تفسير سورة المائدة

الطبري
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب جامع البيان في تأويل آي القرآن المعروف بـالطبري .
لمؤلفه الطبري . المتوفي سنة 310 هـ

تفسير سورة المائدة بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا"، يا أيها الذين أقرّوا بوحدانية الله، وأذعنوا له بالعبودية، وسلموا له الألوهة (١) وصدَّقوا رسوله محمدًا ﷺ في نبوته وفيما جاءهم به من عند ربهم من شرائع دينه ="أوفوا بالعقود"، يعني: أوفوا بالعهود التي عاهدتموها ربَّكم، والعقود التي عاقدتموها إياه، وأوجبتم بها على أنفسكم حقوقًا، وألزمتم أنفسكم بها لله فروضًا، فأتمُّوها بالوفاء والكمال والتمام منكم لله بما ألزمكم بها، ولمن عاقدتموه منكم، بما أوجبتموه له بها على أنفسكم، ولا تنكُثُوها فتنقضوها بعد توكيدها. (٢)
* * *
واختلف أهل التأويل في"العقود" التي أمر الله جل ثناؤه بالوفاء بها بهذه الآية، بعد إجماع جميعهم على أن معنى"العقود"، العهود.
فقال بعضهم: هي العقود التي كان أهل الجاهلية عاقد بعضهم بعضًا على النُّصرة والمؤازرة والمظاهرة على من حاول ظلمه أو بغاه سوءًا، وذلك هو معنى"الحلف" الذي كانوا يتعاقدونه بينهم.
ذكر من قال: معنى"العقود"، العهود.
١٠٨٩٣- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
(١) في المطبوعة: "الألوهية"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) انظر تفسير"أوفى" فيما سلف ١: ٥٥٧/٣: ٣٤٨/٦: ٥٢٦.
447
معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"أوفوا بالعقود"، يعني: بالعهود.
١٠٨٩٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل وعز:"أوفوا بالعقود"، قال: العهود.
١٠٨٩٥- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٠٨٩٦- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، مثله. (١)
١٠٨٩٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: جلسنا إلى مطرّف بن الشخِّير وعنده رجل يحدثهم، فقال:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، قال: هي العهود. (٢)
١٠٨٩٨- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أوفوا بالعقود"، قال: العهود.
١٠٨٩٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، قال: هي العهود.
١٠٩٠٠- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول:"أوفوا بالعقود"، بالعهود.
(١) الأثر: ١٠٨٩٦- في المخطوطة: "حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن أبي سفيان، عن رجل... " وهو خطأ وسهو، وهو إسناد دائر في التفسير: سفيان بن وكيع، عن أبيه وكيع، عن سفيان الثوري.
(٢) الأثر: ١٠٨٩٧-"عبيد الله"، هو"عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي""باذام"، مضت ترجمته برقم: ٢٠٩٢، ٢٢١٩، ٥٧٩٦، ٧٧٥٨. وكان في المطبوعة هنا: "عبيد الله عن ابن أبي جعفر الرازي"، وهو خطأ سيأتي على الصواب في الأسانيد التالية رقم: ١٠٩٣٥، ١٠٩٥٧، ١٠٩٦٣.
450
١٠٩٠١- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة في قوله:"أوفوا بالعقود"، قال: بالعهود.
١٠٩٠٢- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أوفوا بالعقود"، قال: هي العهود.
١٠٩٠٣- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، سمعت الثوري يقول:"أوفوا بالعقود"، قال: بالعهود.
١٠٩٠٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: و"العقود" جمع"عَقْدٍ"، وأصل"العقد"، عقد الشيء بغيره، وهو وصله به، كما يعقد الحبل بالحبلِ، إذا وصل به شدًّا. يقال منه:"عقد فلان بينه وبين فلان عقدًا، فهو يعقده"، ومنه قول الحطيئة:
قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ شَدُّوا العِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا (١)
(١) ديوانه: ٦، مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٤٥، اللسان (كرب) (عنج)، من قصيدته التي قالها في الزبرقان بن بدر، وبغيض بن عامر من بني أنف الناقة، فمدح بغيضًا وقومه فقال: قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا..............................
قَوْمٌ هُمُ الأَنْفُ، وَالأَذْنَابُ غَيْرهُمُ، وَمَنْ يُسَوِّي بِأَنْفِ النَّاقَةِ الذَّنَبَا!
قَوْمٌ يَبِيتُ قَرِيرَ العَيْنِ جَارُهُمُ إذَا لَوَى بقُوَى أَطْنَابِهِمْ طُنُبَا
هذا مثل ضربه يقول: إذا عقدوا للجار عقدًا وذمامًا، أحكموا على أنفسهم العقد، حتى يكون أقر عينًا بنصرتهم له، وحمايتهم لعرضه وماله. وضرب المثل بالدلو، التي يستقي بها وينتفع. و"العناج": خيط يشد في أسفل الدلو، ثم يشد في عروتها، أو في أحد آذانها، فإذا انقطع حبل الدلو، أمسك العناج الدلو أن تقع في البئر. و"الكرب" الحبل الذي يشد على الدلو بعد"المنين" وهو الحبل الأول، فإذا انقطع المنين بقي الكرب. فهذا هو المثل، استوثقوا له بالعهد، كما استوثقوا لدلوه بالحبل بعد الحبل حتى تكون بمأمن من القطع.
451
وذلك إذا وَاثقه على أمر وعاهده عليه عهدًا بالوفاء له بما عاقده عليه، من أمان وذِمَّة، أو نصرة، أو نكاح، أو بيع، أو شركة، أو غير ذلك من العقود.
* * *
ذكر من قال المعنى الذي ذكرنا عمن قاله في المراد من قوله:"أوفوا بالعقود".
١٠٩٠٥- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، أي: بعقد الجاهلية. ذُكر لنا أن نبيَّ الله ﷺ كان يقول: أوفوا بعقد الجاهلية، ولا تحدثوا عقدًا في الإسلام. وذكر لنا أن فرات بن حيَّان العِجلي، سأل رسول الله ﷺ عن حلف الجاهلية، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: لعلك تسأل عن حِلْف لخْمٍ وتَيْم الله؟ فقال: نعم، يا نبي الله! قال: لا يزيده الإسلام إلا شدة.
١٠٩٠٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن قتادة:"أوفوا بالعقود"، قال: عقود الجاهلية: الحلف.
* * *
وقال آخرون: بل هي الحلف التي أخذ الله على عباده بالإيمان به وطاعته، فيما أحل لهم وحرم عليهم.
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩٠٧- حدثني المثنى قال، أخبرنا عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أوفوا بالعقود"، يعني: ما أحل وما حرّم، وما فرض، وما حدَّ في القرآن كله، فلا تغدِروا ولا تنكُثوا. ثم شدَّد ذلك فقال: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) إلى قوله: (سُوءُ الدَّارِ) [سورة الرعد: ٣٥].
١٠٩٠٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
452
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أوفوا بالعقود"، ما عقد الله على العباد مما أحل لهم وحرَّم عليهم.
* * *
وقال آخرون: بل هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم، ويعقدها المرء على نفسه.
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩٠٩- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي، عن موسى بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال: العقود خمس: عُقدة الأيمان، وعُقدة النكاح، وعقدة العَهد، وعقدة البيع، وعقدة الحِلْف.
١٠٩١٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي = أو عن أخيه عبد الله بن عبيدة، نحوه.
١٠٩١١- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، قال: عقد العهد، وعقد اليمين وعَقد الحِلْف، وعقد الشركة، وعقد النكاح. قال: هذه العقود، خمس.
١٠٩١٢- حدثني المثنى قال، حدثنا عتبة بن سعيد الحمصي قال، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال، حدثنا أبي في قول الله جل وعز:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، قال: العقود خمس: عقدة النكاح، وعقدة الشركة، وعقد اليمين، وعقدة العهد، وعقدة الحلف. (١)
* * *
وقال آخرون: بل هذه الآية أمرٌ من الله تعالى لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم، من العمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق محمد ﷺ وما جاءهم به من عند الله.
(١) الأثر ١٠٩١٢-"عتبة بن سعيد الحمصي" مضى برقم: ٨٩٦٦.
453
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩١٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"أوفوا بالعقود"، قال: العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب: أن يعملوا بما جاءهم.
١٠٩١٤- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس قال، قال محمد بن مسلم: قرأت كتاب رسول الله ﷺ الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه على نَجْران (١) فكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم، فيه:"هذا بيان من الله ورسوله:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، فكتب الآيات منها حتى بلغ"إن الله سريع الحساب". (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، ما قاله ابن عباس، وأن معناه: أوفوا، يا أيها الذين آمنوا، بعقود الله التي أوجبَهَا عليكم، وعقدها فيما أحلَّ لكم وحرم عليكم، وألزمكم فرضه، وبيَّن لكم حدوده.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال، لأن الله جل وعز أتبع ذلك البيانَ عما أحل لعباده وحرم عليهم، وما أوجب عليهم من فرائضه. فكان معلومًا بذلك أن قوله:"أوفوا بالعقود"، أمرٌ منه عبادَه بالعمل بما ألزمهم من فرائضه وعقوده عقيب ذلك، ونَهْيٌ منه لهم عن نقض ما عقده عليهم منه، مع أن قوله:"أوفوا بالعقود"، أمرٌ منه بالوفاء بكل عقد أذن فيه، فغير جائز أن يخصَّ منه شيء حتى تقوم حجة بخصوص شيء منه يجب التسليم لها. فإذْ كان الأمر في ذلك كما وصفنا، فلا معنى لقول من وجَّه ذلك إلى معنى الأمر بالوفاء ببعض العقود التي أمرَ الله بالوفاء بها دون بعض.
* * *
(١) في المطبوعة: "بعثه إلى نجران"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) الأثر: ١٠٩١٤- روى كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو جعفر في التاريخ ٣: ١٥٧، وهو في سيرة ابن هشام ٤: ٢٤١، وفتوح البلدان للبلاذري: ٧٧، وغيرها.
454
وأما قوله:"أوفوا" فإن للعرب فيه لغتين:
إحداهما:"أوفوا"، من قول القائل:"أوفيت لفلان بعهده، أوفي له به".
والأخرى من قولهم:"وفيت له بعهده أفي". (١)
و"الإيفاء بالعهد"، إتمامه على ما عقد عليه من شروطه الجائزة.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في"بهيمة الأنعام" التي ذكر الله عز ذكره في هذه الآية أنه أحلها لنا.
فقال بعضهم: هي الأنعام كلها.
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩١٥- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن عوف، عن الحسن قال: بهيمة الأنعام، هي الإبل والبقر والغنم.
١٠٩١٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام"، قال: الأنعام كلها.
١٠٩١٧- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا ابن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أحلت لكم بهيمة الأنعام"، قال: الأنعام كلها.
١٠٩١٨- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام"، قال: الأنعام كلها. (٢)
١٠٩٢٠- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول،
(١) انظر تفسير"أوفى" فيما سلف ١: ٥٥٧-٥٥٩/٣: ٣٤٨/٦: ٥٢٦.
(٢) سقط من الترقيم، رقم: ١٠٩١٩.
455
أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"بهيمة الأنعام"، هي الأنعام.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بقوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام"، أجنة الأنعام التي توجد في بطون أمهاتها -إذا نحرت أو ذبحت- ميتةً.
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩٢١- حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، أخبرنا أبو عبد الرحمن الفزاري، عن عطية العوفي، عن ابن عمر في قوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام". قال: ما في بطونها. قال قلت: إن خرج ميتًا أكله؟ قال: نعم.
١٠٩٢٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا يحيى بن زكريا، عن إدريس الأودي، عن عطية، عن ابن عمر نحوه = وزاد فيه قال: نعم، هو بمنزلة رئتها وكبدها.
١٠٩٢٣- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الجنين من بهيمة الأنعام، فكلوه.
١٠٩٢٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مسعر = وسفيان، عن قابوس = عن أبيه، عن ابن عباس: أن بقرة نحرت فوُجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس بذنَب الجنين فقال: هذا من بهيمة الأنعام التي أحلّت لكم.
١٠٩٢٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: هو من بهيمة الأنعام.
١٠٩٢٦- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم ومؤمل قالا حدثنا سفيان، عن قابوس، عن أبيه قال: ذبحنا بقرة، فإذا في بطنها جنين، فسألنا ابن عباس فقال: هذه بهيمة الأنعام.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك، قول من قال: عنى
456
بقوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام"، الأنعام كلها: أجنَّتها وسِخَالها وكبارها. (١) لأن العرب لا تمتنع من تسمية جميع ذلك"بهيمة وبهائم"، ولم يخصص الله منها شيئًا دون شيء. فذلك على عمومه وظاهره، حتى تأتى حجة بخصوصه يجب التسليم لها.
* * *
وأما"النعم" فإنها عند العرب، اسم للإبل والبقر والغنم خاصة، كما قال جل ثناؤه: (وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)، [سورة النحل: ٥]، ثم قال: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) [سورة النحل: ٨]، ففصل جنس النعم من غيرها من أجناس الحيوان. (٢)
وأما"بهائمها"، فإنها أولادها. وإنما قلنا يلزم الكبار منها اسم"بهيمة"، كما يلزم الصغار، لأن معنى قول القائل:"بهيمة الأنعام"، نظير قوله:"ولد الأنعام". فلما كان لا يسقط معنى الولادة عنه بعد الكبر، فكذلك لا يسقط عنه اسم البهيمة بعد الكبر.
* * *
وقد قال قوم:"بهيمة الأنعام"، وحشيُّها، كالظباء وبقر الوحش والحُمُر. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذي عناه الله بقوله:"إلا ما يتلى عليكم". فقال بعضهم: عنى الله بذلك: أحلت لكم أولاد الإبل والبقر والغنم، إلا ما بيَّن الله لكم فيما يتلى عليكم بقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ)، الآية [سورة المائدة: ٣].
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩٢٧- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
(١) "السخال" جمع"سخلة" (بفتح فسكون) : وهي ولد الشاة من المعز والضأن، ذكرًا كان أو أنثى.
(٢) انظر تفسير"الأنعام" فيما سلف ٦: ٢٥٤.
(٣) هي مقالة الفراء في معاني القرآن ١: ٢٩٨.
457
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم"، إلا الميتة وما ذكر معها.
١٠٩٢٨- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم"، أي: من الميتة التي نهى الله عنها، وقدَّم فيها.
١٠٩٢٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"إلا ما يتلى عليكم"، قال: إلا الميتة وما لم يذكر اسم الله عليه.
١٠٩٣٠- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إلا ما يتلى عليكم"، الميتة والدم ولحم الخنزير.
١٠٩٣١- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم"، الميتة ولحم الخنزير.
١٠٩٣٢- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم"، هي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلَّ لغير الله به.
* * *
وقال آخرون: بل الذي استثنى الله بقوله:"إلا ما يتلى عليكم"، الخنزير.
ذكر من قال ذلك.
١٠٩٣٣- حدثني عبد الله بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"إلا ما يتلى عليكم"، قال: الخنزير.
١٠٩٣٤- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إلا ما يتلى عليكم"، يعني: الخنزير.
* * *
458
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويل من قال:"عنى بذلك: إلا ما يتلى عليكم من تحريم الله ما حرّم عليكم بقوله:"حرمت عليكم الميتة"، الآية. لأن الله عز وجل استثنى مما أباح لعباده من بهيمة الأنعام، ما حرَّم عليهم منها. والذي حرّم عليهم منها، ما بيّنه في قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ) [سورة المائدة: ٣]. وإن كان حرَّمه الله علينا، فليس من بهيمة الأنعام فيستثنى منها. فاستثناء ما حرَّم علينا مما دخل في جملة ما قبل الاستثناء، أشبهُ من استثناء ما حرَّم مما لم يدخل في جملة ما قبل الاستثناء.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" ="غير محلي الصيد وأنتم حرم" ="أحلت لكم بهيمة الأنعام" فذلك، على قولهم، من المؤخر الذي معناه التقديم. فـ"غير" منصوب = على قول قائلي هذه المقالة = على الحال مما في قوله:"أوفوا" من ذكر"الذين آمنوا".
وتأويل الكلام على مذهبهم: أوفوا، أيها المؤمنون، بعقود الله التي عقدها عليكم في كتابه، لا محلّين الصيد وأنتم حرم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أحلت لكم بهيمة الأنعام الوحشية من الظباء والبقر والحمر ="غير محلي الصيد"، غير مستحلِّي اصطيادها، وأنتم حرم إلا
459
ما يتلى عليكم". فـ"غير"، على قول هؤلاء، منصوب على الحال من"الكاف والميم" اللتين في قوله:"لكم"، بتأويل: أحلت لكم، أيها الذين آمنوا، بهيمة الأنعام، لا مستحلِّي اصطيادها في حال إحرامكم. (١)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها ="إلا ما يتلى عليكم"، إلا ما كان منها وحشيًّا، فإنه صيد، فلا يحل لكم وأنتم حرم. فكأن من قال ذلك، وجَّه الكلام إلى معنى: أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها ="إلا ما يتلى عليكم"، إلا ما يبين لكم من وحشيها، غيرَ مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم. فتكون"غير" منصوبة، على قولهم، على الحال من"الكاف والميم" في قوله:"إلا ما يتلى عليكم".
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩٣٥- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: جلسنا إلى مطرِّف بن الشخير، وعنده رجل، فحدّثهم فقال:"أحلت لكم بهيمة الأنعام" صيدًا ="غير محلي الصيد وأنتم حرم"، فهو عليكم حرام. يعني: بقر الوحش والظباءَ وأشباهه. (٢)
١٠٩٣٦- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم"، قال: الأنعام كلها حِلٌّ، إلا ما كان منها وحشيًّا، فإنه صيد، فلا يحل إذا كان مُحْرِمًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب = على ما تظاهر به تأويل
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٩٨.
(٢) انظر الإسناد السالف رقم: ١٠٨٩٧، وكان هناك عن"ابن أبي جعفر الرازي"، وهذا هو الإسناد الصحيح، صححت ذلك عليه. وسيأتي برقم: ١٠٩٥٧، ١٠٩٦٣.
460
أهل التأويل في قوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام"، من أنها الأنعام وأجنَّتها وسخالها، وعلى دلالة ظاهر التنزيل = قولُ من قال: معنى ذلك: أوفوا بالعقود، غيرَ محلي الصيد وأنتم حرم، فقد أحلت لكم بهيمة الأنعام في حال إحرامكم أو غيرها من أحوالكم، إلا ما يتلى عليكم تحريمه من الميتة منها والدم، وما أهل لغير الله به.
وذلك أن قوله:"إلا ما يتلى عليكم"، لو كان معناه:"إلا الصيد"، لقيل:"إلا ما يتلى عليكم من الصيد غير محليه". وفي ترك الله وَصْلَ قوله:"إلا ما يتلى عليكم" بما ذكرت، وإظهار ذكر الصيد في قوله:"غير محلي الصيد"، أوضحُ الدليل على أن قوله:"إلا ما يتلى عليكم"، خَبَرٌ متناهية قصته، وأن معنى قوله:"غير محلي الصيد"، منفصل منه.
وكذلك لو كان قوله: (أحلت لكم بهيمة الأنعام)، مقصودًا به قصد الوحش، لم يكن أيضًا لإعادة ذكر الصيد في قوله:"غير محلي الصيد" وَجْهٌ، وقد مضى ذكره قبل، ولقيل:"أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلِّيه وأنتم حرم". وفي إظهاره ذكر الصيد في قوله:"غير محلي الصيد"، أبينُ الدلالة على صحة ما قلنا في معنى ذلك.
* * *
فإن قال قائل: فإن العرب ربما أظهرت ذكر الشيء باسمه وقد جرى ذكره باسمه؟ قيل: ذلك من فعلها ضرورة شعر، وليس ذلك بالفصيح المستعمل من كلامهم. وتوجيه كلام الله إلى الأفصح من لغات من نزل كلامه بلغته، أولى = ما وُجد إلى ذلك سبيل = من صرفه إلى غير ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بعقود الله التي عقد عليكم مما حرّم وأحلّ، لا محلين الصيد في حرمكم، ففيما أحلَّ لكم من بهيمة الأنعام المذكَّاة دون ميتتها، متَّسع لكم ومستغنًى عن الصيد في حال إحرامكم.
* * *
461
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله يقضي في خلقه ما يشاء (١) من تحليل ما أراد تحليله، وتحريم ما أراد تحريمه، وإيجاب ما شاء إيجابه عليهم، وغير ذلك من أحكامه وقضاياه = فأوفوا، أيها المؤمنون، له بما عقدَ عليكم من تحليل ما أحل لكم وتحريم ما حرّم عليكم، وغير ذلك من عقوده، فلا تنكثوها ولا تنقضوها. كما:-
١٠٩٣٧- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن الله يحكم ما يريد"، إن الله يحكم ما أراد في خلقه، وبيّن لعباده، وفرض فرائضه، وحدَّ حدوده، وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قول الله:"لا تحلوا شعائر الله".
فقال بعضهم معناه: لا تحلوا حُرُمات الله، ولا تتعدَّوا حدوده = كأنهم وجهوا"الشعائر" إلى المعالم، وتأولوا"لا تحلوا شعائر الله"، معالم حدود الله، وأمرَه ونهيَه وفرائضَه.
[ذكر من قال ذلك] :(٢)
١٠٩٣٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، حدثنا حبيب المعلم، عن عطاء: أنه سئل عن"شعائر الله" فقال: حُرُمات الله، اجتناب سَخَطِ الله، واتباع طاعته، فذلك"شعائر الله".
* * *
(١) انظر تفسير"حكم" فيما سلف: ص ٣٢٤: تعليق: ٣.
(٢) ما بين القوسين زيادة ليست في المخطوطة ولا المطبوعة، وأثبتها على نهج أبي جعفر في تفسيره.
462
وقال آخرون: معنى ذلك: (١) لا تحلوا حَرَم الله = فكأنهم وجهوا معنى قوله:"شعائر الله"، أي: معالم حرم الله من البلاد.
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩٣٩- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله"، قال: أما"شعائر الله"، فحرَم الله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تحلّوا مناسك الحج فتضيعوها = وكأنهم وجَّهوا تأويل ذلك إلى: لا تحلوا معالم حدود الله التي حدَّها لكم في حجِّكم.
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩٤٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس قوله:"لا تحلوا شعائر الله"، قال: مناسك الحج.
١٠٩٤١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله"، قال: كان المشركون يحجّون البيت الحرام، ويهدُون الهدايا، ويعظِّمون حرمة المشاعر، ويتَّجرون في حجهم، فأراد المسلمون أن يُغَيِّروا عليهم، فقال الله عز وجل:"لا تحلوا شعائر الله".
١٠٩٤٢- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"شعائر الله"، الصفا والمروة، والهَدْي، والبُدْن، كل هذا من"شعائر الله".
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "معنى قوله"، وهو لا يستقيم، وما أثبت أشبه بالصواب.
463
١٠٩٤٣- حدثني المثنى قال، حدثني أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تحلوا ما حرَّم الله عليكم في حال إحرامكم.
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩٤٤- حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"لا تحلوا شعائر الله"، قال:"شعائر الله"، ما نهى الله عنه أن تصيبه وأنت محرِم.
* * *
= وكأن الذين قالوا هذه المقالة، وجَّهوا تأويل ذلك إلى: لا تحلوا معالم حدود الله التي حرّمها عليكم في إحرامكم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بقوله:"لا تحلوا شعائر الله"، قول عطاء الذي ذكرناه (١) من توجيهه معنى ذلك إلى: لا تحلوا حرمات الله ولا تضيعوا فرائضه.
* * *
لأن"الشعائر" جمع"شعيرة"،"والشعيرة""فعيلة" من قول القائل:"قد شعر فلان بهذا الأمر"، إذا علم به. فـ"الشعائر"، المعالم، من ذلك. (٢)
* * *
وإذا كان ذلك كذلك، كان معنى الكلام: لا تستحلوا، أيها الذين آمنوا، معالم الله = فيدخل في ذلك معالم الله كلها في مناسك الحج: من تحريم ما حرَّم الله إصابته فيها على المحرم، وتضييع ما نهى عن تضييعه فيها، وفيما حرَّم من استحلال حُرمات حَرَمه، وغير ذلك من حدوده وفرائضه، وحلاله وحرامه، لأن
(١) هو الأثر السالف رقم: ١٠٩٣٨.
(٢) انظر تفسير"شعائر الله" فيما سلف ٣: ٢٢٦-٢٢٨.
464
كل ذلك من معالمه وشعائره التي جعلها أماراتٍ بين الحق والباطل، يُعْلَم بها حلالُه وحرامه، وأمره ونهيه.
وإنما قلنا ذلك القول أولى بتأويل قوله تعالى:"لا تحلوا شعائر الله"، لأن الله نهى عن استحلال شعائره ومعالم حدوده وإحلالها نهيًا عامًّا، من غير اختصاص شيء من ذلك دون شيء، فلم يَجُز لأحد أن يوجِّه معنى ذلك إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها، ولا حجة بذلك كذلك.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولا الشهر الحرام"، ولا تستحلوا الشهر الحرام بقتالكم فيه أعداءَكم من المشركين (١) وهو كقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) [سورة البقرة: ٢١٧].
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن عباس وغيره.
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩٤٥- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولا الشهر الحرام"، يعني: لا تستحلوا قتالا فيه.
١٠٩٤٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كان المشرك يومئذ لا يُصَدُّ عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت.
* * *
(١) في المطبوعة: "بقتالكم به"، والصواب من المخطوطة.
465
وأما"الشهر الحرام" الذي عناه الله بقوله:"ولا الشهر الحرام"، فرجب مُضَر، وهو شهر كانت مضر تحرِّم فيه القتال.
* * *
وقد قيل: هو في هذا الموضع"ذو القعدة".
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩٤٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قال: هو ذو القعدة.
* * *
وقد بينا الدلالة على صحة ما قلنا في ذلك فيما مضى، وذلك في تأويل قوله:"يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه". (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ﴾
قال أبو جعفر:"أما الهدي"، فهو ما أهداه المرء من بعيرٍ أو بقرة أو شاة أو غير ذلك، إلى بيت الله، تقرُّبا به إلى الله، وطلبَ ثوابه. (٢)
* * *
يقول الله عز وجل: فلا تستحلوا ذلك، فتغصبوه أهله غَلَبةً (٣) ولا تحولوا بينهم وبين ما أهدوا من ذلك أن يبلُغوا به المحِلَّ الذي جعله الله جل وعزّ مَحِلَّه من كعبته.
(١) انظر ما سلف في"الشهر الحرام" ٤: ٢٢٩، ٣٠٠، وما بعدها، وهو الموضع الذي ذكره، ثم قبله ٣: ٥٧٥-٥٧٩. وتفسير"الشهر" فيما سلف ٣: ٤٤٠.
(٢) انظر تفسير"الهدي" فيما سلف ٤: ٢٤، ٢٥.
(٣) في المطبوعة: "فتغصبوا أهله عليه"، وفي المخطوطة كما كتبتها، إلا أن كتب"عليه" بالياء، ووضع فتحة على العين، وفتحة على اللام، وظاهر أن"الياء" إنما هي"باء"، وأن الناسخ لما رآها مضبوطة في النسخة الأم نقل الشكل، ووضع الإعجام من عند نفسه. هذا وصواب الكلام يقتضي أيضًا ما أثبت.
466
وقد روي عن ابن عباس أن"الهدي" إنما يكون هديًا ما لم يُقَلَّد.
١٠٩٤٨- حدثني بذلك محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولا الهدي"، قال: الهدي ما لم يقلَّد، وقد جعل على نفسه أن يهديه ويقلِّده.
* * *
وأما قوله:"ولا القلائد"، فإنه يعني: ولا تحلوا أيضًا القلائد.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في"القلائد" التي نهى الله عز وجل عن إحلالها.
فقال بعضهم: عنى بـ "القلائد"، قلائدَ الهدي. وقالوا: إنما أراد الله جل وعز بقوله:"ولا الهدي ولا القلائد"، ولا تحلوا الهدايا المقلَّدات منها وغير المقلَّدات. فقوله:"ولا الهدي"، ما لم يقلّد من الهدايا ="ولا القلائد"، المقلّد منها. قالوا: ودلّ بقوله:"ولا القلائد"، على معنى ما أراد من النهي عن استحلال الهدايا المقلّدة.
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩٤٩- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولا القلائد"، القلائد، مقلَّدات الهدي. وإذا قلَّد الرجل هديه فقد أحرم. فإن فعل ذلك وعليه قميصه، فليخلَعْه.
* * *
وقال آخرون: يعني بذلك: القلائد التي كان المشركون يتقلدونها إذا أرادوا الحج مقبلين إلى مكة، من لِحَاء السَّمُر (١) = وإذا خرجوا منها إلى منازلهم منصرفين منها، من الشَّعَر.
(١) "لحاء الشجرة" (بكسر اللام) : قشرها. و"السمر" (بفتح السين وضم الميم) : ضرب من الشجر، صغار الورق، قصار الشوك، وله برمة صفراء يأكلها الناس، وليس في العضاء شيء أجود خشبًا منه. ينقل إلى القرى، فتغمى به البيوت.
467
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩٥٠- حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام"، قال: كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج، تقلَّد من السَّمُر، فلم يعرض له أحد. فإذا رجع تقلَّد قِلادة شَعَر، فلم يعرض له أحد.
* * *
وقال آخرون: بل كان الرجل منهم يتقلّد = إذا أراد الخروج من الحرم، أو خرج = من لحاء شجر الحرم، فيأمن بذلك من سائر قبائل العرب أن يعرضوا له بسوء.
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩٥١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مالك بن مغول، عن عطاء:"ولا القلائد"، قال: كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم، يأمنون بذلك إذا خرجوا من الحرم، فنزلت:"لا تحلوا شعائر الله"، الآية،"ولا الهدي ولا القلائد".
١٠٩٥٢- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا القلائد"، قال:"القلائد"، اللحاء في رقاب الناس والبهائم، أمْنٌ لهم.
١٠٩٥٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٠٩٥٤- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قوله:"ولا الهدي ولا القلائد"، قال: إن العرب كانوا يتقلدون من لحاء شجر مكة، فيقيم الرجل بمكانه، حتى إذا انقضت الأشهر الحرم، فأراد أن يرجع إلى أهله، قلَّد نفسه وناقته من لحاء الشجر، فيأمن حتى يأتي أهله.
468
١٠٩٥٥- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "ولا القلائد"، قال:"القلائد"، كان الرجل يأخذ لحاء شجرة من شجر الحرم، فيتقلدها، ثم يذهب حيث شاء، فيأمن بذلك. فذلك"القلائد".
* * *
وقال آخرون: إنما نهى الله المؤمنين بقوله:"ولا القلائد"، أن ينزعوا شيئًا من شجر الحرم فيتقلّدوه، كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم.
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩٥٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء في قوله:"ولا الهدي ولا القلائد"، كان المشركون يأخذون من شجر مكة، من لحاء السَّمُر، فيتقلدونها، فيأمنون بها من الناس. فنهى الله أن ينزع شجرها فَيُتَقَلَّد.
١٠٩٥٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: جلسنا إلى مُطرِّف بن الشخير، وعنده رجل فحدّثهم في قوله:"ولا القلائد"، قال: كان المشركون يأخذون من شجر مكة، من لِحاء السمر، فيتقلدون، فيأمنون بها في الناس. فنهى الله عز ذكره أن يُنزع شجرها فيتقلَّد.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل قوله:"ولا القلائد" = إذ كانت معطوفة على أول الكلام، ولم يكن في الكلام ما يدلّ على انقطاعها عن أوله، ولا أنه عنى بها النهي عن التقلد أو اتخاذ القلائد من شيء = أن يكون معناه: ولا تُحِلّوا القلائد.
فإذا كان ذلك بتأويله أولى، فمعلوم أنه نَهْيٌ من الله جل ذكره عن استحلال حرمة المقلَّد، هديًا كان ذلك أو إنسانًا، دون حرمة القلادة. وإن الله عز ذكره، إنما دلّ بتحريمه حرمة القلادة، على ما ذكرنا من حرمة المقلَّد، فاجتزأ بذكره
469
"القلائد" من ذكر"المقلد"، إذ كان مفهومًا عند المخاطبين بذلك معنى ما أريد به.
* * *
فمعنى الآية = إذ كان الأمر على ما وصفنا =: يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله، ولا الشهر الحرام، ولا الهدي، ولا المقلِّد نفسَه بقلائد الحرم. (١)
* * *
وقد ذكر بعض الشعراء في شعره ما ذكرنا عمن تأوَّل"القلائد" أنها قلائد لحاء شجر الحرم الذي كان أهل الجاهلية يتقلَّدونه، فقال وهو يعيب رجلين قتلا رجلين كانا تقلَّدا ذلك: (٢)
أَلَمْ تَقْتُلا الْحِرْجَيْنِ إذْ أَعْوَراكُمَا يُمِرَّانِ بِالأيْدِي اللِّحَاءَ الْمُضَفَّرَا (٣)
و"الحرجان"، المقتولان كذلك. ومعنى قوله:"أعوراكما"، أمكناكما من عورتهما. (٤)
* * *
(١) في المطبوعة: "ولا المقلد بقسميه"، وهو لا معنى له، والصواب ما في المخطوطة. يعني: الذي يقلد نفسه قلادة من شجر أو شعر، ليأمن، كما ذكر آنفًا، وانظر الفقرة التالية.
(٢) القائل هو حذيفة بن أنس الهذلي.
(٣) أشعار الهذليين ٣: ١٩، والمعاني الكبير: ١١٢٠، واللسان (حرج). و"الحرج" (بكسر الحاء وسكون الراء) : الودعة، قالوا: عنى بالحرجين: رجلين أبيضين كالودعة، فإما أن يكون البياض لونهما، وإما أن يكون كنى بذلك عن شرفهما. وقال شارح ديوانه: "ويكون أيضًا الحرجان، رجلين يقال لهما: الحرجان". و"أمر الحبل يمره": فتله. و"اللحاء"، قشر الشجر. و"المضفر" الذي جدل ضفائر.
هذا وقد ذكر أبو جعفر أن الشعر في رجلين قتلا رجلين، وروى"ألم تقتلا"، والذي في المراجع"ألم تقتلوا"، وهو الذي يدل عليه سياق الشعر، فإن أوله قبل البيت:
ألا أبْلِغَا جُلَّ السَّوَارِي وَجابرًا وَأَبْلِغْ بَني ذِي السَّهْم عَنِّي وَيَعْمَرَا
وَقُولا لَهُمْ عَنِّي مَقَالَةَ شَاعِرٍ أَلَمّ بقَوْلٍ، لَمْ يُحَاوِلْ لِيَفْخَرَا
لَعَلَّكُمْ لَمَّا قَتَلْتُمْ ذَكَرْتُمُ وَلَنْ تَتْرُكُوا أَنْ تَقْتُلُوا، مَنْ تَعَمَّرَا
فالشعر كله بضمير الجمع. وسببه أن جندبًا، أخو البريق بن عياض اللحياني، قتل قيسًا وسالمًا ابني عامر بن عريب الكنانيين، وقتل سالم جندبًا، اختلفا ضربتين.
(٤) رواية أبي جعفر كما شرحها"أعوراكما"، ورواية الديوان"أعورا لكم"، وهي في سياق لمشعر، ورواية اللسان: "أعرضا لكم"، ويروي"عورا لكم" بتشديد الواو. هذا على أن هذه الرواية: "أعور" متعديًا، والذي كتب في اللغة"أعور لك الشيء فهو معور".
470
القول في تأويل قوله: ﴿وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ (١)
قال أبو جعفر: يعني بقوله عز ذكره:"ولا آمين البيت الحرام"، ولا تحلُّوا قاصدي البيت الحرام العامدية. (٢)
* * *
تقول منه:"أممت كذا"، إذا قصدته وعمدته، وبعضهم يقول:"يَمَمْته" (٣) كما قال الشاعر: (٤)
إنِّي كَذَاكَ إذَا مَا سَاءَنِي بَلَدٌ يَمَمْتُ صَدْرَ بَعِيرِي غَيْرَهُ بَلَدَا (٥)
* * *
"والبيت الحرام"، بيت الله الذي بمكة، وقد بينت فيما مضى لم قيل له"الحرام". (٦)
* * *
="يبتغون فضلا من ربهم"، يعني: يلتمسون أرباحًا في تجاراتهم من الله
(١) كان في المطبوعة والمخطوطة: "ولا آمين البيت الحرام"، ولم يأت بقية ما شرح من الآية في هذا الموضع. فزدت ما شرحه هنا. هذا على أنه سيعود إلى شرحه مرة أخرى في ص: ٤٧٩. وهذا غريب جدًا، لا أدري كيف وقع لأبي جعفر، فلعله نسي، أو أخذه ما يأخذه الناس من التعب عند هذا الموضع، ثم عاد إليه فلم يغير، ثم ابتدأ الكلام في تفسير بقية الآية، وترك ما مضى.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "ولا تحلوا قاصدين البيت"، وهو خطأ، كما يدل عليه السياق. والصواب ما أثبته.
(٣) انظر تفسير"أم يؤم" فيما سلف ٥: ٥٥٨/٨: ٤٠٧. وقوله: "يممته" ثلاثي، بفتح الياء والميم الأولى وسكون الثانية: مثل"ضربت".
(٤) لم أعرف قائله.
(٥) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٤٦.
(٦) انظر ما سلف ٣: ٤٤-٥١.
471
="ورضوانًا"، يقول: وأن يرضى الله عنهم بنسكهم.
* * *
وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في رجل من بني ربيعة يقال له:"الحُطَمُ".
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩٥٨- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أقبل الحُطم بن هند البكري، ثم أحد بني قيس بن ثعلبة (١) حتى أتى النبي ﷺ وحده، وخَلَّف خيله خارجة من المدينة. فدعاه، فقال: إلام تدعو؟ فأخبره = وقد كان النبي ﷺ قال لأصحابه: يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة، يتكلم بلسان شيطان! = فلما أخبره النبي ﷺ قال: انظر، ولعلّي أسلم (٢) ولي من أشاوره. فخرج من عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعَقِب غادرٍ! فمرَّ بسَرْح من سَرْح المدينة فساقه، فانطلق به وهو يرتجز (٣)
(١) "الحطم" لقب، واسمه: "شريح بن ضبيعة بن شرحبيل بن عمرو بن مرثد بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، من بكر بن وائل" (جمهرة الأنساب: ٣٠١)، وهذا"الحطم"، خرج في الردة، في السنة الحادية عشرة، فيمن تبعه من بكر بن وائل، ومن تأشب إليه من غير المرتدين ممن لم يزل كافرًا، فخرج بهم حتى نزل القطيف وهجر، واستغوى الخط، ومن فيها من الزط والسيابجة. وحاصر المسلمين حصارًا شديدًا. فتجمع المسلمون جميعًا إلى العلاء بن الحضرمي، وتجمع المشركون كلهم إلى الحطم. ثم بيتهم المسلمون وقتلوا الحطم ومن معه في خبر طويل (انظر تاريخ الطبري ٣: ٢٥٤-٢٦٠).
وقوله هنا: "الحطم بن هند"، أتى بذكر أمه من الشعر الآتي، واسم أبيه هو ما مر بك آنفًا، وهي: "هند بنت حسان بن عمرو بن مرثد" (رغبة الآمل ٤: ٧٥).
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "انظروا لعلي أسلم"، وليس بشيء، والصواب ما أثبت، ويؤيده كلامه الآتي في الخبر التالي.
