذكر سبحانه الذين كفروا وكذبوا بآيات الله تعالى، رهذا النص الكريم يشتمل على وصف الذين لم يؤمنوا، وجزائهم.
وإن أولئك الذين لم يؤمنوا يتصفون بوصفين: أولهما: الكفر، وثانيهما: تكذيب آيات الله تعالى القائمة حجة على رسالة الرسول الذي أرسل إليهم، وقد ذكر الكفر سابقا على تكذيب الآيات مع أن الظاهر أن الكفر نتيجة لهذا التكذيب؛ وذلك لأن الكفر هنا معناه: جحود القلب، وطمس معالم الإدراك فقلوبهم غلف، قد غطيت عنها الحقائق، وغاب عنها الفهم الصحيح، والإنكار يكون مرتكزا في النفس، فلا تذعن ولا تصدق، وإذا كانت النفوس على هذا النحو، فإنه يكون التكذيب لكل ما تدل عليه الآيات الحسية، والمعجزات القطعية؛ لأن
أي أولئك الذين كان منهم الكفر والجحود ثم التكذيب للآيات، وقد جاءت معلمة واضحة بسبب ذلك كانوا الملازمين للجحيم، أي النار المتأججة الشديدة اللهب التي تشوي الأجسام والوجوه شيا، فمعنى أصحاب الجحيم: الملازمون لها ملازمة الصاحب لصاحبه الذي لَا يفترق عنه، وكلاهما جدير بصاحبه.
* * *
* * *
هذا متصل بالأمر بالعدالة مع الأعداء كالعدل مع الأولياء، ففي هذا النص أمر بالتذكير بحال ضعفهم عندما كانوا يلتمسون العدالة، ليعتبروا بماضيهم، ويتخذوا منه عبرة لحاضرهم، فيتذكروا حال الضعف في حال القوة، ليعلموا نعمة الله تعالى عليهم، ولكي يعدلوا مع غيرهم كما كانوا يلتمسون العدل إذ كانوا مظلومين يتخطفهم الناس، وينزل بهم البأس، فالآية تدعو إلى التذكير بنعمة الله ليشكروها، ولكيلا يشتطوا مع غيرهم، وبسط اليد معناه بالقوة والأخذ والسيطرة والصولة، وقد قال تعالى: (... وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ...)، فالبسط هنا بسط للصولة والقوة، والسيطرة، ومعنى النص الكريم: يَا أيُّهَا الذين أذعنوا للحق واستمسكوا به، واستجابوا لأمر ربهم تذكروا نعمة الله التي أنعمها عليكم إذ هم قوم أن يمتدوا بيد الأذى ويبسطوها، فكفها عنكم وبدلكم من بعد الضعف قوة،
وقد أكد سبحانه وتعالى أنه هو سبحانه الذي رد الأذى وئدبير الشر، فقال مكررا كلمة الأيدي (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ) وفي ذلك إشارة إلى أنه سبحانه هو الذي قضى على موضع قوة أعدائهم، ومناط شدتهم، وهي الأيدي التي يكون بها البطش والصولة.
ولقد تكلم مفسرو الأثر وغيرهم في سبب نزول هذه الآية، وخصصوا، واللفظ عام، فقالوا: إن يد البطش والغدر كان قد هم بها ناس للاعتداء على شخص النبي - ﷺ -، والاعتداء عليه اعتداء على المسلمين، وكف الاعتداء عنه نعمة على كل المسلمين، وقالوا في ذلك روايات مختلفة تنتهي إلى خبرين:
أولهما: أنه روى من حديث جابر وغيره أن رجلا من بني محارب قام على رأس رسول الله - ﷺ - في وقت الراحة ومعه السيف، وقال للرسول من يمنعك؟ قال الرسول - ﷺ -: " الله " فوقع السيف من يده، فأخذه النبي - ﷺ - وقال: " من يمنعك مني "، فقال الرجل: كن خير آخذ. قال الرسول - ﷺ -: " تشهد أن لَا إله إلا الله، وأني رسول الله " قال: " أعاهدك ألا أقاتلك، ولا أكون مع من يقاتلونك، فخلى سبيله، فجاء إلى قومه، وقال: جئتكم من عند خير الناس " (١).
ثانيهما: أن النبي - ﷺ - ذهب إلى بني النضير ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، يطلبون منهم الإعانة على دية رجلين قتلا، وكان للنبي - ﷺ - عقد مع بني النضير عهدا على ألا يحاربوه، وأن يعينوه على الديات، فلما طالبهم بحكم هذا العهد أظهروا القبول، وأخفوا الغدر، فقالوا: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة اجلس حتى نطعمك، ونعطيك الذي سألتنا،
________
(١) رواه بهذا اللفظ أحمد باقي مسند المكثرين - باقي المسند السابق (١٤٧٦٨)، ورواه البخاري: الجهاد والسير - من علق سيفه (٢٩١٠)، ومسلم: الفضائل - توكله على الله تعالى وعصمة الله تعالى له (٨٤٣) عن جابر رضي الله عنه بنحوه.
هاتان روايتان في أسباب النزول، ويكون القوم هم الذين دبروا قتل النبي - ﷺ - فرادى وجماعات، ويكون كف أيديهم نعمة عظيمة على أهل الإيمان.
والذي نراه هو تذكير المؤمنين بما هَمَّ به الأقوام من الاعتداء على النبي - ﷺ - في هاتين الواقعتين، ومن قبلهما بتدبير قتله يوم الهجرة النبوية، ومن الاعتداء على المؤمنين في غزوة أحد، ومن تضافر العرب في الجزيرة العربية على الذهاب إلى المدينة قصبة الإسلام، واقتلاعها في غزوة الأحزاب، وقد كف الله سبحانه وتعالى في كل هذا تلك الأيدي المبسوطة بالشر، فلا تخصيص في النص، بل يترك على عمومه.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) بعد التذكير بهذه النعمة التي جعلت للمؤمنين كيانا مستقلا عزيزا كريما ينتصف من الظالمين، ولا يظلم أحدا أمر الله سبحانه وتعالى بالتقوى، وتقوى الله تعالى هي: الشعور بعظمته، والإحساس بجلاله، وامتلاء القلب به، واطمئنانه إليه، ورجاء ثوابه، وخشية عذابه، وعبادته كأنه يراه كما ورد في الأثر: " اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (٢).
هذه كلمات تقرب معنى تقوى الله تعالى، وهي تتضمن ذكر النعمة، وتتضمن شكرها، وهي في الشكر نص، ولا يكون الشكر من غير تذكر.
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنونَ) وفي هذا طلب الله تعالى من عباده المؤمنين أن يتوكلوا عليه،
________
(١) سبق تخريجه بهذا اللفظ.
(٢) سبق تخريجه.
والتوكل على الله ليس هو التواكل وترك العمل، بل هو الأخذ في الأسباب، ثم الاعتماد في الوصول إلى النتائج على الله تعالى وحده، فإن الأسباب لَا تنتج وحدها، ولكن لَا بد من فضل الله تعالى بالتوفيق، ولطف التقدير.
وفى الجملة الكريمة: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنونَ) إشارات بيانية واضحة منها ذكر لفظ الجلالة، فإنه يشير إلى عظمة من يعتمد عليه إذ يعتمد على منشيء الوجود ومسيره ومبدعه، وفيها لفظ (عَلَى) فإنه يشير إلى علو من يعتمد على الله وسموه، وعدم ذلته لمخلوق، ومنها تقديم الجار وما بعده، فإنه يشير إلى الاقتصار في التوكل على الله، فلا يتوكل على غيره؛ لأن ذلك لَا يخلو من شرك؛ ولأن التوكل من العبادة، والعبادة لله وحده، ومنها لفظ الفاء التي ربطت الكلام، ولا تخلو من معنى السببية، فإنها تدل على أن من ثمرات التقوى التوكل على الله تعالى.
هذا ونكرر أن التوكل على الله تعالى حق التوكل يوجب العمل (... رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).
* * *
* * *
في الآيات السابقة بَيَّنَ سبحانه طيبات ما أحل الله تعالى، وهي تصور متعة الجسد التي تكون حلالا، سواء أكانت طعاما يؤكل أم كانت تتعلق بما يكون بين الرجل والمرأة، ثم بَيَّنَ طهارة الأجساد والقلوب، بالصلاة وما يتقدمها من وضوء وتيمم، وذلك لتكون متعة الجسد في دائرة الطهارة والسمو، فيتهذب الفرد وينمو، ويقوى، وبذلك يكون قوة في بناء المجتمع الإنساني الذي يبتدئ بمجتمع الأمة أو القوم من غير تعصب ظالم، ولا انحراف لغير غاية فاضلة، وبين سبحانه وتعالى أن العدالة هي نظام العلاقات الإنسانية، وهي التي تنسقها، وكل تنسيق لَا يبنى عليها هو مِعْول هدام، ينقض القائم، ويفسد الصالح، والعدالة الحقيقية لَا تفرف بين عدو مشنوء مبغض، وولي محبوب مقرب، وذكر المؤمنين من بعد ذلك بأوقات ضعفهم، حتى لَا يشتطوا في أوقات قوتهم، ومن بعد ذلك وثق الله سبحانه وتعالى هذه المبادئ الإنسانية العالية التي هي شريعة النبيين أجمعين، وإن يخالفوها ينقض بنيانهم، وتذهب وحدتهم أوزاعا؛ ولهذا ذكر أخذ الميثاق بها على بني إسرئيل وكيف نقضوه، فقال تعالى:
(وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) الميثاق: أصله من وثق، وهي تدل على معانٍ فيها الاطمئنان، فيقال: وثقت به، أي اطمأننت إليه، ومنها الشد، وربط شيئين، ومنه قوله تعالى: (... فَشدّوا الْوَثَاقَ...)، ومنها ربط الكلامين ربطا موثقا، ومنه هذه الكلمة السامية ميثاق
وميثاق الله تعالى الذي أخذه على بني إسرائيل هو التكليفات التي كلفهم إياها، من صلاة وزكاة، وطاعة للرسل في المنشط والمكره، والسلم والحرب، يروى في ذلك عن ابن إسحاق قال: " أُمر موسى أن يسير ببني إسرائيل إلى الأرض المقدسة وقال: إني كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلا، فاخرج إليها وجاهد مَنْ فيها من العدو، فإني ناصركم عليهم، وخذ من قومك اثني عشر نقيبا، من كل سبط نقيبا يكون على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به، وقل لهم: إن الله يقول: إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي... ".
فالميثاق كما تدل الروايات يتضمن التكليفات كلها، وأخصها الجهاد، وموضوعه يبينه الله تعالى بالنص في قوله تعالى: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ).
ومعنى قوله تعالى: (وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيبًا) أن الله سبحانه وتعالى اختار منهم اثني عشر رئيسا على حسب بطونهم، ليوقعوا الميثاق، أو ليتلقوا العهد، فالبعث أصل معناه: الإثارة ثم أطلق على الإثارة التي يتبعها فحص، ثم اختيار، والنقباء جمع نقيب، وأصل النقب: الخرق في الجدار ونحوه، ويقال: نفب عليهم صار نقيبا لهم، أي رئيسا مختارا بما يشبه الانتخاب الطبعي، أي أن رياسته بمقتضى التكوين الفطري فهو رئيس، وإن لم يعين بسلطان، ويقول ابن جرير في تفسير معنى النقيب: " النقيب في كلام العرب كالعريف على القوم غير أنه فوق العريف، يقال منه نقب على بني فلان فهو ينقب نقبا، فإذا أريد أنه لم يكن نقيبا فصار نقيبا، قيل قد نقب نقابة ".
وفسر بعض العلماء النقيب بمعنى الأمين، وإن هذا التزامي لتفسير النقيب على النحو السابق، لأنه لَا يكون له المنزلة السابقة إلا إذا كان أمينا له سابقات في
ومؤدى القول أن الله تعالى أخذ عليهم الميثاق بالطاعة، والإذعان بما أمرهم به، وبأنه كان في سبط من أسباطهم الاثنى عشر نقيب له عليهم فضل النقابة والشرف يدعوهم إلى تنفيذ ميثاق الله تعالى، والقيام على عهده، وكان ذلك لأن بني إسرائيل توالت عليهم القرون، وهم في حكم فرعون وقهره، وقد استمر العذاب والهوان، وانحلت إرادتهم وعزائمهم، وأصبحوا لَا يؤمنون بفضيلة ولا عقيدة، فكان لَا بد من مذكِّر مستمر من بينهم، ومحرض دائم منهم، ومثل من بينهم تكون عيانا مستمسكة بالخلق والدين، حتى تتربى إرادتهم، وتقوى عزائمهم، ألم تر أنهم مع إنقاذ الله تعالى لهم على يد موسى عليه السلام، وفلق البحر لهم حتى صار كل فرق كالطود العظيم، ومع توالي البينات الشاهدة المثبتة للرسالة والوحدانية قالوا لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، فالحس قد استولى عليهم، والمادية قد استغرقتهم؛ لذلك كان مع ميثاق الله تعالى الذي واثقهم به النقباء الذين كانوا فيهم مع الرسول موسى عليه السلام، وأخيه هارون الذي شد أزره في رسالته. وفي النص الكريم إشارتان بيانيتان:
إحداهما: أن الله تعالى نسب الميثاق إليه جل جلاله بلفظ الجلالة لزيادة توثيقه، ولعظيم توكيده، ثم التفت بنسبته بعث النقباء إليه من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم العظيم؛ لبيان عظم مقام النقباء، فإسناد بعثهم إليه سبحانه هو الذي بينهم وهو الذي كونهم.
والإشارة الثانية يتضمنها قوله تعالى: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ) وهنا كان الالتفات إلى لفظ الحاضر مرة ثانية، وذكر معية الله تعالى تفيد أمرين، أولهما: أن الله تعالى يعلم حالهم من طاعة أو عصيان عِلْم المصاحب لهم، فإنه لَا يخفى عليه أمرهم، وإنه محاسبهم على تنفيذ العهد والميثاق، وإنه سبحانه وتعالى يجزي
وقوله تعالى: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ) ذكر القول ونسبته إلى الله سبحانه وتعالى، وذلك فضل تأكيد بالمعية والمصاحبة، والمراقبة والمناصرة؛ لأن الله تعالى هو الذي أخبر بذلك عن نفسه.
(لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) هذا بيان الميثاق الذي واثقهم الله تعالى به، وقد ذكره سبحانه وتعالى مؤكدا بالقسم فضل تأكيد، إذ إن التأكيد بالقسم تبعه لغة التأكيد باللام، والتأكيد بالنون التي تدخل هي واللام في الجواب، وهو هنا قوله تعالى: (ولأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).
وقد فهم بعض المفسرين أن قوله تعالى: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) داخل في مقول القول في قول الله تعالى: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ) فيكون ذلك خير تأكيد للعهد بالنسبة لله تعالى، وهو جواب القسم، وعندي أن هذا النص استئناف بياني فيه بيان موضوع الميثاق، فهو عهد بين العبد وربه، كان الالتزام على بني إسرائيل، هو ما اشتمل عليه النص الكريم، وما وعد الله تعالى هو ما جاء في قوله سبحانه: (لأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ).
والالتزام الذي أوجبه ميثاق الله تعالى عليه يتصل بتهذيب النفوس، والتعاون الاجتماعي، والجهاد والإيمان، وقد ذكره سبحانه وتعالى في خمسة أركان:
أولها: ما قاله سبحانه في صدر العهد: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) فالصلاة هي الركن الأول من الميثاق الرباني الإلهي، وابتدئ بذكرها، لأنها طهارة النفوس، وتزكية القلوب، وبها تربية الضمير الذي يكون جماعة مؤتلفة، وإقامتها تنهى عن الفحشاء والمنكر وتربي في النفس روح الخير، والإحساس بعظمة الله تعالى، ولا يمكن أن يكون الوفاء بالميثاق الإلهي من غير إقامة الصلاة؛ فإنها ركن كل دين
الركن الثاني: من أركان ميثاق الله تعالى على بني إسرائيل، وهو ميثاقه على خلقه عامة لَا على بني إسرائيل، هو إيتاء الزكاة، وإذا كانت الصلاة تربية القلوب وتهذيب الوجدان ليندمج المؤمن في جماعته، فالزكاة فريضة تعاونية لسد خلة الضعفاء، ولإيجاد تعاون بين الغني والفقير، فلا يكون الغني مملوء الجيب، والبطن، والفقير فارغ الجيب، أخمص البطن، فهي التعاون الكامل، وهذا يدل على أن الزكاة ليست في الإسلام فقط، بل هي في كل الأديان السماوية، وهي جزء منْ الميثاق الديني في كل الرسالات السماوية، فليس لأهل دين سماوي أن يفر منها باسم أنها ليست في دينه، وإذا كانت النظم تختلف أحيانا في بعض الشرائع عنها في الآخر، فالأصل ثابت وهو مشترك في الجميع، ولعل الصلاة أيضا قد تختلف أشكالها، ولكن لبها ثابت في الجميع، وليس لأهل دين أن يغير في أمر الله تعالى.
الركن الثالث: ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: (وَآمَنتم بِرُسُلِي) والإيمان بالرسل معناه: الإذعان والتصديق، فمن ميثاق الله تعالى على بني إسرائيل وغيرهم الإيمان برسل الله تعالى بتصديقهم، والإذعان لَا يدعون إليه فلا يقبلون لبعضهم البعض، ويرفضون الآخرين، فيؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض؛ لأن رسالة الله واحدة، ورسل الله تعالى جاءوا جميعا بشرع واحد في أصله، وإن اختلف في بعض فروعه، وقد أضاف سبحانه وتعالى الرسل إليه، فقال: (وَآمَنتُم بِرُسُلِي) لتأكيد معنى رسالة هؤلاء الرسل، وللإشارة إلى أن عدم الإذعان لهم، والتصديق بهم تمرد على الله تعالى، وتكذيب، فمن يطعهم فقد أطاع الله تعالى، ومن يعصهم فقد عصاه سبحانه، فإضافة الرسل إليه سبحانه وتعالى لتعظيم شأن رسالاتهم، وبيان آثار طاعتهم ومغبة عصيانهم.
والركن الرابع من أركان ذلك الميثاق القدسي: عبر الله تعالى عنه بقوله تعالى: (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أي قويتموهم ونصرتموهم، فذلك فتح باب الجهاد الواجب لنصرة الرسل، ونصرة الحق دائما، فالتعزير هو النصر، ويطلق على العقاب المانع من الضرر، ويقول صاحب المفردات: إنها من باب واحد، فيقول في ذلك:
التعزير النصرة مع التعظيم قال تعالى: (... وَتُعَزِّرُوهُ...)، (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ)، والتعزير ضرب دون الحد، وذلك يرجع للأول، فإن ذلك تأديب، والتأديب نصرة، لكن الأول نصرة بقمع ما يضره بالدفاع عنه، والثاني نصرة بقمعه عما يضره، فمن قمعته، فقد نصرته، وعلى هذا الوجه قال - ﷺ -: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قال قائل: أنصره مظلوما، فكيف أنصره ظالما؛ فقال - ﷺ -: " كفه عن الظلم " (١).
والخلاصة، أن التعزير في الآية النصرة مع التوقير والتعظيم، وعدم التهجم عليهم أو الاستهزاء بهم أو السخرية منهم.
________
(١) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: " تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ، مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ " رواه البخاري: الإكراه - يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه (٦٩٥٢)، وأحمد: مسند أنس (١٥٥٣٨) كما رواه بلفظ: " تكفه عن الظلم " الترمذي: الفتن (٢٢٥٥) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
وهنا نجد إشارات بيانية تستوجب ذكرها إجمالا من غير تعرض لتفصيل:
الأولى: أن الله سبحانه وتعالى سمى القيام بالواجبات، والإنفاق في سبيله، وإعطاء المحتاجين - إقراضا له تعالى، وهو الغني، والناس هم الفقراء، وكانت تلك التسمية تحريضا على هذه الخيرات، وتشريفا لمقام القائم؛ وإعزازا لعمله، وكانت التسمية فوق ذلك تأكيدا للجزاء؛ لأن المقترض لَا غني في الوجود سواه، فهو وحده القادر على الجزاء، وأتى تأكيدا للجزاء على الحسنة بأقوى من هذا، وقد صرح سبحانه وتعالى بمضاعفة الأداء في آية أخرى، فقال سبحانه: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥).
الثانية: أن " قرضأ في قوله تعالى: (وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) المراد بها العطاء؛ أي الشيء الذي قدمه العبد، وإن كان في إعرابه يصح أن يكون مفعولا مطلقا، ونرى أنه مفعول به (١).
الثالثة: أن الله تعالى وصف القرض بأنه حسن، والحسن في كل شيء يناسبه، ففي الوجوه تَنَاسُبُهَا، وإشراقها، وفي الأشياء تناسقها وتآلفها، وفي الأعمال خلاصها من شوائب الرياء والنقاق، وهو في القرض الاتجاه به إلى الله
________
(١) ويكون مفعولا به على معنى (عطاءً) كما بين الإمام رحمه الله تعالى.
وقد بَيَّنَ سبحانه بعد ذلك ما وعد به، فقال تعالت كلماته:
(لأكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) هذا جواب القسم الذي أقسم به رب العالمين، منشئ هذا الوجود، وهو يتضمن ما وعد الله به بني إسرائيل إذا قاموا بما يوجبه الميثاق عليهم، وهو يتضمن أمرين أحدهما: غفران ما ارتكبوا من سيئات، وثانيهما: جزاء ما فعلوا من خيرات، وقد عبر سبحانه وتعالى عن الغفران بقوله: (لأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) أي لأسترن ما قدموه من أعمال هي سيئة في ذاتها، وهي سيئة لهم، ولمجتمعهم، ومعنى تكفيرها سترها، فلا تفضح بالعذاب، إذ العذاب كشف لها، وإعلام بها، والغفران ستر وعطاء، وقد أكد سبحانه الغفران بلام القسم والنون المؤكدة توكيدا شديدا.
وعبر سبحانه وتعالى عن الجزاء بقوله: (وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِها الأَنْهَارُ) وأكد العطاء بمثل ما أكد الغفران، وقد قدم سبحانه الغفران على الثواب؛ لأن الغفران تطهير، والتطهير مقدم على غيره، أو كما يقول العلماء: " التخلية مقدمة على التحلية ".
(فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) أي أنه من يجحد بآياته ونعمه وآلائه وبيناته بعد ذلك الميثاق الغليظ الذي أخذ عليهم، والوعد الأكيد الذي وعدهم الله به فقد بَعُدَ عن السبيل المستوية المُعَبَّدَةِ المسلوكة، وسار في متاهات الضلال التي لَا هداية بعدها، فمعنى سواء السبيل الطريق المستوية التي توصل، ومعنى ضلالها البعد، وهذا إنذار لله تعالى بعد الميثاق بأنه هو الطريق السوي، فمن حاد عنه، فقد ضل وغوى، وقد كانوا كذلك.
اللهم اهدنا، ووفقنا لاتباع سبيلك السوي، إنك الهادي والنصير.
* * *
* * *
أخذ الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل الميثاق أن يقوموا بالتكليفات التي كلفهم إياها، وألزمهم بمقتضى هذا الميثاق أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وأن يقوموا بالخير الذي رغبهم فيه سبحانه بأن سماه إقراضا له، وهو المنعم بكل شيء الغني الحميد، ووعدهم سبحانه بأن من يقوم بحق الميثاق يستر سبحانه وتعالى سيئاته، ويدخله جنات النعيم الدائم الذي لَا يحول ولا يزول، وأوعدهم بأن من يكفر بالميثاق ينال جزاء الضالين، وأشار لهم بأن الميثاق هو الطريق المستقيم، وأن الخروج عن منهاجه هو الضلال المبين، ولكن ذكر بعد ذلك أنهم اختاروا الضلالة على الهدى ونقضوا الميثاق، وضلوا وبعدوا عن طريق الحق، فطردوا من نعمة الإيمان، واستولى الشيطان على قلوبهم؛ ولذا قال سبحانه:
وإنهم إذا ساروا في طريق الغواية، وتركوا منهاج الهداية تفسد مداركهم، فيطمس على عقولهم، وتجمد قلوبهم فلا تلين لحق، ولا يدخل إليها نور؛ ولذلك قال تعالى: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) أي جعلنا قلوبهم غليظة صلبة كالحجارة، منزوعة منها الرأفة والرحمة؛ وذلك لأنهم لما مردوا على العصيان والمخالفة صلبت قلوبهم، فأصبحت لَا تنفتح لإدراك حق، كما قال في شأن هؤلاء اليهود عندما أخذوا في طريق العصيان: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤).
والقراءة المشهورة عند البصريين هي: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) وهناك قراءة أخرى وهي مشهورة عند الكوفيين، وهي: (وجعلنا قلوبهم قَسِيَّة) (١) وقد خرجها بعض المفسرين على معنى القراءة السابقة، بيد أن فيها مبالغة؛ لأنها على وزن فعيلة فهي تدل على تمكن صفة القسوة فيهم، وذكر ابن جرير الطبري لهذه القراءة وجها آخر، وقال: " إنما القسية في هذا الموضع القلوب التي لم يخلص إيمانها، ولكن يخالط إيمانها كفر، كالدراهم القسية، وهي التي يخالط فضتها غش من نحاس أو رصاص " ثم قال رضي الله عنه: " وأولى التأويلين في ذلك بالصواب،
________
(١) قرأها بغير ألف: حمزة والكسائي، وجبلة عن المفضل عن عاصم. وقرأ الباقون بالألف. غاية الاختصار (٨٠٠).
وإن قسوة القلب وفساده يترتبان على الانحراف عن الطريق السوي الذي عبر عنه بالطرد، لأن من ضل الطريق كلما سار في الضلال تاه عن وغاب عنه، ولأن القلب كلما أركس في الشر أربد وأظلم، وصارت غشاوة من الباطل تغطيه فلا يدرك، وتحجره فلا يلين.
وهنا بحث لفظي، وهو في قوله تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ) فإن الفاء هنا تسمى بفاء الإفصاح، وهي تفصح عن شرط مقدر تقديره: فإذا ضلوا ونقضوا الميثاق، فبسجب ذلك يُطردون من طريق الرحمة ومنهاج الاستقامة، و " ما " زيدت في الإعراب لتأكيد معنى السببية بين نقض الميثاق والضلال.
(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) أي يحيلون بالكلام عن الموضع الذي نزل فيه ولأجله، والمعنى المقصود منه إلى طرف بعيد عن لبه، وعن معناه، فالحرف للشيء طرفه الذي يبعد عن قلبه وعن قطبه الذي يدور حوله، والتحريف كما جاء في عبارات المفسرين قسمان، قسم يغيرون به معاني الكتاب، فيتجهون بها إلى أمور ربما يحتملها الكلام، ولكن لَا يحتملها إلا على بعد من موضوعها، كبعد طرف الشيء عن قطبه، وقسم آخر يغير ذات الكلام بزيادة ألفاظ فيه تذهب بأصل المعنى، أو بحذف ألفاظ يذهب بالمقصد من القول، وقد كان من اليهود القسمان،
وجاء قوله تعالى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) ثمرة لقسوة القلوب والطرد بالضلال؛ وذلك لأنهم لما ضلوا وفسدت قلوبهم واختلط فيها الزيف بالجوهر حتى غلب الزيف، ماتت ضمائرهم، وصاروا كذابين يكذبون على الله تعالى، وعلى الناس، فيغيرون معاني التنزيل، ويزيدون فيه وينقصون على حسب هواهم وشهواتهم، وارتكبوا بهتانا عظيما.
ومع التحريف الذي قصدوه، وشوهوا به التوراة التي نزلت على رسولهم قال الله تعالى عنهم: (وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) والنسيان معناه الترك، أو الغفلة عنه. وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني ما نصه: " النسيان ترك الإنسان ما استودع إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة، وإما عن قصد، حتى ينحذف عن القلب ذكره " وهذا يستفاد منه أن النسيان ترك عن غفلة أو ترك عن قصد، وقد يكون النسيان سببه أمر خارج عن إرادة الناس، كأن يخفى عدو قاهر ما عند الشخص فيتركه مكرها.
وقد كان عند اليهود - قبحهم الله - الأنواع الثلاثة، فهم قد أصابتهم الغفلة عن كتابهم بسبب فساد قلوبهم، وهم قد تركوا بعضه، وجعلوه مهجورا، لأنه لَا يتفق مع أهوائهم، وقد نزل بهم من الشدائد ما ضيع كتبهم، ولم يبق منها إلا القليل، كما فعل ذلك بختنصر معهم، حتى إذا عاد جمعهم لم يبق من كتبهم إلا متناثرا، لَا يكون مجموعا متناسقا.
(وَلا تَزَالُ تَطَّلِع عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ) الجماعات الإنسانية تتوارث عادات وأخلاقا، حتى تصير كأنها طبائع وجِبِلَّة، فالكلام في بني إسرائيل الذين سبقوا عصر النبوة، ولكن الذين عاصروا النبي - ﷺ - يحملون الصفات التي كان أسلافهم عليها؛ ولذلك اعتبروا منهم أو مثلهم، فخاطب الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه - ﷺ - يرى في الحاضرين صورة السابقين، ويرى فيهم طائفة منهم، وإن تباعدت الأزمان، وإذا تخالفت الشخوص لَا تتخالف الصفات؛ ولذلك قال تعالى: (ووَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ منْهُمْ) أي أن صفاتهم مستمرة وهم بذلك مستمرون، فلا تزال تطلع على طائفة خائنه منهم خيانة أسلافهم، فيهم قسوتهم، وفيهم ضلالهم، وفيهم انحرافهم. و (خَائِنَة): وصف لمحذوف تقديره بقية خائنة، أو طائفة خائنة، أو نفوس خائنة منهم، وفسر بعض المفسرين خائنة بمعنى خيانة، والمعنى على ذلك لَا تزال تطلع على خيانة، والمؤدى واحد؛ لأن الاطلاع على فرقة أو بقية خائنة اطلاع على الخيانة، والاطلاع على الخيانة اطلاع على قوم متصفين بها، وفي الكلام إشارة إلى أن هؤلاء اليهود في ماضيهم قد خانوا الله تعالى، وخانوا أنفسهم بنقضهم الميثاق الذي أخذ موثقا مؤكدا عليهم، فلا تعجب إذا كانوا قد خانوا العهد معك، ونقضوا الحلف الذي حالفوك عليه، على أن أمنك أمنهم، وأمنهم أمنك، وأن تكون العلاقة بينك وبينهم حسن الجوار، والمودة الحسنة.
(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِن اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) العفو معناه في مثل هذه:
عدم مقابلة الإساءة بمثلها، والتجافي عنها، وترك المؤاخذة عليها، والصفح معناه: ترك المؤاخذة، وترك اللوم والتثريب، بل ترك العتاب عليها؛ ولذلك قالوا: إن الصفح أعلى رتبة من العفو، وقال في ذلك الراغب الأصفهاني في مفرداته: وهو - أي الصفح - أبلغ من العفو؛ ولذلك قال تعالى: (... فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا...)، وقد يعفو الإنسان ولا يصفح ولكن لَا يمكن أن يتحقق صفح من غير عفو، إذ العفو ترك المقابلة بالمثل ظاهرا، وقد يكون في النفس شيء، أما الصفح فإنه يتناول السماحة النفسية، واعتبار الإيذاء كأن لم يكن، في المظهر والقلب.
والإحسان يطلق على الإتقان، ومن ذلك قوله تعالى: (... إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)، ويطلق على الإنعام على الغير، ومن ذلك قول القائل: " أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم " والإحسان في هذه الآية يشمل المعنيين، والإحسان فوق العدل؛ لأن العدل مع غيرك إعطاؤه الحق الذي له، والإحسان إعطاؤه الحق وزيادة، ومعنى النص الكريم: إذا كانوا على هذه الصفة التي ذكرناها فلا تعاملهم بمثل أخلاقهم، بل عاملهم بأخلاق النبوة التي تدعو إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، فاعف عنهم ولا تؤاخذهم بذنوبهم، فلا تعاملهم بالمثل إلا دفاعا عن الحوزة وأصفح الصفح الجميل، ولا تجعل في قلبك غلا
ولكن من هم الذين يستحقون ذلك العفو والصفح، أو بعبارة أخرى من الذين أمر النبي - ﷺ - بالعفو عنهم والصفح الجميل لهم. قال بعض المفسرين: هم العدد القليل الذين استثناهم الله تعالى بقوله تعالت كلماته: (إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ).
وإنا نرى أن ذلك، ولو أنه مستقيم مع سياق اللفظ هو غير مستقيم في سياق المعاني؛ لأن هؤلاء لم يسيئوا ولم يكونوا خائنين، حتى يكون للعفو والصفح موضع.
وقال بعض المفسرين: إن الذين أُمر النبي - ﷺ - بالعفو عنهم هم اليهود جميعا، ولكن نُسخ هذا بقوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ...)، وهؤلاء منهم، ولكن يرد عليه بأن النسخ لَا يصار إليه إلا إذا لم يمكن الجمع.
وقال آخرون: إن المراد اليهود ولا نسخ؛ لأن العفو والصفح كان بمساكنتهم وبقبول الجزية منهم مع معاشرتهم للمسلمين على أن يكون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وفي ذلك النظر وجاهة.
والذي نراه أن الأمر بالعفو والصفح عام لليهود، لكي يؤدي النبي - ﷺ - واجب الدعوة، وكذلك الشأن في كل داع إلى دعوة؛ لأنه إذا كانت النفس يشوبها الغضب والألم والإحن ويبدو ذلك في اللسان، فإنه لَا تستقيم الدعوة، ولا تقوم الحجة على من يدعوهم؛ لأن الله تعالى يقول: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ...)، ويقول سبحانه: (ولا تجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بالَّتِي هِي أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا منْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)، ولا يمكن أن يكون ذلك قد
* * *
* * *
في الآيات السابقة بَيَّنً الله الميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل، ونقضوه، ونسوا حظا مما ذكروا به، وفي هذا النص الكريم يذكر سبحانه وتعالى الميثاق الذي أخذ على قوم عيسى عليه السلام، وهو يشمل ما جاء به ذلك النبي الكريم، والرسول الأمين - ﷺ - من بيان وحدانية الله تعالى، وأنه ليس بوالد ولا ولد، وأنه ليس له صاحبة، ومن إحياء للتوراة الحقيقية ووصاياها وتكليفاتها، وقد صدَّق الصادق منها.
ولكن النصارى نسوا حظا مما ذكروا، أي نسوا قدرا كبيرا هو لب الديانة المسيحية، وهو التوحيد، وكثير من وصايا عيسى عليه السلام، وما دعاهم إليه من تسامح وحب للسلام.
وسبب نسيان حظ أي نصيب كبير مما ذكروا به هو اضطهاد النصارى اضطهادا شديدا في عهد الرومان، حتى ضاعت كتبهم، ولم يعرف شيء منها إلا قليل غير سليم بعد مائتي سنة من ترك المسيح هذه الدنيا، ثم ظهرت هذه الأناجيل التي يتدارسونها، ولا يزالون يغيرون ويبدلون فيها على حسب الطبعات
وهنا نكتة بيانية أساسها بيان السبب في أن الله تعالى عبر عنهم بقوله تعالت كلماته: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى) ولم يقل النصارى للإشارة إلى أن ادعاءهم النصرانية التي هي الدين الذي دعا إليه المسيح عليه السلام قول يقولونه بأفواههم ولا يتبعونه بقلوبهم؛ إذ هجروا لب تعاليم المسيح، وهو الوحدانية.
(فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) " الفاء " هنا للسببية أي أنهم بسبب نسيان كتبهم، وذهاب مصدر دينهم اختلط الباطل بالحق فيما يعتقدون فتفرقوا شيعا، وكانت بينهم العداوة، فمن قائل إن المسيح إله وهو ابن الله، ومنهم من قال إنها بنوة نعمة، ومنهم القائلون بالحق وهم الذين أنكروا ألوهيته كأريوس وأتباعه، ثم الذين قالوا بالألوهية اختلفوا أَوَلِدَتْ مريم اللاهوت من الناسوت، أم ولدت الإنسان فقط، ثم اختلفوا في الإرادة التي تكون من المسيح أتكون منهما أو من أحدهما، وكل فرقة تكفر الأخرى وتعاديها وتضطهدها وترميها بالكفر، حتى إن الملكانيين كانوا يذيقون اليعقوبيين سوء العذاب، ولم ينقذهم من أيديهم إلا الحكم الإسلامي العادل الرشيد، وكانت العداوة في العصور الأخيرة بين الكاثوليك والإنجيليين، وأريقت فيها الدماء، وإن تلك العداوة ستستمر إلى يوم القيامة. وهنا بحث بياني وهو التعبير بـ أغرينا، فإن الإغراء من الغراء وهو ما يلصق به، والمعنى كان الالتصاق والارتباط الذي يربطهم عداوة ظاهرة بالجدل أو المحاربة، وبالكراهية المستكنة بالنفس وهي البغضاء، أي البغض الشديد الذي يسكن القلب، ولا علاج له، وقد بَيَّنَ الله سبحانه وتعالى عاقبتهم بقوله:
(وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُم اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) أي أنهم يستمرون في ريبهم يترددون، وفي عداواتهم يلجون، حتى يوم القيامة، وفي هذا يخبرهم الله تعالى الخبر العظيم بنتيجة ما كانوا يعملون ويصنعون من غير تفكير ولا تدبر، وسوف
* * *
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)
* * *
بيَّن الله سبحانه وتعالى الميثاق الذي أخذه على بني إسرائيل، وقد وثقه بشهادته سبحانه وتعالى، وبعث اثني عشر نقيبا عليهم يمثلون أسباطهم، ومع ذلك نقضوه، فطردهم الله من رحمته، فقست قلوبهم إذ مردت على العصيان، وأطفأت النور الذي جاء إليهم من الله تعالى، فحرفوا الكلم عن مواضعه، وأهملوا العمل بالباقي وجعلوا شرع الله تعالى نسيا منسيا، وامتلأت نفوسهم بالخيانة، وابتلى الله تعالى محمدا - ﷺ - بذريتهم التي ورثت عنهم أخلاقهم ومروقهم عن الحق، مروق السهم من الرمية، ثم كان من الذين نسبوا أنفسهم للنصرانية بعض ما كان من اليهود، فنسوا حظا من الكتاب الذي جاء به عيسى عليه السلام إليهم، وأطفأوا نور الحق الذي جاء به في قلوبهم، وتفرقوا فيما
وقد أفرد الكتاب، والنصارى واليهود لهم كتب وأسفار لَا كتاب واحد، وكان الإفراد لأحد أمرين أو لهما معا - أول الأمرين - أن الكتاب يطلق ويراد به الجمع، لأن (أل) هنا للجنس، كما يقال: السوق، أو: أهل العلم، ويراد العلوم.
وثاني الأمرين: أن العرب كانوا قسمين: أُميين لَا يقرءون، أو ليست الكتابه رائجة عندهم، وأهل كتابة وعلم بالكتاب، ومن ذلك قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥). فالأميون هنا العرب الذين لم تكن الكتابة والقراءة كثيرة عندهم.
وعلى ذلك تكون كلمة " أهل الكتاب " ليست مقابلة فقط للمشركين وعبدة الأوثان، بل هي مقابلة للأميين.
وأهل الكتاب الذين صاحبهم الكتاب وكانوا له كالأهل الذين يرتبطون فيه. وفى نداء اليهود والنصارى فائدتان:
والفائدة الثانية: تقريعهم ولومهم بأنهم مع أنهم معروفون بعلمهم بالكتابة ومصاحبتهم لهم قد أخفوا كثيرا.
وقوله تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا) فيه ما يومئ بأنهم مختصون بالخطاب، مع أن النبي - ﷺ - بُعث للناس أجمعين عربهِم وعجمهم، وأسودهم وأبيضهم، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَةً لِّلنَّاسِ بَشِيرَا وَنَذِيرًا...)، ولكن كان الإيماء بالاختصاص لَا يتضمنه البيان الذي من بعد ذلك، من أنه يبين كثيرا مما كانوا يخفون، فكان هذا نوع اختصاص لهم، وإن كان القرآن قد جاء لعامة المكلفين لَا فرق بين كتابي وأمي، ولا بين من كانت له ديانة سماوية ومن لم يكن له بلاغ من قبل، وكان التعبير بقوله تعالت كلماته بـ (جَاءَكُمْ) بدل " بُعِثَ لكم " للإشارة إلى أنه يحاضرهم ويخاطبهم ومعهم جاء إليهم يرونه ويراهم، وإضافة رسول إلى الله تعالى في قوله سبحانه (رَسُولُنَا) فيه إشارة واضحة إلى أن البيان من الله سبحانه وتعالى، وكأن المعنى، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى: قد جاءكم يحاضركم ويخاطبكم رسولنا الذي ينطق باسمنا، ويتحدث عنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون.
(يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) هذا النص الكريم صريح في أنهم كانوا يخفون أمورا من علم الكتاب الذي نزل على موسى، وما جاء به عيسى عليهما السلام، وقد قال تعالى في شأنهم: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٤).
وهنا نتساءل ما الذي أخفوه وبينه القرآن، والجواب عن ذلك: هو كل ما جاء في القرآن من تكليفات دينية تتصل بالفطرة الإنسانية، ولا تختص بقوم دون قوم، مثل الصدق، وحسن المعاملة للناس، وإعطاء الناس حقوقهم لَا فرق بين
وقد يكون هذا مما أخفوه، ولكن لَا يمكن أن يكون كل الذي أخفوه، فإن الله تعالى يقول: (يُبَيِّنُ لَكمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفونَ) ولا يمكن أن يكون الشيء الواحد كثيرا، بل إن الكثرة تقتضي التعدد، وأنهم أخفوا كثيرا، فقد أخفوا البشرى بالنبي - ﷺ -، وحرفوا القول لكيلا تُعلم للناس، وأخفوا العلم بما يكون بعد الموت من بعث ونشور، والحساب والثواب والعقاب والجنة، والنار وما فيها من عذاب أليم، حتى إنك تقرأ التوراة التي بأيدينا، فلا تجد ذكرا للحياة الآخرة، وما يكون من جزاء على ما عمل المرء، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وأخفوا تحريم أكل الربا من كل إنسان، وحرفوه وقصروا المنع على أكل الربا من الإسرائيلي، وأخفوا محاولتهم عبادة الأوثان عقب إخراجهم مستنقذين من فرعون، وهكذا فقد أخفوا كثيرا، وبين الله تعالى في القرآن الكريم كثيرا مما يتصل بلب الرسالة الإلهية.
هذا بعض مما أخفوا، وهذا بعض مما بين الرسول الكريم - ﷺ - وأنه سبحانه بَيَّنَ الجوهر الذي أخفوه وهو كثير، لأنه لب الرسالة الإلهية.
ولقد قال تعالى: (وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) أي يترك كثيرا ما كنتم تخفون من غير بيان إذا لم يكن في تركه إهمال لحقيقة دينية، ويكون فيه افتضاح لأمركم كادعائكم أن لوطا عليه السلام زنى بابنتيه، وكادعائكم أن داود أحب امرأة قائد
________
(١) الأفكل: بوزن الأرنب: الرِّعْدة.
وقال الحسن البصري: إن معنى (وَيَعْفُو عَن كثِيرٍ) أي لَا يؤاخذكم عليه، ولا يعاقبكم لأجله إن أحسنتم في حاضركم، وإن النسق البياني يقتضي أن يكون موضع الترك مقابلا لموضع البيان، والمقابلة تقتضي أن يكون الترك الكثير كالبيان الكثير، وكل ذلك داخل في عموم ما كانوا يخفونه ولا يبينونه، وذلك هو الظاهر المتفق مع السياق، وغيره ليس متفقا مع السياق.
(قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مبِينٌ) هذه الجملة بيان للجملة السابقة؛ ولذلك كان الفصل بينهما لكمال الاتحاد، إذ الثانية في معنى الأولى مع وصف جديد فيه بيان الحقيقة؛ لأنه إذا كان مجيء الرسول فيه بيان المختفى، وكشف المستور، فهو نور، وبعثه نور، وقد سجل ذلك النور في كتاب مبين، أي واضح في ذاته مبين للشرع الشريف، ولما أخفاه أهل الكتاب وطمسوه من معاني الوحدانية الخالصة، ومن الشرائع المحكمة، وفي هذا النص تأكيد لمعنى الرسالة عن الله تعالى التي ثبتت بقوله تعالى (رَسُولُنَا) وفي هذا النص تصريح بأن ما يجيء به الرسول من نور كاشف هاد، وكتاب مسجل للشريعة هو من الله تعالى، وقد صرح بذلك في قوله تعالى: (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّه نُورٌ وَكتَابٌ مُّبِينٌ).
وللمفسرين في بيان معنى (نُورٌ) و (كِتَابٌ) كلام أساسه أن النور يجب أن يكون غير الكتاب؛ لأن العطف بينهما يقتضي التغاير بين حقيقتهما، إما من حيث الذات، أو من حيث الوصف، أو النتيجة، فإن الشيء الواحد قد يكون له وصفان متغايران، وبمقتضى هذا التغاير يكون العطف.
وفسر آخرون النور بأنه القرآن الكريم، كما فسر الكتاب المبين به على أساس المغايرة من حيث الأثر والبيان، فالقرآن نور؛ لأن فيه بيان الحق الذي لا تنكره العقول، والشرع الجامع الذي أتت به كل الرسائل، وهو من ناحية أخرى الشيء المكتوب المسجل الباقي إلى يوم القيامة لَا يعتريه تغيير ولا تبديل، فالمغايرة في العطف مغايرة وصف وأثر لَا مغايرة ذات، إذ القرآن المبين نور، وكتاب مكتوب مسجل باق إلى يوم القيامة. وقد اختار هذا الوجه الزمخشري ولم يذكر غيره.
والذي نراه في تفسير النص السامي، هو أن هذا فيه بيان لعمل الرسول - ﷺ -، وهو أنه أتى بعلم كاشف هو نور، فرسالة محمد - ﷺ - نور في ذاتها، وأتى بكتاب معجز دال على رسالته، ومشتمل على شريعته، وهو حجته إلى يوم القيامة.
وقد بين سبحانه وتعالى الغاية الكبرى من رسالته إلى أهل الأرض، ومن النور الذي جاء به الرسول والكتاب الذي أنزله، فقال:
* * *
________
(١) قال الألوسي في تفسيره (ج ٦، ص ٩٦) (قَد جَاءَكُم مَنَ الله نُورٌ) عظيم وهو نور الأنوار والنبي المختار - ﷺ -.
* * *
هذه هي الثمرات التي ترجى من الرسالة الإلهية إلى أهل الأرض، وكونها نورا يهتدي به الساري، وفيه شريعة قائمة في كتاب محفوظ إلى يوم القيامة، وهذه الثمرات ثلاث أولها: هداية إلى الحق، وإخراج من الظلمات إلى النور، ويهدي به الله سبحانه إلى صراط مستقيم لا عوج ولا أمت.
وأما ما يهتدي إليه فهو سبل السلامة، والصفاء وعدم وجود البغضاء، فالسلام هو: السلامة من كل أدران الحقد والحسد، والسلامة من كل ما يؤدي إلى البغضاء والعداوة، وسبلها هو: الأعمال الصالحة، فيعمل للدنيا بأخلاق مستقيمة، ونفس لَا يخالطها فساد، ولا تستولي عليه الشهوات، فيكون مع الناس في أمن وسلام، وفي الآخرة يكون في دار السلام، كما قال تعالى في شأن المتقين المهتدين: (لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عندَ رَبِّهِم...)، وكما قال تعالى: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (٤٤).
وأما الثانية - فقد عبر عنها تعالى بقوله: (وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) ومرجع الضمير هنا هو مرجع الضمير في الجملة السامية السابقة، فالقرآن والنور والهداية المحمدية كل هذا يخرج الناس من ظلمات الباطل إلى النور
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الضلال بالجمع والنور بالإفراد؛ وذلك لأن طرق الشيطان مختلفة، وكل طريق منها ظلمة في ذاته، فالشرك ظلمة، والبغضاء ظلمة، والمعصية ظلمة، وأكل مال الناس بالباطل ظلمة، ووأد البنات ظلمة، واسوداد الوجه بالكآبة عند ولادة المرأة ظلمة، والظلم ظلمات قد تعددت فنونه، وتباينت أقسامه والنور والقرآن والهدى المحمدي هو الذي يكشف هذه الظلمات، وينير الطريق للخروج، بإذن الله تعالى وعلمه وإرادته يخرجهم النور من هذه الظلمات المتكاثفة.
وأما الثالث - فقد قال تعالى: (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرِاطٍ مسْتَقِيم) والمعنى أن الله تعالى يهدي طالب إلى طريق مستقيم لَا التواء فيه، والهداية في الحقيقة من الله تعالى، فهو الذي يهدي ويرشد، والمهتدي هو من يطلب الحق إرضاءً لله تعالى، ونسبت الهداية إلى القرآن؛ لأنه الذي اشتمل على ما فيه الهداية من أحكام، وفضائل، وبيان لمعنى الرسالة الإلهية؛ ولأنه هو المعجزة الكبرى للنبي - ﷺ -، والطريق المستقيم هو دين الله تعالى القيم، دين التوحيد، دين الإسلام والتسليم والتفويض لله تعالى بعد القيام بالعمل، وهو دين الخير في الدنيا والآخرة، فمن اتبعه فقد رشد، ومن تركه فقد ضل، وهو وإن تعددت أنواع العمل طريق واحد موصل للغاية من أقرب اتجاه، وهو طريق الله تعالى، وقد قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣). [الأنعام (١)]
اللهم اهدنا صراطك المستقيم.
________
(١) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنا عنْدَ النبِي - ﷺ - فخَط خَطًّا وَخَط خَطين عَنْ يَمِينِهِ وَخَط خَطيْنِ عَنْ يَسَاره، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الخَط الأوسَط ققَالَ: " هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ " ثمَ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ). رواه ابن ماجه: المقدمة - اتباع سنة رسول الله - ﷺ - (١١).
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن اليهود حرفوا الكلم بتبديل عبارات التوراة، وتحريف معانيها وتفسيرها بغير ما يراد منها، ثم بإخفائهم كثيرا مما اشتملت عليه من أحكام تكليفية، ثم تحللهم من أحكام الباقي، وأن النصارى مثلهم نسوا حظا مما ذكروا به، بل أهملوا لب الدين، وحقيقة التوحيد فيه، وتفرقوا فرقا مختلفة وأغريت بينهم العداوة والبغضاء، فكان في الماضي التذبيح بين الملكانية واليعقوبية، وكان من بعد ذلك ما كان بين غيرهم، حتى تركوا الدين من حياتهم، ولم يبق منه عندهم إلا ما يعاند الوحدانية، ويضطهدون به أولياءها وأنصارها، وقد جاء الإسلام منذ تبليغ النبي - ﷺ - به، يبين كثيرا مما أخفوا، وحقيقة الرسالة التي تنزل من الله تعالى لخلقه، والتي هي لب اليهودية الأولى، ونصرانية المسيح عليه السلام، وفي هذه الآيات المتلوة يبين سبحانه لب ما غيروا فقال تعالى:
وإذا كان الأمر المعروف عندهمْ أن يسوع ابن الله، وفيه عنصر إلهي، فقد قالوا: إن الألوهية قد حلت فيه، ولازم ذلك القول أن يكون هو الله، أو هو إله يعبد، ومهما يكن فقد قالوا باتحاد عنصر الألوهية فيه، وقد قال في ذلك البيضاوي: " هم الذين قالوا بالاتحاد منهم، وقيل لم يصرح به أحد منهم، ولكنهم لما زعموا أن فيه لاهوتا، وقالوا لَا إله إلا واحد، لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم " وذلك بلا ريب ينتهي إلى القول بأنهم يعتقدون أن المسيح هو الله، وإن لم يصرحوا بذلك، فهو لازم قولهم باتحاد عنصر الألوهية فيه مع الله.
وإن ذلك الكلام تخريج على أن النصارى مذهب واحد في اعتقاد الألوهية، وأنه ابن الله، وبذلك يكون قوله تعالى في هذه السورة سورة المائدة: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ فَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ...) متلاقيا مع هذا النص الكريم، فهنا صرح بلازم قولهم، وهنالك صريح بذات قولهم.
والحقيقة أن النصارى اليوم - وهم لَا يزالون يغيرون ويبدلون - يصرحون بأن الأقانيم ثلاثة، وأنها شيء واحد، وينتهون إلى أن المسيح هو الله، والله هو المسيح، والله هو روح القدس، فقد قال الدكتور " بوست " في تاريخ الكتاب المقدس: " طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر: الله الآب، والله الابن، والله الروح القدس، فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن، وإلى الابن الفداء، وإلى الروح القدس التطهير، غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال
ومن هذا الكلام يتبين أن النصارى يصرحون بأن الابن هو الله، ولا يكون الكلام بطريق اللازم لقولهم، بل بطريق الصريح منه، فهم يصرحون بأن الله هو الابن، كما أن الله هو الآب، كما أن الله هو روح القدس.
وذكر الله سبحانه وتعالى الإخبار عن المسيح بأنه الله؛ لأن فيه إشارة واضحة إلى بطلان العقيدة، لأن المسيح وُلِد، ورئي يتحدث مع الناس، وأكل وشرب، وقتل وصلب في زعمهم! فكيف يكون هو الله تعالى؟!.
والحقيقة أن فكرة ألوهية المسيح عليه السلام ما سادت الفكر النصراني إلا في عهد قسطنطين، وقبل ذلك كان الأكثرون موحدين، ولكن وجد بجوارهم من بقايا الفلسفة الأفلاطونية الحديثة من زعم أن القوى المسيطرة على الوجود ثلاثة، ولننقل لك ما قاله ابن البطريق المسيحي في كتابه " تاريخ البطارقة " قال في مجمع نيقية الذي أعلن ألوهية المسيح ما نصه:
" كتب الملك قسطنطين إلى جميع البلدان، فجمع البطارقة والأساقفة، فاجتمع في مدينة نيقية ثمانية وأربعون وألفان من الأساقفة، وكانوا مختلفين في الآراء والأديان.. فمنهم من كان يقول: إن المسيح وأمه إلهان من دون الله، وهم البربرانية، ويسمون " المريميين ".. ومنهم من كان يقول: إن المسيح من الآب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية.. ومنهم من كان يقول لم تحبل به مريم تسعة أشهر وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب؛ لأن الكلمة دخلت في أذنها، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها، وهي مقالة إليان وأشياعه.. ومنهم من كان يقول: إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت، كواحد منا في جوهره، وان ابتداء الابن من مريم، وأنه مصطفى ليكون مخلصا للجوهر الإنسي صحبته النعمة الإلهية، وحلت فيه بالمحبة والمشيئة؛ ولذلك سمي ابن الله، ويقولون: إن الله جوهر قديم واحد، وأقنوم واحد، ويسمونه بثلاثة
وذكر فكرة أرتوس، وكانت شائعة، وهي إنكار ألوهية المسيح، والإيمان بالوحدانية، واختار قسطنطين من (٢٠٤٨) الثمانية والأربعين والألفين عدد (٣١٨) الذين قالوا بألوهية المسيح، وبذلك ساد هذا القول بسلطان قسطنطين.
وإن ذلك القول بلا ريب باطل، فالله سبحانه وتعالى هو الخالق، وهو الذي يحى ويميت، وقد أمر الله نبيه بالرد عليهم بأمر محسوس.
(قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا) أمر الله تعالى رسوله محمدا - ﷺ - أن يرد عليهم ادعاءهم، بإثبات القدرة لله تعالى، فإن صفة الله الذي يعبد لأجلها أساسها القدرة على الإنشاء وعلى الإفناء من غير قيد يقيدها ولا مانع يمنعها، فإذا كان المسيح لَا يملك أن يدفع عن نفسه الإعدام، فهو أولى بألا يستطيع الإنشاء ولا الإفناء.
والمعنى: قل لهؤلاء الذين يدعون الألوهية للمسيح: من يملك من دون الله أمرا يستطيع أن يمنعه سبحانه بأي قدر من قدرته تعالى إن اتجهت إرادته العالية إلى إهلاك المسيح وأمه، وفي الجملة السامية إشارات بيانية:
منها - في قوله: (فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) لأن (يملك) معناه يتضمن معنى يمنع، أي من يمنع من قدرة الله وأمره شيئا، وتنكير كلمة " شَيْئًا " للتصغير، أي قدرا ولو كان ضئيلا.
ومنها - أن التعبير بـ " يملك " يستفاد منها أن قدرة الله تعالى قدرة من يملك، وليست قدرة مستعارة أو مأخوذة من غيره.
ومنها - أنه ذكر المسيح مضافا إلى أمه، على أنه متولد منها، فكيف يكون من الفاني الإله الباقي، وهو ابن الله في زعمهم، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وإن الذي يستمسكون به بالباطل في هذا الزعم الباطل أنه خلق من غير أب، وقد رد سبحانه وتعالى زعمهم في قضية عامة بقوله تعالى: (وَللَّه مُلْكُ
السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ).
هذه الجملة السامية مع إبطالها لزعمهم في مقام الحال من الجملة السابقة، فهي مؤيدة لمعنى القدرة على الإبقاء والإهلاك والإحياء، ورادة على زعمهم أن عيسى خلق من غير أب، فيكون ابنا لله، تعالى الله عند ذلك. والمعنى أن لله سبحانه وتعالى الملكية التامة للتصرف في السماوات بطبقاتها المختلفة، والنجوم ومداراتها وما بين السماء والأرض من فضاء تجري فيه السحب بأمره، ويطير فيه الطير، ويسبح فيه، ثم ما يصنعه الإنسان من طائرات تقطع أجواء الفضاء، كل ذلك مملوك ملكية تامة لله تعالى، ولا توجد ملكية تامة في شيء من الأشياء إلا لله سبحانه وتعالى، فكل مالك من الناس ملكيته نسبية، وليست تامة أو مطلقة، بل هي مقيدة.
وإرادته سبحانه وتعالى مطلقة في خلق الأشياء؛ ولذلك قال تعالى: (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ). وهذه الجملة في مقام الثمرة والنتيجة لما قبلها من قدرة مطلقة لَا حد لها، ومن ملكية مطلقة لَا قيد يقيدها، فهو يخلق ما يشاء ويريد، فيخلق ذكرا أو أنثى فهو يجعل لهذا ذكرانا، ولهذا إناثا، ويجعل من يشاء عقيما، ولا قيد يقيد إرادته، في طريقة الخلق والتكوين، فيخلق الناس من أب وأم، ويخلق آدم من غير أب ولا أم، ويخلق عيسى من أم، ومن غير أب.. وهكذا.
* * *
* * *
اليهود يعلنون للناس أنهم شعب الله المختار، والنصارى يعلنون أنهم هداة هذا الوجود، وأنه لَا سلامة إلا في دينهم على الوضع الذي وضعوه، وعلى الزعم الذي زعموه، وبذلك يعتبرون أنفسهم أبناء الله وأحباءه، وعلى هذا يكون المراد بالبنوة بنوة مزية الاتصال بالله أكثر من اتصال غيرهم به، وأن الاتصال اتصال إيمان به وإدراك له، وأنهم اختصوا بنعمة المحبة، فالبنوة بنوة الاتصال والمحبة، ويكون عطف أحباء من قبيل عطف التفسير المشير إلى معنى البنوة. وهناك احتمال آخر، وهو أن تكون البنوة هي البنوة التي زعمها اليهود لعزير إذ قالوا: عزير ابن الله، وهم أتباعه وشيعته، وزعم النصارى أن المسيح ابن الله، وهم أتباعه، فهم أبناء الله بهذا الاتباع، وقد قال الزمخشري في توضيح هذا الاحتمال: " أبناء الله أي أشياع ابني الله عزير والمسيح، كما قيل لأشياع أبي خبيب، وهو عبد الله بن الزبير، وكما يقول رهط مسيلمة: نحن أنبياء الله، ويقول أقرباء الملك وذوو حشمه نحن الملوك؛ ولذلك قال مؤمن آل فرعون: (.. لَكُم الْمُلْكُ الْيَوْمَ...).
وفى الحق أن كلا من اليهود والنصارى ادعو أن لهم صلة خاصة بالله، وأنهم دعاة الحق، وأنهم وحدهم أحباب الله، وأهل الاتصال به، ولهذا رجح الأول.
وقد رد الله سبحانه أصل الادعاء بقوله تعالى: (بَلْ أَنتُم بَشَرٌ ممَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ) أي أن صلة الله تعالى بكم هي صلته بخلقه، وأنتم بعض منهم، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، فهو يغفر لمن يشاء، واقتضت حكمته الغفران له لتوبته ولصغر ما ارتكب، ووازن حسناته بسيئاته، وأن الحسنات يذهبن السيئات، ويعذب من يشاء بمقتضى حكمته؛ لأن الخطيئة أحاطت به، ولم يقلع عما ارتكب وأساء، والله عليم حكيم، وغفور رحيم.
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) هذه الجملة من تتمه الرد عليهم، ويحتمل أن تكون من كلام النبي - ﷺ - الذي أمر أن يقوله، ويحتمل أنها من كلام الله تعالى تأكيدا لحكمته تعالى وكمال سلطانه، وقد تأكد الرد بقوله تعالى: (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي أنه سبحانه وحده هو الذي تصير إليه أمورهم يوم القيامة، وهو الذي يعلن حينئذ محبته. لمق استحق محبته بالطاعة والتقوى، ويكون مآله إلى الجنة والنعيم المقيم، ولن تكون للذين غيروا وبدلوا في دينه وأشركوا به - تلك المحبة التي ادعوها، ولا ذلك النعيم الذي وعد به، وسيكون العذاب لمن عصى أمر ربه، وغالى في تقديس عباد الله تعالى وأشرك به، والله هو الذي يتولى الفريقين بعدله وحكمته..
* * *
* * *
بينت الآيات السابقات حال أهل الديانتين السابقتين على الإسلام، والذين يذكرون أنهم يتبعون رسولين من أولي العزم من الرسل، وهما عيسى وموسى عليهما السلام، وكيف نسوا حظا مما ذكروا به، وكيف أخفوا كثيرا مما ذكروا به، وكيف انحرفوا عن أصل التوحيد الذي هو لب الدين ودعوة كل النبيين الذين بعثوا من رب العالمين، ثم ادعوا مع ذلك التغيير والتبديل والانحراف أنهم الأقربون إلى الله تعالى، وقد رد الله تعالى عليهم قولهم، فبين سبحانه أنهم بشر ممن خلق، وأنه لَا فضل لهم على أحد إلا بالاستجابة لأمر الله تعالى، وفي هذه الآية التالية يبين سبحانه مقام الرسالة المحمدية وأنها جاءت في إبانها، وفي وقت الحاجة إليها، فقال عز من قائل:
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ) الفترة هي الزمن بين زمنين متغايرين في الحوادث، ويكون فيها سكون عما يكون في هذين الزمنين، وقد قال الراغب الأصفهاني في معنى الفترة: " الفتور سكون بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة قال تعالى:
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ منَ الرُّسُلِ) أي سكون خالٍ عن مجيء رسول الله - ﷺ - وقوله تعالى (... لَا يَفْتُرونَ)،
ويستفاد من ذلك الكلام القيم أن الفترة سكون بين عملين بارزين، فهي سكون بين زمني عمل، ولا شك أن عدم وجود رسالة في زمن بين رسالة مضت، ورسالة آتية، وهو سكون نسبي في الزمن بينهما، وإن كان العمل واجبا بالشريعة السابقة، حتى تنسخها الشريعة اللاحقة، ويكون التكليف منها.
وهنا مباحث لفظية تشير إلى نواحي البيان العالي في النص الكريم: المبحث الأول - في التعبير بقوله تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ) بدل أن يقال " جاء إليكم " لأن التعدية بغير " إلى " فيها معنى الملاحقة والملازمة، وأنه لَا مناص من اتباعه، ففرق بين أن يقال جاء إليه، وأن يقال جاءه، لأن الثانية تضمن الملازمة، وأنهم لَا يستطيعون الخروج عما جاء به إلا إذا أذنبوا.
الثاني - وإضافة كلمة الرسول إلى الذات العلية في قوله تعالت كلماته: (رَسُولُنَا) إشارة إلى معنى قدسية هذه الرسالة ومكانتها، وأنها ممن لَا تسوغ مخالفته، ولا الخروج عن طاعته.
الثالث - ابتداء الخطاب بقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) تنبيه لهم بأن مصاحبتهم للكتاب، وكونهم أهل معرفة يوجبان عليهم الطاعة، والاستجابة، لأنهم عرفوا رسالة الله تعالى إلى خلقه، وأنه ما خلقهم عبثا، ولا يتركهم هملا، وأنهم إن
________
(١) عَنْ عَبْدِ اللًه بْنِ عَمْرو قَالَ النبِي - ﷺ -: " إِنَ لِكُل عَمَل شِرَةً وَلِكُل شِرَّةِ فَترَةٌ فَمَنْ كَانَتْ شِرَتُهُ إِلَى سُنَتِي فَقَدْ أفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ " رواه أحمد: مسند المكثرين (٦٧٢٥).
الرابع - في قوله: (يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) فالفعل " يبين " قدَّر له بعض العلماء مفعولا وتقديره: يبين لكم الأحكام، والتكليفات، والأوامر الخالدة، وبعض العلماء لَا يقدر له مفعولا، على أساس أنه منزل منزلة اللازم، وعلى هذا يكون المعنى: جاء رسولنا بالبيان الكافي المشرق الكاشف للظلمة التي وقعتم فيها، وبذلك يشمل كل التكليفات، وكل ما تشتمل عليه رسالة محمد - ﷺ -، وذلك البيان كان بالقرآن الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وقد روي عن قتادة أنه قال في هذا المعنى: " (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ) وهو محمد - ﷺ -، جاء بالفرقان الذي فردا الله به بين الحق والباطل، فيه بيان الله تعالى، ونوره وهداه، وعصمة لمن أخذ به ".
الخامس - في قوله تعالى: (عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ) يقول الزمخشري: إن الجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: (جَاءَكُمْ) أي جاءكم على فترة من الرسل، وعندي أن المتعلق يكون بأقرب فعل، وهو " يبين "، والمعنى يبين لكم على فترة من الرسل، أي بعد فترة لم يكن فيها بيان، وقد جاء الرسول الكريم بهذا البيان، ويزكي هذا قوله تعالى: (أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ)
ويفسر كثيرون من المفسرين أن قوله تعالى: (عَلَى فَتْرَةٍ) معناه حين فترة، وعندي أن تفسيرها بظرف آخر، وهو " عند "، يكون أدق، لأن الرسالة كانت نهاية الفترة، فهي كانت عندهم في نهايتها، ولم تكن في حينها ووقتها، والتعبير بقوله تعالى: (عَلَى فَتْرَةٍ) فيه معنى فوقية الرسالة على الفترة، وعلوها عليها كعلو البيان على الجهل، والنور على الظلمة، وفيه لوم، لأنه يشير إلى أنه لَا يسوغ لهم أن يجحدوا رسالة محمد - ﷺ -، لأنهم ينزلون من الأعلى إلى الأدنى.
(أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِير) المقصود الواضح من هذا النص هو بيان أن حكمة مجيء الرسول هو قطع العذر على من يحتج بالجهل، وعدم معرفة
وهذا التعبير: أن تقولوا ما جاءنا من بشير... مثله قوله تعالى: (... يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، كثير في القرآن الكريم، وفيه يكون التعليل مقتضيا تقدير محذوف، فإن قولهم بنفي البشير لا يمكن أن يكون علة لإرسال الرسول إلا بتقدير محذوف ويقدره الكوفيون بتقدير لا النافية محذوفة، فيكون المعنى جاءكم رسولنا يبين لكم لئلا تقولوا: ما جاءنا من بشير، أو كيلا تقولوا: ما جاءنا من بشير، وقد اختار الطبري ذلك التقدير، ويقدره البصريون بمصدر محذوف مناسب، ككراهة أن تقولوا أو اتقاء أن تقولوا، والمعنى على ذلك، جاءكم رسولنا يبين لكم كراهة أن تقولوا، أو اتقاء أن تقولوا، وقد اختار هذا التقدير الزمخشري.
والحق عندي: أن الآية الكريمة واضحة، ومدلولها بين، لَا إبهام فيه، والمراد منها جليّ، وهو قطع العذر عليهم وإنما هذه التقديرات تخريجات نحوية لتستقيم قواعد النحو، لَا ليستبين معنى الآية، فهي بينة واضحة.
والبشير: المبشر الذي يدعو إلى الحق، ويبين الثمرات الحسنة لمن تبعه في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يبين أن المصالح تتحقق فيما يدعو إليه، وأن العزة الحقيقية تكون لمن اتبعه، والحياة الكريمة الفاضلة تكون لمن أخذ به، وفي الآخرة يبين جزاء الإحسان من جنات تجري من تحتها الأنهار، ونعيم مقيم لَا يبلى، والنذير هو الذي يبين العواقب السيئة لمن يخالف الحق، إذ يكون في اضطراب لا اطمئنان معه، وانزعاج لَا أمن معه، ويعيش في آثام مبطئة، وأوزار مثقلة، وفي الآخرة يكون العذاب الأليم، والمقت والسخط من الله تعالى.
(فَقَدْ جَاءَكم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) الفاء هنا تفصح عن كلام مقدر قبلها، قد يكون شرطا، وقد يكون غير شرط، والمعنى لَا عذر لكم، وقد قطع السبيل عليكم، فقد جاءكم الرسول الذي أرسلناه مبشرا بالحق وغايته وثمرته في الدنيا والآخرة، ومنذرا من يرتكبون المعاصي بالهوان وسوء العقبى، والاضطراب في الدنيا، والعذاب الأليم، فعليكم أن تطيعوا، ولا تحسبوا أن الخير أماني تتمنى، من غير عمل يعمل.
لقد روي في السنة عن ابن عباس أنه قال: " دعا رسول الله - ﷺ - يهود، فرغبهم وحذرهم فأبوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة، وعقبة بن وهب: " يا معشر يهود اتقوا الله، فوالله لتعلمن - أنه رسول الله - ﷺ - لقد كنتم تذكرونه قبل بعثه، وتصفونه لنا بصفته، فقال وهب بن يهوذا: إنا ما قلنا لكم هذا وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده. فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية ".
وسواء أصح هذا سببا للنزول أم لم يصح، فإن الآية قد سيقت لقيام الحجة عليهم فيما ينكرون، وأنهم مأخوذون بما يدعون إليه، فإن قاموا بحق الإسلام، واستجابوا للرسول - ﷺ - فقد نجوا، وإلا فقد هلكوا، والتنكير هنا للتعظيم في شأن الرسول - ﷺ -، ولتعظيم بشارته وإنذاره، والمعنى قد جاءكم بشير ونذير هو أعلى المبشرين المنذرين، لأنه خاتم النبيين؛ ولأنه آخر لبنة في صرح النبوة، ولأن تبشيره وإنذاره قائمان إلى يوم القيامة، فلا نبوة بعده، ولا وحي ينزل على أحد من بعده فرسالته خالدة باقية، وبشير ونذير وصفان، وقد عطف ثانيهما على الآخر لتغايرهما في المعنى والمؤدى وإن كانا وصفين لشخص واحد، كما قال تعالى:
وإن هذا الخطاب لأهل الكتاب وبخاصة اليهود مع ما فيه من بيان الحقائق، وضع الاعتذار فيه تهديد، وفيه إشارة لسلطان الله تعالى، ولهذا ختم الآية الكريمة بهذا النص الكريم: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
كان هذا ختام الآية الكريمة، وفيه إشارة إلى أمور ثلاثة: أولها - أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يختار الرسل، ويختار معجزاتهم، وعلى ذلك لَا يصح لأحد أن يدعي أنه رسول، ولا يأتي أحد من بعده إلا إذا أخبر هو عن إرادته العالية، كما هو الشأن بالنسبة لمحمد - ﷺ - أما موسى عليه السلام، فلم تكن رسالته خاتمة الرسائل، ولو كان حيا ما وسعه إلا اتباع محمد.
ثانيها - أن تغير المعجزات في دائرة قدرة الله تعالى، فهو خالقها، وهو الذي يختارها بحكمته بما يناسب كل رسول، وليس لمن كانت الرسالة موجهة إليهم أن يختاروا على الله تعالى، فهو المريد المختار، الذي لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.
ثالثها - أن الله تعالى هو وحده القادر على تنفيذ ما أمر به رسوله من تبشير وإنذار، فهو المعطي، وهو المعاقب، وهو المانح وهو المانع، وسيكون العقاب الشديد نازلا بهم إن عصوا، وليس بأمانيهم ولا أماني أهل الكتاب.
اللهم اغفر لنا ونجنا من عقابك، ولا تحرمنا من رحمتك وعفوك إنك أنت العفو الغفور.
* * *
* * *
في الآيات السابقة بين الله تعالى لجاجة أهل الكتاب في عنادهم وطغيانهم، ونقضهم العهود التي وثقت عليهم، ولَعْنَ الله تعالى لهم وطردهم من رحمته، ومكان العز لهم، وأشار إلى أن محمدا - ﷺ - لَا يزال يرى طائفة من أخلاف الحاضرين تسير على خطة السابقين من خيانة، وتظهر بما اتسموا به من قسوة جعلت قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، وذكر سبحانه للنبي - ﷺ - ما كان منهم لنبي الله موسى عليه السلام الذي أجرى الله تعالى على يده إنقاذهم من فرعون الذي كان يذئح أبناءهم ويستحيى نساءهم، ويسومهم سوء العذاب، ولقد قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري في معنى هذا:
" وهذا من تعريف الله لنبيه محمد - ﷺ - بتمادي هؤلاء اليهود في الغي، وبعدهم عن الحق، وسوء اختيارهم لأنفسهم، وشدة خلافهم لأنبيائهم، وبطء إنابتهم إلى الرشاد مع كثرة نعم الله عندهم، وتتابع أياديه وآلائه عليهم، مسليا بذلك نبيه محمدا - ﷺ -، عما يحل به من علاجهم، وينزل به من مقاساتهم في ذات الله تعالى، يقول الله تعالى له - ﷺ -: لَا تأس على ما أصابك منهم، فإن الذهاب عن الله تعالى والبعد عن الحق من عاداتهم وعادات أسلافهم.