(٣) اختلفوا في نسبة هذا الشعر اختلافًا كثيرًا، فنقل التبريزي في شرح الحماسة (١: ١٨٥) خبر رشيد بن رميض العنزي (بفتح العين، وسكون النون) من بني عنز بن وائل، بلا شك عندي في ذلك. قال التبريري: "قالها في غارة الحطم، وهو شريح بن شرحبيل بن عمرو بن مرثد، أغار على اليمن، فقتل وليعة بن معد يكرب، أخا قيس، وسبى بنت قيس بن معد يكرب، أخت الأشعث بن قيس، فبعث الأشعث يعرض عليه في فدائها، بكل قرن من قرونها (ضفائرها) مئة من الإبل. فلم يفعل الحطم، وماتت عنده عطشًا. (وانظر غير ذلك في الأغاني ١٤: ٤٤).
ونسبت أيضًا للأغلب العجلي، وللأخنس بن شهاب، ولجابر بن حني التغلبي. وانظر ذلك في تحقيق أستاذنا الراجكوتي، سمط اللآلئ: ٧٢٩. ولعل"الحطم" أنشده مدحًا لنفسه فيما فعل من سوق السرح.
472
قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ حُطَمْ... لَيْسَ بِرَاعِي إبِلٍ وَلا غَنَم... وَلا بِجَزَّارٍ على ظَهْرِ الوَضَمْ... بَاتُوا نِيَامًا وَابْنُ هِنْدٍ لَمْ يَنَمْ... بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلامٌ كَالزَّلَمْ... خَدَلَّجُ السَّاقَيْنِ مَمْسُوحُ القَدَمْ (١)
ثم أقبل من عام قابلٍ حاجًّا قد قلَّد وأهدى، فأراد رسول الله ﷺ أن يبعث إليه، فنزلت هذه الآية، حتى بلغ:"ولا آمين البيت الحرام". قال له ناس من أصحابه: يا رسول الله، خلِّ بيننا وبينه، فإنه صاحبنا! قال: إنه قد قلَّد! قالوا: إنما هو شيء كنا نصنعه في الجاهلية! فأبى عليهم، فنزلت هذه الآية.
١٠٩٥٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قال: قدم الحُطَم، أخو بني ضُبيعة بن ثعلبة البكري، المدينةَ في عِير له يحمل طعامًا، فباعه. ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم
(١) البيان والتبيين ٢: ٣٠٨، الأغاني ١٤: ٤٤، حماسة أبي تمام ١: ١٨٤، حماسة ابن الشجري: ٣٨، الكامل ١: ٢٢٤ (ونسبه للحطم في ص: ٢٢٧)، الخيل لابن الأعرابي ٨٦، واللسان (حطم) وغيرها، وقبل هذا الرجز: هذَا أوانُ الشَّدِّ، فَاشْتَدِّي زِيَمْ
و"زيم" اسم فرس. وقوله: "حطم" شديد الحطم، فقالوا: للسائق الذي لا يبقى شيئًا من السير والإسراع"حطم". و"الوضم" ما يوقي به اللحم عند تقطيعه من خشب أو غيره. و"الزلم" (بفتح الزاي واللام، أو بضم الزاي)، واحد"الأزلام"، وهي قداح الميسر. يعني: هو كالقدح في صلابته ونحافته وملاسته. و"خدلج الساقين": ممتلئ الساقين، وهذا غير حسن في الرجال، وإنما صواب روايته ما رواه ابن الأعرابي: مُهَفْهَفُ الْكَشْحَيْنِ خَفَّاقُ القَدَمْ
أي ضامر الخصر. و"خفاق القدم"، لأقدامه خفق متتابع على الأرض من سرعته وهو يحدو بالإبل. ورواية أبي جعفر"ممسوح القدم": أي ليس لباطن قدمه أخمص، فأسفل قدمه مستو أملس لين، ليس فيهما تكسر ولا شقاق. وقد جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مسيح القدمين".
473
فبايعه وأسلم. فلما ولى خارجًا، نظر إليه فقال لمن عنده: لقد دخل عليّ بوجهٍ فاجرٍ، وولّى بقفا غادرٍ! فلما قدم اليمامة ارتدَّ عن الإسلام، وخرج في عير له تحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة. فلما سمع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، تهيَّأ للخروج إليه نفر من المهاجرين والأنصار ليقتطعوه في عِيره، فأنزل الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله"، الآية، فانتهى القوم.
= قال ابن جريج قوله:"ولا آمين البيت الحرام"، قال: ينهى عن الحجاج أن تُقطع سبلهم. قال: وذلك أن الحطم قدِم على النبي ﷺ ليرتاد وينظر، فقال: إني داعية قوم (١) فاعرض عليّ ما تقول. قال له: أدعوك إلى الله أن تعبده ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت. قال الحطم: في أمرك هذا غلظة، أرجع إلى قومي فأذكر لهم ما ذكرت، فإن قبلوه أقبلتُ معهم، وإن أدبروا كنت معهم. قال له: ارجع. فلما خرج قال: لقد دخل عليّ بوجه كافرٍ، وخرج من عندي بعَقِبَى غادر، وما الرجل بمسلم! فمرَّ على سَرْح لأهل المدينة فانطلق به، فطلبه أصحابُ رسول الله ﷺ ففاتهم، وقدم اليمامة، وحضر الحج، فجهّز خارجًا، وكان عظيم التجارة، فاستأذنوا أن يتلقَّوه ويأخذوا ما معه، فأنزل الله عز وجل:"لا تحلّوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام".
١٠٩٦٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا آمين البيت الحرام" الآية، قال: هذا يوم الفتح، جاء ناسٌ يؤمُّون البيت من المشركين يُهِلُّون بعمرة، فقال المسلمون: يا رسول الله، إنما هؤلاء مشركون كمثل هؤلاء (٢) فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم. فنزل القرآن:"ولا آمين البيت الحرام".
١٠٩٦١- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
(١) في المطبوعة: "داعية قومي"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما سواء.
(٢) في المطبوعة: "فمثل هؤلاء"، وصواب قراءتها من المخطوطة، كما أثبت.
474
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ولا آمين البيت الحرام"، يقول: من توجَّه حاجًّا.
١٠٩٦٢- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"ولا آمين البيت الحرام"، يعني: الحاج. (١)
١٠٩٦٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: جلسنا إلى مطرِّف بن الشخّير وعنده رجل، فحدثهم فقال:"ولا آمين البيت الحرام"، قال: الذين يريدون البيت.
* * *
ثم اختلف أهل العلم فيما نسخ من هذه الآية، بعد إجماعهم على أن منها منسوخًا.
فقال بعضهم: نسخ جميعها.
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩٦٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن بيان، عن عامر، قال: لم ينسخ من المائدة إلا هذه الآية:"لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد".
١٠٩٦٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد:"يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله"، نسختها، (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)، [سورة التوبة: ٥].
١٠٩٦٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
(١) الأثر: ١٠٩٦٢-"عمرو بن عون بن أوس الواسطي"، مضت ترجمته برقم: ٥٤٣٥، ومضى في آثار أخرى كثيرة، رواية المثنى عنه، عن هشيم فيما سلف، مثل: ٣١٥٩، ٣٨٧٩. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "عمرو بن عوف"، وهو تحريف. وسيأتي على الصواب قريبًا برقم: ١٠٩٦٩.
475
الثوري، عن بيان، عن الشعبي قال، لم ينسخ من سورة المائدة غير هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله".
١٠٩٦٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام" الآية، قال: منسوخ. قال: كان المشرك يومئذ لا يُصَدُّ عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الأشهر الحُرم، ولا عند البيت، فنسخها قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ). (١)
١٠٩٦٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك:"لا تحلوا شعائر الله" إلى قوله:"ولا آمين البيت الحرام"، قال: نسختها"براءة": (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).
١٠٩٦٩- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن الضحاك، مثله.
١٠٩٧٠- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت:"لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد"، قال: هذا شيء نهي عنه، فترك كما هو. (٢)
١٠٩٧١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام"، قال: هذا كله منسوخ، نسخ هذا أمرُه بجهادهم كافة. (٣)
* * *
(١) الأثر: ١٠٩٦٧- هو تمام الأثر السالف رقم: ١٠٩٥٠ وسيأتي برقم: ١٠٩٧٦، خبرًا واحدًا، ورواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: ١١٥.
(٢) الأثر: ١٠٩٧٠-"جرير"، هو"جرير بن عبد الحميد الضبي"، مضى مرارًا. وكان في المطبوعة: "جويبر"، وهو خطأ فاحش، والصواب من المخطوطة.
(٣) يعني قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا المُشْرِكينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ [سورة التوبة: ٣٦]
476
وقال آخرون: الذي نسخ من هذه الآية قوله:"ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام".
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩٧٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال، قرأت على ابن أبي عروبة فقال: هكذا سمعته من قتادة: نسخ من"المائدة":"آمين البيت الحرام"، نسختها"براءة" قال الله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)، وقال: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) [سورة التوبة: ١٧]، وقال: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) [سورة التوبة: ٢٧]، وهو العام الذي حج فيه أبو بكر، فنادى فيه بالأذان. (١)
١٠٩٧٣- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله" الآية، قال: فنسخ منها:"آمين البيت الحرام"، نسختها"براءة"، فقال: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)، فذكر نحو حديث عبدة.
١٠٩٧٤- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: نزل في شأن الحُطم:"ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام"، ثم نسخه الله فقال: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) (٢) [سورة البقرة: ١٩١].
١٠٩٧٥- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن
(١) في المخطوطة: "فنادى عليه بالأذان" وفوق"عليه""فيه". ويعني بالأذان، قوله تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلَى الناسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ منَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾، [سورة التوبة: ٢].
(٢) انظر خبر"الحطم" فيما سلف رقم: ١٠٩٥٨، ١٠٩٥٩.
477
علي، عن ابن عباس قوله:"لا تحلوا شعائر الله" إلى قوله:"ولا آمين البيت"، [فكان المؤمنون والمشركون يحجون إلى البيت] جميعًا، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدًا أن يحجّ البيت أو يعرضوا له، من مؤمن أو كافر، ثم أنزل الله بعد هذا: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا)، وقال: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ)، وقال: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [سورة التوبة: ١٨]، فنفى المشركين من المسجد الحرام. (١)
١٠٩٧٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام"، الآية، قال: منسوخ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج، تقلَّد من السَّمُر فلم يعرض له أحد. وإذا رجع، تقلَّد قلادة شَعَرٍ فلم يعرض له أحد. وكان المشرك يومئذ لا يُصَدُّ عن البيت. وأمروا أن لا يقاتلوا في الأشهر الحُرُم، ولا عند البيت، فنسخها قوله:"فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ". (٢)
* * *
وقال آخرون: لم ينسخ من ذلك شيء، إلا القلائد التي كانت في الجاهلية يتقلَّدونها من لِحَاء الشجر.
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩٧٧- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام"، الآية، قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: هذا كله من عمل الجاهلية فِعله وإقامته، فحرَّم الله ذلك كله بالإسلام، إلا لحاء القلائد، فترك
(١) الأثر: ١٠٩٧٥- ما بين القوسين، زيادة من رواية أبي جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: ١١٥، حيث روى هذا الأثر بهذا الإسناد نفسه، والكلام بغيرها لا يستقيم.
(٢) الأثر: ١٠٩٧٦- هو ما جاء في الأثرين السالفين: ١٠٩٥٠، ١٠٩٦٧.
478
ذلك (١) ="ولا آمين البيت الحرام"، فحرم الله على كل أحد إخافتهم.
١٠٩٧٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، قول من قال: نسخ الله من هذه الآية قوله:"ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام"، لإجماع الجميع على أن الله قد أحلّ قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة كلها. وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قَلَّد عنقه أو ذراعيه لحاء جميع أشجار الحرم، لم يكن ذلك له أمانًا من القتل، إذا لم يكن تقدَّم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان = وقد بينا فيما مضى معنى"القلائد" في غير هذا الموضع. (٢)
وأما قوله:"ولا آمين البيت الحرام"، فإنه محتمل ظاهره: ولا تحلوا حُرْمة آمِّين البيت الحرام من أهل الشرك والإسلام، لعموم جميع من أمَّ البيت. وإذا احتمل ذلك، فكان أهل الشرك داخلين في جملتهم، فلا شك أن قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)، ناسخٌ له. لأنه غير جائز اجتماع الأمر بقتلهم وترك قتلهم في حال واحدة ووقت واحد. وفي إجماع الجميع على أن حكم الله في أهل الحرب من المشركين قتلُهم، أمُّوا البيت الحرام أو البيت المقدس، في أشهر الحرم وغيرها = ما يُعلم أن المنع من قتلهم إذا أموا البيت الحرام منسوخٌ. ومحتمل أيضًا: ولا آمين البيت الحرام من أهل الشرك.
وأكثر أهل التأويل على ذلك.
وإن كان عُني بذلك المشركون من أهل الحرب، فهو أيضًا لا شك منسوخ.
* * *
(١) يعني فجعلها الله إحلالها حرامًا في الإسلام إلا لحاء القلائد، فإنه قد نسخ.
(٢) انظر ما سلف ص: ٤٦٧-٤٧٠.
479
وإذْ كان ذلك كذلك = وكان لا اختلاف في ذلك بينهم ظاهر، وكان ما كان مستفيضًا فيهم ظاهرًا حجةً = فالواجب، وإن احتمل ذلك معنى غير الذي قالوا، التسليمُ لما استفاض بصحته نقلهم. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"يبتغون"، يطلبون ويلتمسون = و"الفضل" الأرباح في التجارة = و"الرضوان"، رضَى الله عنهم، فلا يحل بهم من العقوبة في الدنيا ما أحلَّ بغيرهم من الأمم في عاجل دنياهم، بحجّهم بيتَه. (٢)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩٧٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن قتادة في قوله:"يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا"، قال: هم المشركون، يلتمسون فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دُنياهم.
١٠٩٨٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال، قرأت على ابن أبي عروبة فقال: هكذا سمعته من قتادة في قوله:"يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا"، والفضل والرضوان اللذان يبتغون: أن يصلح معايشهم في الدنيا، وأن لا يعجَّل لهم العقوبة فيها.
(١) سياق هذه الفقرة: "وإذ كان ذلك كذلك، وكان لا اختلاف... فالواجب... التسليم لما استفاض بصحته نقلهم".
(٢) مضى تفسير هذه الآية ص: ٤٧١، ٤٧٢، كما أسلفت في التعليق: ١، ص: ٤٧١ وانظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف ٩: ٣١٩، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
وتفسير"الفضل" فيما سلف من فهارس اللغة.
وتفسير"الرضوان" فيما سلف ٦: ٢٦٢.
480
١٠٩٨١- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن ابن عباس:"يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا"، يعني: أنهم يترضَّون الله بحجهم.
١٠٩٨٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: جلسنا إلى مطرِّف بن الشِّخِّير، وعنده رجل فحدثهم في قوله:"يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا"، قال: التجارة في الحج، والرضوان في الحج.
١٠٩٨٣- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي أميمة قال، قال ابن عمر في الرجل يحج ويحمل معه متاعًا، قال: لا بأس به = وتلا هذه الآية:"يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا". (١)
١٠٩٨٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا"، قال: يبتغون الأجر والتجارة.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذا حللتم فاصطادوا الصيد الذي نهيتكم أن تُحِلُّوه وأنتم حرم. يقول: فلا حرج عليكم في اصطياده، واصطادوا إن شئتم حينئذ، لأن المعنى الذي من أجله كنت حرَّمته عليكم في حال إحرامكم قد زال.
* * *
(١) الأثر: ١٠٩٨٣-"أبو أميمة التيمي" وهو"أبو أمامة التيمي"، قال ابن معين: "ثقة، لا يعرف اسمه"، وقال البخاري في الكنى: "أبو أمامة، قال شعبة: أبو أميمة سمع ابن عمر. روى عنه العلاء، وشعبة. يقال اسمه: عمرو بن أسماء". مترجم في التهذيب، والكنى للبخاري: ٤، وابن أبي حاتم في باب"أبو أمامة"، و"أبو أميمة". ترجمتان ٤/٢/٣٣٠، ٣٣١.
481
وبما قلنا في ذلك قال جميع أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩٨٥- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا حصين، عن مجاهد أنه قال: هي رخصة = يعني قوله:"وإذا حللتم فاصطادوا".
١٠٩٨٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن القاسم، عن مجاهد قال: خمس في كتاب الله رخصة، وليست بعَزْمة، فذكر:"وإذا حللتم فاصطادوا"، قال: من شاء فعل، ومن شاء لم يفعل.
١٠٩٨٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن حجاج، عن عطاء، مثله.
١٠٩٨٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حصين، عن مجاهد:"وإذا حللتم فاصطادوا"، قال: إذا حلّ، فإن شاء صاد، وإن شاء لم يصطد.
١٠٩٨٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن ابن جريج، عن رجل، عن مجاهد: أنه كان لا يرى الأكل من هَدْي المتعة واجبًا، وكان يتأول هذه الآية:"وإذا حللتم فاصطادوا" = (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ) [سورة الجمعة: ١٠]. (١)
* * *
(١) يعني بقوله: "يتأول هذه الآية"، أي يفسرها كتفسير الآية الأخرى: فإذا قضيت الصلاة، فمن شاء خرج من المسجد، ومن شاء جلس، رخصة من الله.
482
القول في تأويل قوله: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولا يجرمنكم"، ولا يحملنكم، كما:-
١٠٩٩٠- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم"، يقول: لا يحملنكم شنآن قوم.
١٠٩٩١- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم"، أي: لا يحملنكم.
* * *
وأما أهل المعرفة باللغة فإنهم اختلفوا في تأويلها.
فقال بعض البصريين: معنى قوله:"ولا يجرمنكم"، لا يُحِقَّنَّ لكم، لأن قوله: (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) [سورة النحل: ٦٢]، هو: حقٌّ أن لهم النار. (١)
* * *
وقال بعض الكوفيين: معناه: لا يحملنَّكم. وقال: يقال:"جرمني فلان على أن صنعت كذا وكذا"، أي: حملني عليه.
* * *
واحتج جميعهم ببيت الشاعر: (٢)
وَلَقَدْ طَعَنْتَ أَبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً جَرَمَتْ فَزَارَةُ بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا (٣)
(١) هذه مقالة الأخفش، كما ذكر ذلك صاحب لسان العرب، مادة (جرم).
(٢) هو أبو أسماء بن الضّريبة. ويقال: هو لعطية بن عفيف، ونسبه سيبوبه للفزاري مجهلا.
(٣) سيبويه ١: ٤٦٩، مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٤٧، مشكل القرآن: ٤١٨، والفاخر: ٢٠٠، الجواليقي: ١٦٣، البطليوسي: ٣١٣، الخزانة ٤: ٣١٠، اللسان (جرم). وسبب الشعر أن كرزًا العقيلي، قتل أبا عيينة حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري يوم حاجر، فلما قتل كرز، قال الشاعر يرثيه ويخاطبه:"جبب الرجل تجبيبًا": إذا فر ومضى مسرعًا. وروى البكري في معجم ما استعجم أنه قال:
يَا كُرزُ، إنَّكَ قَدْ قُتِلْتَ بِفَارِسٍ بَطَلٍ إذَا هَابَ الكُمَاةُ وَجَبَّبُوا
يَا كُرْزُ إنَّكَ قد فَتَكْتَ بِفَارِسٍ بَطَلٍ إذَا هَابَ الكُمَاةُ مُجَرَّبِ
وكأنه شعر غير هذا الشعر.
483
فتأول ذلك كل فريق منهم على المعنى الذي تأوله من القرآن. فقال الذين قالوا:"لا يجرمنكم"، لا يُحِقَّن لكم = معنى قول الشاعر:"جرمت فزارة"، أحقَّت الطعنةُ لفزارة الغضبَ.
وقال الذين قالوا: معناه: لا يحملنكم = معناه في البيت:"جرمت فزارة أن يغضبوا"، حملت فزارة على أن يغضبوا.
* * *
وقال آخر من الكوفيين: معنى قوله:"لا يجرمنكم"، لا يكسبنكم شنآن قوم.
وتأويل قائل هذا القول قولَ الشاعر في البيت:"جرمت فزارة"، كسبت فزارة أن يغضبوا. قال: وسمعت العرب تقول:"فلان جريمة أهله"، بمعنى: كاسبهم ="وخرج يجرمهم"، يكسبهم. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي حكيناها عمن حكيناها عنه، متقاربة المعنى. وذلك أن من حمل رجلا على بغض رجل، فقد أكسبه بغضه. ومن أكسبه بغضه، فقد أحقَّه له.
فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أحسن في الإبانة عن معنى الحرف، ما قاله ابن عباس وقتادة، وذلك توجيههما معنى قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم"، ولا يحملنكم شنآن قومٍ على العدوان.
* * *
(١) قائل هذا هو الفراء في معاني القرآن ١: ٢٩٩.
484
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الأمصار: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) بفتح"الياء" من:"جَرَمْتُه أجْرِمُه".
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين (١) وهو يحيى بين وثّاب، والأعمش: ما:-
١٠٩٩٢- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن الأعمش أنه قرأ: (وَلا يُجْرِمَنَّكُمْ) مرتفعة"الياء"، من:"أجرمته أجرمه، وهو يُجْرِمني".
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب من القراءتين، قراءة من قرأ ذلك: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) بفتح"الياء"، لاستفاضة القراءة بذلك في قرأة الأمصار، وشذوذ ما خالفها، وأنها اللغة المعروفة السائرة في العرب، وإن كان مسموعًا من بعضها:"أجرم يُجْرم" على شذوذه. وقراءة القرآن بأفصح اللغات، أولى وأحق منها بغير ذلك. ومن لغة من قال"جَرَمْتُ"، قول الشاعر: (٢)
يَا أَيُّهَا المُشْتَكِي عُكْلا وَمَا جَرَمَتْ إلى القَبَائِلِ مِنْ قَتْلٍ، وإبْآسُ (٣)
* * *
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٩٩.
(٢) ينسب للفرزدق، وليس في ديوانه.
(٣) مجالس ثعلب: ٤٩، ٥٠، والأضداد لابن الأنباري: ٨٥، والبيت مرفوع القافية وبعد البيت:
إنّا كَذَاكَ، إذَا كانَتْ هَمَرَّجَةٌ نَسْبِي ونَقْتُلُ حَتَّى يُسْلِمَ النَّاسُ
"همرجة": اختلاط وفتنة. وروى ثعلب هذين البيتين. ثم قال، ولم يبين لمن كان هذا الخبر: "قلت له (يعني: للفرزدق) : لم قلت: من قتل، وإبآس؟ قال: كيف أصنع وقد قلت: حتى يسلم الناس؟ قال قلت: فيم رفعته؟ قال: بما يسوءك وينوءك! ".
ثم قال أبو العباس ثعلب: "وإنما رفعه، لأن الفعل لم يظهر بعده، كما تقول: ضربت زيدًا وعمرو = لم يظهر الفعل فرفعت، وكما تقول: ضربت زيدًا وعمرو مضروب".
485
القول في تأويل قوله: ﴿شَنَآنُ قَوْمٍ﴾
اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعضهم: (شَنَآنُ) بتحريك"الشين والنون" إلى الفتح، بمعنى: بغض قوم، توجيهًا منهم ذلك إلى المصدر الذي يأتي على"فَعَلان"، نظير"الطيران" و"النَّسَلان" و"العَسَلان" و"الرَّمَلان".
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (شَنْآنُ قَوْمٍ) بتسكين"النون" وفتح"الشين" بمعنى: الاسم، توجيهًا منهم معناه إلى: لا يحملنكم بَغِيض قوم (١) فيخرج"شَنْآن" على تقدير"فَعْلان"، لأن"فَعَل" منه على"فَعِلَ" (٢) كما يقال:"سكران" من"سكر"، و"عطشان" من"عطش"، وما أشبه ذلك من الأسماء.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى القراءتين في ذلك بالصواب، قراءة من قرأ: (شَنَآنُ قَومٍ) بفتح"النون" محركة، لشائع تأويل أهل التأويل على أن معناه: بغض قوم = وتوجيههم ذلك إلى معنى المصدر دون معنى الاسم.
وإذْ كان ذلك موجَّهًا إلى معنى المصدر، فالفصيح من كلام العرب فيما جاء من المصادر على"الفَعلان" بفتح"الفاء"، تحريك ثانيه دون تسكينه، كما وصفت من قولهم:"الدَّرَجَان" و"الرَّمَلان"، من"درج" و"رمل"، فكذلك"الشنآن" من"شنئته أشنَؤُه شنآنًا"، ومن العرب من يقول:"شَنَانٌ" على تقدير"فعال"، ولا أعلم قارئًا قرأ ذلك كذلك، ومن ذلك قول الشاعر: (٣)
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "بغض قوم"، والصواب ما أثبت، كما يدل عليه السياق.
(٢) قوله: "فعل" الأولى، يعني الفعل الماضي، أما الثانية، فهي الميزان الصرفي، على وزن"سكر" بكسر العين.
(٣) هو الأحوص بن محمد الأنصاري.
486
وَمَا العَيْشُ إلا مَا تَلَذُّ وتَشْتَهِي وَإنْ لامَ فِيهِ ذُو الشَّنَانِ وَفَنَّدَا (١)
وهذا في لغة من ترك الهمز من"الشنآن"، فصار على تقدير"فعال" وهو في الأصل"فَعَلان".
* * *
ذكر من قال من أهل التأويل:"شنآن قوم"، بغض قوم.
١٠٩٩٣- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم"، لا يحملنكم بغض قوم.
١٠٩٩٤- وحدثني به المثنى مرة أخرى بإسناده، عن ابن عباس فقال: لا يحملنكم عداوة قوم أن تعتدوا.
١٠٩٩٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا يجرمنكم شنآن قوم"، لا يجرمنكم بغض قوم.
١٠٩٩٦- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم"، قال: بغضاؤهم، أن تعتدوا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعض أهل المدينة وعامة قرأة الكوفيين: (أَنْ صَدُّوكُمْ) بفتح"الألف "
(١) طبقات فحول الشعراء: ٥٣٩، الأغاني ١٣: ١٥١-١٥٣، مصارع العشاق: ٦٢، ٧٥، والشعر والشعراء: ٥٠١، واللسان (شنأ)، وقلما يخلو منه كتاب بعد.
487
من"أن"، بمعنى: لا يجرمنكم بغض قوم بصدِّهم إياكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا.
* * *
وكان بعض قرأة الحجاز والبصرة يقرأ ذلك: (ولا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم)، بكسر"الألف" من"إن"، بمعنى: ولا يجرمنكم شنآن قوم إن هم أحدثوا لكم صدًّا عن المسجد الحرام أن تعتدوا = فزعموا أنها في قراءة ابن مسعود: (إن يصدوكم)، فقرأوا ذلك كذلك اعتبارًا بقراءته. (١)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أنهما قراءتان معروفتان مشهورتان في قرأة الأمصار، صحيح معنى كل واحدة منهما.
وذلك أن النبي ﷺ صُدَّ عن البيت هو وأصحابه يوم الحديبية، وأنزلت عليه"سورة المائدة" بعد ذلك، فمن قرأ (أَنْ صَدُّوكُمْ) بفتح"الألف" من"أن"، فمعناه: لا يحملنكم بغض قوم، أيها الناس، من أجل أن صدوكم يوم الحديبية عن المسجد الحرام، أن تعتدوا عليهم.
ومن قرأ: (إن صدوكم) بكسر"الألف"، فمعناه: لا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم عن المسجد الحرام إذا أردتم دخوله. لأن الذين حاربوا رسول الله ﷺ وأصحابه من قريش يوم فتح مكة، قد حاولوا صَدَّهم عن المسجد الحرام. فتقدم الله إلى المؤمنين = في قول من قرأ ذلك بكسر"إن" = بالنهي عن الاعتداء عليهم، إن هم صدوهم عن المسجد الحرام، قبل أن يكون ذلك من الصادِّين.
غير أن الأمر، وإن كان كما وصفت، فإن قراءة ذلك بفتح"الألف"، أبينُ معنى. لأن هذه السورة لا تَدَافُعَ بين أهل العلم في أنها نزلت بعد يوم الحديبية.
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٠٠.
488
وإذْ كان ذلك كذلك، فالصدُّ قد كان تقدم من المشركين، فنهى الله المؤمنين عن الاعتداء على الصادِّين من أجل صدِّهم إياهم عن المسجد الحرام. (١)
* * *
وأما قوله:"أن تعتدوا"، فإنه يعني: أن تجاوزوا الحدَّ الذي حدَّه الله لكم في أمرهم. (٢)
* * *
فتأويل الآية إذًا: ولا يحملنكم بغض قوم، لأن صدوكم عن المسجد الحرام، أيها المؤمنون، أن تعتدوا حكم الله فيهم، فتجاوزوه إلى ما نهاكم عنه، ولكن الزموا طاعة الله فيما أحببتم وكرهتم.
* * *
وذكر أنها نزلت في النهي عن الطلب بذُحول الجاهلية. (٣)
*ذكر من قال ذلك:
١٠٩٩٧- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"أن تعتدوا"، رجل مؤمن من حلفاء محمد، قتل حليفًا لأبي سفيان من هذيل يوم الفتح بعرفة، لأنه كان يقتل حلفاء محمد، فقال محمد صلى الله عليه وسلم: لعن الله من قتل بذَحْل الجاهلية.
١٠٩٩٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقال آخرون: هذا منسوخ
*ذكر من قال ذلك:
(١) انظر تفسير"الصد" فيما سلف ص: ٤١٠، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٣) "الذحول" جمع"ذحل" (بفتح فسكون) : وهو الثأر.
489
١٠٩٩٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم أن تعتدوا"، قال: بغضاؤهم، حتى تأتوا ما لا يحل لكم. وقرأ:"أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا"، وقال: هذا كله قد نسخ، نسخه الجهاد.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول مجاهد أنه غير منسوخ، لاحتماله: أن تعتدوا الحقَّ فيما أمرتكم به. وإذا احتمل ذلك، لم يجز أن يقال:"هو منسوخ"، إلا بحجة يجب التسليم لها.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وتعاونوا على البر والتقوى"، وليعن بعضكم، أيها المؤمنون، بعضًا ="على البر" =، وهو العمل بما أمر الله بالعمل به (١) ="والتقوى"، هو اتقاء ما أمر الله باتقائه واجتنابه من معاصيه. (٢)
* * *
وقوله:"ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"، يعني: ولا يعن بعضكم بعضًا ="على الإثم"، يعني: على ترك ما أمركم الله بفعله ="والعدوان"، يقول: ولا على أن تتجاوزوا ما حدَّ الله لكم في دينكم، وفرض لكم في أنفسكم وفي غيركم. (٣)
(١) انظر تفسير"البر" فيما سلف ٢: ٨/٣: ٣٣٦-٣٣٨، ٥٥٦/٤: ٤٢٥/٦: ٥٨٧.
(٢) انظر تفسير"التقوى" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (وقى).
(٣) انظر تفسير"الإثم" و"العدوان" فيما سلف من فهارس اللغة (أثم) (عدا).
490
وإنما معنى الكلام: ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، ولكن ليعن بعضكم بعضًا بالأمر بالانتهاء إلى ما حدَّه الله لكم في القوم الذين صدُّوكم عن المسجد الحرام وفي غيرهم، والانتهاء عما نهاكم الله أن تَأتوا فيهم وفي غيرهم، وفي سائر ما نهاكم عنه، ولا يعن بعضكم بعضًا على خلاف ذلك.
* * *
وبما قلنا في"البر والتقوى" قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١١٠٠٠- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"وتعاونوا على البر والتقوى"،"البر" ما أمرت به، و"التقوى" ما نهيت عنه.
١١٠٠١- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"وتعاونوا على البر والتقوى" قال:"البر" ما أمرت به، و"التقوى" ما نهيت عنه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا وعيد من الله جل ثناؤه وتهدُّدٌ لمن اعتدى حدّه وتجاوز أمره (١) يقول عز ذكره:"واتقوا الله"، يعني: واحذروا الله، أيها المؤمنون، أن تلقوه في معادكم وقد اعتديتم حدَّه فيما حدَّ لكم، وخالفتم أمره فيما أمركم به، أو نهيه فيما نهاكم عنه، فتستوجبوا عقابه، وتستحقوا أليم عذابه. ثم وصف عقابه بالشدة فقال عز ذكره: إن الله شديدٌ عقابه لمن عاقبه من خلقه، لأنها نار
(١) في المطبوعة: "وتهديد لمن اعتدى"، وأثبت ما في المخطوطة.
491
لا يطفأ حَرُّها، ولا يخمد جمرها، ولا يسكن لهبها، نعوذ بالله منها ومن عمل يقرِّبنا منها.
* * *
492
القول في تأويل قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: حرَّم الله عليكم، أيها المؤمنون، الميتة.
* * *
و"الميتة": كل ما له نفس سائلة من دواب البر وطيره، مما أباح الله أكلها، أهليَّها ووحشيَّها، فارقتها روحها بغير تذكية. (١)
وقد قال بعضهم:"الميتة"، هو كل ما فارقته الحياة من دوابِّ البر وطيره بغير تذكية، مما أحل الله أكله. (٢)
وقد بيّنا العلة الموجبة صحة القول بما قلنا في ذلك، في كتابنا (كتاب لطيف القول في الأحكام). (٣)
* * *
وأما"الدم"، فإنه الدم المسفوح، دون ما كان منه غير مسفوح، لأن الله جل ثناؤه قال: (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ) [سورة الأنعام: ١٤٥]، فأما ما كان قد صار في معنى اللحم، كالكبد والطحال، وما كان في اللحم غير
(١) "التذكية": الذبح.
(٢) انظر تفسير"الميتة" فيما سلف ٣: ٣١٨، ٣١٩.
(٣) مر اسم هذا الكتاب مرارًا، ومر في بعضها باسم"اللطيف في أحكام شرائع الإسلام"، ١: ١٠٩، وكان هنا في المخطوطة والمطبوعة: "كتاب اللطيف القول في الأحكام"، وهو غير مستقيم.
492
منسفح، فإن ذلك غير حرام، لإجماع الجميع على ذلك.
* * *
وأما قوله:"ولحم الخنزير"، فإنه يعني: وحُرِّم عليكم لحم الخنزير، أهليُّه وبَرِّيّه.
فالميتة والدم مخرجهما في الظاهر مخرج عموم، والمراد منهما الخصوص. وأما لحم الخنزير، فإن ظاهره كباطنه، وباطنه كظاهره، حرام جميعه، لم يخصص منه شيء.
* * *
وأما قوله:"وما أهلَّ لغير الله به"، فإنه يعني: وما ذكر عليه غير اسم الله.
* * *
وأصله من"استهلال الصبي"، وذلك إذا صاح حين يسقط من بطن أمه. ومنه"إهلال المحرم بالحج"، إذا لبّى به (١) ومنه قول ابن أحمر:
يُهلُّ بالفَرْقَدِ رُكْبَانُهَا كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ المُعْتَمِرْ (٢)
* * *
وإنما عنى بقوله:"وما أهل لغير الله به"، وما ذبح للآلهة وللأوثان، يسمى عليه غير اسم الله. (٣)
* * *
(١) انظر تفسير"الإهلال" فيما سلف ٣: ٣١٩، ٣٢٠.
(٢) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٥٠، الجمهرة ٢: ٣٨٧، اللسان (عمر) (هلل). يصف مفازة لا يهتدي فيها. و"المعتمر"، المعتم بعمامة. و"الفرقد"، أراد"الفرقدان"، وهما كوكبان من بنات نعش الصغرى، أو هما نجمان في السماء لا يغربان، ولكنهما يطوفان بالجدي.
وفي شرح البيت قولان. قال الأصمعي: "إذا انجلى لهم السحاب عن الفرقد، أهلوا، أي: رفعوا أصواتهم بالتكبير، كما يهل الراكب الذي يريد عمرة الحج، لأنهم كانوا يهتدون بالفرقد".
وقال غيره: "يريد أنهم في مفازة بعيدة من المياه، فإذا رأوا فرقدًا = وهو ولد البقرة الوحشية = أهلوا، أي: كبروا، لأنهم قد علموا أنهم قد قربوا من الماء".
قلت: والعرب تتخذ"الفرقدين" دليلا في الاهتداء بهما، لأنهما لا يطلبان في وقت من الليل إلا وجدا، قال الراعي:
لا يَتَّخِذْنَ إذَا عَلَوْنَ مَفَازةً إلا بَيَاضَ الفَرْقَدَينِ دَليلا
(٣) انظر ما سلف ٣: ٣٢١.
493
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وقد ذكرنا الرواية عمن قال ذلك فيما مضى، فكرهنا إعادته. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في صفة"الانخناق" الذي عنى الله جل ثناؤه بقوله:"والمنخنقة".
فقال بعضهم بما:-
١١٠٠٢- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والمنخنقة"، قال: التي تدخل رأسها بين شُعْبتين من شجرة، فتختنق فتموت.
١١٠٠٢م- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك في المنخنقة، قال: التي تختنق فتموت.
١١٠٠٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن قتادة في قوله:"والمنخنقة"، التي تموت في خِنَاقها. (٢)
* * *
وقال آخرون: هي التي توثق فيقتلها بالخناق وَثَاقها.
*ذكر من قال ذلك:
١١٠٠٤- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"والمنخنقة"، قال: الشاة توثق، فيقتلها خِنَاقها، فهي حرام.
* * *
(١) انظر الآثار السالفة من رقم: ٢٤٦٨- ٢٤٧٧.
(٢) "الخناق" (بكسر الخاء) : الحبل الذي يخنق به، وأراد الحبل الذي ربطت فيه من عند عنقها.
494
وقال آخرون: بل هي البهيمة من النَّعم، كان المشركون يخنقونها حتى تموت، فحرَّم الله أكلها.
*ذكر من قال ذلك:
١١٠٠٥- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"والمنخنقة" التي تُخنق فتموت. (١)
١١٠٠٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والمنخنقة"، كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة، حتى إذا ماتت أكلوها. (٢)
* * *
وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال:"هي التي تختنق، إما في وثاقها، وإما بإدخال رأسها في الموضع الذي لا تقدر على التخلص منه، فتختنق حتى تموت".
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك من غيره، لأن"المنخنقة"، هي الموصوفة بالانخناق، دون خنق غيرها لها، ولو كان معنيًّا بذلك أنها مفعول بها، لقيل:"والمخنوقة"، حتى يكون معنى الكلام ما قالوا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"والموقوذة"، والميتة وقيذًا.
* * *
يقال منه:"وقَذَهُ يَقِذُه وقْذًا"، إذا ضربه حتى أشرف على الهلاك، ومنه قول الفرزدق:
(١) في المطبوعة: "تختنق فتموت"، وهو خطأ صرف مفسد لاستدلال الطبري، والصواب من المخطوطة.
(٢) الأثر: ١١٠٠٦-"بشر بن معاذ"، مضى، ومضى إسناده هذا مئات من المرات، أقربه رقم: ١٠٩٩٥، ولكن كان في المخطوطة والمطبوعة هنا: "حدثنا أنس قال، حدثنا يزيد" وهو خطأ صرف.
495
شَغَّارَةٍ تَقِذُ الفَصِيلَ بِرِجْلِهَا فَطَّارَةٍ لِقَوَادِمِ الأبْكَارِ (١)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١١٠٠٧- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"والموقوذة"، قال: الموقوذة، التي تضرب بالخشب حتى توقَذَ بها فتموت. (٢)
١١٠٠٨- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والموقوذة"، كان أهل الجاهلية يضربونها بالعِصيّ، حتى إذا ماتت أكلوها.
١١٠٠٩- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا روح قال، حدثنا شعبة، عن قتادة في قوله:"والموقوذة"، قال: كانوا يضربونها حتى يقذوها، ثم يأكلونها.
(١) ديوانه: ٤٥٢، النقائض: ٣٣٢، من هجائه جريرًا، قبله:
كَمْ خَالَةٍ لَكَ، يا جَرِيرُ، وعَمّةٍ فَدْعَاءَ قَدْ حَلَبَتْ عَلَى عِشَارِي
كُنَّا نُحَاذِرُ أَنْ تُضِيعَ لِقَاحَنَا وَلَهًا، إذَا سَمِعَتْ دُعاءَ يَسَارِ
يقول: عماته وخالاته رعاة أجلاف، واستجاد لهن شر الصفات، فزعمها"فدعاء"، أي في الرسغ من أقدامها ميل وعوج، من المهنة في العمل منذ ولدت. وزعم أنهن كن عنده يحلبن"عشاره"، وهي النوق الحديثة العهد بالولادة، وأنفس الإبل عند أهلها إذا كانت عشارًا، وهي"اللقاح" أيضًا.
و"يسار" اسم راع من عبيدة. يقول: إذا سمعت صوت يسار ساورها الشبق إليه، فطاش عقلها ولهًا وصبابة، فكانوا يخافون أن تهمل اللقاح حتى تهلك وتضيع.
ثم وصفها بالغلظة، بأقبح وصف، فزعم أنها إذا قامت تحلب الناقة، ثم دنا الفصيل من أمه، شغرت برجلها = رفعتها، كما يرفع الكلب رجله وهو يبول إلى خلف = فضربته ضربة يشرف بها على الهلاك، كأن ساقها رمح أو هراوة.
وأما قوله: "فطارة لقوادم الأبكار"، فالأبكار جمع"بكر"، وهي الناقة التي ولدت بطنًا واحدًا، فأخلافها صغار قصار، لا يستمكن الحالب أن يحلبها ضبًا، وهو الحلب بالكف كلها، بل تحلب فطرًا، أي بالسبابة والوسطى، ويستعان بطرف الإبهام. و"القوادم" من النوق، لكل ناقة"قادمان"، وهما خلفا الضرع المقدمان.
(٢) في المطبوعة: "حتى تقذها فتموت"، وفي المخطوطة: "حتى توقذها فتموت"، وصواب قراءتها ما أثبت. وقوله: "بها" أي بالخشبة، وانظر الآثار التالية، فهي دالة على صواب هذه القراءة.
496
١١٠١٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"والموقوذة"، التي توقذ فتموت.
١١٠١١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك قال:"الموقوذة"، التي تضرب حتى تموت.
١١٠١٢- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والموقوذة"، قال: هي التي تضرب فتموت.
١١٠١٣- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سلمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"والموقوذة"، كانت الشاة أو غيرها من الأنعام تضرب بالخشب لآلهتهم، حتى يقتلوها فيأكلوها.
١١٠١٤- حدثنا العباس بن الوليد قال، أخبرني عقبة بن علقمة، حدثني إبراهيم بن أبي عبلة. قال، حدثني نعيم بن سلامة، عن أبي عبد الله الصنابحي قال: ليست"الموقوذة" إلا في مالك، وليس في الصيد وقيذ. (١)
* * *
(١) الأثر: ١١٠١٤-"العباس بن الوليد بن مزيد الآملي"، شيخ الطبري، مضى برقم: ٨٩١.
و"عقبة بن علقمة بن حديج المعافري"، من أصحاب الأوزاعي، كان خيارًا ثقة. مترجم في التهذيب.
و"إبراهيم بن أبي عبلة بن شمر، بن يقظان الرملي". روى عنه مالك، والليث، وابن المبارك. ثقة. قال ضمرة بن ربيعة: "ما رأيت أفصح منه"، وكان يقول الشعر الحسن. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ١/١/٣١٠.
و"نعيم بن سلامة الأزدي"، ويقال: "نعيم بن سلامان". كان على خاتم سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز. لم يذكروا فيه جرحًا. مترجم في الكبير ٤/٢/٩٨، وابن أبي حاتم ٤/١/٤٦٢، وتعجيل المنفعة: ٤٢٣.
و"أبو عبد الله الصنابحي"، هو: "عبد الرحمن بن عسيلة بن عسل بن عسال المرادي". رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجده قد مات قبله بخمس ليال أو ست. كان ثقة قليل الحديث. أخرج الطبراني من طريق ابن محيريز قال: "عدنا عبادة بن الصامت، فأقبل أبو عبد الله الصنابحي، فقال عبادة: من سره أن ينظر إلى رجل عرج به إلى السماء، فنظر إلى أهل الجنة وأهل النار، فرجع وهو يعمل على ما رأى، فلينظر إلى هذا".
497
القول في تأويل قوله: ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وحرمت عليكم الميتة تردِّيًا من جبل أو في بئر، أو غير ذلك.
* * *
و"تردِّيها"، رميُها بنفسها من مكان عالٍ مشرف إلى سُفْله.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١١٠١٥- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"والمتردية"، قال: التي تتردَّى من الجبل.
١١٠١٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والمتردية"، كانت تتردى في البئر فتموت، فيأكلونها.
١١٠١٧- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والمتردية"، قال: التي تردَّت في البئر.
١١٠١٨- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"والمتردية"، قال: هي التي تَرَدَّى من الجبل، أو في البئر، فتموت.
١١٠١٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر،
498
عن الضحاك:"والمتردية"، التي تردَّى من الجبل فتموت.
١١٠٢٠- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"والمتردية"، قال: التي تَخِرُّ في ركيٍّ، أو من رأس جبل، فتموت. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"النطيحة"، الشاة التي تنطحها أخرى فتموت من النطاح بغير تذكية. فحرم الله جل ثناؤه ذلك على المؤمنين، إن لم يدركوا ذكاته قبل موته.
* * *
وأصل"النطيحة"،"المنطوحة"، صرفت من"مفعولة" إلى"فعيلة".
* * *
فإن قال قائل: وكيف أثبتت"الهاء" هاء التأنيث فيها، وأنت تعلم أن العرب لا تكاد تثبت"الهاء" في نظائرها إذا صرفوها صرف"النطيحة" من"مفعول" إلى"فعيل"، إنما تقول:"لحية دهين" و"عين كحيل" و"كف خضيب"، ولا يقولون: كف خضيبة، ولا عين كحيلة؟ (٢)
قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك.
فقال بعض نحويي البصرة: أثبتت فيها"الهاء" = أعني في"النطيحة" = لأنها جعلت كالاسم مثل:"الطويلة" و"الطريقة".
فكأن قائل هذا القول، وجه"النطيحة" إلى معنى"الناطحة".
(١) "الركي": البئر.
(٢) انظر ما سلف ٢: ٣٢٨، ٤٠١/٦: ٤١٤، ومواضع أخرى غابت عني.
499
فتأويل الكلام على مذهبه: وحرمت عليكم الميتة نطاحًا، كأنه عنى: وحرمت عليكم الناطحة التي تموت من نِطاحها.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: إنما تحذف العرب"الهاء" من"الفعيلة" المصروفة عن"المفعول"، إذا جعلتها صفة لاسم قد تقدَّمها، فتقول:"رأينا كفًّا خضيبًا، وعينًا كحيلا"، فأما إذا حذفت"الكف" و"العين" والاسم الذي يكون"فعيل" نعتًا لها، واجتزأوا بـ "فعيل" منها، أثبتوا فيه هاء التأنيث، ليعلم بثبوتها فيه أنها صفة للمؤنث دون المذكر، فتقول:"رأينا كحيلةً وخضيبة" و"أكيلة السبع". قالوا: ولذلك أدخلت"الهاء" في"النطيحة"، لأنها صفة المؤنث، ولو أسقطت منها لم يُدْرَ أهي صفة مؤنث أو مذكر.
* * *
وهذا القول هو أولى القولين في ذلك بالصواب، لشائع أقوال أهل التأويل (١) بأن معنى:"النطيحة"، المنطوحة.
*ذكر من قال ذلك:
١١٠٢١- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن أبي عباس قوله:"والنطيحة"، قال: الشاة تنطح الشاة.
١١٠٢٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن قيس، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال: كان يقرأ: (وَالمَنْطُوحَةُ).
١١٠٢٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك:"والنطيحة"، الشاتان ينتطحان فيموتان.
١١٠٢٤- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والنطيحة"، هي التي تنطحها الغنم والبقر فتموت.
(١) في المطبوعة: "بالصواب الشائع من أقوال أهل التأويل"، وهو عبث وتغيير فاسد، والصواب من المخطوطة. وانظر شبيهة هذه العبارة فيما سلف ص: ٤٨٦ سطر: ١١، "لشائع تأويل أهل التأويل"، وهذا التعبير، هو الثاني فيما مر عليّ من تفسير أبي جعفر فيما سلف.
500
يقول: هذا حرام، لأن ناسًا من العرب كانوا يأكلونه. (١)
١١٠٢٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والنطيحة"، كان الكبشان ينتطحان، فيموت أحدهما، فيأكلونه.
١١٠٢٦- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والنطيحة"، الكبشان ينتطحان، فيقتل أحدهما الآخر، فيأكلونه.
١١٠٢٧- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك، يقول في قوله:"والنطيحة"، قال: الشاة تنطح الشاة فتموت.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وما أكل السبع"، وحرّم عليكم ما أكل السبع غير المعَلَّم من الصوائد.
* * *
وكذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١١٠٢٨- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وما أكل السبع"، يقول: ما أخذ السبع.
١١٠٢٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك:"وما أكل السبع"، يقول: ما أخذ السبع.
١١٠٣٠- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(١) الأثر: ١١٠٢٤- يأتي بتمامه برقم: ١١٠٤٧.
501
"وما أكل السبع"، قال: كان أهل الجاهلية إذا قتل السبع شيئًا من هذا أو أكل منه، أكلوا ما بقي.
١١٠٣١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن قيس، عن عطاء بن السائب، عن أبي الربيع، عن ابن عباس أنه قرأ: (وأكيل السبع).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إلا ما ذكَّيتم"، إلا ما طهرتموه بالذبح الذي جعله الله طهورًا.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيما استثنى الله بقوله:"إلا ما ذكيتم".
فقال بعضهم: استثنى من جميع ما سمى الله تحريمه من قوله:"وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع".
*ذكر من قال ذلك:
١١٠٣٢- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"إلا ما ذكيتم"، يقول: ما أدركتَ ذكاته من هذا كله، يتحرّك له ذنب، أو تطرِف له عين، فاذبح واذكر اسم الله عليه، فهو حلال.
١١٠٣٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن الحسن:"حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم"، قال الحسن: أيَّ هذا
502
أدركتَ ذكاته فذكِّه وكُلْ. فقلت: يا أبا سعيد، كيف أعرف؟ قال: إذا طرَفت بعينها، أو ضربت بذَنبها.
١١٠٣٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إلا ما ذكيتم"، قال: فكلُّ هذا الذي سماه الله عز وجل ههنا، ما خلا لحم الخنزير، إذا أدركتَ منه عينًا تطرف، أو ذنبًا يتحرك، أو قائمة تركض (١) فذكّيته، فقد أحلّ الله لك ذلك.
١١٠٣٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"إلا ما ذكيتم"، من هذا كله. فإذا وجدتها تطرف عينها، أو تحرك أذنها من هذا كله، فهي لك حلال.
١١٠٣٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني هشيم وعباد قالا أخبرنا حجاج، عن حصين، عن الشعبي، عن الحارث، عن علي قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة، وهي تحرك يدًا أو رجلا فكلها.
١١٠٣٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا معمر، عن إبراهيم قال: إذا أكل السبع من الصيد، أو الوقيذة أو النطيحة أو المتردية، فأدركت ذكاته، فكُل.
١١٠٣٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن سلام التميمي قال، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب قال: إذا ركضت برجلها، أو طرفت بعينها، وحركت ذنبها، فقد أجزأ. (٢)
(١) "الركض": حركة الرجل واضطرابها، أو الضرب بها. و"ارتكض الشيء": إذا اضطرب.
(٢) الأثر: ١١٠٣٨-"مصعب بن سلام التميمي" مضت ترجمته برقم: ٥٣٨٢.
و"جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب"، هو"جعفر الصادق"، مضت ترجمته برقم: ٢٠٠٣.
و"أبوه": "محمد بن علي بن الحسين"، وهو"محمد الباقر" مضى برقم: ٥١٢٣، ٥٤٦٣.
503
١١٠٣٩- حدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني ابن طاوس، عن أبيه قال: إذ ذبحت فَمَصَعَت بذنبها، أو تحركت، فقد حلَّت لك = أو قال: فَحَسْبه. (١)
١١٠٤٠- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن حميد، عن الحسن قال: إذا كانت الموقوذة تطرف ببصرها، أو تركض برجلها، أو تمصَع بذنبها، فاذبح وكُل.
١١٠٤١- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن قتادة، بمثله.
١١٠٤٢- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، أنه سمع عبيد بن عمير يقول: إذا طرفت بعينها، أو مصعت بذنبها، أو تحركت، فقد حلَّت لك.
١١٠٤٣- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: كان أهل الجاهلية يأكلون هذا، فحرَّم الله في الإسلام إلا ما ذُكِّي منه، فما أُدرك فتحرّك منه رجل أو ذنب أو طَرف، فذكِّي، فهو حلال.
١١٠٤٤- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير"، وقوله:"والمنخنقة والموقوذة والمتردِّية والنطيحة"، الآية"وما أكل السبع إلا ما ذكيتم"، قال: هذا كله محرّم، إلا ما ذكيّ من هذا.
* * *
فتأويل الآية على قول هؤلاء: حرمت الموقوذة والمتردِّية، إن ماتت من التردِّي والوقذ والنطح وفَرْس السبع، إلا أن تدركوا ذكاتها، فتدركوها قبل موتها، فتكون حينئذ حلالا أكلُها.
* * *
(١) "مصعت بذنبها": حركته وضربت به. وكان في المطبوعة: "أو قال: فحسب"، والصواب من المخطوطة، أي: ذلك حسبه وكافيه ومجزئه، يعني من أراد أكلها.
504
وقال آخرون: هو استثناء من التحريم، وليس باستثناء من المحرَّمات التي ذكرها الله تعالى في قوله:"حرمت عليكم الميتة"، لأن الميتة لا ذكاة لها، ولا للخنزير. قالوا: وإنما معنى الآية: حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما سمينا مع ذلك، إلا ما ذكيتم مما أحلَّه الله لكم بالتذكية، فإنه لكم حلال. وممن قال ذلك جماعة من أهل المدينة.
ذكر بعض من قال ذلك:
١١٠٤٥- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال مالك، وسئل عن الشاة التي يخرِق جوفها السبع حتى تخرجَ أمعاؤها، فقال مالك: لا أرى أن تذكَّى، ولا يؤكل أي شيء يذكَّى منها.
١١٠٤٦- حدثني يونس، عن أشهب قال: سئل مالك عن السبع يَعْدُو على الكبش فيدقُّ ظهره، أترى أن يذكَّى قبل أن يموت فيؤكل؟ قال: إن كان بلغ السَّحْر (١) فلا أرى أن يؤكل. وإن كان إنما أصاب أطرافه، فلا أرى بذلك بأسًا. قيل له: وثب عليه فدقَّ ظهره؟ قال: لا يعجبني أن يؤكل، هذا لا يعيش منه. قيل له: فالذئب يعدو على الشاة فيشق بطنها ولا يشق الأمعاء؟ قال: إذا شق بطنها، فلا أرى أن تؤكل.
* * *
وعلى هذا القول يجب أن يكون قوله:"إلا ما ذكيتم"، استثناء منقطعًا.
= فيكون تأويل الآية: حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما ذكرنا، ولكن ما ذكيتم من الحيوانات التي أحللتها لكم بالتذكية حلال.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب، القول الأول، وهو أن قوله:"إلا ما ذكيتم" استثناء من قوله:"وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع"، لأن كل ذلك مستحق الصفة التي
(١) "السحر" (بفتح فسكون) : هو الرئة، أو ما التزق بالحلقوم والمريء من أعلى البطن.
505
هو بها قبل حال موته (١) فيقال لما قرَّب المشركون لآلهتهم فسموه لهم:"هو ما أهل لغير الله به"، بمعنى سمى قربانًا لغير الله. وكذلك"المنخنقة"، إذا انخنقت وإن لم تمت، فهي منخنقة. وكذلك سائر ما حرمه الله جل وعز بعد قوله:"وما أهل لغير الله به"، إلا بالتذكية، فإنه يوصف بالصفة التي هو بها قبل موته، فحرمه الله على عباده إلا بالتذكية المحللة، دون الموت بالسبب الذي كان به موصوفًا. فإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: وحرم عليكم ما أهل لغير الله به والمنخنقة وكذا وكذا وكذا، إلا ما ذكيتم من ذلك.
فـ"ما" = إذ كان ذلك تأويله = في موضع نصب بالاستثناء مما قبلها. وقد يجوز فيه الرفع.
وإذ كان الأمر على ما وصفنا، فكل ما أدركت ذكاتُه من طائر أو بهيمة قبل خروج نفسه، ومفارقة روحه جسدَه، فحلال أكله، إذا كان مما أحلَّه الله لعباده.
* * *
فإن قال لنا قائل: فإذ كان ذلك معناه عندك، فما وجه تكريره ما كرّر بقوله:"وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية"، وسائر ما عدَّد تحريمه في هذه الآية، وقد افتتح الآية بقوله:"حرمت عليكم الميتة"؟ وقد علمت أن قوله:"حرمت عليكم الميتة"، شامل كل ميتة، كان موته حتف أنفه من علة به من غير جناية أحد عليه، أو كان موته من ضرب ضاربٍ إياه، أو انخناق منه، أو انتطاح، أو فَرْس سبع؟ وهلا كان قوله = إن كان الأمر على ما وصفت في ذلك، من أنه معنيٌّ بالتحريم في كل ذلك: الميتة بالانخناق والنطاح والوقذ وأكل السبع أو غير ذلك، دون أن يكون معنيًّا به تحريمه إذا تردّى أو انخنق أو فرسه السبع، فبلغ ذلك منه ما يعلم أنه لا يعيش مما أصابه منه إلا باليسير من الحياة (٢)
(١) في المخطوطة: "موتها"، وهما سواء.
(٢) سياق هذه العبارة المطولة: "وهلا كان قوله..: حرمت عليكم الميتة، مغنيًا من تكرير ما كرر.. وتعداده ما عدد"، وما بينهما فصل وضعته بين خطين.
506
"حرمت عليكم الميتة"، مغنيًا من تكرير ما كرر بقوله:"وما أهل لغير الله به والمنخنقة"، وسائر ما ذكر مع ذلك، وتَعْدادِه ما عدَّد؟
قيل: وجه تكراره ذلك = وإن كان تحريم ذلك إذا مات من الأسباب التي هو بها موصوف، وقد تقدم بقوله:"حرمت عليكم الميتة" = أن الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا لا يعدُّون"الميتة" من الحيوان، إلا ما مات من علة عارضة به غير الانخناق والتردِّي والانتطاح وفرس السبع. فأعلمهم الله أن حكم ذلك، حكم ما مات من العلل العارضة = وأن العلة الموجبة تحريم الميتة، ليست موتها من علة مرض أو أذى كان بها قبل هلاكها، ولكن العلة في ذلك أنها لم يذبحها من أجل ذبيحته بالمعنى الذي أحلها به (١) كالذي:-
١١٠٤٧- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم"، يقول: هذا حرام، لأن ناسًا من العرب كانوا يأكلونه ولا يعدّونه ميتًا، إنما يعدون الميت الذي يموت من الوجع. فحرمه الله عليهم، إلا ما ذكروا اسم الله عليه، وأدركوا ذكاته وفيه الروح. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وما ذبح على النصب"، وحرم عليكم أيضًا الذي ذبح على النُّصُب.
فـ"ما" في قوله:"وما ذبح"، رفْعٌ، عطفًا على"ما" التي في قوله:"وما أكل السبع".
(١) في المطبوعة: "من أحل ذبيحته"، والصواب ما في المخطوطة، وهي فيها منقوطة. ويعني: من أجل أن تكون ذبيحة له ياكلها.
(٢) الأثر: ١١٠٤٧- هو تمام الأثر السالف رقم: ١١٠٢٤.
507
و"النصب"، الأوثان من الحجارة، جماعة أنصاب كانت تجمع في الموضع من الأرض، فكان المشركون يقرِّبون لها، وليست بأصنام.
وكان ابن جريج يقول في صفته ما:-
١١٠٤٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"النصب" ليست بأصنام،"الصنم" يصوَّر وينقش، وهذه حجارة تنصب، ثلثمئة وستون حجرًا (١) منهم من يقول ثلثمئة منها لخزاعة (٢) = فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت (٣) وشرَّحوا اللحم وجعلوه على الحجارة. (٤) فقال المسلمون: يا رسول الله، كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم، فنحن أحقُّ أن نعظمه! فكأن النبي ﷺ لم يكره ذلك، فأنزل الله: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا) [سورة الحج: ٣٧].
* * *
ومما يحقق قول ابن جريج في أن"الأنصاب" غير"الأصنام"، ما:-
١١٠٤٩- حدثنا به ابن وكيع قال: حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وما ذبح على النصب"، قال: حجارة كان يذبح عليها أهل الجاهلية.
١١٠٥٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"النصب"، قال: حجارة حول الكعبة، يذبح عليها أهل الجاهلية، ويبدِّلونها إذا شاؤوا بحجارة أعجب إليهم منها.
(١) قوله: "ثلثمئة وستون حجرًا"، يعني عدة الأنصاب التي كانت حول الكعبة، انظر ابن سعد ٢/١/٩٨: "وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحول الكعبة ثلثمئة وستون صنما"، ولكن هذه أصنام لا أنصاب كما ترى.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "بخزاعة" بالباء، والصواب ما أثبت.
(٣) "نضح الدم أو الماء": رشه به.
(٤) "شرح اللحم"، وهو أن يقطع بضعة من اللحم ويرققها، حتى تشف من رقتها. و"الشريحة": القطعة المرققة منه كذلك.
508
١١٠٥١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١١٠٥٢- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وما ذبح على النصب"، و"النصب": حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها، ويذبحون لها، فنهى الله عن ذلك.
١١٠٥٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وما ذبح على النصب"، يعني: أنصابَ الجاهلية.
١١٠٥٤- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وما ذبح على النصب"، و"النصب"، أنصاب كانوا يذبحون ويُهِلُّون عليها.
١١٠٥٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قوله:"وما ذبح على النصب"، قال: كان حول الكعبة حجارة كان يَذبح عليها أهل الجاهلية، ويبدِّلونها إذا شاؤوا بحجر هو أحبّ إليهم منها.
١١٠٥٦- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول:"الأنصاب"، حجارة كانوا يهلّون لها، ويذبحون عليها.
١١٠٥٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وما ذبح على النُّصب"، قال:"ما ذبح على النصب" و"ما أهل لغير الله به"، وهو واحد. (١)
* * *
(١) في المطبوعة: "هو واحد"، بغير واو، والذي في المخطوطة أجود.
509
القول في تأويل قوله: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"وأن تستقسموا بالأزلام"، وأن تطلبوا علم ما قُسِم لكم أو لم يقسم، بالأزلام.
* * *
وهو"استفعلت" من"القَسْم" قَسْم الرزق والحاجات. وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا أراد سفرًا أو غزوًا أو نحو ذلك، أَجال القداح = وهي"الأزلام" وكانت قِداحًا مكتوبًا على بعضها:"نهاني ربّي"، وعلى بعضها:"أمرني ربّي" = فإن خرج القدح الذي هو مكتوب عليه:"أمرني ربي"، مضى لما أراد من سفر أو غزو أو تزويج وغير ذلك. وإن خرج الذي عليه مكتوب:"نهاني ربي"، كفّ عن المضي لذلك وأمسك، فقيل:"وأن تستقسموا بالأزلام"، لأنهم بفعلهم ذلك كانوا كأنهم يسألون أزلامهم أن يَقْسِمن لهم، ومنه قول الشاعر مفتخرًا بترك الاستقسام بها: (١)
وَلَمْ أَقْسِمْ فَتَرْبُثَنِي القُسُومُ (٢)
* * *
وأما"الأزلام"، فإن واحدها"زَلَم"، ويقال:"زُلَم"، وهي القداح التي وصفنا أمرها. (٣)
* * *
(١) أعياني أن أعرف قائله، وهو شبيه بكلام أمية بن أبي الصلت، وليس في ديوانه.
(٢) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٥٢، وقوله"لم أقسم"، من"قسمت أمري أقسمه قسما"، أي: قدرته ونظرت، وميلت فيه أن أفعله أو لا أفعله. وقالوا: "تركت فلانًا يقتسم، وتركته يستقسم": أي يفكر ويروي بين أمرين. وكذلك فعل من يستقسم بالأزلام، فاستعمل"أقسم" بمعنى"الاستقسام بالأزلام" في هذا البيت. و"القسوم" جمع"قسم" (بكسر القاف وسكون السين) : الحظ، وجمعه"أقسام"، ولكنه جمع على"قسوم"، كجمع"حلم" على"حلوم" و"أحلام".
(٣) "زلم" (بفتحتين) و"زلم" (بضم الزاي وفتح اللام).
510
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١١٠٥٨- حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال: القداح، كانوا إذا أرادوا أن يخرجوا في سفر جعلوا قداحًا للجلوس والخروج. فإن وقع الخروج خرجوا، وإن وقع الجلوس جلسوا.
١١٠٥٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال: حصًى بيضٌ كانوا يضربون بها.
= قال أبو جعفر: قال لنا سفيان بن وكيع: هو الشطرنج. (١)
١١٠٦٠- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عباد بن راشد البزّار، عن الحسن في قوله:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال: كانوا إذا أرادوا أمرًا أو سفرًا، يعمَدون إلى قداح ثلاثة، على واحد منها مكتوب:"أؤمرني"، وعلى الآخر:"انهني"، ويتركون الآخر محلَّلا بينهما ليس عليه شيء. ثم يجيلونها، فإن خرج الذي عليه"أؤمرني" مضوا لأمرهم. وإن خرج الذي عليه"انهني" كفُّوا، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها. (٢)
١١٠٦١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وأن تستقسموا بالأزلام"، حجارة كانوا يكتبون عليها، يسمونها"القِداح".
(١) هذا قول في غاية الغرابة!! كأنه كان يجهل ما الشطرنج = أو كأنه كان يرى أنهم يفعلون ذلك بقطع الشطرنج، دون أن يكون هذا الفعل هو اللعب بالشطرنج.
(٢) الأثر: ١١٠٦٠-"عباد بن راشد التميمي البزار"، ابن أخت داود بن أبي هند. روى عن ثابت البناني، والحسن البصري، وداود بن أبي هند، وقتادة. روى عنه هشيم، وعبد الرزاق، وأبو عامر العقدي، وغيرهم. ذكره البخاري في الضعفاء، وروى له مقرونًا بغيره، متكلم فيه. مترجم في التهذيب.
511
١١٠٦٢- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"بالأزلام"، قال: القداح، يضربون لكل سفر وغزوٍ وتجارة.
١١٠٦٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١١٠٦٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن زهير، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال: كِعابُ فارس التي يقمُرون بها، وسهام العرب.
١١٠٦٥- حدثني أحمد بن حازم الغفاري قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا زهير، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال: سهام العرب، وكعاب فارس والروم، كانوا يتقامرون بها.
١١٠٦٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال: كان الرجل إذا أراد أن يخرج مسافرًا، كتب في قدح:"هذا يأمرني بالمكث" و"هذا يأمرني بالخروج"، وجعل معهما منيحة. (١) شيء لم يكتب فيه شيئًا، ثم استقسم بها حين يريد أن يخرج. فإن خرج الذي يأمر بالمكث مكث، وإن خرج الذي يأمر بالخروج خرج، وإن خرج الآخر أجالها ثانية حتى يخرج أحد القِدْحين.
١١٠٦٧- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وأن تستقسموا بالأزلام"، وكان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم خروجًا، أخذ
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "معها"، والصواب التثنية. وفي المطبوعة: "منيحًا"، وهو صواب في المعنى. ولكني أثبت ما في المخطوطة. وذلك أن"المنيح" -كما في المطبوعة- هو القدح المستعار من قداح الميسر، وهو الغفل الذي لا نصيب له، إلا أن يمنح صاحبه شيئًا، فيستعار ويتيمن به. وأما "المنيحة"، فهي الناقة أو الشاة المعارة أيضًا، فنظر إلى معنى المستعار فسمى هذا الشيء الذي لا أمر له في الاستقسام"منيحة"، كما سموا شبيهه في الميسر"منيحًا" وهو المستعار.
512
قدحًا فقال:"هذا يأمر بالخروج"، فإن خرج فهو مصيب في سفره خيرًا، ويأخذ قِدحًا آخر فيقول:"هذا يأمر بالمكوث"، فليس يصيب في سفره خيرًا، و"المنيح" بينهما. فنهى الله عن ذلك وقدَّم فيه.
١١٠٦٨- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال: كانوا يستقسمون بها في الأمور.
١١٠٦٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"الأزلام"، قداح لهم. كان أحدهم إذا أراد شيئًا من تلك الأمور كتب في تلك القداح ما أراد، فيضرب بها، فأي قدح خرج = وإن كان أبغض تلك = ارتكبه وعمل به.
١١٠٧٠- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال:"الأزلام"، قداح كانت في الجاهلية عند الكهنة، فإذا أراد الرجل أن يسافر، أو يتزوج، أو يحدث أمرًا، أتى الكاهن فأعطاه شيئًا، فضرب له بها. فإن خرج منها شيء يعجبه، أمره ففعل. وإن خرج منها شيء يكرهه، نهاه فانتهى، كما ضرب عبد المطلب على زمزم، وعلى عبد الله والإبل. (١)
١١٠٧١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: سمعنا أنّ أهل الجاهلية كانوا يضربون بالقداح في الظَّعْن والإقامة أو الشيء يريدونه، فيخرج سهم الظعن فيظعنون، والإقامة فيقيمون.
* * *
وقال ابن إسحاق في"الأزلام"، ما:-
١١٠٧٢- حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال:
(١) انظر خبر عبد المطلب وعبد الله في سيرة ابن هشام ١: ١٦٠-١٦٤.
513
كانت هُبَل أعظم أصنام قريش بمكة، وكانت على بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك البئْر هي التي يجمع فيها ما يُهدي للكعبة. وكانت عند هبل سبعة أقْدُح (١) كل قِدْح منها فيه كتاب. قدح فيه:"العقل" (٢) إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم، ضربوا بالقداح السبعة، [فإن خرج العقل، فعلى من خرج حمله] (٣) وقدح فيه:"نعم" للأمر إذا أرادوه، يضرب به، فإن خرج قدح"نعم" عملوا به. وقدح فيه:"لا"، فإذا أرادوا أمرًا ضربوا به في القداح، فإذا خرج ذلك القدح، لم يفعلوا ذلك الأمر. وقِدْح فيه:"منكم". وقدح فيه:"مُلْصَق". (٤) وقدح فيه:"من غيركم". وقدح فيه:"المياه"، إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح، فحيثما خرج عملوا به. وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلامًا (٥) أو أن ينكحوا مَنكحًا، أو أن يدفنوا ميتًا، أو شكوا في نسب واحد منهم (٦) ذهبوا به إلى هبل وبمئة درهم، وبجَزور، فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها، ثم قرّبوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا:"يا إلهنا، هذا فلان بن فلان، قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه". ثم يقولون لصاحب القداح:"اضرب"، فيضرب، فإن -[خرج عليه"منكم" كان وسيطًا. وإن] خرج عليه:"من غيركم"، كان حليفًا (٧) وإن خرج"ملصق" كان على منزلته منهم، لا نسب له ولا حلف، وإن خرج فيه شيء سوى هذا مما يعملون به"نعم"، عملوا به. وإن خرج"لا"، أخّروه عامهم ذلك حتى يأتوا به مرة أخرى. ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح. (٨)
١١٠٧٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"وأن تستقسموا بالأزلام"، يعني: القداح، كانوا يستقسمون بها في الأمور.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ذلكم"، هذه الأمور التي ذكرها، وذلك: أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وسائر ما ذكر في هذه الآية مما حرم أكله، والاستقسام بالأزلام، ="فسق"، يعني: خروج عن أمر الله عز ذكره وطاعته، إلى ما نهى عنه وزجر، إلى معصيته. (٩) كما:-
١١٠٧٤- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"ذلكم فسق"، يعني: من أكل من ذلك كله فهو فسق.
* * *
(١) في المطبوعة: "أقداح"، وأثبت ما في المخطوطة، وجمع"قدح": أقداح، وقداح، وأقدح، كله صواب.
(٢) "العقل" الدية.
(٣) هذه الزيادة بين القوسين من ابن هشام، ولا بد من زيادتها لتمام الكلام.
(٤) في المخطوطة: "يلصق"، وفوقها"كذا"، أي هو كذلك في التي نسخ عنها، والصواب ما في المطبوعة، وسيرة ابن هشام.
(٥) في المطبوعة: "أن يجتبوا غلامًا"، وهو لا معنى له، والمخطوطة غير منقوطة، والصواب، في سيرة ابن هشام، كما أثبتها.
(٦) في المطبوعة: "أو يشكوا" مضارعًا، وأثبت ما في سيرة ابن هشام.
(٧) ما بين القوسين زيادة من ابن هشام، وهي السياق بغير شك. و"الوسيط": هو الخالص النسب، الشريف في قومه.
(٨) الأثر: ١١٠٧٢- سيرة ابن هشام ١: ١٦٠، ١٦١.
(٩) انظر تفسير"الفسق" فيما سلف ١: ٤٠٩، ٤١٠/٢: ١١٨، ٣٩٩/٤: ١٣٥-١٣٧/٦: ٩١، ٩٢/٧: ١٠٧.
وفي المطبوعة: "وزجر، وإلى معصيته" بزيادة الواو، وكلتاهما صواب.
514
القول في تأويل قوله: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"، الآن انقطع طمع الأحزاب وأهل الكفر والجحود، أيها المؤمنون، ="من دينكم"، يقول: من دينكم أن تتركوه فترتدُّوا عنه راجعين إلى الشرك، كما:-
١١٠٧٥- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"، يعني: أن ترجعوا إلى دينهم أبدًا.
١١٠٧٦- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"، قال: أظنُّ، يئسوا أن ترجعوا عن دينكم. (١)
* * *
فإن قال قائل: وأيُّ يوم هذا اليوم الذي أخبرَ الله أن الذين كفروا يئسوا فيه من دين المؤمنين؟
قيل: ذكر أن ذلك كان يوم عرفة، عام حج النبي ﷺ حجة الوداع، وذلك بعد دخول العرب في الإسلام.
*ذكر من قال ذلك:
١١٠٧٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال مجاهد:"اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"،"اليوم أكملت لكم دينكم"، هذا حين فعلت. قال ابن جريج: وقال آخرون (٢) ذلك يوم
(١) أنا في شك من قوله: "أظن" هنا، وهي في المخطوطة غير منقوطة.
(٢) قوله: "وقال آخرون" هو من قول ابن جريج فيما أرجح، ولذلك جعلته في الخبر.
516
عرفة، في يوم جمعة، لما نظر النبي ﷺ فلم ير إلا موحِّدًا، ولم ير مشركًا، حمد الله، فنزل عليه جبريل عليه السلام:"اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"، أن يعودوا كما كانوا.
١١٠٧٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"، قال: هذا يوم عرفة.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَلا تَخْشَوْهُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك: فلا تخشوا، أيها المؤمنون، هؤلاء الذين قد يئسوا من دينكم أن ترجعوا عنه من الكفار، ولا تخافوهم أن يظهروا عليكم، فيقهروكم ويردُّوكم عن دينكم ="واخشون"، يقول: ولكن خافونِ، إن أنتم خالفتم أمري واجترأتم على معصيتي، وتعدَّيتم حدودي، أن أُحِلَّ بكم عقابي، وأنزل بكم عذابي. (١) كما:-
١١٠٧٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"فلا تخشوهم واخشون"، فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: يعني جل ثناؤه بقوله:"اليوم أكملت لكم دينكم"، اليوم
(١) انظر تفسير"الخشية" فيما سلف ١: ٥٥٩، ٥٦٠/٢: ٢٣٩، ٢٤٣/٨: ٥٤٨.
517
أكملت لكم، أيها المؤمنون، فرائضي عليكم وحدودي، وأمري إياكم ونهيي، وحلالي وحرامي، وتنزيلي من ذلك ما أنزلت منه في كتابي، وتبياني ما بيَّنت لكم منه بوحيي على لسان رسولي، والأدلة التي نصبتُها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم، فأتممت لكم جميع ذلك، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم. قالوا: وكان ذلك في يوم عرفة، عام حجَّ النبي ﷺ حجة الوَدَاع. وقالوا: لم ينزل على النبي ﷺ بعد هذه الآية شيء من الفرائض، ولا تحليل شيء ولا تحريمه، وأن النبي ﷺ لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة.
*ذكر من قال ذلك:
١١٠٨٠- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"اليوم أكملت لكم دينكم"، وهو الإسلام. قال: أخبر الله نبيَّه ﷺ والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدًا، وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبدًا، وقد رضيه الله فلا يَسْخَطه أبدًا.
١١٠٨١- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"اليوم أكملت لكم دينكم"، هذا نزل يوم عرفة، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام. ورجع رسول الله ﷺ فمات. فقالت أسماء بنت عُمَيس: حججت مع رسول الله ﷺ تلك الحجة، فبينما نحن نسير، إذ تجلّى له جبريل ﷺ على الرَّاحلة، فلم تطق الراحلة من ثِقْل ما عليها من القرآن، فبركت، فأتيته فسجَّيت عليه برداء كان علي. (١)
١١٠٨٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
(١) "سجاه بالثوب تسجية": غطاه به.
518
ابن جريج قال: مكث النبي ﷺ بعد ما نزلت هذه الآية، إحدى وثمانين ليلة، قوله:"اليوم أكملت لكم دينكم".
١١٠٨٣- حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن فضيل، عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: لما نزلت:"اليوم أكملت لكم دينكم"، وذلك يوم الحج الأكبر، بكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذ كمل، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص! فقال: صدقت. (١)
١١٠٨٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أحمد بن بشير، عن هارون بن أبي وكيع، عن أبيه، فذكر نحو ذلك. (٢)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"اليوم أكملت لكم دينكم"، حجكم، فأفردتم بالبلد الحرام تحُجُّونه، أنتم أيها المؤمنون، دون المشركين، لا يخالطكم في حَجِّكم مشرك.
*ذكر من قال ذلك:
١١٠٨٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن أبي غَنِيَّة، عن أبيه، عن الحكم:"اليوم أكملت لكم دينكم"، قال: أكمل لهم دينهم: أن حجوا ولم يحجَّ معهم مشرك. (٣)
(١) إنما عنى بنقصان الدين، أهل الدين، فإنهم إذا تطاول عليهم الأمد، قست قلوبهم، وقل تمسك بعضهم بما أمر به. ومعاذ الله أن يعني عمر، نقصان الدين نفسه. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم"بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء".
(٢) الأثر: ١١٠٨٤-"أحمد بن بشير الكوفي"، مضى برقم: ٧٨١٩.
و"هرون بن أبي وكيع"، هو: "هرون بن عنترة بن عبد الرحمن" الماضي في الأثر قبله، ومضت ترجمته برقم: ٤٠٥.
وأبوه: "عنترة بن عبد الرحمن" وكنيته"أبو وكيع"، مضى أيضًا برقم: ٤٠٥.
(٣) الأثر: ١١٠٨٥-"يحيى بن أبي غنية" هو: "يحيى بن عبد الملك بن حميد بن أبي غنية"، مضى برقم: ١٠٥٩٧، وهو هذا الإسناد نفسه.