ومعنى النص الكريم: اذكر يا محمد حال موسى مع قومه، بعد أن رأوا الآيات المحسوسة، وبعد أن نزل عليهم من النعم والآلاء، وحال قومه معه. لقد دعاهم إلى الجهاد بقوله: (يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) ابتدأ بالنداء بقوله: (يَا قَوْمِ) تذكيرا لهم بما يربطهم من رابطة الدم والقرابة التي تجعله منهم، يهمه ما يهمهم، ويسعده ما يسعدهم ويعزه ما يعزهم، فوق أنه رسول الله تعالى إليهم، وهو بهذا يقربهم إليه، ليقرب إلى نفوسهم، والتذكير كان بنعمة الله تعالى عليهم التي توجب عليهم الطاعة، وقد ذكر سبحانه وتعالى نعما ثلاثا بقوله تعالى: (إِذْ جَعَلَ فِيكمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ) نعم ثلاث بينات واضحات، فالنعمة الأولى أنه سبحانه جعل فيهم أنبياء، أي أنه سبحانه بعث فيهم أنبياء منهم يهدونهم ويرشدون، وكانوا كمصابيح في ديجور الظلام، ونورا في عمياء الضلالة، ولا منة أجل من الهداية والسير في طريق الحق، ولا نقمة أشد من نقمة الضلالة والسير في طريق الفساد.
والتنكير في قوله تعالى: (أَنْبِيَاءَ) للكثرة، اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء كثيرين، ويكون ما اختصوا به هو كثرة الأنبياء قبل موسى وبعده، ولا يقال: إن الأنبياء كانت فيهم وحدهم، لآن الله تعالى يقول: (... وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)، ويقول سبحانه: (... وَمَا كنَّا مُعَذِّبِين حَتَّى نَبْعَثَ
ويلاحظ أنه في النعمة الأولى قرر سبحانه وتعالى أنه جعل فيهم أنبياء، أي جعل بعضا منهم أنبياء، أما النعمة الثانية، فقد قال سبحانه: (وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا) أي لم يجعل الملك في بعضهم، بل جعلهم جميعا ملوكا، ولقد أوّل ذلك بعض العلماء بأن المراد جعل فيهم زعماء منهم مسيطرين على أمورهم، موجهين لشئونهم، كما طلبوا ذلك من بعد، فقد قال الله تعالى عنهم:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...).
والمراد أن يبعث عليهم كبيرا يتبعونه في القتال، ويظهر أن ذلك كان منهم من بعد موسى ومن قبله، والقائد إذا كان من الشعب أو من الجماعة كانوا جميعا ملوكا ومسيطرين على أمورهم، لأنه ينفذ إرادتهم، ويسير مع إحساسهم، ويعمل لمصلحتهم ماظهر منها وما بطن.
وقد يفسر الملك بأنه خروجهم في عهد موسى من ربقة العبودية التي فرضها عليهم فرعون، فقد صارت لهم إرادة حرة، وتوجيه لعامة أمورهم، واختيارهم لحكامهم، وبذلك صاروا ملوكا، وفوق ذلك قد أوتوا رغد العيش وصاروا أحرارا في بيوتهم، بعد أن كان فرعون يذئح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، وفي الآثار أن الرجل إذا كان له ما يكفيه وأهله بالمعروف كان ملكا. سأل رجل عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؛ قال: نعم، قال ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء،
والعالمون: جمع أُريد به العقلاء من أهل هذه الأرض، ويفترق عن مفرده بأن المفرد يطلق على كل من هو على ظهر الأرض أو في باطنها من جماد ونبات، وحيوان وإنسان، بل إنه يشمل الأرض، والسماوات قاصيها ودانيها؛ ولذلك يقول العلماء: إن المفرد هنا أعم من الجمع، لأن الجمع لَا يشمل إلا العقلاء، بينما المفرد يشمل كل شيء، والمفرد هو العالم.
وقد قال العلماء: إن المراد هو العالمون في زمانهم، أما من جاء بعدهم، فقد أعطاهم الله تعالى ما هو أكثر وأبعد أثرا، وذكر الزمخشري هذه النعم، فقال: (مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ) من فلق البحر، وإغراق العدو، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، ويصح أن يضاف إلى ذلك إنقادهم من أذي فرعون.
وهذه نعم منها ما أخذها غيرهم ومنها ما اختصوا بها كفلق البحر اثنى عشر فرقا كالطود العظيم، وإنزال المن والسلوى، فهذه قد اختصوا بها دون العالمين، وإن لم يكن أكبر مما أعطاه غيرهم من نصر مؤزر.
* * *
________
(١) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (ج ٦، ص ١٠٨) عن زيد بن أسلم.
* * *
كان تكرار النداء من موسى عليه السلام لعِظَم التنبيه، وخطر ما يدعوهم إليه، وعظم شأنه، وكان تكرار كلمة " يا قوم " للإشارة إلى أن فيما يطلبه منهم عزهم جميعا ورفعة أقدارهم، وقد قيلت أقوال كثيرة في الأرض المقدسة، وقد اتفقوا على أن معنى
ولا شك أن هذا الكلام جدير بالأخذ، لأن هذه الأرض المقدسة طُلب منهم أن يدخلوها بعد أن اجتازوا البحر الأحمر، وعبروه إلى سيناء، وسمي بعضها الوادي المقدس، كما قال تعالى مخاطبا موسى: (... إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طوًى)، وقد خصصها الأكثرون بأرض إيلياء بيت المقدس وما حوله. وقد قرر الله سبحانه أنه كتب لهم أن يدخلوا بقوله تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَكمْ) وهنا نجد المفعول غير مذكور، إلا أن المحذوف قد وجد ما يدل عليه، والمعنى كتب لكم أن تدخلوها، أي قدر لكم أن تدخلوها، وفرض عليكم دخولها لإنقاذكم من الأهوال التي نزلت بكم في أرض مصر من فرعون وأعوانه، وقد تعدى فعل كتب باللام، ولم يتعد بعلى للإشارة إلى أن ما فرضه عليهم إنما هو لأجلهم، ولحفظهم، وللإشارة إلى أنه واقع لمنع ضياعهم.
ولا يصح أن يقدر المفعول ضميرا، كما نهج بعض المفسرين، فيكون تقدير القول " كتبها لكم "، لأن مؤدى ذلك أن تكون لهم دائما، مع أن النص الكريم لا يقتضيه ولا يصرح به، إذ الذي يصرح به أنه سبحانه قدر لهم أن يدخلوها، لَا أن يكون قد كتبها وسجلها لهم.
وقد تمسك شُذَّاب اليهود بأن الله تعالى قد كتب لهم أرض الميعاد، وأن ذلك مذكور في الكتب المقدسة عندهم، والحقيقة أن الله تعالى كتب عليهم أن يدخلوا بعد أن خرجوا مصر ليجدوا فيها مأوى لهم، وإنما الأرض لله يرثها عباده الصالحون، وليسوا منهم.
ولقد كان رجوع بني إسرائيل - إذا لم يعملوا على دخول الأرض المقدسة - أن يعودوا إلى حكم فرعون، ويخسروا ما كسبوا من عزة وكرامة وحرية ويذهب عنهم، فإن البقاء على العزة يحتاج إلى مشقة الحصول عليها، ولئن ارتدوا عن العزة بعد نيلها، فإنهم الخاسرون، إذ لَا يرضي بالعذاب الهون إلا الأخسرون.
وإن بني إسرائيل كانوا قد ضعفت همتهم، وماتت عزائمهم؛ ولذلك أجابوا دعوة العزة بقولهم:
* * *
* * *
صح ما توقعه موسى عليه السلام منهم، وما نهاهم عنه؛ إذ إن روح التردد والهزيمة قد ملك قلوبهم، واستولى على نفوسهم، فقرروا له أنهم لن يدخلوا؛ لأن فيها قوما جبارين، والجبار في اللغة يطلق على الطويل القوي، والمتكبر، والعاتي، وهو مأخوذ من نخلة جبارة إذا كانت طويلة لَا ينال تمرها، وقد جاء في لسان العرب (الجبار من النخيل، وهو الطويل الذي فات يد المتناول، ويقال جبار إذا كان طويلا عظيما قويا تشبيها بالجبار من النخل) وجاء في مفردات الراغب أن الجبار من جبر، وهو الإصلاح بقهر وقوة.
ويكون على هذا معنى جبارين أنهم قوم غلاظ شداد عندهم قدرة على القهر، وقد قيل في الأخبار أنهم بنو عناق الذين يسكنون أمامهم في أدنى الأرض المقدسة إليهم، وهم أولو قوة، وأولو بأس شديد ولعلهم الذين قال تعالى فيهم:
امتنع بنو إسرائيل عن القتال وأكدوا المنع بثلاثة تأكيدات:
أولها - في ندائهم بقولهم يا موسى فإن ذلك النداء فيه نوع من التذليل والاستغاثة، ليسكت عنهم.
ثانيها - وصفهم لخصومهم بأنهم جبارون أي أقوياء قاهرون، وأول الوهن الذي يعتري النفوس أن يشعر المجاهد بضعفه أمام خصمه.
ثالثها - أنهم أكدوا النفي بقولهم " لن ندخلها " فهذا التعبير بـ " لن " فيه تأكيد للنفي، وجعل غاية النفي أن يخرج هؤلاء منها، وهم أقوياء فمن يخرجهم، فكأن هذا نفي مؤبد. وهم لَا يريدون قتالا، ؛ ولذلك قالوا من بعد ذلك النفي (فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ).
وهذا يدل على أنهم لَا يريدون قتالا، بل لَا يريدون دخولا؛ لأن احتمال خروجهم بعيد؛ ولذلك كان التعبير بإن الشرطية التي تفيد الشك في الخروج، والتعبير بالوصف في قولهم: (فَإِنَّا دَاخِلُونَ) يدل على إرادة الدخول من غير عمل يعملونه، ومن غير معاناة ومجاهدة.. اللهم هب المسلمين العزة والقوة وأبعِد عنهم الوهن الذي هو داء الضعفاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* * *
* * *
الكلام موصول في شأن بني إسرائيل عندما طلب إليهم موسى - عليه السلام - أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله عليهم أن يدخلوها، فقد أجابوا راهبين خائفين بأن فيهم قوما أشداء عمالقة، وأنهم لن يدخلوها ما دام هؤلاء، وهم يتكلون على الله تعالى في إخراجهم، كأن الله تعالى يخرجهم من غير عمل يعملونه وذلك لأن خنوعهم لحكم فرعون أمات فيهم روح الهمة والنخوة والمغالبة، ولأنهم أحرص الناس على الحياة، أي حياة كانت، كما قال تعالى: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ...)، ومع هذا التخاذل في جماعتهم كان فيهم من يريد أن يتقدم، ولكنهم نادرون، وليسوا كثيرين؛ ولذلك قال الله فيهم:
والتخريج الثاني - أن يكون المعنى يخافون الأعداء ويقدّرون قوتهم، ولكن أنعم الله تعالى عليهم بطاعة الله تعالى.
وذكر الزمخشري وجها آخر، وقد تبعه فيه الكثيرون، وهو أن المراد من الذين يخافون هم بعض الجبارين، والاسم الموصول موضوعه الجبابرة، والضمير محذوف يعود إلى بني إسرائيل، ويكون المعنى على ذلك أن رجلين من الجبارين الذين يخافهم بنو إسرائيل ويرهبونهم، قالوا ادخلوا عليهم، ويكون على هذا التفسير معنى أنعم الله عليهما أنه أنعم عليهما بنعمة الإيمان.
وقد رجح ذلك الزمخشري بأمرين: أولهما - أن هناك قراءة بضم الياء " يُخافون " (١) وهذا يتعين أن يكون المراد اثنين من الجبارين، وإحدى القراءتين تكون مفسرة للأخرى، والثاني - (أنعم الله عليهما) فإن الظاهر منها في هذا المقام هو نعمة الإيمان، وذلك لمن يكونون غير مؤمنين وقد صاروا مؤمنين، ولكن ذلك الأمر غير مؤكد؛ لأنها ليست مقحمة على التفسير الأول، بل لها معناها، وهو أن الله أنعم على الرجلين اللذين قالا الحق من بني إسرائيل بنعمة الصبر، وقوة العزيمة والهمة، فوق نعمة الطاعة وتجنب المعصية.
(ادْخُلُوا عَيهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ). هذه مقالة الرجلين اللذين أنعم الله تعالى عليهما فيما حكى الله تعالى عنهما، أراد ذانكم الرجلان أن يزيلا خوف بني إسرائيل من أهل هذه الأرض إذ إنهم أجسام ليس فيها قلوب قوية،
________
(١) ليست في العشر المتواترة.
ويظهر أن هذه العبارات مصدرها إسرائيلي؛ لأنها تتقارب مع نصوص التوراة التي بأيديهم، ومهما تكن صحة النسبة في هذه الأقوال، فإن الآية الكريمة لها مدلولها بعباراتها التي حكاها سبحانه وتعالى عنهم، فإن معنى قوله تعالى: (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ) أي فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، ادخلوا مفاجئين لهم فاتحين عليهم الباب، فإنهم عندئذ يصيبهم الذعر، وتأخذهم الفجاءة، ويتحيرون، فتأخذهم السيوف، وتكونون أنتم الغالبين، وفي العبارة ما يفيد تأكيد الغلب؛ لأنه عبر عن الغلب بالجملة الاسمية، وإن التي تؤكد القول.
ولا شك أن غزو قوم في دارهم فجاءة يؤدي إلى هزيمتهم، ولقد قال في ذلك بطل الحروب علي بن أبي طالب: " ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا ".
(وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) قوة النصر تعتمد على أمرين: أولهما - عمل حاسم وعزم أكيد، وثانيهما - تأييد من عند الله، وتوكل عليه وتفويض إليه، وقد بين الرجلان كما حكى سبحانه عنهما العمل الحاسم، وهو الدخول المفاجئ، والثاني هو التوكل على الله تعالى وحده حق التوكل، وألا يعتمد على أحد سواه، وألا يرجى النصر إلا منه، ولذلك قدم الجار والمجرور في قوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا) أي على الله وحده توكلوا أي هو وحده النصير: (... وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). وإن التوكل الحق لا يكون إلا من قلب مذعن مؤمن بالله مخلص له، مجيب لما يأمر وينهى؛ ولذلك قرن التوكل بقوله: (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
* * *
* * *
بعد تلك العبارات القوية المثيرة للهمم والعزائم التي نادى بها من الصفوف رجال منهم أو من أعدائهم، أنعم الله عليهم أجابوا بإجابتهم الأولى، وهي أنهم لن يدخلوا فيها، حتى يخرجوا منها، ولكنهم زادوا على الإجابة الأولى تأكيدا، وتهجما على مقام الله سبحانه وتعالى. أما التأكيد فهو إضافة كلمة " أبدا "، وإذا كانت كلمة " لن " فيها معنى تأكيد النفي فكلمة " أبدا " فيها معنى تأبيد النفي ما داموا على قيد الحياة.
(... فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) وهذه الكلمة فيها استهانة بأمر الطاعة، واستخفاف بمقام الألوهية والرسالة، وخروج عن معاني الإيمان السليم؛ لأن الله تعالى لَا يعمل أعمال البشر ويقاتل، ولكن ينصر ويخلق والقتال من أعمال العباد، كما يقول رجل لآخر: يأمرك الأمير بالذهاب بالجند والقتال، فيجيبه: قاتل أنت والأمير، ففي ذلك استهزاء بالأمير، وخروج عليه، وفى كل ذلك استخذاء من قوم جبناء؛ ولذلك ختموا كلامهم بالقعود عن القتال والثبات في أماكنهم: (إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)، وإن هذا الوصف الذي وصفوا به أنفسهم يدل على الخسة؛ لأن القعود غير البروز، والقاعد مخذل، والمجاهد عامل والقعود في وقت وجوب النشاط هذا للعمل الصالح هو وصف ذم، كما قال وصفا لأمثالهم: (... وَقِيلَ اقْعدُوا مَعَ الْقَاعِدينَ). وقال تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً...).
دع المكارم لَا ترحل لبغيتها | واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي (١) |
* * *
________
(١) في البيت أمران يراد منهما التوبيخ، أو التحضيض. ومعنى الطاعم الكاسي: من كفي طعامه وكساءه، فاكتفى ولم يسع للمكارم.
* * *
ابتدأ موسى عليه السلام قوله بالاتجاه إلى ربه الذي خلقه ورباه وكوَّن جسمه ونفسه، وذلك بالضراعة إليه، وبيان أنه أعلم بحاله، وأنه في طاعته لَا يخرج عنها، ثم قرر المعذرة، وهو أنه لَا يملك من أمرهم شيئا، وإنما الأمر كله إلى الله تعالى، وأنه لَا يستطيع أن يجعل من ضعف نفوسهم قوة، ولا من استخذائهم عزة، ولا من تقاعدهم همة، ولا يملك إلا نفسه وأخاه، فهو لَا يضمن إلا إياهما، وهما وحدهما لَا يملكان الدخول إلى هذه الأرض، والمراد بأخيه سيدنا هارون عليه السلام، وقد أكدت المعذرة بـ " إنَّ " وبالقصر، وعبر عن هارون بأخيه للإشارة إلى قوة إحساسه بأنه معه في طاعة ربه وعدم عصيانه فيما أمر (٢).
وإذا كانت تلك حاله، فهي مفترقة عن حال الذين معه؛ ولذلك الافتراق عنهم ما حكاه الله تعالى: (فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ).
________
(٢) عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ، يَقُولُ: شَهِدْتُ مِنَ المِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ مَشْهَدًا، لَأَنْ أَكُونَ صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى المُشْرِكِينَ، فَقَالَ: لاَ نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ، وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ «فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَقَ وَجْهُهُ وَسَرَّهُ» يَعْنِي: قَوْلَهُ.
رواه البخاري: المغازي (٣٩٥٢).
والمراد هنا والله أعلم؛ اجعل بيننا وبينهم فارقا في الحكم وهو العدل بيننا وبين هؤلاء الفاسقين؛ لأننا لَا نرضى بما يفعلون، ولسنا معهم في الإحساس وهذا التخاذل، فلسنا منهم في هذا، وليسوا منا في شيء وافصل بيننا وبينهم في الآخرة، كما فصلت في الحكم بيننا وبينهم في الدنيا، والمؤدى من قول سيدنا موسى هذا هو أنه يبرئ نفسه منهم، ومن عملهم وخذلانهم، والفاسق هو الخارج المنفصل بالحس أو المعنى، والمعنى: افرق بيننا وبين هؤلاء الذين خرجوا عن الطاعة، وعن مناط العزة، ورضوا بالذلة والهوان.
ولا شك أن هذه الجملة تدل على ألم موسى، واستنكاره لما هم عليه، فقال تعالى:
* * *
* * *
القول هنا هو قول الله تعالى، كما يدل على ذلك الحكم الذي حكم به، فإنه لله تعالى وحده، وكما يدل عليه من بعد ذلك قوله: (فَلا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ).
والفاء في قوله تعالى: (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ) هي فاء الإفصاح، أي التي تفصح عن شرط مقدر، والمعنى: أنهم إذا كانت حالهم كذلك من الخور، وضعف العزيمة، والخوف من أعدائهم فإنهم لَا يدخلون الآن لضعف بأسهم وشكيمتهم، فإنها محرمة عليهم تحريما واقعيا، لَا تحريما حكميا تكليفيا يتيهون في الأرض، أي يكونون في الأرض تائهين متحيرين يضطرب عيشهم وحياتهم، ولا يستقر مقامهم، بل يعيشون فرادى هائمين على وجوههم، حتى يتربى البأس في قلوبهم.
هذا خلاصة معنى النص الكريم، وهو يدل على أن الله تعالى بسنته التي سنها سبحانه وتعالى في الكون لَا يمكنهم من أن يدخلوها إلا إذا غيروا، وبدلوا حالهم من بعد الضعف قوة، ومن بعد الخور عزيمة: (... إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّر مَا بِقَوْمٍ
إن بني إسرائيل من بعد أن بعث الله تعالى إليهم من أنفسهم سيدنا موسى عليه السلام كانت كل انتصاراتهم على فرعون بأمور خارقة للعادة، وحياتهم كلها لا تخلو من خارق، فقد أنقذوا بالبحر ينفلق اثني عشر فرقا، وشربوا الماء بالعصا يضرب بها الحجر فينبثق منه اثنتا عشرة عينا لكل إنسان مشربهم، ويشكون الجوع، فيجيء إليهم المن والسلوى. وبذلك استرخت نفوسهم، والله سبحانه وتعالى لم يجعل - فيما سنه في الكون - الأمم تعيش من غير كفاح، وطلب للعزة بجهاد وعمل. فكلفهم سبحانه أن يدخلوا الأرض المقدسة، وهو يعلم حالهم، وبماذا يجيبون، وكان لَا بد أن يربيهم على الكفاح بعد الاسترخاء، وعلى طلب العزة بأنفسهم بعد الاستخذاء، فكان لَا بد من البلاء بتركهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، ويعيشون في الأخبية وينتقلون طلبا للماء والكلأ، ويحيون حياة خشنة.
ولقد قرر ابن خلدون في مقدمته إن الأمم كلما تحضرت استرخت منها العزائم حتى يغزوها من يعيشون في شظف العيش ويسيطرون عليهم، حتى يصيبهم الرفه، ويفكهوا في نعيمه، فيصيبهم ما أصاب من سبقوهم.
كان التيه الذي عاش فيه بنو إسرائيل أربعين سنة لتربى فيهم قوة البأس والعزيمة، ويستهينوا بالصعاب، فيذللوها ويتغلبوا عليها: (فَلا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) هذا تطمين لموسى عليه السلام، وبيان استجابة معذرته، وإزالة لما علق بنفسه من هم بسبب فعل قومه، وعصيانهم لأمر ربهم، ومعنى أسى حزن حزنا عميقا، يُحدث هما وغما، ومن ذلك قول امرئ القيس:
وقوفا بها صحبى عليَّ مطيهم... يقولون لَا تهلك أسى وتجمل اللهم هب لأمة الإسلام القوة والعزة والمنعة، وطلب إعزاز الإسلام بالجهاد بالنفس والمال، وألا يرهَبوا عدوَّ الإسلام، ويطيعوا قول الله تعالى ويستمعوا إليه: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُم الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
* * *
* * *
هذا النص القرآني فيه تعليل لما كان من اليهود من قبله من بسط أيديهم بالأذى للنبي - ﷺ - ونقضهم المواثيق، وقتلهم للنبيين، وادعائهم الكاذب الفضل على الناس، فإن علة ذلك هو الحسد الكمين في نفوسهم والحسد قديم في الخليقة قدم الإنسان فيها، فهذا أحد ولدي آدم يحسد أخاه، حتى في العبادة التي تقتضي تنقية النفوس وتقوى القلوب، وذلك دليل على كمون الحسد في بعض النفوس مما لا علاج له إلا الصبر على الذين تصيبهم هذه الآفة، كما صبر الأخ الذي قتله أخوه، فإذا كان في النصوص بيان لآفة الحسد، ففيها أيضا بيان لحلية الصبر والصفح والرضا بما يقدره رب العالمين من أذى المؤذين، والإخلاص لله تعالى.
وكل هذا فيه عزاء للنبي - ﷺ - يدعوه إلى الصبر، كما قال تعالى: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ ممَّا يَمْكُرُونَ).
وكما أن في النص تعليلا لما سبقه ففيه تمهيد لما يلحقه، فإنه سيجيء بعد ذلك عقوبات رادعة للذين يعيثون في الأرض فسادا، ويخرجون، ويقتلون الأنفس البريئة، ويزعجون الآمنين بالسرقات والاختطاف، ففي هذا النص يبين قسوة المعتدي ليتبين استحقاقه هو وأمثاله من عقاب ردعا وزجرا، ونكالا يمنع غيرهم من العبث؛ ولذلك كانت الآية التي أعقبت هذا النص فيها بيان لسببيته في شرعية
ولا يهمنا أن نعرف من هما، ولكن الذي يهمنا أن نعرف أن ما يومئ إليه النص من حقائق، والقصص صادق وواقع، ولكن نترك ما تركه القرآن ولا نهيم في إسرائيليات صادقة أو كاذبة، والنص القرآني واضح في مقصده من غير حاجة إلى ما يوضحه من خارجه، ويقول سبحانه: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَاً ابْنَىْ آدَمَ بِالْحَقِّ).
ومعناه اذكر خبر ابني آدم ذكرا متتابعا منسقا يشبه الكلام العظيم المتلو، وأصل التلاوة القراءة المتتابعة الواضحة في مخارج حروفها، والمصورة للمعاني في وقوفها، والمؤدى: أخبرهم بخبر الابنين بعناية، وأخبرهم بهذا الخبر الصادق خبرا قد لبسه الحق، وصار حليته، ومظهره وحقيقته، والنبأ هو الخبر العظيم ذو الشأن الذي يستدعي دراسة وعناية، ولا شك أن خبر ابني آدم (خبر له شأنه) بما فيه من قتل الأخ لأخيه من غير جريمة ارتكبت، ولا شر وقع، ولا اعتداء، بل بسبب العبادة الخالصة لوجه الله تعالى، فما كان سبب الاعتداء إلا ذلك؛ ولذا ذكر سبحانه وقت الجريمة، وهو سببها، وباعثها، مما يدل على أن القلب الخبيث لا يدفعه فعل الخير المقبول إلا إلى الأذى الممقوت، فقال:
(إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ) أي اذكرهما ذكرا حقا صادقا في الوقت الذي قربا فيه قربانا، وكانت نتيجة القربان تقبلا حسنا من
والتقبل معناه القبولى بقوة من القابل سبحانه، فهو قبول ورضا وترحيب، وقد ذكر اللفظ في الإثبات لمعنى القصد الطيب والنية الحسنة من الابن الصالح، وذكر اللفظ في النفي بقوله سبحانه: (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ). للمقابلة بين النفي والإثبات، لأن قربان ذلك الآثم لم يقبل أصلا، فنفيه منصب على أصل القبول، لا على وصفه.
وكان عدم قبوله لسوء نيته، ولنقص تقواه؛ ولأنه قصد الخبيث من ماله وأراد به التقرب، ولأنه قصد المباهاة والفخر، ولم يقصد وجه الله، ولأن قلبه متأشب بالآثام كما تبين من سوء فعله وخبثه، وعدم رحمته من بعد ذلك، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن أحدهما لم يتقبل قربانه، ولم يبين سبحانه كيف عرف أنه لم يقبل، ولقد ذكر العلماء كلاما في هذا، فقيل إن القربان تنزل عليه نار فتأكله، والآخر لَا تنزل عليه نار، وقد علم القبول بهذه الأمارة، وقال آخرون: إن ذلك كان بوحي أُوحي إلى نبي هذا الزمان، وعندي أن ذلك كان برؤيا صادقة أو بحالي المتصدق في نفسه، وقد علم من حاله أن تصدقه غير مقبول، وقد يكون بإخبار نبي الزمان إن كانا غير ولدي آدم الصلبيين (١).
وكانت نتيجة ذلك أن كان بين الأخوين تلك المجاوبات الكلامية ثم الجريمة الكبرى التي هي أعظم ما ظهر من جرائم في الوجود الإنساني، ولنذكر المجاوبة بين التقي المؤمن العادل السمح، والفاجر الباغي الظالم الحاسد، قال: (لأَقْتُلَنَّكَ). تلك كلمة الظالم الآثم الذي خلا قلبه من كل شعور بالحق، فلم
________
(١) روى البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللًهِ - ﷺ -: " لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأولِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لأنَهُ أولُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ ".
وإن هذا يدل على تصميمه على القتل، وهذا النص الموجز يبين روح الإجرام في المجرمين الذين يريدون السوء بالأخيار في المجتمع، وكلما زاد خير الأخيار، أوغل المجرمون في الشر والإيذاء، حتى أنهم ليستمرئون الشر، كما يستطيب الأخيار حب الخير، وإن هؤلاء آفة الجماعة الإنسانية، ومن تظهر مآثمه منهم تحق عليه كلمة العقاب زجرا وردعا، وتهذيبا للمجتمع وتطهيرا له، فالذين يذهب بهم فرط رأفتهم إلى الاعتذار لهم آثمون في حق جماعتهم، راضون بأن يعيش الشر في قلوب الاثمين.
(قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) تلك أول كلمة نطق بها التقي البر في مجاوبة اعتداء أخيه، أو الجهر بنية الاعتداء، وهي في ذاتها اعتداء، فقد قال كلمات أربعة، كل واحدة منها تنبئ عن إيمان مكين عميق، وتلك هي الأولى، وهذه الكلمة تفيد السبب في القبول، وترشد أخاه إلى تطهير قلبه، وإلى الاتجاه إلى ربه، وإلى الاستشعار بخشيته، وفي تلك الكلمات الطيبة معان كريمة.
فهي أولا تفيد قصر القبول بلفظ (إِنَّمَا) على المتقين، والقصر نفي وإثبات، أي أن التقوى هي سبب القبول، فإن وجدت كان القبول، وإن لم توجد انتفى القبول، وتفيد ثانيا أن عدم القبول إنما يكون من نفس المتصدق، لَا من أمر خارجي فالجزاء على قدر النية، فالتقوى دائما من القلوب.
* * *
* * *
تلك هي الكلمة الثانية، وبسط اليد مدُّها بالاعتداء، ونرى في هذا النص قسما ينبئ عن الطيبة والخلق السمح في مقابل قسم ينبئ عن الشر ونية الأذى والتصميم عليه، وهذا يصور ما بين الاخيار والأشرار من تضاد، فهو يؤكد هنا سلامة القلب وسلامة العمل، أقسم الأول على القتل، وأقسم الثاني على عدم الرد (١)، وقد أكد نفيه بهذا القسم، وبالتعبير بالجملة الاسمية في جوابي القسم؛ لأن جواب القسم: (مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ) وقد أكد النفي بأمور ثلاثة: أولها - التعبير بالوصف، فهو ينفي عن نفسه وصف بسط اليد لأجل الاعتداء؛ لأن ذلك ليس من شأنه ولا من رغباته، والثاني - التعبير (باليد) للإشارة إلى أن ما بينهما من رابطة الرحم الموصولة عنده تمنعه من أن يمد إليه يده بالأذى، والمؤكد الثالث - التعبير (لِأَقْتُلَكَ) فيه أن هذه الجريمة تنفر منها الطبائع السليمة، ولا ترضى بها العقول المستقيمة، وخصوصا إذا كان يريد قتله.
وقد أقسم الأول على الفعل فقال (لِأَقْتُلَكَ) وردد كلامه في نية الاعتداء بالفعل أيضا؛ لأن موضوع القول هو ذلك الفعل الذي كان ثمرة للنية الخبيثة من فاعله، أما النفي الذي كان من الشاب الطيب، فقد كان عن نفي الوصف، أي أنه لا يقع منه ذلك الفعل، ولا يمكن أن يقع.
________
(١) وهو القسم المفهوم من اللام الموطئة له في (لأقتلنك)، و (لئن بسطت) أي: اقسم لأقتلنك.
اقسم لئن.
وقد أجاب جمهور الفقهاء بأن التقوى في هذا المقام اختيارية، أي أنه يختار أي الطريقين. فإما أن يدفع الشر وإما أن يكون عبد الله المظلوم، ولا يكون عبد الله الظالم، وليس في كليهما ما ينافي التقوى، أما الحنفية الذين قالوا: إن الدفاع عن النفس واجب، فقد قالوا: إن السكوت واعتباره من التقوى كان شرع من قبلنا، أما شرعنا فهو واضح في قوله تعالى: (... فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ...)، ونقول: إن موقف ولدي آدم خارج عن موضوع الخلاف؛ لأن موضوع الخلاف هو في دفع الصائل الذي يجيء ليقتل، فإنه يجب دفعه، حتى لَا يستشري شره، أما هنا فأخ يهدد أخاه بالقتل، ولو أنه هدده بمثل ما هدده به لدخلا في ملحمة، ولا يدري أيهما الغالب، ويكون هذا داخلا في معنى قوله - ﷺ -: " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار "، قالوا: هذا القاتل يا رسول الله، فما بال المقتول؟ فقال - ﷺ -: " إنه كان حريصا على قتل صاحبه " (١) على أن في الصبر أجرًا وقد قال تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصَّابِرِينَ)، فهذه القضية خارجة خروجا تاما عن موضع الخلاف، وخصوصا أن الأمر بين أخوين، لا بين صائل يضرب بالسيف ابتداء من غير فرصة للموازنة والتفكير. (إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) هذه هي الكلمة الثالثة، وهي تنبئ عن الباعث الذي جعله يقف ذلك الموقف السلبي ويتخلى حتى عن الدفاع عن نفسه، والباعث
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: الإيمان.
الثانية - ذكر الله تعالى جل جلاله بلفظ الجلالة، للإشعار بأنه هو وحده، صاحب السلطان على نفسه، ولا سلطان سواه فلا يدفعه غضب أو حب انتقام إلى مخالفة أمره.
الثالثة - وصف الله جل جلاله بأنه رب العالمين، أي منشئ الكون ومن فيه، وهو يتعهدهم بالنماء والتغذية والتربية، فقتل النفس التي حرم الله تعالى قتلها هدم لما بناه الله تعالى، وتخريب في الأرض، ونشر للفساد.
* * *
* * *
تبوء هنا معناها: ترجع ويلازمك الإثم ملازمة من يقيم في مكان ويبوء إليه، وهنا نتكلم عن معنى " إثمي وإثمك " روي عن ابن عباس أن المعنى إثمي أي إثم قتلي، فهي تشبه إضافة الفعل إلى المفعول، أي الإثم الذي ترتكبه في شأني بقتلك إياي، وإثمك الأصلي الذي عوق صدقتك عن أن تقبل، فترتكب إثمين، وتضيف إلى ذنبك الأصلي ذنبا آخر، فلا تكون قد خلعت نفسك من المعاصي، بل أركست نفسك فيها، وزدتها.
وهذا الذي نختاره وهو معنى مستقيم، وروي عن الحسن أن المعنى أن يحمل يوم القيامة ما عسى أن يكون التقي قد ارتكبه من إثم، فوق آثامه الأصلية.
والزمخشري يقول في تفسير هذه الآية: (إِنِّى أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ).
وهنا قد يسأل سائل أكان من التقوى أن يريد أن يتحمل غيره الأوزار؟ ونقول: إن ذلك بيان للنتيجة لامتناعه عن مقاومة أخيه، فهو إذ أراد الامتناع عن بسط يد الأذى لأخيه فكأنه أراد النتيجة المحتومة لذلك، وهي أن يبوء بإثم نفسه وإثمه، فإن إرادة السبب كأنها إرادة للمسبب.
وقد ختم كلامه السمح بتبصير أخيه بالنتيجة النهائية، وهي أن يكون من أصحاب النار الملازمين لها الذين لَا يخرجون منها يوم القيامة، ثم يبصره بأن ذلك جزاء الظالمين، وأنه في فعلته التي يهم بفعلها، يكون ظالما داخلا في زمرة الظالمين.. اللهم جنبنا الظلم وأهله، وإنك نعم المولى ونعم النصير.
* * *
(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)
* * *
الآيات المتلوة استمرار في بيان قصة ابني آدم التي ضربها الله تعالى مثلا للشر كيف يستحكم في النفس وينتصر على نوازع الخير والمحبة فيها، وإن فيها مغالبة بين الخير والشر بين أخوين، وكان الشر معتديا، والخير مسالما وكان الخير في قلب الشرير ينازع الشر، حتى انتصر الشر في قلبه، وقد كان أخوه الخيِّر يرجو
ولقد تمت جريمة الأخ الآثم، ولكن بعد مجاوبات نفسية انتهت بانتصار الشر، ولذلك قال تعالى:
________
(١) روى ابن جرير عن الْحسن مُرْسَلًا، وعن بكر بن عبد اللَّه مُرْسَلًا قالَ النبِي - ﷺ -: " إِن اللَّهَ ضَرَبَ لكُمْ ابْنَيْ آدَمَ مَثَلًا، فَخُذُوا خَيْرَهُمَا وَدَعُوا شَرهمَا! أورده السيوطي في الجاء ج ٢، ص ٢٥٨ (٥٣٧٩).
ومعنى كلمة " طوَّعت " قال فيها مفسرو السلف معاني تدل على أن هناك مقاومة في داخل شعوره قبل أن يقع في الجريمة، وقد فسر مجاهد " طوَّعت " شجعت، وفسرها بعض التابعين بسقلت ووسَّعت، وبعضهم بزيَّنت وحسنت، وكلها يشير إلى أنه كانت هناك معركة في داخل نفسه بين الخير والشر، بين الإقدام على الجريمة، والإحجام عنها، حتى انتصرت، وقرأ الحسن بدل " طوعت " " طاوعت " وهذه الصيغة تدل على المشاركة، وهو يدل على معنى المقاومة، وقد صور السيد رشيد رضا في تفسير المنار معنى المغالبة في النفس تصويرا حسنا فقال:
" إن هذه الكلمة (طوَّعت) تدل على تكرار في حمل الفطرة على طاعة الحسد، الداعي إلى القتل، كتذليل الفرس والبعير الصعب، فهي تمثل لمن يفهمها
وإن في النص الكريم إشارة إلى هذه المعاني من حيث التردد، فقد عبر عن المقتول بقوله: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ). والمعنى: أن الأخوة، والاطمئنان إلى القرابة كانا يعارضان دواعي القتل، وعبر عن الجريمة بقوله فقتله، مما يدل على أن التطويع للحسد بعد المغالبة ترتب عليه أقوى شر في هذا الوجود، وهو إزهاق النفس التي حرم الله قتلها من غير جريمة إلا أن يكون قبول الله لقربانه جريمة عند الحاسدين.
والنص القرآني مع كل ما سبق فيه إشارة إلى شناعة الجرم في ذاته من حيث الباعث عليه ومن حيث الصلة بين القاتل والمقتول، ومن حيث ذات الفعل، فإنه أكبر جريمة إنسانية في هذا الوجود، ولكل هذه المعاني أشار القرآن الكريم بأوجه تعبير، وأدق الألفاظ، وهو سر الإعجاز، وفيه بلاغة الإيجاز مع الوضوح، وإشعاع المعاني بالنور من ثنايا الألفاظ.
(فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) أي فصار من الخاسرين بعد تلك الجريمة الكبيرة التي تحيط بها الشناعة من كل أطرافها، والتعبير بأصبح هيأ لها المقام في الكلام " لأن " أصبح " تدل على أنه كان مدركا لما ارتكب عندما أشرق نور الصبح، كأنه وقت الحيرة أو إرادة الارتكاب في ظلمة من عقله وقلبه، وفي ديجور من الظلام يشبه ظلام الليل، حتى كان الصبح المنير الذي أراه الأمور على وجهها، وأدرك في ذلك الضوء الذي جاء عند الصباح مقدار الإثم فيما فعل.
والخسران الذي لحقه هو خسران القلب المؤمن إذا أربد بالمعاصي، وطغى عليه الشر، حتى غلبه، وأركس في مهاوي الشر بسبب ضغن نفسه، وامتلاء قلبه
وهنا إشارة بيانية، وهي في التعبير بقوله تعالى: (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
فإن مؤداه أنه صار في زمرة الخاسرين الذين كسبوا السيئات وأركست نفوسهم في مهاوي الخسران، وأصبحوا، ولا منجاة لهم، ولا بقاء، لأنهم نزلوا إلى قاع الهاوية، بارتكاب أعظم الجرائم بإصرار وتصميم.
اتجه الأخ القاتل لمواراة جثة أخيه أي سترها، وقد أراد الله تعالى أن يعلمه ذلك، فبعث غرابا، ومعنى بعثه أنه أفهمه أن يفعل ذلك، وقد رأى ذلك الغراب الملهم غرابا آخر ميتا، وأراد أن يستره عن الأنظار، فأخذ يبحث في أرض أي يثيرها ويحفرها برجليه، حتى أوجد حفرة تسع الغراب الميت، فوضعه فيها، فكان هذا إعلاما للقاتل بالطريق التي يواري بها جثة أخيه.
وقد فهم بعض المفسرين من الآية أنه لم يكن ثمة غراب قد مات، أو قتله صاحبه، ولكنه رأى الغراب يبحث في الأرض عن شيء من الأشياء ليدفنه؛ لأن
والكثيرون من المفسرين على أن غرابين تناقرا فمات أحدهما، فدفنه الآخر بحفر حفرة في الأرض.
والحق أن الآية الكريمة نصت على أن الغراب قد أخذ يبحث في الأرض، حتى حفر حفرة، دفن فيها شحيئا أو طيرا ميتا، ولم تتعرض لكون المدفون طيرا أو غير طير، ولا لكون الطير مات بقتل الدافن، أو مات بسبب آخر، والآية الكريمة بينة واضحة المقصد من غير فرض واحد من هذه الفروض بعينه، وما دامت الأخبار التي لَا مناص من قبولها لصدقها غير موجودة فليس لنا أن نفرض واحدا من هذه الفروض بعينه، والفرض الواحد الذي يقتضيه بيان الغرض والمغزى هو أن نفرض أن الغراب أخذ يحفر في الأرض، حتى أتم حفرة وضع فيها شيئا، فعلم القاتل الجهول أن ذلك هو الطريق لدفن أخيه.
وأصل كلمة " يبحث " معناها كشف أو دق الأرض أو حفرها، وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني: " البحث " الكشف والطلب فيقال بحثت عن الأمر، وبحثت كذا، قال تعالى:
* * *
(فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي... (٣١)
* * *
وقيل بحَثَت الناقة الأرض بأرجلها في السير إذا شددت الوطء تشبيها بذلك.
والمعنى: أن الغراب أخذ يدق بمنقاره مثيرا للأرض، حتى حفر حفرة فيها، ثمِ دفن ما شاء أن يدفنه، وأنه دأب في ذلك وقتا طويلا بدليل التعبير بقوله (ييْحَثُ) بالمضارع بدل الماضي، لأن في التعبير بالمضارع إشارة إلى حال استمرت لا إلى واقعة وقعت فقط، فالتعبير بالمضارع عن أمر مضى لبيان أن الفعل مكث وقتا وكان مجال استمرار،
أخذ القاتل تعتريه الحسرة بعد الفعلة التي فعلها، واكتسب بها ذلك الجرم الشديد البليغ الأثر في هذا الوجود، وقد كانت حسرته للفعل الذي ارتكبه، للعجز الذي لحقه، ولصغر نفسه أمام الطائر، وهو الذي أبى واستكبر؛ لأن الله قبل قربان أخيه، ولم يقبل قربانه، وطغى على أخيه وتجبر.
والويلة والويل البلية والفضيحة، والألف في قوله تعالى: (يَا وَيْلَتَى)، هي مقلوب ياء المتكلم، مثل الألف في قوله تعالى: (... يَا أَسَفَى عَلَى يُوسفَ...). والمعنى يا " يا وليتى " أي يا فضيحتي وبليتي أقبلي فهذا وقتك، لأنى قد نزلت بي أسبابك، وهذا النداء يستعمل للتحسر وإظهار الألم النفسي، وإن هذه البلية والفضيحة اللتين نزلتا به، ويتحسر منهما، ويناديهما، وهما بين جنبيه انبعثا من قلبه، ومن فعلته التي فعلها، ومن جهله وغبائه، وعدم التفاته إلى ما يجب عليه بالنسبة لجثمان أخيه الذي كان سببا في جعله جثة هامدة، بعد أن كان لسانا نقيا وقلبا تقيا، وأخا مباركا. وقد صوَّر جهله بهذا الاستفهام التقريري الذي يصور جهله، وغفلته وحسرته، وقد حكاه الله تعالى عنه بقوله: (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي).
والمعنى: أنه يقرر عجزه عن أن يكون مثل هذا الغراب، ولكنه قال ذلك بصيغة الاستفهام للتقرير والتثبيت وللحسرة على ما وقع منه، وللأسى والألم، ولذلك عبر باللفظ (أَخِي) الذي كان يوجب المودة والمحبة بدل الحسد، وما أدى إليه من قتله، وشطر لحمه، وهو جزء أبيه، فقال سوءة أخي، وحسرته ليست
(فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) بعد أن رأى جثة أخيه بين يديه، وغفل عن أن يواريها، وأحس البلية التي وقع فيها من رؤية جثمان أخيه الطيب ملقى، وهو عرضة لسباع البهائم وسباع الطير تنهشه - أدرك مقدار الشر الذي ارتكبه، ومن المقررات العلمية أن أول إحساس بهول الجريمة أن يرى المجرم الفريسة التي افترسها، سواء أكان ذا قربى أم لم يكن ذا قربى، فما بالك إذا كان المقتول لم يرتكب إثما، بل فعل برا، ولم يكن منه شر وأذى، بل كان منه عظة وإرشاد. وإن ذوي الخبرة من رجال التحقيق يستخدمون رؤية المقتول سبيلا لاعتراف القاتل، فإنه بمجرد رؤيته تضطرب أعصابه، ويتخلى عنه ثباته وإصراره على الإنكار، وإن لم يصرح بالاعتراف، فإن قرائن الارتكاب تتكون من اضطراب ظاهر، ومن سرعة نبض، ومن اصفرار وجه، وذلك سبيل لأخذ الاعتراف الصريح، لأن صوت الفطرة المستنكر يستيقظ ويتحرك، ويظهر في حركات الجوارح، وخلجات اللسان، واضطراب الأعصاب، وسرعة النبض، ولذلك كانت الندامة التي اعترت أول حاسد وأول قاتل، وقد صار من النادمين، أي أنه دخل في زمرة النادمين، بعد أن كان في زمرة المترددين الحاقدين الحاسدين الباغين.
وإن هذا الندم لَا يعد غافرا للذنب، وإن كان أول طريق للتوبة هو الندم على الفعل الذي وقع، كما قال النبي - ﷺ -: " التوبة ندم " (١) كما روى الإمام أحمد والإمام البخاري رضي الله عنهما، وإنما كان ذلك الندم ليس من التوبة لأنه
________
(١) " الندم توبة "، رواه أحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (٣٥٨٨)، وابن ماجه: الزهد - ذكر التوبة (٤٢٥٢).
وبعد، فإن سبب هذه الجريمة الكبرى التي فتحت باب القتل والقتال هو الحسد، والحقد، وهما يأكان القلوب، ويشعلانها بالشر، كما تشعل النار الحطب، وإن ذلك الحسد كان في العبادة وقبولها، وذكر الله تعالى هذا النوع من الحسد ليبين أن الحسد كيفما كان الباعث عليه شر يؤدي إلى أقبح الشرور والآثام، وإذا كانت أول جريمة في البشرية سببها الحسد، فإن ذلك تنبيه إلى أن الباعث على أكثر جرائم هذا الوجود الإنساني هو الحسد المقيت، فالكفر بالنبيين، وخصوصا نبينا محمدا - ﷺ - كان سببه الحسد، وأكثر الجرائم بين الآحاد سببها الحسد، والحسد دائما يكون على فضل في المحسود، وعجز في الحاسد، وقَى الله العاملين شر الحاسدين.
* * *
* * *
يتنازع النفس الإنسانية نزوعان: نزوع الخير ونزوع الشر؛ ولذلك قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨).
وقال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ)، أي: أودع الله تعالى نفسه العلم بالخير والاتجاه إليه، وأودعها الشر والاتجاه إليه، فمن غلبت عليه نزعة الشر كان من الأشرار، ومن غلبت عليه نزعة الخير كان من الأخيار الأبرار، وكل ميسر لما خلق له، وما
وهذان أخوان أحدهما غلب عليه الخير، حتى أنه لم يبسط يده ليقتل أخاه، مع أنه رأى بوادر الشر، والثاني غلبه الشر، حتى أنه ليستعديه الحسد على أخيه، فيقتله، ولقد ذكر الله تعالى في سابق الآيات ما كان من ابني آدم، ويذكر هنا ما سنه من نظم ليرى فيها النازعون إلى الشر ما يردعهم، فقال تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي من جرَّاء هذه الجناية التي ارتكبها أحد ابني آدم، ودلالتها على تغلغل الشر في نفوس بعض الناس، واستعدادهم لأن تكون منهم الجريمة في كل وقت وحين، كان لابد من رادع زاجر مانع، وهو العقاب - فـ " أجل " هنا معناها جناية، وقد فسرها كذلك اللغويون في معاجمهم، فذكر ذلك ابن منظور في لسان العرب، وذكره الأصفهاني في مفرداته، فقال: والأجل الجناية التي يخاف منها آجلا، فكل أجل جناية، وليس كل جناية أجلا، يقال فعلت كذا من أجله، قال تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ)، أي من جراء ذلك، وقد فسر الأجل بالجناية أكثر المفسرين، وقد حقق الطبري الأصل اللغوي واستشهد بقول الشاعر:
وأهل ضباء صالح بينهم | قد احتربوا في عاجل أنا آجله (١) |
وقد أشار الأصفهاني إلى معنى جدير بالنظر وترديده، وهو أن الأَجْل هو الجناية التي يخاف منها آجلا، أي تكون لها عواقب وخيمة على الأشخاص، أو على الجماعات، أي الجناية التي لَا تنتهي مغبتها بوقت وقوعها، بل يكون لها آثار
________
(١) قد استعمل الشاعر التورية فعبر بـ (آجله) في مقابل (عاجل)، وأراد المعنى البعيد.
و (من) هنا للسببية، أي سبب هذه الجناية كان ما شرعه الله تعالى من شريعة القصاص الخالدة الباقية لدفع الشر إلى يوم القيامة، وعبر عن السببية بـ " مِن "، لبيان الابتداء في الحكم، فمع كون من أجل ذلك دالة على السببية وتشير إلى ابتداء الحكم، وأنه مقترن بما وقع من جريمة كان لها آجل هو شر إن لم تقمع النفوس وتردع الأهواء التغلبة الطاغية.
وهنا معانٍ بيانية تجب الإشارة إليها:
أولها - في الكلمة السامية " كتبنا "، فانها تدل على تقرير العقاب، وتسجيله حتى لَا يقبل المحو، فإن الواجب الذي يكتب يكون مسجلا على القراطيس، ويبقى أثر الكتابة باقيا غير قابل للنسيان، وفيها إضافة الفرضية والكتابة إلى الله تعالت قدرته، وجل جلاله، وتقدست ذاته، وفي ذلك إشارة إلى عظمة المكتوب المفروض، وهو شريعة القصاص فهي شريعة عظيمة تمد المجتمع بحياة هادئة مطمئنة، إذ تحميه من أوضاره أن تتغلغل في كيانه ومن شراره من أن يتحكموا في خياره.
________
(١) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (أي ابن مسعود) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ ". متفق عليه؛ رواه البخاري: أحاديث الأنبياء - خلق آدم صلوات الله عليه وذريته (٣٣٣٦)، ومسلم: القسامة والمحاربين والديات والقتل - بيان إثم من سن القتل (١٦٧٧).
وفوق ذلك ما يزال هذا المبدأ باقيا في التوراة ولم يندثر فيها، مع أنهم حرفوا ما حرفوا، والأنبياء الذين سبقوا يعقوب، وليست كتبهم قائمة في أيدي الناس في عصر التنزيل، كما بقيت التوراة مع تحريفهم فيها الكلم عن مواضعه - وكانت شريعة القصاص باقية بعد هذا التحريف.
ثم إن بني إسرائيل قد كتبت عليهم شريعة القصاص كما كتبت على غيرهم من قبلهم ومن بعدهم، ومع ذلك هم أشد الناس إسرافا في قتل الأبرياء والأطهار، وما أشبههم في قتلهم أنبياءهم ودعاة الحق بقابيل الذي قتل أخاه هابيل، فهو قتله لما ظهر فيه من خير، وهم قد قتلوا أنبياءهم، لأنهم دعوهم إلى الخير.
ثالثا - أن الله تعالى عندما بين شريعة القصاص، قد ذكر الباعث عليها، وحكمتها، وما يؤدي إليه تنفيذها، واكتفى ببيان ذلك مكتفيا بما فصلته شرائع النبيين فيها، وما أتت به من بينات؛ ولذلك قال تعالى:
ولقد تكلم العلماء في معنى هذا التشبيه، وكيف يكون قتل الواحد بغير حق مشابها لقتل الناس أجمعين، قال بعض العلماء: إن المراد نفس الإمام العادل؛ وذلك لأن قتل الإمام العادل الاعتداء فيه ليس على شخصه وحده، ولكن على كل من يسعدون بحكمه ويظلهم عدله، فمن قتله فكأنه قتلهم، إذ يصير أمرهم بورا من بعده، وتضطرب أحوالهم، وذلك قتل للجماعة؛ لأن تفريق الجماعة وحل رباطها هو موت لها، ومع سلامة ذلك التفكير، فإن قصر القتل المفسد على قتل الإمام لَا دليل عليه؛ ولذلك كان الأولى التعميم بدل التخصيص والإطلاق بدل التقييد، إذ لَا دليل من مخصص أو مقيد، فالأولى هو تفسيرها بالعموم، ويبقى مع ذلك التشبيه سليما، لَا شبهة فيه، ووجه الشبه الذي جعل قتل النفس الواحدة كقتل الناس جميعا يكون من نواح:
الأولى - أن من قتل نفسا فقد استباح حق الحياة المصون المحترم الذي حماه الإسلام، ومن استباحه في نفس واحدة فقد استباحه في نفوس الناس جميعا،
الثانية - أن وزر من قتل نفسا واحدة، كوزر من قتل ألفا.
الثالثة - أن عقاب قتل نفس كعقاب قتل الأنفس، وهو في الدنيا بالقصاص العادل، وفي الآخرة بعذاب جهنم، كما قال تعالى:
(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (٩٣)، وإذ اكان قتل نفس واحدة كقتل الناس جميعا، فإحياؤها كإحياء الناس جميعا؛ ولذا قال سبحانه: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا). في هذا النص السامي نتكلم عن أمرين: أولهما - معنى إحياء النفس، وثانيهما - معنى تشبيه من أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا. أما الجزء الأول وهو معنى الإحياء، فقد ذكر العلماء له معاني كثيرة، منها أن إحياءها بمعنى تحريم قتلها على نفسه، والامتناع عن انتهاك حرماتها، ولكن ذلك أقرب إلى المعنى السلبي، اللهم إلا أنه يقال: إنه كب نفسه عن ذلك الفعل الأثيم عندما تساوره قوة الشر دافعة خاملة له، فإن الكف حينئذ ليس عملا سلبيا، بل هو عمل إيجابي، ومنها أن معناها: من أنقذ إنسانا كان مشرفا على الهلاك في حرق أو غرق، أو مصاولة إنسان أو حيوان، فإن ذلك إحياء له، ولكن مع سلامة هذين المعنيين لا يمكن أن يكون تشبيه من يفعل ذلك سلبا أو إيجابا بإحياء الناس جميعا واضحا،
ولقد قال بعض المفسرين: إن المراد بإحياء النفس حماية نفس الإمام، ومعاونته على دفع شرور البغاة، والخارجين عليه، وإن ذلك سير على أن قتل النفس الذي يكون قتلا للجميع هو قتل الإمام، وقد بينا أنه غير الأولى.
والحق الذي نراه أن المراد بإحياء النفس، هو بالتمكين من القصاص؛ لأن الله تعالى قال: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ...).
فإحياء النفس المقتولة بالقصاص لها ممن اعتدى وقتلها، وقد وجدنا الآلوسي ذكر ذلك الرأي فقال:
" وقيل المراد، ومن أعان على استيفاء القصاص فكأنما... إلخ (١).
وبهذا يتبين بوضوح الأمر الثاني، وهو أن من أحيا نفسا قد قتلت بالتمكين من القصاص لها فقد أحيا نفوس الناس جميعا، بأن يوجد الردع العام عن القتل والاعتداء، فتحيا النفوس، وينقمع الأشرار، وهذا ما أشار إليه ما تلونا من قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ...)، (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ) يخبر الله سبحانه وتعالى أن الله تعالى أرسل الرسل لبني إسرائيل يبينون لهم الحقائق التي يقوم عليها بناء المجتمع السليم الذي تحمى فيه الدماء والأعراض، والفضيلة الإنسانية، والتي تشتمل على ما كتبه الله تعالى من أجل اعتداء أحد ابني آدم على أخيه من غير ظلم وقع منه ولا باعث على ما ارتكب إلا الحسد والحقد.
________
(١) قال الآلوسي (ج ٦، ص ١١٧): " (وَمَنْ أحْيَاهَا) أي تسبب لبقاء نفس واحدة موصوفة بعدم ما ذكر من القتل والفساد إما بنهي قاتلها عن قتلها. أو استنقاذها من سائر أسباب الهلكة بوجه من الوجوه (فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)، وقيل: المراد ومن أعان على استيفاء القصاص فكأنما إلخ ". اهـ أي: فكأنما أحيا الناس جميعا.
ثانيها - بالتعبير بأن الرسل جاءتهم، أي لاصقوهم وصاروا قريبين منهم يخاطبونهم ويحاجونهم ويبينون لهم، ولا يدعون أمرا فيه التباس إلا أزالوا لبسه، ومنعوا الاشتباه عليهم.
وثالثها - أنه سبحانه أضاف الإرسال إلى ذاته العليا، وفي ذلك بيان قدسية الرسالة، وفوق ذلك هي في ذاتها فيها حقائق واضحات منيرة للحق في ذاتها، فلها بذلك شرفان: شرف ذاتي من حقائقها، وشرف إضافي من مُنزلها. ولكن الآيات والنذر إنما تغني من يذعنون للحق ويؤمنون، والبينات مهما تكن نيرة لَا يدرك نورها إلا ذو البصيرة المستنيرة، وليس بنو إسرائيل من هذا الصنف؛ ولذا قال سبحانه:
(ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهم بَعْدَ ذَلِكَ فِى الأَرْضِ لَمُسْرِفونَ) كان العطف بـ " ثم " للإشارة إلى بعد ما بين البينات الواضحات التي جاءت بها الرسل، ونتيجتها في قلوبهم، فهي في ذاتها أمر بين ولكن نتيجتها لم تكن كحقيقتها طيبة مثمرة في قلوبهم، بل كانت كالبذر الطيب يلقى في أرض سبخة لينبت قليلا، ويخرج حبطا (١) في أكثرها، ولم يحكم سبحانه على اليهود جميعهم بأنهم كانوا جميعا مفسدين، بل حكم على كثير منهم ذلك الحكم، كما قال تعالى: (... مِّنْهمْ أُمَّة مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ منْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ).
________
(١) الأرض السَبِخة: أي ذات ملح ونز (البور). والحَبَط: أن تأكل الماشية فتكثر حتى تنتفخ بطونها ولا يخرج عنها ما فيها. الصحاح.
* * *
(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)
* * *
يبين الله سيحانه وتعالى عقب اعتداء أحد ابني آدم على أخيه، أنه سبحانه وتعالى بسبب ما استكن في النفوس من نوازع الشر والخير، وأن بعض النفوس يغلب الشر عليها، فتغلب عليها الشقوة وأنها لَا بد لها من زاجر يزجرها، ورادع يردعها، فتقرر القصاص الذي تكون فيه حياة الجماعة، والأمن من شرور أهل
وجريمة هؤلاء أقوى من جريمة القتل المجرد، لأن جريمة القتل المجرد، ليست في ذاتها تهديدا للأمن، وإن كان إهمال عقوبتها يؤدي إلى تهديد الأمن، أما هذه فإنها تهديد مباشر للأمن، فالأولى اعتداء ابتداء على الأفراد، أما هذه، فهي اعتداء ابتداء على الجماعة، لأنها تترصد السابلة في الطريق، فتقطع عليهم السبيل.
وقبل أن نخوض في بيان هذه الجرائم، وكلام الفقهاء، وأهل الخبرة في معناها، ونذكر عقوبتها في ظل القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة؛ نتكلم في معاني الألفاظ، ونتكلم على ثلاث عبارات.
أولها - في قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ) فقد كان التعبير بـ " إنما "، وهي من أوائل أدوات القصر والتخصيص، وذكر هذه الكلمات في مقام بيان العقاب الذي سارع ببيانه سبحانه هو لتأكيد العقاب، ولبيان أنه عقاب لَا هوادة فيه، وأنه لا يحل محل ذلك العقاب غيره من دية أو مال، ولا يدخله عفو، لأنه حد من حدود الله تعالى، بل هو أعظم الحدود، لأن جريمته أشد الجرائم خطرا، إذ هي
العبارة الثانية - هي قوله تعالى: (يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). ومعناها: يحاربون شرع الله ورسوله بالانتقاض على أحكامه، ومقاومة الحكام الذين يقومون على حفظ الأمن، ويقاومون الجرائم، ويكون المؤدى أن الله سبحانه وتعالى ليعتبر كل من يهدد أمن الجماعة، ويعتدى عليها بالقتل والسرقة والنهب، ويمنع السابلة محاربا لله تعالى ولرسوله، لأنه يشيع الجرائم، ويناصب أحكام الشرع ومن يقومون على تنفيذه وأنهم يقومون بكل الجرائم مجتمعين متفقين، فيكون لهم صولة تعطيهم وصف المحاربين، وكان التعبير بمحاربة الله ورسوله من نوع المجاز؛ لأن الذي يقوم بالسلب والنهب وقتل السابلة يؤدي عمله إلى نقض النظام والاطمئنان، فهو إن لم يقصد بفعله المحاربة هو يؤدي إليها، أو يقال إن ذات الفعل محاربة، فلا يكون مجازا، لقول النبي - ﷺ -: " من حارب مسلما على ماله فهو معاد لأولياء الله تعالى محارب لله ".
والعبارة الثالثة - (وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَادًا). السعي: هو الحركة السريعة المستمرة، وقوله تعالى: (فَسَادًا). هو من قبيل التمييز، أي أن سعيهم لأجل الفساد لَا لأجل الخير، وفي ذلك الكلام إبهام بعده بيان، فيكون فيه تأكيد في البيان، فذكر السعي مبهما ثم بين بأنه من نوع الفساد، لَا من نوع الخير. وإن أولئك الذين يحاربون النظام، وعقوبتهم التي ذكرها الله سبحانه وتعالى بقوله تعالت كلماته: (أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يصَلَّبُوا). إلى آخر الآية الكريمة - هم الذين يعبر عنهم في الفقه بقطَّاع الطريق، ويسمى فعلهم قطع الطريق، ويسمى الحرابة، وَيُعَنْوَنُ له بذلك في الفقة الإسلامي، والعقوبة المذكورة في النص الكريم خاصة بهم.
وهؤلاء البغاة لَا يستبيحون من الأموال والدماء إلا معسكر السلطان، إذ هم لا يحاربون غيره، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.
والخوارج: هم الذين خرجوا على الإمام العادل بتأويل، ولكنهم لا يستبيحون معسكر السلطان فقط، بل يعتبرون مخالفيهم في الرأي كافرين، بل يعتبرونهم مشركين، وهؤلاء يعاملون معاملة البغاة، يقاتلون حتى يفيئوا فإذا كانت الفيئة فالإصلاح والقسط، ورد القضب إلى أجفانها.
وقطاع الطريق، أو أهل الحرابة: وهؤلاء مجرمون يخرجون لارتكاب جرائم السلب والنهب والقتل، وسائر الموبقات، بلا تأويل يتأولونه، ولا تفسير يفسرون، بل يرتكبون ما يرتكبون إثما وعدوانا مقصودا، ولا يقصدون إلا العدوان، كالعصابات الإجرامية التي نراها معتصمة في بعض الجبال أو الكهوف، وكالعصابات التي تزعج الآمنين بقوة إرهابية.
فهي إذن أقسام متمايزة متغايرة، وما لأحد من بعد أن يخلط، فيجعل حكم واحدة الأخرى، ولا وصف واحدة الأخرى.
________
(١) رواه مسلم: الفتن وأشراط الساعة - لَا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل (٢٩١٦) عن أم سلمة رضي الله عنها، وأحمد: مسند الأنصار - حديث أم سلمة زوج النبي (٢٦٠٢٣).
أولا - المكان الذي يتخذه قطاع الطريق، فإنه يجب أن يكون في داخل الدولة الإسلامية لأنهم من رعاياها، ولأن قطع الطريق على جماعة المسلمين من غير المسلمين هو الحرب الحقيقية، وليس هو الحرابة التي تتلاقى معها في الاشتقاق؛ وتختلف عنها في حقيقتها، فإن الحرب قد اختصت بمدافعة الأعداء من خارجها، أما هذه فقد اختصت بمحاربة الفساد في داخلها، والحرابة بهذا المعنى: الخروج على المارَّة لأخذ المال على سبيل المغالبة، ولو بالقتل على وجه يمنع المرور، ويقطع الطريق سواء أكان القطع بسلاح أم بغيره مثل العصا والحجر والخشب ونحوها، لأن قطع الطريق يكون بكل ذلك.
واختلف الفقهاء في المكان الذي يتحقق به هذا أيمكن أن يكون في داخل المدينة أو القرية أم لَا يتصور إلا في خارج الأمصار كالصحارى والجبال، والبراري من المزارع الشاسعة، لقد قال أبو حنيفة: إن قطع الطريق لَا يتصور في داخل المصر، إذ يمكن الإغاثة عند الاستغاثة، ويد السلطان مبسوطة في داخل الأمصار والقرى.
ومالك والظاهرية لَا يشترطون لقطع الطريق مكانا معينا، فحيث تتحقق إخافة المارة فهي حرابة لَا فرق بين أن يكون ذلك في الفيافي والقفار، أو في
وهناك رأي ثالث، وهو أن الأمصار والقرى تصلح مكانا لقطاع الطريق ليلا، ولا يصلح نهارا إلا الصحارى والحق الذي نراه متفقا مع مرمى النص الكريم وغايته أنه حيث تحقق الوصف، وهو محاربة الله ورسوله بمحاربة الآمنين وحيث كانت القوة، وحيث كان سلطان الشر، فإن الحرابة تتحقق، وأننا نراها عيانا بيانا في مدن أمريكا وأوربا فالعصابات المخربة التي تحارب الأمن هنالك، وتغير على الآمنين تتخذ أوكارها في وسط الأمصار، وإن خفيت عن الأنظار.
وننتقل بعد ذلك إلى الأمر الثاني: وهو عددهم ونوعهم، وإنا نقول: إن الذي عليه كثرة الفقهاء أن العبرة في الأمر هو في قوة الإخافة لَا في مقدار عدد المنفذين، ولا في نوعهم أهم ذكور أم إناث، فلو أن واحدا استقر في كهف، ومعه سلاح مدمر، وكل من يمر من الضعفاء، أو من لَا حول لهم ولا سلاح استلب ماله أو نفسه فإنه يعد قاطع طريق، ولو أن جمعا فيهم ذكور وإناث تعاونوا على الإثم والعدوان وقطعوا الطريق على الآمنين وقاموا بالاستلاب غير مراعين حرمة مال، ولا عصمة دم، فإنهم قطاع طريق محاربون.
ثالثا - طريقة الإجرام أتكون بالمجاهرة والعصيان أم تكون ولو بالاختفاء، قال جمهور الفقهاء: إنه لَا بد من المجاهرة بالعصيان، والظهور علنا، حتى يتحقق معنى الحرابة، وحتى يتحقق معنى التسليم، وقال مالك: إنه تصح المحاربة بالاختفاء، كالاتفاق على القتل غيلة، والاستيلاء على الأموال بالهجوم على مكامنها خفية كالعصابات التي نسمع عنها، ويراها شبابنا على شاشة الخيالة (السينما)، والإذاعة المرئية (التليفزيون)، وقد حرر القرطبي في تفسيره رأي الإمام مالك، فقال: " والذي نختاره أن الحرابة عامة في المصر والقفر، وإن كان بعضها أفحش من بعض، ولكن اسم الحرابة يتناولها، ومعناها موجود فيها، ولو خرج بعصا في المصر يقتل بالسيف، ويؤخذ فيه بأشد ذلك، لَا بأيسره، فإنه سلب
وإن الذي نميل إليه هو مذهب مالك بلا ريب، لأن معنى المحاربة، وهو إزعاج الآمنين ثابت في الاختفاء، بل هو أمكن، كما هو ثابت في المجاهرة، بل أشد وأحكم.
رابعا - بالنسبة لجرائم المحاربة أهي مقصورة على الاعتداء على الأموال والأنفس؟ قال جمهور الفقهاء ذلك، وقال مالك رضي الله عنه، كل اتفاق على ارتكاب المعاصي يعد من قبيل الحرابة، فالاتفاق على الزنى أو فتح بيوت له يعد من الحرابة، ويستحق عقابها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقبل أن نترك الكلام في الجريمة لَا بد من الإشارة إلى أمرين: أولهما - أنه لا بد في اعتبار هذا الفعل جريمة أن يكون القائمون به مكلفين تكليفا شرعيا بأن يكونوا بالغين عقلاء، لأن الفعل لَا يوصف بأنه جريمة أو معصية إلا إذا كان الفاعل مكلفا تكليفا شرعيا، فإذا قام بالعمل صغار لَا يعدون قطاع طريق، وإذا كانوا مميزين، فإنهم يؤدبون، أو يعزرون على أن يكون تعزيرهم تأديبا، ولا يكون عقابا على ما هو مقرر في باب التعزير، وإذا كانوا مجانين، فإنهم يحجزون في المصاح أو نحوها، ولا يعزرون، لأن عقابهم يكون تعذيبا، إذ لَا تبعة يتحملونها، ولا يصلحون للتأديب لفقد عقولهم.
ثانيهما - أيعدون محاربين، ولو لم يرتكبوا جريمة من جرائم قطع الطريق، فلم يسرقوا، ولم يقتلوا، ولكن اتخذوا مكانا قصيا لكي يرتكبوا الجرائم متفقين على الفعل، وقصدوا الفعل، ولم يفعلوا، إما لأنهم لما يبدأوا، وإما لأن الأحوال لم تواتهم.
وبذلك يكون مجرد الاتفاق والأهبة للتنفيذ يعد جريمة في ذاته؛ الظاهر من أقوال الفقهاء ذلك، وسيتبين، وبذلك يكون الاتفاق الجنائي في الشريعة له مكانه من العقاب.
(أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ) هذه عقوبات أربع قد ذكرت كلها معطوفة بـ أو التي تفيد التخيير في الجملة، ولنتكلم في كل واحد منها بتفسير معناه اللغوي: التقتيل هو القتل، ولكنه ذكر بصيغة التضعيف، وهي تدل على الشدة في القتل، وذلك بعدم التجاوز عن الذين ارتكبوا ما يوجبه، وتفيد التكرار، أي أنه يقتل من يرتكبونها مهما يكن عددهم، فمن استحق القتل قتل ولو كانوا مائة قد قتلوا واحدا، ولأن التضعيف يفيد الاستمرار في التقتيل ما داموا قد استمروا في الجريمة، فكلما كان منهم قتل قتلوا، ولإثبات أنه لَا يقتل المقتول فقط، بل يقتل هو ومن يعاونه، ومن اتفق معه على جريمة من غير تفرقة بين مباشر، ومحرِّض وراض قد اتفق معهم على جريمة الخروج، و " التصليب " الصلب على مكان مرتفع يرى بعد القتل، وصيغة التضعيف تفيد التشديد في العقوبة، وإثبات أنه لَا هوادة فيها، ولا مناص منها، وتكرارها، واستمرارها، ويصلب الشخص ثلاثة أيام عبرة وردعا، وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف معناه أن لَا تكون اليد والرجل المقطوعتان من جانب واحد، بل تكونان من جانبين مختلفين، فإذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى، فمعنى من خلاف، أي من جانب خلاف الجانب الآخر، ومعنى قوله تعالى: (أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ). قال بعض الفقهاء: المراد نفيهم من الأرض التي اتفقوا فيها على الإجرام إلى أرض أخرى، ليتفرقوا، ولا يجتمعوا على ذلك الشر الذي ارتكبوه أو هموا بارتكابه، وفسر الإمام أبو حنيفة النفي بالحبس؛ لأن فيه إبعادا وتفريقا، وهو أمنع لتجمعهم، وأوغل في تفرقهم.
ذلك هو عقاب الدنيا، أما عقاب الآخرة، فهو العذاب العظيم؛ ولذلك قال تعالى: (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
هذا هو عقاب الدنيا، أما عقاب الآخرة، فهو عذاب عظيم، شديد، عظيم في شدته جزاء ما اقترفوا وإن ذلك العقاب ثابت لهم ما استمروا على غيهم، فإن تابوا فهي تجبُّ ما قبلها؛ ولذا قال سبحانه:
* * *
* * *
أي أن العقاب لمن استمروا في جريمتهم، حتى غُلِبوا، واستمكن الحاكم من جمعهم، وصاروا في قبضة يده، ولكن من تاب قبل ذلك فإن العفو يشملهم والرحمة تعمهم من الله الغفور الرحيم.
انتهينا من الكلام في عقوبات الذين نصبوا أنفسهم لمحاربة الأمن في الدولة والخروج على النظام من غير تأويل يتأولونه، ولا غاية دينية يحققونها، بل خرجوا قاصدين الإجرام لأجل الإجرام، ومحاربة الآمنين وإزعاجهم، وبينا من الذين ينطبق عليهم وصف الحرابة، واختلاف الفقهاء في ظل معاني الآية الكريمة، وفسرنا الآيتين تفسيرا لفظيا، ولكن لم نتكلم في معنى التخيير في قوله تعالى: (أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ)، ولم نتكلم في حقيقة التوبة ومعناها في هذه الآية الكريمة، كما لم نتكلم عن آثارها، وعن نوع العقوبة أهي حد من حدود، أم هي قصاص، وما أثر ذلك بالنسبة للتوبة وفي الحكم، ولا يتم جلاء ما اشتملت عليه الآيتان الكريمتان من أحكام إلا بالتعرض لهذه الأمور في إيجاز من غير إطناب.
ونبتدئ بالتخيير الذي دلت عليه " أو " في النص الكريم، أيقصد به التنويع بتنويع العقوبة على حسب الجرائم، فإذا قَتلوا قُتلوا، وإذا سرقوا قطعت أيديهم
ولقد قال بالقول الأول، وهو أن " أو " لتنويع العقوبات بتنوع الجرائم بعض الصحابة والتابعين وجمهور الفقهاء، وقال بالقول الثاني بعض التابعين، ومالك والظاهرية.