وأبوه"عبد الملك بن حميد بن أبي غنية"، مضى أيضا برقم: ٨٥٣٥، ١٠٥٩٧.
و"الحكم" هو"الحكم بن عتيبة" مضى مرارًا.
وكان في المخطوطة والمطبوعة: "يحيى بن أبي عتيبة"، وهو تصحيف.
519
١١٠٨٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"اليوم أكملت لكم دينكم"، قال: أخلص الله لهم دينهم، ونفى المشركين عن البيت.
١١٠٨٧- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا قيس، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"اليوم أكملت لكم دينكم"، قال: تمام الحج، ونفي المشركين عن البيت.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: إن الله عز وجل أخبر نبيه ﷺ والمؤمنين به، أنه أكمل لهم = يوم أنزل هذه الآية على نبيه = دينَهم، بإفرادهم بالبلدَ الحرام (١) وإجلائه عنه المشركين، حتى حجَّه المسلمون دونهم لا يخالطهم المشركون.
فأما الفرائض والأحكام، فإنه قد اختلف فيها: هل كانت أكملت ذلك اليوم، أم لا؟ فروي عن ابن عباس والسدّي ما ذكرنا عنهما قبل. (٢)
وروي عن البراء بن عازب أن آخر آية نزلت من القرآن: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [سورة النساء: ١٧٦]. (٣)
= ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله ﷺ إلى أن
(١) في المطبوعة: "بإفرادهم بالبلد الحرام" بالباء، وهو الذي تقوله كتب اللغة، وأما الذي في المخطوطة، وهو ما أثبته. فله وجه صحيح في العربية، فيما أرى، فتركته على حاله. وظني أني قرأته كذلك متعديًا في بعض كتب أبي جعفر أو غيره، فإن عثرت عليه أثبته إن شاء الله.
(٢) يعني ما سلف رقم: ١١٠٨٠، ١١٠٨١.
(٣) انظر ما سلف رقم: ١٠٨٧٠- ١٠٨٧٣.
520
قُبِض، بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعًا. فإذ كان ذلك كذلك = وكان قوله: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) آخرَها نزولا وكان ذلك من الأحكام والفرائض = كان معلومًا أن معنى قوله:"اليوم أكملت لكم دينكم"، على خلاف الوجه الذي تأوَّله من تأوَّله = أعني: كمال العبادات والأحكام والفرائض.
فإن قال قائل: فما جعل قولَ من قال:"قد نزل بعد ذلك فرض"، أولى من قول من قال:"لم ينزل"؟
قيل: لأن الذي قال:"لم ينزل"، مخبر أنه لا يعلم نزول فرض، والنفي لا يكون شهادة، والشهادة قول من قال:"نزل". وغير جائز دفع خبر الصادق فيما أمكن أن يكون فيه صادقًا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وأتممت نعمتي، أيها المؤمنون، بإظهاركم على عدوِّي وعدوكم من المشركين، ونفيِي إياهم عن بلادكم، وقطعي طمعهم من رجوعكم وعودكم إلى ما كنتم عليه من الشرك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١١٠٨٨- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: كان المشركون والمسلمون يحجُّون جميعًا، فلما نزلت"براءة"، فنفى المشركين عن البيت، وحجَّ المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام
521
أحد من المشركين، فكان ذلك من تمام النعمة:"وأتممت عليكم نعمتي".
١١٠٨٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي" الآية، ذكر لنا أن هذه الآية نزلت على رسول الله ﷺ يوم عرفة، يوم جمعة، حين نفى الله المشركين عن المسجد الحرام، وأخلص للمسلمين حجَّهم.
١١٠٩٠- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا داود، عن الشعبي قال: نزلت هذه الآية بعرفات، حيث هدم مَنار الجاهلية (١) واضمحلَّ الشرك، ولم يحج معهم في ذلك العام مشرك.
١١٠٩١- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي"، قال، نزلت على رسول الله ﷺ وهو واقف بعرفات، وقد أطاف به الناس، وتهدَّمت مَنار الجاهلية ومناسكهم، واضمحلّ الشرك، ولم يَطُف حول البيت عُرْيان، فأنزل الله:"اليوم أكملت لكم دينكم".
١١٠٩٢- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، بنحوه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ورضيت لكم الاستسلام لأمري، والانقياد لطاعتي، على ما شرعت لكم من حدوده وفرائضه ومعالمه (٢) ="دينًا"، يعني بذلك: طاعة منكم لي. (٣)
* * *
(١) "المنار": علم الطريق، وحدود الأرض. وأراد به شرائع أهل الجاهلية.
(٢) انظر تفسير"الإسلام" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (سلم).
(٣) انظر تفسير"الدين" فيما سلف ١: ١٥٥، ٢٢١/٣: ٥٧١، ٥٧٢/٦: ٢٧٣-٢٧٥، ٥٦٤، ٥٧٠.
522
فإن قال قائل: أوَ ما كان الله راضيًا الإسلامَ لعباده إلا يوم أنزل هذه الآية؟
قيل: لم يزل الله راضيًا لخلقه الإسلام دينًا، ولكنه جل ثناؤه لم يزل يصرِّف نبيه محمدًا ﷺ وأصحابه في درجات الإسلام ومراتبه درجة بعد درجة، ومرتبة بعد مرتبة، وحالا بعد حال، حتى أكمل لهم شرائعه ومعالمه، وبلغ بهم أقصى درجاته ومراتبه، ثم قال حين أنزل عليهم هذه الآية:"ورضيت لكم الإسلام" بالصفة التي هو بها اليوم (١) والحال التي أنتم عليها اليوم منه ="دينًا" فالزموه ولا تفارقوه.
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك، ما:-
١١٠٩٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنه يَمْثُل لأهل كل دين دينهم يوم القيامة، فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله ويعدهم في الخير، حتى يجيء الإسلام فيقول:"رب، أنت السلام وأنا الإسلام"، فيقول:"إياك اليوم أقبل، وبك اليوم أجزي". (٢)
* * *
= وأحسب أن قتادة وجّه معنى"الإيمان" بهذا الخبر إلى معنى التصديق والإقرار باللسان، لأن ذلك معنى"الإيمان" عند العرب (٣) = ووجَّه معنى"الإسلام" إلى استسلام القلب وخضوعه لله بالتوحيد، وانقياد الجسد له بالطاعة
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "ورضيت لكم الإسلام دينًا، بالصفة.."، والصواب حذف"دينًا" من هذا الموضع، لأنها ستأتي بعد، وهو سهو من عجلة الناسخ.
(٢) الأثر: ١١٠٩٣- روى أبو داود الطيالسي في مسنده: ٣٢٤ من حديث أبي هريرة: "حدثنا عباد بن راشد قال، حدثنا الحسن قال، حدثنا أبو هريرة ونحن إذ ذاك في المدينة قال: يجيء الإسلام يوم القيامة، فيقول الله عز وجل: "أنت الإسلام وأنا السَّلام، اليومَ بك أُعْطِي وبك آخُذ".
(٣) انظر تفسير"الإيمان" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (أمن).
523
فيما أمر ونهى، فلذلك قيل للإسلام:"إياك اليوم أقبل، وبك اليوم أجزي".
* * *
ذكر من قال: نزلت هذه الآية بعرفة في حجة الوداع على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
١١٠٩٤- حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال، قالت اليهود لعمر: إنكم تقرأون آية لو أنزلت فينا لاتخذناها عيدًا! فقال عمر: إني لأعلم حين أنزلت، وأين أنزلت، وأين رسول الله ﷺ حين أنزلت: أنزلت يوم عرفة، ورسول الله ﷺ واقف بعرفة = قال سفيان: وأشك، كان يوم الجمعة أم لا ="اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا. " (١)
١١٠٩٥- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال، قال يهودي لعمر: لو علمنا معشر اليهود حين نزلت هذه الآية:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا"، لو نعلم ذلك اليوم، اتخذنا ذلك اليوم عيدًا! فقال عمر: قد علمت اليوم الذي نزلت فيه، والساعة، وأين رسول
(١) الأثر: ١١٠٩٤- رواه أحمد في المسند رقم: ٢٧٢ عن عبد الرحمن، عن سفيان بمثله. ورواه البخاري (الفتح ٨: ٢٠٣) عن محمد بن بشار، عن عبد الرحمن، كطريق أبي جعفر، ورواه مسلم ١٨: ١٥٢، عن محمد بن المثنى وزهير بن حرب، عن عبد الرحمن.
وفيها جميعًا"لأعلم حيث أنزلت"، و"وأين رسول الله ﷺ حيث أنزلت"، وقد أشار إلى ذلك الحافظ في الفتح.
وذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره ٢: ٦٧، وزاد نسبته للترمذي والنسائي. ثم قال: "وشك سفيان رحمه الله. إن كان في الرواية فهو تورع، حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا. وإن كان شكا في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة، فهذا مالا إخاله يصدر عن الثوري رحمه الله، فإن هذا أمر معلوم مقطوع به، لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير ولا الفقهاء. وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها، والله أعلم".
524
الله ﷺ حين نزلت: نزلت ليلة الجمعة، ونحن مع رسول الله ﷺ بعرفات = لفظ الحديث لأبي كريب، وحديث ابن وكيع نحوه. (١)
١١٠٩٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جعفر بن عون، عن أبي العميس، عن قيس بن مسلم، عن طارق، عن عمر، نحوه. (٢)
١١٠٩٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حماد بن سلمة، عن عمار مولى بني هاشم قال: قرأ ابن عباس:"اليوم أكملت لكم دينكم"، وعنده رجل من أهل الكتاب فقال: لو علمنا أيَّ يوم نزلت هذه الآية، لاتخذناه عيدًا! فقال ابن عباس: فإنها نزلت يوم عرفة، يوم جمعة. (٣)
١١٠٩٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا قبيصة قال، حدثنا حماد بن
(١) الأثر: ١١٠٩٥- رواه من هذه الطريق مسلم في صحيحه ١٨: ١٥٣، عن أبي بن أبي شيبة وأبي كريب، عن عبد الله بن إدريس.
وفيه: "نزلت ليلة جمع". قال النووي في شرحه: "هكذا هو في النسخ، الرواية: ليلة جمع = وفي نسخة ابن ماهان: ليلة جمعة. وكلاهما صحيح. فمن روى"ليلة جمع"، فهي ليلة المزدلفة، وهو المراد بقوله: "ونحن بعرفات" في يوم جمعة، لأن ليلة جمع، هي عشية يوم عرفات، ويكون المراد بقوله: "ليلة جمعة"، يوم جمعة. ومراد عمر رضي الله عنه: إنا قد اتخذنا ذلك اليوم عيدًا من وجهين، فإنه يوم عرفة، ويوم جمعة، وكل واحد منهما عيد لأهل الإسلام".
(٢) الأثر: ١١٠٩٦- هذا الحديث، رواه البخاري (الفتح ١: ٩٧) من طريق الحسن بن الصباح، عن جعفر بن عون، عن أبي العميس.
ورواه أحمد في المسند رقم: ١٨٨، من طريق جعفر بن عون، عن أبي عميس.
ورواه مسلم في صحيحه ١٨: ١٥٤، من طريق عبد بن حميد، عن جعفر بن عون، والنسائي في السنن ٨: ١١٤.
هذا، وقد بين الحافظ ابن حجر في الفتح (١: ٩٧) أن هذا الرجل من اليهود: "هو كعب الأحبار، بين ذلك مسدد في مسنده، والطبري في تفسيره، والطبراني في الأوسط، كلهم من طريق رجاء بن أبي سلمة، عن عبادة بن نسي (بضم النون، وفتح المهملة)، عن إسحق بن خرشة، عن قبيصة بن ذؤيب، عن كعب". وهذا هو الأثر الآتي رقم: ١١١٠٠ (انظر التعليق عليه، وما فيه من الخطأ) وأشار في الموضع الآخر (الفتح ٨: ٢٠٣) إلى احتمال أن سؤال كعب وقع قبل إسلامه، لأن إسلامه كان في خلافة عمر على المشهور، وأطلق عليه ذلك باعتبار ما مضى.
(٣) الأثر: ١١٠٩٧- خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده: ٣٥٣، رواه عن حماد، عن عمار بن أبي عمار، وسيأتي بطريق أخرى في الذي يليه.
525
سلمة، عن عمار: أن ابن عباس قرأ:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا"، فقال يهودي: لو نزلت هذه الآية علينا، لاتخذنا يومها عيدًا! فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين: يوم عيد، ويوم جمعة. (١)
١١٠٩٩- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، نحوه.
١١١٠٠- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا رجاء بن أبي سلمة قال، أخبرنا عبادة بن نسيّ قال، حدثنا أميرنا إسحاق = قال أبو جعفر: إسحاق، هو ابن خَرَشة = عن قبيصة قال، قال كعب: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية، لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم، فاتخذوه عيدًا يجتمعون فيه! فقال عمر: أيُّ آية يا كعب؟ فقال:"اليوم أكملت لكم دينكم". فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه، والمكان الذي أنزلت فيه: يوم جمعة، ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيدٌ. (٢)
(١) الأثر: ١١٠٩٨- خرجه الترمذي في كتاب التفسير، من طريق عبد بن حميد، عن يزيد بن هرون، عن حماد، وفيه: "نزلت في يوم عيدين، في يوم الجمعة، ويوم عرفة". وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من حديث ابن عباس".
وأشار إليه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٢٥٨، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، والطبراني، والبيهقي في الدلائل.
(٢) الأثر: ١١١٠٠-"رجاء بن أبي سلمة مهران"، "أبو المقدام" الفلسطيني. روى عن عمر بن عبد العزيز، وعمرو بن شعيب والزهري وغيرهم. وروى عنه ابن عون، وهو من شيوخه، والحمادان، وابن علية. ثقة، كان من أفاضل أهل زمانه. مترجم في التهذيب.
و"عبادة بن نسي الكندي"، الشامي الأردني، قاضي طبرية. روى عن أوس بن أوس الثقفي، وشداد بن أوس، وعبادة بن الصامت، وكعب بن عجرة، وغيرهم. روى عنه رجاء بن أبي سلمة، وغيره. قال ابن سعد في تابعي أهل الشام: "ثقة". وقال البخاري: "عبادة بن نسى الكندي" سيدهم. قال مسلمة بن عبد الملك: "إن في كندة لثلاثة نفر، إن الله لينزل بهم الغيث، وينصر بهم على الأعداء: عبادة بن نسي، ورجاء بن حيوة، وعدي بن عدي". مات سنة ١١٨. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/١/٩٦.
و"نسي" بضم النون، وفتح السين، والياء المشددة". وأما "إسحق"، فإن أبا جعفر زعم أنه ابن خرشة، ولم أجد في الرواة ولا في الأمراء"إسحق بن خرشة". وأما "ابن خرشة"، فهو: "عثمان بن إسحق بن خرشة (بفتح الخاء والراء) القرشي" روى عنه الزهري، ولم يذكر لعبادة بن نسي رواية عنه، ولا هو كان أميرًا. ونسبه كما رواه ابن سعد ٥: ١٨٠ هو: "عثمان بن إسحق بن عبد الله بن أبي خرشة بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن جذيمة بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي"، ونسبه أيضًا المصعب في نسب قريش: ٤٣٢، وقال: "روى عنه ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب حديث الجدة"، وهو الحديث الذي رواه أصحاب السنن الأربعة (سنن أبي داود ٣: ١٦٧ رقم: ٢٨٩٤)، من طريق مالك في الموطأ: ٥١٣ بروايته عن"ابن شهاب، عن عثمان بن إسحق بن خرشة، عن قبيصة بن ذؤيب".
فلست أشك أن أبا جعفر قد وهم، فأراد تعريف"إسحق" في إسناده هذا، فسبق إلى وهمه"ابن خرشة"، وهو"عثمان بن إسحق بن خرشة" لا"إسحق بن خرشة".
أما "إسحق" في هذا الخبر، فلست أشك أنه"إسحق بن قبيصة بن ذؤيب"، يرويه عن أبيه"قبيصة بن ذؤيب".
وذلك، أولا: لأن"إسحق بن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي"، يروي عن أبيه، وعن كعب الأحبار.
ثانيا: أن"عبادة بن نسي" الأردني، قاضي طبرية، مذكور في ترجمته، وأنه يروي عن إسحق بن قبيصة بن ذؤيب.
ثالثًا: أن"إسحق بن قبيصة بن ذؤيب" هو الذي كان أميرًا، كان عامل هشام على الأردن، كما قال أبو زرعة الدمشقي. وقال ابن سميع: "كان على ديوان الزمني في أيام الوليد". وعبادة بن نسي قاض من قضاة الأردن كما ذكرت.
فالذي لا شك فيه عندي، أن"إسحق" في هذا الإسناد: هو إسحق بن قبيصة بن ذؤيب، يروي عن أبيه، وأن أبا جعفر قد وهم في بيانه، وخلط.
وقد أشرت في التعليق على الأثر رقم: ١١٠٩٦، ما نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري (١: ٩٧)، نقلا عن هذا الموضع من الطبري، ولكنه نسبه أيضًا إلى مسدد في مسنده، وإلى الطبراني في الأوسط، وليسا عندي، ولكن إذا كان ذلك في واحد منهما، فإن الخطأ فيه، أقدم من أبي جعفر. وكتبه محمود محمد شاكر.
وفي المطبوعة هنا: "وكلاهما بحمد الله"، وفي المخطوطة: "وكليهما"، ولها وجه في العربية.
526
١١١٠١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن عيسى بن جارية الأنصاري قال: كنا جلوسًا في الديوان، فقال لنا نصراني: يا أهل الإسلام، لقد نزلت عليكم آية لو نزلت علينا، لاتخذنا ذلك اليوم وتلك الساعة عيدًا ما بقي منا اثنان:"اليوم أكملت لكم دينكم"! فلم يجبه أحد منا، فلقيت محمد بن كعب القرظي، فسألته عن ذلك فقال: ألا رددتم عليه؟ فقال: قال عمر بن الخطاب: أنزلت على النبي ﷺ وهو واقف على الجبل يوم
527
عرفة، فلا يزال ذلك اليوم عيدًا للمسلمين ما بقي منهم أحد. (١)
١١١٠٢- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن عامر قال: أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا"، عشيَّة عرفة، وهو في الموقف.
١١١٠٣- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود قال: قلت لعامر: إن اليهود تقول: كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي أكمل الله لها دينها فيه؟ فقال عامر: أو ما حفظته؟ قلت له: فأيّ يوم؟ قال: يوم عرفة، أنزل الله في يوم عرفة.
١١١٠٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: بلغنا أنها نزلت يوم عرفة، ووافق يوم الجمعة.
١١١٠٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن حبيب، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة: أن عمر بن الخطاب قال: نزلت"سورة المائدة" يوم عرفة، ووافق يوم الجمعة.
١١١٠٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن ليث، عن شهر بن حوشب قال: نزلت"سورة المائدة" على النبي ﷺ وهو واقف بعرفة على راحلته، فتنوَّخَتْ لأن يُدَقَّ ذراعها. (٢)
(١) الأثر: ١١١٠١-"حكام" هو"حكام بن سلم الكناني"، ثقة، روى عنه الطبري فأكثر فيما سلف، و"عنبسة" هو: عنبسة بن سعيد بن الضريس الأسدي، مضى مرارًا أيضًا، ترجم في رقم: ٢٢٤، ٣٣٥٦، ٥٣٨٥.
و"عيسى بن جارية الأنصاري"، روى عن جرير البجلي، وجابر بن عبد الله، وابن المسيب، وغيرهم، وروى عنه يعقوب القمي، وعنبسة بن سعيد. تكلم فيه ابن معين قال: "عنده مناكير". وقال أبو داود: "منكر الحديث". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/١/٢٧٣.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عيسى بن حارثة"، وهو خطأ.
(٢) "أنخت البعير فاستناخ"، و"نوخته، فتنوخ": أي برك. قال ابن الأعرابي: "يقال تنوخ البعير، ولا يقال: ناخ، ولا أناخ".
وقوله: "لأن يدق ذراعها"، أي: مخافة أن يدق ذراعها.
528
١١١٠٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد قالت: نزلت"سورة المائدة" جميعًا وأنا آخذة بزمام ناقة رسول الله ﷺ العضباء. قالت: فكادت من ثقلها أن يُدَقَّ عضد الناقة. (١)
١١١٠٨- حدثني أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني قال، حدثنا هشام بن عمار قال، حدثنا ابن عياش قال، حدثنا عمرو بن قيس السكوني: أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية:"اليوم أكملت لكم دينكم"، حتى ختمها، فقال: نزلت في يوم عرفة، في يوم جمعة. (٢)
* * *
(١) الأثر: ١١١٠٧-"أسماء بنت يزيد بن السكن" الأنصارية الأشهلية، "أم سلمة"، كانت فيمن جهز عائشة لرسول الله ﷺ وزفها، وكانت تخدم النبي، وبايعته، وشهدت اليرموك.
وهذا الحديث رواه أحمد في مسنده ٦: ٤٥٥ من طريق أبي النضر، عن شيبان، عن ليث. وفيه: "وكادت من ثقلها تدق.." ليس فيه"أن".
ثم رواه أيضًا ص: ٤٥٨ من طريق إسحق بن يوسف، عن سفيان، عن ليث، وفيه: "إن كادت من ثقلها لتكسر الناقة".
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٧: ١٣، وقال: "رواه أحمد والطبراني، وفيه شهر بن حوشب، وهو ضعيف، وقد وثق"، وقد مضى مرارًا توثيق أخي السيد أحمد لشهر.
(٢) الأثر: ١١١٠٨-"إسمعيل بن عمرو السكوني"، أبو عامر، الحمصي المقرئ، إمام مسجد حمص. روى عن علي بن عياش، والربيع بن روح، ويحيى بن صالح الوحاظي، قال ابن أبي حاتم: "سمعت منه، وهو صدوق". مترجم في ابن أبي حاتم ١/١/١٩٠.
و"هشام بن عمار بن نصير السلمي"، أبو الوليد الدمشقي. روى عند البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه. ثقة. مترجم في التهذيب.
و"ابن عياش"، هو: إسمعيل بن عياش، مضى مرارًا.
و"عمرو بن قيس بن ثور بن مازن بن خيثمة الكندي السكوني"، أبو ثور الشامي الحمصي. روى عن جده"مازن بن خيثمة"، وله صحبة، وعن عبد الله بن عمرو، ومعاوية ووفد عليه مع أبيه. قال إسمعيل بن عياش: و"أدرك سبعين من الصحابة أو أكثر". ثقة، صالح الحديث. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر، خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد مطولا، ثم قال: "رواه الطبراني، ورجاله ثقات".
وقوله: "انتزع بهذه الآية"، أي تمثل بها وقرأها.
529
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية = أعني قوله:"اليوم أكملت لكم دينكم" = يوم الاثنين. وقالوا: أنزلت"سورة المائدة" بالمدينة.
*ذكر من قال ذلك:
١١١٠٩- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش، عن ابن عباس: ولد نبيكم ﷺ يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وأنزلت:"سورة المائدة" يوم الاثنين:"اليوم أكملت لكم دينكم"، ورفع الذكر يوم الاثنين. (١)
(١) الأثر: ١١١٠٩-"محمد بن حرب الخولاني" الأبرش. قال أحمد: "ليس به بأس"، وقال ابن معين: "ثقة". مترجم في التهذيب.
و"ابن لهيعة" هو"عبد الله بن لهيعة"، مضى برقم: ١٦٠، ٢٩٤١، ٥٣٥٥، ٥٥١٨، ومضى توثيق أخي السيد أحمد له.
و"خالد بن أبي عمران التجيبي"، قاضي إفريقية. ثقة، وثقه ابن سعد والعجلي، وغيرهما.
و"حنش" هو: "حنش بن عبد الله السبائي الصنعاني" مضى برقم: ١٩١٤، وهو تابعي ثقة.
وهذا الخبر استوهاه الطبري كما سيأتي في آخر كلامه، وذلك لما قالوا من ضعف ابن لهيعة، وترك بعضهم الاحتجاج به.
وروى هذا الخبر أحمد في مسنده برقم: ٢٥٠٦ من طريق موسى بن داود، عن ابن لهيعة، ونصه: "ولد النبي ﷺ يوم الاثنين، واستنئ يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين".
وقال أخي السيد أحمد في التعليق عليه: "إسناده صحيح. والحديث ذكره ابن كثير في التاريخ ٢: ٢٥٩، ٢٦٠، عن هذا الموضع، وقال: "تفرد به أحمد"، وهو في مجمع الزوائد ١: ١٩٦، ونسبه لأحمد والطبراني في الكبير وقال الهيثمي: "وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف! وبقية رجاله ثقات من أهل الصحيح".
وليس في خبر أحمد"وأنزلت سورة المائدة.."، ولذلك لما ذكره ابن كثير في تفسيره، ٢: ٦٨، عن هذا الموضع من تفسير الطبري ونسبه للطبراني وابن مردويه، ثم قال: "أثر غريب، وإسناده ضعيف، وقد رواه الإمام أحمد.." ثم ساق حديث أحمد، ثم قال: "هذا لفظ أحمد، ولم يذكر نزول المائدة يوم الاثنين، فالله أعلم. ولعل ابن عباس أراد أنها نزلت"يوم عيدين اثنين، كما تقدم (يعني في الأثر رقم: ١١٠٩٨)، فاشتبه على الراوي".
وهذا توجيه غير مرتضى، وربما كان الأرجح أنه غلط من أحد الرواة عن ابن لهيعة، فإن رواية أحمد، لا شك في قوتها وضبطها.
وقوله: "رفع الذكر يوم الاثنين"، يعني وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، وانقطاع الوحي من بعد قبضه ولحاقه بالرفيق الأعلى.
530
١١١١٠- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام، عن قتادة قال:"المائدة" مدنيّة.
* * *
وقال آخرون: نزلت على رسول الله ﷺ في مسيره في حجة الوداع.
*ذكر من قال ذلك:
١١١١٢- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال: نزلت"سورة المائدة" على رسول الله ﷺ في المسير في حجة الوداع، وهو راكب راحلته، فبركت به راحلته من ثقلها. (١)
* * *
وقال آخرون: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس، وإنما معناه: اليوم الذي أعلمه أنا دون خلقي، أكملت لكم دينكم.
*ذكر من قال ذلك:
١١١١٣- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"اليوم أكملت لكم دينكم"، يقول: ليس بيوم معلوم يعلمه الناس.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في وقت نزول الآية، القولُ الذي روي عن عمر بن الخطاب: أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة، لصحة سنده، وَوَهْيِ أسانيد غيره. (٢)
* * *
(١) سقط من الترقيم رقم: ١١١١١.
(٢) قوله: "ووهي أسانيد غيره". سلف في ٨: ٨٠ تعليق ١، أن الذي في المخطوطة هناك.
"وهاء"، ولذلك أثبتها، لأني وجدتها أيضًا في تهذيب الآثار للطبري"وهاء"، ثم هذه مرة أخرى، أجد في المخطوطة"وهي"، فاختلفت المخطوطة كما ترى في كتابتها في موضع آخر. راجع ما كتبته في التعليق هناك.
531
القول في تأويل قوله: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقول:"فمن اضطر"، فمن أصابه ضُرٌّ (١) ="في مخمصة"، يعني: في مجاعة.
* * *
= وهي"مفعلة"، مثل"المجبنة" و"المبخلة" و"المنجبة"، من"خَمَصِ البطنِ"، وهو اضطماره، وأظنه هو في هذا الموضع معنيٌّ به: اضطماره من الجوع وشدة السَّغَب. وقد يكون في غير هذا الموضع اضطمارا من غير الجوع والسَّغب، ولكن من خلقة، كما قال نابغة بني ذبيان في صفة امرأة بخَمَص البطن: (٢)
وَالبَطنُ ذُو عُكَنٍ خَمِيصٌ لَيِّنٌ وَالنَّحْرُ تَنْفُجُهُ بثَدْيٍ مُقْعَدِ (٣)
(١) انظر تفسير"اضطر" فيما سلف ٣: ٥٦، ٣٢١.
(٢) "خمص" (بفتح الخاء والميم). وهذا تفصيل جيد في معنى"الخمص" و"المخمصة"، لا تصيب مثله في معاجم اللغة.
(٣) ديوانه: ٦٦ واللسان (قعد) وروايته: "لطيف طيه"، ولا شاهد فيه عندئذ. وهو من قصيدته التي استجاد فيها صفة المتجردة، صاحبة النعمان بن المنذر، والتي أفضت إلى ما كان بينهما من المهاجرة.
و"العكن": أطواء البطن لا من السمن فحسب، كما يقول أصحاب اللغة، فإن هذا البيت شاهد على خلافه. وإنما"العكن" هنا ما تثنى من أطواء البطن من رقة جلدها ونعومته، ورخاصة جسدها ولينه، فلذلك يتثنى. ولو كان ذلك من"السمن"، كما يقول أهل اللغة، لم يقل بعد"خميص لين"، ويصفه بالضمور والرقة (في رواية أبي جعفر)، ولا"لطيف طيه"، وهو كناية عن الضمور والرقة أيضًا، وذلك من صفتها ضد السمن. فمن شرح"العكن" في هذا البيت وأشباهه بأنها من السمن، فقد أخطأ، وأحال معاني الشعر عن وجوهها.
وقوله: "والنحر تنفجه"، "النحر": أعلى الصدر، وهو موضع القلادة منها. وكل ما ارتفع فقد"نفج وانتفج وتنفج"، و"نفجه الرجل ينفجه نفجًا". ويقال: "نفج ثدي المرأة قميصها": إذا رفعه. وأسند إليها أنها تنفج نحرها بثدييها، وإن كان ذلك خلقة لا فعل لها فيه، لأنه نظر إلى ما يساور المرأة حين تختال لتفتن الناظرين، فتتخذ سمتًا وهيأة تنهب بحلم الحليم. فأصاب النابغة غاية الإصابة في الإشارة إلى سر المرأة في حركتها وشمائلها.
ولكن الذين تعرضوا لتفسير مثل هذا الشعر، أساءوا إليه من حيث أرادوا الإحسان، فقال الوزير أبو بكر في شرحه ديوان النابغة: "ويروى: والإتب تنفجه، -والإتب ثوب تلبسه- وهو أليق بالمعنى، لأن الثدي ينفخ الثوب، أي يرفعه ويعظمه". ثم قال أيضًا: "وروي: والنحر تنفجه" أي ترفعه عن الثوب"، وهذا مثل على الخلط في فهم الشعر، وإفساد لمعانيه. والذي استحسنه الوزير، معنى مغسول سخيف في مثل هذا الموضع من شعر النابغة، أضاع به تعب الشاعر في شعره.
و"ثدي مقعد": ناتئ على النحر، إذا كان ناهدًا لم ينثن بعد.
532
فمعلوم أنه لم يرد صفتها بقوله:"خميص" بالهزال والضرّ من الجوع، ولكنه أراد وصفها بلطافة طيِّ ما على الأوراك والأفخاذ من جسدها، لأن ذلك مما يحمد من النساء. ولكن الذي في معنى الوصف بالاضطمار والهزال من الضر من ذلك، قول أعشى بني ثعلبة:
تَبِيتُونَ فِي المَشْتَى مِلاءً بُطُونُكُمْ وَجَارَاتُكُمْ غَرْثَى يَبِتْنَ خَمَائِصَا (١)
يعني بذلك: يبتن مضطمرات البطون من الجوع والسغب والضرّ. فمن هذا المعنى قوله:"في مخمصة".
* * *
وكان بعض نحويي البصرة يقول:"المخمصة"، المصدر من"خَمَصَه الجوع".
* * *
(١) ديوانه: ١٠٩، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٥٣، من إحدى قصائده التي قالها في خبر المنافرة بين علقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل (الأغاني ١٥: ٥٠)، وبعد البيت:
يُراقِبْنَ مِنْ جُوعٍ خِلالَ مَخَافةٍ نُجُومَ الشِّتَاء العَاتِمَاتِ الغوامِصَا
"غرثى"، جياع، ويروى"جوعى". ووصف النجوم بقوله: "العاتمات" أراد أنها تظلم من الغبرة التي في السماء، وذلك في الجدب (وهو الشتاء)، لأن نجوم الشتاء أشد إضاءة لنقاء السماء، فهن يلتمسن وقت خفائها. و"الغوامص" يعني: التي قل ضوءها من الغبرة. وقال شارح ديوانه: "يبتن جياعًا خائفات ينتظرن طلوع النجوم السحرية، ليخرجن يطلبن شيئًا، كيلا يعرفن". وقوله: "خلال مخافة" من أحسن الكلام في هذا البيت.
533
وكان غيره من أهل العربية يرى أنها اسم للمصدر، وليست بمصدر، ولذلك تقع"المفعلة" اسمًا في المصادر للتأنيث والتذكير.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١١١١٤- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن عباس:"فمن اضطر في مخمصة"، يعني: في مجاعة.
١١١١٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فمن اضطر في مخمصة"، أي: في مجاعة.
* * *
١١١١٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. (١)
١١١١٧- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن اضطر في مخمصة"، قال: ذكر الميتة وما فيها، فأحلها في الاضطرار (٢) ="في مخمصة"، يقول: في مجاعة.
١١١١٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله:"فمن اضطر في مخمصة"، قال، المخمصة، الجوع.
* * *
(١) الأثر: ١١١١٦- في المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا معمر" وهو إسناد ناقص، سقط منه"قال أخبرنا عبد الرزاق"، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: ١١١٠٤.
(٢) في المطبوعة: "وأحلها" بالواو، وفي المخطوطة: "فأكلها"، وهو تحريف.
534
القول في تأويل قوله: ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فمن اضطر في مخمصة إلى أكل ما حَرَّمتُ عليه منكم، أيها المؤمنون، من الميتة، والدم ولحم الخنزير وسائر ما حرمت عليه بهذه الآية ="غير متجانف لإثم"، يقول: لا متجانفًا لإثم. (١)
= فلذلك نصب"غير" لخروجها من الاسم الذي في قوله:"فمن اضطر" (٢) وهي بمعنى:"لا"، فنصب بالمعنى الذي كان به منصوبًا"المتجانف"، لو جاء الكلام:"لا متجانفًا". (٣)
* * *
وأما"المتجانف لإثم"، فإنه المتمايل له، المنحرف إليه. وهو في هذا الموضع مراد به المتعمِّد له، القاصد إليه، من"جَنَف القوم عليّ"، إذا مالوا. وكل أعوج فهو"أجنف"، عند العرب.
* * *
وقد بينا معنى"الجنف" بشواهده في قوله: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا) [سورة البقرة: ١٨٢]، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٤)
* * *
وأما تجانف آكل الميتة في أكلها وفي غيرها مما حرم الله أكله على المؤمنين
(١) في المطبوعة: "إلا متجانفًا" فأفسد المعنى إفسادًا، والصواب من المخطوطة، وفيها: "لا متجانف"، والصواب ما أثبت.
(٢) "الخروج"، الحال، كما سلف في فهارس المصطلحات.
(٣) في هذين الموضعين أيضًا في المطبوعة: "وهي بمعنى: إلا" ثم: "لو جاء الكلام: إلا متجانفًا"، وهو خطأ محض، والصواب ما أثبته من المخطوطة.
وانظر تفسير"غير" بمعنى"لا" فيما سلف ٣: ٣٢٢، في تفسير قوله تعالى من سورة البقرة: ١٧٣: "غير باغ ولا عاد"، بمعنى: لا باغيًا ولا عاديًا = منصوبًا على الحال.
(٤) انظر تفسير"الجنف" فيما سلف ٣: ٤٠٥-٤٠٨.
= وتفسير"الإثم" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (أثم).
535
بهذه الآية، للإثم في حال أكله (١) فهو: تعمده أكل ذلك لغير دفع الضرورة النازلة به (٢) ولكن لمعصية الله، وخلاف أمره فيما أمره به من ترك أكل ذلك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١١١١٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم"، يعني: إلى ما حُرِّم، مما سمَّى في صدر هذه الآية ="غير متجانف لإثم"، يقول: غير متعمد لإثم.
١١١٢٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"غير متجانف لإثم"، غير متعمد لإثم. قال: إلى حِرْم الله، ما حَرّم (٣) رخّص للمضطر إذا كان غير متعمد لإثم، أن يأكله من جهد. فمن بَغَى، أو عدا، أو خرج في معصيةٍ لله، فإنه محرم عليه أن يأكله.
١١١٢١- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"غير متجانف لإثم"، أي: غير متعرِّض لمعصية.
١١١٢٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"غير متجانف لإثم"، غير متعمد لإثم، غير متعرِّض.
١١١٢٣- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"غير متجانف لإثم"، يقول: غير متعرض لإثم، أي: يبتغي فيه شهوة، أو يعتدي في أكله.
(١) السياق: "وأما تجانف آكل الميتة... للإثم في حال أكله... ".
(٢) في المطبوعة: "فهو تعمده الأكل لغير دفع الضرورة"، غير ما في المخطوطة بلا معنى.
(٣) "حرم الله" (بكسر الحاء، وسكون الراء)، هو الحرام نقيض الحلال. وقوله بعد ذلك: "ما حرم"، تفسير لقوله: "حرم الله".
536
١١١٢٤- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد فى قوله:"غير متجانف لإثم"، لا يأكل ذلك ابتغاءَ الإثم، ولا جراءة عليه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣) ﴾
قال أبو جعفر: وفي هذا الكلام متروك، اكتفى بدلالة ما ذكر عليه منه. وذلك أن معنى الكلام: فمن اضطر في مخمصة إلى ما حرمت عليه مما ذكرت في هذه الآية، غير متجانف لإثم فأكله، فإن الله غفور رحيم = فترك ذكر"فأكله"، وذكر"له" (١) لدلالة سائر ما ذكر من الكلام عليهما.
* * *
وأما قوله:"فإن الله غفور رحيم"، فإن معناه: فإن الله لمن أكل ما حرمت عليه بهذه الآية أكله، في مخمصة، غير متجانف لإثم ="غفور رحيم"، يقول: يستر له عن أكله ما أكل من ذلك، بعفوه عن مؤاخذته إياه، وصفحه عنه وعن عقوبته عليه ="رحيم"، يقول: وهو به رفيق. ومن رحمته ورفقه به (٢) أباح له أكل ما أباح له أكله من الميتة وسائر ما ذكر معها في هذه الآية، في حال خوفه على نفسه من كَلَب الجوع وضُرِّ الحاجة العارضة ببدنه.
* * *
فإن قال قائل: وما الأكل الذي وعد الله المضطر إلى الميتة وسائر المحرَّمات معها بهذه الآية، غفرانَهُ إذا أكل منها؟
قيل: ما:-
(١) يعني بقوله: "وذكر: له"، معطوف على قوله: "وترك ذكر: فأكله"، والمعنى: وترك ذكر: "إلى ما حرمت عليه فأكله". وكان الأجود عندي أن يبين ذلك فيذكره كما ذكرته.
وأما قوله: "وذكر: له"، يعني في قوله: "فإن الله له غفور... ".
(٢) في المطبوعة: "من رحمته" بإسقاط الواو، وأثبتها من المخطوطة.
537
١١١٢٥- حدثني عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال، حدثنا محمد بن القاسم الأسدي، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن أبي واقد الليثي قال: قلنا: يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا فيها مخمصة، فما يصلح لنا من الميتة؟ قال: إذا لم تصطبحوا، أو تغتبقوا، أو تحتفئوا بقلا فشأنَكم بها. (١)
(١) الأثر: ١١١٢٥- خبر الأوزاعي، عن حسان بن عطية، يرويه الطبري بعد برقم: ١١١٣٢، عن الأوزاعي، عن حسان مرسلا. ثم يرويه برقم: ١١١٣٣، عن الأوزاعي، عن حسان، عن رجل قد سمى له. وهي خبر واحد.
"عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى بن هلال الأسدي"، شيخ الطبري، روى له الترمذي، والنسائي، وأبو حاتم. قال أبو حاتم: "صدوق"، وقال النسائي: "ثقة". مترجم في التهذيب.
و"محمد بن القاسم الأسدي" رمي بالكذب والوضع. قال أبو داود: "غير ثقة ولا مأمون، أحاديثه موضوعة"، وتكلم فيه أحمد بن حنبل وضعفه، روى محمد بن القاسم، عن الأوزاعي. مترجم في التهذيب.
و"الأوزاعي" هو الإمام المشهور.
و"حسان بن عطية المحاربي"، كان من أفاضل أهل زمانه، وثقه أحمد، وابن معين، والعجلي، روى عن أبي أمامة، وعنبسة بن أبي سفيان، وسعيد بن المسيب. ونصوا على أنه أرسل عن أبي واقد الليثي، وكأنهم يعنون هذا الخبر بعينه.
و"أبو واقد الليثي" قيل اسمه: "الحارث بن مالك"، وقيل: "الحارث بن عوف"، وقيل: "عوف بن الحارث بن أسد"، من بني ليث بن بكر بن عبد مناة، من كنانة. صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر وعمر. وروى عنه ابناه عبد الملك وواقد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعطاء بن يسار، وعروة بن الزبير، وغيرهم.
وإسناد أبي جعفر هذا، إسناد ضعيف، لضعف محمد بن القاسم، ولكنه روي من وجه صحيح، كما سترى في التخريج.
فرواه أحمد في مسنده ٥: ٢١٨ (حلبي) عن محمد بن القاسم، عن الأوزاعي، وهو نفس إسناد الطبري، فهو ضعيف.
ثم رواه مرة أخرى في نفس الصفحة، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي. (قلت: في المسند: حدثنا الوليد، حدثنا مسلم، حدثنا الأوزاعي = وهو خطأ لا شك فيه، صوابه: الوليد بن مسلم، كما نقله عن هذا الموضع من المسند، ابن كثير في تفسيره ٢: ٦٩).
وقال ابن كثير بعد نقله هذا الخبر الثاني من خبري أحمد: "تفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين".
ولكن الهيثمي خرجه في مجمع الزوائد ٤: ١٦٥، وقال: "رواه أحمد بإسنادين، رجال أحدهما رجال الصحيح [يعني الحديث الثاني من حديثي أحمد]، إلا أن المزي قال: لم يسمع حسان بن عطية من أبي واقد، والله أعلم".
ثم خرجه الهيثمي أيضًا في مجمع الزوائد ٥: ١٦٥ وقال: "رواه الطبراني، ورجاله ثقات". ولم يذكر مقالة المزي، ولا انقطاع الخبر.
ورواه الحاكم في المستدرك ٤: ١٢٥، من طريق أبي قلابة الرقاشي، عن أبي عاصم، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن أبي واقد، بمثله. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". وتعقبه الذهبي فقال: "فيه انقطاع"، إشارة ما قاله المزي، فيما رواه صاحب مجمع الزوائد.
ورواه البيهقي في السنن ٩: ٣٥٦ من ثلاث طرق: محمد بن القاسم الأسدي، عن الأوزاعي، كرواية أحمد والطبري.
ومن طريق أبي عبيد، عن محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن حسان، عن أبي واقد.
ثم رواه من طريق الوليد بن مسلم (وهو طريق أحمد الثاني)، ولكن فيه زيادة، وذلك أنه رواه عن إسحق بن إبراهيم الحنظلي، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن ابن مرثد = أو أبي مرثد = عن أبي واقد الليثي.
وإلى هذه الطريق أشار ابن كثير في تفسيره ٣: ٦٩، بعد أن روى حديث أحمد في المسند فقال: "ولكن رواه بعضهم عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن مسلم بن يزيد، عن أبي واقد، به، ومنهم من رواه عن الأوزاعي، عن حسان، عن مرثد = أو أبي مرثد = عن أبي واقد، به"، فخالف ما في سنن البيهقي، قال: "مرثد"، والذي فيها"ابن مرثد".
ولم أجد ذكرًا في كتب الرجال لمسلم بن يزيد، أو مرثد، أو ابن مرثد. فإسناد هذه الخبر، كما ترى، هو على صحته منقطع.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٢٥٩، ولم ينسب لغير أحمد والحاكم. * * *
وقوله: "إذا لم تصطبحوا"، أي: إذا لم تجدوا صبوحًا، و"الصبوح" (بفتح الصاد) : هو ما يحلب من اللبن بالغداة ويشرب عندئذ. و"اصطبح القوم": شربوا الصبوح. و"صبح الرجل ضيفه": سقاه الصبوح بالغداة.
وقوله: "أو تغتبقوا"، أي: إذا لم تجدوا غبوقًا، و"الغبوق" (بفتح الغين) : هو ما يحلب من اللبن بالعشي، ويشرب عندئذ."غبق الرجل ضيفه"، سقاه غبوقًا. و"اغتبق القوم": شربوا الغبوق بالعشي.
أما "تحتفئوا"، فسيأتي تفسيرها بعد الأثر رقم: ١١١٣٣، ص: ٥٤٢، تعليق: ٢.
538
١١١٢٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن الخصيب بن زيد التميمي قال، حدثنا الحسن: أن رجلا سأل رسول الله ﷺ فقال: إلى متى يحلُّ لي الحرام؟ قال فقال: إلى أن يروَى أهلك من اللبن، أو تجيء مِيرَتُهم". (١)
(١) الأثر: ١١١٢٦-"الخصيب بن زيد التميمي"، سمع عن الحسن، مرسل، روى عنه هشيم، هكذا قال البخاري في الكبير ٢/١/٢٠١. وفي التهذيب: "وثقه أحمد"، وذكره ابن حبان في الثقات. وفي ابن أبي حاتم ١/٢/٣٩٦، كتب"خصيب بن بدر التميمي"، والصواب"خصيب بن زيد" كما قال البخاري.
و"الميرة" (بكسر الميم) : هو جلب الطعام. وفي المخطوطة: "وتجيء" بالواو، وأثبت ما في المطبوعة، وابن كثير ٣: ٦٩.
539
١١١٢٧- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا خصيب بن زيد التميمي قال، حدثنا الحسن: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله = إلا أنه قال: أو تُجْبَى ميرتهم. (١)
١١١٢٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني عمر بن عبد الله بن عروة، عن جده عروة بن الزبير، عمن حدثه: أن رجلا من الأعراب أتى النبي ﷺ يستفتيه في الذي حرّم الله عليه، والذي أحل له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تحل لك الطيبات، وتحرُم عليك الخبائث، إلا أن تفتقر إلى طعام [لا يحل لك]، (٢) فتأكل منه حتى تستغني عنه. فقال الرجل: وما فقري الذي يُحِلّ لي؟ وما غناي الذي يغنيني عن ذلك؟ (٣) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كنت ترجو نتاجًا، فتبلَّغ بلحوم ماشيتك إلى نِتاجك، أو كنت ترجو غنًى تطلبه، فتبلَّغ من ذلك شيئًا، (٤) فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه. فقال الأعرابي: ما غِناي الذي أدعه إذا وجدته؟
(١) في المطبوعة: "أو تحيا ميرتهم"، من"الحياة"، وفي المخطوطة: "تجبى" غير منقوطة، فرأيت أن أقرأها كذلك، من"جبى الماء في الحوض يجيبه": جمعه، و"جبى الخراج" جمعه. ولو قرئت: "يجني" من"جنى يجني"، كما تجنى الثمرة، لكان مجازا. وللذي في المطبوعة: "يحيى"، وجه. ولكني رجحت ما أثبت. ولم أجد الخبر في مكان آخر بهذه الرواية.
(٢) الزيادة بين القوسين، لا يتم الكلام إلا بها، من مجمع الزوائد.
(٣) نص ما رواه في مجمع الزوائد: "ما فقري، وما الذي آكل من ذلك إذا بلغته؟ وما غناي الذي يغنيني عنه".
(٤) "تبلغ بشيء من الطعام أو غيره": اكتفى به. وقوله: "شيئا"، أي: قليلا، غير مفرط فيه.
وانظر تفسير"شيء" بمعنى"قليل" فيما سلف ٦: ٤٤٨، تعليق ٢/٨: ٤٠٣، تعليق: ١.
540
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أرويت أهلك غَبُوقًا من الليل. (١) فاجتنب ما حرَّم الله عليك من طعام. [وأمّا] مالُك (٢) فإنه ميسور كله، ليس فيه حرام. " (٣)
١١١٢٩- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون قال: وجدت عند الحسن كتاب سمرة، فقرأته عليه، وكان فيه: ويُجْزي من الاضطرار غَبُوق أو صَبُوح. (٤)
١١١٣٠- حدثنا هناد وأبو هشام الرفاعي قالا حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن ابن عون قال: قرأت في كتاب سَمُرة بن جندب: يكفي من الاضطرار = أو: من الضرورة = غبوقٌ أو صبوح. (٥)
١١١٣١- حدثني علي بن سعيد الكندي وأبو كريب قالا حدثنا عبد الله بن إدريس، عن هشام بن حسان، عن الحسن قال: إذا اضطر الرجل إلى الميتة، أكل منها قوتَه = يعني: مُسْكَتَه. (٦)
(١) في مجمع الزوائد: "غبوقًا من اللبن"، وما في الطبري أجود.
(٢) الزيادة بين القوسين، لا يتم الكلام إلا بها، زدتها من مجمع الزوائد، ومن الدر المنثور. وأما قوله بعد: "ميسور كله"، أي: موسع عليك فيه.
(٣) الأثر: ١١١٢٨- خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد مطولا، من"حديث سمرة بن جندب، عن رسول الله ﷺ أنه أتاه رجل من الأعراب"، ثم قال: "رواه الطبراني في الكبير، والبزار باختصار. وفي إسناد الطبراني مساتير، وإسناد البزار ضعيف".
وذكره ابن كثير من تفسيره ٣: ٧٠ عن هذا الموضع من التفسير، وفيه: "عروة بن الزبير، عن جدته"، والصواب ما في الطبري، والدر المنثور، وبما تبين من أن الخبر من حديث سمرة بن جندب. وخرجه في الدر المنثور ٢: ٢٦٠، ولم ينسبه لغير الطبري.
(٤) الأثر: ١١١٢٩-"سمرة"، هو"سمرة بن جندب بن هلال الفزاري"، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكتابه هذا هو رسالته إلى بنيه، قال ابن سيرين: "في رسالة سمرة إلى بنيه، علم كثير". وانظر الأثر التالي.
(٥) الأثر: ١١١٣٠- هذا الأثر، رواه البيهقي في السنن عن أبي عبيد، عن معاذ، عن ابن عون: قال: "رأيت عند الحسن كتب سمرة لبنيه: أنه يجزئ من الاضطرار - أو الضارورة.." و"الضرورة" و"الضارورة"، واحد، وهما اسم لمصدر"الاضطرار".
(٦) "المسكة" (بضم الميم وسكون السين) : هي ما يمسك الأبدان من الطعام والشراب. وكذلك"القوت": هو ما يقوم به بدن الإنسان من الطعام، وما يمسك الرمق من الرزق.
541
١١١٣٢- حدثنا هنّاد بن السري قال، حدثنا ابن مبارك، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية قال: قال رجل: يا رسول الله، إنا بأرض مَخْمصة، فما يحلّ لنا من الميتة؟ ومتى تحلّ لنا الميتة؟ قال: إذا لم تصطبحوا، أو تغتبقوا، ولم تحتفئوا بقلا فشأنَكم بها. (١)
١١١٣٣- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن رجل قد سمي لنا: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نكون بأرض مخمصة، فمتى تحل لنا الميتة؟ قال: إذا لم تغتبقوا، ولم تصطبحوا، ولم تحتفئوا بقلا فشأنكم بها. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: يروى هذا على أربعة أوجه:"تحتفئوا" بالهمزة ="وتحتفيوا" بتخفيف"الياء" و"الحاء" = و"تحتفّوا"، بتشديد الفاء = و"تحتفوا" بالحاء، والتخفيف، ويحتمل الهمز (٣).
* * *
(١) الأثران: ١١١٣٢، ١١١٣٣- هما خبر أبي واقد الليثي الذي مضى برقم: ١١١٢٥، وانظر التعليق عليه هناك.
(٢) الأثران: ١١١٣٢، ١١١٣٣- هما خبر أبي واقد الليثي الذي مضى برقم: ١١١٢٥، وانظر التعليق عليه هناك.
(٣) ما ذكره أبو جعفر هو روايات هذا الحرف بالحاء، ولكنه روي أيضًا بالجيم مهموزًا: "تجتفئوا" من قولهم: "جفأ البقل يجفؤه جفأ، واجتفأ": إذا اقتلعه من أصله.
وروي بالجيم غير مهموز"تجتفوا"، بمعنى المهموز: "جفيت البقل واجتفيته".
وروي بالخاء المعجمة: "تختفوا" من"أخفى الشيء" إذا أظهره بعد خفائه، كأنه قد أزال خفاءه.
وأما ما رواه الطبري بالحاء، فتفسير"تحتفئوا" من"الحفأ" وهو البردي. يقال: "احتفا الحفأ": اقتلعه من منبته.
وأما "تحتفيوا" (بكسر الفاء وضم الياء) من قولهم: "احتفى الحفأ، البقل" إذا اقتلعه من وجه الأرض بالأظافير، وأصله الهمز.
وأما "تحتفوا" بتشديد الفاء، فمن قولهم: "احتف الطعام" إذا أكل جميع ما في القدر، ومن قولهم: "احتفت المرأة": أزالت شعر وجهها نتفًا بخيطين، فكأنهم ينتفون البقل من وجه الأرض لصغره.
وأما "تحتفوا" فمن"احتفى البقل": إذا اقتلعه، وهو غير مهموز.
هذا، وقد قال الأزهري: "قال أبو سعيد: صوابه: تحتفوا، بتخفيف الفاء من غير همز. وكل شيء استؤصل فقد احتفى، ومنه: إحفاء الشعر. قال: واحتفى البقل: إذا أخذه من وجه الأرض بأطراف أصابعه من قصره وقلته = قال: ومن قال: تحتفئوا، بالهمز، من الحفأ، البردي، فهو باطل، لأن البردي ليس من البقل. والبقول: ما نبت من العشب على وجه الأرض مما لا عرق له. قال: ولا بردي في بلاد العرب = ويروى: ما لم تجتفئوا، بالجيم. قال: والاجتفاء أيضًا بالجيم باطل، لأن الاجتفاء: كب الآنية إذا جفأتها = ويروى: ما لم تحتفوا، بتشديد الفاء، من: احتففت الشيء، إذا أخذته كله، كما تحف المرأة وجهها من الشعر".
542
القول في تأويل قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك، يا محمد، أصحابك: ما الذي أحل لهم أكله من المطاعم والمآكل؟ فقل لهم: أحِل لكم منها ="الطيبات"، وهي الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من الذبائح (١) وأحل لكم أيضًا مع ذلك، صيدُ ما علّمتم من"الجوارح"، وهن الكَواسب من سباع البهائم.
* * *
والطير سميت"جوارح"، لجرحها لأربابها، وكسبها إيّاهم أقواتَهم من الصيد. يقال منه:"جرح فلان لأهله خيرًا"، إذا أكسبهم خيرًا، و"فلان جارِحَة أهله"، يعني بذلك: كاسبهم، و"لا جارحة لفلانة"، إذا لم يكن لها كاسب (٢) ومنه قول أعشى بني ثعلبة.
ذاتَ حَدٍّ مُنْضِجٍ مِيسَمُهَا تُذْكِرَ الجَارِحَ مَا كَانَ اجْتَرَحْ (٣)
(١) انظر تفسير"الطيبات" فيما سلف ٣: ٣٠١/ ٥: ٥٥٥/٦: ٣٦١ / ٨: ٤٠٩ / ٩: ٣٩١.
(٢) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٥٤.
(٣) ديوانه: ١٦٤، وهي من قصيدة له طويلة، مجد فيها إياس بن قبيصة الطائي، ملك الحيرة. ثم ختم القصيدة بذكر الخمر، وذكر شبابه وما كان فيه من لهو ومروءة وبأس، فقال يصف لاذع قوله فيمن يعاديه (برواية الديوان) :
وَلَقَدْ أَمْنَحُ مَنْ عَادَيْتُهُ كَلِمًا يَحْسِمْنَ مِنْ داءِ الكَشَحْ
وقطَعْتُ نَاظِرَيْهِ ظاهِرًا لا يكونُ مِثْلَ لَطْمٍ وكَمَحْ
ذَا حَبَارٍ مُنْضِجٍ مِيسَمُهُ يُذْكِرُ الجَارِمَ مَا كَانَ اجتَرَحْ
قوله: "كلما" جمع"كلمة"، يعني به: هجاءه وشعره. وفي الديوان: "كلما" مضبوطة بضم الكاف وتشديد اللام المفتوحة، ونقل عن الديوان"كل ما"، وهو خطأ فيما أرجح. و"حسم الداء يحسمه": قطعه بالدواء. و"حسم العرق": قطعه، ثم كواه لئلا يسيل دمه. و"الكشح" (بفتح الكاف والشين) : داء يصيب الإنسان في كشحه فيكوى."الكشح" (بفتح فسكون) : ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف، وهما كشحان في الإنسان. و"طوى فلان كشحه": أي أعرض وولاك كشحه، من البغض والعداوة. وأراد بقوله: "داء الكشح"، العداوة والبغضاء. يقول: أهجوه هجاء يشفيه من داء البغض!
وقوله: "وقطعت ناظريه" أي: كويته كية ظاهرة في وسط جبينه، بين عينيه إلى أنفه: وقوله: "ظاهرًا" صفة لمحذوف، أي كيا ظاهر الأثر. ليس أثره كأثر اللطم أو الكمح. و"الكمح" (بفتحتين) : هو أثر كمح الفرس باللجام، أي رده وجذبه باللجام ليقف، فيترك ذلك أثرًا حيث موقع اللجام. وهو حرف لم تذكره كتب اللغة، وشرحته من سياق معنى الشعر. يقول: أثر اللطم غير بين فهو يزول، وأثر كمح اللجام سهل يأتي متتابعًا فلا يؤذي، أما هذا الظاهر فهو مكواة من النار (كما يبينه البيت الثالث). وأنا في شك من رواية هذا البيت.
وقوله: "ذا حبار"، أي ذا أثر، صفة ثانية لقوله: "ظاهرًا"، و"الحبار" (بفتح الحاء) الأثر في الجلد من ضرب أو كي أو غيرها. ومثله"الحبر" (بكسر فسكون). وفي الديوان"ذا جبار" (بضم الجيم)، وهو لا معنى له، صواب إنشاده ما أثبت. و"الميسم": الحديدة التي يكوى بها. يشبه هجاه بالمكواة الحامية تنضج الجلد، وتبقي فيه أثرًا لا يزول، ولا تزال تذكره بما اجترم.
وأما رواية أبي جعفر، فهي في المخطوطة: "ذات حد" (بالحاء المفتوحة)، فإن صحت كذلك فهي صفة لقوله: "كلما يحسمن"، و"الحد": صلابة الشيء وشدته ونفاذه، كما يقال"حد الظهيرة"، أي: أشد حرها. وإن صحت روايته كما كان في المطبوعة: "ذات خد"، (بالخاء المعجمة) : من"الخد" و"الأخدود"، وهو الشق، و"خدت الضربة جلده" إذا شقته وتركت فيه خدًا. و"أخاديد السياط"، آثارها في الجلد. وكلتاهما جيدة المعنى.
* * *
تنبيه: ديوان الأعشى المطبوع في أوربة، ديوان كثير الخطأ والتحريف والتصحيف، فمن أجل ذلك اجتهدت في تصحيح هذا الشعر، وفي كثير غيره مما سلف من شعر الأعشى.
543
يعني: اكتسب.
وترك من قوله:"وما علمتم"،"وصيد" ما علمتم من الجوارح، اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام على ما تُرِك ذكره.
* * *
544
وذلك أن القوم، فيما بلغنا، كانوا سألوا رسول الله ﷺ حين أمرهم بقتل الكلاب، عما يحلّ لهم اتخاذه منها وصَيْده، فأنزل الله عز ذكره فيما سألوا عنه من ذلك هذه الآية. فاستثنى مما كان حرّم اتخاذه منها، وأمر بقُنْيَة كلاب الصيد (١) وكلاب الماشية، وكلاب الحرث، وأذن لهم باتخاذ ذلك.
ذكر الخبر بذلك:
١١١٣٤- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن حباب العكلي قال، حدثنا موسى بن عبيدة قال، أخبرنا أبان بن صالح، عن القعقاع بن حكيم، عن سلمى أم رافع، عن أبي رافع قال: جاء جبريل إلى النبي ﷺ يستأذن عليه، فأذن له فقال: قد أذنَّا لك يا رسول الله! (٢) قال: أجل، ولكنا لا ندخل بيتًا فيه كلب! قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة، فقتلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها، فتركته رحمة لها، ثم جئت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته، فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته. فجاؤوا فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:"يسألونك ماذا أحِل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علَّمتم من الجوارح مكلبين". (٣)
(١) "القنية" (بضم القاف، أو بكسرها، وسكون النون) : اقتناء الأشياء واتخاذها لما ينتفع بها فيه.
(٢) يعني بقوله: "رسول الله"، جبريل رسول الله بوحيه إلى النبي صلى الله عليهما.
(٣) الأثر: ١١١٣٤-"زيد بن الحباب العكلي"، مضى برقم: ٢١٨٥، ٥٣٥٠، ٨١٦٥، وهو ثقة، من شيوخ أحمد.
و"موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي"، مضى برقم: ١٨٧٥، ١٨٧٦، ٣٢٩١، ٨٣٦١، وهو ضعيف جدًا. قال أحمد: "منكر الحديث، لا تحل الرواية عنه". وفي تفسير ابن كثير: "يونس بن عبيدة"، وهو خطأ يصحح.
و"أبان بن صالح بن عمير بن عبيد"، ثقة. مضى برقم: ٤٣٣٧، ٤٣٣٨، وكان في المطبوعة هنا: "حدثنا موسى بن عبيدة، قال أخبرنا صالح، وفي المخطوطة: "قال أنا صالح"، وهو خطأ في كلتيهما، والصواب ما أثبته، عن الحاكم، والبيهقي، وابن كثير.
و"القعقاع بن حكيم الكناني"، تابعي ثقة، مضى برقم: ٣٠٤.
و"سلمى أم رافع"، مولاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي زوجة أبي رافع، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن فاطمة الزهراء.
و"أبو رافع" مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإسناد هذا الخبر ضعيف، لضعف موسى بن عبيدة الربذي. ورواه ابن أبي حاتم أيضًا من طريق حجاج بن حمزة، عن زيد بن حباب، عن موسى بن عبيدة، كما نقله ابن كثير في تفسيره ٣: ٧٢، ٧٣. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٤: ٤٢، ٤٣، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، وفيه موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف".
أما البيهقي في السنن ٩: ٢٣٥، والحاكم في المستدرك ٢: ٣١١، فقد روياه مختصرًا من طريق معلى بن منصور، عن ابن أبي زائدة، عن محمد بن إسحق، عن أبان بن صالح، وهو أصح من إسناد أبي جعفر وابن أبي حاتم. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
وقد روي حديث أبي رافع، بغير هذا اللفظ، من طرق. انظر الهيثمي في مجمع الزوائد ٤: ٤٢، ٤٣، ومسند أحمد ٦: ٨-١٠، ٣٩١.
وقوله: "عندها كلب ينبح عليها"، أي: يرد عنها بنباحه ما تخاف من سبع، وينذرها بمجيء ضيف إن استروح رائحته. وجاء بيانه في الأثر الذي رواه أحمد في مسنده ٦: ٣٩١: "قالت: إني امرأة مضيعة، وإن هذا الكلب يطرد عني السبع، ويؤذنني بالجائي".
545
١١١٣٥-حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: أنّ النبي ﷺ بعث أبا رافع في قتل الكلاب، فقتل حتى بلغ العَوالي (١) فدخل عاصم بن عدي، وسعد بن خيثمة، وعويم بن ساعدة، فقالوا: ماذا أحلَّ لنا يا رسول الله؟ فنزلت:"يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلِّبين".
١١١٣٦- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير قال، حدثونا عن محمد بن كعب القرظي قال: لما أمر النبي ﷺ بقتل الكلاب، قالوا: يا رسول الله، فماذا يحل لنا من هذه الأمة؟ فنزلت:"يسألونك ماذا أحل لهم"، الآية.
* * *
(١) "العوالي": أماكن بأعلى أراضي المدينة، وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وأبعدها من جهة نجد ثمانية أميال
546
ثم اختلف أهل التأويل في"الجوارح" التي عنى الله بقوله:"وما علمتم من الجوارح".
فقال بعضهم: هو كل ما عُلِّم الصيدَ فتعلّمه، من بهيمة أو طائر.
*ذكر من قال ذلك:
١١١٣٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن في قوله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، قال: كل ما عُلِّم فصادَ، من كلب أو صقر أو فهدٍ أو غيره.
١١١٣٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن:"مكلبين"، قال: كل ما علم فصاد من كلب أو فهد أو غيره.
١١١٣٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في صيد الفهد قال: هو من الجوارح.
١١١٤٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، قال: الطير والكلاب.
١١١٤١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن الحجاج، عن عطاء، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد، مثله.
١١١٤٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن حميد، عن مجاهد:"مكلِّبيين"، قال: من الكلاب والطير.
١١١٤٣- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"من الجوارح مكلبين"، قال: من الطير والكلاب.
١١١٤٤- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
547
١١١٤٥- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا شعبة = ح، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شعبة =، عن الهيثم، عن طلحة بن مصرف قال، قال خيثمة بن عبد الرحمن: هذا ما قد بيَّنت لك: أن الصقر والبازي من الجوارح. (١)
١١١٤٦- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت الهيثم يحدث، عن طلحة الإيامي، عن خيثمة قال: بيّنت لك: (٢) أن الصقر والباز والكلب من الجوارح. (٣)
١١١٤٧- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن علي بن حسين قال: الباز والصقر من الجوارح.
١١١٤٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن شريك، عن جابر، عن أبي جعفر قال: الباز والصقر من"الجوارح المكلِّبين". (٤).
١١١٤٩- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، يعني بـ "الجوارح"، الكلابَ الضواريَ والفهود والصقور وأشباهها.
١١١٥٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، قال: من الكلاب، وغيرها من الصقور والبِيزان (٥) وأشباهِ ذلك مما يعلّم.
(١) الأثر: ١١١٤٥، ١١١٤٦-"الهيثم" هو: "الهيثم بن حبيب"، وهو"الهيثم بن أبي الهيثم" الصيرفي الكوفي. أثنى عليه أحمد وقال: "ما أحسن أحاديثه وأشد استقامتها". مترجم في التهذيب.
و"طلحة بن مصرف الإيامي"، مضى برقم: ٥٤٣١.
و"خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي" تابعي ثقة، مضى برقم: ٨٢٦٧.
(٢) في المطبوعة: "أنبئت أن الصقر"، وفي المخطوطة: "أتيت لك أن الصقر"، وكأن الصواب ما أثبت، استظهارًا من الأثر السالف.
(٣) الأثر: ١١١٤٥، ١١١٤٦-"الهيثم" هو: "الهيثم بن حبيب"، وهو"الهيثم بن أبي الهيثم" الصيرفي الكوفي. أثنى عليه أحمد وقال: "ما أحسن أحاديثه وأشد استقامتها". مترجم في التهذيب.
و"طلحة بن مصرف الإيامي"، مضى برقم: ٥٤٣١.
و"خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي" تابعي ثقة، مضى برقم: ٨٢٦٧.
(٤) في المطبوعة: "من الجوارح المكلبين"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.
(٥) "البيزان" (بكسر الباء) جمع"باز"، بغير ياء في آخره، ويجمع أيضًا على"أبواز". وقولهم"باز" لغة في"بازي" وجمع"بازي""بزاة" و"بواز"
548
١١١٥١- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، الجوارح: الكلاب والصقور المعلَّمة.
١١١٥٢- حدثني سعيد بن الربيع الرازيّ قال، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، سمع عبيد بن عمير يقول في قوله:"من الجوارح مكلبين"، قال: الكلاب والطير.
* * *
وقال آخرون: إنما عنى الله جل ثناؤه بقوله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، الكلابَ دون غيرها من السِّباع.
*ذكر من قال ذلك:
١١١٥٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا عبيد، عن الضحاك:"وما علمتم من الجوار مكلبين"، قال: هي الكلاب.
١١١٥٤- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، يقول: أحل لكم صيد الكلاب التي علَّمتوهن.
١١١٥٥- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أمَّا ما صاد من الطير = والبُزاةُ من الطير = فما أدركت فهو لك، وإلا فلا تطعمه. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية قول من قال:"كل ما صاد من الطير والسباع فمن الجوارح، وأنّ صيد جميع ذلك حلال إذا صادَ بعد التعليم"،
(١) في المطبوعة: "فلا تطمعه"، وهو خطأ في الطباعة
549
لأن الله جل ثناؤه عم بقوله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، كلَّ جارحة، ولم يخصص منها شيئًا. فكل"جارحة"، كانت بالصفة التي وصف الله من كل طائر وسبع، فحلال أكل صيدها.
* * *
وقد روي عن النبيّ ﷺ بنحو ما قلنا في ذلك خبَرٌ، مع ما في الآية من الدلالة التي ذكرنا على صحة ما قلنا في ذلك، وهو ما:-
١١١٥٦- حدثنا به هناد قال، حدثنا عيسى بن يونس، عن مجالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله ﷺ عن صيد البازي فقال: ما أمسك عليك فَكُل. (١)
* * *
(١) الأثر: ١١١٥٦-"هناد" هو"هناد بن السري بن مصعب الدارمي"، ثقة. مضى برقم: ٢٠٥٨، ٢٧٥٨، ٢٩٩٨، ٣٩٦٠.
و"عيسى بن يونس بن أبي إسحق السبيعي"، الفقيه ابن الفقيه ابن الفقيه، ثقة حافظ رضي، مات سنة ١٨٧. مترجم في التهذيب.
و"مجالد" هو: "مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني"، مضى برقم: ١٦١٤، ٢٩٨٧، ٢٩٨٨ وقد مضى أنه ثقة، ضعفه بعض الأئمة، وأن الراجح في شأنه، تصحيح حديث القدماء عنه، وأن أعدل ما قيل فيه، قول عبد الرحمن بن مهدي: "حديث مجالد عند الأحداث، يحيى بن سعيد وأبي أسامة، ليس بشيء. ولكن حديث شعبة وحماد بن زيد وهشيم، وهؤلاء القدماء"، وقول ابن أبي حاتم: "يعني أنه تغير حفظه في آخر عمره. مات سنة ١٤٤".
وخبر الشعبي عن عدي بن حاتم، رواه مسلم والبخاري عن طريق زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم، أن عديا سأل رسول الله عن صيد الكلب. فقال: أمسك عليك فكل، الحديث (انظر سنن البيهقي ٩: ٢٣٥، ٢٣٦).
ورواه الأئمة أيضًا من طريق عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي، = ومن طريق عاصم الأحول، عن الشعبي = ومن طريق بيان عن الشعبي. ورووه أيضًا من طرق عن عدي بن حاتم، وليس فيها ذكر"الباز". (انظر السنن الكبرى للبيهقي ٩: ٢٣٥-٢٣٨)، وانظر ما سيأتي رقم: ١١٢١٠.
ثم روى البيهقي بإسناده عن عبد الله بن نمير، عن مجالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم: أن النبي ﷺ قال: ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته، وذكرت اسم الله، فكل مما أمسك عليك، الحديث. ثم قال البيهقي: ".. إلا أن ذكر البازي في هذه الرواية، لم يأت به الحفاظ الذين قدمنا ذكرهم عن الشعبي، وإنما أتى به مجالد، والله أعلم".
ورواية عيسى بن يونس، عن مجالد، تعد من رواية القدماء عن مجالد قبل أن يتغير حفظه. وعيسى بن يونس ثقة ثبت، فكأن أبا جعفر صحح هذا الحديث واحتج به، لأنه رواية ثقة، عن ثقة قبل تغيره.
550
= فأباح ﷺ صيد البازي وجعله من الجوارح. ففي ذلك دِلالة بيِّنة على فساد قول من قال:"عنى الله بقوله:"وما علمتم من الجوارح"، ما علمنا من الكلاب خاصة، دون غيرها من سائر الجوارح".
* * *
فإن ظن ظانّ أن في قوله:"مكلبين"، دلالةً على أن الجوارح التي ذكرت في قوله:"وما علمتم من الجوارح"، هي الكلاب خاصة، فقد ظن غير الصواب.
وذلك أن معنى الآية: قل أحِلَّ لكم، أيها الناس، في حال مصيركم أصحابَ كلاب = الطيباتُ، وصيدُ ما علمتوه الصيد من كواسب السباع والطير. فقوله:"مكلبين"، صفة للقانص، وإن صاد بغير الكلاب في بعض أحيانه. وهو نظير قول القائل يخاطب قومًا:"أحلّ لكم الطيباتُ وما علمتم من الجوارح مكلبين مؤمنين". فمعلوم أنه إنما عنى قائل ذلك، إخبارَ القوم أنّ الله جل ذكره أحل لهم، في حال كونهم أهلَ إيمان، الطيبات وصيد الجوارح التي أعلَمهم أنه لا يحل لهم منه إلا ما صادوه به (١) فكذلك قوله:"أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين" لذلك نظيره، في أن التكليب للقانص = بالكلاب كان صيده أو بغيرها = لا أنه إعلام من الله عز ذكره أنه لا يحل من الصيد إلا ما صادته الكلاب.
* * *
(١) في المطبوعة: "ما صادوه بها"، وما في المخطوطة صواب أيضًا.
551
القول في تأويل قوله: ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"تعلمونهن"، تؤدِّبون الجوارح فتعلمونهن طلب الصيد لكم ="مما علمكم الله"، يعني بذلك: من التأديب الذي أدَّبكم الله، والعلم الذي علمكم. (١)
* * *
وقد قال بعض أهل التأويل: معنى قوله:"مما علمكم الله"، كما علمكم الله.
*ذكر من قال ذلك:
١١١٥٧- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"تعلمونهن مما علمكم الله"، يقول: تعلمونهن من الطَّلب كما علمكم الله.
* * *
= ولسنا نعرف في كلام العرب"من" بمعنى"الكاف"، لأن"من" تدخل في كلامهم بمعنى التبعيض، و"الكاف" بمعنى التشبيه. وإنما يوضع الحرف مكان آخر غيره، إذا تقارب معنياهما. فأما إذا اختلفت معانيهما، فغير موجود في كلامهم وضع أحدهما عَقِيب الآخر. وكتاب الله وتنزيله أحرَى الكلام أن يجنَّب ما خرج عن المفهوم والغاية في الفصاحة من كلام من نزل بلسانه............ (٢)
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٠٢.
(٢) أرجح أنه قد سقط قبل هذا الخبر، كلام من كلام أبي جعفر، وذلك بدلالة قوله بعد: "قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك". والذي أستظهره من كلامه في آخر سياقه هذه الأقوال من اختلاف الأئمة (ص: ٥٦٤)، أن أبا جعفر ساق سؤالا كعادته، عن معنى"تعليم الجوارح"، ثم أجاب عنه بذكر اختلاف أهل التأويل. ولم أستجز أن أضع شيئًا مكان النقط التي وضعتها للدلالة على هذا السقط، لأني أخشى ان أخطئ في وصل الكلام بالخبر الذي رواه بعده برقم: ١١١٥٨"انظر ص: ٥٥٣، تعليق: ٢، ٣.
552
١١١٥٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسماعيل بن صُبيح قال، حدثنا أبو هانئ عمر بن بشير قال، حدثنا عامر: أن عدي بن حاتم الطائي قال: أتى رجل رسول الله ﷺ يسأله عن صيد الكلاب، فلم يدر ما يقول له، حتى نزلت هذه الآية:"تعلمونهن مما علمكم الله". (١)
* * *
قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك. (٢)
فقال بعضهم (٣) : هو أن يَسْتَشْلِي لطلب الصيد إذا أرسله صاحبه (٤)
(١) الأثر: ١١١٥٨-"إسمعيل بن صبيح اليشكري"، ثقة مضى برقم: ٢٩٩٦، ٨٦٤٠.
و"أبو هانئ""عمر بن بشير الهمداني"، قال أحمد: "صالح الحديث". وقال يحيى بن معين: "ضعيف". وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم الرازي: "ليس بقوي، يكتب حديثه، وجابر الجعفي أحب إلي منه". وذكره ابن شاهين، والعقيلي في الضعفاء. مترجم في ابن أبي حاتم ٣/١/١٠٠، ولسان الميزان ٤: ٢٨٧، ومضى أيضًا برقم: ٤٤٢٢.
وكان في المطبوعة: "حدثنا أبو هانئ عن أبي بشر"، وهو خطأ محض، وتغيير سيئ لما كان في المخطوطة: "حدثنا أبو هانئ عمر بن بشر"، والصواب ما أثبت.
و"عامر" هو الشعبي.
وهو حديث ضعيف لضعف"أبي هانئ". وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٢٦٠، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد، والقصة فيه: "أن عدي بن حاتم الطائي، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(٢) انظر التعليق السالف ص: ٥٥٢، تعليق: ٢، والتعليق التالي.
(٣) في المخطوطة: "فقال بعضهم هو جوارحًا صيدها، فقال لنا: وما علمتم من الجوارح مكلبين أن يستشلى... "، ووضع الناسخ بين"هو" و"جوارحًا" من فوق حرف"لا" وبعد"مكلبين" من فوق، حرف"إلى"، وهي طريقتهم قديمًا إذا أرادوا حذف ما بين"لا" و"إلى"، والظاهر أن قوله: "جوارحا صيدها، فقال لنا: من الجوارح مكلبين" هو بعض الجملة التي سقطت في موضع النقط التي وضعتها آنفًا، وأشرت إليها في التعليق السالف، وما قبله: ص ٥٥٢، تعليق: ٢.
(٤) قوله: "يستشلي"، بالبناء للمعلوم، أراد به هنا: أن يغري بطلب الصيد. وقد ذكر أهل اللغة: "أشلى الكلب واستشلاه" إذا دعاه باسمه، وقد أنكر ثعلب أن"أشلى الكلب" بمعنى أغراه بالصيد، وأجازه غيره. ومن أجازه فقد أصاب، وقد قال الشافعي في الأم ٢: ١٩١:
"الكلب المعّلم: الذي إذَا أُشْلِيَ اسْتَشْلَى"
فاستعمل"استشلى" مطاوعًا لقوله: "أشلى الكلب" بمعنى: أغراه بالصيد. ثم عاد الشافعي فاستعمل"استشلى الكلب" بمعنى: "أشلى الكلب" غير مطاوع، فقال في الأم ٢: ١٩٢: "وتعليمُ الطائر كلِّه واحد، البازي والصقر والشاهين وغيرها: وهو أن يجمع أن يُدْعَى فيجيب، ويُسْتَشْلَى فيطير".
ثم عاد فاستعمل"استشلى" بالمعنيين جميعًا، مطاوعًا وغير مطاوع، في جملة طويلة في الأم ٢: ١٩٣ أثبت بعضها.:
"... وإذا اسْتَشْلَى الرجُل كلبه على الصَّيْد -قريبًا كان منه أو بعيدًا- فانزجَرَ واسْتَشْلَى باستشلائه... ".
فصح بذلك ما استعمله أبو جعفر، هذا بخلاف ما جاء في الشعر، مما يسقط اعتراض ثعلب على"أشلى" بمعنى: أغرى.