لقد روي عن ابن عباس أنه قال: (إذا قتلوا وأخذوا المال قُتلوا وصُلبوا، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا نفوا من الأرض، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا نفوا من الأرض) وبهذا القول أخذ الشافعي وأحمد وأبو حنيفة، وبذلك تكون العقوبات أربعة أقسام، مقسمة على أقسام الارتكاب، والحجة لهذا الرأي الآثار المروية عن الصحابة، والفقه في الموضوع أن هذه العقوبات لجرائم مختلفة المراتب، فيجب أن تكون تابعة لقوة الجريمة، وليس من المعقول أن جريمة الاتفاق والإرهاب تتساوى مع الإرهاب والقتل بالفعل، أو الإرهاب والقتل والسلب، أو الإرهاب والسلب بالفعل، فالعدالة توجب ذلك التنويع وعلى ذلك يكون التخيير المأخوذ من كلمة " أو " هو لتنويع العقاب وليس لمطلق التخيير، وإلا كان مؤدى التخيير أنه يجوز للإمام أن يكتفي بنفي الجناة إذا قتلوا أو سرقوا، وأن ذلك باطل بالإجماع؛ لأن السرقة توجب القطع، فكيف بالسرقة الكبرى التي يكون فيها ذلك التجمع الآثم، وإذا كان التخيير لَا يمكن أن يفسر بالتخيير المطلق لهذا المعنى، فإنه يجب أن يفسر بالتنويع، لأنَّ تفسيره بغيره يؤدي إلى ذلك الوجه الباطل، وما يؤدي إلى الباطل باطل، وإن التخيير المطلق في العقوبات إذا كان السبب الموجب للعقاب واحدا،
ولا شك أن اللفظ، وإن كان ظاهره تخيير ذي القرنين بين أي الأمرين يختار، ولكن لَا يمكن أن يكون له الحق في أي الأمرين من غير مرجح لأحدهما في الاعتبار، ومنطق العدل الذي أوجبه الله على ذي القرنين والحكام العادلين أن يعذب من أبى وفسق عن أمر ربه ليرتدع غيره وينزجر، وأن يتخذ الأمر الحسن والرفق مع من استقام أو ترجى استقامته.
وعلى ذلك لَا تكون " أو " ممحضة للتخيير، ولكنها تحتمل التخيير والتنويع، وقد ورد النص النبوي والآثار الصحاح عن الصحابة الذين تلقوا علم النبوة عن
________
(١) روى ابن جرير الطبري (ج ٦، ص ١٣٢) عن ابن عباس، قوله تعالى: (إنما جَزَاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّة وَرَسُولَه...) إلى قوله: (أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ) قال: إذا حارب فقَتَل، فعليه القتل إذا ظُهِر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ المال وقَتَل، فعليه الصلب إن ظُهِر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ ولم يقتل، فعليه قطع اليد والرجل من خلاف إن ظُهِر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخاف السبيل، فإنما عليه النفي.
وهذا هو الرأي الأول الذي يقوم على أن التخيير هنا ليس مطلقا، ولكنه منوع تبعا لقوة الجريمة، أما الرأي الثاني فهو يقرر أن " أو " للتخيير المطلق، وأن الإمام له الحق في اختيار أي عقوبة من هذه العقوبات، فإما أن يقتلهم لمجرد إزعاجهم للآمنين، ليجتث من أول الأمر شأفتهم، كما أن له أن يقتل السارقين، وأن يصلبهم ولو لم يقتلوا، والتخيير هنا فيه إجازة مطلقة لولي الأمر ليعالج الجريمة، بما يراه أقرب إلى المصلحة وإقامة الأمن على أسس سليمة.
ووجهة ذلك الرأي أن " أو " الأصل فيها أنها للتخيير، ولا يعدل عن الأصل إلا لما يوجب العدول، ولم يوجد ما يوجب العدول، وما ورد منسوبا للنبي - ﷺ -، ومن أقوال الصحابة فهو علاج لأحوال وقعت، والتخيير لَا يمنع ولي الأمر من أن يختار التنويع، فإن اختاره فهو من حقه، ويدخل في باب الإذن المطلق بالتخيير، فإذا اختار أن يقتل من قتل ويصلب من قتل وصلب، ويقطع فقط من سرق فهو من حقه، وليس عمل النبي - ﷺ - إلا من هذا القبيل إن صح ما نسب إليه (٢)، وهذا التنويع ليس ملزما بأصل النص، ولكن قد تلزم به المصلحة، إن رأى أن ذلك هو طريق الردع.
_________
(١) انظر السابق.
(٢) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، فَاجْتَوَوْا المَدِينَةَ «فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِلِقَاحٍ، وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا» فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا، قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَجَاءَ الخَبَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ، " فَأَمَرَ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَأُلْقُوا فِي الحَرَّةِ، يَسْتَسْقُونَ فَلاَ يُسْقَوْنَ». قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: «فَهَؤُلاَءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ". [رواه البخاري في ثلاثة عشر موضعا أولها: الوضوء - أبوال الإبل (٢٣٣)، ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص (١٦٧١)] كما رواه أصحاب السنن وغيرهم وله طرق.
وإن الفقه في التفرقة بين الرأيين أن الرأي الأول يحد جرائم معينة ويعتبرها موضوع قطع بفعلها أو بالشروع فيها، وهي القتل والسرقة، وأن الجرائم لَا تخلو عن ذلك؛ ولذلك كانت العقوبات مترددة بين القطع والقتل، وأنه قد يكون ثمة تغليظ إذا ارتكبت الجريمتان معا، وإن كان الشروع بالتجمع واتخاذ الأسباب، فإن العقوبة تكون بمنع الجريمة من الوقوع باتخاذ أسباب الوقاية بالنفي من الأرض بالتغريب أو زجه في غيابات السجون؛ ولذلك كان التنويع، وكان تخريج " أو " على ذلك الأساس، ليكون التكافؤ بين الجريمة والعقوبة، وإن لم تكن جريمة كانت الوقاية.
أما الرأي الثاني - فهو يتجه إلى أن عقوبة الحرابة لذات الحرابة والسعي في الأرض بالفساد، ومنع الناس من السير والاستمتاع بأموالهم، وحرياتهم الشخصية، وظاهر هذا الرأي أنه لَا ينظر إلا إلى ذات الحرابة التي هي التخويف والإرهاب، ولا ينظر إلى الجرائم التي ارتكبوها فعلا؛ ولذلك يعمم الجرائم ولا يقصرها على القتل والسرقة كالرأي الأول، ويرى أن العقوبات في جملتها هي لعلاج ذلك الشر، وحسم مادته، والقضاء على التفكير لمن يهم بمحاكاة من وقعوا فيه؛ ولذلك يجب إطلاق يد ولي الأمر، واعتبار تلك العقوبات في يده كالدواء بين يدي الطبيب يختار من أصنافه ما يراه أنجع في علاج الآفة التي أصابت الجسم الاجتماعي.
وإنا نرى الرأي الأول بالنسبة لتنويع العقاب، ونرى الرأي الثاني بالنسبة لتعميم الجرائم التي تفسد المجتمع الإسلامي، فإذا كانت عصابة تعمل لجمع الرجال على النساء، وتخطف النساء لذلك الغرض، أو كانت عصابة لتجميع المواد المخدرة المحرم دينا وقانونا تناولها فإنهم يكونون كقطاع الطريق، ويدخلون في باب الحرابة.
وقد تكلمنا في معنى هذه الآية الكريمة، وبقي أن نتكلم في أمرين: أحدهما - كيف تكون التوبة قبل القدرة عليهم، وثانيهما - عن آثار هذه التوبة.
أما عن الأمر الأول، وهو حقيقة التوبة في هذا المقام.. فنقول إن التوبة العامة تقتضي ثلاثة آمور: اثنان منها نفسيان، والآخر مادي، والنفسيان أن يعترف بالذنب ويندم عليه، وأن يعتزم ألا يعود إليه من بعد توبته. وأما الأمر المادي، فهو الإقلاع عنه بالفعل.
وبتطبيق هذا على توبة قطاع الطريق لَا يتعرض الفقهاء للناحية النفسية بل إن ذلك أمره إلى الله تعالى، ولكن يتجهون إلى الأمر المادي الذي يدل ظاهره على المعنى الباطني، وإن هذا الأمر المادي يتحقق بأمرين، أو بأحدهما أولهما - بأن يُؤمِّن الناس قطاع الطريق، ويتركوا المكان الذي يباشرون فيه جريمتهم، وثانيهما - أن يقدموا الطاعة لولي الأمر، وهنا يجيء نظر الفقهاء أيكتفون بالأمر الثاني وهو تقديم الطاعة أم لَا بد من الأمرين معا؛ اخلف الفقهاء في ذلك ففريق
ومهما يكن من أمر الاختلاف، فقد كان الاتفاق على أنه لَا بد من إنهاء قطع الطريق بالفعل، وتأمين الناس، وإلقاء السلاح.
وأما الأمر الثاني المتضمن لآثار التوبة فقد قد فرض الفقهاء حالين للتوبة قبل القدرة عليهم:
إحداهما - أن تكون التوبة قبل أن يرتكبوا أي جريمة غير مجرد الحرابة، فلم يقتلوا، ولم يسرقوا، ولم يزنوا، بل أنابوا إلى الحق قبل أن تسلط عليهم سيوفه.
وهؤلاء لَا عقوبة عليهم، لأن الحرابة قد عدلوا عنها، وهم في فسحة غير مضطرين إذا كانت قبل القدرة عليهم، ولم يتعلق بهم حق لآدمي، وحق الله تعالى موضع عفوه ورحمته؛ ولذلك قال: (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحِيمٌ). فهذا النص الكريم يقرر أن الله تعالى قد عفا عنهم، ولأن الحرابة من غير تنفيذ الجرائم أو واحدة منها يعد شروعا، أو نية للسيئة قد هموا بها، وقد عدلوا مختارين عنها بغير قوة غالبة منعتهم.
والحال الثانية - أن يكونوا قد ارتكبوا جرائم لها حدود، ولها قصاص كأن يكونوا قد قتلوا، أو سرقوا، أو زنوا على مقتضى مذهب مالك الذي أدخل في الحرابة الاتفاق على ارتكاب أي معصية من غير قصر على القتل والسرقة، فإذا كان شيء من هذه المآثم ثم تابوا قبل القدرة عليهم، فهل يسقط حق القصاص، وهل تسقط الحدود؟
قال جمهور الفقهاء: إن ما ارتكبوه من الجرائم التي تثبت حق القصاص لا يسقط؛ لأن القصاص من الحقوق التي يغلب فيها حق العبد، وحقوق العباد لا تسقط إلا أن يعفو صاحبها. وفي هذه الحال تنتقل العقوبة من حد إلى قصاص، ولا بد من أن تستوفي شروط القصاص؛ بأن يطالب ولي الدم، وله أن يعفو، وله
وإن ذلك يحتاج إلى بعض البيان.
فنقول: إن الفقهاء اتفقوا على أن السرقة تدخل في الحرابة فإذا سرقوا ثم تابوا، فإن الحد يسقط، ولكن يجب رد المال إلى صاحبه؛ لأن الحد يقبل السقوط بالتوبة، ولأن الله تعالى قد وعد بغفران ما ارتكبوا إذا تابوا فحق وعد الله وأما حق العبد فإنه لم يدخل في الوعد ابتداء، ولأن الحرابة وهي الجريمة الكبرى قد غفرت، فيغفر ما في أطوائها من حدود هي في ذاتها دونها.
وأما الحدود الأخرى من حدود المسكرات والمخدرات والقذف والزنى إذا ارتكبوها في أثناء حرابتهم، فهل تسقط؛ لقد قال الإمام مالك: الذي جعلها تدخل في ضمن أعمال المحاربين، ويعاقبون من أجلها، ويعدون محاربين، ولو قصروا عملهم على ارتكابها، كالعصابات التي تتجر في أعراض النساء، وتسمى في لغة العصر. (الاتجار في الرقيق الأبيض)، قال مالك فيها: إن التوبة تجبها، لأنها داخلة في الحرابة وهي حقوق الله تعالى، وقد وعد سبحانه بغفرانها إذا ارتكبوها وتابوا قبل القدرة عليهم، وهي حقه، وهو سبحانه غفور رحيم. وقال الشافعية: لَا تسقط؛ لأنها غير داخلة في الحرابة، والتوبة هنا تكون توبة خاصة بها، ولا تكون توبة الحرابة شاملة لها، فإن تابوا عنها توبة خاصة - والأصغر يدخل في الأكبر - بها قبلت ما عدا القذف، وقال أبو حنيفة: لَا تقبل عنها توبة ولو خاصة، وقال الحنابلة: تدخل التوبة عنها في ضمن التوبة عن الحرابة، لأنها أصغر منها.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٣٧)
* * *
في الآيات السابقات بيَّن سبحانه ما أوغر به الحسد أحد ابني آدم، حتى قتل أخاه، إذ قربا قربانا، فقُبل من أحدهما فحسده أخوه، فقتله بعد أن كانت منازعة نفسية انتهت بأن طوعت نفسه له قتل أخيه فقتله، وبهذا صور القرآن أصل الجرائم البشرية والبواعث عليها، وهو الحسد الذي يربي الضغن في النفوس وحب الاستعلاء بأي طريق الذي يسهل الظلم للقريب والبعيد من غير أي حريجة مانعة، ومن غير نفس لوامة وازعة، ولقد أشار من بعد ذلك إلى جرائم الآحاد، وجرائم
ثم بين سبحانه الطريق لمحاربة الآثام في النفس قبل أن يظهر الشر ويطفح على الألسنة والجوارح، فقال سبحانه:
(اتَّقُوا اللَّهَ) أي: اجعلوا بينكم وبين غضب الله تعالى وقاية، بحيث تكون نفوسكم في حصن لَا يدخل إليها الشر وهي فيه، وهذا الحصن هو التقوى التي تملأ القلب بذكر الله تعالى، فلا تحس النفس إلا به سبحانه مسيطرا على كل ما في هذا الوجود، وتحس به رقيبا لَا تخفى عليه خافية من خلجاتها، يعلم ما يخفى كل إنسان وما يعلن، وما يسر به وما يجهر، فيتجه إليه سبحانه وتعالى كأنه يرى ربه في كل عمل يعمله، فإن لم يكن يراه سبحانه فإنه يراه، كما قال النبي - ﷺ -: " اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (١).
________
(١) سبق تخريجه.
(وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) هذه هي النقطة الثانية من الخط المستقيم الذي لَا عوج فيه، فالنقطة الأولى ملء القلب بذكر الله تعالى وخشيته، وجعلها دائما في إحساس برقابته، وإنه يترتب على إدراك هذا الجزء من الخط المستقيم الوصول إلى النقطة الثانية، وهي طلب ما يتوسل به إليه لنيل رضاه وإدراك حق طاعته، فالوسيلة: هي ما يتوسل بها إلى رضا الله تعالى، وهي طاعته راغبا فيها محبا لها قاصدا إليها، وزكى لذلك طلبها بقوله تعالى: (وَابْتَغُوا) أي اطلبوا رضاه وطاعته سبحانه طلب من يحبه ويبغيه لثواب، وتلك أعلى الدرجات، ومن دون ذلك له فضل كبير ما دام قد طلب رضا الله تعالى.
فالوسيلة على هذا هي الطاعة برغبة، ولقد قال في ذلك الأصفهاني: " الوسيلة التوصل إلى الشيء برغبة لتضمنها لمعنى الرغبة قال تعالى: (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ). وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم والعبادة، وتحري مكارم الشريعة، وهي كالقربة، والواسل: الراغب إلى الله، وعلى هذا التفسير اللغوي القرآني يكون معنى الوسيلة: الطاعة والتقرب إلى الله تعالى وطلب مرضاته. وقد جاءت بهذا المعنى في آية أخرى هي قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ...). وعلى ذلك تكون النقطة الثانية من صراط الحق وخط الإيمان المستقيم هي الطاعة وطلب رضا الله تعالى وحده.
وهنا مسألة لفظية نشير إليها، وهي تقديم الجار والمجرور في قوله جل جلاله: (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ).
وإنه قد جاء في العبارات الإسلامية معنى للوسيلة على أنها درجة من أعلى الدرجات في الجنة، بل أعلاها، وهذا المعنى متلاق مع أصل المعنى، وهو التقرب إلى الله والتوسل إليه وحده بالطاعات، ولقد كان من الدعاء الذي يردد في الآذان ما رواه البخاري: فقد روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: " من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلَّت شفاعتي له يوم القيامة " (٢). وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله - ﷺ - يقول: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ، فإنه من صلى على صلاة صلى الله تعالى عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لَا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الوسيلة حلت له الشفاعة " (٣).
________
(١) سبق تخريج ما في معناه من حديث.
(٢) رواه البخاري: الأذان - الدعاء عند النداء (٦١٤)، وبلفظ: " إلا حلّت ": الأذان - الدعاء عند الأذان (٦٨٠) عن جابر رضي الله عنه.
(٣) رواه مسلم: الصلاة - استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه (٣٨٤)، والترمذي: المناقب - في فضل النبي - ﷺ - (٣٦٤١)، والنسائي: الأذان - أملاة على النبي - ﷺ - (٦٧٨)، وأبو داود: الصلاة - إذا سمع ما يقول المؤذن (٥٢٣)، وأحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن عمرو (٦٥٣٢).
والشعبة الثالثة من شعب الجهاد العمل على حماية المجتمع من الظلم الخارجي، ونشر لواء المحبة والمودة بين الشعوب، وجعل العدل يسود العلاقات الدولية، ومدافعة الظالمين، وذلك النوع من الجهاد ذو ثلاث شعب، أولاها - نصر الحق بين العالم بالدعوة إليه باللسان والقلم، ومقاومة الشر من أن يستشري بالدعاية للحق والعدل ودفع الظلم، والثانية - مد الضعفاء بأسباب الحياة ومعاونتهم، والثالثة - مقاومة الظلم بالحرب العادلة دفعا للظالمين، كما قال تعالى: (... وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذو فَضلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).
ولقد قال النبي - ﷺ -: " جاهدوا المشركين بأنفسكم وألسنتكم وأموالكم " (١).
________
(١) سبق تخريجه.
إن تلك هي الثمرة المرجوة لهذه النقط الثلاث التي تكوِّن ذلك الخط المستقيم النير، وهو سبيل الله تعالى سبيل الفوز والنجاح، وأطلق، فلم يقيد بفلاح الدنيا، ولا بفلاح الآخرة؛ ولذلك كان شاملا، فإن الإنسانية إذا تهذبت نفوس الآحاد فيها، فاتخذت وقاية تمنعها من سخط الله تعالى، وإذا اتجهت إلى طلب رضاه والعمل في طاعته سبحانه، وصارت لَا تعمل إلا لله تعالى وابتغاء مرضاته، وجاهدت لإعلاء كلمة الحق في شتى نواحيه، وترابطت برباط المودة والمحبة والعدل والفضيلة - إذا كانت الإنسانية كذلك علا ابن الأرض في هذه الأرض، وعم الصلاح واندفع الفساد، وتحققت خلافة الإنسان فيها.
والرجاء في قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) من الناس لَا من الله، أي أن المؤمنين إذا اتقوا الله وطلبوا مرضاته وجاهدوا في سبيله، كانت حالهم حال من يرجو الفوز، بل إن عليهم أن يرجوه، لأنهم ساروا في طريقه، وأنه يتميز رجاء المؤمنين حينئذ عن خيبة الكافرين الذين لم يسيروا في ذلك الخط المستقيم؛ ولذا ذكر سبحانه حالهم في مقابل حال المؤمنين، فقال سبحانه:
* * *
* * *
في هذا النص الكريم يبين سبحانه المقابلة بين جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين، فالمؤمنون يفوزون في الدنيا بنعيم الاطمئنان، والإحساس بالرضوان من الله تعالى، ونصره سبحانه، وتأييده، وفوز الآخرة بالنعيم المقيم، أما الكافروفي فإنهم إن نالوا ظاهرا من الحياة الدنيا، يستقبلهم في الآخرة عذاب مقيم دائم مستمر وإنه لو وزنت الدنيا بحذافيرها، وكل ما فيها بعذاب يوم القيامة، ما ساوت شيئا في جانبه وإنهم لو ملكوا الدنيا بما فيها، وأرادوا أن يقدموه فداء لأنفسهم من عذاب القيامة، ما قبل منهم ذلك، بل يرد عليهم ما يقدمون.
(لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) والافتداء تخليص النفس، والعمل على الحفاظ عليها بمال أو أي نفيس يبذل في سبيل ذلك الخلاص، والمعنى الجملي: لو ثبت أن الذين كفروا يقدمون كل ما في الأرض تخليصا لأنفسهم ومثله معه في قيمته وكمه ما قبله الله تعالى منهم؛ لأن الجزاء الذي ادخره الله تعالى لهم من عذأب أليم يتكافأ مع ما في الدنيا مضافا إليه مثله، وهم لو ملكوا كل ذلك لقبلوا أن يقدموه، فكيف وهم لا يملكون إلا قدرا ضئيلا لَا يساوي ذرة صغيرة في هذه الدنيا، والله لَا يتقبل ذلك الفداء مهما يكن قدره؛ لأنه قرر العذاب المؤلم المؤكد، وقد أكد نفي القبول بقوله تعالى: (مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) أي ما قبل منهم بأي قدر ولو كان ضئيلا، وكان من تأكيد النفي بصيغة التقبل، والمراد هنا من التفبل تكلف القبول، أي أنه لَا يمكن القبول، ولو بطريق المحاولة والمعاناة.
وقد أكد سبحانه وتعالى العذاب بقوله تعالى: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي أن الذين يملكونه في الآخرة بدلا في مقابل ما كانوا يملكون في الدنيا عذاب مؤلم مستمر لَا يزول ولا يفارقهم، وهم يريدون أن يخرجوا منه، وهو ملازمهم لا يفارقهم؛ ولذا قال سبحانه:
* * *
* * *
صور الله سبحانه وتعالى حالهم بهذا النص الكريم، وهو أنهم اجتمع لهم العذاب الشديد المؤلم، والرغبة في الخروج منه، ولكنه أمر لازم غير قابل للانفصال عنهم، فهم يريدون راغبين ملحفين أن يخرجوا من النار وعذابها الشديد، وكلما نضجت جلودهم بدلهم الله تعالى جلودا غيرها، وهم يريدون
أي أنهم يريدون أن يقع الخروج على أي صورة كان، فهم يطلبون الخروج من العذاب، ولو كان بعده الموت، وقد نفَى الله تعالى الخروج بنفي الوصف، لا بنفي الفعل فقال: (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ) أي أنه ليس من شأنهم أن يخرجوا، ولا يصح أن نثبت لهم وصف الخروج، لأن العذاب هو الجزاء الحق الوفاق لما ارتكبوا، فلا يسوغ أن يقع الخروج منه أبدا، وقد أكد سبحانه بقوله تعالى: (وَلَهُمْ عَذَابٌ مقِيمٌ).
هذا النص الكريم يفيد دوام ذلك العقاب من غير زمن محدود، بل هو دائم ملازم ثابت، وهنا نصان كريمان متقابلان: أولهما - قوله تعالى: (وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيمٌ) قد وصف فيه العذاب صراحة بأنه مؤلم، وجاء الثبات من صيغة اللفظ بوزن فعيل، ثانيهما - هذا النص وقد وصف بالإقامة والاستمرار والدوام صراحة، وفُهِم الإيلام من التعبير بكلمة " عذاب ".
ولا شك أن العذاب المؤلم الدائم هو الجزاء لمن فرط في أمر دنياه، وجعلها رجسا وفسوقا، فقد اشترى هذه الحياة الفانية، بالحياة الباقية، فكان حقا أن يجعل الله تعالى جزاءه أن يحرمه من كل ما في الحياة الآخرة من الخير، ويذيقه وبال أمره جزاء وفاقا لما قدمت يداه، واجترح من سيئات.. اللهم اكتب التوبة لنا، ولا تؤاخذنا بما يفعل السفهاء منا، واغفر لنا وارحمنا، إنك أنت الغفور الرحيم.
* * *
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ
* * *
بين الله سبحانه وتعالى مقدار الإثم في الاعتداء على أنفس الآحاد، وذكر سبحانه وتعالى أن من قتل نفسا، فقد اعتدى على حق الحياة عند كل الناس، (فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا). ومن أحياها بالقصاص لها، فكأنما أحيا الناس جميعا؛ لأنه يمكن للناس من حياة رافهة هادئة، فيها أمن وفيها استقرار واطمئنان، كما قال سبحانه في آية أخرى، (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ...)، ثم ذكر سبحانه وتعالى، الجريمة الكبرى في الاعتداء على الجماعة وخرق حرمات النظام، والانتقاض على الحكام الذين يقيمون الحق والعدل والشرع، وارتكاب القتل والسرقة والاعتداء على الأموال والأنفس والأعراض، وانتهاك الحرمات من غير أي حريجة دينية، وبين أنهم ينالون أقسى العقاب، لأنهم يرتكبون أفحش الجرائم وأفجرها.
وقد ذكر سبحانه وتعالى أن العقوبات لَا تكفي وحدها لإيجاد مجتمع فاضل، بل لَا بد من تهذيب الأرواح بالتقوى وطلب الوسائل الفاضلة، والغايات العالية، وأن يعرفوا أن عقاب الدنيا يهون بجوار عقاب الآخرة، وقد بين بعد ذلك العقوبة المقررة للاعتداء على الأموال، بعد أن ذكر عقوبة الاعتداء على الأنفس منفردة، ثم اجتماع الجرائم بالاعتداء على الأنفس والمال، والخروج على النظام.
وقد توسطت بين هذين النوعين من العقوبة آية الأمر بالتقوى وتذكر الآخرة وما فيها، الأن في ذلك بيانا بأن الصلاح الأول للمجتمع هو اجتثاث الجريمة من
والمعنى فرض عليكم، فيما فرض، حكم السارق والسارقة، كما فرض عليكم من قبل حكم الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك الحكم بقوله تعالت كلماته: (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا). والفاء هنا للربط بين الكلام، وهي في معنى بيان السببية الرابطة بين الجريمة والعقوبة، فهي تبين أن سبب قطع الأيدي هو السرقة وكونهم قد اتصفوا بها، وكان ثمة تجانس بين الجريمة والعقوبة فاليد التي امتدت بالأخذ سرقة هي التي تصير موضعا للعقاب، وهو القطع.
وقد بين سبحانه وتعالى الباعث على ذلك العقاب، كما ذكر السبب، فالسبب المباشر هو السرقة، والحكمة أو الوصف المناسب هو ما اشتمل عليه قوله تعالى: (جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ) أي أن ذلك العقاب هو كفاء لما كسبا من فعل شيء له آثار سيئة، وإن ذلك العقاب نكال أي زجر من الله تعالى لمنع هذه الجريمة وتقييد الأيدي، حتى لَا ترتكبها.
وظاهر الأمر أن قطع اليد لَا يمكن أن يكون كفاء لليد المقطوعة، ولكن عند النظر الدقيق يتبين أن المقابله ليست بين ذات القدار المسروف، وبين اليد
ونريد أن نقف للكلام في أمرين في معنى نكال، وفي السرقة التي تعد جريمة توجب قطع اليد.
ونقول: إن معنى كلمة نكال الزجر والمنع، فهو منع للغير من الارتكاب، وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني في أصل معنى كلمة نكال واشتقاقها: يقال نكل عن الشيء ضعف عنه وعجز، ونكلته قيدته، والنكل قيد الدابة. وحديدة اللجام لكونهما مانعين، والجمع الأنكال، قال تعالى: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا). ونكلت به إذا فعلت ما ينكل به غيره (أي يمنع غيره من أن يفعل فعله) قال تعالى: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لّمَا بيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا...). وقال: (جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ الَلَّهِ).
وقال - ﷺ -: " إن الله يحب النكل على النكل أي الرجل القوي على الرجل القوي " (١).
________
(١) جاء في النهاية في غريب الحديث جزء ٤، ص ١٧٦ (نكل) " إن الله يُحِب النَّكَلَ على النَّكَل)، قيل: وما ذاك؟ قال: " الرجُل القويُ المُجَرِّب المُبدِئ المُعيد، على الفرس القويّ المُجرَّب " النَّكَل بالتحريك: من التنكيل، وهو المنع والتنحِيَة عما يريد.
والآن نتكلم عن معنى السرقة التي توجب قطع اليد، وهنا ننتقل من المعنى اللغوي للكلمة، إلى المعنى الشرعي المستمد من أقوال النبي - ﷺ - ومن المأثور عن صحابته، ومما فهمه السلف من فقهائنا الأمجاد، رضي الله تبارك وتعالى عنهم.
لقد اتفق علماء الشريعة على أن السرقة أخذ المال على سبيل الاستخفاء، وهذا معنى فقهي يلتقي مع المعنى اللغوي، ولكن الفقهاء زادوا قيدا في هذا المعنى، وهو أن يكون الأخذ من حرز مثله، أي يكون المال محرزا مصونا محفوظا معنيا بحفظه العناية التي تليق، وقد قال الفقهاء رضي الله عنهم: إن الأخذ على سبيل الاستخفاء هو ركن السرقة، وكون الأخذ لمال محزر محفوظ حفظا يليق بمثله شرط لاستحقاق العقوبة المحدودة التي ذكرها الشارع الحكيم.
وإذا كانت السرقة لَا يتحقق ذكرها إلا إذا كان الأخذ على سبيل الاستخفاء، فإنه لَا يكون المغتصب سارقا، ولا يكون المختلس سارقا، وقد فرقوا بين المختلس والسارق فقالوا: إن السارق يكون مختفيا غير معلوم للمسروق منه، أما المختلس فإنه لَا يكون مختفيا، بل يكون ظاهرا ولكن يأخذ في غفلة من صاحب المال، والجمهور على أن الاختلاس لَا يعد من السرقة فلا تقطع فيه اليد، ولقد خالف الجمهور إياس بن معاوية القاضي، وأوجب القطع على اعتبار أن فيه نوع استخفاء، وإن كان في العمل، ولم يكن في الشخص، وأن لذلك الرأي وجاهته من ناحية العمل، ومن ناحية المعنى.
وإن ذلك غير الرواية الراجحة عن الإمام، بل إن الرواية الراجحة مع الجمهور، والحق هو أنها لَا تعتبر سرقة وإلا اعتبر جحود الحقوق سرقة موجبة للقطع، لأنه لَا فرق بين جحود العواري والودائع، وجحود الديون وسائر الحقوق المالية. وإن الفارق بين السرقة وجحود العواري كبير، فإن السرقة أخذ، وهذه منع للحقوق، والفرق بين المنع والأخذ كبير، وهذه أخذت بتمكين من المالك، والسرقة أخذ بغير تمكين من المالك.
هذا هو أصل معنى السرقة في ذاته، وهذا القدر قد اتفق عليه العلماء في الجملة، وقد اختلف العلماء من بعد في الشروط الواجبة للحد، ولنذكر بعض هذا الاختلاف:
* فقد اشترط أكثر أهل العلم لتحقق السرقة الوجبة للقطع أن يأخذ المسروق ويخرج به من مكان حرزه، ومقتضى تحقق السرقة مع هذا الشرط، أن يدخل ويأخذ مستخفيا، ويخرج من المكان الذي فيه المال إلى خارجه فإن ضبط قبل أن يخرج به لَا يقام عليه الحد. وقد خالف في اشتراط الخروج بالشيء من حرز - إبراهيم النخعي التابعي، وفقهاء أهل الظاهر.
في وقد اشترط الحنفية وبعض الفقهاء أن يكون الدخول إلى مكان الحرز بغير إذن صاحبه، فلو كان بإذنه وسرق لَا تقطع يده، فالضيف إذا سرق من مضيفه لا تقطع يده؛ لأنه دخل بإذنه، فلم يحدث هتك حمى الحرز وكأن هؤلاء يشترطون
________
(١) العواري: جمع عارية، وفي القاموس المحيط (عور): والعَارِيةُ، مُشَددَةً وقد تُخَففُ، والعَارَةُ: ما تَدَاوَلُوهُ بَيْنَهًم. الجمع: عَوَارِيّ، مُشَدَّدَةً ومُخَففةً.
(٢) عَنْ سَعِيد بْنِ الْمُسَيَّبِ ان امْرَاةً مِنْ بَنِي مَخْزُوم اسْتَعَارَتْ حُلِيا عَلَى لِسَانِ أنَاس فَجَحَدَتْهَا فَأمَرَ بِهَا النبي - ﷺ - فَقُطِعَتْ. رواه النسائي: قطع السارق - ما يكون حرزا وما لَا يكون (٤٨٩٢).
* ويظهر أن الكثيرين من الفقهاء يشترطون مع ذلك أن يكون المكان المسروق منه في وسط الأحياء العامرة في المدائن أو القرى، ليتحقق معنى الحرز والمحافظة، وكذلك قرروا أن البيوت التي تكون في البساتين أو الطرق أو الصحراء وليست في العمران إذا لم يكن بها أحد وسرقت مع اتخاذ المغاليق، وضبط الأبواب، لَا يكون ثمة قطع يد؛ لأن من ترك متاعه في مكان خال من الناس والعمران لَا يعد حافظا له، وإن أغلق بابه وأحكم الإغلاق.
بينا في هذا معنى السرقة الموجبة للقطع من حيث ذات الفعل، وبقي أن نتكلم في محل السرقة، ، وهو المال المسروق، فليس كل مال يؤخذ ولو كان محرزا ومحفوظا، وبين الناس، يعد أخذه موجبا للقطع، وقد قالوا: إن المسروق يجب أن يكون مالا متقوما، لَا شبهة فيه، ولا قصور في ماليته بأن يكون مما يتموله الناس، ويعدونه لأغراضهم المختلفة، ويتنافسون في طلبه، وعلى ذلك لا يصح أن يكون المال من توافه الأموال كالتراب والطين وما يشبههما مهما تبلغ قيمته.
ولا بد أن يكون المال المسروق مملوكا لمن سرق منه ملكية قطعية لَا شبهة فيها، فلا قطع في أخذ مال مباح، ولا في المال الذي كان أصله مباحا، وامتلك بالإحراز كالماء والصيد (١).
وهناك نوعان من المال قرر الفقهاء أنه لَا يقطع من أخذهما استخفاء من حرز مثلهما:
________
(١) روى الترمذي: الحدود - ما جاء في درء الحدود (١٣٢٤) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ادْرَءُوا الحُدُودَ عَنِ المُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي العَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي العُقُوبَةِ ". وَفِي الْبَاب عَنْ أبِي هُرَيرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو.
والذين لم يقيموا الحد، وهم الأكثر عددا بنوه على أساس أن لكل مسلم حقا فيه، فهو مال الجماعة كلها، وإذا كان كذلك فللآخذ حق أو شبهة حق، والحدود تسقط بالشبهات.
وإن الرأي الذي يوجب الحد أحرى بالقبول، حتى لَا تكون أموال الأمة نهبا للناس ينالونها من غير أي حريجة دينية، ويحسبون أنهم يأخذون حقا لهم، وإن لم يكن مقسوما، فالأولى بالحماية مال الله حتى لَا تمتد إليه الأيدي الآثمة، ولعل النبي - ﷺ - لم يقم الحد على الرقيق الذي كان غنيمة إذ أخذ منها؛ لأن الحرز لم يكن ثابتا بالنسبة له، وللرفق بالرقيق الذي لم يكن على علم بالشرع وما يجب عليه، ولأن حماية مال الدولة أوجب رعايته، لأن ما سرقه من حيثما القيمة دون ما ينقص من قيمته بقطع يده، وفوق ذلك نتلف جزءا من بيت المال بإتلاف برء
________
(١) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الْخُمُسِ سَرَقَ مِنَ الْخُمُسِ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَقْطَعْهُ وَقَالَ: " مَالُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا ". رواه ابن ماجه: الحدود - العبد يسرق (٢٥٩٠). والخمس أي خمس الغنائم المفروض لله ورسوله.
ويجب التنبيه هنا إلى أنه إذا لم يقم الحد عند من لَا يقيمونه تجب عقوبة شديدة، وإن لم تكن قطع اليد، ولتكن الجلد أو الحبس، أو النفي من الأرض، أو ما يراه ولي الأمر عقابا رادعا، ونكالا مانعا.
ثاني الفرعين من المال الذي لَا يكون فيه قطع - كل مال يكون للسارق نوع شركة فيه أو يكون بين السارق والمسروق منه صلة تجعل لكل واحد منهما حقا في مال الآخر، وذلك يشمل ما يأتي:
(أ) سرقة أحد الاصول من الفروع، فإنه لَا قطع فيها، لأن للأب أو للأم أو الأصول نوع شركة في مال الفرع، كما قال - ﷺ -: " أنت ومالك لأبيك " (٢) وكما ورد عنه: " الولد كسب أبيه " (٣) وكل أصل أب أو أم.
(ب) إذا سرق أحد الزوجين من الآخر لَا قطع؛ لأن ثمة شركة أدبية بين الزوجين توجد ما يشبه الشركة المالية؛ ولأن مال أحد الزوجين غير محرز بالنسبة للآخر، وفي هذا الموضع خلاف كثير، ذلك القول في عمومه أرجحها وأقواها.
(جـ) لَا يقطع الفروع إذا سرقوا من مال أصولهم لمعنى الشركة الذي بيناه فهو من الجانبين، وقانون التساوي في المعاملة يوجب ألا يقطع الفرع إن سرق من الأصل، كما لَا يقطع الأصل إن سرق من الفرع.
________
(١) السابق.
(٢) عَن جَابِرِ بْنِ عَبْد اللَّهِ أن رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِن لِي مَالا وَوَلَدًا وإِن أبِي يُرِيدُ أنْ يَجْتَاحَ مَالِي. فَقَالَ: " أنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ " رواه ابن ماجه: التجارات - ما للرجل من مال ولده (٢٢٩١).
(٣) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: " إِن أطْيَبَ مَا أكَلَ الرجلُ مِنْ كَسْبه وَاِن وَلَدَ الرجلِ منْ كَسبِهِ ". رواه الترمذي: البيوع - الحث على الكسب (٤٤٤٩).
وهكذا نجد الحد يضيق تطبيقه إذا كان للسارق نوع حق في المال المسروق، ولو كان ضعيفا، وأنه كلما اتسع نطاق الموانع لإقامة الحد ضاق تطبيقه، وإننا لو أردنا أن نقيم حد السرقة في حال أجمع الفقهاء على وجوب إقامته فيها لوجدنا العدد يضؤل ويضيق النطاق، حتى إننا نجد أنه في كل عشرة آلاف حالة سرقة لا تقطع يد واحدة، وإنها كافية للرح والزجر في ألوف الألوف، وقد ثبت أن ما دونها لَا يزجر مثلها، ولو في هذا النطاق الضيق، والله عزيز حكيم يضع العقاب في موضع الداء، فيحسمه القليل، ولا يحتاج فيه إلى الكثير، إنه خبير بما يعملون.
وإن الفقهاء الذين قرروا أن السرقة لَا بد أن تكون من حرز، وأن يخرج بها السارق من الحرز، وألا يكون قد دخل ذلك بإذن أهله بأن يكون منتهكا للحرمات، قد قرروا كما رأيت إعفاء السارقين من العقاب إذا كانت الأموال لهم شبه حق فيها، وذلك كأموال بيت المال عند الأكثرين وأموال الآباء والأبناء، وأموال الأقارب بعضهم مع بعض والزوجة مع زوجها.
كذلك قرروا أن بعض الأموال لَا يجري فيها قطع اليد، كالأموال التي تكون مباحة، ونالها بالاستيلاء مالكها، فقد قال الأكثرون: إنه لَا قطع فيها، وأجمعوا على أن مال المحوز إذا سرق لَا قطع فيه، وذلك لأن الشركة الطبيعية لا تزال قائمة ولو بطريق الشبهة ما دام المالك هو المستولي.
ولقد قال بعض الفقهاء: إنه لَا قطع في الأموال غير القابلة للادخار أي التي يتسارع إليها الفساد، كاللحم والفاكهة الرطبة واللبن والخضر غير القابلة للادخار؛ وهكذا، فقد قال أبو حنيفة ومالك والثوري: لَا قطع في هذه الأموال، والشافعي وأحمد ومن تبعهم أجازوا القطع في هذه الأمور.
وإنك إذا تلمست الصور التي اتفق الفقهاء على وجوب القطع فيها بالنسبة للشروط الواجبة للاستيفاء في الفعل، وفي الأموال تجد تلك الصور نادرة، لَا تقع في كل خمسمائة سرقة واحدة متفق على وجوب القطع فيها، ويزيد ندرة الصورة المتفق عليها اختلاف الفقهاء في نصاب السرقة.
وقد اتفق الفقهاء في الجملة على أن اليد لَا تقطع إلا إذا بلغ المسروق قدرا من المال، فقد اتفق الرواة على أن النبي - ﷺ - قطع يد السارق فيما قيمته مجنّ، (وهو ما يتقي به المقاتل ضربات العدو) فقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قطع في ثمن مجَنٍّ وقد قدرته رضي الله عنها بربع دينار (١).
واختلف العلماء من بعدها في قيمته، والأكثرون على أن قيمته ربع دينار، فأقل مقدار تقطع فيه يد السارق ما قيمته ربع دينار، ولكن الحنفية قدروا النصاب بعشرة دراهم، كما روي عن ابن مسعود: أنه لَا قطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم، ولأنه قد اختلف في تقدير المجن، فقيل قيمته أربعة دراهم، وقيل قيمته ربع دينار، وقيل قيمته دينار، والاحتياط يوجب الأخذ بالأكثر وتقدير أم المؤمنين عائشة اجتهاد منها يعارضه اجتهاد عبد الله بن مسعود، فيؤخذ به؛ لأنه أكثر احتياطا،
________
(١) عن عَائِشَةَ ان يَدَ الَارِقِ لَمْ تُقْطَعْ عَلَى عَهْدِ النبِيِّ - ﷺ - إِلا فِي ثَمَنِ مِجَن حَجَفَة أوْ تُرْس. [متفق عليه؛ رواه البخاري: الحدود - والسارق والسارقة (٦٧٩٢)، ومسلم: الحدود - حد السرقة ونصابها (١٦٨٥).
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَ النَّبِي - ﷺ - " تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُع دِينَارٍ فَصَاعِدا ". [متفق عليه، رواه البخاري: الحدود - السابق (٦٩٨٩)، ومسلم: السابق (١٦٨٤).
فقد قرر بعض الباحثين أن كلمة " السارق "، و " السارقة " وصفان وليسا فعلين، والوصف لَا يتحقق في الشخص إلا بالتكرار، فلا يقال لمن ظهر منه الجود مرة أنه جواد، ولا لمن وقع منه الكذب مرة ولم يتكرر كذاب، ولا للفاسق الذي لا يقول الحق، والمنافق الذي يخفي ما لَا يبريه إذا صدق مرة أنه صادق أو صدوق، إنما تقال هذه الأوصاف لمن يتكرر منه فعلها، حتى تكون اسما له وعنوانا يعرف به.
وبتطبيق هذا القول على من تقع منه السرقة لَا يكون مستحقا للقطع إلا من تكررت منه السرقة، وعلى حد تعبير القانونيين يكون ذلك العقاب للسارق العائد.
ويزكي هؤلاء الباحثون نظرهم - أولا - بأنه ثبت في أخبار المخزومية التي سرقت وأمر النبي - ﷺ - بقطع يدها (١) أنها كانت معتادة السرقة، لأنها كانت معروفة بأنها لَا ترد الودائع التي تودعها، ولا العواري التي تستعيرها، فكان الأمر بالقطع من النبي - ﷺ - واقعا على امرأة قد اعتادت الاعتداء على الأموال بجحود الودائع والعواري والسرقات.
وثانيا - أنه روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه.. لما أراد قطع يد شاب سرق قالت له أمه: اعف عنه يا أمير المؤمنين، فإن هذه أول مرة، فقال عمر
________
(١) عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمُ المَرْأَةُ المَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ، قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا ". [متفق عليه، رواه البخاري: الحدود - كراهية الشافاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان (٦٧٨٨)، ومسلم: الحدود.
وثالثا - بأن كثيرين من الفقهاء اعتبر توبة السارق قبل إقامة الحد عليه تسقط الحد، فلا يقام عليه، ولا تكون التوبة عند التكرار، بل يكون موضعها عند الارتكاب الأول، ولنتكلم في موضوع التوبة فقد قال تعالى:
* * *
* * *
الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، والمعنى إذا كان قطع اليد هو العقوبة الرادعة، فإن التوبة تجبها وتقطعها في الدنيا والآخرة، أو في الآخرة فقط، فمن أقلع عن الذنب وأحس بالندم على ما ارتكبه، واعتزم على ألا يعود إليه، فإن الله سبحانه وتعالى يقبل توبته، وعبر سبحانه وتعالى عن قبوله توبته بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ).
أي أنه جلت قدرته، وتعالت عظمته يقابل عمله القلبي في التوبة، والعمل الخارجي بالإصلاح ومنع الإفساد، بعمل من جانبه سبحانه وهو أنه يتوب عليه، أي يعينه على التوبة ويقبلها، فقوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) يتضمن ثلاثة معان - أولها - المعاونة على التوبة إذا أخلص العبد، وخلص العمل له سبحانه، وأصلح في الأرض بعد الإفساد فيها. وثانيهما - قبول التوبة، وثالثها - تطمين التائب بتأكيد القبول.
وذكر سبحانه أن التوبة الخالصة لَا بد أن تقترن بالإصلاح؛ لأن الإذعان القلبي لَا يكون كاملا وناميا إلا إذا اقترن به العمل الصالح، لأنه يزكيه ويسقيه.
والتعبير بقوله تعالى: (مِنْ بَعْد ظُلْمه) إشارة إلى أن السرقة خاصة وارتكاب الذنوب عامة ظلم كبير، وقوله تعالي: (وَأَصْلَحَ). فيه إشارة إلى أن السرقة إفساد في الأرض والأمانة إصلاح أي إصلاح.
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بإثبات رحمته، وأنه سبحانه من صفاته الثابتة الغفران فقال: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحِيمٌ). أي أن الله يتوب على عبده إذا أذنب؛
وقد أشرنا من قبل إلى أن كثيرين من الفقهاء يقولون: إن التوبة تسقط الحد، وكانت هذه الآية الكريمة: (فَمَن تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) من شواهد ذلك.
والقول الجلي في هذا أن التوبة قبل الترافع إلى السلطان إذا صحبها رد المسروق إلى مالكه تمنع إقامة الحد بالاتفاق، ولكن الخلاف القائم بين الفقهاء في التوبة إذا كانت بعد الترافع وإثبات السرقة، فقد قال أبو حنيفة ومالك: إن التوبة لا تسقط الحد؛ لأن الأمر بالقطع عام يشمل التائب وغير التائب، والتوبة المنصوص عليها في هذه الآية هي ما يكون بعد إقامة الحد وقطع اليد، فقد قال النبي - ﷺ -: " إذا قطعت يد السارق فتاب سبقته يده إلى الجنة، وإن لم يتب سبقته يده إلى النار " وفوق ذلك فإن التوبة في السرقة كالتوبة في الزنى لا تسقط (الحد) (١)، ولقد أقام النبي - ﷺ - حد الزنى، وقال في امرأة أقام عليها الحد: " لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم " (٢). وفوق هذا وذاك الحد كفارة للذنوب في الدنيا والكفارات تجب مع التوبة.
________
(١) عن مُحَمد بن الْمُنْكَدِرِ رضيَ اللَّهُ عنهُ: " أن النَبِي - ﷺ - قطَعَ سَارِقًا، ثُمَ أمَرَ به فَحُسِمَ، ثُمَ قَالَ: تُبْ إِلى اللَّهِ، قَالَ: أتُوبُ إِلى اللَّهِ، قَالَ: اللهُم تُبْ عَلَيْهِ، ثُمَ قَالَ النبِي - ﷺ -: إِنَ السارِقَ إِذَا قُطِعَتْ يَدُهُ وَقَعَتْ فِي النار، فَإِنْ عَادَ تَبِعَهَا، وَإِنْ تَابَ اشْتَلاهَا - يَعْنِي: استَرْجَعَهَا - ". (الجامع للسيوطي ج ٢١، ص ٤٣١ (٢٠٠١١)].
(٢) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَى، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِيَّهَا، فَقَالَ: «أَحْسِنْ إِلَيْهَا، فَإِذَا وَضَعَتْ فَأْتِنِي بِهَا»، فَفَعَلَ، فَأَمَرَ بِهَا نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللهِ وَقَدْ زَنَتْ؟ فَقَالَ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ تَعَالَى؟ ". [رواه =
أ - قوله تعالى: (فَمَن تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمه وَأَصْلَحَ). وهذا النص مقترن بقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا). فكان مخصصا للعموم في الأمر بالقطع، وإلا ما اقترن به.
بـ - أن الله تعالى اعتبر التوبة مانعة من إقامة حد الحرابة (١)، والحرابة فيها جرائم سرقة وقتل وسرقاتها كبيرة، فكيف تقبل التوبة في السرقات الكبرى، ولا تقبل في الصغرى.
د - ما ورد في الآثار الصحاح مما يثبت أن التوبة تجب ما قبلها، وقد قال - ﷺ -: " التائب من الذنب كمن لَا ذنب له ".
د - أن التوبة السريعة تدل على أن النفس لم تدنس بالرجس، وقد قال تعالى في تحقيق هذا المعنى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّه للَّذينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بجَهَالَةِ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبً...).
والذي نراه في هذا الموضوع أننا نأخذ برأى الإمامين أبي حنيفة ومالك في الذين يعدون عائدين، فإن هؤلاء لَا تقبل منهم توبة. ولا تأخذ العدالة فيهم رأفة، أما الذين لم يكونوا عائدين، فإن التوبة تعفيهم من العقاب إقالة لعثرتهم، ونأخذ في أمرهم برأي أكثر الشافعية والحنابلة.
وإذا كان لنا أن نطالب بإقامة حدود الله، وهو واجب علينا، فإننا إذا طالبنا بإقامة حد السرقة نطالب به في الحدود الآتية:
_________
= مسلم: الحدود - من اعترف على نفسه بالزنا (١٦٩٦)، كما رواه الترمذي: الحدود (١٤٣٥)، والنسائي: الجنائز (١٩٥٧)، وأبو دود: الحدود (٤٤٤٠)، وابن ماجه: الحدود (٢٥٥٥)، وأحمد: أول مسند البصريين (١٩٣٦٠)، والدارمي: الحدود (٢٣٢٥)].
(١) إشارة إلى قوله تعالى في سورة المائدة (٣٤): (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وقد سبقت.
الثاني - ألا يقام الحد إلا في الحال التي اتفق الأئمة على إقامتها فيه، فلا يقام الحد، وبعض الأئمة لَا يرى إقامته.
الثالث - ألا توجد أي شبهة في الإثبات أو في غيره، والله سبحانه بكل شيء عليم، ولقد قال سبحانه:
* * *
* * *
بعد أن بين سبحانه وتعالى العقاب الذي ينزل بالمفسدين في الأرض محاربين أحكام الله تعالى والنظام الذي يقرره الإسلام، وبين أن باب التوبة مفتوح، لن يريد الإصلاح، ويقلع عن الإفساد - ذكر سبحانه وتعالى أن تلك هي أحكام العليم الحكيم، صاحب السلطان القاهر الذي هو فوق كل سلطان، وأن كل ذي سلطان مهما يكن اتساعه وسطوته، فهو في ملك الله تعالى، وأن ما يكون من عقاب أو غفران فهو من واسع حكمته، ومن شمول رحمته؛ ولذلك قال سبحانه مبينا سلطانه مخاطبا كل أهل للخطاب، أو مخاطبا النبي - ﷺ - ابتداء، ومخاطبا غيره اتباعا، وهذا ما نرجحه؛ ولذلك أردف هذا النص الكريم بقوله تعالى: (... لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ...)، كما سنتكلم في الآيات الآتية بمعونته تعالى ومشيئته.
وقوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ). هذا التعبير السامي من قبيل الاستفهام الإنكاري الذي يؤكد ما في مضمونه ويبعده عن كل احتمال، ويقال إنه للنفي، فهو نفي للجهل، ونفي الجهل تأكيد للعلم، والمعنى أبحثت الأدلة، ودرست الكون وما فيه، والخلائق ومبدعها فعلمت أن أحدا له ملك السماوات والأرض غير الله، وإذا كان بحثك وتنقيبك واستدلالك قد أدى بك إلى نفي العلم بأحد له ملك في السماوات والأرض غيره فالدليل نفسه هو الذي يؤكد علمك بأنه وحده صاحب السلطان المطلق في السماوات والأرض.
وإذا كان سبحانه وتعالى هو صاحب الملك المطلق، والحكم الذي لَا معقب له في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم، فهو وحده المنفرد ببيان العقاب الرادع، والتجاوز السمح حسب ما يرى بحكمته؛ ولذلك قال سبحانه:
ولقد كانت مشيئة الله تعالى مقترنة بقدرته، ولذلك قال سبحانه: (وَاللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو سبحانه قادر على كل شيء، فكل ما في هذا الوجود خاضع لإرادته وقدرته وسلطانه، لَا يخرج عنه شيء، ولا يعجز عن شيء؛ اللهم أظلنا برحمتك وعفوك وغفرانك، إنك على كل شيء قدير.
* * *
* * *
وبعد هذا البيان من آثار الحقد، والحسد في الجرائم الحسية ونشرها، ذكر سبحانه أثر الحقد والحسد في الجرائم المعنوية والاعتقادية، وهي التي يجمعها جحود الحق حسدا وحقدا واستكبارا، كحسد أحد ابني آدم على أخيه إذ حقد واستكبر، وذكر حقد اليهود والمنافقين على النبي - ﷺ -وحسدهم له ولقومه على ما آتاهم الله من فضله، فأرسل في العرب رسولا يدعو إلى الحق وإلى صراط مستقيم، وقد كان سياق قصة ابني آدم مبيت، استمكان الحقد والحسد في نفوس الأشرار، وإذا علم ذلك النبي - ﷺ - فلا ينبغي له أن يحزن على ما يصيبه نتيجة للحقد والحسد؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى:
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ) النداء إلى النبي - ﷺ - والنداء له عليه السلام بـ (يَا أَيُّهَا) - التي تدل على نداء البعيد مع أنه من الله قريب وهو له مجيب؛ لبيان الشأن العظيم لما يدعوه إليه ويناديه لأجله، وللموضوع الذي ينبهه إليه، وهو حال الذين يخاطبهم وتدبير الدعوة على مقتضى حالهم، وتوقع ما يقع منهم.
وقد قال فخر الدين الرازي: إن نداء الله تعالى له عليه السلام يكون بـ " يا أيها النبي " ما عدا موضعين: أحدهما - هذا الموضع، والثاني - في قوله تعالى: (يَا أيُّهَا الرسول بلغ ما أنزل اليك). وقال إن النداء: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) فيه زيادة تشريف للنبي - ﷺ -؛ لأن الرسالة أخص من النبوة، والحق أن النداء بالنبوة
وقد كان النهي منصبا لَا على ذات الحزن، بل قال سبحانه: (لا يَحْزُنكَ) أي لَا تجعلهم يدخلون الحزن على نفسك باستعظام ما يفعلون، وبذلك يندفع الاعتراض القائل أن الحزن ألم نفسي يدخل على النفس إجبارا من غير استئذان، والنهي عنه ليس نهيا عن أمر للنفس فيه اختيار، بل هو نهي عن أمر للإرادة فيه سسلطان بالصبر وضبط النفس، وتوقع الأمور قبل وقوعها فمن توقع النائبات قبل وقوعها يخف وقعها، ويسهل احتمالها، وأولئك الذين يسارعون في الكفر يتوقع منهم الشر فلا يحزن الرسول عند وقوعه، فمعنى النهي في قوله تعالى: (لا يَحْزُنكَ) يتضمن أمرين:
أولهما - قبل وقوع شر أولئك المنافقين يتوقعه، فلا يحزن إذا وقع، وثانيهما - ألا يبقى أي أثر من ألم لوقوع الشر، والمعنى الضمني لهذا النص: لَا تعبأ بما يصنع هؤلاء مما من شأنه أن يحزن، فلا ينبغي أن تحزن.
وقوله: (الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) معناه: الذين يتنقلون بحركات سريعة في دركات الكفر فينحدرون من دركة إلى دركة ويوغلون فيه إيغالا من غير مواناة ولا تدبر ولا تفكر، وهذا سر التعدية بـ " في " دون " إلى "، لأن التعدية بـ " إلى " تفيد الدخول فيه بعد أن لم يكن، أما التعدية بـ " في " فإنها لَا تفيد الدخول بعد أن لم يكن، بل تفيد الانتقال في مداخله من حال إلى أسوأ منها في سرعة من غير تفكير.
وقد بين سبحانه نوع هؤلاء الناس، فقال تعالت كلماته: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ). (مِنَ) هنا بيانية، فهي تدل على أن ما بعدها بيان للذين يسارعون في الكفر متنقلين في دركاته موغلين في الجحود، وقد كان أول وصف يدل على جحودهم الشديد، وإمعانهم في الضلال والتضليل هو أنهم يقولون: " آمَنَّا " بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وقوله تعالى بأفواههم متعلق بقوله تعالى: (قَالُوا).
وقدم قوله تعالى (آمَنَّا) على قوله تعالى (بِأفْواهِهِمْ) للإشارة إلى مسارعتهم بقول الإيمان وإعلانه وذكره، إمعانا في التضليل والنفاق، ولأن قول الله تعالى (بِأَفْواهِهِمْ)، ولو أنه متعلق بكلمة (قَالُوا) فيه حكم على ادعائهم الإيمان والحكم يتأخر دائما عن واقعة الحكم، فالواقعة قولهم (آمَنَّا)، والحكم من الله تعالى بأنه إيمان بالأفواه، لَا بالقلوب فهو إعلان عن الإذعان، ولقد أكد سبحانه وتعالى ذلك الحكم بقوله تعالى: (وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ) أي لم تذعن للحق وتسلم به وتخضع له قلوبهم، وليس المعنى لم تصدق قلوبهم؛ لأنَّ الإيمان ليس هو المعرفة الجردة، بل إنه إذعان وخضوع لما تقتضيه المعرفة ويقينها، فإن من أولئك يهودا كانوا يعرفون محمدا كما يعرفون أبناءهم، ولكن معرفتهم هذه صحبها تمرد على الحقائق، وعبث، وسير في الجحود، فلا يمكن أن يتحقق الإيمان منهم، وإن كانت لديهم المعرفة بالحقائق، إذ لم يذعنوا لها، والتعبير بالأفواه بدل الألسنة - إشارة إلى تزيين كلامهم فقط حتى صار الفَم كله يشترك في ادعاء الإيمان لَا طرف اللسان فقط.
(وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) هي داخلة في البيان الذي دلت عليه " من " الأولى، وعلى ذلك يكون هؤلاء داخلين في الذين يسارعون في الكفر، فإنهم فريقان، فريق المنافقين، وفريق اليهود الذين
وفى الحق، إن القراءتين (٢) مقصودتان من حيث المعنى، والقراءة الأولى معناها مقصود بالنص، والقراءة الثانية (كذلك) وكلتاهما قرآن يتلى ويفهم، ويراد معنى، كُلا ومنفردا.
وقوله تعالى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ). هو وصف للفريقين على إحدى القراءتين، أو على مجموع القراءتين، وسمَّاع صيغة مبالغة من سامع، أي من صفاتهم التي صارت فيهم خصلة من خصالهم أنهم كثيرو سماع الكذب، قد استمرأته قلوبهم وأسماعهم، يجدون لذاذة في الاستماع، ويصل إلى قلوبهم
________
(١) عبر بالقراءة، وأراد الوقف (في أثناء القراءة).
(٢) أي الوقفين. والقراءات المتواترة توقيفية من عند الله تعالى.
وفى الجملة: إن في هذا تسلية للنبي - ﷺ - من حيث إن الذين يسارعون الكفر من المنافقين واليهود إذا كانوا يتنقلون في دركات الجحود، ولا يستمعون إليك، فلأنهم يجيئون إليك وقلوبهم مملوءة بالباطل، والإيمان الصافي يحتاج إلى آنية صافية من كدرة الهوى، وأخباث الشر، وإذا كان فيها شيء من ذلك فإشراق الإيمان قد يذهب به إذا لم يكن ثمة تغذية له من كلام الآخرين، واستمراء الباطل.
وقد وصف الله الذين يمرقون عن الحق مروق السهم من الرمية ويدعون إليه بقوله تعالت كلماته: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ) الكلم اسم جنسي جمعي لكلمة، فهو معناه كلام، والتحريف أصله من
واليهود حرفوا التوراة بكل أنواع التحريفات، فزادوا فيها كلمات ليغيروا المراد فيها، ففي تحريم الربا زادوا كلمة " أخاك الإسرائيلى " ليجعلوه محرما بين الإسرائيليين فقط. وحذفوا منها عبارات، وأتوا بقصص مكذوبة كقصص ابنتي لوط، وحملوا ما بقي من عبارات من غير زيادة فيها أو نقص على غير معانيها، أو جعلوها محتملة لغيرها، ورجحوا غير الظاهر على الظاهر، وحذفوا منها ما كان فيه التبشير بمحمد - ﷺ -.
وقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ). أي من بعد استقرار مواضعه، وبيان حلالها وحرامها، وفي آيات كثيرة كان التعبير القرآني، يحرفون الكلم عن مواضعه، أي يصرفونه عن مواضعه بزيادة أو نقص، والتعبير هنا هو قوله تعالمت كلماته: (مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ). أي من بعد استقرار أحكامه وهو مناسب للمقام هنا؛ لأن الموضوع، كما تدل الآيات التالية مسوقة لتغييرهم في الأحكام، ومحاولتهم العبث بها.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ما كان يقوله القوم الآخرون الذين يسمعون لهم؛ فهم يعطونهم معلومات محرفة باطلة عن التوراة وما فيها، ويقولون للسامعين لهم: إن أوتيتم هذا فخذوه، أي إن آتاكم النبي - ﷺ - بمثل هذا الذي هم عليهم فإن لهم أن يقبلوه، وأن هذا كقول الله تعالى فيهم حاكيا عنهم قوله:
(وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا). الفتنه هنا: الضلال واستهواء النفوس إليه، وذلك أن الفتنه تطلق بمعنى الاختبار الشديد، والوقوع في البلايا والشدائد والنوازل، وأن هؤلاء قد اختبرت نفوسهم بما سلط عليهم من باطل ودعوات إليه، وسقطوا في الاستجابة لهذا الشر، فكانت هذه هي الفتنة التي وقعوا فيها باختيارهم، واستهوتهم الأهواء الردية، ووقعت بهم البلايا الشديدة، وقد أراد الله تعالى أن يقعوا فيها باختيارهم، فالضلال باختيارهم وسلوكهم سبيله، وتجانفهم عن طريق الحق، والله تعالى أراد لهم ما اختاروا.
وقد بيَّن الله تعالى أن النبي - ﷺ - لَا يملك أن يزيل عنهم ذلك الضلال لأن من يرد الله فتنته وضلاله بكتابة ذلك عليه، وتسجيله في لوحه المحفوظ، فلن يملك أحد دون الله شيئا في ذلك، فلا يستطيع تغييره، وأنت يا نبي الله لا تستطيع التغيير فلا تحزن لضلالهم، ولا تهتم لما يقعون فيه: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدي مَن يَشَاءُ...). (أولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّه أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ).
إن هؤلاء الذين أركست نفوسهم في الشر والضلال، حتى صار النفاق دأبهم، وتحريف القول بعد استقرار مواضعه طريقهم، واستمراؤهم للكذب يستمعون إليه وصفهم - أولئك المتصفون بهذه الصفات لم يرد الله تعالى أن يطهر قلوبهم، ذلك أن قلوبهم اكتسبت سيئات تراكمت وتكاثفت، حتى أربدت، وخالطها الشر وأصبح ملاصقا لها كأنه جزء من كيانها، والله سبحانه يأخذ بيد من يرتكب الشر عن جهالة، أما من اكتسبت نفسه الخطايا وأحاطت به، فإنه سبحانه وتعالى يتركه، لينال جزاء ما كسبت يداه؛ ولذا قال سبحانه:
وأما الخزي في الدنيا، فهو الذل الدائم المقيم مهما يكن من مظاهر القوة، ذلك أن النفاق وحده ضعف في النفس واضطراب في العقل، وكشف لحاله مهما يكن عنده من قدرة على الإخفاء والتستر، فإن ثوب النفاق شفاف دائما، وذلك فوق ما يتسم به من جبن وخور إن لم يكن معلوما لكل الناس فإنه يكون معلوما بينه وبين نفسه، وهم يحسبون أنهم يستهزئون بالناس، والناس يعلمونهم، والله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون.
واليهود لَا يعيشون إلا في كنف غيرهم من الناس أو على خداع الناس، وحسبهم ذلك خزيا وعارا.
وقانا الله تعالى شر هذا الخزي، ووقَى المسلمين من شر النفاق والمنافقين، وحمى الأمة الإسلامية منه، وهو العليم بذات الصدور.
* * *
(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)
* * *
وقد انتقلت الآيات من التعميم إلى التخصيص، فخصت اليهود بوصف آخر غير أنهم سماعون للكذب بأنهم أكالون للسحت.
وذكر الطبري الأصل اللغوي لكلمة سحت، فقال: " وأصل السحت (٣) كَلَبُ الجوع، يقال: فلان مسحوت المعدة، إذا كان أكولا، لَا يلفى أبدا إلا جائعا،
________
(١) عَنْ أبِي أُمَامَةَ عَنْ النبِي - ﷺ - قَالَ: " منْ شَفَعَ لأَخِيهِ بِشَفَاعَة فَأهْدَى لَهُ هَدِيَةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا، فَقَدْ أتَى بَابًا عَظِيما منْ أبْوَابِ الربا " [رواه أبو داود: البيوع - الهدية لقضاء الحاجة (٣٥٤١)، وأحمد: باقي مسند الأنصار (٢١٧٤٨)]. أوردته لغلبة الغفلة عنه.
(٢) سبق تخريجه.
(٣) كما في جامع البيان ج ٦، ص. ١٤.
ونرى أن ابن جرير ذكر الرشوة فقط هنا، وإن كان السحت يشمل أكل مال الناس بالباطل، ولو كان هدية في نظير مسعى حميد كما ذكرنا عن ابن مسعود، وقد روي عن مسروق التابعي أنه شفع لرجل في حاجة، فأهدى إليه جارية فغضب غضبا شديدا، وقال: لو علمت أنك تفعل هذا ما كلمت في حاجتك، ولا أكلم فيما بقي من حاجتك، سمعت ابن مسعود يقول: " من شفع شفاعة ليرد بها حقا، ويرفع بها ظلما فأهدى له فقبل فهو سحت ".
وإن هذا الكلام المروي يبدو منه أمران: أحدهما أن كل أكل لمال الغير بالباطل يعد سحتا سواء أكان برضاه أم كان بغير رضاه. وثانيهما - أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان كانوا لفرط إيمانهم بالحق ووجوب نصرته يرون أن نصرة الحق ودفع الباطل يجب أن تكون لله، وأنه لَا يصح أخذ أجر في نظيرها، ولو كان هدية تعطى في مسمحة ومحبة، حتى لَا يرنق قول الحق بغرض من أغراض الدنيا، وحتى لَا يستغل الجاه، ولكي تعلو معنويات الأمور، ولا تسيطر مادياتها.
وإن اليهود قد اشتهروا بالسحت، وخصوصا في الحكم، وقد أرادوا من النبي - ﷺ - أن يحكم بينهم بشرعته رجاء أن يكون في حكمه ما هو أخف من حكم ما عندهم، لَا طاعة لحكمه، وخصوصا للحق عنده، ولذا قال سبحانه: (... فإن جَاءوكَ فَاحْكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) يومئ هذا النص الكريم إلى أنهم سيتحاكمون إليه، وقد تحاكموا إليه بالفعل لَا طلبا للحق والعدل، ولكن رجاء التخفيف عمن أرادوا التخفيف عنه، وروى في موضوع التحاكم الذي ذهبوا إلى النبي - ﷺ - ليحكم فيه عدة روايات تنتهي إلى خبرين:
ثانيها - أن اليهود ما كانوا يعدلون فيما بينهم، ولا تتكافأ دماؤهم في نظرهم، فكانت قريظة إذا قتلت قتيلا من بني النضير كانت تَجِب الدية كاملة في حال وجوب الدية، وإذا قتلت النضير من قريظة كانت نصف الدية لشرف في الأولى ونقص في الثانية، ويروى أنهم كانوا إذا قتل رجل من بني النضير قرظيا لا يقتل به ووجبت الدية، وإذا كان المقتول نضيريا قتل به، فكانت في عصر النبي - ﷺ - وهو بينهم دماءٌ، فتحاكموا، فحكم بالتسوية، لأن ذلك هو العدل، وهو حكم التوراة.
وقد خير الله تعالى نبيه في أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم، ولماذا كان ذلك التخيير، وإقامة العدل واجبة، وقد مكن من إقامته بتحكيمهم؟ والحقيقة أن النبي - ﷺ - كان مخيرا ذلك التخيير، ليتعرف أمرهم، فإن كانوا يريدون الحق ويطلبونه ويذعنون له استجاب للأمر وحكم، وإن كان يعلم أنهم جاءوا مغرضين في قلوبهم مرض، لَا ينفذون إلا ما يتفق مع أهوائهم وليسوا خاضعين لسلطانه - ينفذ فيهم الحق الذي يراه، أما الذين يكونون تحت سلطانه وينفذ الحق فيهم، فإنه لا تخيير بل يقضى بينهم، وكذلك الأمر من بعده - ﷺ -، ولذلك قرر الفقهاء أن
وهنا ملاحظة لفظية، وهي في قوله تعالى: (فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ).
لماذا كان التعبير بـ " إن " الدالة على الشك ولم يكن التعبير بـ " إذا " الدالة على التحقيق، مع أنهم جاءوا إليه فعلا؟ والجواب عن ذلك أن الشك كان بالنسبة لحالهم، فهم كانوا مترددين في التحاكم إلى النبي - ﷺ -، وهم بعد الحكم لم ينفذوا، فحالهم حال شك ابتداء وحال شك انتهاء، وعدم إذعان في الحالين؛ لأن في قلوبهم، كما قال تعالى في أشباههم: (أَفِي قلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّه عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ...).
ولقد زعم بعض العلماء أن الحكم الشرعي كان هو التخيير عند تحاكم غير المسلمين ثم نسخ، وصار الحكم لازما، والحق أن التخيير لَا يزال قائما بالنسبة لغير المسلمين الذين يطلبون حكم الإسلام من الحاكم المسلم لينفذوه في ديارهم، والتخيير ليتعرف الحاكم حالهم، فيحكم حتما إن كانوا طلاب حق، وله أن يرفض إن كان في قلوبهم مرض، ولا ضرر من الإعراض، ولذلك قال سبحانه: (وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا).
وإنه في حال الإعراض يصاب أولئك الذين يريدون الحكم لهواهم لَا للحق في ذاف - بخيبة أمل قد تحرك فيهم عناصر الضغينة والمقاومة، وإشاعة قالة السوء عن النبي - ﷺ - فبين الله سبحانه وتعالى في ذكره الحكيم أنه لَا تضره هذه الأفعال، وقد نفَى سبحانه وتعالى الضرر نفيا مؤكدا بـ " لن " " لبيان أنهم لَا طاقة عندهم في أن يضروه، وكان نفي الضرر في هذا المقام له مغزاه، لأنَّ احتكامهم إليه - ﷺ - فيه نوع من المسالمة والإذعان في الظاهر لما جاء به النبي - ﷺ -، وهو إعلان للتصديق،
(وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) القِسط هو:
النصيب بالعدل الذي لَا وكس فيه ولا شطط، وتوصف به الأعمال الطيبة، فقد قال تعالى: (... لِيَجْزِيَ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات بِالْقِسْطِ...).
وقال تعالى؛ (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ...).
والقَسْطُ أخذ نصيب غيره، والإقساط إعطاء غيره نصيبه غير منقوص؛ ولذلك قال العلماء: إن القاسط هو الظالم، ولذا قال تعالى: (وَأَمَّا الْقَاسطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا). والمقسط هو العادل، ومنه قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). والمعنى الجملي للنص الكريم: إن اخترت أن تحكم بينهم لرجاء أن ينفذوا الحكم ويذعنوا له، فلا تتبع أهواءهم واحكم بالعدل والقسطاس المستقيم، وذلك العدل بين الله تعالى حكمه، وشرع لزومه في كتبه المقدسة فإذا كان هناك زنى فالقسط أن يحكم بالحد، لَا فرق بين شريف وضعيف، وقادر وغير قادر، بل الجميع أمام الحق على سواء، فالقسط هو إعطاء كل ذي حق حقه، وتنفيذ حدود الله تعالى بالمساواة، فلا يعفى منها شريف دون ضعيف، فإن في هذا هلاك الأمم، وذل الشعوب.
وقد ذيل النص الكريم بقضية عامة شاملة، وهي قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). وفي ذلك تزكية للعدل وتأكيد لطلبه، فقد أكد الكلام بالجملة الاسمية، وبـ " إنَ " المؤكِّدة، وبتصدير الكلام بلفظ الجلالة، وببيان أن محبة الله تعالى لَا تكون إلا للعادلين المقسطين الذين لَا يجورون، وكان التعبير بـ " إنْ " في
* * *
* * *
الاستفهام هنا للتعجب واستنكار حالهم، أي أن حالهم حال مستنكرة. عندهم النص الصريح في القضية التي يتحاكمون فيها، ومع ذلك يلتمسون الحكم في غير ما عندهم رجاء أن يكون على ما يهوون ويبتغون، وإن كان غير ما يؤمنون فهم ممن اتخذ إلهه هواه، وممن يريدون أن يتبع الحق أهواءهم، لَا أن تكون أهواؤهم تابعة للحق تسير في مداره، ولا تخرج عن إطاره، والتعجب والاستنكار يتجهان إلى أمرين:
أولهما - أنهم يتحاكمون إلى النبي - ﷺ - مع أن الحكم عندهم في التوراة صريح لَا مجال للريب، فلماذا يعدلون عن تنفيذ ما عندهم إلى طلب شيء عند النبي عليه الصلاة والسلام، إلا أن يكونوا مؤمنين بصدق ما جاء به، وذلك لم يكن منهم.
والأمر التالي - الذي هو موضوع الاستنكار والعجب أنهم يطلبون من النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يعرضون من بعد بيانه لهم. فهم متناقضون في جملة أحوالهم يطلبون الحكم ممن لَا يؤمنون بدعوته، مع أن الحكم صريح فيما يؤمنون ثم يعرضون عن الحكم الذي يتلاءم مع ما عندهم.
ويلاحظ أن القرآن الكريم يقرر أن التوراة فيها حكم الله في المسألة التي يختصمون إلى النبي عليه الصلاة والسلام في أمرها، فهي تصديق للتوراة في تلك الجزئية، وهي إقامة حد الزنى دون غيرها، فليس لأحد أن يحتج بأن القرآن يقر أحكام التوراة اقى كانت بأيدي اليهود في عصر النبي عليه الصلاة والسلام والتي بأيديهم في هذه الأيام، فإن تصديق ما بأيديهم في جزئية من الجزئيات لَا يقتضي
ومن المباحث اللفظية في النصِ الكريم التعبير بـ " ثم "، وبقوله تعالى " من بعد ذلك "، في قوله سبحانه: (ثُمَّ يَتَولَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ).
فإن الئعبير بـ " ثم "، والبَعدية والإشارة للبعيد للتفاوت النفسي المنطقي الكبير والتراخي المعنوي بعد الاحتكام إلى النبي عليه الصلاة والسلام والإعراض عن قوله بعد أن بين حكم التوراة فيما يحتكمون، ولكن المنافق المبطل في مفارقات مستمرة بينه وبين الحق، والمنطق السليم، والعقل المستقيم.
(وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) في هذا النص الكريم نفي لصفة الإيمان المطلق عن اليهود وأشباههم ممن يجعلون الحق تبعا لأهوائهم، والله سبحانه وتعالى ينفي صفة الإيمان بأي عقيدة أو مذهب؛ لأن الإيمان يقتضي طلب الحق وإدراكه والإذعان له وهذه ليست صفات هؤلاء، فهم لَا يطلبون حكم الحي بل يطلبون حكم الهوى، وأركسوا في الأهواء فلا يدركون، وبعدوا عن المنهاج المستقيم فلا يذعنون، فهم لا يؤمنون بالتوراة وإلا أذعنوا لحكمها، ولا يؤمنون بما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام لأنهم جحدوا قوله وناوءوه، وناصبوه العداء فهم لَا يؤمنون بشيء.
والإشارة في فوله تعالى: (وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) إليهم بأوصافهم كلها من أنهم لا تستمرئ أسماعهم إلا الكذب، ويأكلون أموال الناس بالباطل، ويتميلون بالحق، ويفرقون في الحكم بين القوي والضعيف ومن كان هذا شأنهم لَا يمكن أن يدخل شيء من الإيمان قلوبهم.. اللهم احفظ الناس من شرهم، وهبنا الإيمان الصادق والإذعان للحق.
* * *
* * *
ذكر سبحانه في الآيات السابقة ما عليه اليهود من أنهم كانوا سماعين للكذب، وأنهم يأكلون السحت، وأنهم لَا يتبعون الحق في أحكامهم، بل يجعلون الحكم تبعا لأهوائهم يفرقون في الأحكام بين الشريف والضعيف، والغني والفقير، والقوي المستعلي، والضعيف المستخذي، وأنهم جاءوا إلى النبي - ﷺ - في بعض قضاياهم راجين أن يكون عنده ما يرضي أهواءهم، فكشف الله سبحانه وتعالى خبيئة نفوسهم، وبين أن الحكم عندهم ثابت فيها، وأن الإسلام لم ينسخه، وقضى عليه الصلاة والسلام به أو أشار عليهم باتباع ما عندهم في هذه المسألة إن كانوا طلاب حق، ثم بين سبحانه أن التوراه التي بأيديهم لَا يزال بها ذلك لم يغيروه.
وقد بين سبحانه وتعالى من بعد ذلك مقام التوراة في الأحكام التي قررتها لليهود، وتململوا بها، وخرجوا عليها، وكان ذلك من أسباب ضياعهم، وقساوة قلوبهم. فقال سبحانه: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ).
في هذا النص الكريم بيان لشرف التوراة قبل أن يحرفوها ومكانها من الحق، فبين سبحانه شرفها الذاتي، وشرفها الإضافي، بين أنها منزلة من عند الله
وبين سبحانه وتعالى شرفها الذاتي بما اشتملت عليه من هداية ونور، والهداية أو الهدى ما اشتملت عليه من بيان الأحكام في المعاملات والزواجر الاجتماعية وما يرشد إلى التطبيقات العملية، وأما النور فهو ما تشتمل عليه من مواعظ مبصرة، وأخلاق منيرة للحق، مقومة للسلوك مكونة للرأي العام الفاضل، وعبادات مطهرة للنفوس منيرة للقلوب، وبذلك تكون الهداية ما يتعلق بمعاملات الناس وتنظيم الجماعة والنور ما يتعلق بالعقيدة والعبادة والمواعظ، وسائر ما يتصل بالتوجيه النفسي وتطهير القلوب.
وقد فسرت الكلمتان بغير ذلك، فقد فسر الزمخشري كلمة " الهدى " بأنه: يهدي إلى الحق والعدل، و " النور " بما فيه بيان ما اسْتُبْهِمَ من الأحكام، والمؤدى على التفسيرين هو الرد على اليهود، وبيان وجه العجب في قوله تعالى: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) بأنهم لو كانوا طلاب حق فالتوراة عندهم فيها الهداية إلى العدل وهي كاملة في بيانه وتوضيحه، لَا تحتاج إلى مبين، ولا إلى موضح.
ويجب أن ننبه هنا إلى أن التوراة التي فيها هذه الأوصاف من أنها منزلة من عند الله، وأنها هدى ونور - إنما هي التوراة التي لم يحرفوها، ولم يزيدوا عليها أو ينقصوا منها، فإنها دخلت فيها الزيادة والنقص عندما ضُربت أورشليم (١) بأيدي التتار والرومان، وحرقوها، فلا يحتج بهذا الكلام للتوراة التي بأيدي اليهود وغيرهم في هذه الأيام، فقد نسوا حظا مما ذكروا به، وزادوا ما لم ينزل من عند الله.
(يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ) التوراة الصادقة التي أنزلت من الله تعالى لم تكن شرائعها معَطلة بل كانت ثابتة معمولا بها، والذين
________
(١) أورشليم: بيت المقدس بالعبرانية.
فلئن مدحت محمدا بقصيدتي | فلقد مدحت قصيدتي بمحمد |
وحكم هؤلاء الأنبياء الذين جاءوا من بعد موسى بالتوراة التي نزلت عليهم كان لليهود، فكانت فاصلا بينهم مقيمة الحق فيهم، فما بال اليهود يتململون من حكمها، ويخرجون عن سمتها، ويطبقونها على الضعفاء، ويعفون من أحكامها الزاجرة الأقوياء، إنما أهلكهم ذلك الجور، وهم لَا يعيشون إلا في أزمان الجور، وحيث كان العدل أذلتهم أخلاقهم، وأركستهم أهواؤهم.
والربانيون هم المنسوبون إلى الرب، وقد قال في تفسير هذا اللفظ الأصفهاني في مفرداته: " والرباني قيل منسوب إلى الربان، لفظ فعلان من فعل يبنى، نحو عطشان، وسكران، قلما يبنى من فعل، وقد جاء نعسان، وقيل هو منسوب إلى الرب الذي هو المصدر وهو الذي يرب العلم كالحكيم، وقيل منسوب إليه، ومعناه رلت نفسه بالعلم، وهما متلازمان؛ لأن من رب نفسه بالعلم فقد رب العلم، ومن رب العلم فقد رب نفسه، وقيل هو منسوب إلى الرب أي الله تعالى، فالرباني كقولهم إلهي، وزيادة النون كزيادته في قولهم لحياني وجسماني، قال على - رضي الله عنه -: " أنا رباني هذه الأمة ".
وخلاصة ذلك الكلام: أن كلمة رباني إما منسوبة إلى الرب بمعنى تربية النفس وتهذيبها، وجعلها خاضعة لله تعالى ولمقتضى العلم والتهذيب، فهو قد صفى نفسه من أدران الهوى، وإما منسوبة إلى الرب الخالق المبدع المتصرف، أي أن الشخص قد جعل نفسه خالصا لله تعالى كإلهي، أي أنه عابد عبادة جعلت لكل شيء في نفسه لله تعالى، والمعنيان وإن افترقا في التصريف والاشتقاق متلاقيان في المؤدى، إذ المؤدى أن الربانيين هم الذين صفوا نفوسهم، حتى كانت لله تعالى خالصة لَا تزيفها الأهواء ولا الشهوات، فالحق ملء قلوبهم، ولا يشغلها غيره (١)، والأحبار هم العلماء جمع حَبْر، أو حِبْر، وهما لغتان، وهو مأخوذ من
________
(١) أي لَا يشغل قلوبهم غير الحق.
" الباء " هنا متعلقة بـ " يحكم "، أي أن النبيين والربانيين والأحبار يحكمون بما في التوراة لأنهم حُمِّلوا أمانة حفظ كتاب الله، بحيث لَا يضيعونه، ولا يهملون أحكامه، وقد يقال إنها متعلقة بالربانيين والأحبار، على معنى أنهم أوتوا هاتين المنزلتين منزلة الربانية والعلم بسبب أنهم حملوا أمانة الكتابة وقاموا، و " استحفظوا " بالبناء للمجهول فيه بيان أنهم بمقتضى ما مُنحوا من صفات عهد إليهم أمر المحافظة على كتاب الله المنزل على نبيه، والمراد بكتاب الله هنا التوراة، وعبر عنها بكتاب الله تعالى للإشارة إلى منزلتها إبان نزولها قبل تحريفها، وإلى شرف من يقومون بحفظها، وإلى مكان التكليفات والأحكام التي اشتملت عليها، والاستحفاظ هو الحفظ المطلوب؛ إذ إن السين والتاء للطلب، والمعنى: أن الربانيين
وكان أولئك الربانيون والأحبار شهداء، أي رقباء يحافظون على نصوصه كاملة، ويشهدون بصدق ما نزل من عند الله، ويردون المحرف، وكانوا أيضا رقباء على تنفيذه، بحيث ينفذ من غير عوج.
(فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) الخشية هي الخوف مع تعظيم المخشي ومحبته، فليست مرادفة لمعنى الخوف؛ لأن الخوف أعم من أن يكون من مرهوب معظم محبوب، أو مرهوب مبغض ذميم، أو فيه مهانة لا عظمة فيه؛ ولذلك عبر عن الأخيار بالنسبة لله تعالى بالخشية دون الخوف، ومن ذلك قوله تعالى: (... إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عبَاده الْعلَمَاء...).
وقوله تعالى: (... وَخَشيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْب... ). وقال سبحانه: (... وَيَخْشَوْنَ ربَّهمْ وَيَخَافَونَ سُوءَ الْحِسَابِ).
و" الفاء " في قوله تعالى: (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) هي للإفصاح، والمعنى: إذا كان الكتاب قائما وثابتا، ونفذه السلف والخلف إلى ما بعد عصر النبيين، فلا تخشوا الناس، والتعبير عن خوف الناس وملامتهم بالخشية من قبيل المشاكله اللفظية، في مقابل قوله تعالى: (وَاخْشَوْن). أي أن الله تعالى هو وحده الجدير بأن يخشى، كما قال تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ).
والخطاب موجه إلى اليهود المعاصرين للنبي - ﷺ -وعلمائهم، وفي الكلام يكون التفات إذ انتقل الكلام من أخبار الأخيار منهم إلى خطابهم، والمعنى: لا تخافوا ملامة الناس ولكن اخشوا الله تعالى وحده، فلا تمالئوا الأقوياء وتركنوا إليهم، بل اجعلوهم جميعا سواء مع غيرهم من الضعفاء كما كان يفعل النبيون
ولكن الخطاب " لا تخشوا "، و " اخشوا " ربما يكون أعلى من أن يكون لليهود الذين عاصروا النبي عليه الصلاة والسلام فقد وصفهم الله تعالى بأنهم سماعون للكذب أكَّالون للسحت، ولذلك أحيلُ إلى ما روي عن الحسن البصري من أن الخطاب للمؤمنين، فهم الجديرون بخشية الله تعالى، وهم الجديرون برفعة هذا الخطاب، وربما كان ما روي عن ابن مسعود من أن الخطاب عام للناس أجمعين هو الأسلم، وهو ما تدل عبارة صاحب الكشاف.
(وَمَن لَمْ يَحْكُم بمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) الإشارة في قوله تعالى: (فَأُولَئِكَ) للذين لَا يحَكمون بما أنزل الله، فهي إشارة تفيد أن النتيجة سببها الفعل، وهو تجنب حكم الله تعالى، وقد أكد سبحانه الحكم بالكفر عليهم بهذه الإشارة وبالجملة الاسمية، وبالفاصل (هم)؛ وبالقصر إذ هم مقصورون على الكفر، والكفر مقصور عليهم قصرا إضافيا، بمعنى أنهم بلغوا في الكفر أقصاه، حتى لَا يعد كفر غيرهم بجوار كفرهم شيئا مذكورا.
وهل يعد كل من يحكم بغير حكم الله تعالى الذي أنزله على رسله كافرا؟
يظهر لي أن الذي يحكم بغير حكم الله مستهينا به مستنكرا له، وقد يبلغ به الاستنكار درجة التهكم عليه يعد كافرا؛ لأن ذلك جحود وإنكار أو استهزاء بآيات الله إن كان يعلم أنها من عند الله تعالى، ويستنكر مؤداها، ومن جحد أحكام القرآن فقد كفر، وقد قال في ذلك عبد الله بن عباس: " من جحد حكم الله كفر، ومن لم يحكم به وهو مقر فهو ظالم فاسق " وبذلك يكون هذا النص واردا فيمن حكم بغير حكم الله تعالى منكرا.. اللهم املأ قلوب قومنا بالإيمان حتى يألفوا حكم الله، ويرتضوا كتابه حكما بينهم، ولا يجدوا حرجا في حكمه، إنك خير الحاكمين.
* * *
* * *
هذا وصل لما ابتدأه الله سبحانه وتعالى من بيان مكانة التوراة التي أنزلت على موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، إذ قد بين سبحانه وتعالى أن التوراة فيها هدى ونور، وأنها قد طبقت أزمانا، وأن الذين طبقوها أنبياء موحى إليهم، وفقهاء استخلصوا أحكامها، وأرشدوا الناس إلى معانيها مؤمنين بها، ونفذها ربانيون يحكمون بالحق مبتغين مرضاة الله تعالى، ولا يبغون عن الحق حولا.
وفى هذه الآيات يبين الله تعالى من شريعة القصاص، فقد قال تعالت كلماته: (وَكتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ).
ومعنى النص الكريم أننا فرضنا وقررنا حكما مكتوبا خالدا غير قابل للمحو في أي عصر من العصور أن النفس مقابلة بالنفس تؤخذ بها، وتكون بدلا، النفس مأخوذة بالنفس، أو أن النفس عنها، فالباء هنا للمقابلة، كمقابلة بين الثمن والبيع، فكما أن المقابلة تكون في البيوع تكون في النفوس إذا اعتدت، وتصير نفس الجاني كأنها شيء من الأشياء وهو الذي أهانها.
وقوله تعالى: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) يبين أن النفس بعمومها من غير تخصيص مقابلة بالنفس بعمومها من غير تخصيص، فالعبرة بالتساوي في الإنسانية، وفي النفس الآدمية، فلا تفاضل بين نفس غني وفقير، ولا نفس أمير وخفير، فالنفس بالنفس إن كان اعتداء، ونفس المرأة كنفس الرجل على سواء، ولا التفات لقول
وإن نفس الحر كنفس العبد بمقتضى ظاهر هذا النص الكريم، لأن كليهما يشترك في وصف الآدمية، وبذلك جاء الحديث النبوي الكريم: " من جوع عبده جوعناه، ومن قتله قتلناه " (١) فإن هذا الحديث صريح في المساواة بين نفس الحر ونفس العبد، ولو كان القاتل له مالكه الذي يملكه.
وإن هذا غير رأى جمهور الفقهاء إذ إنهم ينظرون إلى مالية العبد، ولا ينظرون إلى آدميته، وأما الذين قرروا أن السيد يقتل في نظير العبد، وأن العبيد يقتص لهم من الأحرار بمقدار ما أجرموا، فإنهم نظروا إلى آدميته والمساواة في النفس الإنسانية من غير نظر إلى كونه مملوكا أو مالكا، ومن غير نظر إلى كونه رقيقا أو حرا.
ولنا أن نقرر أن المساواة في الدماء بين الأحرار والعبيد هي الأمر الذي يتناسب مع مقاصد الإسلام إذ إن مصادر الإسلام وموارده تقرر منع ظلم العباد الذين كتب عليهم الرق، ولا شك أن أبلغ الظلم أن يقتلوا، والنبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة أوصى بالرحمة بهم، ولا شك أنه من الرحمة بهم احترام نفوسهم، وصيانة دمائهم، وأن الرق أمر عارض بالنسبة للعبيد، ولا يصح أن يكون الأمر العارض مزيلا للمعنى الإنساني الأصيل، بل هو ثابت فيهم لا يزول.
والنصوص العامة المتضافرة مثبتة وجوب القصاص في الأنفس من غير تفرقة بين نفس حر ونفس عبد، فالله تعالى يقول: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي
________
(١) سبق تخريجه.
والمقابلات التي جاءت في الآية من بعد، إنما هي لبيان اتحاد الأنفس ولنفي ما كان عليه أهل الجاهلية من تفرقة بين النفوس. بدليل تضافر الفقهاء على قتل الأنثى بالرجل، والرجل بالأنثى خلافا لبعض الشذاذ.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: " المسلمون تتكأفا دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم " (١). ومن التكافؤ في الدماء أن يقتل الحر بالعبد المسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: " دماؤكم وأموالكم حرام عليكم " (٢). ولم يفرق بين عبد وحر، ولو كان الحر لَا يقتل بالعبد، يكون ذلك في معنى إباحة دماء بعض المسلمين، وفوق ذلك ما ورد بالنص على أن المالك يقتل إذا قتل مملوكه الذي رويناه من قبل، والذي قرر أن العبد إذا قتله مولاه قتل به.
وقد استدل جمهور الفقهاء بما روى من أن علي بن أبي طالب قال: " إن رجلا قتل عبده عمدا متعمدا فجلده النبي - ﷺ - مائة ونفاه عاما ومحا سهمه من المسلمين " (٣)، وما روى من أن عمر - رضي الله عنه - قال: لو لم أسمع رسول الله - ﷺ - يقول: " لا يقاد المملوك من مولاه، ولا الوالد من ولده " (٤)، لأقدته منك يخاطب من قتل عبده.
________
(١) سبق تخريجه.
(٢) جزء من حديث رواه البخاري: العلم - رُبَّ مبلغ (٦٧)، ومسلم: القسامة والمحاربين - تغليظ تحريم الدماء والأموال والأعراض (١٦٧٩).
(٣) عَنْ عَلِي وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدهِ قَالَ: قَتَلَ رَجُلٌ عَبْدَهُ عَمْدًا مُتَعَمِّدًا فَجَلَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - مِائَةً وَنَفَاهُ سنةً وَمَحَا سَهْمَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. رواه ابن ماجه: الديات - هل يقتل الحر بالعبد (٢٦٦٤). والسهم النصيب من الغنيمة.
(٤) روى أحمد: مسند العشرة (٩٩) عَنْ مُجَاهد قَالَ: حَذَفَ رَجُلٌ ابْنًا لَهُ بِسَيْفٍ فَقَتَلَهُ، فَرُفِعَ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: لَوْلا أني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - يَقُولُ: " لا يُقَادُ الْوَالِدُ مِنْ وَلَدِهِ لَقَتَلْتُكَ قَبْلَ أنْ تَبْرَحَ ".
ولهذا نرى الأخذ بالمبدأ الإسلامي العام الذي يقرر حقوق العبيد على مواليهم ويحدد حقوق الموالي، وليس منها إباحة دمائهم.
(وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ) هذا النص فيه القصاص بين الأطراف، فالعين تفقأ بالعين، أي أنها في مقابل العين أيضا، فـ " الباء " هنا باء المقابلة التي تدل على أن شيئا في مقابل شيء، وهي تدخل على المتروك، فالنفس المجني عليها تؤخذ بها النفس الجانية، والعين المجني عليها تؤخذ بها عين الجاني، وكذلك أنف الجاني تؤخذ بالجدع في نظير أنف المجني عليه، وكذلك أذن الجاني تصلم (١) في نظير أذن المجني عليه، وكذلك سنه بسنه، ومثل هذه في الحكم اليد باليد والرجل بالرجل، والإصبع بالإصبع، وهكذا كل طرف من الأطراف يمكن أن يجري فيه القصاص، فالقصاص ليس مقصورا على ما اشتمل عليه النص من العين والأنف والأذن والسن، بل يشمل هذا وغيره مما يمكن أن يتحقق فيه معنى القصاص، وقد أيدت ذلك النصوص القرآنية، فالله تعالى يقول: (... فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْه بمثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ...).
ويقول سبحانه: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقبُوا بمنلِ مَا عُوقبْتُم به وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ).
وهنا يجري القول في تساوى الأعضاء يالنسبة للأشخاص، فأشخاص النساء كالرجال، والأحرار كالعبيد على النحو الذي بينا من حيث قاعدة المساواة المطلقة
________
(١) أي تقطع أذنه، والصَّلْم الاستئصال، والأصلم: مقطوع الأذن، وهي صلماء، والجمع: صُلُم.
[الوسيط - صلم].
وجمهور الفقهاء على أن من يجري القصاص فيه في النفس يجري القصاص في الأطراف بالنسبة له، فأطراف المرأة كأطرف الرجل على سواء بينهما فإذا فقأ عين امرأة تفقأ عينه، وإذا كسر ثنية امرأة تكسر ثنيته.
وقد خالف فقهاء الحنفية جمهور الفقهاء، فلم يقرروا المساواة بين أطراف الرجل وأطراف المرأة، وبنوا ذلك على قياس عندهم قرروا فيه، أنه يلاحظ في الأطراف المنافع، ولا شك عندهم في منافع الأطراف عند النساء دون منافع الأطراف عند الرجال.
وفى الحق أن رأي الحنفية بنوه على قياس في معان ارتأوها، فقالوا: إن العبرة في الأطراف بمنافعها، ومنافع أطراف المرأة دون منافع أطراف الرجل، وإن الرأي لَا يقف أمام عموم النصوص والنصوص العامة لَا تخصص بالقياس، على أن القياس في ذاته غير سليم، لأن من المنافع المؤكدة ألا يكون الجسم شائها، والتشويه أضر بالمرأة من الرجل.
وقبل أن نترك الكلام في القصاص في النفس والأطراف لَا بد أن نشير إلى أمور ثلاثة:
أولها - أن جمهور الفقهاء قرروا أن الجماعة تقتل بالواحد، وقد يقول قائل: إن ذلك لَا يتفق مع معنى القصاص الذي أساسه التساوي، فلا تساوي بين الواحد والجماعة، وبذلك قال بعض الفقهاء، والحق ما عليه الجمهور؛ لأن كل واحد من الجماعة قد اشترك في القتل، فيسمى قاتلا، وقد أزهق نفسا فتؤخذ بها نفسه،
وإن القصاص شرع للزجر العام، ولحفظ الدماء، ولو أعفى الشركاء في القتل من القصاص لكان من السهل على من يريد قتل إنسان أن يشرك معه غيره، فلا يكون قصاص من أحدهما، ولذلك شدد عمر وغيره من الصحابه في ضرورة قتل الجماعة بالواحد، وقد روي أن رجلا قتله جماعة بصنعاء، فاقتص عمر - رضي الله عنه - منهم، وقال - رضي الله عنه - " لو تمالأ أهل صنعاء عليه لقتلتهم. ثانيها - أن المساواة في الأطراف من حيث السلامة لازمة للقصاص، فلا تقطع السليمة في مقابل المعيبة، ولكن لَا يشترط التساوي من حيث القصر والطول، ولا من حيث الضعف والقوة، ما دام كلتا الجارحتين سليمة.
وحيث يتعذر التساوي لَا يكون القصاص بل تكون الدية، ويجب مع ذلك التعزير شفاء لغيظ المجني عليه.
ثالثها - أن بعض الذين لَا يدركون الأمور على وجهها يقولون: إن القصاص في الأطراف يكثر المشوهين، ويقلل المنافع، ويضعف إنتاج الأمة، والجواب عن ذلك أن القصاص في الأطراف من شأنه أن يقلل التشويه ويكثر النفع، لأنه إذا علم المعتدي أنه سيقطع طرفه إن قطع طرف غيره، وأنه ستفقأ عينه إذا فقأ عين غيره، فإنه سيكف عن الاعتداء، وبذلك تصان الجوارح جميعا، فلا - يكون إيذاء، وبذلك يقلل عدد المشوهين ولا يكثر، ويكثر النفع ولا يقل. (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) والجروح غير قطع الأطراف المتميزة التي يجري فيها التماثل، مثل الشجاج بكل مراتبها، ومثل الجروح في أجزاء الجسم، وفصل بعضها عن بعض، والقصاص المقاصة، أي العقوبة بما يساوي الجريمة وما أنزلت
والتعزير مع هذا ثابت شفاء لغيظ المجني عليه، ومنعا لإهدار الدماء بالثارات، وتبادل الأذى.
والقصاص يجري في الجروح إذا أمكنت المساواة على ما أسلفنا، ومهما يكن فالقصاص متى أمكن، ولو بالتقارب أولى، فإن المساواة من كل الوجوه غير ممكنة، فإن الأجسام متفاوتة، وآثار الجروح فيها متفاوتة، والأذى فيها غير ثابت المقدار حتى يقاس بالأشبار.
ولا شك أن القصاص الممكن، والتعزير مع الأرش (١) إن لم يكن هو أقرب إلى العدالة، وإلى حقن الدماء، واحترام الأنفس والمحافظة على الكرامة الإنسانية والمساواة هو الأردع للجناة، فإن من يعرف أنه ستُشَج رأسه إذا شج رأس غيره لا يقدم على الأذى، بل يتردد، وأنه كلما كانت العقوبة من جنس الجريمة كان ذلك مع عدالته أشد زجرا وتأثيرا، وإنه من يوم أن تغيرت العقوبة عن الجريمة استهين بالأنفس والأطراف، وأهدرت الدماء.
وهناك أمر اختلف فيه الفقهاء: أيجري القصاص في الضرب، كما يجري في الجروح؟ الظاهر ذلك من روح الشريعة وما تومئ إليه نصوصها وهو ما كان يسير عليه السلف الصالح رضي الله عنهم، وقد قاله بعض الحنابلة والظاهرية،
________
(١) الأرْشَ: ما يؤخذ عوضا عن كسر أو جرح. روى البخاري: الصلح - الصلح في الدية (٢٧٠٣) عن أنس أَنَّ الرُّبَيِّعَ وَهِيَ ابْنَةُ النَّضْرِ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا الأَرْشَ، وَطَلَبُوا العَفْوَ، فَأَبَوْا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُمْ بِالقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَقَالَ: «يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ القِصَاصُ»، فَرَضِيَ القَوْمُ وَعَفَوْا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» زَادَ الفَزَارِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَرَضِيَ القَوْمُ وَقَبِلُوا الأَرْشَ.
وإننا نختار القصاص؛ لأنه الأقرب إلى العدالة، ولأنه يشفي غيظ المجني عليه، ولأنه هو الذي دعا إليه السلف الصالح وكانوا يسيرون على أساسه، وقد أيد ذلك النظر ابن القيم فقال رضي الله عنه:
" إن ضمان النفوس والأموال مبناه على العدل، كما قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مثْلُهَا...)، وقال سبحانه (... فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ...)، وقال عز من قائل: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صبرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصَّابِرِينَ)
، فأمر بالمماثلة في العقوبة والقصاص، فيجب اعتبارها بحسب الإمكان، والأمثل هو المأمور به، فهذا الملطوم المضروب قد اعتدى عليه، فالواجب أن يفعل بالمعتدي كما فعل به، فإن لم يمكن كل الواجب كان ما هو الأقرب والأمثل، وسقط ما عجز عنه العبد من المساواة من كل وجه، ولا ريب بأن لطمة بلطمة وضربة بضربة في محلها بالآلة التي لطمه بها، أو بمثلها، أقرب إلى المماثلة المأمور بها حسا وشرعا من تعزيره بغير جنس اعتدائه وقدره وصفته، وهذا هَدْيُ رسول الله - ﷺ - وخلفائه الراشدين ومحض القياس " ثم يقول: " فهذه سنة رسول الله - ﷺ -، وهذا إجماع الصحابة، وهذا ظاهر القرآن، وهذا محض القياس فعارض المانعون هذا كله بشيء واحد، وقالوا: اللطمة والضربة لَا يمكن فيها المماثلة، والقصاص لَا يكون إلا مع المماثلة، ونظر الصحابة أكمل وأصح، وأتبع للقياس، كما هو أتبع للكتاب والسنة، فإن المماثلة من كل الوجوه متعذرة، فلم يبق إلا أحد أمرين: قصاص قريب إلى المماثلة، أو
سقنا هذا الكلام مع طوله لأن فيه توضيحا للنظرة الإسلامية السليمة في المساواة والتماثل بين الجريمة والعقوبة، وإن ترك تلك السنة إلى التعزير أدى إلى التفاوت بين الناس في العقاب، وذلك ما لَا يقره الكتاب ولا السنة ولا يؤيده قياس، بل يؤيده أعراف فاسدة، وأخذ ظالم بنظام الطبقات المفرِّق. (فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كفَّارَةٌ لهُ) الكفارة ستر الذنوب، بألا يحاسب عليها بين يدي الله تعالى، بل يغفرها الله تعالى له ويسترها فلا يظهرها، بل تكون عند الله تعالى من التائبين المنيبين إليه سبحانه، تقدست ذاته، وتعالت صفاته.
وهذا النص يفتح باب التسامح من المجني عليه، وهذا يدل على أن العقوبة لم يقصد بها الانتقام المجرد، بل قصد الزجر، وإشعار الجاني بأن سوط العقاب مسلط عليه؛ ولذلك دعا القرآن الكريم إلى العفو إن كان له موضعه، فقال تعالى: (... فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ...).
فكان في هذا النص تحريض على العفو بذكر الأخوة الرابطة، وكان النبي - ﷺ - كلما حكم بالقصاص دعا إلى العفو، ولكن بعد أن يعطي لولي الدم أو المجني عليه زمام الأمر وتمكينه من القصاص ليشفي غيظه، ويردع الجاني بجعل حياته أو جسمه رهن إشارته.
وفى قوله تعالى: (فَمَن تَصدَّقَ بِهِ) الضمير يعود إلى القصاص، والمعنى من تصدق بهذا القصاص على الجاني، فإنه صدقة كسائر الصدقات، والصدقة كما
ومذهب الإسلام في إلزامه القضاء الحكم بالقصاص وفتح باب العفو - توسط بين ما جاء في التوراة من القصاص، وما جاء في المسيحية من عفو، فكان المسلمون أمة وسطا.
ويلاحظ أن العفو أو التصدق بالقصاص يسقط حق المجني عليه، ولكن لا يسقط حق المجتمع من ضرورة العمل على منع ارتكاب الجرائم، فلولي الأمر أن يحكم بتعزيره إذا عفا ولي الدم، والتعزير عقوبة غير مقدرة يراها ولي الأمر رادعة.
(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُم الظَّالِمُونَ) ختم سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذه العبارة، وفيها إشارة إلى أن هذا القصاص حكم الله تعالى الذي لا يتغير ولا يتبدل؛ ولذلك كان في شريعة موسى عليه السلام، وفي شريعة النبيين من بعده، وجعلها القرآن الكريم شريعته، وفيه إشارة إلى أن العدالة التي أوجبتها المساواة بين الجريمة وعقوبتها من غير هوادة من أخذ المجرم بجريمته إذا أصر عليها ولي الدم أو المجني عليه - هي حكم الله تعالى الخالد الباقي المنزل على رسله.
ونجد النص هنا يحكم بأن من لم يحكم بما أنزل الله تعالى يكون ظالما، وفى الآية السابقة نص على أنه كافر، والسبب الذي يظهر لنا في ذلك أن الآية الأولى كانت تذكر ما اشتملت عليه التوراة من هداية ونور، فكان الذين لَا ينفذون أحكامها مع ما هي عليه منكرين لتلك الأوصاف العالية التي اشتملت عليها من غير تبديل، فكانوا بذلك كافرين، أما هذه الآية فإنها تشتمل على أحكام عملية، فعدم الأخذ بها يتضمن ظلما؛ لأنها عدل في ذاتها، ومشتقة من قانون الفطرة
________
(١) سبق تخريجه.
* * *
(وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤٧)
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى ما يتعلق بالتوراة من وجوب التزام أحكامها، وتنفيذها، وأنه قد نفذت تلك الأحكام على يد النبيين، وطبقوها على أكمل وجوه التطبيق، وجاء من بعدهم العلماء الذين فقهوا معانيها ودونوا فقهها، والقضاة الذين خلصوا أنفسهم من أدران الهوى، وسلطان الشهوات، حتى صاروا ربانيين يقومون على الحق والقسط، ويشهدون الله على ما يفعلون، فهم شهداء الله تعالى، لَا يخضعون لغيره، ولا يريدون إلا رضاه، ولا يبتغون غير سبيله سبيلا.
وفى هذا النص الكريم يذكر سبحانه أن عيسى - عليه السلام - جاء من بعدهم يصدق ما بين يديه من التوراة، وأتى معه بالإنجيل وفيه أحكام مقررة للتوراة، أو ناسخة أو مبينة، وأن على أهل الإنجيل الذين نزل عليهم وخوطبوا به أن يطبقوه، حتى تأتي الأحكام الخالدة القررة الثابتة إلى يوم القيامة التي نزلت بها شريعة القرآن كما ستدل على ذلك النصوص القرآنية التالية.
وذكر كلمة " على آثارهم " تدل على أن عيسى - عليه السلام - لم يكن بدعا من الرسل، بل سبقه آخرون سلك مسلكهم في إقامة التوراة وما بقي منها غير منسوخ بحكم ما جاء في الإنجيل، وآثار أولئك النبيين هي الحكم الخالص لله الذي اتبعوه في تنفيذ أحكام التوراة، فآثارهم معنوية وليست مادية.
وقال علماء الاشتقاق في اللغة: إن كلمة قفى مأخوذة من القفا، وهو مؤخر الرقبة، يقال: قفا أثره إذا جاء من ورائه واتبعه في سيره حسا، ثم صار يطلق على السير وراءه معنى، كالشأن في كثير من الألفاظ التي تدل على معان حسية، فإنها تنتقل من بعد إلى مدلولات معنوية.
ثاني الأمور البيانية - هو في ذكر عيسى في القرآن مقرونا بكلمة " ابن مريم "، لأن ذلك يتضمن ولادته الحسية منها، وأنه قد تكون جسمه من جسمها كسائر كل المولودين من أمهاتهم، وفي ذلك إشارة إلى أنه محدث ككل المحدثات، وأنه كان من بعد أن لم يكن، وأنه لَا نسب له إلا من جهة أمه البتول عليها وعليه السلام، فليس له أب، وليس ابن الله تعالى، بل هو ابنها وحدها، ولا نسب له إلا إليها.
ثالثها - قوله تعالى: (مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ). وتصديق سيدنا عيسى للتوراة، لأنها كتاب في أصلها منزل من عند الله تعالى، فعيسى عليه
وكلمة " بين يديه " تعبير قرآني، للدلالة، على أن التوراة كانت حاضرة قائمة وقت مجيء عيسى - عليه السلام - وعلمها عنده، وهو علم خالي من التحريف والتبديل، أوحى الله تعالى به إليه، ولفظ بين يديه في دلالته على الأمر المهيأ القائم من الاستعارات الرائعة، ومضمونها أن الأمر معلوم علما يقينا لعيسى ابن مريم عليه السلام كعلم المحسوس يكون موضوعا بين يديه.
ومن الفروق الدقيقة أن الله تعالى عبر عن مجيء عيسى بالإنجيل بقوله تعالت كلماته: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم). وعندما أخبر عن مجيء محمد - ﷺ - بالقرآن قال تعالت كلماته: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ...). فهو ليس منفذا، ولكن هو مسيطر وحاكم على ما سبق من كتب.
(وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) عقب السيد المسيح - عليه السلام - الأنبياء الذين نفذوا أحكام التوراة، وطبقوها تطبيقا دقيقا من غير هوادة، ولا ظلم، ولا شطط مع الضعفاء، ومحاباة للأقوياء، وقد أعطاه الله تعالى قوة في رسالته، فأعطاه كتابا هو الإنجيل، وهو البشارة برحمة الله
وقد وصف الله سبحانه الإنجيل بأوصاف ثلاثة، وبين أنه مشتمل على أمرين، وجملة ما ذكر القرآن الكريم - تعالت كلمات الله - أن فيه خواص خمسا؛ وهي أن فيه هدى، وأن فيه نورا، وأنه مصدق للتوراة، وأنه هو ذاته هدى، وأنه موعظة للمتقين.
ولنتكلم بكلمات موجزات في معاني كل خاصة من هذه الخواص، لتتبين المغايرة بينها، ولتتميز كل خاصة عن أخواتها وإن كانت متقاربة في معانيها، ومتلاقية في غايتها:
والخاصة الأولى - أن فيه هدى؛ أي أنه اشتمل على الهدى، وهو الدلالة الحق على تنزيه الله تعالى ووحدانيته، وأنه المستحق للعبادة وحده، وأنه ليس بوالد ولا ولد، وأن عيسى هو ابن مريم وحدها، ونسبه إليها، وليس له لله تعالى نسبة إلا أنه خلقه بكلمة كن فيكون، فهو بهذا المعنى كلمة الله تعالى، وقد ألقاها إلى مريم، وروح القدس وهو جبريل الذي بلغها، وفيه بيان أن عيسى - عليه السلام - رسول الله تعالى وقد خلت من قبله الرسل.
وهذه الهداية تقرير للحقيقة الثابتة من مبدأ الوجود؛ لأنها تدل على صفات منشئ هذا الوجود.
أما الخاصة الثانية - فهي أنه مشتمل على نور مرشد موجه هاد، فإذا كانت الخاصة الأولى مقررة لأمر ثابت قد وقع، فالخاصة الثانية مثبتة لأمر آخر يتعلق بالمستقبل، وهو أنه يضيء وينير لتمييز الحق من الباطل، وبين ما جاءت به رسالة
والخاصة الثالثة - وهي وصف لذات الإنجيل، وقد ذكرها سبحانه بقوله تعالى: (مصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ). أي أن الإنجيل قد كان بذاته مصدقا للتوراة من حيث صدق نسبتها إلى الله تعالى قبل تحريفها، وقبل أن ينسوا حظا منها. ولا تكرار في وصف التصديق، لأن ما ذكر أولا كان وصفا لعيسى - عليه السلام - إذ قال سبحانه: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آتارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا). وأما ما ذكر هنا فهو وصف للإنجيل نفسه، وكأن التصديق من جانب عيسى - عليه السلام - للتوراة جاء من ناحيتين، من عيسى، ومن الإنجيل ذاته، وتلاقى التصديقين يفيد إقرار أكثر أحكام التوراة الاجتماعية والقانونية، ويفيد أن رسالة الرسل متصلة موصولة، حتى يختمها محمد رسول الله - ﷺ -، فهو خاتم النبيين، وآخر لبنة في صرح الرسالات الإلهية.
والخاصة الرابعة - وهي من صفاته الذاتية أنه هو ذاته هدى، وسبب وصفه بهذا الوصف بعد ذكر أنه قد اشتمل على هدى ونور هو استمرار الهدى له، وللإشارة إلى أنه منزل من عند الله تعالى، وهو بهذا الوصف يكون فيه دلالة ذاتية على الحق، ولأنه بشارة بنبي يرسل من بعد عيسى اسمه أحمد، وكان الهدى في هذا المقام وصفا ذاتيا؛ لأنه مأخوذ من اسمه؛ إذ إن الإنجيل معناه البشارة، ولعله سمى إنجيلا، لأنه الكتاب المنزل الذي كان فيه البشارة المباشرة بمحمد - ﷺ - بعبارات إن لم تكن صريحة فهي واضحة كالصريحة.
ومن أجل ذلك وصف بأنه موعظة، ولكن لَا يستفيد منه إلا الذين امتلأث نفوسهم بالخوف ورجاء ما عند الله، وهم طالبو الحق المهتدون، لأنهم هم الذين يستفيدون من العلم الذي يلقى، فالنفوس أقسام ثلاثة: قسم يطلب الحق، ويثمر فيه بيانه، وقسم يجمد على ما عنده، ويكون صلدا لَا ينفذ العلم إلى قلبه، إذ تحول بينه وبينه غشاوة من الباطل فهو أغلف، وقسم متردد حائر، تسيره الأجواء التي تحكمه وتسيطر عليه، ولا شك أن الذي يستفيد من المواعظ هو طالبها المتقبل لها، الذي تتشبع نفسه منها، وأولئك هم المتقون، وأما القسم الثالث، فإنه ترجى له الهداية رجاء غير محقق، وإن مثل العلم النافع لمثل الغيث لَا ينتفع منه إلا الأرض الطيبة التي تخرج نباتها بإذن ربها، والعلم لَا ينتفع به إلا القلوب الطاهرة التي لم ترنقها أغراض الدنيا وأهواؤها.
* * *
* * *
في هذا النص الكريم قراءات نذكر منها قراءتين في قوله: " وَلْيَحْكُمْ ": أولاهما - قراءة حمزة بكسر اللام وفتح الميم (١)، وتكون اللام للتعليل، ويكون في مقام العطف على ما سبق، لأنه في معنى التعليل، ويكون المعنى على هذه القراءة: (وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل فيه)، وأهل الإنجيل هم من عاصروا المسيح عليه السلام، ومن
________
(١) قرأها بكسر اللام وفتح الميم حمزة، وقرأ الباقون بإسكان اللام والميم. غاية الاختصار - أبوالعلاء الهمذاني العطار ج ٢.
والقراءة الثانية بسكون اللام، وسكون الميم على أن اللام للأمر (١)، وسياق الكلام على هذا يوجب تقدير محذوف، وهو (قلنا) مثلا ليكون متقابلا مع أهل التوراة الذين قال تعالى فيهم: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ...).
فالمعنى: وقلنا ليحكم أهل الإنجيل. وعلى هذا التقدير يكون العمل بالإنجيل سابقا على نزول القرآن.
وإذا لم تقدر كلمة قلنا، فإن الكلام لَا يدل على إقاء شريعة الإنجيل للنصارى؛ وذلك لأنه بعد بعث محمد - ﷺ - صاروا هم أهل القرآن؛ لأنهم هم الذين يخاطبون برسالته، ومعهم غيرهم من الخليقة، فكل الذين يدركون نبيا هم أهل رسالته التي يخاطبون بها، لَا فرق بين قريب دان، وبعيد قاص، وأيضا فإن شريعة محمد - ﷺ - قد نسخت ما يخالفها مما سبقها، إذ شربعة القرآن هي المهيمنة على ما عداها، كما قال تعالى:
________
(١) السابق.
(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) في هذا النص الكريم الحكم على من لم يحكم بما أنزل الله تعالى بالفسق، أي الخروج عن جادة الحق، والسنن المستقيم والخلق الكريم، وكان الحكم بالفسق هنا مناسبا لمواعظ الإنجيل الذي نزل على عيسى وهدايته؛ لأن تعريف القرآن الكريم له فيه إشارة إلى ما اسشمل من أخلاق روحانية قويمة، وهداية سليمة، والمناسب لمن لم يحكم به أن
أولها - أن التعبير بـ " مَن " يدل على الجمع هنا بدليل قوله تعالى: (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)؛ لأن أولئك إشارة إلى الجمع، وهم ضمير الجمع، وكأن التعبير بالموصول للدلالة على أن الحكم الفردي كالحكم الجماعي، فكل من تتحقق فيه الصلة، وهو ألا يحكم بما أنزل الله تعالى - يكون فاسقا آحادا أو جماعات.
ثانيها - أن المراد بالحكم يشمل حكم القضاء وحكم العمل، فمن لم يعمل بما جاء في الإنجيل، وهو من أهله فقد فسق عن أمر ربه.
ثالثها - أن النص يفيد أن علة استحقاقه لوصف الفسق هو أنه لَا يحكم بما أنزل الله تعالى.
والحكم بالفسق شرطه ألا يكون ثمة جحود لما أمر الله وإلا كان كفرا..
اللهم ثبتنا على قول الحق والعمل به، واكتبنا في عبادك الصالحين.
* * *
(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨)
* * *
الناحية الأولى - أنه سبحانه لم يقل وقفينا على آثارهم بمحمد أو نحو ذلك، بل بين سبحانه أنه أنزل الكتاب، وفي ذلك إشارة إلى معنى استقلاله، وأنه لم يكن فيه تبعية لغيره من الكتب، بل هو مستقل بالمكانة منفرد بها من غير تبعية أيا كان نوعها، وأيا كان مقدارها، وذكر الكتاب دون ذكر النبي - ﷺ - صراحة للإشارة إلى مكانة الشريعة الإسلامية وكتابها الكريم الباقي والخالد إلى يوم القيامة، وهو معجزة النبي - ﷺ -، وإذا ذكرها سبحانه في مقام الإكبار والتفخيم يكون بيانا لمكانة الرسالة المحمدية، وبيان أن حجتها أقوى الحجج، وأشدها تثبيتا، وأبقاها في هذا الوجود، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الكتاب من غير تعريف سوى ذلك، و (أل) كما قال علماء اللغة للعهد، وفي ذلك إشارة إلى كماله، أي أنه " الكتاب " الذي هو جدير باسم الكتاب، بحيث إذا أطلق اسم الكتاب لا ينصرف إلا إليه؛ لأنه الفرد الكامل من بين الكتب في هذا الوجود.
وقد زاده الله تعالى شرفا فنسب الإنزال إليه سبحانه، وفي ذلك تأكيد لمنزلته العالية السامية.
الناحية الثانية - من الإشارات البيانية المبينة لمكان القرآن - هو بيان أنه سجل الرسالات السابقة، والشاهد بصدقها فهو مصدق لكل الكتب السابقة،
والناحية الثالثة مما يدل على مكانة القرآن - هو أنه يهيمن على الكتب السابقة، فقد قال تعالى في مقامه بالنسبة لغيره من كتب السماء: (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ). والمعنى أنه حاكم بصحة ما فيه، وشاهد بصدقه، ومقرر لمعانيه الباقية التي لم يعترها نسخ، وفوق ذلك يتبين الصحيح الذي نزل، ويشير إلى المحذوف الذي حذفه الأخلاف، إذ نسوا حظا مما ذكروا به، وهناك قراءة بفتح الميم، ذكرها الزمخشري في الكشاف (١)، ويكون المعنى أنه (مهيمَن) عليه أي مراقَب محفوظ، كما قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وِإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). وقد وضح الزمخشري المعنى على هذه القراءة بقوله رضي الله تعالى عنه: " أي هُومِنَ عليه بأن حفظ من التغيير والتبديل، كما قال تعالى: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ...). والذي هيمن عليه الله عز وجل أو الحفاظ في كل بلد، لو حُرِّفَ حَرْف منه أو حركة أو سكون لتنبه له كل أحد، ولاشمأزوا رادين ومنكرين ".
أي أن الله تعالى هيمن عليه وحفظه إلى يوم الدين، والحفَّاظ للقرآن جيلا بعد جيل هم بتوفيق الله تعالى شاهدون مانعون لكل تغيير وتبديل؛ لأنهم يحفظونه في صدورهم، ولا يتركونه للقرطاس الذي قد يرد عليه المحو والإثبات والتغيير والتبديل، وبذلك اختص القرآن بالصيانة من بين الكتب السماوية، وهو
________
(١) وهذه القراءة ليست في العشر المتواترة.
(فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) الفاء هنا للإفصاح؛ لأنها تومئ إلى شرط مقدر، والمعنى على هذا: إذا كان الكتاب قد أنزل إليك من لدن الله العلي القدير عالم غيب السماوات والأرض، وأنه يهيمن على الكتب السابقة ومحفوظ بحفظ الله تعالى إلى يوم الدين؛ فاحكم بين اليهود والنصارى ومن يعاصرونك من الناس بهذا الذي جاء به، لأنه نزل لتحكم به أنت ومن يتولى الحكم من بعدك، ولم يقل سبحانه وتعالى لتحكم به، بل ترك الضمير، وعبر بالموصول للإشارة إلى أن السبب الموجب للحكم أنه منزل من عند الله، إذ إن الموصول إذا كان في ضمن حكم تكون الصلة هي علة الحكم، والسبب فيه، وعلى ذلك يكون حكم القرآن وهو حكم الله تعالى الذي لَا يختلف باختلاف العصور، ولا يتغير بتغير الأوقات؛ لأنه شريعة الله الذي هو بكل شيء عليم، يعلم الناس وما يصلح لهم في ماضيهم وقابلهم، وهذا يفيد أن اليهود الذين عاصروا النبي - ﷺ - ومن جاءوا بعدهم مخاطبون بشريعة القرآن، وأنه نسخ ما قبله من الشرائع، إلا ما جاء النص بوجوب العمل به كالقصاص، أو ما لم يثبت أنه نسخ، والمعول في الحالين هو القرآن وما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، ولقد روى أنه عليه السلام ذكر أن موسى لو كان حيا ما وسعه إلا الإيمان به عليه الصلاة والسلام. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) الضمير في قوله تعالى: (أَهْواءَهُمْ) يعود إلى اليهود الذين تحاكموا إلى النبي - ﷺ -، وأرادوا أن يحكموا بما لم ينزل من عند الله، مع أن الحكم عندهم في التوراة التي بأيديهم منصوص عليه، ولم ينسخه القرآن الكريم، وكان مما بقي وهو القصاص العادل.
وقوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) فيه إشارات بيانية نتكلم فيها، وذكرها فيه بيان معنى النص الكريم.
الإشارة البيانية الثانية - في قوله تعالى: (عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ). فيه إشارة إلى أن الذي يبتلى بأمثال هؤلاء اليهود ومن سار على طريقهم في هذه الأرض يكون بين أمرين، إما أن يطيع الهوى والشهوة وفيهما الفساد، وإما أن يطيع ما جاء من عند الله، وفيه العدل والهدى والرشاد، وأي الطريقين أهدى للوصول إلى الصلاح الذي لَا فساد يعكره.
الإشارة الثالثة - فيها بيان أن ما يحكم به النبي - ﷺ - هو الحق والعدل في ذاته، وبذلك يكون حكم النبي - عليه الصلاة والسلام - قد تأيد بأمرين: أحدهما - أنه الحق في ذاته الذي لَا مرية في أنه العدل والأمر الثابت الذي لَا تجوز مخالفته في ذاته، ثانيهما - أنه جاء من عند الله الذي لَا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وهو بكل شيء عليم.
(لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) الخطاب لليهود والنصارى والمسلمين وغيرهم من الذين أوتوا كتابا نزل بشريعة من عند الله تعالى، ويكون في الكلام التفات، فقد كان الخطاب للنبي - ﷺ - والمتحدث عنهم أولئك الذين اتبعوا وحرفوا الكلم عن مواضعه، والمعنى على هذا لكل نبي من الأنبياء السابقين شرعة يسير نحوها، ويتجه إليها، ومنهاج واضح بين يسير في طريقه، ولا يلتوى عنه،
وتفسير الشرعة قد اتفق الفقهاء على أن المراد بها الشريعة، وهي ما جاء من أحكام تكليفية يجب العمل بها أمرا ونهيا وندبا وإباحة، والمنهاج على هذا هو الطريق الواضح لتنفيذها، وبيان مجملها، وتفصيل أحكامها الجزئية؛ ولذلك روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الشرعة هي النصوص التي تجيء في أصل الكتاب المنزل، والمنهاج هو ما يبينه النبي الذي أنزل عليه الكتاب، وفصل به الأحكام الجزئية (١).
هذا كله على أساس أن ضمير الخطاب قد وجه إلى اليهود والنصارى ممن كان لهم كتاب منزل، وقد يرد على هذا أن الرسالة الإلهية واحدة، فكيف يجيء فيها الاختلاف، وقد قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ...).
ونقول في الإجابة عن ذلك: إن الوحدة الجامعة بين الرسالات الإلهية هو ما يتعلق بالعقيدة منْ إيمان بالوحدانية ونفي للوثنية، وإيمان باليوم الآخر، وما يجري فيه من حساب وعقاب، ونعيم وجنات تجري من تحتها الأنهار، وجحيم وسعير إلى آخر ما ورد في الغيبيات. أما الشرعة التي يجيء فيها الاختلاف فهو الأوامر والنواهي، وبعبارة عامة فهي التكليفات من حلال وحرام، فقد يشدد الله تعالى على بعض الأقوام لغلظ قلوبهم، ويخفف على آخرين، كما قال تعالى:
________
(١) ذكر البخاري تعليقا: الإيمان (بَاب قَوْلُ النبِي - ﷺ - بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسِ). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس: (شِرْعَة وَمِنْهَاجًا) سَبِيلا وَسُنَّةً.
والمنهاج يختلف، فمن الأنبياء من دعا دعوته، وكان فريسة لاعتداء أعدائه من غير أن يقاوم بالسيف، ومنهم من شرع له أن يدفع الاعتداء بالسيف، وهكذا.
هذا الكلام كله على أساس أن الخطاب موجه إلى أهل الكتاب الذين سبقوا بكتاب أنزل عليهم، ونسخته شريعة القرآن، وقد جاء بعض المفسرين فقرر أن الخطاب لأمة محمد - ﷺ -، أي للمسلمين في حاضر أمرهم وقابله، وقد ذكر هذا الرأي ابن كثير في تفسيره، فقد قال: " وقيل المخاطب بهذه الآية هذه الأمة، ومعناه لكل - جعلنا القرآن - منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجا، أي هو لكم كلكم تقتدون به " ومؤدى هذا الكلام جعلنا القرآن شرعة ومنهاجا لكل منكم، أي واحد منكم، فليس المضاف إليه المحذوف من بعد كل الأمم بل الآحاد، أي أن كل واحد من أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - مخاطب بتكليفات الشريعة، وتنفيذ منهاجها المستقيم، الذي لَا عوج فيه ولا أمت.
والعلماء على التخريج الأول وهو ظاهر اللفظ ولا يخرج المعنى عن ظاهر اللفظ الذي يتبادر ويتجه إلى غيره إلا لعيب بياني في الظاهر، ومعاذ الله تعالى أن يكون ذلك في كلام الله جل وعز.
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكمْ) فعل المشيئة محذوف دل عليه ما بعده، وهو جواب لو، والمعنى لو شاء سبحانه أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكم كذلك، والمعنى على هذا لو شاء تعالى أن يجعل الإنسانية كلها أمة واحدة، يصلحها شرع واحد، وتتفق بالتكليفات الموجهة، لاتفاق الإنسانية الموحدة، لفعل سبحانه وتعالى، ولكنه سبحانه وتعالى عاملكم معاملة الختبر لكم بما آتاكم من مواهب مختلفة، وفيما ينزل عليكم من خيرات السماء، وفيما تجود
وبيان ذلك أن الناس يختلفون أمما وعناصر، وقد توزعتهم أقاليم الأرض، فقوم تعالج قلوبهم الغليظة بما يفطمها عن شهواتها، ويجعلها في جادة الاعتدال، وأخرى تعالج بالتخفيف ليحيي موات النفوس فيها، وثالثة تعالج ببعض الحرمان، ورابعة بالاعتدال، وهكذا كانت الشرائع السابقة علاجا لأهواء النفوس التي تعامل معاملة المختبرة بتنازع الإرادات وسيطرة الأجواء، ومنازع الأهواء، ومضطرب الأحوال، فمن سلك الجادة وصل إلى الحق، ومن خالف كان له جزاء مخالفته، ولما جاءت رسالة محمد - ﷺ - ومعها القرآن كان العقل البشرى في طريق الكمال، وكانت بكلياتها صالحة لكل زمان، وكان الابتلاء قائما في منازعة الهوى، ومغالبة النفس الأمارة بالسوء، والتي ألهمت فجورها وتقواها.
وإن الابتلاء في الماضي والحاضر بالتخالف في الطبائع، وتخالف جزئيات الشرائع، وبعد رسالة محمد - ﷺ - كالتخالف في الإرادات والمنازع، وفي كل هذا الابتلاء، والنجاح في هذا الامتحان الفطري هو بطلب الخيرات؛ ولذا قال سبحانه: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ).
إذا كان الله سبحانه وتعالى يعامل الناس في الماضي والحاضر معاملة الذين يختبرهم وهو العليم بحالهم، ومآل أمورهم، وهم يشعرون بكمال اختيارهم، وأنهم يختارون، ويتخيرون، فإن عليهم أن يحسنوا الاختيار ويسرعوا إلى الخير.
واستبقوا في أصل معناها: التسابق، ولكن لتضمنه السبق والابتدار تعدى من غير إلى، كما في قوله تعالى: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ...). أي حاول كل واحد منهما الابتدار والوصول إلى الباب قبل الآخر، ومرمى النص أنه ليس لليهود أن يقولوا: نتبع شرعنا، بل عليهم أن يبتغوا الخير، ويسرعوا إليه، وهو في ذاته معلوم ببدائة العقول تدركه من غير عوج، وفوق ذلك فإن الدليل قد قام بما لَا يقبل الشك على رسالة محمد - عليه الصلاة والسلام - وهي الخير كله،
(إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفونَ) أي إليه وحده جل جلالة، وعظم ملكه مرجع الناس أجمعين من أهل الملل والنحل قبل القرآن والذين استمروا بعده فهم جميعا سيلقون الله تعالى يوم لَا ملك إلا ملكه، ولا سلطان إلا سلطانه ويخبرهم بالخبر العظيم الشأن، والنبأ الخطير الذي كانوا يتساءلون عنه في الدنيا، فيعلمهم بالصدق، وفي ضمن هذا الصدق جزاء ما عملوا إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فهو إنباء القول والعمل، حيث تجزى كل نفس ما كسبت، ففي هذا النص إنذار لمن بغى وعصى، وتبشير لمن أطاع وعدل واتقى، اللهم أحسن إلينا ووفقنا في أعمالنا، واغفر لنا ذنوبنا، واجعل نتيجة الابتلاء خيرا لنا برحمتك وعفوك إنك أنت الغفور الرحيم العفو الكريم.
* * *
(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
* * *
في الآيات السابقة ذكر سبحانه الأحكام في الكتب السماوية وأن اتباعها واجب لمن أرسلت إليهم، وقد أشار إلى أحكام خالدة، ومنها شريعة القصاص، لأنها شريعة العدل والمساواة، إذ فيها أن العقوبة كفاء الجريمة وأن العقوبة من جنس الجريمة، فمن أجرم فإن فعله يطوي في ثناياه استحقاقه للعقوبة على ما ارتكب، وله المثلاث فيما ارتكب.
وهنا بحث لفظي فيه تقريب لمعنى النص الكريم، ذلك هو بيان المعطوف عليه في قوله تعالى: (وَأَنِ احْكُم) فلذلك عدة تخريجات كلها تتلاقى في تأكيد الأمر بالحكم بما أنزل الله تعالى.
أول هذه التخريجات أن تكون " وأن احكم " معطوفة على الكتاب، وتفسير الكلام على هذا التخريج أن يكون المعنى فيه وأنزلنا إليك الكتاب، وقولنا أن احكم - أي أنزلنا الكتاب، وقد اقترن به الأمر بأن تحكم بين الناس به، وبما أنزلناه عليك من وحي أوحى به إليك.
ثاني هذه التخريجات أن تكون " أنْ " مصدرية، وقد جوز الزمخشري دخول " أنْ " على أي فعل، ويكون المعنى: وأنزلنا إليك مع الكتاب والحكم بما أنزل الله تعالى، فما كان كتابا معطلا لمجرد التلاوة، بل كان شرعا معلوما متبعا مأمورا
________
(١) سبق تخريجه.
ثالث هذه التخريجات هو أن تكون " أنْ " هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن اسمها محذوف، أي الحال والشأن أن تحكم به بينهم، وتكون معطوفة على الكتاب، و " أنزلناه " بمعنى أعلمناك، لأن العلم هو الغاية.
وقد كان النهي عن اتباع أهوائهم فيه إشارة إلى أن الحكم إما أن يكون بما أنزل الله تعالى وأعلمه بحكمته وهدايته، وإما أن يكون اتباعا لأهواء الناس ورغباتهم، وذلك لأن القوانين البشرية تتبع الأعراف الاجتماعية للناس، وما تواطئوا عليه وما ارتضوه لذات أنفسهم، وقد يكون ظلما طبقيا، وقد يكون هضما لحقوق ذوي الحقوق التي اكتسبوها بما ينمي ثروة الجماعة ويزيد خيراتها، وشرع الله تعالى مخالف لحكم الهوى والشهوة وهو الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال.
(وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) هذا أمر موجه للنبي - ﷺ - وهو موجه إلى الأمة الإسلامية، ولعل توجيه الخطاب للنبي - ﷺ - وهو المعصوم الذي يوحى إليه، ليكون تحذيرا لغيره؛ إذ غيره أولى أن يَغُره الغرور، وتفتنه الفتن، من شهوات مسيطرة، وأهواء متحكمة، وبذلك يكون الخطاب لجميع المخاطبين بالقرآن الكريم في كل العصور، ومختلف الدهور؛ لأنه إذا كان النبي عليه السلام يجب أن يحذر من أن يُفتن فلا ينفذ أحكام الإسلام في الحكم بين الناس، فغيره الحذر عليه أوجب، وأشد إلزاما.
والفتنة هنا معناها وقوع البلاء والشدة بعدم الحكم بما أنزل الله، ولقد قال في معنى هذا النص وما يشبهه الأصفهاني في مفرداته: " وقال تعالى: (وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ) أي يوقعونك في بلية وشدة في صرفهم إياك عما أُوحي إليك ".
فالفتنة المراد بها هنا النتيجة المترتبة عن ترك الحكم بما أنزل الله تعالى، وأنه ليسبق تلك النتيجة إغراء من جانب الذين يتبعون أهواءهم، ويحاولون أن يكون
وإننا نرى في عصرنا بعضا من هذا الصنف، فلا تزال تطلع على طائفة منهم يقولون: إن التشدد في الأخذ بأحكام القرآن وما جاء به محمد - عليه السلام - ينفر الناس من الإسلام، ويبعدهم منه، وإنا لنسمع كلام هؤلاء وليسوا من غير المسلمين بل المسلمون تتلوى بذلك ألسنتهم، فمنهم من ينفر من تحريم الإسلام للربا، لأنه ضد الاقتصاد، ومنهم من يمنع إقامة حدود الله، ويقولون: إن ذلك يتنافى مع الحضارة، وينفر الناس من الإسلام... يرددون ذلك في مجالسهم، ويقولونه وهم على الأرائك متكئون، ويغمزون في القول لمن يتشدد، وجاراهم مع الأسى بعض من يتكلمون باسم العلم الإسلامي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد حذر الله تعالى النبي - ﷺ -، وبالأولى المؤمنين من أن يفتنوا عن بعض ما أنزل الله تعالى، وتشديد التحذير من الفتنة في البعض، يتضمن التحذير من الفتنة في كل ما أنزل الله تعالى، إذ الفتنة في الكل أشد إيجابا للتحذير من الفتنة في البعض، هذا وإن الفتنة في بعض ما أنزل الله تعالى تؤدي إلى الفتنة في كل ما أنزل الله سبحانه، لأن ما أنزل الله سبحانه وتعالى وأوجب الأخذ به مرتبط الأجزاء متماسك، فإذا حلت عروة منه انحل سائره، كالبنيان المرصوص، وإذا تهدم جزء منه تداعت لبناته وانهار البنيان، وصار أجزاء منثورة لَا تربطها رابطة.
ومن أجل ذلك جاء التحذير من الفتنة في البعض لكيلا يستسهل ويستصغر، فيجيء الأكبر، وهو حل عرا الإسلام عروة، عروة، وقد حذر الله سبحانه من عاقبة الذين يعرضون عن أن يحكموا بما أنزل على نبيه، فقال تعالت كلماته:
(فإن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يصِيبَهم بِبَعْضِ ذنُوبِهِمْ) ظاهر السياق أن الضمير في قوله تعالى: (فَإِن تَوَلَّوْا) إلى آخره يعود على اليهود، ومن لَفَّ لَفهم ممن يسيرون في الحكم على هواهم، وعاصروا النبي - ﷺ -، وعندي أن الضمير يعم كل من يخاطبهم القرآن، وهم أمة محمد - ﷺ - في كل الأجيال، وفي كل الأزمان، وإن كان اليهود وغيرهم ممن عاصروا النبي - ﷺ - داخلين في حكم عموم الأمة ابتداء، والمعنى فإن أعرضوا عن تنفيذ حكم الله تعالى، فإنه سينزل بهم من الشدائد ما يتناب مع جعل شرائع الله تعالى معطلة لَا يقام العدل الذي تتضمنه، بل يكون حكم الهوى، وحسب ذلك فسادا (١).
________
(١) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ ". رواه ابن ماجه: الفتن - العقوبات (٤٠١٩).
الوجه الأول - ما ذكره الزمخشري: أن هذه الذنوب التي هي بعض ذنوبهم، إهمالهم لحكم الله تعالى، واختيارهم حكما جاهليا يخضع للهوى، لا للعدل، والإصابة التي يصيبهم بها هي هذا الذنب الذي ارتكبوه، وما يترتب عليه من ظلم يقع، وشر لَا يدفع، لتنفيذ حكم الله مع أنه طاعة وهو العدل، والعدل إذا ساد عاشت الجماعة كلها في أمن وسلام، ورحمة واطمئنان، وعدم تنفيذ حكم الله هو الظلم والاضطراب والفساد.
الوجه الثاني - هو ما ردده أكثر المفسرين من أن الذنوب التي ارتكبوا بعضها يعاقبهم الله تعالى عليها بالشدائد تنزل بهم، ومن أعظم هذه البلايا أن يعم الفساد، وتصير أمورهم فوضى، لَا ميزان يضبطها ولا قسط يقيمها، وتكون الجماعة متدابرة متنازعة.
الوجه الثالث الذي اختاره، أن عدم تنفيذ العدل أو عدم الخضوع لأحكام الشرع هو في الواقع ثمرة لمفاسق تسبقه، فالنفس تتردى في مهاوي الرذائل، وتحيط بها الخطايا، ويتحكم فيها الهوى، وتصير أمة للذات والشهوات فتتمرد عن حكم الله تعالى، ويكون ذلك نتيجة لإصابتهم بذلك الذنب الكبير الخطير، وهو الإعراض عن حكم الله، وهو ذاته إصابة وكارثة، لأنه العدل والقسطاس، وأي جماعة تعرض عن العدل والقسطاس مآلها الخراب والدمار، وذهاب القوة، وإصابتها بالذلة، فلا عزة إلا عزة الحق، ولا ذلة إلا في الظلم.
وإننا رأينا هذه الحقيقة ثابتة، فأولئك الذين يتمردون على حكم القرآن والسنة قد مست نفوسهم معاص جعلتهم يستبيحون المحرمات من زنى وشرب للخمر، وإدمان في الربا، أو بناء الاقتصاد عليه، وهذه الذنوب هي التي منعتهم من إطاعة حكم الله، وإن الله يصيبهم بنتائج ذلك وهو الخراب الناشئ من
هذا النص فيه عزاء للنبي - ﷺ - من تمرد الناس على حكم العدل وحكم الحق، وعزاء لكل داع للخير من بعده، لكيلا ييئس داع؛ لأنه يحسب أن الخير يسير بمنطق مستقيم في النفوس، كما هو في ذات نفسه، فالله سبحانه وتعالى ينبه دعاة الخير إلى أنهم لَا يتوقعون الاستجابة من الأكثرين، كما قال تعالى لنبيه: (وَمَا أَكثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ). وقال سبحانه: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ...). ولأن دعوة الخير لا تجد الاستجابة بيسر، وكانت جهادا، وكانت تعبا، وعلى الداعي ألا تذهب نفسه حسرات إذا لم يجد الأكثرين يجيبونه، وليعلم أن دعوة الحق لها صدى يسمع في الأجيال وإن كانت لَا تسمع في زمان صاحبها.
والفسق معناه في الأصل خروج اللب عن قشرته التي تحميه من الفساد، وأطلق على الخروج عن الحق والتمرد عليه؛ لأن الحق هو الذي يحمي النفوس، ويكلؤها من عفن الرذيلة وفسادها، ومؤدى الكلام أن الذين ينغضون رءوسهم عن سماع الحق ودعوته، وعن الخضوع لحكمه ليسوا عددا قليلا ولكنهم كثير، وقد أكد سبحانه وتعالى كثرتهم بـ " إنَّ "، وبـ " اللام " في خبرها، والله سبحانه هو الهادي إلى سواء السبيل، وقد استنكر سبحانه فعل الفاسقين، ولو كانوا كثرة كاثرة، فقال تعالت كلماته:
* * *
* * *
هذا استفهام إنكاري توبيخي، أي أنه إنكار للواقع الذي يقع من الفاسقين عن أمر ربهم، وعن الحكم الذي يحكم به الله تعالى، والفاء هنا هي التي تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كانوا يخرجون فهم يبغون حكم الجاهلية، وقدمت الهمزة على الفاء، لأن الاستفهام له الصدارة في الذكر دائما، ولو كان استفهاما إنكاريا لاستنكار الواقع، وسوق الكلام بشكل الاستفهام الإنكاري فيه تأكيد لمعنى ابتغائهم حكم الجاهلية، ثمة تأكيدان آخران، لارتضائهم الحكم الجاهلي: أولهما - تقديم
والتأكيد الثاني لارتضائهم حكم الجاهلية - هو التعبير عن رضاهم عنه بقوله تعالى: (يَبْغُونَ)؛ لأن البغي هو الطلب بشدة تؤدي إلى الظلم.
وإنه لَا وسط بين حكم الجاهلية وحكم القرآن؛ لأن حكم القرآن هو العدل وهو النظام، وهو المساواة في الحقوق والواجبات، لَا يعفى من حكمه شريف، ولا حاكم، وليس فيه مَن ذاته مصونة لَا تُمس، بل الجميع أمام الله تعالى على سواء، وأما حكم غير القرآن ففيه التفاوت بالطبقات، وفيه السيطرة التي لا يسوغها منطق ولا عدل، ولا نظام، وفيه أكل أموال الناس بالباطل، كالربا، وسائر أنواع السحت، وقد قال بعض التابعين: من حكم بغير الله فهو حكم الجاهلية.
وقد جاء في التفسير الأثري لابن كثير المحدِّث والمؤرخ ما نصه:
" ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء، والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، كما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان الذي وضع لهم " الياسق "، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى من اليهودية والنصرانية، والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله....
(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) الاستفهام هنا إنكاري فيه إنكار للوقوع، أي أنه بمعنى النفي المؤكد، كأنه استفهم عن أن يكون ثمة من هو أحسن حكما من الله، فأجيب بالنفي المؤكد الذي لَا يتصور فيه أن يكون من هو أحسن حكما، والمعنى لَا أحد أحسن حكما من الله لقوم يوقنون، وهنا يرد سؤال هو لقد ذكر أنه لَا أحد أحسن حكما من الله لقوم يوقنون، مع أنه سبحانه أحسن حكما لمن يوقنون ومن لَا يوقنون، إذ هو العدل والمصلحة. وبها ينتفع البر والفاجر، والسليم والسقيم، فهو الخير الوارف الظلال، فلماذا القيد بقوله تعالت كلماته: (لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)؟. والجواب عن ذلك يتكون من جزءين: أولهما - أن أولئك هم الذين ينتفعون به، فكان الأحسن لهم والأقوم، أما غيرهم فهم قوم بور، وهم في غيهم يعمهون.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (٥٣)
* * *
وهو في هذا النص الكريم يجمع بين النصرة والمحبة، والتوفيق والهداية، ويطلق الولي بمعنى من يتولي الأمر، ومن يكون صاحب الولاية، كما قال تعالى: (إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا...). وما المراد من اتخاذ الأولياء المنهي عنه في هذه الآية، يفسره الزمخشري بأنه الاستنصار والمودة والمحبة، ونفسره بأن يجعلوا ولايتهم لغيرهم في الانتماء، والنصرة، ويقبلوا أن يكونوا هم أهل ولايتهم التي ينتمون إليها، وينضوون تحت لوائها، فهي مثل قوله تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨).
وهذا الرأي يؤيده ما جاء في سبب النزول، وتذكره كتب التفسير وهو أن بعض الأنصار كان يتولى بعض اليهود لما كان يرى فيهم من عدد كثير، وما عندهم
وهنا يرد سؤال أيجوز لنا أن نتخذ منهم بطانة ومعاونين؟ والجواب عن ذلك أنه لَا يجوز، وقد ورد بذلك النص القرآني، فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨).
ولقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ينهى عن أن يستخدم غير المسلمين في الدولة الإسلامية، ويروى في ذلك أن أبا موسى الأشعري كان له كاتب نصراني، فأرسل إليه أمير المؤمنين عمر ينهاه عن ذلك، وجاء في آخر كتابه: (لا تقرِّبوهم إذ أقصاهم الله) فرد عليه أبو موسى يقول له: (لا قوام للبصرة إلا به). فكتب إليه عمر مرة أخرى كلمة موجزة: (مات النصراني والسلام) وقد فسر الزمخشري تلك الكلمة الموجزة بقوله: (يعني أنه قد مات، فما كنت تكون صانعا حينئذ فاصنعه الساعة، واستغن عنه بغيره).
والسؤال الثاني الذي يرد؛ أيجوز للمسلم أن تكون بينه وبين غير المسلم مودة؛ أم يجب التباعد عنه ما أمكن؟ ونقول في الجواب عن ذلك: إنه قد ورد في هذا نصان يبدو أنهما بادي الرأي متعارضان، أولهما - قوله عليه الصلاة وأتم التسليم: " لا تراءى ناراهما " (١) أي لَا تجمعهما نار يستدفئان بها أو يستضيئان بضوئها، أي لَا يجتمعان على مودة واصلة. والثاني - قوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨).
________
(١) عَنْ قَيْسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى قَوْمٍ مِنْ خَثْعَمَ، فَاسْتَعْصَمُوا بِالسُّجُودِ، فَقُتِلُوا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِصْفِ الْعَقْلِ وَقَالَ: «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا». [رواه النسائي: القسامة - القود بغير حديدة (٤٧٨)، وأبو داود: الجهاد - النهي عن قتل من اعتصم بالسجود (٢٦٤٥)].
ونقول في ذلك: إن غير المسلمين أقسام ثلاثة:
القسم الأول - يعيشون مع المسلمين ويسالمونهم، ولا يعملون لحساب غيرهم، وهؤلاء لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وتصح مواداتهم، كنص الآية الكريمة: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ).
والقسم الثاني - الذين يقاتلون المسلمين، ويدبرون لهبم المكايد، وهؤلاء لا تجوز مواداتهم، وقد قال سبحانه في ذلك: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢).
وقال تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجوكُم مِّن ديَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُم الظَّالِمُونَ).