553
ويمسك عليه إذا أخذه فلا يأكل منه، ويستجيب له إذا دعاه، ولا يفرُّ منه إذا أراده. فإذا تتابع ذلك منه مرارًا كان"معلَّمًا". وهذا قول جماعة من أهل الحجاز وبعض أهل العراق.
*ذكر من قال ذلك:
١١١٥٩- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عطاء: كل شيء قتله صائدك قبل أن يعلَّم ويُمسك ويصيد، فهو ميتة. ولا يكون قتله إياه ذكاة، حتى يعلَّم ويُمسك ويصيد. فإن كان ذلك ثم قتل، فهو ذكاته.
١١١٦٠- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إن المعلم من الكلاب: أن يمسك صيدَه فلا يأكل منه حتى يأتيه صاحبه. فإن أكل من صيده قبل أن يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته، فلا يأكل من صيده.
١١١٦١- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن طاوس، عن ابن عباس قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه.
554
١١١٦٢- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال، حدثنا أبو المعلى، عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: إذا أرسل الرجل الكلبَ فأكل من صيده فقد أفسده، وإن كان ذكر اسم الله حين أرسله = فزعم أنه إنما أمسك على نفسه (١) = والله يقول:"من الجوارح مكلّبين تعلمونهن مما علمكم الله"، فزعم أنه إذا أكل من صيده قبل أن يأتيه صاحبه أنه ليس بمعلَّم، وأنه ينبغي أن يُضرب ويعلَّم حتى يترك ذلك الخُلُق. (٢)
١١١٦٣- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معمر الرقي، عن حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: إذا أخذ الكلب فقَتل فأكل، فهو سَبُع. (٣)
١١١٦٤- حدثنا ابن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر، عن ابن عباس قال: لا يأكل منه، فإنه لو كان معلَّمًا لم يأكل منه، ولم يتعلم ما علَّمتَه. إنما أمسك على نفسه، ولم يُمسك عليك.
١١١٦٥- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا داود، عن الشعبي، عن ابن عباس، بنحوه.
١١١٦٦- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن ابن عباس قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل. (٤)
(١) قوله: "فزعم أنه إنما أمسك على نفسه"، هذا من قول سعيد بن جبير، حكاية لقول ابن عباس. و"زعم" في هذا الموضع بمعنى: قال. لا بمعنى"زعم" فيما يذم من القول والظن. وهو يأتي كثيرًا في كلامهم، فاحفظه.
(٢) الأثر: ١١١٦٢-"أبو المعلى" العطار، هو: "يحيى بن ميمون الضبي"، ثقة كثير الحديث مترجم في التهذيب، وقد مضى في الإسنادين رقم: ٨٣٤٦، ٨٣٤٧.
(٣) الأثر: ١١١٦٣-"معمر الرقي"، هو: "معمر بن سلمان النخعي، الرقي". وثقه أحمد. مترجم في التهذيب.
(٤) في المطبوعة: "إذا أكلت الكلاب" بالجمع، وأثبت ما في المخطوطة، وإن كان الناسخ كتب أولا: "أكلت" ثم عاد فمجمج الحروف حتى جعل اللام والتاء في"أكلت""أكل".
555
١١١٦٧- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الشعبي، عن ابن عباس، بمثله.
١١١٦٨- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون قال: قلت لعامر الشعبي: الرجل يرسل كلبَه فيأكل منه، أنأكل منه؟ قال: لا لم يتعلَّم الذي علَّمته.
١١١٦٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: إذا أكل الكلب من صيده فاضربه، فإنه ليس بمعلَّم.
١١١٧٠- حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: إذا أكل الكلب فهو ميتة، فلا تأكله.
١١١٧١- حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير = وسَيَّار، عن الشعبي = ومغيرة، عن إبراهيم = أنهم قالوا في الكلب إذا أكل من صيده: فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه.
١١١٧٢- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عطاء: إن وجدت الكلب قد أكل من الصيد، فما وجدتَه ميتًا فدعه، فإنه مما لم يمسك عليك صيدًا. إنما هو سبع أمسك على نفسه ولم يمسك عليك، وإن كان قد عُلِّم.
١١١٧٣- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، بنحوه.
* * *
وقال آخرون نحو هذه المقالة، غير أنهم حَدُّوا لمعرفة الكلاب بأن كلبه قد قَبِل التعليم وصار من الجوارح الحلال صيدها (١) أن يفعل ذلك كلبه مرات
(١) "الكلاب" (بتشديد اللام) : هو صاحب الكلاب. و"المكلب" (بتشديد اللام المكسورة) : هو الذي يعلم الكلاب أخذ الصيد. ولكنه وضع"الكلاب" هنا موضع"المكلب". وهو جيد صحيح.
556
ثلاثًا. وهذا قول محكيٌّ عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن.
* * *
وقال آخرون ممن قال هذه المقالة: لا حدَّ لعلم الكلاب بذلك من كلبه، أكثر من أن يفعل كلبه ما وصفنا أنه له تعليم. قالوا: فإذا فعل ذلك فقد صار معلَّمًا حلالا صيده. وهذا قول بعض المتأخرين.
وفرَّق بعض قائلي هذه المقالة بين تعليم البازي وسائر الطيور الجارحة وتعليم الكلب وضاري السبِّاع الجارحة، فقال: جائز أكل ما أكل منه البازي من الصيد. قالوا: وإنما تعليم البازي أن يطير إذا استُشْلِي، ويجيب إذا دُعِي، ولا ينفر من صاحبه إذا أراد أخذَه. قالوا: وليس من شروط تعليمه أن لا يأكل من الصيد.
*ذكر من قال ذلك:
١١١٧٤- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم وحجاج، عن عطاء قال: لا بأس بصيد البازي وإن أكل منه.
١١١٧٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أسباط قال، حدثنا أبو إسحاق الشيباني، عن حماد، عن إبراهيم، عن ابن عباس أنه قال في الطير: إذا أرسلتَه فقتل، فكُل. فإن الكلبَ إذا ضربته لم يَعُدْ. وإن تعليم الطير أن يرجع إلى صاحبه، وليس يضرب إذا أكل من الصيد ونتف من الريش. (١)
١١١٧٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو حمزة، عن جابر، عن الشعبي قال: ليس البازي والصقر كالكلب، فإذا أرسلتهما فأمسكا فأكلا فدعوتهما فأتياك، فكل منه.
(١) في المطبوعة: "فإذا أكل من الصيد ونتف من الريش فكل"، بزيادة"فكل"، عن المخطوطة، وكان فيها مثل ما في المطبوعة: "فإذا أكل... "، ورجحت أن الصواب"إذا أكل... ، " بحذف الفاء، ويستقيم الكلام على ما في الترجمة.
557
١١١٧٧- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو زُبَيْد، عن مطرف، عن حماد، قال إبراهيم: كُلْ صيد البازي وإن أكل منه.
١١١٧٨- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم = وجابر، عن الشعبي، قالا كُلْ من صيد البازِ وإن أكل. (١)
١١١٧٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم: إذا أكل البازي والصقر من الصيد، فكُل، فإنه لا يعلَّم. (٢)
١١١٨٠- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم قال: لا بأس بما أكل منه البازي.
١١١٨١- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن حماد: أنه قال في البازي إذا أكل منه، قال: كُلْ. (٣)
* * *
وقال آخرون منهم: سواء تعليم الطير والبهائم والسباع، لا يكون نوع من ذلك معلَّمًا إلا بما يكون به سائر الأنواع معلَّمًا. وقالوا: لا يحل أكل شيء من الصيد الذي صادته جارحة فأكلت منه (٤) كائنة ما كانت تلك الجارحة، بهيمةً، أو طائرًا. (٥) قالوا: لأن من شروط تعليمها الذي يحل به صيدها: أن تمسك ما صادت على صاحبها، فلا تأكل منه.
*ذكر من قال ذلك:
١١١٨٢- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا
(١) في المطبوعة: "صيد البازي" بالياء آخره، والذي في المخطوطة صواب. وانظر ما سلف ص: ٥٤٨، تعليق: ٤.
(٢) يعني: فإنه لا يعلم أن لا يأكل من الصيد كما يعلم الكلب.
(٣) في المطبوعة: "إذا أكل منه فكل"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب محض.
(٤) في المخطوطة: "لا يجعل كل شيء من الصيد.."، والصواب ما في المطبوعة.
(٥) في المخطوطة: "بهيمة أو طائر" بالرفع، والصواب، ما في المطبوعة.
558
محمد بن سالم، عن عامر قال: قال علي: إذا أكل البازي من صيده فلا تأكل. (١)
١١١٨٣- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن جعفر، عن شعبة، عن مجاهد بن سعيد، عن الشعبي قال: إذا أكل البازي منه فلا تأكل.
١١١٨٤- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير قال: إذا أكل البازي فلا تأكل.
١١١٨٥- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن عمر بن الوليد الشنيّ قال: سمعت عكرمة قال: إذا أكل البازي فلا تأكل. (٢)
١١١٨٦- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عطاء: الكلب والبازي كلُّه واحد، لا تأكل ما أكل منه من الصيد، إلا أن تدرك ذَكاته فتذكِّيه. قال: قلت لعطاء: البازي ينتف الريش؟ قال: فما أدركته ولم يأكل فكل. قال ذلك غير مرَّة.
* * *
وقال آخرون: تعليم كل جارحة من البهائم والطير واحد. قالوا: وتعليمه الذي يحلُّ به صيده: أن يُشْلَى على الصيد فيَسْتَشلي ويأخذ الصيد (٣) ويدعوه صاحبه فيجيب، ولا يفرّ منه إذا أخذه. (٤) قالوا: فإذا فعل الجارح ذلك كان"معلمًا" (٥)
(١) الأثر: ١١١٨٢-"محمد بن سالم الهمداني"، أبو سهل الكوفي. ضعيف الحديث متروك. مترجم في التهذيب. ومضى في الإسناد رقم: ٤٨٢٤.
(٢) الأثر: ١١١٨٥-"عمر بن الوليد الشني"، أبو سلمة العبدي، من عبد القيس. روى عن عكرمة، وشهاب بن عباد العصري. روى عنه وكيع، وأبو نعيم. قال أبو حاتم: "ما أرى بحديثه بأسًا، وعامة حديثه عن عكرمة فقط، ما أقل ما يجاوز به إلى ابن عباس". وقال يحيى القطان: "ليس هو عندي ممن أعتمد عليه، ولكنه لا بأس به". مترجم في ابن أبي حاتم ٣/١/١٣٩، ولسان الميزان ٤: ٣٣٧.
وكان في المطبوعة: "عمرو بن الوليد السهمي"، وليس صوابًا، غير ما في المخطوطة وهو الذي أثبت.
(٣) انظر ما سلف ص: ٥٥٣، تعليق: ٤.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "أولا يفر منه"، والصواب بالواو كما أثبته.
(٥) في المطبوعة والمخطوطة: "قال" بالإفراد، والذي قبله والذي بعده يقتضي أن تكون"قالوا".
559
داخلا في المعنى الذي قال الله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم". قالوا: وليس من شرط تعليم ذلك أن لا يأكل من الصيد. قالوا: وكيف يجوز أن يكون ذلك من شرطه، وهو يؤدَّب بأكله؟
*ذكر من قال ذلك:
١١١٨٧- حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد = أو سعد =، عن سلمان قال: إذا أرسلت كلبك على صيد، وذكرتَ اسم الله، فأكل ثلثيه وبقي ثلثه، فكل ما بقي. (١)
١١١٨٨- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا حميد قال، حدثني القاسم بن ربيعة، عمن حدثه، عن سلمان = وبكر بن عبد الله، عمن حدثه، عن سلمان =: أن الكلب يأخذ الصيد فيأكل منه، قال: كل، وإن أكل ثلثيه، إذا أرسلته وذكرت اسم الله، وكان معلمًا. (٢)
١١١٨٩- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال،
(١) الأثر: ١١١٨٧-"سعيد" الأول، هو"سعيد بن أبي عروبة".
و"سعيد" الثاني، هو"سعيد بن المسيب".
و"سلمان"، هو ابن الإسلام، "سلمان الخير الفارسي"، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان في المخطوطة في هذا الأثر، والذي يليه"سليمان"، ثم استقامت المخطوطة على الصواب. وسيأتي بعد الأثر رقم ١١٢١١، في تعقيب أبي جعفر أن سعيد بن المسيب، غير معلوم له سماع من سلمان الفارسي.
أما قوله: "أو سعد"، فلم أعرف ما أراد به، ولم أعرف من يكون"سعد" الذي يروي عنه قتادة، والذي يروي عن سلمان. وسيأتي في الآثار التالية، رواية مثل ذلك عن"سعد بن أبي وقاص". فأخشى أن يكون في الإسناد تقديم وتأخير: "قتادة، عن سعيد، عن سلمان، أو سعد". وأنا في شك من ذلك أيضًا.
وهذا الأثر رواه البيهقي في السنن ٩: ٢٣٧.
(٢) الأثر: ١١١٨٨-"بكر بن عبد الله المزني"، مضى برقم: ٤٨٧٧، ٤٨٧٨، ٨٩٣٦، ٩٧٣٢.
وكان في هذا الموضع من المخطوطة أيضًا"سليمان"، وانظر التعليق على الأثر السالف.
560
حدثنا شعبة قال، سمعت قتادة يحدث، عن سعيد بن المسيب قال، قال سلمان: كل وإن أكل ثلثيه = يعني: الصيدَ إذا أكل منه الكلب.
١١١٩٠- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان، نحوه.
١١١٩١- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد العزيز بن عبد الصمد، عن شعبة = ح وحدثنا هناد قال، حدثنا عبدة = جميعًا، عن سعيد، عن قتادة: عن سعيد بن المسيب قال، قال سلمان: إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسمَ الله، فأكل ثلثيه وبقي ثلثه، فكل. (١).
١١١٩٢- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد، عن سلمان، نحوه.
١١١٩٣- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد، عن بكر بن عبد الله المزني والقاسم: أن سلمان قال: إذا أكل الكلب فكل، وإن أكل ثلثيه.
١١١٩٤- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود بن أبي الفرات، عن محمد بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: قال سلمان: إذا أرسلت كلبك المعلَّم أو بازَك، فسميَّت فأكل نصفه أو ثلثيه، فكل بقيَّته. (٢)
١١١٩٥- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن حميد بن مالك بن خثيم الدؤلي: أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب، فقال: كل، وإن لم يبق منه إلا حِذْية - يعني: بَضْعة. (٣)
(١) في المطبوعة: "فأكل ثلثه فكل"، أسقط من الكلام ما ثبت في المخطوطة.
(٢) الأثر: ١١١٩٤-"داود بن أبي الفرات" هو"داود بن عمر بن الفرات الكندي". ثقة، يروي عن"محمد بن زيد بن علي الكندي". مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٢/١/٢١٥.
و"محمد بن زيد بن علي الكندي" ويقال"العبدي"، قاضي مرو، ثقة صالح الحديث. مترجم في التهذيب، والكبير ١/١/٨٤.
(٣) الأثر: ١١١٩٥-"مخرمة بن بكير بن عبد الله بن الأشج"، مضى برقم: ٣٣٥٩.
وأبوه"بكير بن عبد الله بن الأشج"، أو "بكير بن الأشج"، مضى برقم: ٢٧٤٧، و"حميد بن مالك بن خثيم الدؤلي" أو: "حميد بن عبد الله بن مالك" وسيأتي كذلك في الأثرين: ١١٢٠٧، ١١٢٠٨، تابعي ثقة، روى عن أبي هريرة وسعد بن أبي وقاص. مترجم في التهذيب.
و"الحذية" و"الحذوة" (بكسر الحاء) : هو ما قطع من اللحم طولا، أو القطعة الصغيرة من اللحم. وأما "البضعة" فهي بفتح الباء وسكون الضاد. وكان في المخطوطة: "يعني بعضه"، والصواب ما في المطبوعة.
561
١١١٩٦- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني عبد الصمد قال، حدثنا شعبة، عن عبد ربه بن سعيد قال: سمعت بكير بن الأشج يحدّث، عن سعد قال: كُل، وإن أكل ثلثيه. (١)
١١١٩٧- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا سعيد بن الربيع قال، حدثنا شعبة، عن عبد ربه بن سعيد قال: سمعت بكير بن الأشج، عن سعيد بن المسيب = قال شعبة: قلت: سمعته من سعيد؟ قال: لا = قال: كل وإن أكل ثلثيه = قال: ثم إن شعبة قال في حديثه: عن سعد. قال: كل، وإن أكل نصفه.
١١١٩٨- حدثنا ابن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر، عن أبي هريرة قال: إذا أرسلت كلبك فأكل منه، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه، فكل.
١١١٩٩- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن أبي هريرة، بنحوه.
١١٢٠٠- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن أبي هريرة، نحوه.
١١٢٠١- حدثنا ابن المثنى قال، حدثني سالم بن نوح العطار، عن عمر= يعني: ابن عامر = عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان قال: إذا
(١) الأثر: ١١١٦٩-"عبد ربه بن سعيد بن قيس بن عمرو الأنصاري"، روى عن جده قيس بن عمرو. ثقة. مترجم في التهذيب.
562
أرسلت كلبك المعلَّم فأخذ فقتل، فكل، وإن أكل ثلثيه. (١)
١١٢٠٢- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت عبيد الله (٢) = ح وحدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن عبيد الله بن عمر= عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال: إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم الله، فكل ما أمسك عليك، أكل أو لم يأكل.
١١٢٠٣- حدثنا ابن المثنى، قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، بنحوه.
١١٢٠٤- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن أبي ذئب: أن نافعًا حدَّثهم: أن عبد الله بن عمر كان لا يرى بأكل الصيد بأسًا، إذا قتله الكلب أكل منه.
١١٢٠٥- حدثني يونس به مرة أخرى فقال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبيد الله بن عمرو، ابن أبي ذئب، وغير واحد: أن نافعًا حدَّثهم، عن عبد الله بن عمر، فذكر نحوه.
١١٢٠٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا محمد بن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان لا يرى بأسًا بما أكل الكلبُ الضاري.
١١٢٠٧- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن حميد بن عبد الله، عن سعد قال: قلت لنا: كلاب ضوارٍ يأكلن ويبقين؟ قال: كل، وإن لم يبق إلا بَضْعة.
١١٢٠٨- حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن ابن أبي
(١) الأثر: ١١٢٠١-"سالم بن نوح العطار" = و"عمر بن عامر السلمي"، مضيا برقم: ٢٨٥٢.
(٢) في المطبوعة: "عبد الله"، والصواب من المخطوطة، وهي غير منقوطة.
563
ذئب، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، عن حميد قال: سألت سعدًا، فذكر نحوه. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا في تأويل قوله:"تعلمونهن مما علمكم الله": أن"التعليم" الذي ذكره الله في هذه الآية للجوارح، إنما هو أن يعلِّم الرجل جارحَه الاستشلاء إذا أُشلي على الصيد (٢) وطلبه إياه إذا أغرى، أو إمساكه عليه، إذا أخذه من غير أن يأكل منه شيئًا، وألا يفرّ منه إذا أراده، وأن يجيبه إذا دعاه. فذلك، هو تعليم جميع الجوارح، طيرها وبهائمها. فإن أكل من الصيد جارحةُ صائد (٣) فجارحه حينئذ غير معلَّم. (٤) فإن أدرك صيده صاحبُه حيًّا فذكّاه، حلَّ له أكله. وإن أدركه ميتًا، لم يحلَّ له أكله، لأنه مما أكله السَّبُع الذي حرمه الله تعالى بقوله: (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ)، ولم يدرك ذكاته.
وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما:-
١١٢٠٩- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم: أنه سأل النبي ﷺ عن الصيد فقال: إذا أرسلتَ كلبك فاذكر اسم الله عليه، فإن أدركته وقد قتل وأكل منه فلا تأكل منه شيئًا، فإنما أمسكَ على نفسه. " (٥)
(١) الأثران: ١١٢٠٧، ١١٢٠٨-"حميد بن عبد الله"، هو"حميد بن مالك بن خثيم" الذي مضى في الأثر: ١١١٩٥، وانظر التعليق عليه هناك.
و"يعقوب بن عبد الله بن الأشج" أخو"بكير بن عبد الله بن الأشج" الذي سلف برقم: ١١١٩٥ وهو ثقة. مترجم في التهذيب.
(٢) انظر القول في"الإشلاء" و"الاستشلاء" فيما سلف ص: ٥٥٣، تعليق: ٤.
(٣) في المطبوعة: "وإن أكل... " بالواو، والجيد ما في المخطوطة، بالفاء.
(٤) في المطبوعة: "فجارحه" بغير تاء التأنيث، والجيد ما في المخطوطة.
(٥) الأثر: ١١٢٠٩- حديث صحيح. رواه البخاري (الفتح ٩: ٥٢٧)، ومسلم ١٣: ٧٨، ٧٩، وأحمد في المسند ٤: ٢٥٧، ٣٧٩، وأبو داود في سننه ٣: ١٤٥ رقم: ٢٨٤٩، والبيهقي في السنن ٩: ٢٣٦، ٢٣٨، ٢٤٢، ٢٤٤ من طرق، مطولا.
564
١١٢١٠- حدثنا أبو كريب وأبو هشام الرفاعي قالا حدثنا محمد بن فضيل، عن بيان بن بشر، عن عامر، عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله ﷺ فقلت: إنا قوم نتصيَّد بهذه الكلاب؟ فقال: إذا أرسلت كلابَك المعلَّمة وذكرت اسم الله عليها، فكل ما أمسكن عليك وإن قتلن، إلا أن يأكل الكلبُ، فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما حَبَسه على نفسه. " (١)
* * *
فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما حدثك به:-
١١٢١١- عمران بن بكّار الكلاعي قال، حدثنا عبد العزيز بن موسى قال، حدثنا محمد بن دينار، عن أبي إياس، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان الفارسي، عن النبي ﷺ قال: إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه، فليأكل ما بقي. (٢)
(١) الأثر: ١١٢١٠- حديث صحيح. رواه البخاري من طريق قتيبة بن سعيد، عن محمد بن فضيل (الفتح ٩: ٥٢٧، ٥٢٨)، ومسلم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن فضيل ١٣: ٧٥، وأحمد في مسنده ٤: ٢٥٨، والبيهقي في السنن ٩: ٢٣٦، ٢٣٧، وأبو داود في سنن ٣: ١٤٥، رقم: ٢٨٤٨ مطولا.
(٢) الأثر: ١١٢١١-"عمران بن بكار الكلاعي"، شيخ الطبري. مضى برقم: ١٤٩، ٢٠٧١.
و"عبد العزيز بن موسى بن روح اللاحوني"، أبو روح، البهراني الحمصي. قال أبو حاتم: "صدوق ثقة مأمون". مترجم في التهذيب.
و"محمد بن دينار الأزدي الطاحي"، وهو"ابن أبي الفرات"، و"أبو بكر بن أبي الفرات" قال النسائي: "ليس به بأس"، وقال في موضع آخر: "ضعيف"، وقال أبو داود: "تغير قبل أن يموت"، وقال الدارقطني: "ضعيف"، وقال مرة: "متروك". مترجم في التهذيب.
و"أبو إياس"، هو"معاوية بن قرة بن إياس المزني"، تابعي ثقة. مترجم في التهذيب.
وهذا الأثر قد تكلم الطبري في إسناده فيما يلي، ونقل ابن كثير في تفسيره ٣: ٧٥، ما قاله الطبري، ثم عقب عليه بقوله: "وهذا الذي قاله ابن جرير صحيح، ولكن قد روي هذا المعنى مرفوعًا من وجوه أخر، فقال أبو داود: حدثنا محمد بن المنهال الضرير، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده... " وساق حديث أبي داود في سننه ٣: ١٤٧، رقم: ٢٨٥٧، ثم قال ابن كثير: "هكذا رواه أبو داود، وقد أخرجه النسائي. وكذا رواه أبو داود من طريق يونس بن سيف، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة... " ثم ساق حديث أبي داود في سننه ٣: ١٤٧، رقم: ٢٨٥٦، ثم قال: "وهذان إسنادان جيدان".
565
قيل: هذا خبر في إسناده نظر، فإن"سعيدًا" غير معلوم له سماع من"سلمان"، والثقات من أهل الآثار يقفون هذا الكلام على سلمان، ويروونه عنه من قِبَله غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والحفَّاظ الثقات إذا تتابعوا على نقل شيء بصفة، فخالفهم واحد منفردٌ ليس له حفظهم، كانت الجماعة الأثبات أحقَّ بصحة ما نقلوا من الفرد الذي ليس له حفظهم. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وإذا كان الأمر في الكلب على ما ذكرتُ: من أنه إذا أكل من الصيد فغيرُ معلَّم، فكذلك حكم كل جارحة: في أن ما أكل منها من الصيد فغير معلَّم، لا يحل له أكل صيده إلا أن يدرك ذكاته.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، فكلوا، أيها الناس، مما أمسكت عليكم جوارحكم.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم: ذلك على الظاهر والعموم كما عممه الله، حلال أكل كلِّ ما أمسكت علينا الكلاب والجوارح المعلَّمة من الصيد الحلال أكله، أكل منه الجارح والكلاب أو لم يأكل منه، أدركتْ ذكاته فذُكِّي أو لم تدرَك ذكاته حتى قتلته الجوارح بجرحها إياه أو بغير جَرْح.
(١) انظر التعليق على الأثر السالف، رقم: ١١٢١١.
566
وهذا قول الذين قالوا:"تعليم الجوارح الذي يحلّ به صيدها أن تعلَّم الاستشلاء على الصيد، وطلبه إذا أشْليت عليه، وأخذه، وترك الهرب من صاحبها، دون ترك الأكل من صيدها إذا صادته". وقد ذكرنا قول قائلي هذه المقالة والرواية عنهم بأسانيدها الواردة آنفًا. (١)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك على الخصوص دون العموم. قالوا: ومعناه: فكلوا مما أمسكن عليكم من الصيد جميعه دون بعضه. قالوا: فإن أكلت الجوارح منه بعضًا وأمسكت بعضًا، فالذي أمسكت منه غير جائز أكلُه وقد أكلت بعضه، لأنها إنما أمسكت ما أمسكت من ذلك الصيد بعد الذي أكلت منه، على أنفسها لا علينا، والله تعالى ذكره إنما أباح لنا كلَ ما أمسكته جوارحنا المعلمة علينا بقوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، دون ما أمسكته على أنفسها. وهذا قول من قال:" تعليم الجوارح الذي يحلُّ به صيدها: أن تَستشلى للصيد إذا أشليت، فتطلبه وتأخذه، فتمسكه على صاحبها فلا تأكل منه شيئًا، ولا تفر من صاحبها". وقد ذكرنا ممن قال ذلك فيما مضى منهم جماعة كثيرة (٢) ونذكر منهم جماعة أخَر في هذا الموضع. (٣)
١١٢١٢- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، يقول: كلوا مما قتلن = قال علي: وكان ابن عباس يقول: إن قتل وأكل فلا تأكل، وإن أمسك فأدركته حيًّا فذكِّه.
١١٢١٣- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
(١) انظر ما سلف من الآثار من رقم: ١١١٨٧، وما بعده.
(٢) انظر ما سلف من الآثار، من رقم: ١١١٨٢، وما بعده.
(٣) في المطبوعة: "جماعة آخرين"، وأثبت ما في المخطوطة.
567
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إن أكل المعلَّم من الكلاب من صيده قبل أن يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته، فلا يأكل من صيده.
١١٢١٤- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، إذا صادَ الكلب فأمسكه وقد قتله ولم يأكل منه، فهو حِلٌّ. فإن أكل منه، فيقال: إنما أمسك على نفسه. (١) فلا تأكل منه شيئًا، إنه ليس بمعلَّم.
١١٢١٥- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يسألونك ماذا أحل لهم" إلى قوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه"، قال: إذا أرسلت كلبك المعلَّم أو طيرك أو سهمك، فذكرت اسم الله، فأخذ أو قتل، فكل.
١١٢١٦- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: إذا أرسلت كلبك المعلّم فذكرت اسم الله حين ترسله، فأمسك أو قتل، فهو حلال. فإذا أكل منه فلا تأكله، فإنما أمسكه على نفسه.
١١٢١٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الشعبي، عن عديّ قوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، قال: قلت يا رسول الله، إن أرضي أرضُ صيد؟ قال:"إذا أرسلت كلبك وسميت، فكل مما أمسك عليك كلبُك وإن قتل. فإن أكل فلا تأكل، فإنه إنما أمسك على نفسه. (٢)
(١) في المخطوطة: "إنما أمسك فلا تأكل......" أسقط"على نفسه"، والصواب إثباتها كما في المطبوعة.
(٢) الأثر: ١١٢١٧- حديث صحيح، أخرجه البخاري (الفتح ٩: ٥٢٧)، نحوًا من لفظه. ورواه بهذا اللفظ مطولا، أحمد في مسنده ٤: ٢٥٧، وانظر التعليق على الأثر السالف رقم: ١١٢٠٩.
568
وقد بينا أولى القولين في ذلك بالصواب قبلُ، فأغنى ذلك عن إعادته وتكراره. (١)
* * *
فإن قال قائل: وما وجه دخول"من"، في قوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، وقد أحل الله لنا صيد جوارحنا الحلالِ، و"من" إنما تدخل في الكلام مبعِّضَة لما دخلت فيه؟
قيل: قد اختلف في معنى دخولها في هذا الموضع أهل العربية.
فقال بعض نحويي البصرة: دخلت"من" في هذا الموضع لغير معنًى، كما تدخله العرب في قولهم:"كان من مطر" و"كان من حديث". قال: ومن ذلك قوله: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) [سورة البقرة: ٢٧١]، وقوله: (وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) [سورة النور: ٤٣]، قال: وهو فيما فسِّر: وينزل من السماء جبالا فيها برد. قال: وقال بعضهم: و"ينزل من السماء من جبال فيها من برد"، أي: من السماء من برد، بجعل"الجبال من برد" في السماء، وبجعل الإنزال منها. (٢)
* * *
وكان غيره من أهل العربية ينكر ذلك ويقول: لم تدخل"من" إلا لمعنى مفهوم، لا يجوز الكلام ولا يصلح إلا به. وذلك أنها دالة على التبعيض. وكان يقول: معنى قولهم"قد كان من مطر" و"كان من حديث"؛ هل كان من مَطَرِ مَطَرَ عندكم؟ وهل من حديث حُدِّث عندكم؟ (٣) ويقول: معنى: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ)، أي: ويكفر عنكم من سيِّئاتكم ما يشاء ويريد = وفي قوله: (وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ)، فيجيز
(١) انظر ما سلف ص: ٥٦٤.
(٢) انظر ما سلف ٢: ١٢٦، ١٢٧ / ٥: ٥٨٦/٦: ٥٥١/٧: ٤٨٩.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "حديث حديث عندكم"؛ والصواب ما أثبت. ويعني قائل ذلك أن قوله"قد كان من مطر" إلخ، إنما هو جواب لقول القائل: هل كان من مطر مطر عندكم؟
569
حذف"من" من"من برد" (١) ولا يجيز حذفها من"الجبال"، ويتأول معنى ذلك: وينزل من السماء أمثالَ جبالٍ بردٍ، ثم أدخلت"من" في"البرد"، لأن"البرد" مفسَّر عنده من"الأمثال" (٢) أعني:"أمثال الجبال"، وقد أقيمت"الجبال" مقام"الأمثال"، و"الجبال" وهي"جبال برد" فلا يجيز حذف"من" من"الجبال"، لأنها دالة على أن الذي في السماء الذي أنزل منه البرد، أمثالُ جبال بردٍ. وأجاز حذف"من" من"البرد"، لأن"البرد" مفسَّر عن"الأمثال"، كما تقول:"عندي رطلان زيتًا" و"عندي رطلان من زيت"، وليس عندك"الرطل"، وإنما عندك المقدار. فـ"من" تدخل في المفسِّر وتخرج منه. وكذلك عند قائل هذا القول: من السماء، من أمثال جبال، وليس بجبال. وقال: وإن كان:"أنزل من جبال في السماء من برد جبالا"، ثم حذف"الجبال" الثانية، و"الجبال" الأول في السماء، جاز. تقول:"أكلت من الطعام"، تريد: أكلت من الطعام طعامًا، ثم تحذف"الطعام" ولا تسقط"من".
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن"من" لا تدخل في الكلام إلا لمعنى مفهوم، وقد يجوز حذفها في بعض الكلام وبالكلام إليها حاجة، لدلالة ما يظهر من الكلام عليها. فأما أن تكون في الكلام لغير معنى أفادته بدخولها، فذلك قد بيَّنا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون فيما صحّ من الكلام. (٣)
ومعنى دخولها في قوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، للتبعيض، إذ كانت الجوارح تمسك على أصحابها ما أحل الله لهم لحومه، وحرَّم عليهم فَرْثه ودمَه، فقال جل ثناؤه:"فكلوا" = مما أمسكتْ عليكم جوارحكم (٤) = الطيبات التي أحللت
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "حذف من من برد"، والصواب زيادة"من" الثالثة كما أثبتها.
(٢) "المفسر": المميز. و"التفسير": التمييز. وانظر فهارس المصطلحات.
(٣) انظر المواضع السالفة التي أشرنا إليها في التعليق: ٢، ص ٥٦٩.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "مما أمسكن عليكم جوارحكم"، والصواب الجيد ما أثبت، إنما خلط النساخ بين (النون)، و"التاء".
570
لكم من لحومها، دون ما حرمت عليكم من خبائثه من الفرث والدم وما أشبه ذلك، مما لم أطيبه لكم. فذلك معنى دخول"من" في ذلك.
وأما قوله: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ)، فقد بينا وجه دخولها فيه فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (١)
وأما دخولها في قوله: (وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ)، فسنبينه إذا أتينا عليه إن شاء الله. (٢).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (واذكروا اسم الله عليه) (٣) على ما أمسكت عليكم جوارحكم من الصيد. كما:-
١١٢١٨- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"واذكروا اسم الله عليه"، يقول: إذا أرسلت جوارحك فقل:"بسم الله"، وإن نسيت فلا حَرَج.
١١٢١٩- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"واذكروا اسم الله عليه"، قال: إذا أرسلته فسَمِّ عليه حين ترسله على الصيد.
* * *
(١) انظر ما سلف ٥: ٥٨٦، والمواضع الأخرى في التعليق السالف ص: ٥٦٩، رقم: ٢.
(٢) انظر ج ١٨: ١١٨، ١١٩ (بولاق) من هذا التفسير، ولم يف أبو جعفر بما وعد، فلم يبينه بيانًا كافيًا حيث أشار إليه. وقد كان في المطبوعة هنا: "إن شاء الله تعالى". وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "واذكروا اسم الله على ما أمسكت... " والصواب إثبات"عليه" من تمام الآية، وما بعده تفسير قوله: "عليه".
571
القول في تأويل قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: واتقوا الله، أيها الناس، فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، فاحذروه في ذلك أن تقدموا على خلافه، وأن تأكلوا من صيد الجوارح غير المعلَّمة، أو مما لم تمسك عليكم من صيدها وأمسكته على أنفسها، أو تطعَمُوا ما لم يسمَّ الله عليه من الصيد والذبائح مما صادَه أهل الأوثان وعبدة الأصنام ومن لم يوحِّد الله من خلقه، أو ذبحوه، فإن الله قد حرَّم ذلك عليكم فاجتنبوه.
ثم خوَّفهم إن هم فعلوا ما نهاهم عنه من ذلك ومن غيره. فقال: اعلموا أن الله سريعٌ حسابه لمن حاسبه على نِعَمه عليه منكم (١) وشكرِ الشاكر منكم ربَّه على ما أنعم به عليه بطاعته إياه فيما أمر ونهى، لأنه حافظ لجميع ذلك فيكم، فيحيط به، لا يخفى عليه منه شيء، فيجازي المطيعَ منكم بطاعته، والعاصيَ بمعصيته، وقد بيَّن لكم جزاء الفريقين. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"اليوم أحل لكم الطيبات"، اليوم أحل لكم، أيها المؤمنون، الحلالُ من الذبائح والمطاعم دون الخبائث منها.
وقوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم"، وذبائحُ أهل الكتاب من
(١) في المطبوعة: "على نعمته... "، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) انظر تفسير"سريع الحساب" فيما سلف ٧: ٥٠١، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
572
اليهود والنصارى = وهم الذين أوتوا التوراة والإنجيل وأنزل عليهم، فدانُوا بهما أو بأحدهما ="حل لكم" (١) يقول: حلالٌ لكم، أكله دون ذبائح سائر أهل الشرك الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب وعبدة الأوثان والأصنام. فإن من لم يكن منهم مِمَّن أقرَّ بتوحيد الله عزَّ ذكره ودان دين أهل الكتاب، فحرام عليكم ذبائحهم.
* * *
ثم اختلف فيمن عنى الله عز ذكره بقوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب"، من أهل الكتاب.
فقال بعضهم: عنى الله بذلك ذبيحة كل كتابي ممن أنزل عليه التوراة والإنجيل، أو ممن دخل في مِلَّتهم فدان دينهم، وحرَّم ما حرَّموا، وحلَّل ما حللوا، منهم ومن غيرهم من سائر أجناس الأمم.
*ذكر من قال ذلك:
١١٢٢٠- حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا خصيف قال، حدثنا عكرمة قال، سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى بني تغلب، فقرأ هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ) إلى قوله: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)، الآية [سورة المائدة: ٥١]. (٢)
١١٢٢١- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان: عن عاصم الأحول، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله.
١١٢٢٢- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن عثمة قال، حدثنا سعيد بن بشر، عن قتادة، عن الحسن وعكرمة: أنهما كانا لا يريان بأسًا بذبائح نصارى
(١) انظر تفسير"حل" و"حلال" فيما سلف ٣: ٣٠٠، ٤٨٧.
(٢) الأثر: ١١٢٢٠- هذا الأثر مؤخر بعد الذي يليه في المخطوطة، فلا أدري أهو مؤخر، أم سقط قبل الأثر رقم ١١٢٢١، أثر آخر، فاجتهد ناشر الكتاب أو ناسخ سابق، فقدم وأخر.
573
بني تغلب، وبتزوُّج نسائهم، ويتلوان: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ).
١١٢٢٣- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن وسعيد بن المسيب: أنهما كانا لا يريان بأسًا بذبيحة نصارى بني تغلب.
١١٢٢٤- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن الشعبي: أنه كان لا يرى بأسًا بذبائح نصارى بني تغلب، وقرأ: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)، [سورة مريم: ٦٤].
١١٢٢٥- حدثني ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، حدثني ابن شهاب عن ذبيحة نصارى العرب، قال. تؤكل من أجل أنهم في الدين أهلُ كتاب، ويذكرون اسمَ الله.
١١٢٢٦- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال، قال عطاء: إنما يقرُّون بدين ذلك الكتاب. (١)
١١٢٢٧- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا شعبة قال: سألت الحكم وحمادًا وقتادة عن ذبائح نصارى بني تغلب، فقالوا: لا بأس بها. قال: وقرأ الحكم: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ)، [سورة البقرة: ٧٨].
١١٢٢٨- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كلوا من ذبائح بني تغلب، وتزوَّجوا من نسائهم، فإن الله قال في كتابه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [سورة المائدة: ٥١]، فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية، لكانوا منهم.
(١) في المطبوعة: "إنما يقرأون ذلك الكتاب"، وفي المخطوطة: "إنما يقرون بين ذلك" ورأيت أن صواب قراءتها كما أثبت، أي: أنهم يدينون بدين ذلك الكتاب.