القسم الثالث - طائفة لم تعلن المجاهرة بالعداوة، ولكنهم في قلوبهم يتمنون في ذات أنفسهم خذلان المسلمين، ونصرة غيرهم، فظاهرهم مع المسلمين، وقلوبهم مع أعدائهم وهؤلاء نعاملهم بما عامل به النبي - ﷺ - المنافقين، نسالمهم، ولا نكشف خبيئة نفوسهم، ولكن نأخذ حذرنا منهم.
ومهما تكن أحوال المخالفين فإنه لَا تجوز الاستعانة بهم في خاصة شئون الدولة الإسلامية حتى لَا يكون منهم بطانة لَا تألوننا خبالا، وقد علل سبحانه النهي عن توليهم بقوله تعالت كلماته: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).
أي أن السبب في منع المؤمنين من أن يستنصروا بهم أو يجعلوا منهم أولياء عليهم أو لهم، أنهم لَا يوالون المسلمين في ذات أنفسهم بل تكون نصرتهم فيما
ويصح أن نفسر النص بأنهم يوالي بعضهم بعضا أي اليهود يوالون النصارى ضد المسلمين، فكلتا الطائفتين تتولى الأخرى.
ويظهر لي أن الآية تدل على المعنيين، فالنصارى يوالي بعضهم بعضا واليهود كذلك، وهما دائما إلبٌ على المسلمين كما نرى في عصرنا الحاضر، فالعالم المسيحي كله يؤيد اليهود في اغتصابهم أرض الإسلام ووضعها تحت أيدي اليهود ومع أنهم يدعون عدم التعصب، يتعصبون ضد المسلمين ويؤيدون قيام دولة على أساس الدين.
(وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنً اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إن من يجعل نصرته منهم ويخضع بالولاية لهم فهو منهم. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن النص يفيد التشبيه أي أنه مثيلهم في معاداة الإسلام وأهله.
ولكن كثيرين من المفسرين يعتبرونهم منهم حقيقة، ولا تشبيه في القول ولا تمثيل، فيقولون: إن من اتخذ منهم نصراء وحلفاء وأولياء دون أهل الإسلام، فإنه منهم في التحزب على الله تعالى، وعلى رسوله والمؤمنين وأن الله تعالى ورسوله منهم بريئان، ويقول في تقرير هذا المعنى ابن جرير: " ومن يتول اليهود والنصارى دون المؤمنين فإنه منهم، فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لَا يتولى متول أحدا إلا وهو به وبدينه، وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه ".
وإن ذلك التولي بلا ريب ظلم للنفس. وظلم للمسلمين، ومن أركست نفسه في هذه الضلالة حتى صار لَا يطيق تركها، فقد استضعف نفسه، وظلمها، ثم ظلم المؤمنين، وبعد عن هداية أهل الإيمان، وارتضى حكم الطاغوت ولذلك
وهذا النص بعمومه يشير إلى أن أعداء الإسلام ظالمون مهما يكن تعدادهم، وأن من يواليهم هو من القوم الظالمين، ولا تدخل الهداية قلبه؛ لأنه مرد على النفاق، ولأنه استضعفت نفسه والمسلمين، ولأنه لم يعمر الإيمان قلبه فكان قلبه ظلمات متكاثفة لَا يدخل من خلالها نور، ولا حق مبين، وقد صور سبحانه من يوالونهم، فقال:
* * *
* * *
بعد أن أشار سبحانه إلى أن الذين يجعلون نصرتهم من قبل المخالفين، وولايتهم لهم، ويقبلون أن يكونوا لهم تبعا - أخذ يبين أنه من بين الصفوف الإسلامية من ينتمون إليهم بقلوبهم، وهم بين المسلمين بمظاهرهم سواء أكانت هذه الظاهرة لها صلة بالخضوع الظاهري والحقيقي كضعاف المسلمين، أم كانوا لَا يخضعون لمبادئ الإسلام بأي نوع من الخضوع كالمنافقين الذين لَا يذعنون إذعانا ضعيفا أو غير ضعيف بل يقولون بأفواهم ما ليس في قلوبهم.
وهنا نقف أمام العبارات السامية ونحاول أن نذكر بعض ما تشير إليه من بيان، ونتعرض في ذلك لأمور بيانية:
أولها - قوله تعالى: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم).
الفاء تفصح عن شرط مقدر، مؤداه أنه إذا كان الذين يتولونهم منهم، فإنك واجد من بين صفوف المسلمين من في قلوبهم مرض يسارعون فيهم... إلى آخره. والتعبير بقوله تعالى: (فَتَرَى). تصوير للحال الواقعة من أولئك الضعفاء في إيمانهم، والمنافقين في قلوبهم - بأنها كالمرئية الظاهرة التي لَا تخفى على ذي البصيرة المدركة، وفي هذا تسلية للنبي - ﷺ -، وتنبيه للحال الواقعة ليعالجها بهداية الله تعالى، وما آتي به الرسول - ﷺ - من حكمة، وليحتاط عليه الصلاة والسلام منهم، وليهيمن على توجيه قلوب الضعفاء، وتربية من يصلح منهم للتربية على
ثانيها - التعبير بقوله سبحانه: (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يسَارِعُونَ فِيهِمْ). وفي التعبير السامي، إشارة إلى أن الذين يعطون لهم حق الولاية والنصرة دون المؤمنين، سبب هذا الأمر منهم هو أن في قلوبهم مرضا، ومرض القلوب يكون إما من خور العزيمة، وعدم الإحساس بالقوة الدافعة لأن ينتصروا مما يقع عليهم من أذى، وإما من النفاق.
والمسارعة. المبادرة، وتعدى الفعل هنا بـ " في " مع أن المبادرة تتعدى بـ " إلى "، والحكمة في ذلك الإشارة إلى أنهم لَا يدخلون ابتداء فيهم، بل إنهم فيهم بقلوبهم من قبل، فالمسارعة انتقال من حال إلى حال في صفوفهم أي أنهم منغمرون قيهم دائما، ولا يخرجون عن دائرتهم.
ثالثها - أنهم في مسارعتهم وبقائهم على الولاء لهم والانتصار بهم يقولون بأفواههم: (نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَة). الدائرة ما يصيب الجماعات من شدائد ونوازل بسبب أعدائهم، ويقول الواحدي في أصل معناها: الدائرة من دوائر الدهر كالدولة، وهي التي تدور من قوم إلى قوم، والدائرة هي التي تُخشى كالهزيمة والحوادث، ومقتضى كلام الواحدي أن الدائرة كالدولة، إذ تتداول بين الناس، كما قال تعالى: (... وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ).
والدائرة تدور بين الناس والجماعات، بيد أن الدولة تتداول بالقوة والسلطان والعزة، والدائرة تدور بالهزيمة والجائحات، فهي تدور بين الناس من جماعة إلى جماعة، ومن يخشى الدائرة من الجزع والهلع يتوقع الأذى والشر، ولقد قال الشاعر في معنى الدائرة:
ترد عنك القدر المقدورا | ودائرات الدهر أن تدورا |
ويطلق بمعنى الفصل بين الحق والباطل، ومن ذلك قوله تعالى: (... رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ...). ويطلق بمعنى الظفر والنصر، ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا).
والفتح هنا يراد به المعاني الثلاثة، فهو السعة بعد الضيق، والفصل بين حق صادق، وباطل طاغ، والنصر والظفر.
ومعنى الرجاء من الله تعالى الوعد القاطع، لأنه من القادر على كل شيء الذي لَا يصعب عليه شيء، والتعبير بالرجاء لتعليم المؤمنين ألا ييئسوا من رحمة الله ونصر المؤمنين؛ لأنه وليهم وناصرهم، فالله تعالى يعد المؤمنين، وهو الذي لَا يعجزه شيء في السماء ولا في الأرض، فالله سبحانه وتعالى ينبه المؤمنين إلى رجاء النصر والسعة والفصل بينهم وبين أعدائهم وذلك كله من الله تعالى.
(أَوْ أَمْرٍ منْ عِندِهِ) والأمر الذي يجيء من عند الله هو خضد شوكة غير المؤمنين، حتى يرجى نصره، ولا يخشى من الدوائر أو تزول دولتهم.
ومعنى النص الكريم أن الله سبحانه وتعالى قد وعد المؤمنين بالفتح القريب الذي يرجوه المؤمنون، وأنه سبحانه وتعالى سينجز وعده الذي وعد به عباده الصالحين، وعندئذ تكون العزة لله ولرسوله والمؤمنين، ويكون الندم والحسرة على ضعفاء الإيمان، ولذا قال سبحانه:
(فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ) وعند الفتح، أو الأمر الذي يزيل سلطان من يستنصز بهم مرضى القلوب يفرح المؤمنون بنصر الله، ويصبح الذين أسروا في أنفسهم خذلان المؤمنين، ورجاء ما عند غيرهم نادمين على ما
الأمر الثاني - أن الله عبر عن ندمهم بالوصف لَا بالفعل للإشارة إلى أن هذا الندم حال دائمة مستمرة تتضمن الحسرة والغيظ، والألم المستمر.
* * *
* * *
ذكرنا ما حكاه الله عن المنافقين وضعفاء الإيمان، وفي مقابلة قول الأولين مرضى القلوب الذين استولى عليهم اليأس من رحمة الله تعالى، كان ما قاله أهل الإيمان قبل النصر وبعده، فقبله كان الرجاء يغمرهم، وبعده كان الفرح يملؤهم، وينددون بحال مرضى القلوب، ويستنكرون فعلهم فقد حكى سبحانه استنكار حالهم بقوله:
(أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) أي هذه حال أولئك الذين أقسموا بالله بأقصى طاقة ما عندهم من إيمان، أنهم لمعكم، أي أن هؤلاء مرضى القلوب أعلنوا مقسمين بأقصى الأيمان، بأن يكونوا مع المؤمنين والرسول في ولايتهم ونصرتهم، ومعاونتهم، وقد أكدوا ذلك بعدة تأكيدات بأقصى الطاقة في القسم وتوثيق الكلام، وأكدوه بـ " إن " وبـ " اللام " المؤكدة، ومع هذه التوكيدات ما كانوا صادقين، بل كانوا خادعين، لأنفسهم وللمؤمنين، كما قال سبحانه: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهمْ وَمَا يشْعُرُونَ).
ولا يمكن أن ينجح من يكون هذا شأنه، ولذا قال سبحانه:
(حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأصْبَحُوا خَاسِرِينَ) تحتمل أن تكون هذه مما حكاه الله تعالى عن المؤمنين، ونميل إلى أنها من كلام الله تعالى، وهو حكم الله تعالى عليهم بثمرة ما كان من فساد قلوبهم، وهو إن ما يتوهمونه وما يعملون على
* * *
* * *
في الآيات السابقة نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن أن يتخذوا من اليهود والنصارى نصراء يستنصرون بهم، ويعطونهم حق الولاية عليهم، فيجعلون الولاء لهم، وهم أعداء الإيمان وأعداء المؤمنين، وإن أظهروا الولاء لدولة الإيمان فهم في قلوبهم لَا يألونهم خبالا، وإن ذلك موضوعه علاقة دولة الإسلام بغيرها من الدول التي تعاديها، ولا يدخل في هذا الذميون الذين يعيشون في ظل الإسلام والمسلمين إلا إذا مالئوا الأعداء، فإنهم يكونون قد نقضوا العهد الذي عاهدوا المسلمين عليه.
وفى هذه الآيات، يومئ سبحانه وتعالت كلماته، إلى أن الذين يوالون دولة معادية للإسلام وأهله يسيرون في طريق الردة، لأنهم تركوا ولاية الله
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأتِي اللَّهُ) الارتداد معناه الرجوع من غير هداية وإرشاد، ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى...). ومن ذلك قوله تعالى: (... وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِر...).
فالارتداد في الآية الكريمة التي نتكلم في معانيها السامية معناه الخروج عن الدين، ويسمى ذلك ردة؛ لأنه انصراف عن الحق بعد أن اهتدى، ورجوع إلى الظلام بعد أن خرج إلى النور، وهو كمن يرتد على أدباره غير مبصر الطريق الضال الذي يسلكه لأنه لَا يواجهه.
وفى النص إشارة إلى أمرين - أولهما - أن فيه إيماء إلى أن العرب فيهم من سيرتد بعد إيمان، وذلك قد كان، فإنه بعد أن انتقل النبي - ﷺ - إلى الرفيق الأعلى ارتدت قبائل عربية ولم تبق مساجد تقام فيها الصلوات إلا مسجد المدينة ومكة وعبد القيس، وقد تصدى لهم الصديق، وأصحاب رسول الله - ﷺ -، حتى أزالوا شوكة الردة، وخيرهم الصديق بين سلم مُخزية أو حرب مُجلية، فاختاروا السلم لتوالي هزائمهم الأولى، وكان منهم من اشترك في الفتوح الإسلامية التي كانت من بعدها كلمة الله هي العليا في المشرق والمغرب، وفتح الله معها قلوب الناس، فدخلوا في الإسلام أفواجا، أفواجا.
وإن الآية الكريمة تومئ ثانيا إلى أن تولى الكفار أعداء الإسلام واتخاذ النصرة منهم على المؤمنين، وجعل الولاية لهم دون المؤمنين طريق إلى الارتداد؛ لأن من يعتز بغير عزة الله تعالى ينقص من إيمانه بمقدار موالاته لأعداء الله تعالى، واستمراره في الموالاة وإعطاء الولاية، ولقد قال سبحانه: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...).
المرتبة المتوسطة - أن يواليهم في أوطانهم، ويستنصر بهم ويجعل ولايته لهم من غير معاونة لهم على أهل الإيمان، ولا تمكين لهم من رقاب المؤمنين، وتكون هذه للمستضعفين في أرضهم، وهؤلاء قد يفيض بهم الاستضعاف إلى أن يكونوا منهم، وبذلك يسيرون في طريق الخروج عن الدين.
المرتبة الأخيرة - أن نقدس تعاليمهم، ونحول مجتمعنا الإسلامي بما يشبه مجتمعهم، حتى يكون ما عندهم أمرا غير قابل للمناقشة، وما عندنا ولو كان من هَدْي الإسلام يكون قابلا للنقض، بل للاستهانة ووضعه دبر الآذان مما نراه من بعض المثقفين الآن في الديار الإسلامية، الذين لَا يتبعون أعداء المسلمين ويقلدونهم في الصناعات والعلوم الكونية، بل يقلدونهم في أهوائهم وشهواتهم ومجونهم، ومعابثهم، ويحسبون ذلك تقدما، وما هو إلا ارتداد إلى الحيوانية البهيمية، والأدهى من ذلك أن يعتبروا قوانينهم محكمة لَا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ويجعلوا شرع الله هملا مطويا في زوايا النسيان.
والجواب عن السؤال الثاني وهو تعرف حقيقة الردة، أن الردة مراتب أيضا.
أعلاها - إنكار ما جاء في كتاب الله تعالى، وإنكار الوحدانية والرسالة، وإنكار كل أمر علم من الدين بالضرورة ككون الصلوات خمسا، وكفرضية الزكاة والحج إلى آخر ما يُعَدُّ إطار الإسلام، من يخرج عنه قد خرج عن الإسلام، ومن ذلك أحكام الزواج والطلاق.
وأدناها - تقليد غير المسلمين فيما عندهم من شر، وجعل القرآن وآدابه، والسنة وما اشتملت عليه أمرا مهجورا.
وإن المرتبة الأولى تبيح قتل معتنقيها، والأخريان يحبس أصحابهما، ويمنعوا من الجهر بنحلهم، وذلك لولي الأمر، وإن ذا النورين الإمام عثمان - رضي الله عنه - قال: " إن الله يزع بالسلطان ما لَا يزع بالقرآن " (١) وإن الله وعد. وإن وعده لصدق أنه إذا ارتد عن الإسلام من يرتد، فيكون من بعدهم من يعتز الإسلام بهم، ويرفعون شأنه، ولذا قال تعالت كلماته: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ).
هؤلاء هم الذين وعد الله بأنهم سيزيدون عدد المؤمنين، إذا خرج من صفوفهم المنافقون، والذين يوالون أعداء الله، وإن (سوف) هنا لتأكيد وقوع الأمر في المستقبل، والتعبير - بـ (يَأتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ) فيه إشارة إلى أمرين: أحدهما - أن الله سبحانه الذي خلقكم، وهو ولي المؤمنين هو الذي يأتي بهؤلاء الأقوام الذين يحبهم ويحبونه... ، وثانيهما - أنهم يكونون قوما متحدة مشاعرهم وأحاسيسهم، قد كانت قوميتهم نصرة الله ورسوله بنصرة الدين الحكم، ولذا عبر عن هؤلاء بأنهم قوم، أي عنصر قوي متآزر وحدته مكونة من الإيمان، ولا يكونون تابعين لغير دين الله تعالى.
وقد وصف الله تعالى أولئك الذين يأتي بهم في المكان الذي أخلاه المرتدون بأربع صفات هي من نعم الله تعالى عليهم، أولها - أن الله تعالى يحبهم وهم
________
(١) ذكره ابن كثير في البداية والنهاية: ج ٢، ص/٩.
ومحبة الله تعالى لعباده التي تليق بذاته الكريمة المنزهة عن مشابهة الحوادث، هي أعلى درجات الرضا، فهي ليست الجزاء على النعيم وحده، ولا الغفران وحده، ولكنها مع الرضوان أكبر من ذلك، وقد قال تعالى في جزاء المؤمنين الخالصين لله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالدينَ فيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةَ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ منَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
وعندي أن مكافأة الله تعالى لعباده بفضل منه ثلاث مراتب: المرتبة الأولى - الغفران والنعيم المقيم، والمرتبة الثانية - رضاه سبحانه وتعالى، والمرتبة الثالثة - وهي أعلى درجات المحبة، وهي الرضوان الكامل، ومحبة الله حال تليق بذاته العلية.
هذه محبة الله تعالى، ومحبة العباد له سبحانه - الإحساس بتجاه النفس إلى الله تعالى، والشعور بأنه ملء نفسه وقلبه، وأنه لَا يدخل في قلبه شيء غير عظمة الله تعالى وجلاله، فلا يحس بأن في الوجود غيره، وأن تلك المحبة ثمرتها القريبة الدانية الطاعة المطلقة لله ولرسوله، فلا يكون محبا من يعصي حبيبه، ولذا قال الله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّه غَفُورٌ رحِيمٌ).
فالمحبة لله وطاعته، والقيام بالتكليفات الشرعية أمران متلازمان، فالطاعة لازمة للمحبة، وليس بصحيح ما يجري على ألسنة بعض مدعي التصوف، من أن المحبة لله إذا وصلت إلى أعلى درجاتها، سقط التكليف بالأعمال الظاهرة، بل إن المحبة البالغة تزيد الطاعة تثبيتا، وأحب خلق الله تعالى لله، وأكثرهم محبة له سبحانه هو محمد رسول الله - ﷺ -، وما قصَّر في تكليفه قط، ولا يتصور منه ذلك، وقد طالبه الله تعالى بأكثر مما طالب به غيره، فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا
الصفتان الثانية والثالثة - هما اللتان ذكرهما سبحانه وتعالى بقوله تعالت كلماته: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) والمعنى السامي لهذين الوصفين الكريمين أنهم أرقاء على المؤمنين في معاملتهم يخفضون جناحهم، كما قال تعالى في رفق الولد للأبوين: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرحْمَةِ...).
فهي ذلة حانية لأن خفض جناح الأخ لأخيه غير المتحكم فيه هي من قبيل التآلف العاطفي، لَا من قبيل الخنوع الذميم.
ومعنى قوله السامي: (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ). أنهم ينظرون إليهم نظرة العزيز الغالب لَا نظرة الذليل الخانع، فهم لَا يتملقونهم، ولا يترضونهم في غير مرضاة الله، و (عز) في أصل معناها غلب، كما قال تعالى: (... وَعزَّنِي فِي الْخِطَابِ). أي غلبني في الخطاب، وسيطر على الخصومة.
وهنا يرد سؤال لماذا تعدت كلمة أذلة على المؤمنين بـ " على " دون اللام، وقد أجاب الزمخشري في الكشاف عن ذلك بقوله: " فيه وجهان: أحدهما - أن يضمن الذل معنى الحنو والعطف، كأنه قيل عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع - والثاني - أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم، ونحوه قوله عز وجل: (... أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ...).
وخلاصة القول، أن هؤلاء المؤمنين يعاملون إخوانهم برفق ومحبة وبشاشة وعطف، ويعاملون أعداء الإسلام بغلظة وخصوصا في الميدان، كما قال سبحانه: (... جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ...). وقد جاء في
الصفة الرابعة بينها سبحانه وتعالى بقوله: (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ).
المجاهدة المغالبة وبذل الجهد، وهو أقصى الطاقة، في سبيل الله أي: في سبيل رفعة كلمة الحق ونصر دينه وإعلاء شأنه، وكل مجاهدة في إعلاء حق وخفض باطل هي في سبيل الله؛ لأن طريق الله تعالى هي طريق الحق أيا كان موضعه، وأيا كان باعثه؛ لأن شرع الله تعالى يدعو إلى الحق، وإلى صراط مستقيم.
وإن الجهاد تتنوع ضروبه، وتختلف أساليبه، فقد يكون بالسيف لإعلاء كلمة الله، ورد الأعداء عن أهل الإيمان، وقد يكون ببذل المال لنصر الدين والحق، وإعلاء كلمة أهل الإيمان، وقد يكون باللسان ببيان الحقائق الإسلامية، وتأليب الناس على المشركين، ولقد قال - عليه السلام - " جاهدوا المشركين بأنفسكم وألسنتكم وأموالكم " (٢).
وإن الجهاد في الحق يوجب على المجاهد ألا يخشى غير الله، ولذلك وصف الله سبحانه أولئك المجاهدين بأنهم: (وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ). أي لا يخافون لومًا قط من أي لائم كائنا من كان، واللومة هي المرة من اللوم، وكان التعبير باللومة دون اللوم للمبالغة في نفي الخوف لأنها منكَّرة، ومن تصدر عنه منكَّر، أي لَا يخافون أي لومة سواء أكانت شديدة أو كانت رقيقة، ومن أي لائم سواء أكان كبيرا أم كان صغيرا، وسواء أكان ينفع ويضر أم كان لَا خير فيه، هذا ما ذكره المفسرون، ونلتمس وجها آخر للتعبير، باللومة، وهو أن التعبير بفعل المرة يفيد وقوع اللوم، لَا مجرد توقعه، أي أن هؤلاء لَا يخافون اللوم الواقع، بل
________
(١) ذكره ابن كثير في التفسير: ج ٣، ص ١٢٣، وقال في ج ٤، ص ٢٠٨.
(٢) سبق تخريجه.
(ذَلِكَ فَضْل اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) الإشارة في هذا النص السامي، إما أن تكون لكل ما سبق من إيمان صادق، ومحبة من الله ورضوان منه، ومحبة من العبد ومعها الطاعة المطلقة لله ولرسوله، وتعاطف وتراحم بينهم، وشدة على أعدائهم وجهاد سبيله، وإما أن تكون لأقرب مذكور، وهو الجهاد في سبيل الله، واطراح لوم اللائمين وعدم الالتفات إليهم، وإنه على الاحتمالين ذلك من فضل الله تعالى، الذي يصطفي من عباده من يكون أهلا لذلك، ويعمل بإرادته ليصل إلى هذه، وكانت هذه الصفات من فضل الله تعالى؛ لأن الإخلاص لله تعالى، والفناء في محبته نعمة لَا يدركها إلا من يذوق حلاوتها، والتآلف بين المؤمنين والتعاطف والبر فضل كبير تعتز به الأمم، والوقوف أمام الأعداء، والجهاد في سبيله، والرضا به، والعمل فيه فوز عظيم لأنه حماية للحوزة، ومنع للذلة.
وقد ذيل سبحانه وتعالى النص بقوله تعالت كلماته: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
________
(١) رواه النسائي: البيعة - فضل من تكلك بالحق عند إمام جائر (٤٢٠٩)، وأحمد: أول مسند الشاميين - حديث طارق بن شهاب (١٨٣٤٩).
(٢) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ، أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ، وَلَا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ، أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ ". رواه أحمد: باقي مسند المكثرين - مسند وأبي سعيد الخدري (١١٠٨٢).
(٣) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَرَى أَمْرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالًا، ثُمَّ لَا يَقُولُهُ، فَيَقُولُ اللهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَ فِيهِ، فَيَقُولُ: رَبِّي خَشِيتُ النَّاسَ، فَيَقُولُ: وَأَنَا أَحَقُّ أَنْ تَخْشَى ". رواه أحمد: باقي مسند المكثرين - مسند أبي سعيد الخدَري (١٠٨٦٢).
* * *
(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (٥٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (٦٠)
* * *
الكلام السامي موصول في بيان نهى المؤمنين عن أن يتخدوا نصراء من اليهود والنصارى وسائر الكفار، وفي هذا النص الكريم يبين سبحانه أن هؤلاء
وقد قصرت الولاية على هؤلاء بأداة القصر " إنما "، والمعنى أن الله تعالى ورسوله والمؤمنين الصادقين في إيمانهم الذين لم يعترهم زيغ ولا ضعف، ولا استخذاء واستكانة للذل، واستسلام للأعداء، ولا ولي للمؤمن غير هؤلاء، فلا يصح للمؤمن أن يطلب بأي صورة النصرة من غيرهم؛ لأن قلوبهم مهما يكونوا مطوية على ضغن شديد، وحقد مستمكن، وهم لَا يريدون بالإسلام وأهله إلا الهوان، بل الفناء.
وفى هذا النص عبرة للمعتبرين الذين يرتمون في أحضان أعداء الإسلام، ويوالونهم، وهم الذين يؤذون المسلمين، ويخرجونهم من ديارهم، ويظاهرون على إخراجهم، والنبي عليه السلام يقول: " المسلم أخو المسلم لَا يحقره، ولا يظلمه، ولا يسلمه، ولا يخذله " (١).
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعونَ) هذه أوصاف المؤمنين الجديرين بأن يكونوا مع الله ورسوله في ولاية المؤمنين، وقد ذكرت لهم أوصافا
________
(١) متفق عليه، وقد سبق تخريجه، واللفظ لمسلم.
والوصف الثاني أنهم يؤتون الزكاة، أي يعطونها سمحة بها نفوسهم، راضية بعطائها قلوبهم يحسبون أن عطاءها مغنم لَا مغرم، وذلك هو التعاون المادي المنبعث من القلب. وإذا كانت الصلاة مبعث التآلف الروحي، فالزكاة مظهر التعاون المادي الخالص.
والوصف الثالث ذكره سبحانه وتعالى بقوله: (وَهُمْ رَاكِعُونَ).
لقد قال كثير من المفسرين: إن هذه الجملة حالية من قوله تعالى: (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ). أي أن إعطاء الزكاة يكون في حال الركوع، ويقولون: إن سبب ذكر ذلك أن إمام الهدى عليًّا أعطى صدقة وهو راكع، ولا نرى ذلك؛ لأن ذلك قطع للصلاة وانصراف عنها، ولا يكون ذلك من على كرم الله وجهه، وثانيا - أن اللفظ، ومؤدى ذلك أنه يكون محمودا من المؤمنين أن يؤدوا زكواتهم وهم يركعون ركوع الصلاة.
والذي نراه أن الركوع هنا ليس هو ركوع الصلاة المفروضة، إنما هو الخضوع المطلق لله تعالى في كل أعمالهم، في مصانعهم، ومتاجرهم ومزارعهم، وسياستهم، بحيث يكون كل شيء لله تعالى؛ ويتحقق فيهم قول النبي عليه السلام: " لا يؤمن أحدكم، حتى يحب الشيء لَا يحبه إلا لله " (١). سبحانه في الغدوات والروحات.
________
(١) سبق تخريج ما في معناه من حديث صحيح.
" الركوع: الانحناء، فتارة في الهيئة المخصوصة في الصلاة، كما هي، وتارة في التواضع والتذلل، وإما في غيرهأ. والله أعلم.
* * *
* * *
الحزب معناه:
الجمع المتضافر المتآزر القوي الذي يمانع ويقاوم، سواء أكان في الخير أم كان في الشر، وحزب الله تعالى حزب الخير، ولا خير أعلى مما يجتمع عليه.
ومعنى النص الكريم: من يجعل نصرته من الله ورسوله وولاءه لهما، وأمره إليهما، فإنه سيكون حزب الله المتضافر على الخير، وسيكون هو الغالب إن شاء الله، وهنا إشارتان بيانيتان ننوه عنهما:
إحداهما - أن قوله تعالى: (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ). يومئ إلى مقدر محذوف من القول يُبيِّن في المعنى، وهو أن الذي يتولى الله ورسوله يكون من حزب الله القوي المتضافر على الخير، وإن حزب الله وجماعته هم الغالبون.
الثانية - أنه في قوله: (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ). لم يذكر اسم الرسول - ﷺ -، وفي ذلك إشارة إلى أن الرسول لَا يعمل إلا بأمر من الله، فيكتفى هنا بذكر الله؛ لأنه المسيطر الغالب القاهر فوق عباده، اللهم اجعل ولايتنا لله تعالى ولرسوله وللمؤمنين، اللهم اجعلنا من حزب الله دون غيره.
* * *
* * *
النداء للمؤمنين بالوصف الذي ميزوا به، واختصوا به دون الناس، وهو مناط رفعتهم وجامع وحدتهم، وإذا كان الدين هو الجامع لهم فالذين يسخرون منه، ويستهزئون به يصيبونهم في صميم ما عليه جتمعون، وبه يعملون، وفي سبيله قدَّموا، ويقدمون الفداء، والمعنى: يا أيها الذين اتصفوا بالإيمان، لَا تتخذوا نصراء وأحبابا أولئك الذين يسخرون من دينكم بجعله لعبة يلعبون بها، ومسلاة يتسلون في عبثهم بها، ويستهزئون به مستخفين، فهذا النص تحريض على عدم الانتماء إليهم
وهنا مباحث لفظية في بيانها تقريب لمعنى النص السامي.
أول هذه المباحث - التفرقة بين الهزء واللعب؛ فهما في النص الكريم معطوف أحدهما على الآخر، وبمقتضى هذا العطف هما متغايران، وإن كانا ينتهيان إلى معنى واحد، وهو السخرية بالاستهزاء، والعبث، فهم يسخرون من الدين، ويسخرون من أهله، ويستهزئون بأهله، ويتعابثون به ويلعبون بحقائقه.
والهزء معناه المزح في خفة، أو المزح في مقام الجد للسخرية بموضوعه، والعبث به، وقد يكون بالقيام بظاهر بعض الأعمال، وهو يخفي نقيضها، كما قال سبحانه وتعالى عنِ المنافقين (وَإذَا لَقُوا الَّذينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ).
وعلى هذا يكون معنى الاستهزاء أو الهزء مشتملا على معاني الاستخفاف والتهكم، والمزح العائب.
واللعب أصل معناه من لعاب الطفل، ويقال عن الطفل لعب بفتح العين إذا سال لعابه، ومعناه - على العموم - العمل الذي لَا يقصد به نفع، ولا طلب ثمرة، بل يقصد به مجرد إزجاء الفراغ، والتسلية.
والمعنى الجملي للفظين: أنهم يسخرون من الدين باتخاذه موضع استهزاء ومزح، وموضع لعب وعبث لَا يقصدون نحوه بشيء إلا بما يقصد به اللاعب للعبته وهذا أبعد ما تكون عليه الاستهانة، فهل يجوز لمؤمن أن يقبل موالاة هؤلاء، وهو لايزال على صفة الإيمان.
وقد وصف عملهم بأنهم اتخذوا الدين هزوا، أي جعلوه هزوا ولعبا، أي جعلوه مستهزئا يمزحون به ولعبة يلعبون بها، وقد قدر بعض العلماء محذوفا، وهو أن يكون موضع استهزاء ولعب.
(مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ) و (مِّنَ) هنا بيانية فيها بيان لأولئك الذين يستهزئون ويلعبون بدين الله دين الحق، وهم اليهود والنصارى، وعبر عنهم بـ " أوتوا الكتاب "؛ لأن أصل شرعهم ينتمي إلى كتاب منزل، وإن حرفوا فيه الكلم عن مواضعه وغيروا وبدلوا ونسوا حظا مما ذكروا به، وهم كفار، وليس كفر أعظم من كفر، إلا أن تكون بقية علم عندهم، وهي لا تجعل لهم مقاما أدنى في الكفر، ولو كانت تجعل في الإمكان التلاقي في بعض المعلومات الدينية التي لم يعبثوا بها.
وقد تكلم العلماء فقال الأكثرون: إن الكفار هم المشركون، وأطلق عليهم الكفار دون إطلاقه على أهل الكتاب، وقد علله بعضهم بأن كفرهم أشد، وعندي أنهم جميعا كفار، لقوله تعالى: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُئم الْبَيِّنَةُ) أالبينة]. وليس كفرهم أعظم من كفر أهل الكتاب؛ لأن كفرهم عن جهل، وكفر المشركين عن علم، ولا يمكن أن يكون الجهل عنصرا مشددا، والعلم عنصرا مخففا، ولكن ذكروا بوصف الكفار؛ لأنه لا وصف لهم غيره، إذ لم يؤتوا بكتاب.
على أننا نرى أن عطف الكفار على أهل الكتاب من باب عطف العام على الخاص، فكلمة كفار تشمل كل كافر بمحمد - ﷺ -، على أنه خص أهل الكتاب بالذكر، لأنه الموضوع من الأصل في عدم موالاة المؤمنين لليهود والنصارى، ثم عمم الحكم على الجميع ممن كفروا بمحمد - ﷺ -.
المبحث الثالث - في قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
وكان الأمر بالتقوى في هذا المقام، للإشارة إلى أن ذلك هو الحصن الحصين الذي يغني عن طلب الأولياء، لأن معنى التقوى اتخاذ الله سبحانه وتعالى وقاية دون شر الأشرار إذ إن النصرة لَا تكون إلا منه، وهو المعاذ، والملجأ والناصر والولي، ولأن اجتلاء النفس بتقوى الله تعالى وخشيته تجعل كل قوى مهما تكن
وقد بين سبحانه أن ذلك وصف أهل الإيمان، ولذلك قال سبحانه: (إِن كُنتُم مؤْمِنِينَ). وقد أخذ سبحانه يبين بعض أوقات استهزائهم، قال سبحانه:
* * *
* * *
هذا تصوير لبعض مواضع استهزائهم، ولعبهم بالدين، وقد صور الله حالهم في أمر واقع، وهو عند النداء للصلاة، أي نداء المسلمين بالصلاة، وهو الأذان، وليس مجرد النداء، وكان موضع استهزائهم الصلاة، والدعوة إليها بالأذان، فالضمير في قوله تعالى: (اتَّخَذُوهَا هُزُوًا) يعود إلى الصلاة ومقدمة الصلاة وهو الدعوة إليها، وقد روي أنهم اتخذوها هزوا ولعبا، فمنهم من كان يتخذ النداء أداة استخفاف بمحاكاة صوت المؤذن، واللعب بتقليده تهكما وتعابثا، ومنهم من اتخذ شكل الصلاة الإسلامية موضع تعابث وسخرية واستهزاء.
فقد روى الإمام أحمد - رضي الله تعالى عنه - في مسنده أن عبد الله بن محيريز وكان يتيما في حجر أبي محذورة، وقد كان أبو محذورة من مؤذني رسول الله - ﷺ - وقد سأله ابن محيريز عن تأذينه لرسول الله - ﷺ - فقال: سمعنا صوت المؤذن، ونحن متنكبون، فصرخنا نحكيه، ونستهزئ به فسمع رسول الله - ﷺ - فقال: " أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع، فأشار القوم كلهم إليَّ، وصدقوا، فأرسلهم، وحبسني إليه، وقال: " قم فأذِّن " ثم علَّمه الرسول عليه السلام الأذان وقال له: " بارك الله فيك، وبارك عليه " فهداه الله تعالى، وصار مؤذن رسول الله - ﷺ -، بمكة، وهكذا ابتدأ كافرا مستهزئا بالأذان ساخرا منه، وانتهى مؤمنا صادقا مؤذنا لرسول الله - ﷺ - (١).
________
(١) رواه النسائي: الأذان - كيف الأذان (٦٣٢)، وابن ماجه: الأذان والسنة فيه - الترجيع في الأذان (٧٠٨)، وأحمد: مسند المكيين - أحاديث أبي محذورة المؤذن رضي الله عنه (١٤٩٥٥).
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) الإشارة هنا إلى ما كان منهم من استهزاء وسخرية واتخاذ الأعمال الإسلامية لعبة يتلاعبون بها، والمعنى: أن هذا الذي كان منهم سببه أن أحلامهم قد سفهت، وصاروا لَا يدركون الأمور على وجهها فلا يفكرون في الأمور تفكير العقلاء الذين يتدبرون بعقولهم، وقد قام لديهم البرهان العقلي القاطع، والدليل الساطع على أن ما جاء به محمد لَا يقبل الإنكار لمن يفكر بعقله، ويتدبر في مبادئ الأمور وعواقبها.
ولماذا كان اليهود وبعض النصارى على هذه الشاكلة يتصرفون تصرف من لا عقل عنده، إذ يطمسون الحقائق، ويسخرون مما لَا سخرية فيه؟ الجواب عن ذلك أنه قد طمس على قلوبهم، والحقد قد ران على مداركهم، فأصبحوا لَا يدركون ما يوجبه العقل السليم، والفكر المستقيم، ولا شيء يذهب بلب اللبيب وإدراك العقل السليم أكثر من الحقد، ذلك بأن تمني الشر، وحسد غيره على ما في يده من نعمة، وما آتاه الله تعالى من خير يلقي حجابا على عقله فلا يدرك، وعلى قلبه فلا يؤمن ولذا قال سبحانه من بعده:
* * *
* * *
نقم منه معناه عاب عليه أمرا، وأنكره، ومنه الانتقام بمعنى العقاب، وذلك لأن العقاب لَا يقع إلا من أمر ينكره المعاقب ويعيبه، فيتبعه العقاب، فهو نتيجة الاستنكار لمن يقدر على العقاب، ويرى فيه حكمة توجبه.
والاستفهام هنا استفهام إنكاري لنفي الواقع، فهو توبيخ مؤكد بالاستفهام، والمعنى أن الله تعالى يأمر نبيه الأمين أن يسألهم موبخا منكرا عليهم أنهم لا
المبحث الأول - كيف يعيبون الإيمان مع أنهم كافرون، وإنما يحسد على الإيمان من يدركه، ويعرف مزاياه ويحقد على المؤمن؛ لأنه حرم منه، والجواب عن ذلك أن أهل الكتاب يعرفون الرسالة والرسل، ومنهم موحدون يدركون معاني التوحيد، وهم يحسدون المؤمنين على ذلك، وخصوصا اليهود والمنافقين، وقد قال تعالى فيهم: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذوا منْهُمْ أَوْليَاءَ...). وقال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩).
فهؤلاء الكافرون من أهل الكتاب يستنكرون على المؤمنين إيمانهم، والباعث على ذلك أمران: أحدهما - حسد مستكن في قلوبهم، وهم يرون أن النبوة نعمة كانوا يرجونها فيهم، فكانت في غيرهم، وأن الإيمان نعمة وخير، وهم يحسدون الناس دائما على ما آتاهم من فضله، وقد قتلهم الحسد، وأفسد مداركهم.
الأمر الثاني الذي بعثهم على النقمة على أهل الإيمان أنهم يرونهم في قوة نامية، وهم في خسة هاوية، وهم كفار منزعجون، وأولئك مؤمنون مطمئنون.
المبحث الثاني - إن في النص الكريم حصرا لسبب النقمة على المسلمين، ولذلك كان الاستنثاء في قوله تعالت كلماته: (هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ).
المبحث الثالث - أن إيمان المؤمنين شامل للرسالات الإلهية كلها، فهم يؤمنون بما أنزل على محمد - ﷺ - وما أنزل من قبله، واليهود كانوا يأخذون على المؤمنين أنهم يؤمنون بكل الأنبياء، ومنهم من قتلوهم، ومنهم من حاولوا قتله، ولم يستطيعوا أن ينالوا منه، وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن
المبحث الرابع - أن الله تعالى قال: (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ). ولم يقل سبحانه وأنتم فاسقون، إنصافا للذين يقتصدون منهم، وقد قال تعالى:
(... مّنْهُمْ أُمَّةٌ مقْتَصدَةٌ وَكَثِيرٌ منْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ). وقال تعالى:
(لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥).
وإن الأكثرين منهم فاسقون، بل إنه يكون منهم ما هو شر من الفسق في ذاته، فيقعون مع الفسق في أشد مظاهر الخسة، ولذا قال سبحانه فيهم:
* * *
* * *
أمر الله تعالى نبيه أن ينبههم إلى عظيم شرهم، والاستفهام هنا للتنبيه، الخطير في ذاته، والتنبيء به ذكره مؤكدا.
والإشارة عند الأكثرين إلى ما نقمه اليهود على النبي - ﷺ - والمؤمنين معه من أنهم يؤمنون بالرسالات الإلهية كلها لَا فرق بين رسول ورسول، ولو كانوا هم قد قتلوه أو حاولوا قتله، والمثوبة في أصل معناها الجزاء الثابت على العمل، سواء أكان شرا أم كان خيرا، ولكن شاع استعمالها في الخير، وهي في لغة القرآن لا تكون إلا في الخير كالثواب فإنه مقابل العقاب.
وهنا يرد سؤالان: أولهما - كيف يكون الإيمان شرا، ويوجد ما هو أعظم شرا منه؟. وكيف يعبر عن جزاء الشر بالثوبة؟. والجواب عن السؤالين: إن في التعبير عن ثمرات شرهم بالمثوبة من التهكم بهم، والازدراء بتفكيرهم، وإن التعبير
وقيل: إن الإشارة إلى فسقهم، ومؤدى الكلام على هذا أن هناك ما هو شر من فسقهم وجحودهم، وهو ثمرة فعلهم، وتلك الثمرة هي اللعن والطرد من رحمته، ومسخهم قردة وخنازير، وكأن قوله: (أَكْثَرَكمْ فَاسِقُونَ) فيها حكم بالفسق الدائم المستمر في اليهود الذي يتوارثونه جيلا بعد جيل، حتى صار ذلك كالجبلة فيهم والغرائز الموروثة، وقوله تعالى:
(أُوْلَئِكَ شَر مَّكَانًا) بيان لثمرة فسقهم. ولكن الظاهر هو الأول؛ لأن المقابلة واضحة في هذا النص الأخير، إذ فيه مقابلة ما عليه أهل الإيمان بما آل إليه أمرهم.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى حالهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالت كلماته:
(مَن لَّعَنَه اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْه وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغوتَ) المقابلة هنا بين من آمنوا بالله ورسَله، وبين من أنزل بهم سبحانه ما أنزل، وقد ذكرهم مقرونين بما أنزله سبحانه، ومعنى من لعنه الله، أنه طردهم من رحمته، رحمة الإيمان وإدراك الحق والقرار والاطمئنان في الدنيا، وضرب الذلة عليهم إلا بحبل من الناس، وإن استقروا زمانا فإلى طرد مستمر، هكذا كان ماضيهم، وهكذا يكون حاضرهم إن شاء الله تعالى، وإنهم في الآخرة في السعير يدوم عليهم عذابها.
والأمر الثاني - الذي ينزله تعالى بهم هو غضبه عليهم، وسيعاملون في الدنيا والآخرة على مقتضى حكمته في غضبه وعدم رضاه.
والأمر الثالث - أن الله سبحانه وتعالى جعل منهم القردة والخنازير، وقد سار الفسرون على الأخذ بظاهر اللفظ، وقالوا: إن الله تعالى مسخهم قردة
ومع أن المفسرين قد أخذوا بظاهر الألفاظ من غير تأويل، قد روي عن مجاهد الذي تلقَّى التفسير عن ترجمان القرآن ابن عباس أن المراد بمسخهم قردة وخنازير مسخ قلوبهم، فصاروا في نزواتهم، واستيلاء الشهوات على نفوسهم وعبثهم بكل مقدرات القيم الخلقية كالقردة، كما صاروا في قذارات نفوسهم، وتطلبهم للقذر من المكاسب كالخنازير إذا يطلبون القذارات يأكلونها، وتنمو أجسامهم عليها.
وقد قال ابن كثير في تفسيره ما نصه عن مجاهد: " فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين، فقال: مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة، وإنما هم مثل ضربه الله تعالى: (... كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا...). وهذا سند جيد عن مجاهد وهو قول غريب (الجزء الأول من تفسير ابن كثير ص ١٠٥ طبع التجارية).
وعندي أنه لَا غرابة، وإن كان الأكثرون يستغربونه، وإنه قد وردت أحاديث قد تفيد هذا، فقد روي عن ابن مسعود أنه قال: " سألنا رسول الله - ﷺ - عن القردة والخنازير أهي من نسل اليهود؛ فقال - ﷺ -: " إن الله لم يلعن قوما قط فمسخهم فكان لهم نسل، ولكن هذا خلق كان فلما غضب الله تعالى على اليهود فمسخهم جعلهم مثلهم " (١).
________
(١) رواه أحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن مسعود (٣٧٣٩).
والأمر الثالث الذي منى الله تعالى به اليهود أنهم عبدوا الطاغوت، والطاغوت فعلوت من الطغيان وهم يعبدون الطغيان دائما، فهم يعبدون الحاكم الطاغي، ويكونون أدواته، وهم يعبدون المال الطاغي المأخوذ من غير حله، وهم يعبدون الهوى ويتخذون هواهم إلها يعبدونه.
وقد سجل الله سبحانه وتعالى الحكم مؤكدا فقال سبحانه:
(أُوْلئِكَ شَرٌّ مكَانًا وأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ) أي أولئك المتصفون بالفسق الذي أنزل الله تعالى عليهم سخطه، وقرر طردهم من رحمته، ومسخ قلوبهم حتى صارت قلوبهم كقلوب القردة والخنازير، وعبدوا الطغيان، ولم يؤمنوا بالحق، هؤلاء شر مكانا، أي مكانهم في الدنيا شر مكان إذ يأكلون من المحرمات، كما تأكل الخنازير من القاذورات، وهم في ذلة، ولو أوتوا قوة وسلطانا بسبب اتصالهم بأشرار الأرض، فهم في ذلك بالتبعية، وهم أبعد عن الطريق السوي المستقيم، فهم في ضلال مستمر، وإن سكنوا واطمأنوا أياما فسيذيقهم الله تعالى وبال أمرهم، ويحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.
* * *
(وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)
* * *
وقال سبحانه وتعالى فيهم: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥).
وكان الخطاب للنبي - ﷺ - والمؤمنين ليذكرهم بصفات المنافقين واليهود، وليؤكد لهم أنهم لَا يصلحون أن يكونوا أولياء لكم؛ لأن الولي النصير أو المحب يجب أن يفتح قلبه لك، ويخلص لك الود، ويمحض لك المحبة، واليهودي ومحبته للناس نقيضان لَا يجتمعان، فلا تتخذوا منهم معشر المؤمنين أولياء، لأنه لَا ولاء لمنافق، ولا محبة من حقود حاسد، وقد كان ذلك تصويرا لحالهم، في نفاقهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وقد صور ذلك سبحانه بقوله تعالت كلماته: (وَقَد دَّخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ). أي أنهم كانوا على ما هم عليه عندما دخلوا وعندما خرجوا دخلوا كافرين، وقد قال النحويون: تكون للتكثير أو للتقليل عندما تدخل على المضارع، وتكون للتقريب أو التحقيق عندما تدخل على الماضي،
و (قَدْ) هنا قال المفسرون للتقريب، أي أنها قربت الماضي من الحال القائمة، والجملة الماضوية لَا تكون حالا إلا إذا جاء معها قد، ليكون معنى التقريب قائما، وهو تقريب الحال القائمة من الماضي المستقر، والمعنى أنهم دخلوا كافرين، وخرجوا كافرين.
وأرى أن (قَدْ) هنا للتحقيق، وتأكيد المعنى، والباء للمصاحبة، والمعنى دخلوا مصاحبين لكفرهم المؤكد وخرجوا مصاحبين للكفر المؤكد، وقد تأكدت حالهم الأولى بالتعبير بقد، وتأكدت حالهم وهي الخروج بالكفر بقد وبهم، فكان تأكيد مصاحبتهم للكفر وهم خارجون أقوى من تأكيدها وهم داخلون، وهذا للإشارة إلى أنهم ما دخلوا بقلب سليم، بل دخلوا مخادعين منافقين، ودخولهم على هذه النية المحتسبة عليهم تزيدهم كفرا ونفاقا، لأنهم كلما لاح دليل زادهم عنتا، وزادهم كفرا على كفرهم، والتعبير بـ (هم) الدالة على القصر فيه إشارة إلى أنهم مقصورون في خروجهم على الكفر ليس لهم حال سواه، وذلك فضل تأكيد.
(وَاللَّه أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ) صدر الله سبحانه وتعالى النص الكريم بلفظ الجلالة لتربية المهابة، ولبيان أنه الناصر والولي الذي لَا يخفى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء، وأن تدبيره فوق كل تدبير، وعلمه فوق كل علم،
والتعبير بقوله تعالت كلماته: (بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ). بالجمع بين الماضي والمستقبل يفيد أنه يعلم بما كتموه في الماضي، وما يكتمونه في الحاضر والقابل، فهو سبحانه يعلم ماضي أمرهم، وحاضره، ومغيبه، ولفظة كانوا على هذا المعنى تفيد العلم المستمر.
بعد ذلك بين الله سبحانه أخلاقهم بعد أن بين معاملتهم لأهل الإيمان فقال تعالت كلماته:
* * *
* * *
في هذا النص توجيه النبي - ﷺ - إلى ما عليه كثير من اليهود من مفاسق ومفاجر وعدوان، وقد كانت عبارات التنبيه موجهة واضحة وموضوعها بيِّن يُرى بالعين أو بما يشبه العين لوضوحه، فأنت ترى الكثرِين منهم يخوضون في الشر خوضا، لَا يرعوون، ولا يجتنبون سوءا بل يقدمون على كل حرب وشر.
وحكم الله تعالى عدل دائم، وينبه سبحانه إلى العدل في الأحكام، فهو سبحانه لم ينبه النبي - عليه السلام - إلى أنهم جميعا فيهم الشر مستحكم، بل في الكثير، لَا في الكل ولا في القليل، ومعنى المسارعة في الإثم والعدوان المعاجلة وعدم التردد، فهم لَا يترددون في ارتكاب الإثم والعدوان، وربما يترددون كل التردد في الخير ونفع الناس لذات النفع، والتعدية بـ في تشير إلى أنهم مغمورون في الآثام ينتقلون فيها مسارعين من حال إلى شر منه، فهم يرتعون فيها دائما.
وقد تكلم العلماء في معنى الإثم والعدوان، فقال بعضهم: الإثم هو الكذب، والعدوان هو تعدي حدود الله تعالى، والاعتداء على محارمه.
والذي نراه أن الإثم كما هو الأصل اللغوي له في الجملة هو ما يبطئ عن الخير، والكذب إثم لأنه يبطئ عن فعل الخير، فالإثم هو ما عند اليهود من تباطؤ عن الخير، وعصيان للأوامر التي يكون في أدائها نفع الناس، والنص يبين أن هؤلاء يعملون أعمالا من شأنها أن تبطئ عن فعل الخير، ويعوقونه، وهم مع ذلك يعتدون على غيرهم، فهم محرومون من الخير سلبا وإيجابا لَا يفعلونه ويفعلون نقيضه، والله تعالى من ورائهم محيط.
وإنهم لفساد نفوسهم، واستيلاء الشر على قلوبهم فسدت مداركهم، حتى أنهم يحسبون أن ما يفعلونه من آثام وعدوان هو خيرا، وهو فساد في الأرض عظيم، ولذلك عبر سبحانه عن عملهم السوء في عجلة وتسرع من غير مواناة بالمسارعة مع أن أكثر استعمال المسارعة في الخير، كما قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفرَةٍ مِّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةِ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ للْمُتَّقينَ).
وكما قال تعالى: (... وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ...).
وقوله: (نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ...). وذلك لأنهم يحسبونه خيرا فعبر عنه باللفظ الذي يدل على الخير، إذ إنهم لفساد قلوبهم يأثمون ويؤذون ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، وأوضح اعتداءاتهم على الناس أكلهم أموالهم بالباطل، ولذلك قال سبحانه عاطفا على سوء عملهم: (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ).
السحت: ما يستأصل من قشور الأشياء، وسحته معناه استأصله، والسحت والإسحات الاستئصال، كما قال تعالى: (... فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ...).
وقد أطلق السحت على كل محظور؛ لأنه يستأصل أخذه كل علاقة اجتماعية تربط الناس بعضهم ببعض وتفسد أمورهم، كالربا، والرشوة، وأخذ الأموال بالغش والتزوير والنصب، والاحتكار الآثم الذي قال فيه النبي - ﷺ -: " المحتكر خاطئ " أي آثم.
وإن اليهود بسبب بغضهم الشديد الذي توارثوه جيلا بعد جيل، قد انفصلوا عن الناس بقلوبهم، وقد عاشوا مضطهدين في وسط النصارى أذاقوهم الويل والذل أكؤسا، فكوَّنوا الجماعات السرية ليفتكوا بالوحدات الاجتماعية، وليفسدوا العلائق بينها، وما من دعوة مخربة إلا كان اليهود دعامتها، وأخذوا يكتنزون الأموال بالطرق المحرمة، فهم الذين نشروا الربا في الأرض، وهو من أخبث أنواع السحت واتخذوا الرشوة سبيلا لبسط سلطانهم في الأرض، واتخذوا الاحتكار ذريعة لتجويع الناس، والناس جميعا في نظرهم أعداؤهم، واتخذوا النصب والاحتيال والغش والخديعة ذريعة لأكل أموال الناس بالباطل، وإن تظاهروا بفضيلة مالية، لكي يكتسبوا من هذا المظهر، وبذلك أفسدوا الضمائر وهتكوا حمى الفضائل، وأزالوا أو حاولوا أن يزيلوا كل المقومات الخلقية، ليفسدوا المجتمعات، ويزيلوا كل القيم، وإن الذلة تلاحقهم إن شاء الله تعالى، وقد حكم سبحانه على أعمالهم بقوله تعالت كلماته: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
ذلك حكم صارم قاطع يذم أعمالهم، والله سبحانه وتعالى حكم ذلك الحكم القاطع على أعمالهم باستحقاقها للمذمة؛ لأنها مخالفة لأوامر الله تعالى ونواهيه، وهي شر في ذاتها، وهي مقوضة لكل مقوم للأخلاق والفضائل والعلاقات الإنسانية.
والحكم على ما كان منهم وما هم مستمرون فيه من عمل، ولذلك عبر بالماضي والحاضر، فذكر كان بلفظ الماضي، و (يعملون) بلفظ المضارع الدال على الحال والمستقبل، ومؤدى ذلك الجمع، أي أن ذلك كان منهم في الماضي وهو مذموم، واستمروا عليه في الحاضر والمستقبل، وذلك أشد شرا، وأوغل فسادا.
والله سبحانه وتعالى يتولى الناس، ويدفع عنهم شرهم، ويرد عنهم كيدهم، وإنهم منذ أخرجوا من مصر مستنقذين على يد كليم الله تعالى موسى - عليه السلام - ونفوسهم في الشر، يبدو منهم وتتوالى مقاومة الناس لهم، ولذلك قد تولد معه إحساس بالكمال دون الناس، حتى توهموا أنهم الشعب المختار في هذه الأرض، ولكي يفرضوا سلطانهم لم يجدوا سبيلا إلا المال، فأكلوه سحتا، وأنفقوه سحتا وتوارثوا ذلك خلفا عن سلف، حتى إن المستقرئ لتاريخ الأمم لا يجد جماعة من الناس تشابه حاضرها بماضيها، تشابه حاضر اليهود بماضيهم، حتى إن القرآن الكريم كان يخاطب الحاضرين منهم بأعمال الماضين؛ لأنهم مثلهم تماما وعلى شاكلتهم، وهم غير قابلين للتغير.
وما عندهم من بقية من التوراة كتابهم، لَا يغير طباعهم، فلا يتكون عندهم رأى عام إلا من تعاليم السابقين، وعلماؤهم يجارونهم، ولا يبينون لهم، فكان رأيهم العام فاسدا لشيوع الفساد فيه، وعدم وجود من يرشدهم إلى الصواب، ولذا قال تعالى:
* * *
* * *
الربانيون هنا هم العلماء الذين يحاولون أن يكون علمهم لله، ويتصلون بربهم حتى ينسبوا إليه ولا يكون لهم وصف إلا نسبتهم إليه سبحانه، يزعمون ذلك في أقوالهم ويظهرونه في أْعمالهم، والأحبار هم الفقهاء أو العلماء الذين يفسرون أحكام الكتاب، ويعرفون الناس بشئون دينهم، وقد يكون من يجمع بين الوصفين، ولكن لكل وصف جانب من العمل.
و (لَوْلا) هنا للحض على الفعل في المستقبل، والتوبيخ في الماضي على عدم فعله، وهو هنا للتوبيخ على تقصيرهم في الماضي وتخاذلهم عن أدائه، وإلا ما كان ذم حالهم، واستنكار أمرهم، والمعنى: هلا كان من هؤلاء الذين كان
ولقد كان الموضع الذي كان ينبغي أن ينهوا عنه هو قولهم الإثم وأكلهم السحت، فالنهي الواجب منصب على أمرين: أحدهما - قول الإثم، أي القول المبطئ المانع من الخير، والثاني - أكل السحت، والأمران جماع الرذائل - فإن الذي يدفع إلى الشر قول ذميم يحرض على الفساد ويدفع إليه، ويجري الناس عليه، ويتضمن ذلك ارتكاب الشهوات، بكل أجزائها، لأن أول الشر استحسانه، واستحسانه يكون غالبا بالقول المشجع عليه والدافع له، ثم استمرءوا من بعد ذلك بقوله يزينه ويزكيه، ويكون من بعد ذلك ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا.
والأمر الثاني - طمع لما في أيدي الناس وحسد على ما آتاهم الله من فضله، ووراء ذلك أكل لمال الناس بالباطل، وشره لما في أيديهم، واتخاذ المال ذريعة لإفساد ذات البين بينهم، والتحريض على الشر، والتحكم المرذول.
ولعل ذكر نهي الأحبار للعامة عن السحت تعريض بهم، لأنهم كانوا لا يتعففون عن الرشا بكل أنواعها، كما أن ذكر النهي عن قول الإثم تعريض آخر بأحوالهم، فإن من قول الزور تحريف الكلم عن مواضعه، والنطق بالزور في الشرع، وكان يقع منهم، ولذلك ذم سبحانه صنيعهم، وهو لَا يخلو من فساد حكمهم وتغيير حكم الشرع لهوى الأقوياء منهم، فقال تعالت كلماته: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). ذم الله تعالى صنيعهم، وهو عملهم الشر بدقة وإحكام، لا بمقتضى الغرائز الحيوانية من غير تفكير، وفي الماضي، وما هم عليه في الحاضر، وما يكون منهم في المستقبل.
وهنا يتكلم المفسرون في التفرقة بين ذم أْعمال اليهود عامة من دهماء وغيرهم بقوله تعالى: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). وذم أعمال الربانيين والأحبار بقوله تعالى: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ).
وإن هؤلاء الربانيين والأحبار لم يكن ما أخذ عليهم هو السكوت عن النهي فقط، بل إنهم رتعوا فيما رتع فيه غيرهم، وبذلك ضلوا، وكانوا سببا في فساد الجمع كله، ولعنهم وطردهم كما قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩).
ولقد قال ابن عباس في هذه الآية: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ) إنها أصعب آية في كتاب؛ لأنها تبين إثم الذين يقصرون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما عصام الأمر، ومانعا الإثم، وبهما صلاح الجماعة الإنسانية، روى الإمام أحمد أن رسول الله - ﷺ - قال: " ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي وهم أعز منه وأمنع، ولم يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من عنده ".
وإن ما توقعه إمام الهدى على - كرم الله وجهه - قد وقع، فإن الذين يتخذون من المؤمنين مكان الأحبار باسم الإسلام، قد سكتوا عن النهي عن قول الإثم، بل منهم من أيد المنكر، بعد أن ارتضاه ومنهم من مالأ فى دينه، يحسب أن قول الحق قد يقطع رزقا، أو يضيع أملا، وبذلك وقعت معاص من غير استنكار، وترك الواجب في استهتار، ولا منادى بالحق، اللهم وفقنا لقول الحق واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الراحمين.
* * *
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (٦٦)
* * *
وفى هذه الآية يبين سبحانه حالهم في جنب الله تعالى، وأنهم إن أعطوا أشروا وبطروا النعمة، وإن منعوا كفروا، وقالوا قالة لَا تليق بذات الله تعالى، وإن هذا ليس هو الطريق الأمثل لمن أوتوا الكتاب وبلغوا رسالات النبيين، ولذا قال سبحانه:
والذي نراه أن اليهود في هلع دائم وطمع، وحسبوا أن الفقر لَا ينالهم أبدا، فإن أعطوا خيرا نسبوه لأنفسهم وحيلتهم وعلمهم، وإن لم يعطوا اتهموا ربهم، وذلك غير شأن المذعنين لله المؤمنين به الذين يعلمون أنه يعطي ويمنع، ويعز ويذل بحكمة وتقدير.
ولفظ: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) مجاز عن البخل، وهو من قبيل الاستعارة التمثيلية إذ شبهت حال من قبضت يده عن العطاء، فلا يعطي بحال من غلت يده،
وليس المراد باليد الجارحة، بل الكناية عن المنع والإعطاء، وقد قال في ذلك الزمخشري: (غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود) ومنه قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كلَّ الْبَسْطِ). ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط حتى يستعمله في قليل لَا يعطي بيده عطاء قط، ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يده وبسطها وقبضها، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا: ما أبسط يده بالنوال؛ لأن بسط اليد وقبضها عبارتان وقعتا متعاقبتين، وقد استعملوه حيث لَا تصح اليد كقوله:
جاد الحمى بسط اليدين بوابل | شكرت نداه تلاعه ووهاده |
(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) هذه الجملة معناها الدعاء عليهم، وهذا تعليم من الله لنا بأن ندعو على من فسدت قلوبهم، وذهب بهم الطمع والجشع إلى نسيان ما يجب لذات الله العلية، وما ينبغي، فقالوا كلمتهم التي قالوها، وهي تدل على استهانة بالحقائق وذات الله سبحانه، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، فعلمنا الله أن ندعو عليهم بغل اليد، وبالطرد وهو دعاء مستجاب ما داموا على هذا الحال من الأثرة المردية التي تنسيهم حقائق التدين والإيمان.
والدعاء عليهم بغل الأيدي معناه الدعاء عليهم بالشح المرير الذي يجعلهم مبغضين للناس، منحرفين عن طريقهم مطرودين من المجتمع، ويصح أن يفسر
(بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ينفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) هذا رد عليهم، وبسط اليد هنا مجاز عن الجود والفيض والإنعام من الله تعالى على خلقه، وعبر هنا بالمثنى، فقال سبحانه (يَدَاهُ)، للإشارة إلى كثرة الفيض والإنعام، والعطاء العميم كأنه يعطي بيدين لَا بيد واحدة، ولكن إذا كانوا لم يدركوا فيض نعمته، فإنهم لم يدركوا معنى حكمته فإن الله تعالى يبسط يديه بالعطاء على الطريقة التي يراها، وبالحكمة التي يريدها، ولذا قال تعالى: (ينفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ).
وهذه الجملة السامية تدل على أمرين: أحدهما - عموم عطائه. وثانيهما - أن شكل العطاء يختلف، فأحيانا يكون لبعض الناس عميما ليختبرهم بكثرة العطاء، وليحاسبوا عليه وتكون النعمة الكثيرة ابتلاء، وأحيانا يعطي حينا ويمنع حينا ليذوقوا النعمة بعد فقدها، ويختبر صبرهم بإيمانهم، كما قال تعالى: (... وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً...).
والمؤمن الصادق الإيمان يصبر في الإعطاء والحرمان، والكافر يطغى بالعطاء
بالعطاء ويكفر في الحرمان، ولقد قال تعالى في وصف النفس البشرية: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١).
(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) في هذا النص الكريم يبين سبحانه وتعالى عدم رجاء الإيمان من أكثر اليهود، ذلك أن اليهود ليسوا طلاب حق، فيهتدوا إن بدت معالمه، وظهر نوره، بل هم قوم أكل الحقد قلوبهم، واستولى الحسد على نفوسهم، فهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فإذا جاءهم النور ممن يحسدونهم لَا يزيدهم ذلك إلا بغيا وظلما وكفرا.
وقد أكد سبحانه وتعالى فساد قلوبهم بالقسم المطوي باللام الموطئة له، وبنون التوكيد الثقيلة لكي ينتفي الرجاء في إيمانهم، وليعاملهم النبي - ﷺ - ومن بعده من المؤمنين على أساس مكنون نفوسهم، وخبايا أحاسيسهم، والطغيان: الظلم الذي يتجاوز كل حد معقول، والذي يبعث عليه الشره وفساد النفس، وزيادة الطغيان، وسببه أن ما أنزل إلى النبي جاء على غير ما يريدون، وأنهم حاسدون، وزيادة بالكفر بالإصرار عليه، وبزيادة مقدار ما يكفرون به من آيات، وبالعناد واللجاجة التي استولت عليهم.
(وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). (بَيْنَهم) يعني في جمعهم؛ لأن البين هو الفاصل الذي يكون بين شيئين، ويطلق البين ويراد به ما يلقى أمام الشخص، ومن ذلك قوله تعالى: (... مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ...). وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّموا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرسوِله...). وقوله تعالى (.. فَقَدِّموا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً...).
والعداوة هي البغضاء المعلنة التي يناوئ فيها المبغض من يبغضه جهارا، والبغضاء هي الكراهية المستكنة والمعلنة، وعندي أنهما معنيان مختلفان، فالعداوة المناوأة الظاهرة، والمقاومة المعلنة، والبغضاء هي الكراهية التي تكون في القلب،
والضمير في قوله تعالى: (بَيْنَهمُ) يعود على اليهود، لأن الحديث عنهم، ولا يدخل فيه النصارى، وقد فهم بعض المفسرين أنه يعود على اليهود والنصارى، والعداوة بين الفريقين مستحكمة إلا عند الذين غللوا من نصرانيتهم وكادوا يكونون يهودا في أعمالهم.
والواضح أن الضمير يعود على اليهود وحدهم، وقد ألقى الله تعالى بينهم العداوة والبغضاء فقد افترقوا على أكثر من سبعين فرقة، كما ورد بذلك الحديث الصحيح، فمنهم الجبرية والقدرية، والشبهة ومنهم من ينكر البعث، ومنهم الربانيون والقراءون، وبينهم العداوة مستحكمة، وهم ينكرون أن يكون اليهود من غير بني إسرائيل، حتى إنهم لَا يعترفون بيهودية من يدخل في دين موسى من غيرهم، فيعادون السامرة الذين لم يكونوا من أصل إسرائيلي.
ويصح أن نفسر قوله تعالى: (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُم الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). بأن تستقبلهم بين أيديهم العداوة والبغضاء كالبين في قوله: (... مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ...). وفي قوله تعالى: (... لَا تقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسولِهِ...).
والمعنى على هذا ألقينا بين أيديهم عداوة وبغضاء تكون منهم للناس، ومن الناس لهم ذلك بأن ما في نفوسهم من حسد لجوج، ومادية شرسة، وأثره حاقدة.
جعلتهم في عداوة مستمرة مع الناس، وجعلتهم مبغضين إليهم دائما، فهم مكروهون من الناس كارهون لهم يعادونهم ويبغضونهم ولا تجد في قلب أحد محبة لهم، ولو كانوا يناصرونهم أحيانا، لأن نصرنتهم لأنفسهم ليكونوا آلة ينفذون بها مآربهم، والله سبحانه وتعالى من ورائهم محيط.
(كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ) إن هؤلاء اليهود لحسدهم المستمر للناس، ولكراهيتهم لهم يثيرون الحروب بين الناس، فهم يثيرونها على غيرهم إذا
والتعبير بقوله تعالى: (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ).
يجري على ما كان عليه العرب من أنهم كانوا إذا أرادوا حربا بالإغارة على غيرهم إما انتقاما أو اعتداء أوقدوا نارا يسمونها نار الحرب، ومهما يكن ما عند العرب من عبارات في هذا، فإن التعبير مجاز، إذ عبر عن إثارة الحروب لإيقاد نارها، باعتبار أن الحروب في ذاتها وبما تشتمل عليه من مذابح بشرية تشبه النار المسشعرة. وإن اليهود يوقظون الأحقاد ويثيرون الفتن، ويوقدون نيران الحروب، والله من ورائهم محيط وإنما يطفئ ما يوقدون ويحبط ما يدبرون.
(وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) وإنهم إذ يثيرون الفتن، ويشعلون الحروب، لَا يقصدون إلا السعي في الأرض فسادا فكلما مكن لهم في الأرض أفسدوا ولم يصلحوا، وإذا علوا أفسدوا ولم يصلحوا، حتى إذا طغوا وبغوا أرسل الله عليهم شدائد جزاء لفسادهم، ولقد قال تعالى في بيان ما قرره كتابهم وهوِ التوراة والقرآن بشأنهم: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (٤) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (٥) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (٧) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (٨).
وهذا النص الكريم يفيد أولا - أنهم دأبوا على الفساد من بعد موسى ومن جاء من النبين كداود وسليمان، وأن نتيجة هذا الفساد كانت وبالا عليهم، فجاء
وتدل ثانيا - على أن الرسول - ﷺ - اجتثهم من بلاد العرب (١)، وتدل ثالثا - على أنهم سيدخلون المسجد الحرام كما دخلوه أول مرة، وتدل رابعا - على أنهم سيفسدون فيه كشأنهم، إذ يتبرون ما علوا تتبيرا، وتدل خامسا - على رجاء رحمة الله تعالى بعباده المسلمين إذا عادوا إلى التقوى فيعود سبحانه وتعالى عليهم بالنصر، لأن اليهود دائما مفسدون. وقد ختم الله سبحانه وتعالى النص الكريم بقوله تعالت كلماته: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين).
فالله تعالى لَا يحبهم كما يزعمون ويتوهمون إذ يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه؛ لأنه سبحانه وتعالى يحب من يعمر الأرض، ولا يفسدها، وأولئك تجار الحروب يفسدون ولا يصلحون، ألم تر أنهم يمنعون كل صلح بين الناس ليتمكنوا من الكسب في صناعة أدوات الحرب، وليستعيدوا مهمتهم في إفساد ما بين الناس.
* * *
________
(١) قال عُمَرُ بْنُ الْخَطابِ أنهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - يَقُولُ: " لأُخْرِجَنَ الْيَهُودَ وَالنًصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَى لَا أدع إِلا مُسْلِمًا " رواه مسلم: الجهاد والسير - إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب (١٧٦٧).
* * *
كان الحديث من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْليَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم منكُمْ فإنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
في شأن أهل الكتاب ومن يتخذهم أولياء دون اليهود، ثم ذكر سبحانه وتعالى أحوال اليهود الذين كان بعض أهل الكتاب والمسلمين يواليهم فعلا ويستنصر بهم، وبينت أحوالهم لكي يبتعد المؤمنون عنهم، وفي هذا النص الكريم يبين سبحانه أن باب الإيمان مفتوح غير مغلق، فمن دخله كفَّر عن نفسه سيئاته، فكفرها الله عنه، ومعناه: لو أن أهل الكتاب آمنوا بالله وحده، وصدقوا رسوله الذي بعث رحمة
* * *
* * *
الضمير يعود إلى أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، وقد عبر عنهم في الاسم الظاهر بأهل الكتاب للإشارة إلى أن لهم فضل علم يهديهم إلى الحق إن أخلصوا، وطلبوه صفوا غير مكدر بشيء من الأهواء والأحقاد وحسد الناس على ما آتاهم الله تعالى من فضله لو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل بإدراك ما فيهما من غير عوج في التفكير وئنفيذ ما اشتملا عليه من أوامر ونواه، ولم يحرفوا فيهما الكلم عن مواضعه، وأقاموا ما أنزل إليهم من ربهم، وهو القرآن الكريم لو فعلوا ذلك وقاموا بما خوطبوا به حق القيام لأتاهم الرزق من كل ناحية من السماء ومن الأرض، وقيل المراد برزق السماء ما يفيض من غيث وما في الأرض هو الزروع والثمار مما تخرجه الأرض، وما يستنبط من معادن وفلزات.
وإن خير الأقوال أن يقال: إن المراد أن بسطه بالرزق يأتيهم من كل ما يحيط بهم، ويعمهم الخير، كما يعبر عن شدة العذاب بأنه يأتيهم من فوقهم ومن أسفل منهم، كما قال تعالى: (قُل هُوَ الْقَادرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فوْقكُمْ أَوْ مِن ئَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا ويُذِيقَ بَعْفَكُم بَأْسَ بَعْضٍ...)، وفى النص الكريم بضع إشارات:
أولها - التعبير عن القرآن بـ " ما أنزل إليكم من ربكم " ففيه إشارة إلى أنهم مخاطبون به، وأنه منزل إليهم مع غيرهم، وليسوا خارجين عن التكليف الذي دعا إليه.
الإشارة الثانية - أن ما جاء في التوراة والإنجيل حقا هو من عند الله تعالى، وأن القرآن مصدق لما جاء قبله.
* * *
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٦٧) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٦٨)
* * *
بما أنه منزل إليك من الله تعالى، فأنت الأولى بالتبليغ دون غيرك، والمسئول عن إعلام الناس بما أنزل الله تعالى، وإنك إذ تبلغ الرسالة في حماية الله تعالى وكلاءته، ولذلك قال تعالت كلماته: (مِن رَّبِّكَ).
أي الذي خلقك ونماك وقام على رعايتك وهو الذي يحميك، ويدفع عنك السوء والشر، ويبلغك مبلغ الحق من نشر الرسالة ليؤمن من يؤمن عن بينة، ويكفر من يكفر عن بينة: (... وَمَا كُنَّا مُعَذّبينَ حَتَّى نَبْعثَ رَسُولًا).
(ما) فيه دالة على العموم، وهي بهذا العموم تدل على معنى (جميع)، أي بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك، أي لَا تخف شيئا ولا تكتم شيئا.
ولقد روى أن النبي - ﷺ - قال: " إن الله تعالى بعثني برسالته فضقت بها ذرعا، وعرفت أن الناس يكذبونني، واليهود والنصارى وقريش يخوفونني، فلما أنزل الله هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ). زال الخوف " (١).