574
١١٢٢٩- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة: أن الحسن كان لا يرى بأسًا بذبائح نصارى بني تغلب، وكان يقول: انتحلوا دينًا، فذاك دينهم.
* * *
وقال آخرون: إنما عنى بالذين أوتوا الكتاب في هذه الآية، الذين أنزل عليهم التوراة والإنجيل من بني إسرائيل وأبنائهم، فأما من كان دخيلا فيهم من سائر الأمم ممن دان بدينهم وهم من غير بني إسرائيل، فلم يعن بهذه الآية، وليس هو ممن يحل أكل ذبائحه، لأنه ليس ممن أوتي الكتاب من قَبْل المسلمين. وهذا قول كان محمد بن إدريس الشافعي يقوله = حدثنا بذلك عنه الربيع = ويتأول في ذلك قول من كره ذبائح نصارى العرب من الصحابة والتابعين. (١)
* * *
ذكر من حرَّم ذبائح نصارى العرب.
١١٢٣٠- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، عن عبيدة قال، قال علي رضوان الله عليه: لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب، فإنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر. (٢)
١١٢٣١- حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن علي قال: لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب، فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر.
١١٢٣٢- حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا عبد الله بن بكر قال، حدثنا هشام، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: سألت عليًّا عن ذبائح نصارى العرب، فقال: لا تؤكل ذبائحهم، فإنهم لم يتعلَّقوا من دينهم إلا بشرب الخمر.
١١٢٣٣- حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا علي بن عابس،
(١) انظر الأم ٢: ١٩٦.
(٢) الأثر: ١١٢٣٠- رواه الشافعي في الأم ٢: ١٩٦، والبيهقي في السنن ٩: ٢٨٤، وأشار إليه الحافظ ابن حجر في (الفتح ٩: ٥٤٩)، وقال: "أخرجه الشافعي وعبد الرزاق بأسانيد صحيحة".
575
عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري قال: نهانا عليٌّ عن ذبائح نصارى العرب. (١)
١١٢٣٤- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي حمزة القصاب قال: سمعت محمد بن علي يحدث، عن علي: أنه كان يكره ذبائح نصارى بني تغلب.
١١٢٣٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال، لا تأكلوا ذبائح نصارى العرب، وذبائح نصارى أرْمينية.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأخبار عن عليّ رضوان الله عليه، إنما تدل على أنه كان ينهى عن ذبائح نصارى بني تغلب، من أجل أنهم ليسوا على النصرانية، لتركهم تحليل ما تحلِّل النصارى، وتحريم ما تُحَرّم، غير الخمر. ومن كان منتحلا (٢) ملّة هو غير متمسك منها بشيء فهو إلى البراءة منها أقرب منه إلى اللحاق بها وبأهلها. (٣) فلذلك نهى عليٌّ عن أكل ذبائح نصارى بني تغلب، لا من أجل أنهم ليسوا من بني إسرائيل.
فإذ كان ذلك كذلك، وكان إجماعًا من الحجة أن لا بأس بذبيحة كل نصرانيّ ويهوديّ دان دين النصرانيّ أو اليهودي (٤) فأحل ما أحلُّوا، وحرَّم ما حرموا،
(١) الأثر: ١١٢٣٣-"علي بن سعيد بن مسروق الكندي"، مضى برقم: ١١٨٤، ٢٧٨٤.
و"علي بن عابس الأسدي"، ضعيف، يعتبر به. مترجم في التهذيب.
و"أبو البختري"، هو: "سعيد بن فيروز الطائي" مضى برقم: ١٧٥، ١٤٩٧.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "من كان منتحلا... " بغير واو في أوله الكلام، وهو فساد، والصواب إثباتها.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "فهو إلى البراءة منها أقرب إلى اللحاق... "، بإسقاط"منه"، وهو اختلال شديد، والصواب إثباتها.
(٤) في المطبوعة: "وكان إجماعًا من الحجة إحلال ذبيحة كل نصراني ويهودي انتحل دين النصارى أو اليهودي، فأحل... "، لم يحسن قراءة المخطوطة، فوضع مكان ما حذف منها ما وضع. وكان في المخطوطة: "وكان إجماعًا من الحجة ألا بأس فذبيحة كل نصراني ويهودي دان دين النصراني أو اليهودي"، وظاهر أن صواب قراءة صدر هذه الجملة هو ما أثبته، وهو مطابق لما جاء في الآثار السالفة من ١١٢٢٢-١١٢٢٩.
576
من بني إسرائيل كان أو من غيرهم = (١) فبيِّنٌ خطأ ما قال الشافعي في ذلك، وتأويله الذي تأوّله في قوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حِلٌّ لكم"، أنه ذبائح الذين أوتوا الكتابَ التوراةَ والإنجيلَ من بني إسرائيل = (٢) وصوابُ ما خالف تأويله ذلك، وقولِ من قال: إن كل يهودي ونصراني فحلال ذبيحتُه، من أيِّ أجناس بني آدم كان.
* * *
وأمَّا"الطعام" الذي قال الله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب"، فإنه الذبائح.
* * *
وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
١١٢٣٦- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم"، قال: الذبائح.
١١٢٣٧- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، قال: ذبائحهم.
١١٢٣٨- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
١١٢٣٩- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم وقبيصة قالا حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
١١٢٤٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي، عن أبي سنان، عن ليث، عن مجاهد، مثله. (٣)
(١) السياق: وإذ كان ذلك كذلك، وكان إجماعًا من الحجة... فبين خطأ ما قال الشافعي...
(٢) السياق:
فبين خطأ ما قال الشافعي وصواب ما خالف تأويله ذلك.
(٣) الأثر: ١١٢٤٠-"إسحق بن سليمان الرازي العبدي، سلف برقم: ٦٤٥٦.
و"أبو سنان" هو: "سعيد بن سنان الشيباني"، مضى برقم: ١٧٥.
577
١١٢٤١- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١١٢٤٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، قال: ذبيحة أهل الكتاب.
١١٢٤٣- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، قال: ذبائحهم.
١١٢٤٤- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، بمثله.
١١٢٤٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله.
١١٢٤٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله.
١١٢٤٧- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم وقبيصة قالا حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله.
١١٢٤٨- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، قال: ذبائحهم.
١١٢٤٩- حدثني المثنى قال، حدثنا المعلى بن أسد قال، حدثنا خالد، عن يونس، عن الحسن، مثله. (١)
(١) الأثر: ١١٢٤٩-"المعلى بن أسد العمي" الحافظ الثقة، روى عنه البخاري، والباقون بالواسطة. مترجم في التهذيب، ومضى غير مترجم برقم: ٧٢٣٢.
578
١١٢٥٠- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، أي: ذبائحهم.
١١٢٥١- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، أما طعامهم، فهو الذبائح.
١١٢٥٢- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، قال: أحل الله لنا طعامهم ونساءَهم.
١١٢٥٣- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: أما قوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، فإنه أحلَّ لنا طعامهم ونساءهم.
١١٢٥٤- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألته = يعني ابن زيد = (١) عما ذبح للكنائس وسُمِّي عليها، فقال: أحل الله لنا طعام أهل الكتاب، ولم يستثن منه شيئًا.
١١٢٥٥- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني معاوية، عن أبي الزاهرية حدير بن كريب، = عن أبي الأسود، عن عُمَير بن الأسود: أنه سأل أبا الدرداء عن كبش ذُبح لكنيسة يقال لها"جرجس"، أهدوه لها، أنأكل منه؟ فقال أبو الدرداء: اللهم عفوًا! إنما هم أهل كتاب، طعامهم حلٌّ لنا، وطعامنا حل لهم! وأمره بأكله. (٢)
(١) في المطبوعة: "يعني ابن يزيد"، وهو خطأ، محض، وهو إسناد دائر في التفسير.
(٢) الأثر: ١١٢٥٥-"معاوية"، هو"معاوية بن صالح بن حدير الحمصي الحضرمي"، مضى برقم: ١٨٦، ١٨٧، ٢٠٧٢، ٨٤٧٢.
و"أبو الزاهرية"، وهو"حدير بن كريب الحضرمي = أو الحميري". روى عن حذيفة، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وغيرهم من الصحابة. روى عنه معاوية بن صالح، وغيره. قال ابن سعد: "وكان ثقة إن شاء الله، كثير الحديث". مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/٩١.
وفي هذا الإسناد إشكال. فإن ظاهره أن أبا الزاهرية حدير بن كريب، روى الأثر عن"أبي الأسود، عن عمير بن الأسود"، وهذا محال. فإن أبا الزاهرية يروي مباشرة عن أبي الدرداء. فأكبر ظني أن في أصول التفسير سقطًا أو خرمًا في هذا الموضع، وأن الإسناد انتهى عند قوله"حدير بن كريب" وسقط أثر حدير بن كريب عن أبي الدرداء، وبدأ إسناد آخر -لا ندري ما هو- ينتهي إلى أبي الأسود عن عمير بن الأسود، أنه سأل أبا الدرداء... إلخ. وسيظهر صواب ذلك فيما يأتي.
و"أبو الأسود" في هذا الإسناد التالي، لم أعرف من يكون فيمن يكنى بأبي الأسود.
وأما "عمير بن الأسود العنسي"، فزعم ابن حجر، أنه هو"عمرو بن الأسود" وبذلك ترجم له في التهذيب (٨: ٤) وأنهما رجل واحد، وقال: روى عن عمر، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وغيرهم من الصحابة. وقال ابن أبي حاتم ٣/١/٣٧٥: "عمير بن الأسود العنسي الشامي"، سمع عبادة، وأبا الدرداء، وأم حرام. روى عنه خالد بن معدان، سمعت أبي يقول ذلك". وترجم أيضًا"عمرو بن الأسود القيسي"، وقال:
"روى عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعبادة بن الصامت. روى عنه مجاهد، وخالد بن معدان "، ففرق تفريقًا ظاهرًا بين"عمرو بن الأسود القيسي"، و"عمير بن الأسود العنسي".
وكذلك فعل ابن سعد في الطبقات ٧/٢/١٥٣، ففرق بينهما قال: "عمير بن الأسود: سأل أبا الدرداء عن طعام أهل الكتاب. وروى عن معاذ بن جبل، وكان قليل الحديث ثقة".
ثم عقد ترجمة أخرى: "وعمرو بن الأسود السكوني: روى عن عمر ومعاذ، وله أحاديث".
فلا أدري من أين جعلهما الحافظ ابن حجر، رجلا واحدًا!!
وقد ثبت بما رواه ابن سعد، أن هذا الأثر، إنما هو من حديث عمير بن الأسود، أنه سأل: أبا الدرداء، وأنه حديث آخر، غير حديث حدير بن كريب أبي الزاهرية.
هذا، ولم أجد هذا الأثر -أو هذين الأثرين- في مكان آخر، وقد أغفل ابن كثير روايته في تفسيره، وأغفله أيضًا السيوطي في الدر المنثور. وكتبه: محمود محمد شاكر.
579
وأما قوله:"وطعامكم حل لهم"، فإنه يعني: ذبائحكم، أيها المؤمنون، حِلٌّ لأهل الكتاب.
* * *
580
القول في تأويل قوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"والمحصنات من المؤمنات"، أحل لكم، أيها المؤمنون، المحصنات من المؤمنات = وهن الحرائر منهن (١) = أن تنكحوهن ="والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، يعني: والحرائر من الذين أعطوا الكتاب (٢) وهم اليهود والنصارى الذين دانوا بما في التوراة والإنجيل من قبلكم، أيها المؤمنون بمحمد ﷺ من العرب وسائر الناس، أن تنكحوهن أيضًا ="إذا آتيتموهن أجورهن"، يعني: إذا أعطيتم من نكحتم من محصناتِكم ومحصناتهم (٣) ="أجورهن"، وهي مهورُهن. (٤)
* * *
واختلف أهل التأويل في المحصنات اللاتي عناهن الله عز ذكره بقوله:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم".
فقال بعضهم: عنى بذلك الحرائر خَاصة، فاجرةً كانت أو عفيفةً. وأجاز قائلو هذه المقالة نكاح الحرة، مؤمنة كانت أو كتابية من اليهود والنصارى، من أيِّ أجناس الناس كانت (٥) بعد أن تكون كتابية، فاجرة كانت أو عفيفةً.
(١) انظر تفسير"المحصنات"، و"الإحصان" فيما سلف ٨: ١٥١-١٦٩/ ثم ٨: ١٨٥-١٩٠.
(٢) انظر تفسير"آتى" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٣) انظر تفسير"آتى" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٤) انظر تفسير"الأجور" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٥) في المطبوعة والمخطوطة: "من أي أجناس كانت"، وزدت"الناس"، لأن السياق يقتضيها اقتضاء لا شك فيه. ولو قلت مكانها: "من أي أجناس اليهود والنصارى كانت"، لكان صوابا أيضًا.
581
وحرّموا إماء أهل الكتاب أن يُتَزَوَّجن بكل حال (١) لأن الله جل ثناؤه شرطَ من نكاح الإماء الإيمانَ بقوله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ)، [سورة النساء: ٢٥].
*ذكر من قال ذلك:
١١٢٥٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو داود، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب"، قال: من الحرائر.
١١٢٥٧- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: من الحرائر.
١١٢٥٨- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب: أن رجلا طلَّق امرأته وخُطِبَت إليه أخته، وكانت قد أحدثت، فأتى عمر فذكر ذلك له منها، فقال عمر: ما رأيت منها؟ قال: ما رأيت منها إلا خيرًا! فقال: زوِّجها ولا تُخْبِر.
١١٢٥٩- حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا سليمان الشيباني قال، حدثنا عامر قال: زنت امرأة منَّا من همدان، قال: فجلدها مُصَدِّق رسول الله ﷺ الحدَّ (٢) ثم تابت. فأتوا عمر فقالوا:
(١) في المطبوعة: "أن نتزوجهن"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) "المصدق" هو العامل على الصدقات، يجمعها من أهلها.
582
نزوّجها، وبئسَ ما كان من أمرها! قال عمر: لئن بلغني أنكم ذكرتم شيئًا من ذلك، لأعاقبنكم عقوبةً شديدة.
١١٢٦٠- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب: أن رجلا أراد أن يزوِّج أخته، فقالت: إني أخشى أن أفضَح أبي، فقد بَغَيْتُ! فأتى عمر، فقال: أليس قد تابت؟ قال: بلى! قال: فزوّجها.
١١٢٦١- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي: أن نُبَيْشة، امرأةً من همدان، بغتْ، فأرادت أن تذبح نفسها، قال: فأدركوها، فداووها فبرئت، فذكروا ذلك لعمر، فقال: انكحوها نكاحَ العفيفة المسلمة.
١١٢٦٢- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر: أن رجلا من أهل اليمن أصابت أختُه فاحشة، فأمرَّت الشَّفرة على أوداجها، فَأُدْرِكت، فدُووِي جُرْحها حتى برئت. ثم إن عمها انتقل بأهله حتى قدم المدينة، فقرأت القرآن ونَسَكت، حتى كانت من أنسك نسائهم. فخطبت إلى عمها، وكان يكره أن يدلِّسها، ويكره أن يفشي على ابنة أخيه، فأتى عمر فذكر ذلك له، فقال عمر: لو أفشيت عليها لعاقبتك! إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوّجها إيّاه.
١١٢٦٣- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر: أن جارية باليمن يقال لها:"نبيشة"، أصابت فاحشة، فذكر نحوه.
١١٢٦٤- حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا إسماعيل، عن عامر قال: أتى رجل عمر فقال: إن ابنةً لي كانت وُئِدت في الجاهلية، فاستخرجتها قبل أن تموت، فأدركت الإسلام، فلما أسلمت أصابت حدًّا من
583
حدود الله، فعمدتْ إلى الشفرة لتذبح بها نفسها، فأدركتها وقد قطعت بعض أوداجها، فداويتها حتى برئت، ثم إنها أقبلت بتوبة حسنة، فهي تخطب إلَيّ يا أمير المؤمنين، فأخبر من شأنها بالذي كان؟ فقال عمر: أتخبر بشأنها؟ تعمد إلى ما ستره الله فتبديه! والله لئن أخبرت بشأنها أحدًا من الناس لأجعلنك نَكالا لأهل الأمصار، بل أنكحها بنكاحِ العفيفة المسلمة. (١)
١١٢٦٥- حدثنا أحمد بن منيع قال، حدثنا مروان، عن إسماعيل، عن الشعبي قال: جاء رجل إلى عمر، فذكر نحوه.
١١٢٦٦- حدثنا مجاهد قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير: أن رجلا خطب من رجل أخته، فأخبره أنها قد أحدثتْ. فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فضرب الرجل وقال: ما لك والخبر! أنكح واسكُت. (٢)
١١٢٦٧- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سليمان بن حرب قال، حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب: لقد هممت أن لا أدع أحدًا أصابَ فاحشة في الإسلام أن يتزوج مُحْصنة! فقال له أبيّ بن كعب: يا أمير المؤمنين، الشرك أعظم من ذلك، وقد يقبل منه إذا تاب!
* * *
وقال آخرون: إنما عنى الله بقوله:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، العفائفَ من الفريقين، إماءً كنَّ أو حرائر. فأجاز قائلو هذه المقالة نكاحَ إماء أهل الكتاب الدائنات دينَهم بهذه الآية،
(١) "الأوداج" جمع"ودج" (بفتحتين) : وهو عرق متصل من الرأس إلى النحر، والأوداج: عروق تكتنف الحلقوم.
(٢) هذه الأخبار السالفة، أدب من آداب هذا الدين عظيم، وهدي من هدي أهل الإيمان، أمروا به، ومضوا عليه. حتى خلفت من بعدهم الخلوف، فجهلوا أمر دينهم، وغالوا غلوا فاحشًا في استبشاع زلة من زل من أهل الإيمان، فقتل الرجل منهم بنته وأخته ومن له عليها الولاية. وما فعلوا ذلك، إلا بعد أن فارقوا جادة الإيمان في سائر ما أمرهم الله به، فاستمسكوا بالغلو الفاحش، وظنوا ذلك من تمام ديانتهم ومروءتهم. وهذا دليل على أن كل تفريط في الدين، يقابله في الجانب الآخر غلو في التدين بغير دين! ورحم الله عمر بن الخطاب، ما كان أبصره بالناس وأرحمه بهم.
584
وحرَّموا البغايا من المؤمنات وأهل الكتاب.
*ذكر من قال ذلك:
١١٢٦٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: العفائف.
١١٢٦٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
١١٢٧٠- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن مطرف، عن عامر:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: إحصان اليهودية والنصرانية: أن لا تزني، وأن تغتَسِل من الجنابة.
١١٢٧١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن عامر:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: إحصان اليهودية والنصرانية: أن تغتسل من الجنابة، وأن تحصن فرجَها.
١١٢٧٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن مطرف، عن رجل، عن الشعبي في قوله:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: إحصان اليهودية والنصرانية: أن لا تزني، وأن تغتسل من الجنابة.
١١٢٧٣- حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن مطرف، عن الشعبي في قوله:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: إحصانها: أن تغتسل من الجنابة، وأن تحصن فرجها من الزنا.
١١٢٧٤- حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد، قال، أخبرنا مطرف، عن عامر، بنحوه.
١١٢٧٥- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قال: سمعت سفيان يقول في قوله: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب)، قال: العفائف.
585
١١٢٧٦- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: أما"المحصنات"، فهنّ العفائف.
١١٢٧٧- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن امرأة اتخذت مملوكها (١) وقالت: تأوّلت كتابَ الله:"وما ملكت أيمانكم"، قال: فأتى بها عمر بن الخطاب، فقال له ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: تأوّلت آية من كتاب الله على غير وجهها. قال فغَرَّب العبد وجزَّ رأسه. (٢) وقال: أنتِ بعده حرام على كل مسلم.
١١٢٧٨- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن إبراهيم أنه قال: في التي تزني قبل أن يُدْخل بها (٣) قال: ليس لها صداق، ويفرَّق بينهما.
١١٢٧٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا أشعث، عن الشعبي، في البكر تفجُر (٤) قال: تضرب مئة سوط، وتنفى سنة، وترُدّ على زوجها ما أخذت منه.
١١٢٨٠- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا أشعث، عن أبي الزبير، عن جابر، مثل ذلك.
١١٢٨١- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا أشعث عن الحسن، مثل ذلك.
(١) قوله: "اتخذت مملوكها"، أي أمكنته من نفسها، وتسرت به كأنه زوج لها.
(٢) في المطبوعة: "فقرب العبد" بالقاف، وهو في المخطوطة كما أثبته غير منقوط، وصواب قراءته ما أثبت. و"التغريب": النفي. و"جز رأسه": أي قص شعره. ولم يرد القتل.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "تسرى قبل أن يدخل بها"، وكأن الصواب ما أثبت. انظر الأثر التالي.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "في البكر تهجر"، ولا معنى لذلك، والصواب ما أثبت.
586
١١٢٨٢- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس: أن الحسن كان يقول: إذا رأى الرجل من امرأته فاحشةً فاستيقن، فإنه لا يمسكها.
١١٢٨٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي ميسرة قال: مملوكات أهل الكتاب بمنزلة حرائرهم.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في حكم قوله عز ذكره:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، أعام أم خاصٌّ؟
فقال بعضهم: هو عامٌّ في العفائف منهن، لأن"المحصنات"، العفائف. وللمسلم أن يتزوج كل حرة وأمة كتابيةٍ، حربيةً كانت أو ذميَّةً.
واعتلُّوا في ذلك بظاهر قوله تعالى:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، وأن المعنيَّ بهن العفائف، كائنة من كانت منهن. وهذا قول من قال: عني بـ "المحصنات" في هذا الموضع: العفائف.
* * *
وقال آخرون: بل اللواتي عنى بقوله جل ثناؤه:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، الحرائرَ منهن، والآية عامة في جميعهن. فنكاح جميع الحرائر اليهود والنصارى جائز، حربيّات كنّ أو ذميات، من أيِّ أجناس اليهود والنصارى كنَّ. وهذا قول جماعة من المتقدمين والمتأخرين.
*ذكر من قال ذلك:
١١٢٨٤- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب والحسن: أنهما كانا لا يريان بأسًا بنكاح نساء اليهود والنصارى، وقالا أحلَّه الله على علم.
* * *
وقال آخرون منهم: بل عنى بذلك نكاحَ بني إسرائيل الكتابياتِ منهن
587
خاصة، دون سائر أجناس الأمم الذين دانوا باليهودية والنصرانية. وذلك قول الشافعي ومن قال بقوله. (١)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك معنىٌّ به نساءُ أهل الكتاب الذين لهم من المسلمين ذمَّة وعهدٌ. فأما أهل الحرب، فإن نساءهم حرام على المسلمين.
*ذكر من قال ذلك:
١١٢٨٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن عقبة، قال، حدثنا الفزاري، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: من نساء أهل الكتاب من يحلُّ لنا، ومنهم من لا يحلُّ لنا، ثم قرأ: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ)، [سورة التوبة: ٢٩]. فمن أعطى الجزية حلَّ لنا نساؤه، ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه = قال الحكم: فذكرت ذلك لإبراهيم، فأعجبه. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قولُ من قال:
(١) انظر الأم ٥: ٦ قوله: "ولا يحل نكاح حرائر من دان من العرب دين اليهودية والنصرانية، لأن أصل دينهم كان الحنيفية، ثم ضلوا بعبادة الأوثان، وإنما انتقلوا إلى دين أهل الكتاب بعده، لا بأنهم كانوا الذين دانوا بالتوراة والإنجيل فضلوا عنهما وأحدثوا فيها، إنما ضلوا عن الحنيفية، ولم يكونوا كذلك، لا تحل ذبائحهم، وكذلك كل أعجمي كان أصل دين من مضى من آبائه عبادة الأوثان، ولم يكن من أهل الكتابين المشهورين التوراة والإنجيل، فدان دينهم، لم يحل نكاح نسائهم". وانظر سنن البيهقي ٧: ١٧٣.
(٢) الأثر: ١١٢٨٥-"محمد بن عقبة بن المغيرة الشيباني"، "أبو عبد الله الطحان". روى عن أبي إسحق الفزاري، وسوار بن مصعب، وغيرهما. روى عنه البخاري وأبو كريب وغيرهما. قال البخاري"معروف الحديث"، وقال أبو حاتم"ليس بالمشهور"، وذكره ابن حبان في الثقات. قال ابن حجر: "وماله في البخاري سوى حديثين: أحدهما في الجمعة، متابعة. والآخر في الاعتصام، مقرونًا". مترجم في التهذيب، والكبير ١/١/٢٠٠.
و"الفزاري"، هو"أبو إسحق الفزاري": "إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة الفزاري"، الإمام الثقة. مضى برقم: ٣٨٣٣.
و"سفيان بن حسين الواسطي"، مضى برقم: ٣٤٧١، ٦٤٦٢.
588
عنى بقوله:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، حرائرَ المؤمنين وأهل الكتاب. لأن الله جل ثناؤه لم يأذن بنكاح الإماء الأحرارِ في الحال التي أباحهن لهم، إلا أن يكنَّ مؤمنات، فقال عز ذكره: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) [سورة النساء: ٢٥]، فلم يبح منهن إلا المؤمنات. فلو كان مرادًا بقوله:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب"، العفائفَ، لدخل العفائف من إمائهم في الإباحة، وخرج منها غير العفائف من حرائرهم وحرائر أهل الإيمان. وقد أحل الله لنا حرائر المؤمنات، وإن كن قد أتين بفاحشة بقوله: (وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) [سورة النور: ٣٢]. وقد دللنا على فساد قول من قال:"لا يحلُّ نكاح من أتى الفاحشة من نساء المؤمنين وأهل الكتاب للمؤمنين"، في موضع غير هذا، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
= فنكاح حرائر المسلمين وأهل الكتاب حلال للمؤمنين، كن قد أتين بفاحشة أو لم يأتين بفاحشة، ذميةً كانت أو حربيّةً، بعد أن تكون بموضع لا يخافُ الناكح فيه على ولده أن يُجْبر على الكفر، بظاهر قول الله جل وعز:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم".
* * *
فأما قول الذي قال:"عنى بذلك نساء بني إسرائيل، الكتابيّات منهن خاصة" (٢) فقول لا يوجب التشاغل بالبيان عنه، لشذوذه والخروج عما عليه علماء الأمة، من تحليل نساء جميع اليهود والنصارى. وقد دللنا على فساد قول قائل
(١) انظر ما سلف ٨: ١٨٩، ١٩٠.
(٢) يعني قول الشافعي فيما سلف ص ٥٨٧، ٥٨٨: تعليق: ١.
589
هذه المقالة من جهة القياس في غير هذا الموضع بما فيه الكفاية، فكرهنا إعادته. (١)
* * *
وأما قوله:"إذا آتيتموهن أجورهن"، فإن"الأجر": العوض الذي يبذله الزوج للمرأة للاستمتاع بها، وهو المهر. (٢) كما:-
١١٢٨٦- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله:"آتيتموهن أجورهن"، يعني: مهورهن.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أحل لكم المحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، وأنتم محصنون غير مسافحين ولا متخذي أخدان.
ويعني بقوله جل ثناؤه:"محصنين"، أعفَّاء ="غير مسافحين"، يعني: لا معالنين بالسفاح بكل فاجرة، وهو الفجور ="ولا متخذي أخدان"، يقول: ولا منفردين ببغيّة واحدة، قد خادنها وخادنته، واتخذها لنفسه صديقة يفجر بها.
* * *
وقد بينا معنى"الإحصان" ووجوهه = ومعنى"السفاح" و"الخدن" في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع (٣) وهو كما:-
(١) انظر ما سلف ٤: ٣٦٢-٣٦٩.
(٢) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٣) انظر تفسير"الإحصان" فيما سلف ٨: ١٥١-١٦٩/ ثم ٨: ١٨٥-١٩٠ = وتفسير"السفاح" فيما سلف ٨: ١٧٤، ١٧٥، ١٩٣-١٩٥ = وتفسير"الخدن" فيما سلف ٨: ١٩٣-١٩٥.
590
١١٢٨٧- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"محصنين غير مسافحين"، يعني: ينكحوهن بالمهر والبينة (١) غير مسافحين متعالنين بالزنا ="ولا متخذي أخدان"، يعني: يسرُّون بالزنا.
١١٢٨٨- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: أحل الله لنا محصنتين: محصنة مؤمنة، ومحصنة من أهل الكتاب ="ولا متخذي أخدان": ذات الخدان، ذات الخليل الواحد.
١١٢٨٩- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سليمان بن المغيرة، عن الحسن قال: سأله رجل: أيتزوّج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ قال: ما له ولأهل الكتاب، وقد أكثر الله المسلمات! فإن كان لا بد فاعلا فليعمد إليها حَصانًا غير مسافحة. قال الرجل: وما المسافحة؟ قال: هي التي إذا لَمَح الرجل، إليها بعينه اتّبعته. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ومن يكفر بالإيمان"، ومن يجحد ما أمر الله بالتصديق به، من توحيد الله ونبوّة محمد ﷺ وما جاء به
(١) "البينة"، سلف ذكرها في الأثرين رقم ٩٠٠٢، ٩٠٠٨ (انظر ٨: ١٦١، تعليق: ١ = ثم ص: ١٦٢ تعليق: ٢). وقد بدا لي هنا أنه عنى بقوله"البينة"، إعلان النكاح. فراجع ما كتبته هناك، فإني في شك من ذلك كله.
(٢) الأثر: ١١٢٨٩-"سليمان بن المغيرة القيسي"، "أبو سعيد البصري"، روى عن أبيه، وثابت البناني، والحسن، وابن سيرين، وغيرهم. روى عنه الثوري وشعبة، وماتا قبله، ثم جماعة كثيرة من الثقات، من ثقات أهل البصرة. مترجم في التهذيب.
591
من عند الله = وهو"الإيمان"، الذي قال الله جل ثناؤه:"ومن يكفر بالإيمان فقد حَبِطَ عمله" = يقول: فقد بَطل ثواب عمله الذي كان يعمله في الدنيا، يرجو أن يدرك به منزلة عند الله. (١) ="وهو في الآخرة من الخاسرين"، يقول: وهو في الآخرة من الهالكين، الذين غَبَنوا أنفسَهم حظوظها من ثواب الله بكفرهم بمحمد، وعملهم بغير طاعة الله. (٢)
* * *
وقد ذكر أن قوله:"ومن يكفر بالإيمان"، عنى به أهل الكتاب، وأنه أنزل على رسول الله صلى عليه وسلم من أجل قوم تحرَّجوا نكاح نساءِ أهل الكتاب لما قيل لهم:"أحِل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حِلٌّ لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم".
*ذكر من قال ذلك:
١١٢٩٠- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن ناسًا من المسلمين قالوا: كيف نتزوّج نساءهم = يعني: نساء أهل الكتاب = وهم على غير ديننا؟ فأنزل الله عز ذكره:"ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين"، فأحل الله تزويجهن على علم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل"الإيمان" قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك.
١١٢٩١- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:"ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله"، قال:"الله"، الإيمان. (٣)
(١) انظر تفسير"حبط" فيما سلف ٤: ٣١٧/٦: ٢٨٧.
(٢) انظر تفسير"الخاسر"، و"الخسران" فيما سلف ٩: ٢٢٤، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) في المطبوعة: "قال: بالإيمان، بالله"، غير ما في المخطوطة، وهو صواب.
592
١١٢٩٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن واصل، عن عطاء:"ومن يكفر بالإيمان"، قال:"الإيمان"، التوحيد.
١١٢٩٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد:"ومن يكفر بالإيمان"، قال: بالله.
١١٢٩٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
١١٢٩٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله"، قال: من يكفر بالله.
١١٢٩٦- حدثنا محمد قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ومن يكفر بالإيمان"، قال: من يكفر بالله.
١١٢٩٧- حدثنا محمد قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ومن يكفر بالإيمان"، قال: الكفر بالله.
١١٢٩٨- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة. قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١١٢٩٩- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله"، قال: أخبر الله سبحانه أن"الإيمان" هو العروة الوثقى، وأنه لا يقبل عملا إلا به، ولا يحرِّم الجنة إلا على من تركه.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما وجه تأويل مَنْ وجَّه قوله:"ومن يكفر بالإيمان"، إلى معنى: ومن يكفر بالله؟
593
قيل: وجه تأويله ذلك كذلك، أن"الإيمان" هو التصديق بالله وبرسله وما ابتعثهم به من دينه، و"الكفر" جحود ذلك. قالوا: فمعنى"الكفر بالإيمان"، هو جحود الله وجحود توحيده. ففسروا معنى الكلمة بما أريد بها، وأعرضوا عن تفسير الكلمة على حقيقة ألفاظها وظاهرها في التلاوة.
فإن قال قائل: فما تأويلها على ظاهرها وحقيقة ألفاظها؟
قيل: تأويلها: ومن يأبَ الإيمان بالله، ويمتنع من توحيده والطاعة له فيما أمره به ونهاه عنه، فقد حبط عمله. وذلك أن"الكفر" هو الجحود في كلام العرب، و"الإيمان" التصديق والإقرار. ومن أبى التصديق بتوحيد الله والإقرار به، فهو من الكافرين (١) فذلك تأويل الكلام على وجهه.
* * *
(١) انظر تفسير"الكفر" و"الإيمان" في فهارس اللغة.
594
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة، وأنتم على غير طهر الصلاة، فاغسلوا وجوهكم بالماء، وأيديكم إلى المرافق.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في قوله:"إذا قمتم إلى الصلاة"، أمرادٌ به كلَّ حال قام إليها، أو بعضها؟ وأيّ أحوال القيام إليها؟
فقال بعضهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه، من أنه معنيٌّ به بعضُ أحوال القيام إليها دون كل الأحوال، وأنّ الحال التي عُني بها، حالُ القيام إليها على غير طُهْر.
ذكر من قال ذلك:
١١٣٠٠ - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يحيى بن واضح قال: حدثنا عبيد الله قال: سئل عكرمة عن قول الله:"إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق"، فكلَّ ساعة يتوضأ؟ فقال: قال ابن عباس: لا وضوء إلا من حَدَثٍ.
١١٣٠١ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت مسعود بن علي الشيباني قال، سمعت عكرمة قال: كان
7
سعد بن أبي وقاص يُصلِّي الصلوات بوضوءٍ واحد. (١)
١١٣٠٢ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن مسعود بن علي، عن عكرمة قال: كان سعد بن أبي وقاص يقول: صلّ بطهورك ما لم تحدث. (٢)
١١٣٠٣ - حدثنا أحمد بن عبدة الضبي قال: أخبرنا سليم بن أخضر قال، أخبرنا ابن عون، عن محمد قال: قلت لعبيدة السلماني: ما يوجب الوضوء؟ قال: الحدَث.
١١٣٠٤ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن واقع بن سحبان، عن يزيد بن طريف= أو: طريف بن يزيد=: أنهم كانوا مع أبي موسى على شاطئ دجلة، فتوضأوا فصلوا الظهر، فلما نودي بالعصر، قام رجال يتوضأون من دجلة، فقال: إنه لا وضوء إلا على من أحدث.
١١٣٠٥ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن طريف بن زياد= أو: زياد بن طريف= عن واقع بن سحبان: أنه شهد أبا موسى صلى بأصحابه الظهر، ثم جلسوا حِلَقًا على شاطئ دجلة، فنودي بالعصر، فقام رجال يتوضأون، فقال أبو موسى: لا وضوء إلا على من أحدث.
(١) الأثر: ١١٣٠١ -"مسعود بن على الشيباني"، قال البخاري: "سمع عكرمة، مرسل. روى عنه يحيى القطان وقال: لم يكن به بأس". وقال ابن أبي حاتم: "روى عنه شعبة، ويحيى بن سعيد القطان". الكبير للبخاري ٤/ ١ / ٤٢٣، وابن أبي حاتم: ٤ / ١ / ٢٨٣. وسيأتي في الأثر التالي.
وفي الأثرين رقم: ١١٣٢٢، ١١٣٢٣. وفي الأثر التالي. والأثر: ١١٣٢٢، أنه قد روى عنه"سفيان بن حبيب". وانظر التعليق على الأثر التالي.
(٢) الأثر: ١١٣٠٢ -"سفيان بن حبيب البصري"، كان عالما بحديث شعبة وابن أبي عروبة. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/٢/٩١، وابن أبي حاتم ٢/١/٢٢٨، ولم يذكر في ترجمته أنه روى عن"مسعود بن علي الشيباني". وخبر مسعود هذا من رواية شعبة، كما مر في الأثر السالف، فأخشى أن يكون إسناده"سفيان بن حبيب، عن شعبة، عن مسعود بن علي".
وانظر التعليق على الأثر السالف، وتعليق الأثر الآتي: ١١٣٢٢.
8
١١٣٠٦ - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت قتادة يحدث، عن واقع بن سحبان، عن طريف بن يزيد= أو: يزيد بن طريف= قال: كنت مع أبي موسى بشاطئ دجلة، فذكر نحوه.
١١٣٠٧ - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن واقع بن سحبان، عن طريف بن يزيد =أو: يزيد بن طريف=، عن أبي موسى، مثله. (١)
١١٣٠٨ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا أبو خالد قال، توضأت عند أبي العالية الظهرَ أو العصر، فقلت: أصلي بوضوئي هذا، فإني لا أرجع إلى أهلي إلى العَتَمة؟ قال أبو العالية: لا حرج. وعلّمنا:
(١) الآثار ١١٣٠٤ - ١١٣٠٧ - أربعة أسانيد لخبر واحد، اتفقت ثلاثة منها في الراوي عن أبي موسى، وهو"طريف بن يزيد"، على ما في اسمه من الاختلاف، وانفرد رقم: ١١٣٠٥، فجعل الراوي عن أبي موسى هو"واقع بن سحبان"، وكأنه إسناد مقلوب، إذ جعل الراوي عن أبي موسى هو الراوي عن"طريف بن يزيد" في الأسانيد الثلاثة الأخرى.
وأما "واقع بن سحبان"، فقد ترجم له البخاري في الكبير ٤/٢/١٨٩، وقال: "يعد في البصريين، أبو عقيل. روى عنه قتادة، وثابت البناني"، ولم يزد. وأما ابن أبي حاتم ٤/٢/٤٩، فإنه قال: "روى عن أسير بن جابر. روى عنه قتادة، وثابت البناني، وحميد الطويل. وكان ابن المبارك يقول: "واقع بن سحبا"، بغير نون، ولا يقول: سحبان. سمعت أبي يقول ذلك".
وأما "طريف بن يزيد الحنفي"، فقد ترجم له في لسان الميزان ٣: ٢٠٩، والبخاري في الكبير ٢/٢/٣٥٨، لم يزد على أن قال: "طريف بن يزيد الحنفي، عن أبي موسى". وترجم له ابن أبي حاتم ٢/١/٤٩٣، وفي ترجمته بياض مكانه نقط، قال: "روى عن أبي موسى، روى عنه... سمعت أبي يقول: هما مجهولان". وقال الحافظ في لسان الميزان: "طريف بن يزيد، عن أبي موسى" مجهول، وكذا شيخه. انتهى.
وذكره ابن حبان في الثقات في التابعي، فقال: الحنفي، روى عنه أهل اليمامة. فمقتضى ذكره في التابعين، أن يكون شيخه أبو موسى، هو الأشعري.
وليس في كتاب ابن أبي حاتم أن شيخ طريف"مجهول". واعتراض ابن حجر صحيح، فإن المجهول هو الراوي عن طريف، لا شيخه.
ولم يذكر في سائر الكتب الاختلاف في اسمه"يزيد بن طريف"، أو "طريف بن زياد" أو" زياد بن طريف"، فهذه مما أفادها تفسير أبي جعفر.
وقد تبين من كتب التراجم أن الإسناد: ١١٣٠٥، مقلوب لا شك فيه.