فالرسول - ﷺ - بلغ الشريعة كلها غير منقوصة، وما كتم شيئا، ولقد قالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله تعالى عنها - وعن أبيها: من قال: إن محمدا كتم شيئا من رسالة الله تعالى فقد أعظم الفرية (٢)، ولقد قال عليه السلام: " تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله تعالى، وسنتي " (٣).
ولو كان قد ترك شيئا لمن بعده، لكان قد ترك تبليغ الرسالة، ولكن ذلك محال لقوله تعالى (وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ).
أي إن لم تبلغ كل ما أنزل عليك فما بلغت الرسالة؛ ذلك لأن ترك بعض الرسالة ترك لها، فمن كلف تبليغ كتاب لواحد، فأسقط منه أسطرا لَا يعد قد بلغ الكتاب، ومن يؤمر بتبليغ كلام فيحذف بعضه لَا يعد قد بلغ الرسالة؛ لأن الرسالة فيما هو عند الناس كلٌّ لَا يقبل التجزئة، فكيف تقبل رسالة الله تعالى إلى خلقه، تجزئة فينقل بعضها، ويكتم بعضها، وقد عبر عن هذا المعنى الزمخشري في
________
(١) روى الحميدي (٨٨٨) ج ٢، ص ٣٩٠ عن عمه أبي الأحوص عوف ابن مالك الجشمي عن أبيه.
وفي مسند إسحاق بن راهوية (٤٣٩) عن رسول الله - ﷺ - قال: " إن الله أرسلني برسالة فضقت بها ذرعا، وعلمت أن الناس مكذبي فأوعدني أن أبلغها أو يعذبني ".
(٢) متفق عليه؛ رواه مسلم: الإيمان - معنى قول الله عز وجل: (ولقد رآه..) (١٧٧)، والبخاري بنحوه: تفسير القرآن - (يا أيها الرسول..) (٤٦١٢).
(٣) رواه الحاكم في المستدرك (٣٢٤) والبيهقي (٢٠٧٨٠)، والدارقطني (٤٥١١) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وإنه يجب التنبيه إلى أمور ثلاثة:
أولها - أن النبي - ﷺ - ما انتقل إلى الرفيق الأعلى حتى أتم الرسالة بيانا، وقد يقول قائل إن الشريعة منها ما هو ثابت بالنص، وهذا بلا ريب قد تم بيانه قبل وفاة النبي - ﷺ -، وقسم قد ثبت بغير النصوص، فكيف يكون قد تم بيانه، ؟! والجواب عن ذلك أن تبليغ الشريعة كان ببيانها، وليس معنى البيان أن يبين حكم كل جزئي من الجزئيات، بل معنى البيان أن تبين الأحكام الكلية والجزئية التي يحتاج بيانها إلى نص، والجزئيات التي لَا تبين يكون من الكليات ما يدل عليها بوجود العلة أو الغاية التي يثبت أن الشارع الحكيم أرادها، ولذلك يقول الإمام الشافعي في الرسالة الأصولية: البيان إما نص قائم، وإما حمل على نص قائم، ولا شك أن كل حكم لَا نص عليه يثبت الحكم فيه بالحمل على نص قائم، سواء أكان الحمل بطريق القياس، أي بإثبات الحكم غير المنصوص عليه في موضعه بالقياس على الحكم المنصوص عليه، في موضع يشبهه، ووجه الشبه العلة المؤثرة في الحكم، أم كان الحمل بطريق وجود المصالح ودفع المضار المتفق مع مقاصد الشرع، وغايات أحكامه، وذلك موضع اجتهاد الفقهاء.
الأمر الثاني - أنه يجب التنبيه إلى أن الذين يأخذون ببعض أحكام الشريعة مؤمنين بها، ويطرحون الآخر وراءهم ظهريا يحسبون أن ما اطرحوه ليس من
الأمر الثالث - في قوله تعالى: (وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) فكيف يكون الشرط والجزاء في معنى واحد، لأن الشرط ظاهر معناه أنك إن لم تقم بالتبليغ كاملا صادعا بالحق، فما بلغت الرسالة أي أنك إن لم تبلغ فما بلغت، وجزاء الشرط يجب أن يكون معنى مترتبا على الشرط، وذلك يقتضي المغايرة بينهما، فلا يمكن أن يكونا شيئا، وظاهر النص أنهما شيء واحد.
وقد أجيب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول - أن المعنى أنك إن لم تقم باداء الرسالة كلها بأن تركت بعضها، فإنك تكون كمن ترك الرسالة كلها، وقد اعترض على ذلك الفخر الرازي بأن ترك بعض الرسالة لَا يمكن أن يكون كترك كلها، والجرم في ترك بعضها ليس كالجرم في تركها كلها، وإني أرى أن اعتراض الإمام فخر الدين الرازي غير وارد، لأن ترك جزء من الرسالة من غير تبليغ يكون تركا للرسالة ذاتها، ولذا عبر في الجزاء بقوله تعالت كلماته: (فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) أي إن لم تفعل بتبليغها كاملة فما أديت واجب التبليغ، وجرم الجزء كجرم الكل إذا كان يتعلق بالاعتقاد فمن أنكر بعض ما يجب الإيمان به يكون كمن ينكر كله إذ يكون ممن يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
الجواب الثاني - أن يكون الكلام من قبيل بيان أن الشرط ذاته يكفي أن يكون فيه كمال التخلي عن التبليغ، والمعنى على هذا أنك لم تقم بالتبليغ فحسبك أنك تخليت عما يجب عليك أن تفعله، وهو عملك كرسول - وإن التبليغ يقتضي جهودا وبلاء، وتعرضا للأذى، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك، وبين أنه في حماية الله تعالى، وكفالته، ولذا قال سبحانه:
(وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) العصم: الإمساك، ويتضمن الإمساك الحماية، ومنع الأذى، وجاء في مفردات الأصفهاني: عصمة
ومعنى العصمة من الناس على هذا ألا يُمكَّنوا منه - عليه السلام - ومن دعوته، ومن نفسه، فأوهامهم لَا تعلق بنفسه ونفاقهم لَا يؤثر في دعوته، وخلافهم وعنادهم لَا يمنعان الحق من أن يصل إلى قلوب أهل الهداية والإيمان، ولجاجتهم في الكفر لَا تثنيه عما يدعو إليه، ويستمسك به، وما يثار عليه من حروب لَا تهزمه ما دام هو ومن معه آخذين في الأسباب ناصرين لله وللحق. وليس عصمة الله تعالى أن يكون الوصول إلى الحق هينا لينا سهلا، بل إنه لَا بد من الجهاد، ولا بد من نزول البلاء بل بتوالي الابتلاء، كما قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤).
فالعصمة هي عصمة النفس والجسم من القتل، والدعوة من أن يعوق طريقها ويقضى عليها، وإن كان الأذى البدني يقع كشج رأسه وكسر ثنياته، وغير ذلك مما كان يفعله المشركون واليهود معه عليه السلام.
والناس لَا يختصون بالمشركين واليهود، بل المراد السلامة مع الجهاد، من كل ما يكون من الناس عامة إذ لَا دليل على التخصيص، وكان ممن آذوا النبي عليه السلام كسرى فارس، وما كان من هؤلاء ولا هؤلاء وقد عصمه تعالى منه.
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) والهداية التي ينفيها هذا النص الكريم هي الوصول إلى الحق، لأن الجحود قد ران على قلوبهم بما كسبوا من شر، وما اجترحوا من سيئات، وما لجت به نفوسهم من عناد، وهم لَا يصلون إلى النيل من الحق وتعويق الدعوة،
وإذا كان الكفر قد جمعهم فإنه لَا يفرق بينهم كون بعضهم كتابيا، وبعضهم أميين، فلا فضل للكتابيين على الوثنيين في الكفر، ولا شرف بكونهم أهل كتاب ما داموا لم يؤمنوا به ولم يقيموه، ولذا قال تعالى:
* * *
* * *
كان أهل الكتاب في البلاد العربية يستعلون على من فيها من أهل الوثنية، لأن عندهم علما من السماء، بأنه سيكون منهم نبي ينصرهم ويؤيدهم، ولأنهم يتبعون نبيا من الأنبياء، وأنه كما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم، إذ قال تعالت كلماته: (... وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ).
وكانوا يسمون العرب أميين توهينا لشأنهم، ولبيان شرفهم بالعلم عليهم، فأمر الله تعالى نبيه أن يبين لهم أنهم لَا يمكن أن يكونوا أعلى شأنا من الوثنيين إلا إذا اتبعوا الكتب التي جاءت لأنبيائهم، والكتاب الذي يخاطبون به وهو القرآن؛ لأن شرفهم وفخارهم بهذا العلم، فلا بد أن يقيموه، ويعطوه حقه، وإلا فهو حجة عليهم، وليس حجة لهم، وهو موضع مؤاخذة، وليس سببا للمفاخرة.
وأمر الله تعالى نبيه بأن يتولى هو خطابهم؛ لأن الجدل والمعاندة كانت منهم له، ومعنى قوله تعالى: (لَسْتُمْ عَلَى شيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا) إنكم معشر أهل الكتاب لستم على شيء مما يعلو به الإنسان من علم أو دين أو خلق أو فضل، حتى تقيموا التوراة والإنجيل، وما أنزل عليكم من ربكم، وهو القرآن، لأنكم تعتزون بعلم الكتاب فلا شيء لكم من الاعتزاز والفضل إلا إذا أقمتم ما تعتزون به، فلتنفذوا ما جاء في التوراة والإنجيل والقرآن، وبذلك تحققون السبب، فيتحقق المسبب، وهنا إشارتان بيانيتان.
الثانية - التعبير عن القرآن بما أنزل إليكم من ربكم، فلم يقل حتى تقيموا التوراة والإنجيل والقرآن - كان فيه تصريح بأنهم مخاطبون به، وأنهم ممن أنزل لأجلهم، وإلى ذلك يشير قوله - عليه الصلاة والسلام - " لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا أن يؤمن بما جئت به " (١).
(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) قد تكلمنا في معنى هذا النص الكريم، وما فيه من توكيد، وذكرنا أن القرآن المنصف لَا يحكم على الجميع بالشر، وفيهم أخيار، ولذلك كان حكمه على الكثرة لَا على القلة، وإن طغيانهم هو ظلمهم للحقائق، وإفراطهم فيما يطغون به على أهل الإيمان، وأشرنا إلى علة ذلك وهي حقدهم، وحسدهم، وأن النعمة تجيء إلى المحسود، فتزيد الحاسد حقدا وضغنا.
ولكن لِمَ كرر القول هنا وقد ذكر آنفا؟ والجواب عن ذلك أن كلام اليهود الذي حكاه الله تعالى عنهم كان في جنب الله مما يدل على إيغالهم في الكفر والإنكار، وأنهم حاقدون على النبي - ﷺ - فلا يزيدهم ما أنزل عليه إلا طغيانا وكفرا، أما هنا فقد جاءت عقب الأمر الجازم بوجوب التبليغ وتعميمه - بالنسبة للموضوع، وبالنسبة للأشخاص فيبين سبحانه لنبيه - عليه السلام - أنه مع التبليغ لا يرجو الإيمان: (... إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ...). ولذلك قال سبحانه بعد ذلك:
(فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) الأسى: الحزن، وحقيقته اتباع الفائت بالغم والألم، والمعنى لَا تأس على إصرار الكافرين على كفرهم، ونزول اللعنة والعذاب
________
(١) سبق تخريجه.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٧١)
* * *
في الآيات السابقة أشار سبحانه إلى استعلاء اليهود والنصارى لأنهم أهل كتاب جاءت إليهم الرسل بالتعليم والتوجيه فبين سبحانه وتعالى أن الاستعلاء بالإذعان، واتباع ما جاء إليهم والإيمان به، وفي هذه الآية يبين سبحانه وتعالى أن الناس جميعا في النجاة سواء، لَا فرق بين يهودي ونصراني، وعبدة للكواكب، فالإيمان يجبّ ما قبله، ويسوي بين المؤمنين:
وهنا أصناف أربعة هم الذين آمنوا، واليهود، والصابئون، والنصارى.
فالذين آمنوا هم الذين أذعنوا للحق، وآمنوا بما جاء به محمد - ﷺ - وصدقوه، وأطاعوه، واليهود هم بنو إسرائيل الذين هم شر البرية بأعمالهم إن أقلعوا عنها، فباب الرحمة مفتوح يدخله كل عباد الله تعالى. والصابئون أو الصابئة طائفة ظهرت في بلاد المشرق، وقد قيل فيها: إنهم يعبدون الكواكب، وبعضهم قال: إنهم يقدسونها من غير عبادة، ولا يخرجهم ذلك عن الشرك؛ لأن تقديس ما لَا سبب لتقديسه نوع من العباده، وإن لم تكن بالصلاة.
وقد حدث أن ادعوا الدخول في النصرانية في عهد المأمون، فإنه التقى بهم في إحدى الغزوات، فسألهم من أي أهل الذمة أنتم؟ فقالوا: صابئة، فقال: لَا بد أن تدخلوا في دين من الأديان السماوية أو أخرجكم من ديار الإسلام، لأنه لا عقد ذمة إلا مع أهل دين سماوي، (وذلك أحد الآراء الفقهية وأشهرها) فاختار الأكثرون منهم أن ينتحلوا اسم النصرانية، ومنهم من بقي على عبادة الكواكب،
والنصارى، وهم طوائف مختلفة، تجمعهم ألوهية المسيح، والتثليث، ومتفرقون فيما وراء ذلك ما بين كاثوليك أو ملكانية، وأرثوذكس أقباط، وطوائف غربية، ونساطرة ومارون، وغيرهم.
والنص الكريم كما تلونا هو هكذا: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى) ونرى أن " الصابئون " مرفوعة، وظاهر السياق أن تكون بالنصب، فتكون والصابئين وهذه قراءة ابن كثير، وقراءة الآخرين بالرفع، ولذلك تكلم المفسرون في هذه القراءة التي يقرأ بها الأكثرون. وقد خاضوا في ذلك لأجل التخريج النحوي، وليس لأحد أن يخطِّئ القراءة من الناحية اللغوية، إلا أن يكون كجهلة بعض المستشرقين الذين يحسبون أن قواعد النحو حاكمة على القرآن، وذلك من فساد النظر؛ لأن القرآن فوق النحو، إذ النحو يستقى منه، وهو لا يخضع لما يقرره النحويون، بل هم الذين يخضعون له، وأن القرآن قد ورد بذلك فهو قد دل على أن العطف على اسم إن بالرفع جائز، ولو كان الخبر متأخرا، ولا يحتاج إلى شاهد سواه، وأنه هو الشاهد الأول على سلامة التعبير من الوجهة العربية، ومع ذلك قد جاءت شواهد من كلام العرب بوجوب رفع المعطوف على اسم (إن) قبل وجود الخبر، فقد قال ضابي بن الحارث:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله | فإني وقيارٌ بها لغريب |
وقد أخذ النحويون يخرجونه على مقتضى قواعدهم، المانعة عند الذين يمنعون، فقال بعض المخرجين: إن الخبر ليس هو خبر الصابئين، إنما الصابئون مبتدأ خبره محذوف تقديره كذلك، وقال غيرهم: إن اسم (إن) أصلها مبتدأ
ومهما يكن من تخريجات أكثر النحويين وتجويز غيرها فإن القرآن أبلغ كلام في الوجود لَا بد أن يكون في عدوله عن النصب الذي هو ظاهر السياق إلى الرفع معنى قائم بذاته. فما هو ذلك المعنى؟ قالوا: إن الصابئين أشد إيغالا في الكفر من اليهود والنصارى، فكان لَا بد من تنبيه خاص بهم؛ ليكون ذلك تأكيدا لمعنى قبول التوبة والغفران؛ لأنهم إذا كانوا يغفر لهم وهم على هذه الحال من عبادة الكواكب، وعدم وجود كتاب، وكتمانهم اعتقاداتهم، فأولى ثم أولى أن يغفر لمن دونهم من ذلك الجحود، وهم اليهود والنصارى، ولأن الصابئين يشير بيان الغفران لهم إلى قبول توبة المشركين إذا آمنوا بعد شرك، كما قال تعالى: (قُل لّلَّذِينَ كفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ).
وقد بين سبحانه خبر إن وهو جزاء الإيمان بعد كفر، فقال سبحانه: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
هذا هو الخبر، وفيه جزاء الإيمان وما تطلبه حقيقته، فذكر سبحانه أمورا ثلاثة هي الإيمان بالله تعالى وذلك يتضمن الإيمان بوحدانيته، وأسمائه الحسنى، وأنه الخالق وحده، والمهيمن على الوجود وحده، وأنه الأزلي الذي ليس له ابتداء، والباقي الذي لَا يعروه الفناء، وأنه لَا يشبه أحدا من خلقه، وليس كالأشياء، لا يُحس، ولا يحتويه مكان، وهو منزه عما تتصف به الحوادث إلى آخر كل ما يقتضيه التنزيه، وليس بوالد ولا ولد، وليس له كفوا أحد، والإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بالبعث والنشور، والحساب والعقاب والثواب، وإنها جنة أبدا، أو نار أبدا، وأن الإنسان مجزيٌّ بعمله، وإن خيرا فخير أو شرا فشر: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨).
وقد يقول قائل: لماذا لم يذكر الإيمان برسالة النبي - ﷺ -مع أنه ركن من أركان الإيمان، فشهادة أن لَا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله تعالى هي لب الإيمان!.
والجواب عن ذلك: أن الإيمان بالرسالة المحمدية التي قامت عليها الأدلة من المعجزات الباهرة ثمرة الإيمان بالله ولازمة له، فلا يمكن أن يكون مؤمنا بالله من يكذب رسوله الذي قامت الشواهد والأمارات على صدق رسالته، والإيمان بالله يقتضي الإيمان بصدق كل ما جاء في كتابه المنزل الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهكذا فإن الإيمان بالله تعالى يقتضي الإيمان بالرسالة والرسل والإيمان بما جاءت به الكتب المنزلة.
وجزاء هذا الإيمان الصادق والعمل الصالح ألا يكون المؤمن في خوف من قابل حياته في الآخرة، فلا يخاف عذاب يوم القيامة؛ لأن الإيمان هو الحصن الذي يلوذ به الخائفون، ولا يحزن على ما كان منه في كفره، وإنه في الجنة لا همَّ، ولا حزن ولا عذاب.
وقد تكلم العلماء في أمرين لَا بد أن نتكلم فيهما:
أولهما - أن الله تعالى ابتدأ طوائف الذين يغفر لهم أن آمنوا بالمؤمنين فقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا)، وجاء الخبر من بعد: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)، فكيف ينطبق هذا الخبر على الذين آمنوا، وهم قد سبق إيمانهم، فلا يحتاج إلى
وقد أجاب العلماء عن ذلك بجوابين: أحدهما - أن الذين آمنوا قد يراد بهم الذين أعلنوا الدخول في الإسلام وإن لم تذعن قلوبهم، ولكن هذا الجواب لا نرتضيه لأن المنافقين ومن لم يذعنوا للحقائق الإسلامية لَا يسمون مؤمنين، اقرأ قوله تعالى: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا ولَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ...).
الجواب الثاني - أن معنى آمن بالنسبة لهم استمرار الإيمان، وبالنسبة لغيرهم إنشاؤه، ونرى في هذا الجواب نوعا من دلالة اللفظ على معنيين متقاربين في موضع واحد، إذ يراد الإذعان، والاستمرار عليه، وإني أرى أن الخبر ليس للحكم بقبول الإيمان فقط، بل إنه خبر في معنى الشرط والجزاء فيه إثبات أن الإيمان مناط النجاة والثواب، وذلك ينطبق على المؤمنين ومن يدخلون في الإيمان.
الأمر الثاني - هو دخول الفاء في قوله تعالى: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). وقد قيل في ذلك: إن الموصول في (من آمن) في معنى الشرط، والفاء تدخل في خبر الموصول كما تدخل في جواب الشرط.
والميثاق عقد موثق مشدد فيه، كما يشد الوثاق، وهو مؤكد بيمين الله تعالى، والله تعالى قد أخذ هذا الميثاق على بني إسرائيل بأن يقوموا بالتكليفات التي يكلفهم إياها، ولم يذكر هنا موضوع الميثاق، وقد ذكره في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى، فترك هنا بيانه حملا عليها، ومن نصوص ميثاق الله تعالى على بني إسرائيل قوله تعالى:
* * *
* * *
وقد أكد الله سبحانه في الآية الكريمة التي نتكلم في معانيها (أخذ)، باللام وبـ " قد "، وبإضافة الأخذ إليه فقال سبحانه: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ).
ومع أخذ الميثاق المؤكد، لم يتركهم هملا، بل أرسل إليهم الرسل من عنده ليؤكدوا الميثاق، ويبينوه ويعاونوهم على تنفيذه، وقد جاءت كلمة (رسُلًا) بالتنكير، وهو هنا للتكثير، أي أرسلنا إليهم رسلا كثيرة، ولم تكن نتيجة الميثاق وإرسال الرسل محمودة لهم، بل كانت منهم نكرا، ولذا قال سبحانه:
(كلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) لقد كان الحكم الذي ارتضوا حكومته هواهم وشهواتهم، فما يوافق هواهم اتبعوه، وما لا يوافق هواهم ردوه، فاتخذوا بذلك إلههم هواهم وضلوا عن علم، ووقعوا في الشر، فلم يجعلوا العقل والميزان هو الحكم الذي يقبلون ما يقبله، ويردون ما يرده، وإنه ترتب على تحكيم الهوى وسيطرته عليهم أن كذبوا فريقا واكتفوا بالتكذيب، وأن قتلوا فريقا.
وهنا بعض مباحث لفظية تبين منها معنى النص الكريم:
أولها - عدم وجود جواب الشرط، وهو " كلما "، فقال الزمخشري: قام مقامه فريقا كذبوا وفريقا يقتلون، أو هو في الحقيقة جواب الشرط، لأن المعنى كلما جاءهم رسول بما لَا تهوى أنفسهم كذبوا فريقا وفريقا قتلوه، وبعضهم قال: إن الجواب محذوف تقديره، و " استكبرتم "، وأخذه من قوله تعالى في آية أخرى: (... أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (٨٧).
وإن الأوضح هو ما قرره الزمخشري؛ لأن قوله (فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) تصلح جوابا، فلا حاجة إلى تقدير، وأما الآية الأخرى فقد جاءت الفاء في قوله:
المبحث الثاني - أن الله سبحانه وتعالى قسمهم فريقين فريقا كذبوه، وفريقا قتلوه، ولا شك أنه مع القتل التكذيب، ويكون المعنى على هذا أن هناك فريقا اكتفوا بتكذيب الرسول، وفريقا آخر ذهبت بهم اللجاجة في العناد وعداوة الهادين إلى أن يقتلوه.
والمبحث الثالث - التعبير عنِ التكذيب بالفعل الماضي فقال: (فَرِيقًا كَذَّبُوا). وعن القتل بالمضارع: (وَفَرِيقَا يَقْتلُونَ). وقد علل ذلك الزمخشري بأن المضارع يدل على استحضار الجريمة البشعة التي ارتكبوها، وهي أن يقتلوا هاديهم ومرشدهم، وهناك تعليل آخر، وهو أنهم على استعداد لأن يقتلوا خاتم الهداة محمدا - ﷺ -، وقد هموا ولم ينالوا.
* * *
* * *
الفتنة أصل معناها إدخال الذهب النار لتظهر جودته، وأطلقت الفتن في لغة القرآن على الشدائد التي تنزل ليختبر قلب المؤمن، فإن صبر ظهر إيمانه قويا شديدا، وإن خار ووهن كان من ضعفاء الإيمان ولقد قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنونَ).
واليهود لما أنعم الله تعالى به عليهم إذ أخرجهم من قسوة فرعون، ونجاهم بفلق البحر، حتى مروا، وغلقه على فرعون وقومه، حتى غرقوا، وهم ينظرون وأعطاهم من بعد ذلك المن والسلوى وغير ذلك ما أجزله تعالى عليهم من خير، حسبوا أن الإيمان جلب لَا سلب فيه، وهناءة لَا يرنقها تعب، ولذلك حسبوا ألا تكون فتنة تنزل بهم، ولكن الله أنزل عليهم هزائم تتلوها هزائم واختبرهم بقحط ينزل بهم، حتى يصقل إيمانهم، وكان ذلك الحسبان منهم لانغمار نفوسهم بالشهوات، لأنها تعمي وتصم، وترين على البصر بغشاوة فلا يرى، وتضع على الآذان وقرا فلا تسمع.
وقد نزلت بهم شدائد صقلت نفوسهم كالشدائد التي أنزلها التتار بهم، فاستيقظت مداركهم وسمعت الحق آذانهم، وجاء الأنبياء أمثال داود وسليمان فأنقذوهم، ولكن ما إن أحسوا ببحبوحة النعمة حتى استولت عليهم الشهوات فعموا وصموا ولكن كانت بقية صالحة، وهنا مباحث لفظية نذكرها، لأنها تقرب إلينا معنى النص الكريم.
الأول - أن قوله تعالى: (أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) بنصب النون في تكون، وقرئ بضمها (١)، والقراءة الأولى على أساس أن " حسب " بمعنى الظن الغالب، والثانية على أساس أن " حسب " بمعنى علم، والقراءتان متواترتان، وهما تنتهيان إلى أنهم ظنوا، ثم لغلبة الشهوات وسيطرتها تحول الظن إلى يقين أو كاليقين.
الثاني - أن معنى: (عَمُوا وَصَمُّوا) فيه تشبيه حالهم في غلف قلوبهم واستيلاء الشهوات عليهم وعدم إدراكهم الحق بأنفسهم وعدم استماعهم للداعية بحال الأعمى الذي لَا يبصر، ولا يستمع إلى من يدعوه ليسير في الطريق القويم.
الثالث - أن المفسرين أرادوا أن يفسروا متى كانت التوبة التي يسترشدون فيها ثم الصمم الذي يلي الرشاد وقالوا في ذلك أقوالا كثيرة، وعندي أن توبتهم بشديدة تنزل بهم، يخرجهم الله منها، ثم عودتهم إلى ما كانوا عليه متكررا.
________
(١) (ألا تكونُ) (بالرفع). قراءة أبو عمرو، ، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف، والمفضل، ولكن قرأ عاصم والباقون بالنصب. غاية الاختصار - برقم (٨١٢).
بهذا ختمت الآية، وهي تدل على أن الله جل جلاله عليم بما كان منهم علم من يبصر، وهو مجازيهم بأعمالهم، وهو فوقهم، وهو بكل شيء محيط.
* * *
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)
* * *
وحقيقة - هذه النصرانية التي انحرفت عن أصل الديانة - المسيحية التي جاء بها المسيح، أنه بعد أن ترك المسيح هذه الدنيا تعرض المسيحيون لاضطهادات شديدة استمرت نحو ثلاثة قرون كانوا فيها يفرون بدينهم ويختفون وتحرق كتبهم، حتى صار أصل العقيدة معرضا لمنازع مختلفة، ولكن التوحيد هو السائد الغالب، وما أن رفع الاضطهاد عنهم، حتى تعرضوا لفتنة أشد من الأذى البدني، فتعرضوا لأذى في العقيدة ذاتها، وهو أشد وأنكى، إذ أدخلت الوثنية في النصرانية بتأثير قسطنطين ملك الرومان، ولنترك الكلمة لابن البطريق النصراني يتكلم عن الأهواء التي دخلت في عقول المسيحية، فقد فال عن " مجمع نيقية " الذي أعلن ألوهية المسيح، والذي انعقد لمنع دعاية الوحدانية التي حملها أسقف اسمه أريوس، ويتبعه في فكرته أكثر المسيحيين قال ذلك النصراني:
هذه هي الأهواء والآراء التي كانت تذكر في الجماعات المسيحية وظهرت عندما زال الاضطهاد، وحل محله الأمن، ولم يذكر ما كان يقرره أريوس الذي انعقد المجمع لإنهاء دعوته، والحق أن دعوة أريوس كانت هي البقاء على الوحدانية، فقد قرر كتاب تاريخ الأمة القبطية أن دعوة أريوس كانت منتشرة وكانت عامة وكان السائد عند الكثيرين إنكار ألوهية المسيح، فقد كانت كنيسة أسيوط على هذا الرأي، وكان للرأي الأصيل رأى أريوس مشايعون في فلسطين ومقدونية والقسطنطينية.
ولكن أُريدَ تحويل المسيحية من التوحيد إلى الوثنية قبل أن يدخل فيها قسطنطين فانتقل للرأي الذي يتفق معها وهو ألوهية المسيح، فاعلن موافقته على
(وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) في هذا النص الكريم بيان لحقيقة الدعوة التي دعا إليها عيسى - عليه السلام - ونفي نفيا مطلقا ادعاءاتهم الألوهية له فقد كانت دعوته التي كان موطنها بني إسرائيل، وانبثق نورها، من أوساطهم إلى غيرهم من الناس، هي إلى التوحيد في العبادة إذ لَا ألوهية سواه، وزكى التوحيد بقوله: (رَبِّي وَرَبَّكمْ). فإن هذا النص يمنع الألوهية من نواح ثلاث: الناحية الأولى - إثبات أن الله هو ربه الذي خلقه ونماه، وأنشأه كما أنشأ غيره، والناحية الثانية - التسوية بينه وبين غيره من الخلق في التكوين والإنشاء والتربية، فهو في هذا لَا يفترق عن أحد من البشر، والناحية الثالثة أنه لَا يمكن أن يكون فيه عنصر الألوهية؛ لأن الله تعالى رباه ونماه، كما كان بالنسبة لغيره، وليس مما يسوغ للإله أن يأكل ويشرب وينمو كسائر البشر. فذاته العلية منزهة عن الأحداث، ولا يليق بها الاحتياج.
وفى النص الكريم إشارة إلى جريمة من جرائم بني إسرائيل، وهي أنهم كذبوا المسيح عليه السلام - وناوءوه كما ناوءوا محمدا، إذ كفروا بالمسيح مع أنه رسول إليهم، وهموا بقتله، وادعى النصارى أنهم قتلوه، وإن هذه الدعوه التي نادى بها المسيح بين ظهرانيهم وفي قوم لم تجد أرضا خصبه في أوساطهم، وحرضوا على المسيح عليه السلام واستمر الاضطهاد للنصارى، حتى غيرت وبدلت لهم في ذلك يد فعالة، وعليهم من وزرها قسط كبير.
وقد حذر المسيح من الشرك، فقال ناهيا محذرا: (إِنَّهُ مَن يشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ).
ظاهر السياق أنه من كلام السيد المسيح - عليه السلام - لبني إسرائيل الذين كانوا أول من وجه إليهم دعوته، ويصح أن يكون ذلك الكلام مستقلا عن كلام السيد
والنصارى قد أشركوا في هذه النواحي كلها فحسبوا أن الله تعالى ليس منزها حتى يتصف بصفات الحوادث، زعموا أن الله تعالى يكون له ولد، كما يكون لغيره ولد، وأن هذا الولد شاركه في الخلق والتكوين وأنه يعبد معه، بل لا تكاد تجد ذكرا لعبادة الله تعالى من غير إشراك غيره.. (... إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).
وجزاء ذلك الشرك أن الله تعالى يحرم به الجنة، بمنعه منها فلا يدخلها، وهذه عقوبة سلبية، فالحرمان عقاب ومنع النعيم عقاب، وهناك عقوبة إيجابية، وهي دخول النار، وإذا كانت الجنة محرمة فمكان إيوائه النار يدخلها ويخلد فيها أبدا، وإنها للجنة أبدا، وللنار أبدا.
ولا يمكن أن ينجيهم من العذاب أحد، ولذلك قال تعالى: (وَمَا لِلظَّالمِينَ مِنْ أَنصَارٍ). أي أنه ليس لظالم من الظالمين نصير قط فالتعبير بقوله: (مِنْ أَنصَارٍ). أي أنه لَا نصير قط لَا من كبير يخاف، ولا من صغير يرجى.
* * *
* * *
في الآية السابقة ذكر الله كفر من قالوا إن الله هو المسيح أو ما يؤدي إليه من القول بأن المسيح ابن الله، وفي هذه الآية يذكر كلاما آخر للمسيحيين، وهو قولهم إن الله ثالث ثلاثة، ويبدو من ظاهر الكلام أن عند النصارى طائفتين إحداهما تقول إن المسيح هو الله، أو ابن الله، فيكون إلها بهذا الاعتبار، والواقع أن النصارى تقرر عندهم التثليث من قبل نزول القرآن، وبعث النبي - ﷺ -، ومن ذلك التاريخ تتميز به عقيدة النصارى، وشعارهم الصليب رمزا إلى صلب المسيح في زعمهم الذي فنده القرآن الكريم على أن التثليث عندهم لم يجئ دفعة واحدة، فقد تقررت ألوهية المسيح على أنه
ويلاحظ في مجمع القسطنطينية أمران أحدهما - أن الذين حضروا ذلك المجمع ١٥٠ من رجال دينهم، وما كان هذا ليمثل النصارى أجمعين، ولكن فرض رأى أولئك الذين سموهم أساقفة على النصارى جميعا، وأسكت كل صوت يخالفه، ولقد كان ذلك المجمع كسابقه مفاجأة لعامة النصارى؛ لأنه ليس بإله عندهم وقد أعلن ذلك مقدونيوس وكانت مقالته ليست هي الشائعة بين النصارى، حتى جاء ذلك المجمع القسطنطيني فأتم التثليث.
ثانيهما - أن الذي دعا إلى عقده بطريق الإسكندرية، كما أنه هو الذي كان رئيس مجمع نيقية وإن لم تكن له الرياسة في المجمع الأخير، وأن الذي دعا إلى تقرير ألوهية روح القدس هو هذا البطريق، وقال كما نقل كتاب تاريخ البطارقة لابن البطريق:
(ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله، وليس روح الله شيئا غير حياته، فإذا قلنا إن روح الله مخلوق، فقد قلنا إن حياته مخلوقة، وإذا قلنا إن حياته مخلوقة، فقد زعمنا أنه غير حي، وإذا زعمنا أنه غير حي فقد كفرنا به).
وأن هذه السلسلة التي ساقها تنقض لبناتها إذا قلنا روح القدس ليست روح الله، ولكنها جبريل الأمين الذي خلقه، وبذلك تنقطع حلقات السلسلة، حلقة حلقة.
وروح القدس في زعمهم هي الروح العامة التي تنشر الحياة بين الأحياء، ومما يسترعي النظر، أن الذي قاد فكرة ألوهية المسيح وروح القدس هو بطريق الإسكندرية التي كانت تسودها في ذلك الإبان الأفلاطونية الحديثة التي كانت خلاصتها، أن الإله الأكبر هو العقل الأول، وقد نشأ عنه العقل الثاني، نشوء
هناك إذن غند النصارى تثليث، وأن الله تعالى ثالث ثلاثة، وأن الله تعالى قد حكم بأنهم كافرون، فقد قال سبحانه مؤكدا القول: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثة). فمن الخطأ الفاحش ما يقال إن الله تعالى عبر عن النصارى واليهود بأنهم أهل كتاب، فليسوا كفارا.. فقد أكد سبحانه وتعالى كفرهم أولا بتكفيرهم لأنهم زعموا أن المسيح هو الله، ويقررون أن الله ثالث ثلاثة، وأكد كفرهم في الحالتين باللام وبقد، فكيف يسوغ المؤمن أن يقول إنهم غير كافرين.
والنصان الكريمان واردان على موضوع واحد، وهو النصارى، فالنص الأول وهو: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ) موضوعه هو ذات موضوع النص الآخر: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَة) وكل آية من الآيتين تبين ناحية من نواحي اعتقادهم، واكتفى في الآية الأولى بزعمهم في المسيح عليه السلام، لبيان مقدار افترائهم عليه ومناقضهم لمن ينتسبون إليه، وأنهم لَا يصح أن يسموا مسيحيين، لأنه بريء منهم، وذكرت الثانية لبيان حقيقة اعتقادهم.
(وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ).
بعد أن بين سبحانه وتعالى كفر من يقول بالتثليث بيّن سبحانه وتعالى العقيدة الصحيحة، فقال سبحانه ذلك النص الحكيم، ومؤاده نفي الألوهية نفيا مطلقا عن غير إله واحد، والصيغة تفيد استحالة أن يكون الإله، غير واحد، لأنه لا ينتظم الكون والسماء والأرض، ومن فيهما كما جاء في قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ).
(وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) هذا تحذير من الله سبحانه لهم عن أن يستمروا في هذا القول الكاذب على الله تعالى، وعلى رسوله المسيح - عليه الصلاة والسلام - ومعنى الانتهاء يتضمن أمرين: أن يعدلوا عن ذلك القول وألا يعتقدوه ولا يؤمنوا به، ولم يكتف بالانتهاء عن العقيدة، ولكن الله سبحانه ذكر انتهاء عن القول للإشارة إلى أن هذا كلام يقولونه، ولا يمكن أن يكون عقيدة يعتنقونها، لأنه كلام لَا يتفق مع العقل، وقد كذبهم عيسى - عليه السلام - بما قرره في دعوته، وبين أن الشرك ظلم عظيم، وأن من يشرك بالله مأواه جهنم، وحرم الله تعالى عليه الجنة.
والخلاصة: أن هذا الادعاء قول يرددونه معا فيلحدون به وهو باطل، إذ كيف يولد ويكون إلها، وقد هددهم بالعذاب الشديد يمسهم، وهنا إشارات بيانية:
الأولى - التعبير " يمسهم " إذ المراد أنه يصيب جلدهم، وهو موضع الإحساس فيهم، أي أن العذاب المؤلم مستمر؛ إذ يمس جلدهم، ويصيب موضع الإحساس فيهم.
الثانية - أن من هنا بيانية أي يمسهم ذلك العذاب ما داموا مصوين على قولهم وكذبهم، وقال: (الَّذِينَ). وعبر بالظاهر دون الضمير للإشارة إلى سبب العذاب وهو كفرهم، لأن التعبير بالموصول يشير إلى أن الصلة هي سبب الحكم.
الثالثة - أن الله سبحانه وتعالى أكد العذاب الشديد ينزل بهم بالقسم المطوي الذي دلت عليه اللام، والنون المؤكدة، وتنكير عذاب، ووصفه بالألم الشديد؛ لأن التنكير هنا للتعظيم والتكثير.
* * *
* * *
بعد أن حذرهم سبحانه من الاستمرار على قولهم الإفك، وادعائهم على المسيح - عليه السلام - رغبهم في الإيمان بعد الترهيب من العذاب الأليم، وأن كتاب الله سبحانه وتعالى يجمع بين الترغيب والترهيب، ليؤمنوا خوفا من عذاب الله تعالى أو طمعا في ثوابه، أو لهما معا، سيق الكلام لهذا، وليبين أن باب المغفرة مفتوح لمن استغفر، وطلب الغفران.
وقوله تعالى: (أَفَلا يَتُوبُونَ) الاستفهام للدلالة على أمور ثلاثة: أولها - توبيخهم على ما كان منهم وأنه يستحق التوبة والاستغفار، وثانيها - فيه تعجب من بقائهم على حالهم من الإفك والإصرار عليه من أنه لَا يقبله عقل، ولا يذعن له مصدق، بل لَا يتصوره متصور. ويدل ثالثا على تحريضهم على التوبة، أي الرجوع إلى الله تعالى، وما تقره العقول، ولا تنبو عنه الأفهام، وعلى طلب الغفران عما سلف منهم من قول، وإن باب الغفران مفتوح، ولذلك ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رحِيم). والله جل جلاله المعبود، ولا معبود بحق سواه يغفر الذنوب لمن تاب ورجع إليه وهو رحيم بعباده لا يرضيه أن يشقوا، وأن رحمته سبقت عذابه وأنه سبحانه ليفرح بتوبة عبده أكثر من فرح العبد بقبولها، لأن الله تعالى يريد بعبده الصلاح والإصلاح، ولا يريد له الفساد والإفساد، وإذا تاب العبد انقلب من الفساد إلى الصلاح.
* * *
* * *
في هذا النص الكريم (تسجيل) لحقيقة عيسى ابن مريم وأمه، وأن ما اختصا به لَا يمكن أن يجعلهما إلهين من دون الله كما قالت البربرانية وغيرها من فرق النصارى، وكما حكى الله تعالى عنهم وعن عيسى عليه السلام في قوله تعالى له: (... أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ...).
وأن النص الكريم الذي نحن بصدد ذكر معانيه، فيه بيان أن عيسى وأمه ليس فيهما ما يجعلهما مختصين بصفات ليست في غيرهما فعيسى عليه السلام
وقد قال الزمخشري في ذلك وتبعه من بعده: (ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله جاء بآيات من الله تعالى كما جاءوا بأمثالها أن أبرأ الله الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى على يده، فقد أحيا سبحانه وتعالى العصا وجعلها حية تسعى وفلق بها البحر وشق على يد موسى، وإن خلقه من غير ذَكَر فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى).
ونزيد على ما قاله الزمخشري أن معجزة كل نبي بما يناسب عصره، فعصر سيدنا عيسى كان عصرا يؤمن بالأسباب المادية، وكان في عهده الفلاسفة الطبيعيون، الذين لَا يؤمنون بغير الأسباب التي يرونها، فكانت معجزات عيسى عليه السلام خرقا حسيا صارخا لهذه الأسباب، فولادته كانت بغير السبب المعروف، إذ كان من غير أب، وما كانوا يحسبون أن الأكمه الذي ولد أعمى يبصر، وما كانوا يعلمون أن البرص يشفى منه، فشفاه الله تعالى على يديه، وما كانوا يرون الحياة ترد بعد الوفاة، فأحياها الله تعالى على يديه، كما أجاب لإبراهيم عندما دعا ربه قائلا: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠).
جاء عيسى - عليه السلام - فكانت حياته وآياته كلها داعية لبطلان ذلك الاعتقاد بأنه لَا شيء إلا الأسباب والمسببات. ولكنهم تمكنوا من اتباعه من بعده بثلاثة قرون، فأخرجوهم من اتباعه، وأعادوهم إلى الأسباب والمسببات، وأخرجوه من البشر، وزعموا أنه إله.
ويلاحظ أنه عند ذكر عيسى في القرآن يذكر أنه " المسيح ابن مريم " تأكيدا لبشريته، لأنه يرى بالحس مولودا بعد أن لم يكن، وأن ولادته من مريم البتول فكيف يتركون المحسوس إلى أوهام، وحياتهما تدل على البشرية، ولذا قال سبحانه:
(كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) ذكر الله تعالى هنا بيان خواصهما الآدمية الحيوانية بعد بيان منزلتهما عند الله تعالى، إذ إن الأول رسول، والثانية صديقة، ولا تتجاوز منزلتهما عند الله تعالى ذلك، وهما في الحياة المادية كسائر الأخياء من الأناسي يأكان الطعام ويعملان على ذلك، وهما لهذا محتاجان إلى غيرهما، والإله لَا يحتاج لغيره، ويقول الزمخشري في ذلك: (إن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام، وما يتبعه من الهضم، والنقض - لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة وقرم وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من البشر!!) ولكنهم مع كل هذا تركوا الأعراض التي تدل على الآدمية وأماراتها، ولذلك قال تعالى: (انظُرْ كيْفَ نُبَيِّن لَهُمُ الآيَاتِ). أي انظر يا محمد إلى الأدلة على آدميته التي هي قائمة، وكيف بيناها، وصرفنا لهم القول الذي يدل على الحقيقة، ولكنهم ماديون يؤمنون بالمادة وأسبابها، ولذلك انصرفوا عن الحق وعن الإيمان، وخضعوا لأوهام، ولذا قال تعالى: (ثمَّ انطرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ). وقد عبر بـ " ثم "، للدلالة على بعد بين ما تدل عليه الآيات وحالهم، ثم على بُعد ما يقولون عن الحق، إذ يرون بالحس إنسانا يولد، ثم يفرضونه إلها بزعمهم؛ والإفك الصرف عن الحق، يقال:
* * *
(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٨١)
* * *
وقد بين مع ذلك كيف يعبدون مع هذه الحالط، فقال لنبيه، قل لهم:
ومعنى لَا يملك ضرا ولا نفعا: أنه لَا يملك المرض والسقم، ولا البلاء ولا الشدائد، كما لَا يملك النفع بدفع الضر، ولا جلب الخير، ولا إنزال الغيث، ولا إرسال الرياح مبشرات بين يدي رحمته، ولا غير ذلك مما ينفع الوجود كله. وهنا لَا بد أن نتعرض لأمرين: أولهما - كيف يقال إنهم يعبدون من دون الله مع أن المشركين يقولون: (... مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى...).
والنصارى يعبدون ثلاثة أو اثنين على اختلاف طوائفهم ولم يتركوا عبادة الله ونقول: أن من يشرك العبادة مع الله تعالى لَا يقال إنه عبد الله؛ لأن عبادة الله تعالى تقتضي أن تخلص العبادة له سبحانه، وألا يعبد سواه بأن يفرده بالعبادة وحده إذ لَا يستحق العبادة معه أحد، ويقال حينئذٍ إنه عبد ما دون الله تعالى، إذ كانت عبادته ضد عبادة الله تعالى.
أي أنهم يتركون عبادة الله تعالى وحده وهو العالم بكل شيء الذي لا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو العالم علم من يسمع ويرى، وهو بهذا العلم المحيط الدقيق الذي أحاط بكل الوجود يكون هو وحده الذي يضرهم وينفعهم، يتركونه ليعبدوا ما لَا ينفع ولا يضر، ولكنه ضلال العقول.
* * *
* * *
الغلو: تجاوز الحد، وهو في الدين التعصب له، والتشدد فيه، وتجاوز الحد في أداء ما يطلب كالانهماك في العبادة كما كان يفعل بعض المتشددين في دينهم الذين نهاهم النبي - ﷺ -، وقد ورد في الأثر: " لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه، ولكن سددوا وقاربوا " (١) وكما نهى النبي - عليه الصلاة والسلام - قوما عكفوا على العبادة، وتركوا نساءهم، فقال عليه الصلاة والسلام: " ما بال أقوام تركوا النساء وقاموا الليل وصاموا النهار وإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر ولم أنقطع عن النساء " (٢).
وإن هذا النوع من الغلو، وإن كان غير محمود ولا مستحسن في الإسلام، لا يمكننا أن نعده غير حق في أصله، لأن أساسه حق، وإن غالوا فيه وربما يقول كثيرون إنه غير الحق.
________
(١) سبق تخريجه.
(٢) رواه أحمد: باقي مسند المكثرين باقي المسند السابق (١٣١٢٢). ورواه البخاري بنحوه: النكاح - الترغيب في النكاح (٥٠٦٣)، ومسلم: النكاح - استحباب النكاح لمن تاقت إليه نفسه (١٤٠١).
وفى الجملة النص لمنع تشدد النصارى واليهود في التمسك بدينهم غير الحق، والامتناع عن قبول الهداية التي جاءت إليهم، وهم في هذا التشدد يتبعون الأهواء، ولا يتبعون الحق، وهم مقلدون لمن ضلوا وأضلوا.
(وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ) الهوى معناه الميل إلى ما فيه شهوة ولذة، وخير الناس من كان هواه ولذته في طاعة الله تعالى، ولقد قال النبي - ﷺ - فيما روي في الصحاح: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " (١) ولكن كلمة الهوى لَا تكاد تستعمل في القرآن إلا في مقام الذم في الاتباع، جاء في تفسير فخر الدين الرازي ما نصه: قال الشعبي: ما ذكر الله تعالى لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه قال تعالى: (... وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سبِيلِ اللَّهِ....) (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى).
(وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى). (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ...). وقال أبو عبيدة: لم نجد الهوى إلا في موضع الشر، لا يقال: فلان يهوى الخير، إنما يقال يريد الخير ويحبه.. وقيل سمي الهوى هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار، وأنشد في ذم الهوى:
________
(١) سبق تخريجه.
إن الهوى لَهُوَ الهوان بعينه | فإذا هويت فقد لقيت هوانا |
ولنتكلم في معنى النص الكريم، أن الله تعالى في علمه وحكمته ينهى أهل الكتاب عن الاستمرار في الاتباع لقوم قد ثبت ضلالهم قديما، وكانوا من قبل في ضلال بعيد، وهم عبدة الأوثان، ومن كان على شاكلتهم ممن اخترعوا آلهة على هواهم لَا على منطق استقاموا عليه، ولا على نور من السماء اهتدوا بهديه، وقد سلكوا مسلكهم، فأدخلوا الوثنية في دينهم واتبعوا فلسفة ضالة مضلة.
وهؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم، وضلوا بسبب ذلك أضلوا خلقا كثيرا، حتى شاع بينهم الانحراف عن الطريق، فكانت وثنية اليونان والرومان والفلاسفة هي التي أضلت خلقا كثيرا، فالضلال الأول هو ضلال الوثنية من قبل وهي التي أضلت النصارى، والإضلال هو سيطرة ذلك على من سيطروا عليهم، والضلال الأخير هو عدم خضوعهم لحكم النبي - ﷺ - وتركهم سبيل المؤمنين الذي كان فيه القصد والاعتدال فتأثرهم بأهواء من ضلوا من قبل وأضلوا جعلهم يأخذون طريق الضلال الأخير، وهو عدم الأخذ بهداية الرسول - ﷺ -:
* * *
* * *
أي لعن الله تعالى الذين كفروا من بني إسرائيل بأن طردهم من رحمته، وجعلهم مظهرا للحسد والبغض في هذه الأرض، وكأن الحق على غيرهم من الناس في جبلتهم الأولين، وقد مسخوا أنفسهم، وشوهوا أخلاقهم فلعنهم الله تعالى، وهنا مسائل لَا بد من الإشارة إليها:
الأولى - لماذا بني (لُعِنَ) الفعل للمجهول ولم يذكر الفاعل؟ والجواب عن ذلك أن الفاعل معلوم، وهو الله تعالى؛ لأن داود وعيسى نبيان يتكلمان عن الله
الثانية - أن اللعنة منصبة على الذين كفروا، وليست على عمومهم، وذلك من إنصاف الله في أحكامه، وإن كان الذين آمنوا بنسبتهم للذين كفروا عددا قليلا، كما قال تعالى: (... مِّنْهمْ أُمَّةٌ مقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ منْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ). وأنه واضح أن من أسباب لعنتهم كفرهم مع عصيانهم؛ لأن التعبير بالموصول يفيد أن الصلة من أسباب الحكم.
والثالثة - أن الله تعالى ذكر أن اللعن جاءهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، وهما نبيان جاءا بعد موسى - عليه السلام - وأحدهما كان نبيا مجاهدا محاربا، قادهم إلى مواطن الظفر، ومع ذلك لعنهم الله على لسانه، والثاني كان رسولا مسالما ومع ذلك لعنهم بأمر الله تعالى، فهم ملعونون في الحرب والسلم على سواء.
ولقد جاء في بعض كتب التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما - أن أهل إيليا عندما كان اليهود بها ودنسوها، لما اعتدوا يوم السبت، قال داود عليه السلام: اللهم ألبسهم اللعن مثل الرداء، ومثل المنطقة على الحقوين، ولما طلبوا المائدة، وقال الله تعالى: (... إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ...). قال عيسى عليه السلام: اللهم عذب من كذب بعد ما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين.
وإن الذي يبدو لنا أن هذا بيان لما نزل بهم من لعن مستمر جاء هذا اللعن على لسان داود ومن جاء بعد حتى كان عيسى، فكان لعن الكافرين عاما، يستوي في ذلك من كان يجاهد بالسيف، والحرب، ومن كان يجاهد بالسلم، فلعنهم الله إلا أن يتوبوا.
والعصيان لله وأخصه الاعتداء هو سبب الطرد من رحمة الله، وعموم العصيان يدخل فيه كل سبب الطرد واللعن فلا يوجد سبب غيرهما.
وقد عبر عن العصيان بالماضي للإشارة إلى قرار العصيان في طبائعهم ونفوسهم، وثباته فيها، وعبر عن الاعتداء بالمضارع، لأنه مستمر قائم، وبذلك كان الجمع بين الماضي والمضارع للدلالة على الثبات والقرار والاستمرار، ونسب العصيان إليهم جميعا، والاعتداء إليهم جميعا، لأنه كان من بعضهم، وأقره سائرهم أو سكت عنه باقيهم، فكان منهم وقوعا ورضا، ولذا قال سبحانه:
* * *
* * *
هذا النص فيه معنى التفسير للآية السابقة، لأنه يبين عموم العصيان والاعتداء فيهم، لأن الاعتداء في الكثير يقع من بعضهم، فكيف ينسب إلى كلهم، وفي هذا النص إشارة إلى أن سبب فساد الأمم في عمومها هو السكوت على المنكر فيها، والمنكر هو الأمر القبيح في ذاته وينهى الشارع عنه، والتناهي يطلق بإطلاقين، وهو الانتهاء عن الفعل الآثم، ومعنى النص على هذا: أنهم يعصون الله تعالى ما أمرهم ويصرون عليه، ويستمرون على فعلهم، فلا يتوبون ولا يرجعون، ولكن ليس هذا هو الظاهر المشهور.
ثانيها - أن يمنع الفعل قبل وقوعه أو يقلله بدفع الكثير منه.
ثالثها - أن يستنكره؛ لأن السكوت عنه رضا، وبذلك يدفع الاعتراض الذي أورده بعض المفسرين وهو كيف يتصور النهي عن الفعل بعده، فنقول: إن النهي عن المنكر بعد وقوعه إنما هو استنكاره، لأنه يمنع الفعل في المستقبل.
وقد نسب الفعل إليهم أجمعين إذ وقع من بعضهم، وسكت عنه سائرهم ولذا قال سبحانه: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ). وقد أكد سبحانه وتعالى نسبة الفعل إليهم باللام والقسم المطوي، وذمهم ذما مؤكدا، فالفعل بئس يدل على الذم، والذم كان منصبا على الفعل رجاء إيمانهم، وقد روى ابن مسعود أن النبي - ﷺ - قال: " من رضي عمل قوم فهو منهم، ومن كثر سواد قوم فهو منهم " (١).
والآية تدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوام الأمم، ولا صلاح لهم إلا إذا قاموا بحقه، فالأمم تصلح بالأمر بالمعروف، وتفسد بتركه، ولذلك اعتبره القرآن خاصة الأمة الإسلامية، وبه خيرها، قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...).
________
(١) رواه الديلمي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. جامع الأحاديث (٢٢٩٦٩) ج ٧، ص ٣٤٩.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو عصام الأمة وهو مكون الرأي العام الفاضل، ويقال: إن الأمة كلها تعصي إذا ظهر العصيان، ولم تستنكره.
* * *
________
(١) رواه أحمد: باقي مسند الأنصار - حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه (٢٢٧٩٠).
(٢) رواه أحمد: مسند الشاميين - حديث عدي بن عميرة الكندي (١٧٢٦٧).
(٣) تَفْسيرُ مَعنَى قَوْلِ النبِيِّ - ﷺ -: " وَالعِلْمُ فِي رُذَالَتِكُمْ " إِذَا كَانَ العِلْمُ فِي الْفُسَّاقِ.
والحَديث رواه ابن ماجه: الفتن - قوله تعالى: (عليكم أنفسكم) (٤٠١٥)، وبنحوه رواه أحمد: باقي مسند المكثرين (١٢٥٣١) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
* * *
هذا عمل من أعمال اليهود تذهب بهم بغضاؤهم، وحقدهم على المؤمنين إلى أن ينضم كثيرون منهم للمشركين، فالمراد بالذين كفروا أولئك الذين كفروا بالوحدانية، وبلغوا غاية الكفر وأقصاه، وذلك يدل عليه التاريخ، فقد ذهب قوم من اليهود، وألبوا على النبي - ﷺ - المشركين، ووالوهم، والتولي الموادة والمناصرة والانضمام إليهم، وفي كل حرب دخلها النبي - ﷺ - كان اليهود مع عهودهم الموثقة مع المؤمنين يوالون المشركين زاعمين أنهم فاتحو المدينة، فبنو النضير خانوا العهد وبنو قريظة وبنو قينقاع كذلك.
(لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) (بئس) كما ذكرنا تدل على الذم، و (ما قدمت) أيديهم هو ما قدموه من عصيان وعدم التناهي عن المنكر، والاعتداء وتولي المشركين والجبابرة، وقد أكد سبحانه وتعالى الذم بالقسم واللام، والتعبير بما قدمت أنفسهم يشمل الفعل والقول، والحقد والحسد والمظهر في هذا الذم ينالهم أمران خطيران، أحدهما - سخط الله تعالى وحسب ذلك شرا في مآلهم، وأنهم مخلدون في العذاب، وقد أكد سبحانه عذابهم بكلمة - هم - وتقديم (فى العذاب)، وتخليده، وقد بين سبحانه أن ولاية المشركين والجبابرة أمر مذموم لأنه ضد الخير، فقال:
* * *
* * *
إن أولئك اليهود يحسبون أنهم يؤمنون بالله، وأن لهم أنبياء جاءوا إليهم، وكتبًا خوطبوا بها، فيبين الله سيحانه وتعالى أنهم لو كانوا يؤمنون بالله حق الإيمان وأنه واحد أحد فرد صمد، وأن له رسالة بعثها، وأن لهم نبيا خاطبهم عن الله تعالى ما تركوا ولاية الموحدين، واختاروا ولاية المشركين الذين لَا يوحدون الله ولا يؤمنون بنبوة نبي مرسل، ولا بكتاب منزل ولكنهم حاقدون حاسدون متمردون على الحق إشباعا لأهوائهم، ولذلك ختم الآية بقوله:
(وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) استدراك فيه بيان لحالهم، وسبب تركهم موالاة المؤمنين، فذكر أن كثيرا منهم خارجون متمردون على الحق بسبب ما في قلوبهم من حقد وحسد، ونرى إنصاف القرآن بينا واضحا إذ لم يرمهم جميعا بالفسوق عن أمره، وقد أكد فسوق الأكثرين بوصفهم بالفسق، وكأنه وصف مستمر لهم، وليس حالا عارضا، اللهم اهدنا فيمن هديت، واشف قلوبنا من الغل والحسد.
* * *
* * *
كان ما تقدم من آيات من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ...). في شأن المؤمنين في معاملتهم لأهل الكتاب، وقد ذكر أحوالهم مع المؤمنين، وخص اليهود بالذكر؛ لأن عداوتهم لأهل الإيمان كانت مستحكمة، وإيذاءهم للمؤمنين كان مستمرا، ولقد كان القرآن الكريم منصفا للحقيقة كشأنه دائما - عندما فرق بين النصارى من جانب واليهود والمشركين من جانب، ولذلك قال سبحانه: (لَتَجدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً).
ويصح أن يكون الخطاب لكل أهل القرآن الذين يقرءونه ويخاطبون بأحكامه وآياته، من الذين آمنوا، ويلاحظ هنا عدة أمور:
أولها - أنه سبحانه ذكر اليهود قبل الذين أشركوا؛ لأن عداوة اليهود منشؤها الحقد والحسد اللذان قد يرسخان في النفس اليهودية، وهما دائما فيها ما دام اليهود على هذه الحال التي أركسوا أنفسهم فيها، وقد عبر عنهم بالوصف، ولم يقل الذين هادوا للإشارة إلى أن العداوة حال دائمة مستمرة مستحكمة، حتى أن النبي - ﷺ - يقول: " ما خلا يهودي بمسلم إلا هَمَّ بقتله " (١) ومع أن اليهود أقرب في الاعتقاد من النصارى؛ تجد النصارى في الماضي كانوا أقرب، والقرب في الاعتقاد سببه الشائع بينهم هو الوحدانية، أما النصارى فإن الشائع بينهم هو التثليث ولكن العداوة لَا تتبع القرب أو البعد في الاعتقاد، بل تتبع مقدار الحسد والبغض، وفوق ذلك، فإنه من المقرارت في علم الآراء والمعتقدات أنه كلما تقاربت العقيدتان تنازعتا، وكان التناحر أشد، لطمع كل طائفة في أن تأخذ الأخرى إليها، وقد عبر
________
(١) رواه ابن النجار عن أبي هريرة رضي الله عنه. جامع الأحاديث (١٩١٦٤) ج ٦، ص ٣٣٧. وفي كنز العمال - متفرقات الأحاديث (١١٢٥٩) ج ١، ص ٧٦١: ما خلا يهودي بمسلم قط إلا حدث نفسه بقتله. وفي كشف الخفا (٢٢١٠): - ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله.
رواه الثعلبي وابن مردويه وابن حبان في الضعفاء عن أبي هريرة مرفوعا. وفي رواية ابن حبان: " يهودي " و " هَمَّ "، بالإفراد.
الأمر الثاني - أن العداوة مقابلة بالمودة، فالأمر ليس خلافا في الاعتقاد، بل هو المودة أو العداوة فليس لقرب الاعتقاد أو بعده أثر في العداوة، وعلى هذا كان اليهود أشد عداوة من النصارى، والنص يومئ إلى أنهم أكثر عداوة من الذين أشركوا بتقديم اليهود، لأن المودة لم تقطع من كل الوجوه بين النبي عليه السلام والمشركين من قريش، بل إن ما كان يفرقه الاعتقاد يقابله مودة الرحم، وإن كانت حروب.
الأمر الثالث - لماذا عبر عن النصارى بقوله تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى).
وقد أجاب عن ذلك بعض المفسرين بأنه تشريف للنصارى، لأن عيسى - عليه السلام - عندما قال: (... مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّه قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّه...). فقوله تعالى: (الَّذِين قَالُواً إِنَّا نَصَارَى). تذكير بهذا الموقف الكريم في مقابل قول اليهود عندما دعاهم موسى إلى دخول الأرض المقدسة فقد قالوا: (... فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ). هذا كلام بعض المفسرين ولكن يلاحظ أن الذين قالوا نحن أنصار الله هم الحواريون، والذين كانت بينهم مودة المسلمين ليسوا هم أن أولئك هم الحواريون الذين سلمت عقيدتهم، أما الذين يتحدث عنهم فهم كانوا من أهل التثليث ثم تاب الله تعالى عليهم، ولقد ذكرهم بهذا العنوان: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى). في مقام الذم، فقد قال تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ...).
ولأجل هذا لَا نقول إن التعبير بقالوا إنا النصارى فيه تشريف، إنما هو بيان أن هؤلاء يقولون أنهم نصارى، ولكنهم ليسوا نصارى عيسى - عليه السلام - وإن كانوا من بعد ذلك قد اهتدوا.
وعندي أن النصارى ليسوا النصارى في عهد النبي - ﷺ - فقط، بل كل من ينطبق عليهم وصف المودة في كل عصر، ومن لَا ينطبق عليهم، فهم إلى اليهودية أقرب، وإليها أدنى، وقد قال سبحانه: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ). في هذا الكلام بيان السبب، في قرب المودة الذي كان بين المؤمنين والنصارى في عهد النبي - ﷺ - أن توافرت الأسباب، ولم يكن القسس والرهبان دعاة عداء وبغضاء؛ والقسيس هو عالم النصارى بأحكام دينهم، والمتفحص أحوالهم، والمرشد لهم، وأصله من " قَسَّ " بمعنى تتبع، فالقسيس لَا يترك الإرشاد، والرهبان جمع راهب كركبان جمع راكب، وتطلق كلمة رهبان على المفرد، كما تطلق على الجمع، وهو الرجل الزاهد المتبتل المنصرف للعبادة في زعمهم، وهو يقوم بعمل القسيس في العبادة، بيد أنه ينفرد عنه بالانصراف الكلي عن الدنيا ويتخصص للعبادة والإرشاد والتوجيه.
ولا شك أن حال القسيسين والرهبان في عصر النبي - ﷺ - كانوا كذلك، وكانوا القائدين للاهتداء بهدْيِ الإسلام، فقد أخذوا بالكثيرين من نصارى الجزيرة العربية، واتبعوا الإسلام، واستمعوا إلى دعوة النبي عليه السلام، وأن هذا النص ينطبق على كل قسيس يدعو بدعاية الحق، ويكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وفى ذلك الكلام تعريض باليهود الذين تركهم أحبارهم وعلماؤهم في غيهم يعمهون، فكانوا لَا ينتاهون عن منكر فعلوه، ولم ينههم الربانيون والأحبار عما ارتكبوا من جرائم، وما امتلأت به قلوبهم من غل وحقد.
ونصارى الجزيرة العربية ومن شاكلهم جانبوا الكبر، فقربوا من الحق، وقد بين سبحانه حالهم في اتباع الحق.
* * *
* * *
الرسول هو محمد - ﷺ -، ما أنزل إليه هو القرآن، وأنهم لإيمانهم بالحق، وإخلاص قلوبهم، واطمئنان نفوسهم إلى الحق وقد طلبوه بمجرد أن سمعوا القرآن فتحت نفوسهم له وكأنهم كانوا يطلبونه، وأولئك طائفة من نصارى الشرق منهم من كان يؤمن بأن عيسى رسول الله وأن الإنجيل بَشَّرَ بمحمد - ﷺ - فلما سمعوا القرآن وسمعوا محمدا، وعندهم صفاته فاضت الدموع من عيونهم فرحا به، إذ قد استشرفوا له فوجدوه فكان بردا وسلاما، وقد يكون مع المشارقة من النصارى طائفة من المثلثين وهو الظاهر، كانوا يحسون أنهم في ضلال، وظلام متكاثف من الأوهام، فلما رأوا النور تمشوا إليه.
ومعنى قوله: (تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) أن الدمع ينزل من عيونهم فائضا عما تمتلئ به بسبب الحق الذي عرفوه، ومقتضى الكلام أنهم كانوا في حيرة حتى وجدوه، وأثلجت نفوسهم به، وقد قال الزمخشري في
وقد أكد الكلام بأنه لم يعبر عنه بالإخبار، بل عبر عنه بالرؤية المبصرة التي هي أقوى أسباب العلم الحسي، وصور حالهم في التعبير بالمضارع، وقوله تعالى: (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ).
معناه أن سبب البكاء هو ما عرفوه من الحق، وهذا يدل على أمرين: أولهما: أنه تحقق لديهم ما وجدوه من أوصاف النبي - ﷺ -. ثانيهما: أنهم كانوا لنفاذ بصائرهم، وعظم مداركهم يحسون بأنهم كانوا في ضلال، فعرفوا الطريق، وكانوا في ظلام فاستناروا وكانوا في حيرة فاطمأنوا.
وإن هذا ينطبق على كل نصراني طالب للحق، لم يطمس الله على بصيرته.
وبعد أن بين سبحانه حالهم المرئية ذكر قولهم بعد اهتدائهم فقال تعالت كلماته:
(يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) حكى الله سبحانه وتعالى قولهم وقد اتجهوا فيه إلى الله تعالى معترفين بربوبيته وحده، وأنه على كل شيء قدير، ومقرين بالإيمان الصادق المنبعث من قلوبهم، وطلبوا من الله تعالى أن يكتبهم من الذين شهدوا بالحق، وشهدوا برسالة النبي - ﷺ -، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ
وكما قال تعالى. (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨).
وهؤلاء الذين آمنوا لَا يجدون غرابة في أن يؤمنوا إنما الغرابة في ألا يؤمنوا، ولذلك حكى الله عنهم قولهم:
* * *
* * *
الاستفهام هنا إنكاري فيه معنى التعجب، وهو إنكار للوقوع، فهو بمعنى نفي أن يحدث منهم عدم الإيمان لأن موجب الإيمان قد وجد، وهو الإيمان لله تعالى جل جلاله، والحق الذي جاء إليهم وخوطبوا به، ولا يوجد أي مانع يمنعهم من الإيمان، فالسبب قد تحقق ولا مانع، والاستفهام بمعنى النفي، وهو داخل على نفي، ونفي النفي إثبات، فمعناه إصرار على الإيمان، وقوله تعالى: لا نؤمن بالله، حال مما دخل عليه النفي، وصاحب الحال هو: " نا ".
والكلام يومئ إلى أنه كان هناك اعتراض، وكان كلامهم للرد على هذا الاعتراض، والتاريخ يثبت أنه كان اعتراض على من آمنوا من هؤلاء النصارى، والمنطق النفسي للجماعات في قديمها وحديثها أن تستنكر من يغير دينه إلى دين الحق الذي ارتآه، وهؤلاء من الذي قال تعالى فيهم: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ...). وقال فيهم سبحانه: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣).
(وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ).
ولقد كان ما أعده الله تعالى أكثر مما طمعوا، وإذ أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ولذا قال تعالى:
* * *
* * *
في هذا النص الكريم إجابتهم إلى ما طلبوا، وهو إجابة الله العزيز الكريم، وهو أكبر مما طلبوا، لقد كانوا يطمعون أن يكونوا من القوم الصالحين وأن يكتبوا مع الشاهدين، فأجابهم بالجزاء الأوفى وهو ما أعد الله تعالى لعباده المتقين، كانوا يطمعون ويرجون، فسمى سبحانه ما أعطاهم جزاء وفاقا، وكانوا يطلبون أن يكونوا مع الصالحين، فسماهم الله تعالى محسنين، أي مجيدين متقين مخلصين.
فكان الجواب هو جواب الحكيم الكريم الذي يقول تعالت كلماته: (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ). والثواب الرجوع بالشيء إلى حالته الأولى، وكان ثواب العمل من قبيل الرجوع إلى أصل العمل، أي أن ما ينالهم من جنات النعيم، أي من المقام الذي ينعمون، وإنما عاد إليهم من أعمالهم،
وجعل سبحانه وتعالى الثواب على القول؛ لأنه يدل على الإخلاص، وعلى الإيمان الصادق، والعمل الطيب، فالجزاء على هذا كله الذي دل عليه القول الطيب.
هذا جزاء أولئك الذين آمنوا وصدقوا الله تعالى، أما جزاء الذين كفروا وجحدوا فهو ما ذكر سبحانه وتعالى بقوله:
* * *
* * *
ذكر سبحانه وتعالى جزاء الذين استمروا على كفرهم في مقابل جزاء الذين آمنوا وطمعوا في رحمة الله تعالى، وأدركوا الحق فأذعنوا له، وكان جزاء الكافرين أنهم صاروا أصحاب الجحيم، أي الملازمين لها الذين لَا يفارقونها، والجحيم هي النار المتأججة التي لَا تنطفئ، وقد استحق ذلك العقاب بسببين:
أولهما - كفرهم وجحوددهم بالحقائق الثابتة التي جاءتهم والحي تدركها العقول السليمة، فهم قد استحقوه بكفرهم بها مع أن النفس السليمة تذعن لها من غير تردد، لأنها هي التي تتفق مع العقل والفطرة المستقيمة.
الثاني - أنهم كذبوا بآيات الله تعالى أي الأدلة والمعجزات التي ساقها رب العالمين لتأييد النبي المرسل الذي أرسل إليهم، فهم لم يؤمنوا بهذه المعجزات، ولم يصدقوها.
فكانوا حائرين بائرين، إذ لم يدركوا الحق في ذاته وهو متفق مع العقل المستقيم، ولم يتقبلوا الأدلة القاطعة التي سيقت إليهم للدلالة على الحق الذي لم يدركوه.
وهذان السببان هما اللذان من أجلهما كان العقاب، ولذلك عبر بالموصول الذي يدل على أن الصلة هي سبب الحكم، وعبر بالإشارة، وهي تدل على أن المشار إليه هو سبب الحكم.
هدانا الله إلى الحق، وإلى صراط الله العزيز الحميد.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)
* * *
اعتبر القرآن الذين قالوا إنا نصارى أقرب مودة للذين آمنوا، وزاد أن السبب في ذلك أن فيهم قسيسين ورهبانا، وذكر في نص آخر أن فيهم رأفة ورهبانية ابتدعوها، والرهبانية تقتضي التقشف والحرمان من أكثر طيبات الحياة، والإسلام لم يأت بهذا، بل جاء شريعة وسطا بين المادية الشرسة العنيفة، والروحانية
ومعنى تحريمها أن يأخذوا على أنفسهم ميثاقا بألا يتناولوها، فليس التحريم في معنى الترك الجرد، فقد يتركها؛ لأنه لَا يستسيغها، أو يتركها لمرض، أو يتركها عفوا من غير سبب، أما تركها بعهد يعهده وميثاق يأخذ نفسه به فهذا هو التحريم.
وروي في سبب نزول هذه الآية حديث نبوي شريف نذكره مع طوله نسبيا لأنه يبين معنى هذه الشريعة السمحة.
روى أن رسول الله - ﷺ - جلس يوما فذكر الناس ووصف القيامة، فرق - الناس، وبكوا واجتمع عشرة من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، وهم علي - كرم الله وجهه -، وأبو بكر - رضي الله عنه - وعبد الله بن مسعود، وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة وعبد الله بن عمر والقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، ومعقل بن مقرن،
أحدهما - أن التشدد في الدين يعجز صاحبه عن الاستمرار عليه، ولو كان الناس جميعا رهبانا، يزهدون فماذا يكون المآل أتبقى الدنيا أم تنتهي إلى الانقراض.
الثاني - أن هذا الدين هو دين الحياة لَا يقطع العابد عن الحياة، ولكن يجعله يعيش عاملا فيها غير منقطع عنها، وأن التفاضل بين المؤمنين باستقامة النفس،
________
(١) رواه أبو داود: الحسد (٤٩٠٤) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
ما عاب الله قوما وسع عليهم الدنيا، فتنعموا وأطاعوا، ولا عذر قوما زواها عنهم فعصوه، وإن شرط إباحة الحلال، ومنع تحريمه ألا يكون ثمة اعتداء، ولذا قال تعالى:
(وَلا تَعْتَدُوا إِن اللَّهَ لَا يحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) والاعتداء له شعبتان إحداهما - تكون بالإسراف في البذخ، والتعالي والتفاخر فإن ذلك يؤدي إلى استيلاء الشهوات على نفسه، وذلك يؤدي إلى الضلال إذ يكون عبد شهوته، وتنماع إرداته، ولذلك قال تعالى في آية أخرى: (... وَكلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، وقد قال - ﷺ -: " كلوا واشربوا والبسوا في غير سرف ومخيلة " (٢).
والشعبة الثانية - أن ينحرف فيعتدي على حقوق الناس ويتناول المحرم، ويتجاوز ما شرعه الله تعالى إلى ما لم يشرعه.
وإن هذا النص كان سلبيا بمنع أن يحرموا على أنفسهم، والنص الثاني إيجابي.
* * *
________
(١) عن جابر قال: قال رسول الله - ﷺ -: " المؤمن إلف مألوف، ولا خير في من لَا يألف، وخير الناس أنفعهم للناس " [رواه القضاعي في مسند الشهاب (١٢٩) ج ١، ص ١٠٨].
(٢) سبق تخريجه.
* * *
الأمر هنا للإباحة، وقال بعضهم: إنه للندب، وبعضٌ يرى أنه واجب على المؤمن ألا يترك أمرا أباحه الله تعالى تركا مطلقا، ولا يكن قد حرم ذلك على نفسه، والتحريم
أولها - أنه جعله مما رزقه الله سبحانه وتعالى؛ وأن الله لَا يرزق إلا ما يكون في تناوله خير، ولقد كان بعض التابعين يحرم على نفسه الفالوذج، فرد الحسن ذلك بأن الله تعالى رزقه إذ قال رضي الله تبارك وتعالى عنه: " لعاب النحل بلباب البر مع سمن البقر هل يعيبه مسلم ".
الأمر الثاني - أن الله وصفه بأن يكون حلالا قد أحله الله تعالى ولم يحرمه، فإن إحلال الله تعالى نوع من ضيافته سبحانه وتعالى على رزقه، وأنى يسوغ لمؤمن أن يرفض ضيافة الله سبحانه وتعالى، فإذا رزقك الله ثوبا حسنا وأباحه لك؛ لأنه كسب طيب لَا خبث فيه، فاعلم أنه هدية الله تعالى أهداها إليك فإن اخترت خشن الثياب بدلا منه فقد رفضت هدية الله تعالى، وقد روي أن النبي - ﷺ - نهى عن الكبر، وذكر أنه لَا يدخل الجنة متكبر، فقال بعض الصحابة: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنا، فهل هذا من التكبر، فقال - ﷺ -: " إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس " (٢).
الأمر الثالث - أن الله تعالى وصف الرزق بأن يكون طيبا، والطيب يشمل وصفين أحدهما - أن يكون طريق كسبه طيبا، لَا خبث فيه، فقد يكون الشيء في
________
(١) رواه أحمد: باقي مسند المكثرين - مسند أبي هريرة (٨٠٥٤)، كما رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: الأدب - ما جاء إن الله تعالى يحب أن يرى نعمته على عبده (٢٨١٩).
(٢) رواه مسلم: تحريم الكبر وبيانه (٩١) عن ابن مسعود رضي الله عنه. وبطر الحق: دفعه وإنكاره.
والغمط: الاحتقار والتعالي.
الأمر الرابع - هو أمره سبحانه وتعالى بتقوى الله تعالى، وقد زكى طلب التقوى بارتباطه بالإيمان بالله تعالى إذ قال تعالت كلماته: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنونَ). وجه التزكية ذكر لفظ الجلالة الذي يربى المهابة بالقلوب، وبيان أن الإيمان يقتضي التقوى، وأكد الإيمان بالله بالجملة الاسمية.
والتقوى أن يلاحظ الشخص حق الله تعالى وحق الناس فيما يتناوله من طيبات، وألا يدفعه ذلك إلى الغرور والتعالي، والتفاخر والاستطالة على الناس، وألا يدفعه طلب الحلال إلى نسيان الحمد والشكر، في كل ما يتناوله، ويناله، وأن يقوم بحق الله تعالى، وحق الناس، وأن ينعم بالنعمة، ويصبر إذا أزالها، ويكون من المتقين الصابرين المذكورين في قوله تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠).
فالنعم تحتاج إلى صبر، وإعطائها حقها من الشكر، والنقم تحتاج إلى صبر.
* * *
* * *
كان الذين يحرمون على أنفسهم ما أحله الله تعالى يتخذون الأيمان ذريعة لذلك، فيحلفون ألا يأكلوا أو ألا يأتوا النساء، أو أن يقوموا الليل ويحرموا أنفسهم من متعة النوم وهكذا، فبين الله تعالى في هذه الآية تحلة هذه الأيمان، وأنه يجب
اللغو هو من لغا العصفور وهو صوته، أطلق على كلام من لَا يعتد به ولا يلتفت إليه، كما قال تعالى في أوصاف المؤمنين: (... وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (... (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا).
ولغو اليمين الذي لَا مؤاخذة عليه بنص القرآن قال بعض الفقهاء ومنهم الشافعي: أنه ما لَا يقصد به الحلف، بل يجيء في مجرى الكلام، مثل لَا والله بلى والله، وروى ذلك عن عائشة رضي الله عنها، ويزكي ذلك التفسير قوله تعالى في آية أخرى: (لا يُؤَاخِذكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ...).
والذي يقابل ما كسبت القلوب هو ما لَا تكسبه القلوب، وقال الحنفية: هو أن يحلف على شيء مضى على أنه كما قال ثم يتبين أنه غيره، فعلى حسب اعتقاده لَا يكون عليه شيء، وهذا التفسير مأثور عن مجاهد رضي الله عنه، وعلى ذلك تكون المعقدة مقابلة للغو.
وظاهر الآية الكريمة أن معقدة الإيمان هي الحلف على الامتناع عن فعل في المستقبل أو الإصرار على فعل، لأن ذلك هو الذي يسير مع السياق من التحريم على النفس، وأصلها من العقد، وهو في الحسيات جمع أطراف الشيء، وفي المعنويات جمع أطراف الكلام، وصيغة التفعيل تدل على توثيق الكلام وتأكيده وقرئ بالتخفيف (٢)، وهي في معنى التضعيف.
والذي يظهر لنا وسط اختلاف الفقهاء في التفسير أن اللغو ما لَا يقصد به اليمين، وما لَا تكسبه القلوب، ولا يوثَق به الكلام بالامتناع، عن الفعل، أو
________
(١) سبق تخريجه.
(٢) (عَقَدْتمُ) بالتخفيف، قرأ بها عاصم (غير حفص والمفضل)، وحمزة، والكسائي، وخلف.
وقرأ ابن ذكوان بالألف (عاقدتم). وقرأ الباقون بالتشديذ. غاية الاختصار - برقم (٨١٣).
(فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) الكفارة من الكفَر وهو الستر، فالكفارة ستر الخطيئة وستر الَخطيئة عند الله تعالى إزالة أثر الاعتداء، والضمير يعود على الحنث المقدر في القول، فكفارته أي كفارة خبثه، ولا مانع من أن يعود على الحالف إذا حنث، ويظهر لنا ذلك؛ لأن التكفير يكون عن الشخص، ولا يكون على اليمين، ولا على الحنث فيه إلا على اعتبار أنه محو لسيئة الحالف في الحنث، وعدم البر بيمينه.
وقد خير الحالف إذا حنث بين أمور ثلاثة يختار إحداها، وهو سيختار الأيسر عليه اقتداء بالنبي - ﷺ - إذ قالت عائشة في أخلاق النبي - ﷺ -: " ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما " (١) فالواجب هو واجب مميز بين ثلاثة وليس واحدا منهم بأولى من الباقين إلا أن يكون أيسرهما عليه، فإن كان من تجار الأقمشة كانت الثياب أيسر عليه.
والأمر الأول المميز فيه الطعام، وقد عبر سبحانه بإطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، فما المراد بالأوسط، وما نوع الواجب أهو الإطعام بالفعل؛ أم يشمل التمليك الذي يكون به الإطعام، وهل العدد مقصود لذاته، أي لا بد أن يكون المطعومون عشرة لَا ينقصون؛.
أما كلمة أوسط، ففيها رأيان: أحدهما - رأى كثيرين من المتقدمين.
أن المراد أمثل ما يطعمون به أهليهم، لأن الأوسط في كثير من الاستعمالات هو الأمثل، قال تعالى: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ).
________
(١) متفق عليه؛ رواه مسلم: الفضائل - مباعدته - ﷺ - للآثام واختياره (٣٣٢٧)، والبخاري بنحوه وفيه زيادة: الحدود - إقامة الحدود (٦٧٨٦).
وقال آخرون: إن الأوسط هو المتوسط الذي يعد المتوسط في طعامه، فليس هو أقل ما يأكله أهله ولا أكثر بل يكون بين ذلك قواما، وقد اختار هذا الرأي ابن جرير، والأكثرون من الفقهاء.
وإن الإطعام يكون بالتمكين من ذلك، وهو الأصل، وخصوصا عند من يفسر الأمثل بالأوسط، وفي هذه الحال يقدم لهم وجبتين من الطعام ليستطيعوا الاعتماد عليها طول اليوم، وإذا لم يكن الإطعام متيسرا، ملكهم من أنواع القوت ما يقابل ذلك، والأكثرون على أنه يقدم نصف صاع من بر، واختلافهم في مقدار الصاع، لَا في أصل التقدير.
والأكثرون من الفقهاء على أنه لَا بد من إطعام عشرة، وقال الحنفية: إذا أطعم واحدا عشر مرات يغني عن إطعام العشر؛ لأن القصد إمداد الفقراء بحاجات تغنيهم، وليست العبرة بمغايرة الاشخاص ولا بالعدد في ذاته، والكسوة يلاحظ فيها أن تكون سابغة في الجملة، ولقد قال مالك وأحمد: لَا بد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه رجلا كان أو امرأة كل بحسبه.
وعندي أنه يترك تقدير الكسوة إلى ما يليق بالمعطى مع ملاحظة أن يكون سابغا.
والرقبة أيشترط فيها أن تكون مؤمنة؛ لقد ورد عتق الرقبة موصوفا بأن تكون مؤمنة في كفارة القتل خطأ، فالأكثرون من الفقهاء جعلوه وصفا في كل تكليف بعتق الرقبة؛ لأنه قد اتحد الموضوع، واتحاد الموضوع يكفي في حمل المطلق على المقيد، ولأن المعنى فيه تحرير رقاب المؤمنين، ولأن الصدقات تكون للمؤمنين، وقال الحنفية: لَا يحمل المطلق على المقيد إلا إذا اتحد الموضوع والسبب، وعتق
(فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثةِ أَيَّام) الفاء هنا تفصح عن شرط مقدر، والمعنى إذا لم يكن عنده ويريد أن يحنث ولم يجد فصيامه ثلاثة أيام، وثلاثة الأيام يصومها تطهيرا لنفسه، ولتقوى إرادته، وتشتد عزيمته، فالصوم طهرة للنفس، ويزكي العزيمة الصادقة والتجرد الروحي، ولكن أيشترط أن تكون الأيام الثلاثة متتابعة؟ قال كثيرون: لَا يشترط أن تكون متتابعة؛ لأن النص لم يشترط ذلك، ولأن التيسير يتحقق بعدم شرط التتابع، والنبي عليه السلام، يقول " يسروا ولا تعسروا " (١)، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إن التتابع شرط؛ وذلك لأنه لا يمكن تحقق أنها ثلاثة أيام إلا متتابعة، ولا يتصور أن يكون قد كفر عن يمينه إذا كان يصوم في كل عام يوما، ولأن ذلك رأى كثير من الصحابة منهم عبد الله بن مسعود. ونحن نختار ذلك الرأي، وقبل أن ننتهي من الكفارة لَا بد من أن نتعرض الأمرين:
أولهما - أيسبق الحنث الكفارة ولا كفارة إلا بعد الحنث أم تجوز الكفارة قبل الحنث؟ قال الأكثرون بالأول لأن السبب هو الحنث، وما دام لم يتحقق فإنه لا كفارة، وقال آخرون: يجوز أن تتقدم الكفارة عند نية الحنث، وتقوم النية مقام الحنث بالفعل.
ثانيهما - إذا حلف على شيء فرأى خيرا منها يجب عليه أن يحنث قال الظاهرية ذلك لقول النبي - ﷺ - " من حلف على يمين فرأى خيرا منه فليحنث وليكفر " (٢) وقال غيرهم: لَا يجب، ونحن نرى أن يوازن بين مقدار الضرر الذي سيترتب على الاستمرار، والخير الذي يجلبه الحنث، فإن رجح الثاني وجب الحنث.
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: العلم - ما كان النبي - ﷺ - يتخولهم (٦٩)، ومسلم بلفظ: " وسكنوا ولا تنفروا ": الجهاد والسير - الأمر بالتيسير وترك التنفير (١٧٣٤).
(٢) سبق تخريجه.
وحفظ الأيمان يتحقق بألا يكثر منها، ولا يكون مهينا ينطبق عليه قول الله تعالى: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ)، وألا يمتغ عن الخير بالحلف، فلا يجعل الله تعالى عرضة ليمينه، وأن يصون يمينه فلا يحلف إلا لإرادة الخير، والله هو المستعان.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)
* * *
والمحرمات تكون لأحد أمرين إما لخبث في ذاتها، كالخمر والخنزير والميتة، وإما لاقترانها بما يمس العقيدة، مما يدعو إلى الإشراك، ومن الأشياء ما تكون محرمة لأن الفعل الذي قارنها كان محرما، كالذي يكسب بالميسر، فيحرم سدا للذريعة، وقد ذكر سبحانه بعض المحرمات من الصنفين، فقال تعالت كلماته:
وقال الحنفية: إن الخمر المذكور تحريمها بالنص في القرآن الكريم هي النيِّئ من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد، فهذه هي الخمر الذي جاء بتحريمها النص القرآني.
وما جاء من الأشربة المحرمة، فقد ثبت تحريمها بالقياس؛ لأنها تشترك مع الخمر المحرمة بالنص في علة التحريم، وهي الإسكار فحرمت لإسكارها لَا لورود النص بها.
________
(١) رواه مسلم: الأشربة، والترمذي: الأشربة - ما جاء في الحبوب التي يتخذ منها الخمر (١٨٧٥).
كما رواه النسائي، وأبو داود، وابن ماجه وأحمد.
والأنصاب تطلق عند عرب الجاهلية بإطلاقين: أحدهما - نصب من الحجارة كانت تعبد، أو تقدس.
والإطلاق الثاني: حجارة مقدسة كانت تخصص للذبح تقربا للأصنام.
والأزلام جمع زلم، وهي السهام التي كانوا يتقاسمون بها الجزور أو البقرة إذا ذبحت، فسهم عليه واحد، وسهم اثنان وهكذا إلى عشرة، وقد حرم القرآن القسمة بذلك لأنها من الميسر.
وقد جمعت هذه الأمور كلها مع تحريم الخمر؛ لأنها متجهة جميعها إلى الخبائث، فالخمر ومعها الميسر كانا مقترنين في التحريم؛ لأنهما عادة كانا مقترنين في الواقع، فيندر أن يلعب الميسر من لَا يشرب الخمر، وشارب الخمر المدمن عليها يمتد به الإثم، حتى يتناول الميسر أيضا.
والأزلام كانت تتخذ لقسمة الذبائح بالميسر، فيسحب الشخص الزلم، ويكون له من اللحم بمقدار ما يعلمه السهم، فإن كان واحدا أخذه، وإن أكثر أخذه بمقدار ما يعلمه.
والنصب جمعت مع هذه، لأنها أصنام وهي الأصل فساد في العقيدة، أو لأنها مقدسة لَا تؤكل الذبيحة إلا إذا ذبحت عليها، فكان جمعها مع الخمر والميسر لصلتها بالميسر، ولأنها نوع من تحريم ما أحل الله تعالى لغير سبب معقول لَا من الشرع ولا من العقل، فهي ذات صلة وثيقة بالآية التي قبلها.
وكان جمع هذه الأشياء مع ما سبق لأن لها مصدرا من الطبع واحدا، وحكما من الشرع واحدا، وهو أنها رجس، ومن عمل الشيطان، والرجس كل ما استقذر،
والخمر أم الخبائث، لأنها تسهل كل الخبائث، فما من شر يريد أن يقدم عليه الشخص، ويتردد في ارتكابه إلا سهلته الخمر، فهي تميت النفس اللوامة، أو على الأقل تضعف صوتها، وتخدر الوجدان، وهو الإحساس بما في العمل الذي يعمله من خطر، ومن أجل ذلك كله حرمت.
ولا يقال إنها حرمت للإسكار فقط، حتى لَا يزعم ناس أنها حلال له؛ لأنه لم يسكر، فذلك قول باطل أولا - لأن النص قاطع في التحريم، وكل اجتهاد مع النص اجتهاد فاسد، وثانيا - لأن كون الشيء مسكرا لَا ينظر فيه إلى الجزئيات بل النظر فيه إلى شأنه، ولا تخرم القاعدة الكلية بشذوذ جزئي. وثالثا - لأنها تميت الضمير والوجدان أو تخفت الصوت اللائم، وتذهب بالحياء وهو عصام الأخلاق والمجتمع السليم.
والميسر مستقذر، لأنه يؤدي إلى الشحناء واكل أموال الناس بالباطل، واتخاذ الأنصاب مستقذر لأنه لَا يتفق مع العقل ولا يدعو إليه الفكر المستقيم، وهو من ضلال العقول وفساد النفوس، والأزلام لون من ألوان الميسر، وشكل من أشكاله، وهو قذر بكل صوره، وبكل أشكاله.
(فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تفْلِحُونَ) الضمير في: (فَاجْتَنِبُوهُ) يعود على كلمة رجس، والفاء للإفصاح عن شرط مقدر، وتقدير الكلام هكذا: إذا كان تناول هذه الأشياء، رجسا ومن عمل الشيطان، فاجتنبوه لتنالوا الفوز والفلاح أو لترجوا الفوز والفلاح، فمعنى قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تفْلِحُونَ) أي لترجو الفوز والفلاح، فلا فوز لقوم يضلون عقولهم بأنفسهم، ويفرون من واجباتهم بالخمر يشربونها، وبالموبقات يتسلون بها وبإضلال عقولهم وضياع تفكيرهم.
و" اجتنبوه " معناها اجعلوه في جانب وأنتم في جانب، وهو أقوى من " لا تشربوها " في الدلالة على التحريم؛ لأن " اجتنبوها " لَا تدل فقط على تحريم الشرب، بل تدل على تحريم الشرب مع جعلها في جانب، وابتعاد، وهي تتضمن النهي عن الشرب، ومجالسة الشاربين، لأن مجالسة الشاربين لَا يتحقق فيها الأمر بالاجتناب، بل إن الاجتناب يتضمن النهي من المرور على الحانات أو غشيانها.
وقد زكى التحريم للخمر والميسر بأمرين باقترانهما باتخاذ الأنصاب والأزلام، ووصف الجميع بالقذارة الحسية المعنوية، وثاني الأمرين ببيان بعض الآثار من إلقاء العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله فقال:
* * *
* * *
البغضاء: البغض الشديد، وهو يقطع الصلات، ويثير الأحقاد، ويجعل الناس قلوبهم شتى، وإذا أعلنت البغضاء كانت العداوة المستحكمة، والمنابذة والشحناء، فالعداوة أخص من البغضاء، لأنها بغضاء معلنة متنابذة، أما البغضاء المجردة فتكون مستكنة لَا تظهر، وإن كانت آثارها عنيفة مثيرة للنفور مربية للأحقاد والأضغان.
وثانيهما - أنه يترتب عليهما الفرقة المادية بين الناس بالعداوة التي تقام بينهم، وبالبغضاء التي تولد فيهم الإحن المستمرة.
وليست العداوة والبغضاء هما فقط عمل الشيطان، بل له عمل آخر أشد وهو أنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وفي الواقع أن كلا الأمرين متلازمان، فحيث كان الصد أي الإبعاد عن ذكر الله وعن الصلاة، كان إلقاء العداوة والبغضاء في القلوب، لأنه إذا وجد الإعراض عن ذكر الله وعن الصلاة كانت الأنانية، ولا شيء يقطع ما بين الناس، ويثير العداوة والبغضاء أكثر من الأثرة ومجانبة الإيثار.
فالخمر والميسر تناولهما يؤدي إلى أمرين أولهما - العداوة والبغضاء، وثانيهما - الصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، أما أداؤها إلى العداوة؛ فلأن الخمر إذا شربت غاب العقل الظاهر، وظهر العقل الباطن، وكشف السكران كل مستور، وبين كل ما في الأنفس، وانطلقت الألسنة، بما لَا يصح الكشف عنه، وقد يبادله الآخر مثل قوله فتكون الشحناء، وتكشف الأستار، وينبش المقبور من الأمور، ووراءه تولد الإحن ونزول المحن، وإن الرجل ليكون كاتما لنفسه لا يتكلم، فإذا سكر انطلق لسانه بكل شيء، وقد يفتري على الحرائر، ويكشف ما في السرائر، وتنزل بالجماعة المحن.
وأما الميسر فإنه يولد حقد القلوب، وإحساس كل بأن الآخر له متربص ومتحفز، ولأمواله طالب متوثب، وهذه الأمور بارزة للعيان غير محتاجة إلى بيان.
والميسر لَا يشغل عن الله وعن الصلاة فقط، بل يشغله عن أهله وعن أولاده، وعن عمله الذي يكتسب منه، بل عن ثيابه التي يكسو نفسه بها فهو غمرة طاغية لَا ينقذه منها إلا إطاعته أمر الله تعالى ونهيه.
(فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، مؤاده إذا كنتم قد علمتم ما في الخمر والميسر من مضار وصوارف عن الله تعالى. وما يؤديان إليه من شحناء وبغضاء، وما يفسدان به الجماعات أفأنتم بعد ذلك منتهون عنهما تاركون لهما أم أنكم ما زلتم في غيكم تعمهون، سادرين عن أمر الله تعالى، فالاستفهام هنا للإنكار، ومؤاده: انتهوا عما أنتم فيه، ولقد أجاب الكثيرون من أصحاب رسول الله: انتهينا.
وفى التعبير بالانتهاء والأمر به إشارة إلى تمهيدات سابقة للتحريم، فقد استنكرها القرآن الكريم من أول نزوله، فلم يعتبرها رزقا حسنا، كما قال تعالى: (وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ والأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا...).
فجعل السكر وهو الخمر مقابلا للرزق الحسن، ثم جاء التحريم غير الحاسم في قوله تعالى: (يَسْألُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسَِْ)، والنتيجة تنتهي إلى التحريم لأن ما كثر ضرره وقل نفعه يكون حراما، ثم حرمت في أثناء النهار وطرفا من الليل، وذلك في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ...).
وجاء في الصحيحين عن رسول الله - ﷺ - أنه قال: " إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل " (١) وترى الرسول عدَّد خمسة ثم عمم: وهي ما خامر العقل. هكذا أمر الله وهكذا أمر رسوله، قد قال تعالى:
* * *
________
(١) رواه البخاري: تفسير القرآن - قوله تعالى: (إنما الخمر)، ومسلم: التفسير - في نزول تحريم الخمر (٣٠٣٢
* * *
الواو هنا قال بعض المفسرين: إنها عاطفة على قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). ويكون قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ) في مقام التعليل للنهي، وقوله (فهل أنتم منتهون) في مقام تأكيد النهي أو تأكيد معناه، ويكون الكلام كله في مساق واحد، ويكون قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ) في مقام تأكيد المنهيات السابقة وغيرها، وكان ذلك كله لمقام تأثر العرب بالخمر، وتعلقهم السابق بها، فاقترن بها الأمر بالإطاعة، وتحميلهم التبعة، والأكثرون لم يذكروا أن الواو عاطفة، ومفهوم كلامهم أنها استئنافية، والمؤدى واحد، لأن في ذكرها عقب تحريم الخمر بالأمر العام بالطاعة تأكيدا للنهي وتوثيقا له.
وأمر سبحانه بإطاعة الله، ثم أمر بإطاعة الرسول مع أن إطاعتهما واحدة.
لقوله تعالى: (مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ...). ولأن النبي يتكلم عن الله سبحانه وتعالى، فقد قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤).
وكرر سبحانه الأمر بالطاعة لتأكيد الدعوة إلى الطاعة، وتشريف الرسول، وتأكيد رسالته بذكر طاعته بجوار طاعة الله تعالى:
وفى هذا النص الكريم تأكيد لمعنى التحذير السابق، وتنبيه إلى سوء العاقبة، والمعنى: إن أعرضتم عن الطاعة، وتجنبتم الحذر، ووقعتم في المحظور، وغفلهم عن المأمور به فقد وقعتم في الخطيئة، وستحاسبون عليها حسابا عسيرا، واعلموا أنه على رسولنا البلاغ الواضح المبين للحقائق والواجبات، فقوله تعالى: (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِين) مبني عن جواب شرط مقدر ينبئ عن تحملهم وحدهم لتبعة إجرامهم ومعاندتهم لربهم مثل قوله تعالى: (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ...). أي فإنه عدو لله؛ لأنه نزله على قلبك بإذن الله، فالرسول مبين للحق، وليس مسئولا عن إيمان من يبين لهم، كقوله تعالى: (... إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ).
وكقوله: (إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢).
وفي إضافة الرسول إليه في قوله: (عَلَى رَسُولِنَا). تشريف للرسول وتوكيد لإقراره سبحانه، وبيان أن الرسول ما ينطق إلا عنه، وأن عصيانه عصيان لله تعالى، وفي التعبير بقوله تعالى: (فَاعْلَمُوا). تنبيه بصيغة الأمر، ليتعظوا ويتحملوا تبعة أعمالهم، ويكونوا في حذر مستمر، والله الهادي.
* * *
* * *
كان بعض المؤمنين يحرمون على أنفسهم بعض المباحات، ويحسبون أن ذلك من الورع والتقوى، وقد بين النبي - ﷺ - خطأهم، ونزل القرآن الكريم بتحريم ذلك عليهم، وجاء في مطوي الكلام تحريم الخبائث لَا تحريم الطيبات، ِ وفي هذا النص الكريم بيان أنه لَا إثم في تناول المباحات؛ لأن العبرة بالإيمان وتقوى القلوب،
والأكثرون من المفسرين على أن سبب نزولها أنه لَا نزل تحريم الخمر المشدد فيه، والتحذير منها، وقد كانت من قبل في مرتبة العفو، وقد كان هناك من المؤمنين من يشربها، حتى كان منهم من استشهد في الجهاد، وفي بطنه خمر فتساءل بعض المؤمنين عمن شربها ومات، وعمن كان يشربها من الأحياء، كما تساءل بعض الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس عن صلاتهم قبل تغيير القبلة إلى الكعبة، فنزلت هذه الآية: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). كما نزل هنالك قوله تعالى: (... وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رحِيمٌ).
وقد وصف الله سبحانه وتعالى الذين لَا جناح عليهم في شربهم في الماضي بأنهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وكلمة: " طعموا " معناها ذاقوا، وهي تطلق على المشروب، والمأكول، كما قال تعالى في شأن النهر الذي حرم القائد شربه: (... وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي...)، وقد ذكر سبحانه وتعالى بعد نفي الإثم قوله تعالى: (إِذَا مَا اتَّقَوْا وآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). ففهم بعض الناس أن ذلك شرط لنفي الإثم، أي لَا إثم بالشرب مع التقوى وعمل الصالحات، ونقول في الجواب عن ذلك:
أولا - إن المراد بتقوى الله تعالى امتلاء القلب بخشيته، وقد ذكر سبحانه وتعالى في أوصاف الخمر والميسر أنهما يلقيان بالعداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله تعالى فإذا كان الإثم قد رفع عن التناول لأنه كان قبل التحريم، فهل يرفع الإثم عن العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة؛ إنه لَا تقوى مع التناول.
وثانيا - إن في هذا الشرط تحريضا على الإيمان وتقوى الله تعالى، والامتلاء بهيبته.
(ثُمَّ اتَّقَوْا وَّأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) العطف بـ " ثم " هنا هو أيضا لتأكيد معنى الاستمرار مع الزمن، والتقوى كما قلنا هي امتلاء القلب بالخشية، وهذا للحث عليها، ولتشريف الذين يستمرون عليها، والإحسان إن اعتبرناه متعديا يكون مؤاده الإحسان إلى غيرهم بالمعاونة، وفعل الخير وإسدائه، والجود بالمال وغيره، ويصح أن يكون لازما والمراد الإحسان في ذات أنفسهم، كما قال النبي عليه السلام: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (١) وهذا أعلى مراتب التقوى وهو ما نراه، والله جل جلاله يحب المحسنين لأنهم قريبون منه.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٩٥)
________
(١) سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم، وهو المعروف باسم حديث جبريل الشهير.
* * *
ذكر سبحانه وتعالى أشياء محرمة لذاتها لأنها مستقذرة، خبيثة في ذاتها، وفى نتائجها، وهناك محرمات لمكانها وحال التناول لها، وليست في ذاتها حراما، ومن ذلك المحرمات في الحج أو في الإحرام بشكل عام، سواء أكان للحج أم كان للعمرة أم كان لهما - وبعد أن أشار إلى بعض المحرمات لخبثها، ولذاتها وهي الخمر، ذكر سبحانه وتعالى المحرمات لمكانها وحال التناول لها، فقال سبحانه وتعالى:
وكان على المسلمين أن يعملوا على توفير الطعام لهم، حتى تتحقق إجابة ذلك الدعاء، إذ فرض الله سبحانه وتعالى الحج إلى ذلك البيت المطهر، ففرض الحج إليه كما قال تعالى: (... وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا...).
فكان الناس يذهبون إليه من كل فج عميق، وإذا كان من مقاصد الحج التوسعة على المقيمين في هذا البيت، لَا يصح أن يكون وجودهم سببا للتضييق عليهم ولو كان الصيد مباحا، وهم يسكنون البادية، ومن موردهم الصيد، ولو فتح باب الإباحة للمحرمين لكان من المتصور أن يستنفذوا كل عام أكثر الصيد
النداء في النص القرآني الكريم للذين آمنوا، لأنه من مقتضيات الإيمان ذلك الخطاب، ولم يكن تحريم الصيد للمحرمين لهذا فقط، بل لاختبار النفس المؤمنة، ولتعويدها الصبر، ولتربية العزيمة، إن العزيمة تتربى في صغار الأمور، كما تتربى في كبارها، وإن كبارها تحتاج إلى قوة جسمية، وإرادة نفسية، أما الأمور الهينة اللينة، فإنها تحتاج إلى عزيمة روحية، ولذا قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ). وإنه يكفي المنع من شيء ليطلبه الممنوع منه، وفي الأمثال: كل ممنوع متبوع، وجاء في ذريعة الأصفهاني أنه ورد في بعض الآثار أن الناس لو مُنعوا من البعر لفتوه، وقالوا ما حُرِّمَ علينا إلا لشيء فيه.
والكلام في قوله تعالى: (لَيَبْلُوَنَّكُمُ). اللام هي التي تدل على القسم، والنون هي المؤكدة، والمعنى لنعاملنكم معاملة المختبر، الكاشف لحقيقة نفوسكم، وعزائمها، وإراداتكم وتصميمكم، وصبركم النفسي، وكان ذلك الاختبار النفسي الكاشف لعزائمكم في أمر صغير في واقعه، كبير في معناه، فموضوع الاختبار عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله تعالت كلماته:
(بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) وهذا الموضوع للاختبار يتسم بأمور ثلاثة: أولها - أنه شيء قليل لأن التنكير هنا للتقليل، كما يدل عليه ما بعده، والثاني - أنه بعض الصيد، والثالث - أنه قريب منكم يغري النفس، ويحرضها على فعل المنهي عنه، إذ إن أيديكم تستطيع تناوله إذ كان قريبا صغيرا، وتستطيع رماحكم أن تناله إذا كان كبيرا أو بعيدا بعدا نسبيا. وإن الاختبار الذي يجعل النفس في مشقة هو في هذا القرب، فالاختبار ليس في أمر يشق على الأجسام كالجهاد إذ يحتاج إلى قوة جسم، ومهارة، وفن عقلي، ولكن الاختبار في أمر
وإن الذي ينجح في ذلك البلاء يكون ممن يخاف الله تعالى في غيبه عنه، وفى مشهده له، بل إنه يحس دائما بمقام المشاهدة (١)، فلا يحس بأنه غيب عن الله تعالى قط، ولذلك قال تعالت كلماته: (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ). أي ليظهر الله تعالى فيمن يخافه بالغيب، ولكن ما الغيب وما حال من يخافه، قال بعض المفسرين: إن المراد غيب يوم القيامة، أي أن من يحرم الصيد وأشباهه على نفسه، ويعقد عزيمته على ذلك يظهر إيمانه بالآخرة وهي مغيبة عنه، ويخافها لأن نفسه تكون من النفوس الصابرة المبتعدة عن أهواء الدنيا، فلا تغمرها شهواتها، فتنفذ طيبة إلى الآخرة، وقال بعض المفسرين: إن المراد غيب الله تعالى أي أن من تكون له تلك العزيمة القوية فيكون ممن يراقب الله تعالى دائما، فيعبد الله كأنه يراه، فالله في قلبه دائما يخافه ويتقيه، ولا مانع من الجمع بين المعنيين.
(فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَليمٌ) الاعتداء تجاوز الحد ومخالفة أوامر الله تعالى، كما قال تعالَى: (... وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ...).
ومعنى النص الكريم: ومن تجاوز ما أمر الله تعالى بعد إعلامه بأنه اختبار من الله لتربية نفسه وتهذيبها وإشعار بمخافة الله تعالى، وهو غائب بأن يمتلئ قلبه بالإيمان به، ويطيع الله كأنه يراه، من اعتدى بعد هذا فهو يعاند الله تعالى ويكابره، ومن يكون قلبه ممتلئا بالمكابرة والمعاندة، فإن الإيمان لَا يسكن قلبه، ويكون له عذاب أليم.
________
(١) مقام المشاهدة: " أن تعبد الله كأنك تراه "، ومقام المراقبة: " فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". وكلاهما إحسان كما في حديث جبريل الشهير. والمداومة على الثاني توصل إلى المقام الأول لمن وفقه الله تعالى.
* * *
* * *
الخطاب للمؤمنين بوصف الإيمان، فالإيمان يقتضي ألا يقتلوا الصيد وهم محرمون، وقوله: (وَأَنتُمْ حُرُمٌ) معناه وأنتم محرمون، فكلمة حرم جمع لحرام، وحرام قد تكون وصفا للمحرِم، فيقال: رجل حرام، وامرأة حرام إذا نوت الحج واتخذت شعاره، وجمع حرام حرم، والمحرم أو الحرام هو الذي يؤدي الحج أو العمرة، واتخذ شعارهما، إذ يصبح ما كان حلالا له بإطلاق، مقيدا في إحلاله، ويكون عليه مشاعر يجب أداؤها.
والنهي منصب على قتل الصيد، فما هو الصيد المحرم، وهو بلا ريب صيد البر، كما خصصت ذلك الآية من بعد، فقد قال تعالى من بعد ذلك:
والنهي منصب على الصيد نفسه لَا على قتله؛ لأن التحريم يتجه إلى محاولة صيد الحيوان، لَا إلى قتله فقط، وقد دل على ذلك قوله تعالى من قبله: (... غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حرُمٌ...).
وأجيب عن ذلك بأن الغاية هو القتل للأكل غالبا، فعبر عن السبب وأريد المسبب، والقتل منهي عنه بالذات.
ولكن ما هو الصيد المحرم أيقع على كل حيوان بري، فيحرم صيده من غير قيد يقيده؛ لقد ورد عن النبي - ﷺ - أنه استثنى من تحريم الصيد الفواسق، فقال - عليه السلام - فيما رواه الصحيحان " خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح، الغراب والحدأة والعقرب، والفأرة، والكلب العقور " (١) وهذه رواية مالك عن نافع عن ابن عمر، ورواية عائشة أم المؤمنين أن رسول الله - ﷺ - قال: " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة، والعقرب والفأرة والكلب العقور.. " (٢).
وقد اتفق الفقهاء على أن قتل هذه غير ممنوع.
وقد جرى الخلاف فيما وراء ذلك، وكان أساس الخلاف هو أن النص معلل واختلفوا في تعليله، ففريق قال: ليست ثمة علة إلا الأذى، وعلى ذلك يكون محرما صيد ما عدا هؤلاء، إلا إذ كان مؤذيا بالفعل فيحرم الوحش إلا إذا كان قد ساور المحرم، وقال بعض الفقهاء: إن كل حيوان لَا يؤكل ومن شأنه مساورة الإنسان لإيذائه كالنمر والأسد وغيرهما يباح صيده، واختلفت الروايات والأقوال في المذاهب فقيل: لَا يباح صيد أي حيوان إلا ما جاء النص بإباحته، وما يساور الإنسان فعلا ليؤذيه، وقيل: يباح ما من شأنه المساورة، وقيل: إنه يباح صيد كل ما لَا يؤكل، وهو قول الشافعي، وإنا نميل إلى هذا القول؛ لأن التحريم معلل، وليس تعبديا خالصا، والحكمة واضحة، وهي منع التضييق على أهل الحرمين الشريفين، ولأن الصيد في غالب أحواله لَا يتجه إلا إلى ما يؤكل فيندر من
________
(١) سبق تخريجه.
(٢) رواه مالك: المناسك - ما يقتل المحرم في إحرامه (٧٩٨) عَنْ ابْنِ عُمَرَ، ويروي عن عائشة كما صرحت بذلك رواية البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها.
قال كثيرون من الصحابة والتابعين منهم ابن عباس: إنه يحرم على كل حال؛ لأن الصيد ذريعة إلى الأكل، وليس تحريم الصيد لذاته، ولكن لكيلا يكون أهل مكة في ضيق.
وقال آخرون: يحل ما دام لم يتول الاصطياد، وقد قال ذلك علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وجمع من الفقهاء.
القول الثالث: أنه إذا صيد لأجل المحرم كضيافته ونحوه فإنه يحرم، لا يكون كاصطياده.
والقول الرابع: أنه إذا لم يعاون المحرم في الصيد، ولو بالإشارة فهو حلال.
وهذا الذي نميل إليه؛ لأنه إذا كان قد عاون في الاصطياد، ولو بالرأي فقد اصطاد، وإذا لم يكن شيء من ذلك، فهو حلال، وإلا امتنعت الضيافات، وكان الناس في حرج وضيق السبيل إلى تبادل المودة، وهي مطلوبة في الإسلام.
(وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم) المتعمد أن يكون عالما بالتحريم أو أن يكون من شأنه العلم بالتحريم؛ إذ يكون مقيما في دار الإسلام، وأن يكون قد قصد القتل ولم يقصد سواه وإلا فلا، كأن يساوره سبع يريد قتله، فيضربه، فيصيد صيدا، أو يرى عن بعد سبعا مفترسا ثم يرى شبحا يظنه هو فيتبين أنه غيره، فلا يعد في هذه الحال متعمدا الصيد ويكون فعله خطأ.
وعلى ذلك يكون ما عدا من اشتملت عليه هذه القيود خطأ، ويكون الخطأ قسمين: خطأ في الفعل بألا يريد الصيد فيقع الصيد كالصورة السابقة، أو خطأ
وعلى ذلك يكون الجزاء لأجل التعمد، ولا جزاء في الخطأ.
ولكن الفقهاء اتفقوا على أن محظورات الصوم خطؤها كعمدها يوجب الفداء فكيف يعتبر الخطأ؟ ولقد أجاب عن ذلك ابن جرير، بأن جزاء الصيد ثبت بالكتاب، وجزاء الخطأ ثبت بالسنة، وقد أخرج الشافعي وغيره عن عمرو بن دينار أنه قال: رأيت الناس جميعا يغرمون في الخطأ، وبعض الفقهاء قال: إن جزاء العمد ثبت بالنص وجزاء الخطأ ثبت بالقياس أي أنه ثبت قياس الخطأ على العمد.
وعندي أن النص الظاهر في أن الجزاء مقيد بأن يكون القتل عمدا، وكل جزاء في حال الخطأ البحث فيه يكون إهمالا لقيد العمدية، ولذلك تقيد العمدية، بما يشمل الخطأ في القصد وغيره، فالعمدية القصد إلى الصيد ولو كان ناسيا لأنه محرم، أو جاهلا أنه محرم، وبذلك يكون سريان النص مع ما ورد من آثار فإن الأثر الوارد عن النبي - ﷺ - كان فيه الصائد ناسيا إحرامه، فقد روى أنهم وهم في الحج عنَّ عير (حمار وحشي) فحمل عليه أبو اليسر، فطعنه برمحه فقتله، فقيل له قتلته وأنت محرم، فأتى الرسول - ﷺ - فسأله عن ذلك فنزلت الآية (١)، وعلى ذلك اعتبر أبو اليسر قاتلا عمدا، وقد كان ناسيا أنه محرم، وذلك لمجرد أنه قصد القتل من غير نظر إلى أي ناحية نفسية أخرى، وبذلك يكون التوفيق بين الكتاب والسنة، وإنهما لمتوافقان، فالناسي يعد عامدا، وقاصد غير الصيد يكون مخطئا.
وقد ذكر سبحانه وتعالى أن الجزاء يكون بالمماثلة بين الصيد، وحيوان يقاربه في الحجم من النعم، وهي الإبل والبقر والغنم، وهكذا فسر بعض الفقهاء المماثلة، وقصرها على ذلك أكثر الفقهاء، وهو ظاهر النصوص؛ لأن الله تعالى
________
(١) ذكره الآلوسي في التفسير: ج ٧، ص ٢٣.
وقال أبو حنيفة: إن المثل يكون بالقيمة، ولا شك أن ذلك القول قد يشكل ظاهرا مع ما ورد من نصوص إلا أن يقوّم الصيد، ويشترى بالقيمة هديا، فقد جزى بمثل ما قتل من النعم، والخلاصة أن القيمة تكون تعويضا يخير فيه بين أن يشتري هديا أو طعاما، فإن لم يستطع فالصوم.
وقد بين سبحانه طريق معرفة الجزاء ومآله وأنواعه فقال سبحانه:
(يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) الهدى اسم لما يذبح في الحج مهدًى إلى فقراء مكة، والنص صريح في أن الهدْي يبلغ إلى الكعبة، وكونه يكون هديا يصل إلى الكعبة يشير إلى حكمة منع الصيد في البيت الحرام، وهو أن الحجيج الكثيرين إذا أبيح لهم الصيد قطعوه عن أهل مكة، وجعلوهم في ضيق وحرج.
وذوو العدل من المسلمين هم أهل الشهادة ذوو الخبرة الدقيقة في تقدير الحيوان، بحيث يكونون ممن يصفقون في أسواق النعم، أو من أهل المعرفة بها الذين يعلمون الأسعار بملاحظة مكانها وزمانها.
وهذان الحكمان يعينان المماثلة، سواء أكانت المماثلة بتوسط القيمة، أو كانت بالمماثلة في الهيئة والحجم ونحو ذلك، وذلك لأن الحنفية يقررون أنه في القيميات، أي التي لَا تتعلق وحداتها - تكون المماثلة بتعرف القيمة، ولا سبيل غير ذلك، فلا يمكن أن يكون الحيوان مماثلا للحيوان إلا بتعرف قيمتهما.
وإذا قدرت القيمة اشترى بها هديا، وبلغ الكعبة، وذبح هنالك تعويضا، وإذا تعذر شراء الهدْي، أو تعذر الوصول إلى الكعبة تصدق به على المساكين، بحيث يكون لكل مسكين نصف صاع من بُر، أو صاع من الذرة أو الشعير أو
هذا هو الظاهر عند الحنفية، وروي عنهم أنهم قالوا بالتخيير إذا عرفت القيمة بين الذبح عند الكعبة، وبين إطعام المساكين، وبين الصوم، وعندي أن الترتيب حسب القدرة أوضح، وذلك هو رأي أحمد وزفر.
والمذاهب الأخرى تتلاقى في الجملة مع المذهب الحنفي بيد أنها تعتبر المماثلة في الأوصاف، وعندي أن المذهب الحنفي أوضح وأسهل تطبيقا، وأدق في تعرف المثل، وقد اضطروا إليه عند استبدال الطعام بالذبح، إذ لَا يعرف مقدار الطعام إلا بمعرفة القيمة.
(لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) الوبال: العاقبة السيئة، ومعنى ليذوق أي ليدرك عاقبة الأمر الذي وقع فيه إدراك من يحسه ويذوقه؛ وذلك لأنه عمل على حرمان ناس من أن يذوقوا طعاما شهيا، كانوا ينالونه، فعليه أن يغرم نفسه مثله من طعام يذوقه في نظير ما حرمهم منه، فالعقاب من جنس الاعتداء: (... فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ...). وأن ما كان منهم من قبل، فإنه موضع عفو، لا يحاسب الله تعالى عليه في الدنيا ولا في الآخرة، فمعنى قوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) أي أنه سبحانه لَا يطالب بتعويضه منهم؛ لأنه سلف ومضى منهم قبل التحريم، ولا يطبق القانون إلا على ما يجيء بعده، ولذلك قرر مؤكدا، أن العقاب يكون لما يقع بعده وللعائدين، وقال سبحانه: (وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ).
وقواعد النحويين غالبة تلزم الناس، ولا تلزم القرآن. والعود هو تكرار قتل الصيد، وذلك يدل على الاستهانة بأمر الله ونهيه، فيستحق صاحبه النقمة، ونقمة الله تعالى أشد النقم، ولذا قال تعالى: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَام) أي والله تعالى غالب فوق العباد، لَا يترك الأشرار يرتعون، فهو ذو انتقام كما أنه الرحيم، بل إن انتقامه من رحمته؛ لأن الرأفة بالأشرار ليست من الرحمة، ولذلك قال بعض العلماء: إن القاصد إلى الصيد معاندا لَا تقبل منه الكفارة، ويكون عذابه يوم القيامة لاستهانته بأمر الله ونهيه.
* * *
(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا... (٩٦)
* * *
في هذا النص الكريم نجد الله تعالى بين فيه ما حرم، وما حلل للمحرم، فأحل صيد البحر وطعام صيد البحر الذي يجوز أكله، وحرم عليهم صيد البر ما داموا محرمين مسستمرين على الإحرام، فالحلال في كل الأوقات والأماكن، والحرام في حال معينة محدودة فهو ذكر لنعمة الله تعالى وفيه إشارة إلى حكمته فيما حرم، وأباح سبحانه أن يصطاد الصائد من البحر، وأن يطعم منه، فأبيح الفعل والأكل لكم، والمتاع الانتفاع، ومعنى السيارة: المسافرون السائرون الذين لا يستقرون في مكان معلوم، فلكم أن تأكلوا لحما طريا من البحار لأنكم عابرو السبيل، والحرام فيما يتعلق بالبر حال الإحرام لكيلا تضيقوا على سكان مَن حول البيت الحرام.. وختم الله تعالى الآية بالأمر بالتقوى والتذكير بالاجتماع أمام الله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). وفي هذا تذكير بتقوى الله، حتى يعلموا أن الدنيا مهما يكن متاعها لها نهاية، وأن الإنسان محاسب على ما يتناول يوم
* * *
(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)
* * *
كانت الآيات السابقة تقرر منع الصيد، وتؤكد المنع، وذكرنا أن ذلك ليس تعبديا فقط، بل فيه حكمة ومعنى ذلك أن الذين حول الكعبة يسكنون واديا غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، وكانت دعوة إبراهيم - عليه السلام - أن يجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم، وقد استجاب الله تعالى دعاءه، ولكي يتحقق لهم الرخاء منع الصيد عن أولئك الذين جاءوا إليهم حاجين أو معتمرين، حتى لا تستنفذ كثرتهم ما حول مكة من صيد يمدهم باللحم طول العام، وفي هذا النص الكريم الذي نتكلم الآن في معناه إشارة بينة إلى هذا المعنى، فقد قال تعالت كلماته:
نتقدم قبل الكلام في معنى النص إلى بعض نواح لفظية تمهد للكلام في المعنى: أولها - أن (جَعَلَ) إما أن نفسرها بمعنى خلق أو شرع الأحكام أو بمعنى صيَّر، وعلى الأولين تكون متعدية إلى مفعول واحد، ويكون المعنى على هذا خلق
الثاني - من النواحي اللفظية هو في كلمة " الناس " أيراد بهم العرب الذين يعيشون حول الكعبة، ويتحقق بذلك الاستجابة لدعوة إبراهيم، أم يراد بهم الناس عامة الذين من شأنهم أن يحجوا إلى ذلك البيت؛ ويكون المعنى على الثاني، جعل الله الكعبة لها تلك المكانة لتكون قياما لكل الناس الذين يفدون إليها وهم المسلمون عامة؛ إذ يتعارفون فيها، ويتبادلون المودة الإسلامية الرابطة، ويوثقون الصلات الإنسانية والدينية والخلقية، يتراحمون فيما بينهم، ويحسون بالتجرد الروحي، والضيافة الربانية، وفي ذلك كله قيام لهم، وليس القيام هو القوام المادي فقط، بل المادي والروحي والخلقي.
الثالث - في قوله تعالى: (وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ). الشهر الحرام قيل ذو الحجة، ونرجح أن المراد أربعة الأشهر الحرم، والهدْي ما يساق، وأخصها ذات القلائد، وهو ما يوضع عليها من شعارات من قلادة من بعض الأشجار تدل على أنها للبيت الحرام كما قال تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ...).
ويكون معنى القلائد على هذا ذوات القلائد ويذكر بعض العلماء أن معنى القلائد هي ذات القلائد التي قرر الشارع أن توضع إشعارا لها بأنها للحج، وفى ذلك تكريم للبيت، وإعلاء، وإشعار لمكانته القدسية وذلك عائد على الناس عامة وعلى أهل مكة خاصة، وسيقت هذه الكلمات: (وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) لبيان أنها قيام للناس.
وعلى ذلك تكون نعم الله تعالى بالبيت الحرام أربع:
وفى ذلك الوقت الذي لم يكن بالبلاد العربية حكومة تفرض سلطانها في أي مكان، قد ألقى الله تعالى في قلوب العرب بمهابة البيت حتى كان الرجل يلقى قاتل أخيه أو قاتل أبيه فلا يمسه بسوء، وحرم على المحرم الصيد، حتى يتوافر الخير طول العام لأهلها.
الثانية - الشهر الحرام، والمعنى فيه هو الجنس على رأى كثيرين، وهو ما نختاره إذ كان الناس يتقاتلون فإذا جاء ذلك الشهر امتنعوا عن القتال، فتعود القضب إلى أجفانها وتهدأ النفوس بعد ثورتها، وتقر بعد اضطرابها، والأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان، فيتمكن الناس من زيارة البيت الحرام آمنين مطمئنين حتى يتحللوا.
الثالثة - نعمة الهدى يساق إلى الكعبة من حيث الحجيج يحرمون، وقد يكون ذلك من أماكن بعيدة، فخير الأرض يصل إليهم موفورا، وخيرهم لَا تمتد إليه يد مجرم.
الرابعة - نعمة القلائد. وقد جاء في تفسير فخر الدين الرازي في بيان وجه النعمة فيها: (والوجه في كونها نعمة أن من قصد البيت في الشهر الحرام لم يتعرض له أحد، ومن قصده في غير الشهر الحرام، ومعه هدْي وقد قلَّده، وقلَّد نفسه من لحاء شجرة الحرم لم يتعرض له أحد، حتى أن الواحد من العرب يلقى الهدْي مقلدا، أو يموت جوعا فلا يتعرض له ألبتة).
(ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الإشارة للقيام، جعل الله تعالى ما شرعه للكعبة والحج من محرمات وشعائر، ومن تحريم الصيد، ومن الهدْي جعل كل هذا لتعلموا أن الله تعالى يعلم ما في السماوات وما في الأرض.... وهنا توجد عدة أمور تثير النظر.
وثانيها - عند عطف الأرض على السماوات كرر ما في المعطوف والمعطوف عليه.
وثالثها - لماذا قرن علم الله تعالى بما في السماوات والأرض بعلمه تعالى بكل شيء، ولماذا تكون أحكام الحج والكعبة سبيلا لمعرفة علم الله تعالى العام المحيط بكل شيء.
والجواب عن هذه الأمور هو أن ما شرعه الله تعالى لمكة وما حولها وما فيها دليل على أن الله تعالى بعلم ما في السماوات وما في الأرض؛ لأن مكة في أرض جدبة لَا ماء فيها ولا شجر، وأنها جبال لَا ثمرة فيها، وأنه لَا خير يرجى من طبعها، كما قال إبراهيم - عليه السلام -: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرع عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِْ...). فالسماء لَا تجود عليها بغيثها منتظما والأرض لَا تجود عليها بإخراج إنزالها من معادن وفلزات سائلة وغير سائلة، فجعل الله سبحانه وتعالى الحج إليها. وحرم على المحرمين ما حرم من صيد ليبقى لهم ما عندهم من وفر في الحيوان المتأبد، ولتحمل من الأراضي الخصبة والغنية والتي فيها الثروات إلى تلك الأرض الجدبة؛ فينقل سبحانه من الفيض إلى الغيض ليعم الخير، وكانت بمكة كعبة للمسلمين، لأنها أرض لَا ترام من غاصب، ولا تراد من ظالم، ثم هي في وسط الأرض حتى قال علماء الأرضين: إن بيت الله تعالى الحرام في وسط أرض الله الواسعة، فهي نقطة الارتكاز في قطرها.
وقد يقال إن أرض العرب فيها البترول وفيها الزرع، ونقول إن ذلك بعيد عنها بمئات الأميال، بل ربما تجاوزت الحسبة الألف، فبينها وبين البترول البيداء الجرداء، فكان المتفهم لذلك التشريع لَا بد أن يؤمن بعلم الله بما في الأرض والسماء.
والجواب عن السؤال الثالث، في كل جزء من شرع الله تعالى فيما شرعه يدل على أنه صادر عن العليم الخبير، فشريعة الله تعالى في الميراث تدل على أنه من عند الله تعالى العليم، وشريعته في تكريم البيت الحرام وما حرم فيه من صيد البر، وما أبيح من صيد البحر وطعامه وتحريمه القتال في الشهر الحرام، وإيجابه سوق الهدْي وغير ذلك من شعائر الحج، ومباحاته ومحظوراته دليل على علم الله تعالى العزيز الحكيم الذي لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
* * *
* * *
كان النهي عن قتل الصيد وهم حرم سهلا على نفوس الأتقياء شديدا على نفوس الأشقياء الذين يسيرون وراء أهوائهم، وكل أمر ممنوع متبوع، وقد ابتلاهم الله تعالى بالصيد تناله أيديهم ورماحهم، وهم قريبون منه وهو قريب منهم فكان لَا بد من شكائم قوية تحكم النفس وتمنعها من الانطلاق وراء إشباع الرغبات، وهي على مقربة منها، والإرادة الحازمة المسيطرة على هوى النفس صبر قوى وضبط للنفس، وقد نبه سبحانه إلى العقاب الشديد للمخالف، كما نبه إلى رجاء الرحمة والغفران لكي يكون الصبر على رجاء الله سبحانه وتعالى وخوفه، فيخشى عقابه، ويرجو رحمته وثوابه، فالمؤمن في خوف، وقد روى أن رسول الله - ﷺ - قال: " لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لتعادلا " (١). فهذا النص لتقوية إرادة المؤمن، والآية فيها عبارات تنبئ عن التشديد، فيما اشتملت، فابتدأت بالأمر الحازم (اعْلَمُوا) وفي ذلك تنبيه شديد وإيقاظ للضمير، ليكون ما ينبه إليه من بعد، أوثق في القلب وأشد تثبيتا، ثم أكد الخبرب " أن " في بيان في ذكر الله تعالى وصفه بشدة العقاب، وصفه بالغفران
________
(١) جاء في الدرر المنتثرة (٣٧٤) ج ١، ص ٦٨٠.
والغفران ستر الذنوب، والرحمة الثواب، وأن ذلك عدل الله تعالى فلا يستوي من يحسن ومن يسيء، وبعد أن نبه الناس إلى الخير والسداد على ألسنة الرسل، قال سبحانه:
* * *
* * *
في هذا النص السامي ترشيح وتقوية لمعنى الإنذار والتبشير في النص السابق، وفي هذا النص ما يفيد بالمعنى الضمني أن الرسول عليه التبليغ، وأنه لَا تبعة عليه بعد التبليغ، وأن المكلفين بعد تبليغه تكون تبعة الشر على الذين بلغوا، وجزاء الخير لهم، وأن الحساب بعد ذلك لله تعالى، وإنه لمحاسبهم على الشر إن فعلوه، ومجازيهم على الخير إن أدوه، ويقبل توبة العصاة إن تابوا وذلك بغفرانه ورحمته، وأن ذلك الجزاء على الخير خيرا وعلى الشر شرا يكون من عليم خبير، لَا تخفى عليه خافية، فهو يعلم ما تخفيه السرائر وتكتمه، ويعلم ما يظهر على الجوارح وتعلنه، فهو يعلم السر وأخفى، يعلم ما يبدونه وما يكتمونه، والخير له جزاؤه والشر له عقابه.
* * *
* * *
أمر الله تعالى نبيه أن يذكر لهم أن الخير والشر لَا يستويان، وأن الخبيث والطيب لَا يتساويان، فلا يمكن أن يكون معاملة أهل الخبيث كمعاملة أهل الطيب، وأمر الله تعالى نبيه أن يقول ذلك، ويبينه للناس على أنه جزء من رسالته يبينه للناس ويعرفهم به أو يذكرهم إياه وهو ما ترتضيه الفطر السليمة وتدركه العقول المستقيمة، وهو بيان لطبائع هذا الوجود.
والخبيث هو الأمر المستقذر، إما لأنه في ذاته قذر تعافه النفوس والطبائع السليمة، وإما لأن سبب الحصول عليه خبيث، فجاءه الخبث من سببه، إذ انسحب السبب على المسبب فلوثه، وإما لأنه مخل بالمروءة، فالمستقذر هو
وإذا كانت تلك هي القاعدة الإنسانية العالية، والعادلة، فإنه لَا بد من عقاب المسيء، وثواب المحسن، ولكن الباطل له لجاجة وفيه كثرة، لأنه مجاوبة للذائذ الشهوات، وما يستلذ يكثر، وما يطاوع الهوى يزيد، وما يكون فيه صبر وضبط نفس يقل، وإن كان طيبا، ومهما يكثر الشر لن يتساوى مع الخير، ولذا قال سبحانه: (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثرَةُ الْخَبِيثِ). أي ولو أثار نفسك وعجبك واسترعى نظرك كون الخبيث كثيرا، إن الشر مهما يكثر لَا يمكن أن يستحسن شرعا أو ترضى به الأخلاق، ولا يمكن أن ينقلب بالكثرة مساويا للخير بل إنه كلما كثر، وجبت مقاومته، بشدة وبمقدار كثرته، تكون شدة المقاومة، وذلك فرق ما بين شريعة الله تعالى وقوانين العباد، فإن قوانين العباد، تستمد قوتها من الكثرة، وعرف الناس، ولو كان فاسدا، أما شريعة الله، فهي للخير المحض، وإذا كثر الشر لَا تتبعه، بل تقاومه، ولا ترضى به، لأنها جاءت لنشر الخير، ولا يمكن أن ترضى، وإلا ما كانت رسالات الرسل، ولا جهاد الأنبياء والصديقين والشهداء الصالحين، ولذلك أمر سبحانه بمقاومة الشر مهما كثر، فقال تعالت كلماته: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) قال الله تعالى في الآية السابقة: (لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ). وأن هذه الجملة السامية تصلح الكبرى لقياس طويت صغراه، وهي مفهومة من قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ زَحِيمٌ). إذ الكلام يكون هكذا ولكلام الله تعالى المثل الأعلى الذي لا يصل إلى مثله البشر.. لَا مساواة بين الخير والشر، والله يعاقب على الشر، ويثيت على الخير، والنتيجة لهاتين المقدمتين، أن الأشرار سيعاقبون، والأخبار سيثابون لَا محالة، ولازم هذه النتيجة أن يحذر الناس فيرجوا ثواب الله ويخافوا عقابه، وذلك الحذر يكون بتقوى الله تعالى بامتلاء القلب بخشيته، والعمل على اتقاء عذابه؛ ولذا قال:
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (١٠٢)
* * *
في الآيات السابقة بين الله تبارك وتعالى أنه لَا يصح أن نحرم ما أحل، وإذا حرمناه بأيمان أقسمنا بها - بين سبحانه وتعالى تحلة أيماننا. ثم أشار من بعد إلى ما حرمه، وهو ما يكون مستقذرا في ذاته، أو يكون تحريمه مؤقتا بزمان ومكان، وليس تحريمه على التأبيد، ولكن العرب كانوا يحرمون على أنفسهم حلالا من الطيبات بأوهام يتوهمونها من غير تنزيل جاء بتحريمها، وليس في ذاتها ما يستقذر، وجنسها يحللونه ولا يحرمونه، ثم كان من المؤمنين من يسأل عن هذه الأمور فبين سبحانه أنه لَا أمر ولا نهي إلا ما جاء به القرآن، وأنه لَا يجوز أن يتقدموا بأسئلتهم حتى يبينه القرآن فكل حكم يكون في وقته المعلوم لتستأنس فيه القلوب بأحكام الشرع جزءا جزءا حتى يتمه الله تعالى قبل أن يقبض رسوله إليه ولذلك قال سبحانه:
كانت هذه الأسئلة تقع من المسلمين الأولين، والذي نراه خاصا بالآية التي نتكلم في معناها الأسمى ما كان يجري على الألسنة من أسئلة خاصة بأمر الشرع الذي لم ينزل فيه إباحة ولا تحريم كالخمر التي حرمت تحريما قاطعا بعد أن أشرب المؤمنون حب الإسلام، ونبذوا عادات الجاهلية التي لَا تتفق مع مبادئه، ونحسب أن هذه هي موضوع الآية الكريمة.
________
(١) مسند الشاميين (٩٦٥) ج ٢، ص ٨١ عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه. ورواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن جيد.
وقوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) الضمير في عنها قال أكثر المفسرين: إنه عائد على الأسئلة التي تضمنها قوله تعالى: (لا تَسْألُوا). ولكن ذلك التضمين ليس بواضح، والأولى عندي أن نقول: إن الضمير يعود على الأشياء نفسها، لأن الضمير في " عنها " يعود إلى الأشياء، وبمقتضى النسق البياني لن يعود الضمير إلى شيء، ولذلك العفو عن الأشياء مغزاه الشرعي؛ لأن الناس قد يتساءلون عن هذه المحرمات قبل تحريمها، فيتساءلون عن الخمر قبل تحريمها، ويتساءلون عن تحريم زواج المؤمنة بالكافر قبل التحريم، وعن التبني قبل التحريم، وعن زواج امرأة
(وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) هذا ختام ذلك النص، ختم بهذين الوصفين للذات الكريمة للإشارة إلى أن جعل هذه الأشياء القبيحة في ذاتها كالخمر والتبني وزواج امرأة الأب في موضع العفو، ما دام لم ينزل شرع بتحريمها لَا يكون إلا من غفور يغفر الذنوب، ولا يحاسب إلا أن يكون نذير يمنع وينذر بالعقاب، كما قال سبحانه: (... وَمَا كُنَّا معَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
وكان وصفه سبحانه وتعالى بالحلم، وهو فيما يتعلق بالعباد التأني وأخذ الأمور بالتؤدة والروية، وبالنسبة لله تعالى علم الحكيم الذي يقدر لكل وقت ما يقتضيه، وللناس ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، فهو يؤخر التحريم، حتى تستأنس القلوب ويستمكن الإيمان، وهو لَا يأخذ بالهوادة ما يتعلق بأصل الإيمان كالتوحيد وترك الشرك، بل يبتدئ به من غير مواناة، ويقول لنبيه: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)، لأنه لب الدين، ليس فيه هوادة، ولا لأحد فيه إرادة.
* * *
* * *
هذا قصص للعبرة ساقه لأولئك الذين كانوا يتعرفون أحكام الأشياء قبل ميقاتها ويتلهفون على معرفة حكم الله في أمور كانوا يريدون بيان الحكم فيها، وكان موجب ذلك السؤال والتلهف على معرفة الحكم أن يستجيبوا لداعي الله تعالى بالأمر والنهي، ولكنهم بعد أن
والضمير في قوله تعالى (سَأَلَهَا) يعود إلى الأشياء على تقدير السؤال عن حكمها، وسأل تتعدى بنفسها، كما تتعدى بـ " عن "، وقد كان سؤالهم قبل الميقات الذي عينه الله تعالى، ثم لما حان الميعاد جاء التحريم، مع أنهم كانوا يسألون قبل الميقات جحدوه وكفروا به، وفي الكلام مقدر محذوف دل عليه السياق، وهو أنهم سألوا في غير الموعد، ثم نزل الحكم في الموعد، فأصبحوا كافرين، وفي الكلام بعض إشارات بيانية، يتقاضانا البحث ذكرها.
الأولى - حذف إنزال التحريم، وحذفه لأنه ليس العبرة فيه، إنما العبرة في أنهم سألوا ولجوا في السؤال ثم لما جاء التحريم كفروا.
الثانية - التعبير بـ " ثم " الدالة على التراخي؛ لأنه يدل على التباعد المعنوي بين اللجاجة في السؤال ثم الجحود والكفر بعد ذلك كأنهم كانوا يريدون حكما على هواهم، فلما جاء بما لَا يهوون كفروا.
الثالثة - التعبير بقوله تعالى: (ثُمَّ أَصبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ). فكلمة أصبحوا تدل على أنهم كانوا مؤمنين، والتحريم حولهم من الإيمان إلى أشد الجحود، إذ صاروا كافرين، أي أن الكفر صار وصفا لهم، ولم يكن حالا عارضة لهم والله الهادي إلى سواء السبحل.
* * *
(مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا
* * *
كان العرب يحرمون على أنفسهم أنواعا من النعم، ويحسبون ذلك دينا يتبع، ويتقرب به إلى منشئ الخلق من غير دليل، ولكنه وَهْمٌ سيطر عليهم، واستمكن في قبائل مختلفة منهم، فبين الله تعالت كلماته أن هذا ليس من شرع الله في شيء ولا سبب له إلا وهم مسيطر، ونسبوه إلى الله تعالى افتراء عليه، ولأنهم لَا يعقلون ما ينبغي في التحريم والتحليل لأن التحليل لذات الشيء، وقد خلقها الله تعالى طيبة، وكان كسبها طيبا، والتحريم، إما لأذى في ذات الشيء، أو أن فيه أذى لغيره كتحريم الصيد في ميقات الحج.
وقوله تعالى:
ولنكتف في تقريب هذه الأصناف برواية واحدة، وبلغوي واحد، وهو الراغب الأصفهاني، فالبحيرة عنده هي الناقة التي تلد عشرة أبطن فتبحر أذنها أي تشق، وتترك ويسيبونها فلا تركب ولا يحمل عليها، وقد قال تعالى في ذلك: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) وذلك ما كانوا يجعلونه بالناقة إذا ولدت عشرة أبطن شقوا أذنها، فيسيبونها، فلا تركب ولا يحمل عليها، والسائبة عندهم هي التي تسيب في الرعي فلا ترد عن حوض، ولا علف، وذلك إذا ولدت خمسة أبطن، وواضح أن الفرق بينها وبين البحيرة في المزايا أن ركوبها والحمل عليها لا يمنع، بينما يمنع في البحيرة.
والوصيلة هي: الشاة التي تلد توءمين ذكرا أو أنثى، قالوا وصلت أخاها، فلا يذبحونه من أجلها كما لَا يذبحونه، والحام هو كما قيل الفحل إذا ضرب عشرة أبطن يقال حمى ظهره، فلا يركب.
هذه تعريفات موجزة من بين الروايات المختلفة ذكرنا هذه الرواية لنقرب معناها، وكان تقديسها أو تكريمها لمعنى الولاد فيها، وأن بعضهم كان ينذرها نذرا لآلهتهم، وبعضهم كان يبيحها للكبراء دون الضعفاء ويحسبون ذلك دينا، وما هو إلا افتراء على الدين، ولذا قال سبحانه:
(وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) أصل الفرى معناه: القطع، والافتراء في القرآن الكذب القاطع، فمعنى افتروا على الله الكذب، قالوا كذبا مقطوعا بأنه كذب، وما ذكر الافتراء إلا مقترنا بالكذب للإشارة إلى أنه كذب مقطوع بأنه كذب، ومعنى النص الكريم: أن الله تعالى لم ينشئ في شرعه شيئا من البحيرة والوصيلة، ولكن الذين كفروا بسبب كفرهم وضلالهم قد قالوا بهتانا فحرموا على أنفسهم ما أحل الله، ونسبوا التحريم بهتانا
ومع هذا الضلال المبين لايستجيبون لداعي المرشد الهادي الذي يدعوهم إلى ما أنزل الله، ولذا قال سبحانه:
* * *
* * *
ما كان بالنسبة للحلال والأطعمة صورة مما هم عليه من الأوهام، وهي وإن لم تكن في ذاتها أمورا كبيرة تدل على عقل جامد لَا ينفذ إليه الحق السائغ الذي تستقيم عنده العقول، وترتاح إليه، فإن صغائر الأمور تدل على النفوس التي تتردى في كبارها، وأولئك لجمود تفكيرهم وطمس بصائرهم إذا قيل لهم تعالوا، أي تساموا واعلوا بتفكيرهم لتدركوا ما أنزل الله تعالى من قرآن يتلى، وما بين به النبي - ﷺ - من نيرات واضحات، إذا قيل لهم أعرضوا بجانبهم، تولوا وقالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، وتلك حجة كل ضال مقلد لمن سبقوه وترك كل هداية مرشدة، والامتناع عن الإصغاء إلى الحق.
ولم يذكر الفاعل في قوله تعالى: (وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا) وذلك لكثرة الدعاة وتكرار الدعوة، فالله يدعوهم إلى الحق، والنبي - ﷺ - يدعوهم، والمؤمنون بأقوالهم ولسان حالهم يدعونهم، والدعوة لهم مكررة ليست واحدة حتى يذكر قائلها، ويندد الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله:
(أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) والمعنى أيقولون حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، ويقلدونهم، ويتبعونهم، ويغلقون باب الهداية عليهم ولو كان آباؤهم لَا يعلمون شيئا من الدين، ولا من الحلال والحرام، ولا يهتدون إذا بين لهم الطريق، أي ولو كانوا حائرين بائرين لَا يدركون الحق في ذاته ولا يهتدون إليه إذا أرشدوا وبين لهم.
وكان كذلك المؤمنون، فبين الله أنهم غير مسئولين عن إيمانهم بعد أن يرشدوهم، فقال تعالت كلماته:
* * *
* * *
كان المؤمنون يعجبون من حال الكفار كيف يتبعون آباءهم على غير بينة وكيف يستمرون في غيهم، ومنهم ذوو قربى، فكانوا يرشدونهم، ويجزعون لإصرارهم، فبين الله تعالى في هذا النص الكريم أنهم بعد البيان ليس عليهم إثمهم، بل عليهم أن يلزموا بعد التوجيه أنفسهم، ومعنى قوله تعالى: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ). احفظوا أنفسكم وصونوها عن الاتباع من غير تفكير، فلا تقلدوا آباءكم من غير بينة، واهتدوا بهدْي الله، ولا يضركم ضلال من ضل واستمر على غيه بعد أن أرشد إلى وجه الحق، ولكن لم يدخل قلبه بل استمر على ضلاله القديم، فهذا النص الكريم يفيد أمرين: أولهما - أن يحفظوا أنفسهم، ويقوها شر التقليد المردِي، ويعملوا على أن تبقى الهداية منيرة سبيلهم عامرة قلوبهم بها. وثانيهما - أنه لَا يضرهم ضلال الضالين، ما داموا قد تجنبوا طريق الغواية هم، وأرشدوهم إلى الحق.
ولعل ظاهر الآية يوهم أنه لَا يضر ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما دام لَا يضر المؤمن ضلال من ضل، وقد ظهر ذلك الفهم الخطأ في عهد صديق هذه الأمة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فقال: إنكم تقرءون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب " (١) والآية ليس فيها دليل ناهٍ عن الأمر
________
(١) رواه بنحوه أحمد: مسند العشرة - مسند أبي بكر رضي الله عنه (١). ورواه بلفظ مقارب جدا: ابن ماجه: الفتن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٤٠٠٥).
وخلاصة المروي عن آثار رسول الله - ﷺ - والذين اتبعوهم بإحسان أن الآية لا تمنع القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل القيام به واجب محكم وإنه لَا يتم الاهتداء المنصوص عليه في الآية إلا بالقيام بهذا الواجب الخطير، وإنه، لا يترك إلا بحقه، وذلك إذا كان النداء بالحق يورث الفتن عندما يكون الهوى مطاعا والشر متبعا ولا يستطيع منادي الحق، أن يجد مصيخا (٢) وقوله يزيد حدة الخلاف، ولا يكون سماع لذوي الكيس والرشد، ولقد قال عبد الله بن المبارك: إن هذه الآية أوكد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الخطاب لجماعة
________
(١) رواه الترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة المائدة (٣٠٨٥) وقَالَ أبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيب. كما رواه أبو دود: الملاحم - الأمر والنهي (٤٣٤١)، وابن ماجه: الفتن (٤٠١٤)، وفيه زيادة: " ورأيت أمرا لَا يَدان لك به " أي لَا قدرة لك به.
(٢) مصيخا: مستمعا. القاموس - صيخ.
وفى الحق إن القيام بهذا الواجب هو خاصة الأمة الإسلامية كما قال تعالى: (كنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ).
ولا يصح أن يُتخلى عنه، وليس في مصادر الشريعة ولا في مواردها ما يسوغ التخلي، وأن ترك القول في أيام الفتن الطحياء (١) التي يكون القول مؤديا إلى زيادة في الفتن والاتهام، فلا يجدي قول، ولا يهدي فكر إلى الرشاد، فيكون السكوت أولى من الكلام، حتى تهدأ عجاجة الفتنة، وتعود القلوب إلى جنوبها، ويوجد السميع، ولكن في هذه الحال يكون الإنكار القلبي، وإرشاد القابلين للإرشاد، في غير ضجيج ولا عجيج والله سبحانه وتعالى راد الحق إلى نصابه، والقضب إلى أجفانها، وهو بكل شيء عليم.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى
________
(١) من الطحح وهو الهلاك كما في " العين ": وطوَّحْتُ به: حَمَلْتُ على رُكوبِ مَفازة يُخاف هلاكُه فيها. قال أبو النَّجْم: يُطوحُ الهادي به تطويحًا.
* * *
في الآيات السابقه ذكر سبحانه وتعالى أحكام الطيبات وأنه لَا يجوز تحريمها، وأن المشركين يحرمون على أنفسهم ما أحل الله تعالى، ويدعون أن تحريم ذلك دين متبع، وقد بين سبحانه وتعالى بطلان ذلك، وبين سبحانه وتعالى أن على المؤمنين أن يحفظوا أنفسهم، ويلتزموا الهدى، وألا ينحرفوا عن الحق، وفى هذه الآيات المقبلة بيان طريق من طرق الإثبات وهو الإثبات بالشهادة، والجملة السابقة كانت لبيان الحق في عامة صوره وأحواله، وهذه الآيات في صورة منه وهي أدق الصور، وهي التي تكون بعد الوفاة، لقد قال تعالى:
الخطاب في قوله تعالى للمؤمنين بقوله تعالت كلماته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ) للإشارة إلى أنه من مقتضيات الإيمان العناية بالوصية، ونقلها وتنفيذها بالعدل، كما قال تعالى: (فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ...).
والشهادة على الوصية نصابها اثنان ذوا عدل منكم والعدالة هي الصدق في القول والأمانة على المال والقيام بأوامر الدين، والانتهاء عن منهياته، بحيث لا يجاهر بمعصية، ولا يرتكب منكرا إلا اللمم كما قال تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْم وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ...)، والقيام على الوصية يكون بتنفيذها كاملة موفورة، والمحافظة على الأموال، ونقل إرادة صاحب تلك الأموال.
وإنه لَا يتوافر العدل في كل الأحوال في الوصية، فإنه قد يكون الموت في سفر، ولا يتوافر العدل من المؤمنين، فقد يكون المصاحب للمتوفى من غير المؤمنين، أو من غير العدول، ففي هذه الحال يتساهل وتقبل شهادة غير المسلمين، ولذا قال سبحانه:
(أَوْآخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ).
قوله تعالى: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) ما المراد بهذا المغاير؛ وذلك يستدعي بلا ريب تفسير (منكم) فقد قال بعض العلماء: إن منكم معناها من قبيلتكم، أو من أقاربكم، ويكون من غيركم معناه من غير قبيلكم أو من غير ذوي قرابتكم، والجميع في دائرة أهل الإيمان، ويتمسك هذا الفريق بأنه لَا تقبل شهادة غير المؤمن، فلا يمكن أن يكون المراد من غيركم الكافرين؛ لأن الكافر لَا تقبل شهادته على المؤمن عندهم.
وهنا إشارات غير لفظية:
الأولى - قوله تعالى: (إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ). المراد به إذا سافرتم؛ لأن المسافر يضرب في الأرض، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.
الثانية - قوله تعالى: (فَأصَابَتْكم مّعيبَةُ الْمَوْتِ). أي نزل بكم، وسماه سبحانه وتعالى مصيبة؛ لأنه بطبيعته يؤلم أو يصحبه أو يقارنه أو يسبقه آلام نفسية، ولأنه حق ليس بمحبوب وخصوصا لمن يموتون حتف أنفسهم، ولا يموتون استشهادا في سبيل الله تعالى، ورجاء لقائه، ولأنهم يفدون بموتهم جماعة المؤمنين؛ فالثمن الذي أخذوه أغلى من الموت الذي قدموه.
الثالثة - أنه عندما ذكر سبحانه الاثنين من غير المؤمنين لم يذكر العدالة ولكن المفروض أن يكونا صادقين اشتهرا بالأمانة، ولكن لم تذكر العدالة؛ لأنه لا يمكن أن يكون غير المؤمن عدلا عدالة مطلقة، بل تكون مقيدة.
وقد بين سبحانه طريق أداء الشهادة، فقال: (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْد الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) الضمير في قوله تعالى: (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةَ) يعود على الشاهدين ذوي العدل من المسلمين أو من غيرهما، والحبس الإمساك لأداء الشهادة اللازمة حتى تؤدى، والصلاة كما يفسر التابعون الذين تلقوا تفسير أصحاب رسول الله - ﷺ - يراد بها صلاة العصر؛ إذ يكون وقت استجمام النفس، واستحضار عظمة الله تعالى، وطيب الجو، والفقهاء يعتبرون من السنة سماع الشهادة بعد صلاة العصر، حيث تكون النفوس قارة مطمئنة، وإذا كانا غير مسلمين، فإنهما يسمعان بعد صلاتهم.
وهذا حكم عام، ويلاحظ أن شهود الوصية لهم صفتان: إحداهما - صفة الشاهد العدل المخبر عن الواقع الناطق بالصدق فيه الذي يشهد على مثل الشمس عيانا، الصفة الثانية - أنهما وصيان للميت أمينان على ماله، يحافظان عليه، حتى يصل إلى أهله، ويسلم إليهم موفورا غير منقوص، ولذلك كان حقا عليهما أمانة الله تعالى، ولذلك كان أي ريب فيهما يؤدي إلى ضياع المال وحق المتوفى، وحق ذويه، ولذلك شرع القسم إن كانت ريبة أي ريبة كانت، ولو كانت نفسية ليس لها مظاهر مادية، ولذا قال: (فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتمْ) وهذا النص الكريم يفيد أن الحبس بعد الصلاة والقسم على صدق القول لَا يكون إلا حال الارتياب، وبهذا يرد قول الذين يقولون: إن الشهود لَا يستقسمون، أولا - لأن هؤلاء ليسوا شهودا من كل الوجوه، لأن لهم صفة أنهم أوصياء، والأوصياء يحلفون إن كان ثمة ريبة في تصرفهم، وثانيا - لأن الحال حال استثنائية فيجب ما أمكن الاحتياط، والحلف عند الارتياب، فلا بد من توثيق القول بالوثائق، لكي يكون الاطمئنان بدل الشك والارتياب، وبين سبحانه تتميما للاستيثاق صيغة اليمين، فقال:
وذلك بأن يقروا على أنفسهم بالإثم إن حادوا أو كذبوا في يمين الله، أو قالوا غير الحق الذي كانوا أوصياء عليه، وقد أكدوا الإثم على أنفسهم في إيمانهم بمؤكدات أربعة: أولها - التعبير بالجملة الاسمية، ثانيها - التوكيد بـ " إنا " - ثالثها - اعتبار الحكم على أنفسهم بالإثم نتيجة منطقية لأعمالهم، ولإخفائهم الحق، ورابعها - أن يخرجوا من زمرة الأبرار الأطهار ويدخلوا في زمرة الآثمين الأشرار، والأمر بالنسبة للذي غيب في التراب، وهو لَا ينطق بما يريد، ويبين ما عليه حاله وماله يوجب الاحتياط فيهما قبل الشهادة، والتحري على أمره بعد وفاته، فعسى أن يكون حق قد ضاع شيء، وقد تبين سبحانه حال العثور عليه، فقال:
* * *
* * *
عثر الرجل يعثر عثرا إذا وقع على أمر لم يكن معلوما من قبله، ولم يقع عليه غيره ممن يهمهم، ويقال: أعثرت فلانا على أمر أطلعته عليه، وكل من اطلع على أمر كان خفيا يقال: قد عثر عليه، والعثور على الشيء يكون في الغالب العلم الذي لم يكن له مقدمات عنده، بل ربما يكون الإطلاع عليه بالمصادفة.
ومعنى قوله تعالى استحقا إثما - أي أنهما خانا في الأمانة، فلم يقوما بحق الوصاية، وكذبا في الشهادة فلم يصدقا، وحلفا يمينا غموسا تغمس صاحبها في النار، فاستحقاقهما للإثمِ بسبب ذلك الكذب وتلك الخيانة، والحلف الكذب، وقوله تعالى: (اسْتَحَقَّا إِثْمًا) تتضمن كل هذه المعاني وغيرها، والإثم هو هذه المعاني كلها، والعثور على ما يتضمن ضياع حقوق الورثة، وذهاب أموالهم، وما قالوه فيه بخس لما يستحقون، وضياع لما يملكون، إذ قوله تعالى حين الوصية أي حين إخبار المتوفى بأمواله وإيصائهم بالمحافظة عليها، وتوزيعها بين مستحقيها وإذا كانت جناية هؤلاء على المستحقين للتركة، فالقول قول المستحقين يدلون به، ولذا قال سبحانه: (فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا). أي فشاهدان آخران يقومان في إحقاق الحق، وإظهار الحقيقة، وبيان ما خفي من إرادة المتوفى وأمواله وما له من حقوق وعليه من واجبات مقام الأولين، وهذا التعبير من ألطف التعابير بعد ظهور الإثم، إذ إنه ينبئ عن التعاون بين هؤلاء الآثمين، والأبرياء في إظهار الحق، إذ إن المجني عليهم يقومان مقام من جنوا.
وقد بين سبحانه مَن الذين يختار منهم الآخران اللذان يقومان، فقال سبحانه: (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) في هذا النص السامي بيان من يختار منهم، وكيف يختاران، والضمير في قوله تعالى (اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) يعود على الإثم المذكور في من استحقا إثما، وهو الفاعل؛ والمعنى أن الذي يكون منهم الآخران
ذكر النص أنهما الأوليان بالنطق بالحق لأجل الورثة، إما لأنهم أقرب الورثة أو لأنهما أرشدهم، أو ألحق بمحبتهم.
ومعنى النص الكريم على هذا أن اللذين شهدا المتوفى عند وفاته هما أولى الناس بذكر الحقيقة، وإن كان ارتياب يحبسان بعد الصلاة ويستقسمان قسما موثقا، فإن ظهر ما يدعو إلى تكذيب شهادتهما في كلها أو في بعضها، كان للمستحقين للتركة حق الشهادة ويختار أولاهما بالتحدث عن المتوفى، وهذا معنى (أَوْلَيَانِ)، وهي خبر لمبتدأ محذوف، وتدل على طريقة الاختيار، وإن هؤلاء لأن المال يئول إلمهم لَا يقبل قولهم إلا بيمين لأنهم بمنزلة المدعَى عليه بكلام الأوصياء الذين يكذبونهم، ولذا قال سبحانه:
(فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ) الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، وتقديره إذا كانا يتقدمان لإحقاق الحق فلابد أن يقسما بالله، وهنا إيجاز معجز، إذ يقسمان بالله تعالى على الختل (٢) في الأمانة وعلى ما يريان أنه الحق، ثم يقسمان مع ذلك على أمرين أولهما - أن شهادتهما أحق بالقبول من شهادة الآخرين لصدقها، ولظهور الخيانة في قولهم، ولأنه فقدت قوتها لعدم الأمانة، وثانيهما - أن يقسما على أنهما ما اعتديا، بأخذ
________
(١) قرأها بالفتح (استَحَق) حفص، والأعشى عن أبي بكر عن عاصم (غير النقار، وجبلة)، وقرأ الباقون بالضم، أي: (استُحِقً). أفدته من غاية الاختصار - برقم (٨١٧).
(٢) فيقسمان على (عدم) الختل. والختل: الخديعة. من: خَتَلَه يَخْتِلُه ويَخْتُلُه خَتْلًا وخَتَلانا: خَدَعَه.
كما في القاموس: ختل.
وإن ذلك كله تقريب للحق، وبعد عن الباطل، ولا يمكن أن يكون الحق مؤكدا من كل الوجوه، بل لَا بد من التقريب دون التحديد، ولذلك قال سبحانه:
* * *
* * *
الإشارة في ذلك إلى النظام كله الذي نظمه القرآن الكريم، والنسق الحكيم من الشهادة التي يقوم بها الوصيان تكون ابتداء من أهل التقوى، ويعتمد على تقواهم وعدالتهم، فإن أمسكا بعد الصلاة، وأخذت عليهما الأيمان المغلظة ويتعرف الأمر من ورائهما، ولا يترك من غير تحريات كاشفة، فإن عثر على أن الشهادة فيها إثم أو غير حق استشهد غيرهما من الذين ينقص حقهم بشهادتهما، واختير أولى الناس من المستحقين بالقول، ذلك النظام كله أقرب إلى أن يؤدي الشاهد الشهادة على وجمها، إما لأنه يريد الحق لذات الحق، أو لأنه يخاف أن الأيمان الشاهدة الجارية على لسان غيره بعد يمينه تعلن كذبه على الأشهاد، وخيانته بين الجموع والآحاد، فمعنى ترد أي تترك أيمانهم، وتطرح ويعاد القول إلى غيرهم بعد تكذيبهم.
والنص يومئ إلى أنه إذا عثر على كذب بعد شهادة الأقربين ترد الشهادة على من يليهم حتى لَا يضيع حق قط.
إلى قوله: (فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا) فقام عمرو بن العاص، ورجل آخر منهم فحلفا، نزعت الخمسمائة من عدي بن بداء " (١) وهكذا... وقد ختم الله تعالى بيان ذلك الحكم الشرعي بقوله تعالت كلماته:
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) ختم الله تعالى بيان ذلك الحكم الشرعي الدقيق بأمرين، وذكر أمر كلي، أما الأمر الأول فهو الأمر بالتقوى بأن يملأوا قلوبهم بخشية الله تعالى ومهابته، واتقاء عصيانه، وجعل وقاية بينهم وبين عذابه، وذلك أمر لازم لكل مؤمن، وخصوصا لمن يودعون أسرار الناس، الذين لَا يستطيعون دفع الكذب والباطل عنهم.
________
(١) رواه البخاري: الوصايا - باب: (يا أيها الذين آمنوا شهادة) (٢٧٨٠)، ورواه مطولا، الترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة المائدة (٣٠٥٩) عن ابن عباس عن تميم الداري.
وأما الأمر الكلي فهو أن الله سبحانه وتعالى لَا يهدي القوم الفاسقين، ومعنى عدم هدايتهم أنهم بسبب ما اكتسبوا من سيئات الفسق، وما أحاطت به خطيئاتهم أصبح الحق لَا يدخل إلى قلوبهم، فلا يهتدون لأن الفسق صار شأنا من شئونهم، ولا يمكن أن تلتقي الهداية مع الفسق في قلب من فسق عن أمر ربه. اللهم جنبنا الباطل وأهله، إنك سميع مجيب.
* * *
(يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠)
* * *
الكلام من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ...). كان في أهل الكتاب، ومعاندة اليهود، وتحريف
والمعنى، والله سبحانه وتعالى لَا يهدي القوم الفاسقين إلى ما فيه نعيم يوم القيامة، يوم يجمع الله الرسل ويسألهم؛ لأن اليوم ليس بيوم تكليف ولكنه يوم جزاء، ويكون الفسق شاملا للكفر؛ لأن الكافر فاسق عن أمر ربه.
وبعض المفسرين، قطع الآية عما قبلها واعتبرها إنذارا مبتدءا، وقالوا إن قوله سبحانه: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ). متعلق بمحذوف مقدر هو - اذكر - لأهل الكتاب يوم يجمع الله الرسل.... في هذا اليوم المشهود يقول الله تعالى مخاطبا رسله الأكرمين بالتجلى عليهم:
(مَاذَا أُجِبْتُمْ). والمعنى أي إجابة أجبتموها؛ وذكر بالبناء للمفعول، ولم يذكر أقوامهم، فلم يقل ولله المثل الأعلى أي إجابة أجاب أقوامكم، تحقيرا
وكانت إجابة الرسل: (لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي إنك أنت وحدك العالم علما ليس فوقه علم؛ لأن التعبير بصيغة المبالغة:
(عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي لكل ما يغيب عن الناس أجمعين، وما يغيب عنهم.
ولكن لماذا نفوا عن أنفسهم العلم، مع أن عندهم بعض العلم؟ وقد أجيب عن ذلك بأنهم علموا أن المقصود استنكار حال من بعثوا إليهم وتوبيخهم، فساروا على مقتضى السياق، وقالوا: لَا علم لنا في هذا بل أنت الأعلم، وقيل في الجواب عن هذا: إنهم كانوا في حال ذهول، فنفوا عن أنفسهم العلم في حال ذهولهم، وقيل في الجواب أيضا: إنهم استحقروا علمهم بجوار علم الله تعالى، وقيل: إن علمهم كان بمن عاصروهم لَا بمن جاء بعدهم، وقد جاء في الكشاف في توضيح الجواب الأول ما لَا يغني عنه التلخيص، فقال - أي الزمخشري - رضي الله عنه:
(فإن قلت: كيف يقولون لَا علم لنا، وقد علموا بما أجيبوا؟ قلت: يعلمون أن الغرض من السؤال توبيخ أعدائهم، فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم وكابدوا من سوء إجابتهم إظهارا للتشكي، واللجأ إلى ربهم في الانتقام منهم وذلك أعظم على الكفرة، وأفتّ في أعضادهم، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم، إذا اجتمع توبيخ الله تعالى وتشكي أنبيائه عليهم، ومثاله أن ينكب بعض الخوارج على السلطان وخاصة من خواصه نكبة قد عرفها السلطان، واطلع على كنهها، وعزم على الانتصار له منه، فيجمع بينها، ويقول: ما فعل بك هذا الخارجي، وهو عالم بما فعل به يريد توبيخه وتبكيته، فيقول له: أنت أعلم بما فعل بي، تفويضا للأمر إلى علم سلطانه، واتكالا عليه، وإظهارا للشكاية، وتعظيما لما حل منه، وقيل: من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب،
ولقد كان الذين أرسل إليهم منهم من حرَّف الدعوة، وجحد بعضها، ومنهم من آمن، ولكن الذين حرفوا من المسيحيين لم يحرفوا الدعوة فقط، بل تكلموا في شخص المسيح عليه السلام، وأخرجوه من البشرية في زعمهم وافتروا له الألوهية، ولذلك خصه الله تعالى بذكر ما يكون له يوم القيامة، وما أجرى من معجزات على يديه:
* * *
* * *
" إذ " هنا بدل من يوم يجمع الله الرسل، أي اتقوا الله واسمعوا يوم الجمع، ووقت أن يخاطب عيسى - عليه السلام - بهذا الخطاب، وعيسى - عليه السلام - بعث في قوم لَا يؤمنون إلا بالمادة، وبالأسباب الظاهرة، ويسندون كل أمر في هذا الوجود إلى سبب يعلمونه، لَا يؤمنون بالروحانيات، ويكفرون بما لَا يعلمون بالأسباب، فجاء عيسى - عليه السلام - روحانيا ظاهر الروحانية، وجاء من غير أب ليكون شخصه خرقا للأسباب، ولتكون مظاهر حياته دافعة للمادة، يخاطب الله عيسى - عليه السلام - بقوله تعالى: (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ). وفي هذا النداء إشارة إلى أنه ابن مريم لَا ابن أحد سواها فقد ولد من غير أب، والإله أو ابن الإله لَا يمكن أن يكون متولدا، ولا يمكن أن يكون محدثا ومخلوقا، فهذا النداء في ذاته مع بيان حقيقة سيدنا المسيح عليه السلام رد عليهم وعلى افترائهم في وقت لَا يستطيعون فيه تمويه الباطل وتزيينه بقول الزور والبهتان الآثم.
وابتدأ سبحانه بتذكير نعمته عليه وعلى أمه، ونعمته على والدته مشهورة في القرآن قد ذكرها سبحانه وتعالى في سورة آل عمران فقال: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٧).
إلى أن قال سبحانه: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣).
كانت السيدة مريم - على هذا النسق المتلو - مصطفاة من قوم مصطفين أخيار أطهار وكفلها نبي، وخاطبتها الملائكة حتى قال الأكثرون إن فيها نبوة ولا يعلم أن أنثى كانت من الأنبياء غيرها.
ونعمة الله تعالى على سيدنا عيسى ذكرها الله تعالى بقوله تعالى:
(إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) نعمتان ذاتيتان كانتا مع شخص المسيح - عليه السلام - وليس فيهما أمر كسبي، بل فيهما خلق روحاني، أما الأولى، وهي التأييد بروح القدس فلها تخريجان أو هما معا، أولهما - أن الله تعالى أيده بطبيعة روحانية مطهرة في وقت سادت فيه المادية
وعندي أن الأمرين يجوز جمعهما، وكلاهما صادق فعيسى عليه السلام كان روحانيا مطهرا، وكان مملوءا بالروح المطهرة، وأيده جبريل هو وأمه، كما قال تعالى، في تبشيرها بالمسيح عليه السلام وولادته: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (١٧) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (١٩) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (٢٢) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (٢٣) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (٢٧) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣).
هذه نعمة التأييد، وهناك نعمة أخرى هي في ذاتها نعمة، ولذا ذكرت منفصلة مقرونة بكلمة " إذ " أي اذكر - وهي أنه تكلم في المهد، أي تكلم وهو مولود، فالمهد مكان تربية الطفل عقب ولادته، وذلك تأييد لبراءة مريم البتول
(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ) كان ما سبق هداية ربانية صرفة، وتأييدا لصدق أمه وبراءتها، وإرهاصا بنبوته، وهو منحة ليس لكسب العبد فيه إرادة، وهذه النعمة الأخيرة التي جاء بها ذلك النص الحكيم هي نعمة للعبد فيها كسب، وللإرادة البشرية فيها مكان فوق أنها جميعا لله تعالى، ولذلك أضاف سبحانه التعليم إليه، فالتعليم منه سبحانه، والتعلم من عيسى عليه السلام، والكتاب، يفسره بعض العلماء بالكتابة، فلم يكن عيسى عليه السلام أميا، بل كان قارئا لأن معجزاته الكبرى لم يكن كتابا منزلا من عند الله يتحدى به البشر أن يأتوا بمثله، ولأنه لم يكن في قوم أميين، بل كان في قوم فيهم علم الكتابة وفيهم الدراسة والبحث ولهم فلسفة.
وفسر الكتاب بعض العلماء بما سبقه من كتب النبيين كزبور داود وما جاء عن أخبار سليمان وإبراهيم عليه السلام وإسحاق ويعقوب والأسباط.
ويصح أن يراد الأمران، وهو ما نختاره، فالله سبحانه وتعالى قد ألهمه تعلم الكتابة وقرأ بها كتب النبيين وأخبار من سبقوه.
والحكمة هي في العرف الأدبي العام العلوم النافعة، والكلام المحكم الدقيق العميق الذي يكشف للناس عن أسرار هذا الوجود، ونفوس الناس، ويوجهها إلى الخير، ويدخل في الحكمة على هذا كل التعليمات المرشدة الهادية إلى مكارم الأخلاق، وقد كان سيدنا عيسى - عليه السلام - نبيا حكيما مرشدا أمينا.
وعلم الله تعالى رسوله الأمين التوراة التي نزلت على موسى والإنجيل الذي نزل عليه صلوات الله تعالى وسلامه عليه، ولماذا ذكر سبحانه وتعالى التوراة مع أنها قد تكون داخلة في ضمن الكتاب الذي علمه أولا؟ ونقول في الجواب عن ذلك، بأن التوراة تحتمل الدخول في الكتب المذكورة أولا، وتحتمل أن يقصد
بعد هذا التعليم الذي علمه لعيسى - عليه السلام - أخذ سبحانه وتعالى يذكر بعض معجزاته، وهي كبراها، فقال:
(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي) كل معجزاته - عليه السلام - كانت من جنس طبيعته التي فطره الله تعالى عليها، لقد كانت ولادته خارقة للعادة؛ إذ خلقه الله سبحانه وتعالى من غير أب يلقي النطفة في رحم، بل ولد من أم من غير أب، لبيان أن الله تعالى لَا تحكمه الأسباب التي تجري في مجرى العادات، إنما هو سبحانه خالق الأسباب والمسببات فعال لما يريد، لا تخضع إرادته لسلطان سبحانه وتعالى، فمعجزات عيسى كلها بيان لأن الله تعالى فوق قاعدة السببية التي كانت مسيطرة في ذلك العصر المادي الذي كان لا يذعن إلا للأسباب والمسببات المادية.
وهذه المعجزة باهرة قاطعة في أن الخالق لهذا الكون لَا تحكمه الأسباب، إذ إن الناس يجدون أسباب الخلق هو التوالد بأن تحمل الأنثى من ذكر، وتلد، ثم يكون الحي من بعد ذلك، فيكون من خرق الأسباب أن يكون الحي بإجراء الحياة على يد مخلوق لله تعالى، فقد أذن لعيسى - عليه السلام - أن يصور من الطين كهيئة الطير، فمعنى " خلق " هنا هو تصويره جسدا من الطين، وجعله على شكل طائر، ثم نفخ فيه بإذنه سبحانه، فيكون طيرا بإذن الله تعالى.
وذكرت كلمة (بإذني) عند تصوير شكل الطير، وعندما صار طيرا؛ للإشارة إلى أن كل ذلك من عند الله، وأنه الخالق وليس عيسى هو الخالق، ولكنه سبحانه وتعالى أجرى الخلق على يديه.
وقد كان سيدنا عيسى يبرى الأكمه بإذن الله تعالى فيجعله مبصرا، وذلك يشبه إيجاد الحياة في غير الحي؛ لأن إيجاد البصر في غير المبصر، والمولود غير مبصر، وغير قابل للإبصار بحكم الأسباب الطبيعية يعد إنشاء وإيجادا، ويقاربه علاج البرص، لأنه بدوامه يشبه الذي يكون جبلة، وإذا كانوا لَا يعرفون سببا للشفاء فالله تعالى خالق الأسباب أجرى الشفاء على يدي عيسى عليه السلام، لأنه سبحانه فعال لما يريد، وكان معجزة لعيسى عليه السلام.
وهناك معجزة رابعة، وهي إحياء الموتى، وقد ذكرت هذه المعجزة في سورة آل عمران على لسان عيسى - عليه السلام - بما حكاه الله تعالى عنه بقوله: (وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ...). والمذكور هنا هو قوله تعالى:
(وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي) والنصان يتلاقيان في المؤدى، وإن اختلفا في اللفظ، فالأول يفيد أن سيدنا عيسى عليه السلام قد أجرى الله تعالى على يديه إحياء الموتى إذا لم يكن قد دفن، وذلك ما يدل عليه النص الأول، والثاني يدل على أنه قد أجرى الله تعالى على يديه إحياء الموتى بعد دفنها ووضعها في قبورها، فقد كان عليه السلام يجري الله تعالى على يديه إخراجها من القبور أي أنها تحيا في قبرها، وتخرج إلى الوجود في حياة.
وإحياء الموتى بعد الدفن أو قبل الدفن غير تصوير الطين طيرا ثم النفخ؛ لأن هذا إيجاد للحياة في جماد، والثاني إعادة للحياة وقد ذكرت كلمة (بإذني) في كل هذا، لبيان أن العمل ليس لعيسى، وإن جرى على يديه، إنما هو لله سبحانه وتعالى خالق كل شيء.
وقد كان موجب هذه البينات الباهرة القاهرة أن يؤمنوا، ولكن بني إسرائيل فيهم عناد وطغيان فكفر كثيرون، وهموا بأذى عيسى - عليه السلام - فكانت نعمة
جاءهم عيسى - عليه السلام - بالبينات أي الحجج المبينة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فناوءوه العداوة، لأنه كانت لهم الرياسة الدينية، وهذه الحجج إن اتبعوا ما توجبه حسبوا أن الرياسة تذهب منهم، فقاوموها، ولا يمكن أن يقاوم صاحب الحق إلا بالباطل، ولا يمكن أن يقاوَم صاحب الحجة والبرهان الساطع إلا بالباطل، لذلك قاوموا بطرق ثلاثة كلها شر، حاربوه بتأليب الناس ودعوة أتباعهم إلى الإعراض عنه، وحاربوه ثانيا بالأذى ينزلونه به، والتحريض عليه، والائتمار به، ولكن دعوته كانت تنفذ إلى القلوب من غير حجاب، وذلك لأن الله كف عنه أذاهم، ولما يئسوا منه خلصوا إلى الطريق القاتل، وهو الدس عند ذوي السلطان، وكانت نعمة من الله تعالى عليه أعظم وأوضح، فقد نجاه الله تعالى من أيديهم، كما قال تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولَكِن شُبّة لَهُمْ...). وقوله تعالى: (ومَا قَتَلُوهُ يَقِينًأث بَل رَّفَعَة اللَّهَ إِلَيْهِ...).
كف الله تعالى الأذى عن سيدنا عيسى - عليه الصلاة والسلام - وقد كفروا مع ظهور هذه الآيات الباهرة التي فيها البرهان القاطع الذي لَا يقبل جدلا، أشار الله تعالى إلى ما اتخذوه من تعلات بقوله تعالت كلماته: (فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْر مُّبِينٌ).
أي إذا كانت هذه البينات ظاهرة، فهي لَا ترفع اللجاجة من الذين كفروا وجحدوا، لأن الذين يكفرون بالحق عندما يجيئهم يسارعون بالكفر، ثم يحاولون أن يوجدوا ما يبرر كفرهم، كشأن كل من يحكم بالباطل يسارع إليه، لأنه غاية
* * *
(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (١١٥)
* * *
* * *
قوله تعالى:
* * *
ما تقدم من الأعراب (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) (أَن ينَزِّلَ) يستطيع بمعنى يطيع؛ كما قالوا: استجاب بمعنى أجاب، وكذلك استطاع بمعنى أطاع. وقيل المعنى: هل يقدر ربك، وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل؛ ولهذا قال عيسى في الجواب عن غلطهم وتجويزهم على اللَّه ما لَا يجوز: (اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مؤْمِنِينَ) أي لَا تشكو في قدرة الله تعالى.
وهذا فيه نظر؛ لأن الحواريين خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال: " من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ". ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جاءوا بمعرفة الله تعالى وما يجب له وما يجوز ما يستحيل عليه وأن يبلغوا ذلك أممهم؛ فكيف يخفى ذلك على من باطَنَهُم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى؛ إلا أنه يجوز أنه يقال: إن ذلك صدر ممن كان معهم، كما قال بعض جهال الأعراب للنبي - ﷺ -: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط (١)، وقيل: إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك للرجل: هل يستطيع فلان أن يأتي وقد علمت أنه يستطيع؛ فالمعنى: هل يفعل ذلك؛ وهل ييجيبني إلى ذلك أم لَا؟ وقد
________
(١) عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: ١٣٨] وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ " رواه الترمذي: الفتن - ما جاء: لتركبن سنن (٢١٨٠).
على ما تقدم، وقد كان إبراهيم عَلِم لذلك علْمَ خبر ونظر، ولكن أراد المعاينة التي لَا يدخلها ريب ولا شبهة، لأن عِلم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة لَا يدخله شيء من ذلك؛ ولذلك قال الحواريون: (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا) كما قال إبراهيم: (... وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي...).
(قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ) أي اتقوا مغاضبه وكثرة السؤال؛ فإنكم لَا تدرون ما يحل بكم عند اقتراح الآيات؛ إذ كان الله عز وجل إنما يفعل الأصلح لعباده. (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) أي إن كنتم مؤمنين به وبما جئت به، فتعد جاءكم من الآيات ما فيه غِنى. قوله تعالى:
* * *
* * *
نُصب بـ " أنْ ". وقوله: (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ) عطف كله، بينوا به سبب سؤالهم حين نُهوا عنه. وفي قولهم: (نَأكُلَ مِنْهَا) وجهان: أحدهما - أنهم أرادوا الأكل منها للحاجة الداعية إليها، وذلك أن عيسى عليه السلام كان إذا خرج اتبعه خمسة آلاف أو أكثر، بعضهم كانوا أصحابه، وبعضهم كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم لمرض كان بهم أو عِلَّة، إذ كانوا زَمْنَى أو عميانا، وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون. فخرج يوما إلى موضع فوقعوا في مفازة، ولم يكن معهم نفقة فجاعوا وقالوا للحواريين: قولوا لعيسى حتى يدعو بأن تنزل عليهم مائدة من السماء، فقال عيسى لشمعون: (قَال اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتم مُّؤْمِنِينَ) فأخبر بذلك شمعون القوم فقالوا له: قل له: (نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا) الآية. الثاني - (نَأْكُلَ مِنْهَا) لننال بركتها لَا لحاجة دعتهم إليها، وقولهم: (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا) يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها - تطمئن إلى أن الله تعالى بعثك إلينا نبيا. الثاني - تطمئن إلى أن الله تعالى قد اختارنا لدعوتنا. الثالث - تطمئن إلى أن الله تعالى قد أجابنا إلى ما سألنا؛ وقيل: أي تطمئن بأن الله قد قبل صومنا وعملنا. (وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا) بأنك رسول الله. (وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ) للَّه بالوحدانية، ولك
* * *
قوله تعالى:
* * *
اللهم أصلها يا الله، والميمان في " اللهمَّ " بدل من " يا "، (رَبَّنَا) نداء ثان، (أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ) المائدة الخُوَان الذي عليه الطعام، لَا تكون المائدة حتى يكون عليها طعام، فإن لم يكن قيل: خِوان، وهي فاعلة من مَادَ عبده إذا أطعمه وأعطاه؛ فالمائدة تمد ما عليها أي تعطى، وقوله تعالى: (تَكُونُ لَنَا عِيدًا)، (تَكُونُ) نعت لمائدة وليس بجواب.
(عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا) أي لأول أمتنا وآخرها، فقيل: إن المائدة نزلت عليهم يوم الأحد غدوة وعشية؛ فلذلك جعلوا الأحد عيدا. والعيد واحد الأعياد؛ وإنما جمع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد، ويقال: للفرق بينه وبين أعواد الخشب، وقد عيدوا أي شهدوا العيد؛ وقيل: أصله من عاد يعود أي رجع فهو عود بالواو، فقلبت ياء لإنكسار ما قبلها، مثل الميزان والميقات والميعاد؛ فقيل ليوم الفطر والأضحى: عيدا لأنهما يعودان كل سنة. وقيل: سمي عيدا للعود في المَرَح والفَرَح، فهو يوم سرور الخلق كلهم؛ وقيل: سمي عيدا لأن كل إنسان يعود إلى قدر منزلته؛ ألا ترى إلى اختلاف ملابسهم وهيئاتهم ومآكلهم فمنهم من يضيف ومنهم من يضاف، ومنهم من يَرحَم ومنهم من يُرحَم. وقيل: سمي بذلك لأنه يوم شريف تشبيها بالعيد: وهو فحل كريم مشهور عند العرب وينسبون إليه، فيقال: إبل عيدية؛ قال: - " عِيدِيَّةٌ أَرهِنَت فيهَا الدنانِير وقرأ زيد بن ثابت (لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا) على الجمع. قال ابن عباس: يأكل منها آخر الناس كما يأكل (منها) أولهم.
قوله تعالى:
* * *
* * *
هذا وعد من الله تعالى أجاب به سؤال عيسى كما كان سؤال عيسى إجابة للحواريين، وهذا يوجب أنه قد أنزلها ووعده الحق، فجحد القوم وكفروا بعد نزولها مُسِخوا قِردة وخنازير. قال ابن
وعن ابن عباس وأبى عبد الرحمن السُلَميّ كان طعام المائدة خبزا وسمكا.
وخرّج التِّرمذيّ في أبواب التفسير عن عمّار بن ياسر قال: قال رسول الله - ﷺ -: " أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأُمِروا ألا يَخونوا ولا يَدَّخروا لغد فخانوا وادّخروا ورَفعوا لغدٍ فَمُسِخوا قِرَدة وخنازير " (١).
* * *
(وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦)
________
(١) سنن الترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة المائدة (٣٠٦١).
* * *
الكلام إلى الآن في محاسبة الناس يوم القيامة ومجاوبتهم بشأن عيسى ابن مريم من حيث إنهم نحلوه ما ليس فيه، وادعوا ما لم يقله، فادعوا عليه الألوهية هو وأمه فكانت المجاوبة حول هذه الفرية التي افتروها، وذلك الوهم الذي توهموه وادعوه على المسيح عليه السلام.
هذا كله صورة للمجاوبة التي تكون يوم القيامة بين الرسل، وأقوامهم، ومن بعثوا إليهم بشكل عام، وخص عيسى - عليه السلام - في هذا المقام بالمجاوبة؛ لأنه كان أكثر الرسل افتراء على شخصه النبوي الكريم، إذ ادعوا عليه الألوهية، وكان نداؤه بذكر: (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) للإشارة إلى الولادة الطبيعية التي تنفي أن يكون إلها أو ابن إله، أو فيه عنصر الألوهية بأي وضع من الأوضاع؛ لأن الألوهية والبشرية نقيضان لَا يجتمعان، فلا يمكن أن يكون البشر فيه ألوهية، ولا الإله فيه بشرية، ومعنى (اتخذوني)، اجعلوني، والتعبير بـ اتخذوني أو اجعلوني يدل على أنه ليس له حقيقة، بل هو في ذاته اتخاذ بما لَا أصل له.
والاستفهام للتقرير، أي ليقر عيسى - عليه السلام - بخلافه، ذكر الحقيقة في ذلك اليوم الذي لَا تجزي نفس عن نفس شيئا، والذي يتقرر الجزاء وليس وقت العمل، فيه توبيخ لهم، وتكبير لذنوبهم، وبيان لافترائهم، وعظمه وهو من قبيل إحضار أعمالهم وأقوالهم، وبذلك يرد الاعتراض الذي يورده العلماء إذ يقال كيف يسأل الله تعالى عيسى وهو سبحانه وتعالى يعلم أنه لم يقل شيئا من هذا، ولا
والذين قالوا: إن عيسى وأمه آلهان من دون الله لم ينفوا ألوهية الله إذ لم يعرف عنهم أنهم نفوها، حتى يقال عنهم: إنهم قالوا: إن عيسى ابن مريم وأمه إلهان من دون الله أي غيره، والجواب عن ذلك أن من لم يؤمن بوحدانية الله تعالى بل أشرك غيره معه لَا يقال: إنه آمن بالله، واعترف بألوهية الله سبحانه وتعالى، لأنه لَا يعبد إلا الله وحده، أو نفسر (مِن دُونِ اللَّهِ) أي خلاف الله فكأنهم قالوا: إن هناك اثنين مع الله تعالى.. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وقد بين الله تعالى إجابة عيسى - عليه السلام - بقوله:
(قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) س بحانك معناها تنزيها لك عن هذا القول وتقديسا، وهي منصوبة على أنها مصدر لفعل محذوف، وتصدير سيدنا عيسى في ذلك اليوم المشهود - كلامه بذلك للدلالة على أنه أمر لا يليق في ذاته، فلا يمكن أن يصدر عن عاقل يعي ما يقول ويدركه، ففيه نفي مطلق للشرك وبيان للنزاهة والتقديس، وأنه هو الذي يسبح له وحده ثم بعد هذا التنزيه المطلق الذي كان نفيا مطلقا، أخذ ينفي عن نفسه هذا الكلام المحال، فنفي عنه بأنه ليس من شأنه أن يقول مثل هذا القول، بل ذكر استحالة أن يصدر عنه، وقال: (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ). وفي هذا تأكيد للنفي من وجوه ثلاثة:
أولها - أنه نفَى أن يكون شأنه ذلك القول، فلا يمكن أن يصدر عنه، فهو لم ينف القول فقط، بل نفَى احتمال أن يقول، ونفَى احتمال القول أقوى في الدلالة من نفي المقولة.
ثالثها - أنه أثبت أنه مستحيل قوله لأنه ليس بحق. (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ). هذه الجملة تأكيد لنفي ما سئل. عنه، وهو أنه قال: (اتَّخِذُونِي وَأمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ).
إذ إنه لو كان قد حصل لعلمه الله تعالى، وما دام لم يعلمه، فهو لم يقع، ولا يمكن أن يقع؛ لأن الله لَا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، وفى هذا النص فوق دلالته على عدم الوقوع بأبلغ تعبير إثبات شمول علم الله تعالى، وإنه بكل شيء محيط، وقد زكى هذا المعنى الجليل بقوله: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ). ففي هذا النص إثبات قصور علم الإنسان بجوار علم الله تعالى، وإثبات أن علم الله تعالى شامل لمطويات القلوب، وعلم الإنسان مقصور على ما يظهر من الجوارح فالله يعلم ما يخفَى في الصدور، والإنسان لا يعلم إلا ما هو ظاهر محسوس، أو ما يكشف عنه الظاهر المحسوس، فلا يعلم ما الخفي إلا ما يظهره الجلي، والنص يدل على نفي الألوهية من جهة ثالثة، لأن علم الله شامل لكل شيء لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وعلم عيسى من النوع القاصر الذي لَا يحيط إلا بالمحسوس أو ما ينبئ عنه المحسوس، فهو نفي للألوهية من طريق العلم، ثم هو موازنة من جهة ثانية بين نفس الإنسان المكشوفة لخالقه، وذات الله تعالى التي لَا يعلم البشر عنها إلا وحدانيتها، وما يعلمه للإنسان منها.
وقد أكد عيسى علم الله تعالى المحيط الذي يعلو عن الصفات البشر بقوله: (إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي إنك يا صاحب الجلالة تقدست أسماؤك تعلم الأمور المغيبة عن حسنا، والمكنونة في المستقبل علما دقيقا لَا يخفى منه شيء عليك، ولذلك عبر بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة، وعلى الدقة وعلى الإحاطة
وقد أكد علم الله تعالى للغيب بأربعة مؤكدات: أولها - بـ " إنَّ " المؤكدة.
ثانيها - بالضمير المؤكد في قوله تعالى: (أَنتَ).
وثالثها - بصيغة المبالغة التي تعد مبالغة بالنسبة للعبيد، ولكنها حقيقة فوق ما نتصور بالنسبة لله تعالى العليم الحكيم، وإن هذا أقصى ما تتسع له لغتنا القاصرة عن التعبير عن الحقائق الإلهية.
رابعها - جمع الغيوب، فلم يفرد الغيب، بل قال الغيوب بكل أنواعها ما وقع في الماضي، وما يقع في المستقبل وما يتعلق بالكائنات كلها الروحاني منها والمادي، والكل خلقه سبحانه، من طيور في الهواء، وأسماك في الماء، وملائكة، وجن، وإنس، وهكذا كل ما هو غيب في ذاته، أو بالنسبة للبشر، أو لطوائف منهم.
* * *
* * *
هذا الكلام السامي في تأكيد القول الأول، وهو إثبات تنزيه الله تعالى، وأنه ما دعا إلا إلى الوحدانية، ولقد كان كل هذا في مقام التوبيخ وإثبات الحجة عليهم، وعقابهم على كفرهم، وافترائهم على الله تعالى ربهم، وعلى عيسى ابن مريم رسوله سبحانه إليهم.
والجملة السامية السابقة فيها إثبات استحالة أن يكون قد قال " اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ "، فهي تفى بالدليل، وهي هذه الجملة السامية فيها نفي، وإثبات. فيها نفي القول الذي نسبوه بهتانا إليه، وفيه إثبات ما قاله، ولم يقل سواه، ولذلك كان فيه قصر بالنفي والإثبات، فهو يذكر أنه دعا إلى التوحيد المطلق، وفيه إثبات أنه لا يمكن أن يدعو إلا إلى التوحيد المطلق، وذلك لثلاثة أمور:
ما أمرتني أن أقوله وأبلغه، وإلا أكن غير مؤد للرسالة.
ثانيها - أنه لم يكتف ببيان أنه أدى ما أمر به إجمالا، بل ذكر حقيقة ما دعا مفسرا غير مجملا، إذ قال: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ). فإن هي المفسرة، فهو يفسر ما أمر به وهو بين لَا إبهام فيه.
وثالثها - أنه أقام الدليل على استحقاقه وحده للعباده سبحانه: (رَبِّي وَرَبَّكمْ). أي أنه هو المستحق للعبادة لأنه هو وحده الذي خلقني، فأنا مخلوق، فكيف أكون إلها، وهو الذي خلقكم وحده فكيف تعبدون غيره؟!، وفي هذا التعبير أثبت وحدانية الخلق والتكوين ووحدانية الذات، كما أثبت تصريح اللفظ وحدانية العبادة.
وقد أكد عليه السلام أنه بلغهم تلك الحقائق، فقال كما حكى عنه ربه: (وَكنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ). أي كنت مشاهدا لهم رقيبا عليهم تعلم ما حاولوه من الزيغ والتحريف مدة بقائي فيهم، فما تركت تنبيههم إلى التوحيد في العبادة والذات والصفات والتكوين مدة إقامتي بينهم، ولما تركت الدنيا كنت أنت الرقيب.
(فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) في النص الكريم السابق ذكر - عليه السلام - شهادته عليهم وهو حي، قائم برسالته مؤد لها على وجهها، وفي هذا النص يذكر انتهاء مهمته بوفاته، ويفوض أمرهم إلى ربهم في ألطف تعبير وأدق إشارة.
والفاء للتفصيل كما تدل على الحالية والبعد به، والمعنى عند حد وفاتي ومن قبلها، ومن بعد كنت أنت وحدك الرقيب عليهم العالم بحالهم وأنت على كل شيء عالم بحالهم تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وفقنا الله لما يحب ويرضى.
* * *
* * *
الكلام العظيم موصول في حديث السيد المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام يوم يجمع الله تعالى الرسل يوم القيامة.
ولقد كان من المجاوبة بين الله تعالى، وبين السيد المسيح - عليه السلام - في شأن الأوهام التي توهمها من يدعون النسبة إليه، وذكرت هذه الأوهام كأنها واقعة في زمن المسيح - عليه السلام - وهي قد وقعت من بعده ولم يحضرها، ثم المجاوبة تكون من بعد ذلك، إذ إنها تكون يوم القيامة يوم يجمع الله تعالى الرسل، ويسألهم عما كان من شأن إجابات أقوامهم، واختص سبحانه وتعالى بالذكر عيسى لما ذكرنا من أنه أشد الأنبياء افتراء عليه إذ ادعوا أنه ابن الله وأن الله ثالث ثلاثة، وذكرت أخبار يوم القيامة - كأنها حاضرة لتحضر بين يدي النصارى الذين ادعوا ما ادعوا بالصيغة الإنكارية التي تكون من المسيح عليه السلام - يوم، ليتبينوا أن المسيح - عليه السلام - بريء منهم، ومما يتكلمون به حول ذاته النبوية البشرية.
وخلاصة تلك المجاوبة:
أن العلي القدير سأله سؤال العالم بالجواب (أَأَنتَ قلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ)، وكان الجواب بالنفي؛ لأن الله تعالى يعلم أنه لم يقع وما
وقد تضمن الجواب تأكيد النفي بأنه ليس من شأنه، ولا يحق له؛ لأنه بشر مخلوق لله سبحانه وتعالى، فالبشرية لَا تتخلى عنه، وأنه لَا يمكن أن يكون إلها، يشارك الله تعالى في خلقه، فالله خالقه، ولا يمكن أن يكون المخلوق كالخالق، ولأن الله تعالى هو الذي يربه بعد خلقه، وهو الذي علمه الحكمة، وهو الذي جعله يتكلم كما يتكلم الراشدون في المهد، فكان كلامه في المهد ككلامه وهو كهل، أي رشيد قد اكتملت رجولته، واستوى خلقه، وهذا يدل على أن السيد المسيح - عليه السلام - عاش إلى أن بلغ سن الكهولة، فقد بلغ أشده، وبلغ أربعين، وإن كانت كتب النصارى الحاضرين تومئ إلى أنه لم يصل إلى الأربعين.
وقد ذكر سيدنا عيسى - عليه السلام - أنهم في رقابة الله تعالى من بعده، يعلم حالهم، ومآل أمرهم وانحرافهم عن الجادة التي أرشدهم - إليها الله تعالى على لسان نبيه الأمين عيسى - عليه السلام.
وأنه هو تعالى الذي شاهد أعمالهم، وأنه محاسبهم بها مجازيهم عليها، والأمر في شأنهم إليه، وأمورهم مفوضة إليه، وهو العزيز الحكيم، والغفور الرحيم، فإن شاء أخذهم بذنوبهم كاملة، وإن شاء عفا عن بعضها، وإن شاء تغمدهم برحمته وغفرانه إن تابوا، وآمنوا بالله وحده وآمنوا بمحمد - ﷺ -، ولذلك قال تعالى حكاية عن بقية كلام عيسى في ذلك المشهد العظيم.
وإنا نجد في هذا النص الذي يذكر الحال يوم القيامة ينبئ عن رأفة المسيح عليه السلام، ورفقه، ورغبته في ألا يكون الناس في عذاب إلا أن تكون تلك إرادة الله تعالى، فالنص تفويض لله تعالى، وهو يشبه في هذا طلب إبراهيم أبي
فالمسيح - عليه السلام - يحكى الله تعالى عنه في ذلك اليوم المشهود قوله:
(إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادًكَ) أي إن تعاقبهم العقاب الشديد فهم عبادك تملكهم، ولا حق لهم عندك، وهم قد أذنبوا، فبحكمتك وعزتك كان عقابهم، وإن تغفر لهم وتستر سيئاتهم وتصفح عنهم فإن ذلك جائز منك، وهو صفح الغالب القاهر، الذي يضع الأمور في مواضعها وأفعاله في دائرة الحكمة والتدبير المصون عن العبث.
وهنا قال العلماء: كيف يسوغ أن يطلب عيسى - عليه السلام - في المشهد العظيم الغفران للكفار الذين أشركوا بالله تعالى، فجعلوا عيسى وأمه إلهين وقالوا إن الله ثالث ثلاثة، وقالوا إن المسيح ابن الله؟ وقد أجابوا عن ذلك بإجابات مختلفة أدقها ما قيل من أن الغفران للكفار جائز عقلا، وليس مستحيلا، ولقد كان طلب عيسى عليه السلام؛ الغفران لهم من قبيل طلب إبراهيم - عليه السلام - الغفران لأبيه، فهو ناتج من فرط الشفقة، والرأفة، على أن عيسى - عليه السلام - ما طلب الغفران، بل فوض الأمر لرب العالمين تعالت حكمته، وإذا كان ما يناقش في هذا المقام فهو أنه فرض جواز الغفران، ونحن نرى أن ذلك الفرض يتفق مع النسق التاريخي الذي وقع، وذلك بأن نفرض أن المسيحيين الذين أشركوا منهم من كان على ضلاله القديم بعد أن بلغته الدعوة المحمدية، ومنهم من استمر على غيه بعد أن تبلغه الدعوة المحمدية إلى التوحيد، وتبين حقيقة الدعوة المسيحية كما جاء بها الإسلام، وهؤلاء الأخيرون لَا مساغ لفرض الغفران لهم شرعا؛ لأنهم أشركوا الأولون فقد كانوا على فترة من الرسل وكانوا على جهالة عمياء لا تسمح لهم أن يعرفوا حقيقة دعوة المسيح عليه الصلاة والسلام، وذلك أنه قد نزل بهم بعد المسيح - عليه السلام - من الاضطهادات والشدائد والكوارث ما جعلهم يستخفون بدينهم، ويفرون بها، ولا شوكة لهم، وقد قارنت هذه الشدائد المسيحية
ولم يكشف عنهم البلاء إلا بعد أن اختفت المصادر الحقيقية لدينهم، وادعى التثليث تدريجيا، وما كان عندهم من علم يعلمونه ويحاسبون به، وهؤلاء أحسب أن فرض عيسى غفران الله تعالى كان فرضا سليما يتفق مع عزة الله تعالى وحكمته، وشمول علمه.
* * *
* * *
بعد أن ذكر سبحانه من مغيبات الأمور اليوم الذي يجمع الله الرسل وأقوامهم، وتكون المجاوبة بين عيسى وربه، وهو الحق الذي بعث به، وفيها بيان مقامه ممن افتروا عليه الكذب، وضلوا في افترائهم وإذا كان ذلك فيه إشارة إلى العذاب الذي يستقبل أولئك المفترين على الرسول والذين جاءتهم المعجزة الباهرة التي لَا يمارِي فيها إلا من ران على قلبه. بين سبحانه جزاء الذين يذعنون للحق، وسماهم سبحانه الصادقين وأن الذي ينفعهم هو صدقهم، والصدق شعبة مما طلبه الحق، ولكنه سبحانه جعله شعار المؤمنين، وذلك لأن الصدق هو وصفه الإيمان الذي يلازمه، ويروى في ذلك أن النبي - ﷺ - سئل: " أيكون المؤمن جبانا؟ فأجاب عليه السلام: يكون المؤمن جبانا. وسئل أيكون بخيلا؟ فأجاب عليه السلام: يكون بخيلا، وسئل أيكون كذابا؟ فقال: لَا يكون المؤمن كذابا " (١). فالكذب والإيمان نقيضان لَا يجتمعان، والإيمان يلازمه الصدق، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).
والصدق يلازمه الإخلاص، ويكون معه القرب من الله تعالى، ولقد
________
(١) رواه مالك: الموطأ - وحدثني مالك أنه بلغه أن عبد الله (١٨٦٢).
وإن الصدق ذو شعب ثلاث، أقربها الصدق في القول، فلا ينطق إلا بالحق، ولا ينطق إلا بما يجول بصدره، ولا يماري ولا يداهن، ولا يرفث في قول، والثانية صدق النفس فلا يغش نفسه، ولا يخدعها، بل يحاول أن يطلع على عيوبها ويعالج هذه العيوب، ولا يخدع نفسه ليكذب عليها، والثالثة، صدق الإنصاف، فلا يغمط غيره، ولا يحقد ولا يحسد، ولا يضغن، وينصف أعداءه من نفسه.
ومن كانت هذه حاله ينفعه صدقه؛ لأنه صدق القول والنفس والعمل، له جزاؤه في الجنة جنات تجري من تحتها الأنهار، وفي ذلك النعيم خالد خلودا أبديا لا نهاية له، وفوق هذا الجزاء المادي الحسي، هناك جزاء معنوي وهو رضوان من الله، وهو أكبر من كل جزاء، ولذلك رضي الله عن الصادقين فهم مقربون إليه زلفى، وهم لَا يرضون بربهم بديلا ولا شريكا في عبادة أو قربى، أو استعانة أو استجابة، فالله ملء قلوبهم يعبدونه كأنهم يرونه.
وإن ذلك هو الفوز العظيم الذي لَا فوز يماثله أو يقاربه.
* * *
________
(١) رواه مسلم: البر والصلة - قبح الكذب وحسن الصدق (٢٦٠٧)، والبخاري: الأدب - (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) (٦٠٩٤).
* * *
في هذا النص الكريم بيان للحق الذي لَا مجال للريب فيه، وبيان لسلطان الله تعالى على كل ما في السماوات وما في الأرض، وأنه ذو سلطان في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وهو القادر على كل شيء يريده، لَا يعجزه شيء في السماء ولا في الأرض، وفي الكلام إشارات بيانية نذكرها.
الأولى - إثبات أن الله وحده هو الجدير بالألوهية، والمستحق للعبادة، لأنه ذو السلطان الكامل المالك لكل شيء.
الثالثة - ذكر السماوات والأرض، والتصريح بما فيهن للإشارة إلى أن كل شيء فيهن مخلوق له سبحانه، وليس فوقه أحد فلا يقال: إن أحدا له سلطان بجوار سلطانه وإن المعجزات التي تجري على أيدي بعض النبيين من خلقه هو الذي خلقه على يديه وليس النبي خالقها.
الرابعة - إثبات أنه قادر على كل شيء لَا يتقيد بالأسباب والمسببات، لأنه على كل شيء قدير، وهو خالق الأسباب.
الخامسة - تقديم الجار والمجرور يفيد كمال قدرة الله تعالى على الأشياء إنه حميد مجيد، سميع بصير عزيز حكيم.
* * *
تعريف ٤
سورة الأنعام قالوا إنها نزلت بعد سورة الحجر، وإن عدد آياتها خمس وستون ومائة آية كلها نزل بمكة ما عدا عدة آيات قالوا: إنها نزلت بالمدينة هي الآيات ٠ ٢ و ٢٢ و ٩١ و ٩٢ و ١٤ ١ و ١٤١ و ١٥١ و ١٥٢ و ١٥٣ - وهي آيات نزلت في بيان أحكام تتعلق بالحلال والحرام من التكليفات العملية، وهي لهذا كانت أنسب بالمدينة؛ ذلك لأن ما يتعلق بالعقيدة قد اختص بمكة؛ إذ كان فيه بيان الوحدانية في الذات وفي الصفات والخلق والإنشاء والعبادة والألوهية، وأنه لَا إله إلا هو، وبيان رسالة الله وأخبار الرسل السابقين، وما جاءوا به، وما نزل بأممهم، وما جاء من أحكام بمكة كان أكثره على ألسنة الأنبياء السابقين وما كانوا يدعون إليه أقوامهم، فدعوة شعيب - عليه السلام - إلى الإيفاء بالكيل والميزان، ونهيهم عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وغير ذلك. أما القرآن المدني، فقد نزلت به الأحكام التكليفية العملية؛ لأنه قد كونت دولة للإسلام، فكان لَا بد من نظم تقيمها، وأحكام تنظم علاقات آحادها، وقد ابتدأت العبادات بالصلاة المفروضة في مكة لمناسبتها للألوهية، ومعاني العبودية، ثم أُكملت في المدينة ليتكوَّن رأي عام فاضل، ومجتمع متضافر متعاون.
ابتدأت السورة ببيان استحقاق الله تعالى وحده للحمد؛ لأنه خالق السماوات والأرض وحده، وجاعل الظلمات والنور، وبيان أن أصل خلق الإنسان من طين، وبيان كمال سلطان الله تعالى في خلقه، وعلمه بالسر وما يخفى، وبيان آيات الله تعالى في كونه، وتلقي الجاحدين، وما كانوا يكذبون به الحق، إذ يجيئهم ويستهزئون به لإعراضهم عن الآيات البينات المثبتة الموضحة الكاشفة.
وأن الجاحدين شأنهم الاستهزاء بالحق إذ جاءهم، وأن على النبي - ﷺ - أن يتأسى في استهزائهم به بما كانوا يفعلون مع الأنبياء السابقين، وبين سبحانه وتعالى سوء عاقبتهم.
ولقد بين سبحانه من بعد ذلك طائفة من ضلال تفكيرهم باستهزائهم عند ذكر خالق السماوات والأرض، ويتولى - عليه الصلاة والسلام - الإجابة مبينا أن الله كتب على نفسه الرحمة، وأن من رحمته أن يجمع الناس يوم القيامة، بيَّن ثواب المحسن وعقاب المسيء ثم بين سبحانه وتعالى ملكه لكل شيء وسلطانه الذي فوق كل شيء، وإذا كان الله مالك كل شيء وفاطر السماوات والأرض - لا يمكن أن يتخذ الرسول وليا نصيرا غيره سبحانه، وأن يكون أول من يسلم وألا يكون من المشركين، وأن يخاف عذابه إن عصى، ولا فوز إلا لمن يصرف عنه عذاب يوم القيامة.
وإذا كان سبحانه يملك كل شيء، فهو كاشف الضر إن مس الإنسان، وهو القادر على النفع، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير، وإذا كان المشركون يستمرون على عنادهم فالله هو الشاهد الحكيم بين الرسول وبينهم، وشهادته أكبر شهادة، وأن هذا القرآن أوحى به إلى الرسول لينذر به المشركين ومن يبلغه دعوة النبي - ﷺ -، وإن كنتم أيها المشركون تشهدون أن مع الله آلهة أخرى فالنبي - ﷺ - لا يمكن أن يوافق على هذه الشهادة، بل لَا بد أن يكذبها.
وقد بين سبحانه حال المشركين يوم القيامة، وأنهم لهول يوم القيامة ينكرون أنهم كانوا مشركين.
ومن هؤلاء المشركين من يكون على قلوبهم مثل الأكنة عند الآيات البينات، ولا يؤمنون بأي آية، وإذا جاءوا يجادلون قالوا عن الآيات: إن هي إلا أساطير الأوَّلين، وهم يبتعدون عن الحق، وينهون غيرهم عن اتباعه، وهم في الحالين هالكون بما يفعلون.
ثم يصور سبحانه حالهم في الآخرة فيقرر أنها مفارقة لحالهم في الدنيا، إذ يبدو لهم ما كانوا يخفون، وهم بذلك قد خسروا خسرانا مبينا وجاءتهم الساعة بغتة من حيث لَا يحتسبون، وأن الدار الآخرة هي دار البقاء، والحياة، وكانوا يتوهمون أنه لَا حياة بعد الدنيا، والدنيا بجوارها لهو ولعب، وذكر سبحانه عزاء النبي - ﷺ - بالرسل قبله إذ جحدوا، ثم لَا مناص من أن يبلغ النبي - ﷺ - وألا يكبر عليه إعراضهم مهما تكن حالهم.
وليعلم أن الذين يستجيبون لدعوته الذين يسمعون ويتعظون هم الأحياء حقا، والآخرون موتى وسيبعثهم الله، ويعاقبهم، وهم الذين لَا يسمعون، ويطلبون آيات أخرى غير التي أعرضوا عنها، وقد ذكرهم سبحانه بأن الأحياء جميعا من الحيوان والطيور أمم، والكتاب المحفوظ يحوي كل شيء.
وبين سبحانه أن الذين يعرضون عن الآيات صم لَا يستمعون إليها، وبكم لا ينطقون بالحق، ويعيشون في ظلمات لَا يبصرون، ولقد ذكرهم سبحانه بندائهم لله تعالى في حال شدتهم أو موتهم أو قيامهم أيدعون غير الله، وبين سبحانه أنه
وإن الإنذار يكون أثره في قلوب الذين يخافون يوم القيامة وما يكون فيه من هول.
وإنه يجب أن يكرم أهل الإيمان، ولا يطردوا لفقرهم أو ضعفهم، فإنه من فتنة الناس بعضهم ببعض أن يوفق للحق الضعفاء، ويكذبه الأقوياء ليقولوا أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا، ويجب على النبي - ﷺ - أن يرحب بالمؤمنين ويبين الحق لهم، وأن الله تعالى كتب على نفسه الرحمة، وهي العدالة وجزاء الحسن بالحسن، والعفو عن السيئ الذي ارتكب بجهالة، وأمر الله نبيه أن يتخذ من نفسه قدوة حسنة، فيقول: إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دونه وألا أتبع أهواءكم، وأنه على بينة من ربه، وأنه ليس بيده العذاب الذي يستعجلونه، ولو كان عندي لقضى الأمر الذي بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين.
وإن الغيب كله عند الله تعالى، فعنده سبحانه مفاتحه لَا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، ويعلم ما نكسب بالنهار ويتوفانا بالليل، ويستمر الإنسان بين الليل والنهار، حتى يُقضى أجل مسمى، ثم يكون المرجع إلى الله تعالى. وأنه سبحانه فوق هذا العلم المحيط، له القوة الكاملة، فهو القاهر فوق
ولقد بين سبحانه وتعالى قصة الخليل إبراهيم أبي الأنبياء وأخبار ذريته، وفى هذه القصة بين سبحانه كيف يكون إدراك العقل لله سبحانه ووحدانيته، مستمدا ذلك من الفطرة السليمة - رأى الخليل بفطرته أن الأصنام لَا يمكن أن تكون آلهة، وخاطب أباه بذلك، واعتبره ضلالا، ثم اتجه إلى تعرف الإله الأوحد، ظنه في كوكب، ولكنه أفل فزال، والإله لَا يزول، ثم ظنه القمر إذ رآه بازغا، ولكنه أفل أيضا، واعتبر نفسه تسير في ضلالة، وأنه إن لم يهده ربه الذي يؤمن بوجوده ليكونن من الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال: هذا ربى؛ لأنها أكبر، فلما أفلت أدرك أن الله تعالى لَا يكون أمرا محسوسا، فقرر البراءة من الشرك واتجه إلى الخالق الذي تدل آثاره على وجوده، ومخالفته لمخلوقاته، فقال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
وقد بين سبحانه وتعالى بعد قصة إبراهيم أن الذين يشركون ما قدروا الله حق قدره، وقد نفوا رسالة الله تعالى، فسأل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، وقد كان يعرف أن لليهود كتابا، وقد بين أن اليهود يخفون بعضه وهو كثير ويظهرون بعضه، ولا يصح أن يقتدوا بآبائهم؛ لأنهم علموا ما لم يعلموا من قبل، ولم يعلمه آباؤهم.
وذكر سبحانه بعد ذلك منزلة القرآن، وهو أنه كتاب مستمر بهدايته واتباعه، وأنه نزل على محمد الذي علمتموه أمينا عدلا لَا يكذب، ولا أحد أظلم ولا أكذب ممن يدعى أنه أوحى إليه، ولم يوحَ إليه بشيء.. ومن قال: سأنزل مثل ما أنزل الله من المشركين وأشباههم، وصور سبحانه وتعالى حال الظالمين، وهم في غمرات الموت باسطي أيديهم بالمنجاة، ويقال لهم: اليوم أخرجوا أنفسكم بما كنتم تقولون على الله غير الحق، وكنتم عن آياته تستكبرون، وأنهم سيذهبون إلى الله مجردين عن الأتباع والنُّصَراء، وتركوا ما مكنوا فيه من أموال وبنين وأولياء وراء ظهورهم، وكانوا كما خلقهم أول مرة، وليس معهم الشركاء الذين
بعد هذه الأدلة الساطعة، والقصص المذكِّر، والتوجيه المنبه، بين سبحانه أنه وحده المنشئ على غير مثال سبق، فهو الذي يفلق الحب فيكون منه النبات، ويفلق النوى فيكون منه الشجر، وهو يبدع الحياة في هذا النبت الجامد، ويخرج ذلك البذر الجامد من الأغصان الرطيبة، وهو الذي يخرج الإصباح من الظلام، ويجعل الليل سكنا واطمئنانا بعد كدح النهار، وهو الذي يجعل الشمس والقمر بحسبان، وكل ذلك بتقديره، وهو العزيز العليم، وهو الذي زيَّن السماء بالنجوم لتهتدوا بها في ظلمات البحر، وذلك ليكون أمارة وجوده ووحدانيته لقوم يعملون عقولهم، ولا تتسلط عليهم أوهامهم، وبعد أن بين ذلك التوجيه العام في خلقه؛ اتجه إلى بيان خلق الإنسان فأنشأ بني الإنسان من نفس واحدة، واستقر في هذا الوجود، وأودع الأرحام ودائعها، وتلك آيات لمن يؤمن، وينفذ ببصيرته إلى حقائق الأمور، وبين من بعد ذلك، الثمرات التي تكون من التقاء السماء بمائها بالأرض فيكون أطيب الثمار، وأطيب الزرع، وما فيه من عجائب، وبين تنوع الخلق، فأشار سبحانه إلى النخيل والأعناب والزيتون والرمان، والمتشابه، وغير المتشابه، وما يكون من ثمرات، وفي كل ذلك لمن يؤمن بالحق ويذعن للحقائق.
ومع كل هذه الآيات البينات التي يدركها من يعقل، ويصل إلى الحقائق فيها من يفقه، ويذعن لها من يؤمن بالحق ولا يماري فيه - مع كل هذه الآيات وجد من جعلوا له شركاء من الجن وهو الذي خلقهم، ومن يحمقون، فيدعون أن لله بنات وبنين سبحانه وتعالى عما يصفون. إنه سبحانه خلق السماوات والأرض كيف يكون له ولد ذكر أو أنثى وليست له صاحبة، وإذا كان الله تعالى خالق كل شيء فهو وحده المستحق للعبادة وحده، وهو سبحانه المنمِّي لكل شيء بعد خلقه.
ولقد علم الله المؤمنين الحكمة بأن ينظروا إلى مآلات أقوالهم ولو كانت حقا، فلا يسبوا ألهة المشركين حتى يندفعوا فيسبوا الله تعالى ظالمين جاهلين، ثم هم معاندون، يقسمون أنهم إن جاءتهم معجزة غير القرآن يؤمنوا، فردهم سبحانه بأنه يختار من الآيات ما يكون مناسبا وله الحكمة، والله سبحانه هو مقلب القلوب، فليتركوا في ضلالهم وعمايتهم بعد البيان المرشد الحكيم.
وأن هؤلاء كتب الله تعالى عليهم الشقوة إلا أن يرحمهم فيتركوا ما هم فيه من ضلالة، فلا تجدي فيهم الآيات إلا أن يشاء الله تعالى، فلو أنزل الله تعالى عليهم الملائكة، وكلمهم الموتى معلنين بعثهم، وجمع عليهم كل شيء يكون في المستقبل ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله، والله سبحانه وتعالى قد اختبر الأنبياء فجعل لهم من شياطين الإنس والجن أعداء يزخرف بعضهم لبعض القول ويغرونهم، ولو شاء الله تعالى ما فعلوه، فذرهم وما يفترون، وأنه لتصغى إليه أفئدة الذين لَا يؤمنون بالغيب والآخرة، بل لَا يفهمون إلا ما بين أيديهم، وبذلك يقترفون الآثام التي يقترفونها لأنهم يقولون إن هذه الحياة الدنيا هي وحدها الحياة.
وأنه لَا يمكن أن يكون للمؤمن حكم غير الله؛ لأنه هو الذي أنزل الكتاب مبينا فيه كل شيء وأهل الكتاب يعرفون ذلك، ولا يصح أن يكون ذلك موضع شك، وأنه ببيان القرآن تمت كلمة ربك صدقا وعدلا، وهو السميع العليم، ولا يجوز التقليد للآباء والبيئات، فإنه إن يطع النبي من في مكة أو بلاد العرب يضل عن
وإن من شركهم أن يذبحوا الذبائح باسم الأصنام فنهى الله تعالى المؤمنين عن أن يأكلوا مما لم يذكر اسم الله تعالى عليه، بل إنهم يأكلون ما ذكر اسم الله تعالى عليه، ولا يصح أن يوجد ما يمنعهم إلا من يكون في حال اضطرار، والله أعلم بالمعتدين، وعلى المؤمنين أن يذروا ظاهر الإثم وباطنه، وألا يأكلوا مما لم يذكر عليه اسم الله تعالى، ولا شك أن المشركين سيجادلون في تحريم هذا وإحلال غيره، وعلى المؤمنين ألا يطيعوهم، وإلا كانوا مشركين مثلهم، وإنه لا يتساوى الميت مع الحي، وكذلك لَا يتساوى الضال الذي هو كالميت مع المؤمن الذي يحيا حياة طيبة وله نور يمشي به في الظلمات، ولكن زين لهم سوء أعمالهم. وإنه ليس بغريب أن يناوئ محمدًا - ﷺ - أكابر من قريش، فإن كل قرية يكون فيها أكابر مجرميها، يمكرون فيها ويسيطرون عليها، والعاقبة عليهم وما يشعرون، وهم يحسدون رسل الله تعالى فيطلبون أن يؤتوا مثل ما أوتي رسل الله، وذلك شرط لإيمانهم، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وسيصيبهم صغار بسبب إجرامهم وعذاب شديد بسبب كفرهم ومكرهم السيئ لخفض كلمة الله تعالى. ومن يرد الله تعالى الخير له يشرح صدره للإيمان، ومن يرد غير ذلك منه يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء من شدة ضيق صدره وتوالي أنفاسه، وبذلك يكون عليه الرجس وعلى الذين لَا يؤمنون، وهذا صراط الله تعالى مستقيما قد فصلنا الآيات وبينَّاها لقوم يذكرون.
ولقد بين سبحانه وتعالى اختصاص المؤمنين، فذكر أن لهم دار الأمن والاطمئنان والسلام عند ربهم الذي خلقهم وهو وليهم، وذلك جزاء عملهم، وإن الله تعالى يوم يجمعهم جميعا يناديهم يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس، وأولياؤهم من الإنس يقولون قد استمتع بعضنا ببعض، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا، فذكر سبحانه أن النار هي المثوى الذي ينتهون إليه، وكذلك يمكن بعض
وذكر سبحانه وهْمًا من أوهامهم إذ جعلوا لله تعالى مما خلق من الإبل والبقر والغنم نصيبا وجزءا لما يزعمون آلهة، فما يجعلونه للشركاء يكون لهم، وما يكون لله لَا يصل إليه، ويصل إلى شركائهم، وساء ما يحكمون به في هذه القضية وغيرها.
ومنهم من كان قد زين لهم الشيطان قتل أولادهم بوهم للآلهة التي يزعمون، فأردوهم، ولبسوا عليهم دينهم ولو شاء ربك ما فعلوه وهو افتراء فذرهم أيها الرسول - ﷺ - بعد أن بينت، وحرموا على أنفسهم بأوهامهم، فجعلوا بعض الأنعام للأكل والحرث وأنعام لَا يطعمها كل الناس، وأنعام ممنوعة، وأنعام حرم ركوبها، وأنعام يأكلونها من غير ذكر اسم الله، وكل ذلك افتراء سيجزيهم الله تعالى عليه، وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام للذكور منا، ويحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء وسيجزيهم الله تعالى على ذلك، إنه حكيم عليم.
وكانوا يقتلون أولادهم سفها بغير علم، ويحرمون ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين.
وذكر سبحانه أن المشركين يكلون شركهم إلى تقدير ربهم، أي يأثمون، ولا يحملون أنفسهم إثمهم، وكذلك كل الفاسقين حتى يروا بأس الله تعالى يوم القيامة - وهل عندهم علم سوَّغ أن يحملوا غيرهم إثم فعلهم، فيحرموا ما حرموا؛ إن يتبعون إلا الظن الكاذب والوهم، والله عنده الحجة البالغة، وهاتوا
وبعد أن ذكر سبحانه ما حرموه على أنفسهم، وبطلان ادعائهم أمر رسولِه أن يبين لهم ما حرمِ عليهم وهم فيه واقعون وهو (... أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢).
وقد بين سبحانه بعد ذلك أن هذا هو صراطه المستقيم، عليهم أن يتبعوه، ولا يتبعوا السبل، فتفرق بهم عن سبيله، فغيرها مثارات الشيطان، وطرائقه، وتلك وصيته رجاء أن تتقوه فاتبعوها؛ ويبين سبحانه أن هذه المحرمات جاءت في شريعته - ﷺ - وفي كتابه، وقد سجلت في القرآن، فكانت شرعا لله، فاتبعوها واتقوا الله لعلكم ترحمون، ولا تعرضوا عنها بأن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين هم اليهود والنصارى من قبلنا ونحن غافلون عن دراستهم، أو تعرضوا قائلين لو أنزل علينا الكتاب لكئا أهدى منهم فها هو ذا أنزل عليكم من ربكم فيه بينة وهدى ورحمة، وإنكم من بعد تظلمون بتكذيبكم بآيات الإعجاز فيه، وتصدفون عنها، وجزاؤكم على ذلك الظلم سوء العذاب.
هذه حجج قاطعة فإذا كنتم تعرضون عنها، فهل تنتظرون أن تأتيكم الملائكة أو يأتي ربك، أو يأتي بعض آيات ربك القاصمة لظهوركم، (يَوْمَ يَأتِي بَعْضُ آيَاتِ) وهو يوم القيامة (... لَا يَنفَع نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ).
وبين أن كل نفس وما تفعل، فلا تزر وازرة وز أخرى، ولا تكسب كل نفس إلا عليها، وإلى الله مرجع الجميع، فينبئهم بما كانوا فيه يختلفون.
وبين سبحانه منزلة الإنسان في هذا الوجود، فقال تعالت كلماته: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥).
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (٣) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٦)* * *
كان ختام السورة السابقة إثبات سلطان الله تعالى الكامل، وقدرته الشاملة، وأنه لَا يعجزه شيء في السماء ولا في الأرض، إذ قال سبحانه: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيْءٍ قَدِيرٌ). وفي هذه الآية يبين سبحانه السبب في كمال سلطانه، والظهر الأعظم لكمال قدرته، وهو خلق