9
إذا توضأ الإنسان فهو في وضوئه حتى يحدث حدثا.
١١٣٠٩ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا ابن هلال، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: الوضوء من غير حدث اعتداء. (١)
١١٣١٠ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود، قال حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن سعيد، مثله. (٢)
١١٣١١ - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش قال: رأيت إبراهيم صلَّى بوضوء واحد، الظهرَ والعصرَ والمغربَ.
١١٣١٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام قال، حدثنا الأعمش قال: كنت مع يحيى، فأصلّي الصلوات بوضوء واحد. قال: وإبراهيم مثل ذلك.
١١٣١٣ - حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا يزيد بن إبراهيم قال: سمعت الحسن سئل عن الرجل يتوضأ فيصلي الصلوات كلها بوضوء واحد، فقال: لا بأس به ما لم يُحْدث.
١١٣١٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد، عن الضحاك، قال: يصلِّي الصلوات بالوضوء الواحد ما لم يحدث.
١١٣١٥ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا زائدة، عن الأعمش، عن عمارة قال: كان الأسود يصلي الصلوات بوضوء واحد. (٣)
١١٣١٦ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط،
(١) الأثر: ١١٣٠٩، ١١٣١٠ - هذان الأثران، ذكرهما ابن كثير في تفسيره ٣: ٨٤ قال: "وأما ما رواه أبو داود الطيالسي، عن أبي هلال، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أنه قال: الوضوء من غير حدث اعتداء = فهو غريب عن سعيد بن المسيب، ثم هو محمول على أن من اعتقد وجوبه فهو معتد. وأما مشروعيته استحبابا، فقد دلت السنة على ذلك".
(٢) الأثر: ١١٣٠٩، ١١٣١٠ - هذان الأثران، ذكرهما ابن كثير في تفسيره ٣: ٨٤ قال: "وأما ما رواه أبو داود الطيالسي، عن أبي هلال، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أنه قال: الوضوء من غير حدث اعتداء = فهو غريب عن سعيد بن المسيب، ثم هو محمول على أن من اعتقد وجوبه فهو معتد. وأما مشروعيته استحبابا، فقد دلت السنة على ذلك".
(٣) الأثر: ١١٣١٥ -"الأعمش" هو: "سليمان بن مهران"، مضى مرارا كثيرة.
و"عمارة"، هو: "عمارة بن عمير التيمي"، مضى برقم: ٣٢٩٤، ٥٧٨٩.
و"الأسود" هو: "الأسود بن يزيد النخعي"، مضى برقم: ٣٢٩٩، ٤٨٨٨، ٨٢٦٧.
10
عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة" يقول: قمتم وأنتم على غير طهر.
١١٣١٧ - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة، عن الأسود: أنه كان له قَعبٌ قدرَ رِيِّ رجل (١)، فكان يتوضأ ثم يصلي بوضوئه ذلك الصلوات كلها.
١١٣١٨ - حدثنا محمد بن عباد بن موسى قال، أخبرنا زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي قال، حدثنا الفضل بن المبشر قال: رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد، فإذا بال أو أحدثَ، توضأ ومسح بفضل طَهوره الخفين. فقلت: أبا عبد الله، أشيء تصنعه برأيك؟ قال: بل رأيت رسول الله ﷺ يصنعه، فأنا أصنعه كما رأيت رسول الله ﷺ يصنع. (٢)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة.
ذكر من قال ذلك:
١١٣١٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني من سمع مالك بن أنس،
(١) "القعب": قدح صغير من خشب مقعر، وهو يروي الرجل.
(٢) الأثر: ١١٣١٨ -"محمد بن عباد بن موسى الختلي"، شيخ الطبري. روى عن هشام بن محمد الكلبي، والوليد بن صالح، روى عنه أبو بكر بن أبي الدنيا. مترجم في ابن أبي حاتم ٤/١/١٥. روى عنه أبو جعفر في التاريخ ٦: ٢١.
و"زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي". قال أحمد: "ليس به بأس، حديثه حديث أهل الصدق". وقال وكيع: "هو أشرف من أن يكذب". مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/٣٢٩.
و"الفضل بن المبشر الأنصاري"، سمع جابر بن عبد الله، وسالم بن عبد الله بن عمر.
قال ابن معين: "ضعيف"، وقال ابن عدي: "عامة أحاديثه لا يتابع عليها". مترجم في التهذيب، والكبير ٤/١/١١٤، وابن أبي حاتم ٣/٢/٦٦.
والحديث رواه ابن ماجه ١: ١٧٠ رقم: ٥١١، عن إسمعيل بن توبة، عن زياد بن عبد الله، به. وانظر ابن كثير في تفسيره ٣: ٨٣.
11
يحدث عن زيد بن أسلم، قوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة" قال: يعني: إذا قمتم من النوم.
١١٣٢٠ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب: أن مالك بن أنس أخبره عن زيد بن أسلم، بمثله. (١)
١١٣٢١ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم" قال فقال، قمتم إلى الصلاة من النوم.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك معنيٌّ به كل حال قيام المرء إلى صلاته، أن يجدِّد لها طُهرًا.
ذكر من قال ذلك:
١١٣٢٢ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن مسعود بن علي قال، سألت عكرمة، قال قلت: يا أبا عبد الله، أتوضأ لصلاة الغداة، ثم آتي السوق فتحضر صلاة الظهر، فأصلي؟ قال: كان علي بن أبي طالب رضوان الله عليه يقول:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق". (٢)
١١٣٢٣ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت مسعود بن علي الشيباني قال، سمعت عكرمة يقول: كان علي رضي الله عنه يتوضأ عند كل صلاة، ويقرأ هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم
(١) الأثران: ١١٣١٩، ١١٣٢٠ - انظر الموطأ ص: ٢١.
(٢) الأثر: ١١٣٢٢ -"سفيان بن حبيب" و"مسعود بن علي الشيباني". انظر التعليق على الأثرين السالفين: ١١٣٠١، ١١٣٠٢.
وقوله في جواب السؤال: "قال كان علي بن أبي طالب رضوان الله عليه... "، وتلاوته الآية بعد ذلك، دون أن يذكر فعل علي، جائز في مثل هذا السياق. كأنه قال: كان علي بن أبي طالب يفعل مثل ذلك ويقرأ هذه الآية. وانظر الأثر التالي.
12
إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم"... الآية. (١)
١١٣٢٤ - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا أزهر، عن ابن عون، عن ابن سيرين: أن الخلفاء كانوا يتوضأون لكل صلاة.
١١٣٢٥ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس قال، توضأ عمر بن الخطاب وضوءًا فيه تجوٌّز خفيفًا، فقال، هذا وضوء من لم يحدث. (٢)
١١٣٢٦ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثني وهب بن جرير قال، أخبرنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال، قال، رأيت عليًّا صلى الظهر ثم قعد للناس في الرَّحْبة، ثم أتِيَ بماء فغسل وجهه ويديه، ثم مَسَح برأسه ورجليه، وقال: هذا وضوء من لم يحدِث. (٣)
١١٣٢٧ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن
(١) الأثر: ١١٣٢٣ -"مسعود بن علي الشيباني" انظر التعليق على الأثر السالف.
وهذا الأثر ساقه ابن كثير في تفسيره ٣: ٨٣، ٨٤، وساق معه الأثرين ١١٣٢٦، ١١٣٢٧، وقال: "هذه طرق جيدة عن علي، يقوي بعضها بعضا".
(٢) الأثر: ١١٣٢٥ -"ابن أبي عدي"، هو: "محمد بن إبراهيم بن أبي عدي"، مضى برقم: ٥٤٤٠، ٦٤٩٧.
و"حميد"، هو"حميد الطويل"، مضى مرارا كثيرة.
و"أنس"، هو أنس بن مالك.
وهذا الأثر، نقله ابن كثير في تفسيره ٣: ٨٤، عن هذا الموضع من الطبري، وقال: "هذا إسناد صحيح".
(٣) الأثر: ١١٣٢٦ -"عبد الملك بن ميسرة الهلالي الزراد"، ثقة، من صغار التابعين، مضى برقم: ٥٠٣، ٥٠٤.
و"النزال"، هو: "النزال بن سبرة الهلالي"، مختلف في صحبته. روى عن رسول الله -يقال هو مرسل- وعن عثمان، وعلي، وابن مسعود وغيرهم. ثقة من كبار التابعين.
وهذا خبر إسناده صحيح، وانظر التعليق على الأثر السالف: ١١٣٢٣. خرجه ابن كثير في تفسيره ٣: ٨٣، ٨٤. ورواه أحمد في مسنده من طرق، بالأرقام: ٥٨٣، ١٠٠٥، ١١٧٣، ١١٧٤، ١٢٢٢، ١٣١٥، ١٣٦٦، وخرجه أخي السيد أحمد هناك.
13
إبراهيم: أن عليًّا اكتالَ من حُبٍّ فتوضأ وضوءًا فيه تجوُّزٌ، فقال: هذا وضوء من لم يحدث. (١)
* * *
وقال آخرون: بل كان هذا أمرًا من الله عز ذكره نبيَّه ﷺ والمؤمنين به: أن يتوضَّأوا لكل صلاة، ثم نُسخ ذلك بالتخفيف.
ذكر من قال ذلك:
١١٣٢٨ - حدثني عبد الله بن أبي زياد القطواني، قال، حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري =ثم المازني، مازن بني النجار= فقال لعبيد الله بن عبد الله بن عمر: أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة، طاهرا كان أو غير طاهر، عمَّن هو؟ قال: حدثتنيه أسماء ابنة زيد بن الخطاب: أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر، الغسيل حدَّثها: أن النبي ﷺ أُمِرَ بالوضوء عند كل صلاة، فشق ذلك عليه، فأمِر بالسواك، ورفع عنه الوضوء إلا من حدّث. فكان عبد الله يرى أنّ به قوة عليه، فكان يتوضأ. (٢)
(١) الأثر: ١١٣٢٧ - انظر التعليق على الأثر السالف: ١١٣٢٣. وخرجه ابن كثير في تفسيره ٣: ٨٤.
"اكتال"، مأخوذ من"كيل الطعام وغيره"، وأراد به هنا أنه أخذ من الماء مقدار ما يكفي في وضوئه. وهو عربي صحيح المجاز.
و"الحب" (بضم الحاء) : هو الجرة الضخمة، أو الجابية التي يجعل فيها الماء.
(٢) الأثر: ١١٣٢٨ -"عبد الله بن أبي زياد القطواني"، هو"عبد الله بن الحكم بن أبي زياد"، مضى برقم: ٢٢٤٧، ٥٧٩٦.
و"يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري"، مضى برقم: ٤٣١٤، ٥٤٩٣.
وأبوه"إبراهيم بن سعد بن إبراهيم الزهري"، مضى برقم: ٤٣١٤، وكان من أكثر أهل المدينة حديثا في زمانه. قال البخاري: "قال لي إبراهيم بن حمزة: كان عند إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحق، نحو من سبعة عشر ألف حديث في الأحكام، سوى المغازي". مترجم في التهذيب.
و"ابن إسحق" هو: "محمد بن إسحق" صاحب المغازي، مضى مرارا، ومضى توثيق أخي السيد أحمد له. وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا: "عن أبي إسحق"، وهو خطأ، صوابه من سنن أبي داود، وابن كثير.
و"محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري المازني"، فقيه ثقة كثير الحديث، روى له الأئمة.
مترجم في التهذيب.
و"عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب"، ثقة قليل الحديث، يقال إنه كان أسن من أخيه"عبد الله بن عبد الله بن عمر"، لم يذكروا في ترجمته أنه روى عن أسماء بنت زيد بن الخطاب، ولا أن محمد بن يحيى بن حبان روى عنه، بل ذكروا ذلك في ترجمته أخيه"عبد الله" كما سترى في التخريج.
وأما أخوه"عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب" فقد روى عن أسماء بنت زيد بن الخطاب، وروى عنه محمد بن يحيى بن حبان. قال ابن سعد: "ثقة قليل الحديث"، وقيل: كان أكبر ولد"عبد الله بن عمر" وكان من أشراف قريش. ووجوهها. مترجم في التهذيب.
وأما "أسماء بنت زيد بن الخطاب" فقد روت عن"عبد الله بن حنظلة"، وروى عنها: "عبد الله بن عبد الله بن عمر". وكانت زوج ابن عمها"عبد الله بن عمر بن الخطاب". فلما قتل، لم تتزوج بعده حتى ماتت. وذكرها ابن حبان وابن مندة في الصحابة. ولكن الحافظ ابن حجر رد ذلك، وانظر ترجمتها في الإصابة في القسم الثاني من تراجم النساء. مترجمة في التهذيب.وكان في المخطوطة والمطبوعة:
و"عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الراهب"، فأبوه"حنظلة"، هو غسيل الملائكة، غستله يوم قتل في أحد. وكان الأجود أن يقال، " بن حنظلة بن أبي عامر، ابن الغسيل". فإن أبا عامر هو الراهب، الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم"الفاسق". و"عبد الله بن حنظلة" مترجم في التهذيب.
عبد الله بن زيد بن حنظلة " بزيادة"ابن زيد"، وهو خطأ محض، لعله سهو من الناسخ.
وأما "عبد الله" المذكور في هذا الأثر غير منسوب، والمسئول عن وضوئه، فهو"عبد الله بن عمر بن الخطاب"، صاحب رسول الله.
وهذا الأثر، رواه أبو داود في سننه ١: ٤٣، رقم: ٤٨، من طريق محمد بن عوف الطائي، عن أحمد بن خالد، عن محمد بن إسحق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر. ثم قال أبو داود: "إبراهيم بن سعد، رواه عن محمد بن إسحق قال: عبيد الله بن عبد الله". يعني هذه الرواية التي رواها أبو جعفر في هذا الإسناد، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر.
وأخرجه البيهقي في سننه ١: ٣٧، ٣٨. وقد خرجه ابن كثير في تفسيره ٣: ٨٣ من رواية أحمد بن حنبل، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم بن سعد، بمثل رواية الطبري: "عبيد الله بن عبد الله بن عمر"، وساق رواية أبي داود"عبد الله بن عبد الله بن عمر" ثم قال: "وأيا ما كان، فهو إسناد صحيح، وقد صرح فيه ابن إسحق بالتحديث والسماع من محمد بن يحيى بن حبان، فزال محذور التدليس. لكن قال الحافظ ابن عساكر رواه سلمة بن الفضل، وعلي بن مجاهد، عن ابن إسحق، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن محمد بن يحيى بن حبان، به. والله أعلم".
وهذا الإسناد الذي الذي ذكره ابن عساكر، هو الإسناد التالي.
14
١١٣٢٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق،
15
عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال، حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري قال: قلت لعبيد الله بن عبد الله بن عمر: أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة، ثم ذكر نحوه. (١)
١١٣٣٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: كان رسول الله ﷺ يتوضأ لكل صلاة. فلما كان عام الفتح، صلَّى الصلوات بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال عمر: إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله! قال،"عمدا فعلته. (٢)
(١) الأثر: ١١٣٢٩ - مكرر الذي قبله.
"محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف". قال أبو داود وابن معين: "ثقة"، وقال ابن سعد: "كان قليل الحديث". مترجم في التهذيب.
انظر التعليق على الأثر السالف.
(٢) الأثر: ١١٣٣٠ -"يحيى"، هو: "يحيى بن سعيد القطان".
و"عبد الرحمن"، هو"عبد الرحمن بن مهدي".
و"سفيان"، هو الثوري.
و"علقمة بن مرثد الحضرمي"، روى عن زر بن حبيش، وطارق بن شهاب، وسليمان بن بريدة وغيرهم. روى عنه شعبة، وسفيان الثوري، ومسعر. ثقة ثبت في الحديث. مترجم في التهذيب.
و"سليمان بن بريدة بن الحصيب الأسلمي". أخو"عبد الله بن بريدة". روى عن أبيه، وعمران بن حصين، وعائشة. روى عنه علقمة بن مرثد، ومحارب بن دثار، وغيرهم. قال أحمد: عن وكيع: "يقولون إن سليمان بن بريدة كان أصح حديثا من أخيه وأوثق". ثقة، مترجم في التهذيب.
وأبوه: "بريدة بن الحصيب الأسلمي"، أسلم قبل بدر، ولم يشهدها، وشهد خيبر وفتح مكة. استعمله النبي ﷺ على صدقات قومه. وسكن المدينة، ثم انتقل إلى البصرة، ثم إلى مرو، فمات بها.
وهذا الأثر، سيرويه أبو جعفر من طريق أخرى رقم: ١١٣٣٣.
رواه أحمد في مسنده ٥: ٣٥٠، من طريق يحيى بن سعيد، عن سفيان به و ٥: ٣٥٨، من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان بمثله، ورواه أيضا ٥: ٣٥١، من طريق وكيع عن سفيان، بمثله.
ورواه مسلم ٣: ١٧٦، ١٧٧، من طريق عبد الله بن نمير، عن سفيان = ومن طريق محمد بن حاتم = واللفظ له، عن يحيى بن سعيد، عن سفيان، بمثله.
ورواه أبو داود في سننه ١: ٨٢، رقم: ١٧٢، من طريق مسدد، عن يحيى بن سعيد، بمثله.
ورواه النسائي ١: ٨٦، من طريق عبيد الله بن سعيد، عن يحيى، بمثله.
ورواه البيهقي في السنن ١: ١٦٢ من طريق ابن وهب، عن سفيان، بمثله ومن طريق الضحاك بن مخلد، عن سفيان. ثم رواه أيضا ١: ٢٧١ من طريق أبي داود في سننه. ومن طريق علي بن قادم، عن سفيان.
ورواه الترمذي في السنن ١: ٨٩، ٩٠ (شرح أخي السيد أحمد)، وعلق عليه الترمذي، وذكر اختلاف الرواة فيه، كما سيأتي. ولكن حديث الثوري عن علقمة بن مرثد، مرفوع موصول، لم يختلف فيه أحد من الرواة، وإنما اختلفوا في حديث الثوري، عن محارب بن دثار، كما سيأتي.
16
١١٣٣١ - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه: أن رسول الله ﷺ كان يتوضأ لكل صلاة. فلما كان يوم فتح مكة، صلى الصلوات كلها بوضوء واحد. (١)
١١٣٣٢ - حدثنا ابن بشار، قال، حدثنا عبد الرحمن، قال، حدثنا سفيان،
(١) الأثر: ١١٣٣١ -"محارب بن دثار بن كردوس السدوسي". ثقة، روى له الأربعة.
قال سماك بن حرب: "كان أهل الجاهلية إذا كان في الرجل ست خصال سودوه: الحلم، والصبر، والسخاء، والشجاعة، والبيان، والتواضع، ولا يكملن في الإسلام إلا بالعفاف. وقد كملن في هذا الرجل - يعني محارب بن دثار".
وهذا الأثر، رواه أبو جعفر مرفوعا موصولا من طريقين، هذا، ورقم: ١١٣٣٤.
ورواه ابن ماجه ١: ١٧٠، رقم: ٥١٠، من طريق وكيع، عن سفيان، عن محارب ابن دثار، مرفوعا موصولا.
وتكلم في رواية سفيان، عن محارب بن دثار، الترمذي في سننه ١: ٨٩، ٩٠، فأشار إلى روايتها مرفوعة موصولة، ومرسلة من طريق عبد الرحمن بن مهدي وغيره عن سفيان، عن محارب ابن دثار، مرفوعا موصولا.
وتكلم في وراية سفيان، عن محارب بن دثار، الترمذي في سننه ١: ٨٩، ٩٠، فأشار إلى روايتها مرفوعة موصولة ومرسلة، من طريق عبد الرحمن بن مهدي وغيره، عن سفيان، عن محارب بن دثار، وقال، "وهذا أصح من حديث وكيع". وزاد الطبري في الأثر ١١٣٣٤، روايته من طريق معاوية بن هشام، عن سفيان، مرفوعا موصولا. و"معاوية بن هشام"، ثقة.
قال أخي السيد أحمد: "وهذه الرواية جعلها الترمذي مرجوحة، ورأى أن رواية من رواه عن الثوري، عم محارب، عن سليمان مرسلا -: أصح. ولسنا نوافقه على ذلك، لأن الحديث معروف عن سليمان عن أبيه. ووكيع ثقة حافظ. فالظاهر أن الثوري كان تارة يروي الحديث عن محارب موصولا، كما رواه عنه وكيع، وتارة مرسلا، كما رواه عنه غيره".
17
عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة: أن النبي ﷺ كان يتوضأ، فذكر نحوه. (١)
١١٣٣٣ - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: صلى رسول الله ﷺ الصلوات كلها بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله، صنعت شيئا لم تكن تصنعه؟ فقال،"عمدا فعلته يا عمر. (٢)
١١٣٣٤ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معاوية، عن سفيان، عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله ﷺ يتوضأ لكل صلاة، فلما فتح مكة، صلى الظهرَ والعصرَ والمغرب والعشاء بوضوء واحد. (٣)
١١٣٣٥ - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا الحكم بن ظُهَير، عن مِسْعر، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر: أن رسول الله ﷺ صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بوضوء واحد. (٤)
* * *
(١) الأثر: ١١٣٣٢ - هذه هي الرواية المرسلة للأثر السالف، والتي أشار إليها الترمذي كما أسلفنا.
(٢) الأثر: ١١٣٣٣ - هذه طريق أخرى للأثر السالف رقم: ١١٣٣٠، وقد أشرنا إليها في التخريج هناك.
و"معاوية بن هشام الأسدي القصار"، مضى برقم: ٢٩٩٧، ثقة، وثقه أبو داود وابن حبان. وقال أحمد: "هو كثير الخطأ".
(٣) الأثر: ١١٣٣٤ - هذه طريق أخرى، لحديث وكيع، عن سفيان، التي خرجناها في رقم: ١١٣٣١، وأشرنا إليها هناك.
(٤) الأثر: ١١٣٣٥ - حديث ضعيف الإسناد جدا.
"الحكم بن ظهير الفزاري"، مضى برقم: ٢٤٩، ٥٥٢٣، ٥٧٩٢. رمى بوضع الحديث، تركوه. قال ابن حبان: "كان يشتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يروي عن الثقات الأشياء الموضوعات".
و"مسعر"، هو"مسعر بن كدام"، ثقة معروف، أحد الأعلام. مضى برقم: ٥٠٣، ٥٠٤، ١٩٧٤، ٥٧٢٩، ٦١٧٢.
18
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قولُ من قال: إن الله عنى بقوله:"إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا" جميعَ أحوال قيام القائم إلى الصلاة، غير أنه أمرُ فرضٍ بغسل ما أمر الله بغسله القائمَ إلى صلاته، بعد حَدَثٍ كان منه ناقضٍ طهارتَه، وقبل إحداث الوضوء منه= وأمر ندب لمن كان على طهر قد تقدم منه، ولم يكن منه بعده حدث ينقض طهارته. ولذلك كان عليه السلام يتوضأ لكل صلاة قبل فتح مكة، ثم صلىّ يومئذ الصلوات كلها بوضوء واحد، ليعلّم أمته أن ما كان يفعل عليه السلام من تجديد الطهر لكل صلاة، إنما كان منه أخذا بالفضل، وإيثارا منه لأحب الأمرين إلى الله، ومسارعةً منه إلى ما ندبه إليه ربّه= لا على أن ذلك كان عليه فرضًا واجبًا.
فإن ظنّ ظانٌّ أن في الحديث الذي ذكرناه عن عبد الله بن حنظلة، أن النبي ﷺ أمر بالوضوء عند كل صلاة (١) دلالةً على خلاف ما قلنا من أن ذلك كان ندبا للنبي عليه السلام وأصحابه، وخُيِّل إليه أن ذلك كان على الوجوب= فقد ظنّ غير الصواب. (٢)
وذلك أن قول القائل:"أمرَ الله نبيه ﷺ بكذا وكذا"، محتملٌ من وجوه لأمر الإيجاب، والإرشاد والندب والإباحة والإطلاق. وإذ كان محتملا ما ذكرنا من الأوجه، كان أولى وجوهه به ما على صحته الحجة مجمعة، دون ما لم يكن على صحته برهان يوجب حقيقة مدَّعيه. (٣).
وقد أجمعت الحجة على أن الله عز وجل لم يوجب على نبيه ﷺ ولا على عباده فرضَ
(١) انظر الأثر رقم: ١١٣٢٨.
(٢) سياق هذه الجملة: فإن ظن ظان... وخيل إليه أن ذلك كان على الوجوب، فقد ظن غير الصواب".
(٣) قوله: "حقيقة مدعيه"، أي: حق مدعيه. واستعمال"حقيقة" بمعنى"حق"، قد سار عليه أبو جعفر في كتابه هذا، وسار الناشرون على تغيير"حقيقة"، إلى"حقية"، كما جاء هنا في المطبوعة، مخالفا للمخطوطة. وانظر ما سلف ٨: ٥٦٨، تعليق: ١ = ثم: ٥٩٢، تعليق: ٧= ثم ٩: ٣٣٦، تعليق: ٤ = ثم: ٣٦٠، تعليق: ٤.
19
الوضوء لكل صلاة، ثم نسخ ذلك، ففي إجماعها على ذلك، الدلالةُ الواضحةُ على صحة ما قلنا: من أن فعل النبي ﷺ ما كان يفعل من ذلك، كان على ما وصفنا، من إيثاره فعلَ ما ندبه الله عز ذكره إلى فعله وندبَ إليه عباده المؤمنين بقوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق"... الآية، وأن تركه في ذلك الحال الذي تركه، (١) كان ترخيصا لأمته، وإعلاما منه لهم أن ذلك غير واجب ولا لازم له ولا لهم، إلا من حدَثٍ يوجب نقضَ الطهر.
* * *
وقد روي بنحو ما قلنا في ذلك أخبار:
١١٣٣٦ - حدثنا ابن المثنى، قال، حدثني وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن عامر، عن أنس: أن النبي ﷺ أتي بقَعْبٍ صغير فتوضأ. قال: قلت لأنس: أكان رسول الله ﷺ يتوضأ عند كل صلاة؟ قال: نعم! قلت: فأنتم؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد. (٢).
(١) في المخطوطة: "في ذلك الحال التي تركه"، والصواب ما أثبته، يريد: وأن تركه الذي تركه، كان ترخيصا...
(٢) الأثر: ١١٣٣٦ -"عمرو بن عامر الأنصاري"، روى عن أنس بن مالك. وعنه أبو الزناد، وشعبة، وسفيان الثوري، ومسعر، وشريك. ثقة صالح الحديث. روى له الأربعة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/١/٢٤٩. وانظر بقية التعليق.
وهذا الأثر رواه البخاري (الفتح ١: ٢٧٢، ٢٧٣)، من طريق محمد بن يوسف الفريابي، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن عامر = ومن طريق مسدد، عن يحيى، عن سفيان الثوري.
ورواه أبو داود في السنن ١: ٨١، رقم: ١٧١، من طريق محمد بن عيسى، عن شريك، عن عمرو بن عامر البجلي = قال محمد: هو أبو: "أسد بن عمرو" = قال سألت أنس، بمثله. هذا، و"عمرو بن عامر البجلي" هو غير"عمرو بن عامر الأنصاري"، وكأن محمد بن عيسى قد أخطأ. وانظر التهذيب في"عمرو بن عامر البجلي".
ورواه الترمذي ١: ٨٨ (شرح أخي السيد أحمد) من طريق محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن عمرو بن عامر، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
ورواه النسائي في سننه ١: ٨٥، من طريق خالد، عن شعبة، عن عمرو بن عامر كمثل طريق أبي جعفر هذا.
ورواه ابن ماجه ١: ١٧٠، رقم: ٥٠٩، من طريق شريك، عن عمرو بن عامر.
والبيهقي في السنن ١: ١٦٢ من طريق الفريابي، عن سفيان.
ورواه أحمد من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن عمرو بن عامر الأنصاري، انظر تفسير ابن كثير (٣: ٨٤).
20
١١٣٣٧ - حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقّي، حدثنا عيسى بن يونس، عن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، عن أبي غطيف، قال: صليت مع ابن عمر الظهر، فأتى مجلسا في داره فجلس وجلست معه. فلما نُودي بالعصر دعا بوضوء فتوضأ، ثم خرج إلى الصلاة، ثم رجع إلى مجلسه. فلما نودي بالمغرب دعا بوضوء فتوضأ، فقلت: أسنة ما أراك تَصنع؟ قال، لا وإن كان وَضوئي لصلاة الصبح كافيَّ للصلوات كلها ما لم أحدِث، (١)
ولكني سمعت رسول الله ﷺ يقول:"من توضأ على طهرٍ كتب له عشر حسنات"، (٢)
، فأنا رغبت في ذلك. (٣)
(١) في المطبوعة"كاف للصلوات كلها"، غير ما في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة"فأنا رغبت"، غير ما في المخطوطة.
(٣) الأثر: ١١٣٣٧ -"سليمان بن عمر بن خالد الرقي، الأقطع"، مضت ترجمته برقم: ٦٢٥٤.
و"عيسى بن يونس بن أبي إسحق السبيعي"، رأى جده أبا إسحق، روى عن أبيه وأخيه، وعن كثير. ثقة، روى له الأئمة. مترجم في التهذيب.
و"عبد الرحمن بن زياد بن أنعم المعافري الإفريقي"، هو"ابن أنعم"، و"الإفريقي"، مضى برقم: ٢١٩٥، ١٠١٨٠، تكلم فيه بعض العلماء، ولكن وثقه أخي السيد أحمد في رقم: ٢١٩٥.
و"أبو غطيف الهذلي"، ويقال: "غطيف"، ويقال: "غضيف". قال أبو زرعة: "لا يعرف اسمه". ضعفه الترمذي. مترجم في التهذيب.
وهذا الحديث، رواه أبو داود في سننه ١: ٤٨، رقم: ٦٢، من طريق محمد بن يحيى ابن فارس، عن عبد الله بن يزيد المقرئ، ومن طريق مسدد، عن عيسى بن يونس، جميعا عن عبد الرحمن بن زياد، مختصرا.
ورواه ابن ماجه ١: ١٧٠، ١٧١، رقم: ٥١٢، من طريق محمد بن يحيى، عن عبد الله بن يزيد المقرئ، مطولا.
والبيهقي في السنن ١: ١٦٢.
والترمذي في السنن ١: ٨٧، ٨٨ (شرح أخي السيد أحمد)، وقد ضعف الترمذي هذا الإسناد، وقال البخاري في حديث أبي غطيف هذا: "لم يتابع عليه". وانظر شرح السنن.
21
١١٣٣٨ - حدثني أبو سعيد البغدادي، قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن هريم، عن عبد الرحمن بن زياد، عن أبي غطيف، عن ابن عمر، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات. (١)
* * *
وقد قال قوم: إن هذه الآية أنزلت على رسول الله ﷺ إعلاما من الله له بها أن لا وضوء عليه، إلا إذا قام إلى صلاته دون غيرها من الأعمال كلها، وذلك أنه كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلِّها حتى يتوضأ، فأذن الله بهذه الآية أن يفعل كل ما بدا له من الأفعال بعد الحدث عَدَا الصلاة توضأ أو لم يتوضأ، وأمره بالوضوء إذا قام إلى الصلاة قبل الدخول فيها.
ذكر من قال ذلك:
١١٣٣٩ - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا معاوية بن هشام، عن شيبان، عن جابر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه قال: كان رسول الله ﷺ إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا، ونسلم عليه فلا يرد علينا، حتى يأتي منزله فيتوضأ كوضوئه للصلاة. فقلنا: يا رسول الله، نكلمك فلا تكلمنا، ونسلم عليك فلا ترد علينا؟ قال: حتى نزلت آية الرخصة:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة"، الآية. (٢)
* * *
(١) الأثر: ١١٣٣٨ -"أبو سعيد البغدادي، مضى برقم: ٦٦٨٤، "أبو سعيد بن يوشع البغدادي" ولم أجد له ترجمة، ثم مضى برقم: ٦٦٩٠"أبو سعيد البغدادي" كالذي هنا.
و"إسحق بن منصور السلولي". ثقة، مضت ترجمته برقم: ٤٩٢٥، ومضت رواية أبي سعيد البغدادي عنه في: ٦٦٨٤: ٦٦٩٠.
و"هريم بن سفيان البجلي"، ثقة. مترجم في التهذيب.
وهذا الأثر مختصر الأثر السالف. ونقله ابن كثير في تفسيره ٣: ٨٤، عن هذا الموضع من التفسير.
(٢) الأثر: ١١٣٣٩ - هذا خبر مشكل، وهو مع إشكاله ضعيف الإسناد، لضعف جابر بن يزيد الجعفي، فهو ضعيف جدا، رمي بالكذب، كما بينه أخي السيد أحمد في رقم: ٢٣٤٠.
أول ذلك أن إسناده في المطبوعة كان هكذا: "معاوية بن هشام، عن سفيان، عن جابر بن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص، عن أبيه".
وفي المخطوطة: "معاوية بن هشام، عن شيبان، عن جابر بن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرو بن حزم عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه".
فخالفت المطبوعة المخطوطة، فجعلت مكان"شيبان"، "سفيان" = ومكان"عبد الله بن علقمة الفغواء"، عبد الله بن علقمة بن وقاص"، ولا أدري من أين أتى به ناسخ تفسير أبي جعفر، فإن ابن كثير في تفسيره قد نقله ولا شك عن نسخة من تفسير أبي جعفر، وفيها"عبد الله بن علقمة بن وقاص".
وسأبدأ بذكر ما وجدته فيما بين يدي من الكتب، من ذكر هذا الخبر وإسناده.
١ = فرواه الطحاوي في معاني الآثار ١: ٥٣ بروايته عن ابن أبي داود قال: "حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا معاوية بن هشام، عن شيبان، عن جابر، عن عبد الله بن محمد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه... "
٢ = ونقله ابن كثير في تفسيره ٣: ٨٤، من تفسير ابن جرير فقال: "حدثنا أبو كريب، قال حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن جابر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص، عن أبيه... "
ثم قال: " ورواه ابن أبي حاتم، عن محمد بن مسلم، عن أبي كريب، به نحوه".
٣ = ورواه الجصاص في أحكام القرآن ٢: ٣٢٩، فقال: "روى سفيان الثوري عن جابر، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة، عن أبيه... ".
٤ = وذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة، في ترجمة"علقمة بن الفغواء الخزاعي"، فقال: "أخرجه مطين، والطحاوي، والدراقطني من طريق جابر الجعفي، عن عبد الله بن محمد بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه... "
٥ = وذكره ابن الأثير في أسد الغابة ٤: ١٤ في ترجمة"علقمة بن الفغواء الخزاعي" فقال: "روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه... "
٦ = وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ١: ٢٧٦ فقال: "وعن علقمة بن الفغواء... رواه الطبراني في الكبير، وفيه جابر الجعفي، وهو ضعيف".
٧ = وذكره أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: ١١٩ قال: "حديث علقمة بن الفغواء، عن أبيه أنه قال،... "، وهذا خطأ لا شك فيه، فإن المطبوع من الناسخ والمنسوخ ردئ الطبع جدا. والصواب"حديث عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه... ". وفي المطبوعة: "علقمة بن القعوى"، وهو تحريف لا شك فيه خطئه.
٨ = وخرجه السيوطي في الدر المنثور فقال: "وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، بسند ضعيف، عن علقمة بن صفوان... ".
فهذا، كما ترى، اختلاف شديد جدا في أسانيد هذا الأثر.
فالاختلاف الأول: في الذي روى عنه معاوية بن هشام، ففي المطبوعة، وابن كثير، وأحكام القرآن للجصاص أنه رواه عن"سفيان"، وهو الثوري كما صرح به الجصاص. وفي المخطوطة، ومعاني الآثار للطحاوي أنه رواه عن"شيبان"، وهو النحوي. ومعاوية بن هشام يروي عنهما جميعا. وسفيان الثوري، وشيبان النحوي، يرويان جميعا عن جابر بن يزيد الجعفي. فجائز أن يكون معاوية بن هشام رواه عنهما جميعا، عن جابر، مرة عن هذا، ومرة عن هذا.
والاختلاف الثاني: في الذي رواه عنه"سفيان" أو "شيبان". ففي المطبوعة والمخطوطة: "جابر بن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرو بن حزم"، وهو خطأ لا شك فيه، لأن الحديث مداره على"جابر بن يزيد الجعفي"، كما جاء في المراجع جميعا.
والاختلاف الثالث: في الذي رواه عنه"جابر الجعفي"، فذكر الطحاوي في معاني الآثار. أنه عن: "عبد الله بن محمد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم" فكأن جابرا رواه عن"عبد الله بن محمد" هذا، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، كما قال ابن الأثير في أسد الغابة، وأما ما نقله ابن كثير عن نسخة من تفسير أبي جعفر من أنه: "عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم" فاتفق مع ما جاء في أحكام القرآن للجصاص، وفي الإصابة لابن حجر - مع اختلاف لا يضر في اختصار اسمه.
فانفرد الطحاوي بأن زاد"عبد الله بن محمد" في هذا الإسناد، ولا ندري من يكون. فأخشى أن يكون في النسخة المطبوعة من معاني الآثار، خطأ.
والاختلاف الرابع: متعلق بالاختلاف الثالث، في الراوي عن"عبد الله بن علقمة بن الفغواء" أهو: "عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم" = كما جاء في تفسير ابن كثير، وفي أحكام القرآن للجصاص، والإصابة = أم هو أبوه"أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم"، كما جاء في إسناد الطحاوي، وكما ذكر ابن الأثير في أسد الغابة؟
والاختلاف الخامس: فإن المطبوعة وابن كثير في تفسيره، جعلا التابعي الراوي عن أبيه"عبد الله بن علقمة بن وقاص"، وانفرد السيوطي في الدر المنثور بأن جعل أباه الصحابي هو"علقمة بن صفوان"، وكلاهما خطأ لا شك فيه، بدليل إجماع سائر الرواة على أن هذا الخبر من حديث"علقمة بن الفغواء الخزاعي".
من أجل ذلك كله، غيرت ما في المطبوعة، فجعلت"شيبان" مكان"سفيان"، مطابقا لما في المخطوطة ومعاني الآثار. وجعلت"جابر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم"، مطابقا لما في تفسير ابن كثير، وأحكام القرآن للجصاص، والإصابة لابن حجر. وجعلت"عبد الله بن علقمة بن الفغواء"، مكان"عبد الله بن علقمة بن وقاص" مطابقا لما في سائر الأخبار، سوى ابن كثير، والسيوطي.
أما رجال الإسناد فهم:
"معاوية بن هشام الأسدي القصار"، ثقة. مضى برقم: ٢٩٩٧.
و"سفيان" - كما أسلفنا في الاختلاف الأول - هو سفيان الثوري الإمام الثقة، مضى مرارا.
وأما "شيبان"، فهو"أبو معاوية، شيبان النحوي"، وهو"شيبان بن عبد الرحمن التميمي"، إمام ثقة. مضى مرارا، رقم: ٢٣٤٠، ٤٨٩٨، ٥٢٨٠، ٩٢٢٢، ٩٢٢٣، ٩٤٥٦.
وأما "جابر"، فهو: "جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي"، ضعيف جدا، رمي بالكذب.
مضى برقم: ٧٦٤، ٨٥٨، ٢٣٤٠، ٣٠٧٤، ٥٤٢٣، ٧٣٥٠.
و"عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم"، ثقة. مضى برقم: ٤٨٠٨.
وأما أبوه: "أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم"، ثقة. مضى برقم: ٢٠٣١.
و"عبد الله بن علقمة بن الفغواء الخزاعي"، روى عن أبيه. روى عنه زيد بن أسلم، ومسلم بن نبهان. مترجم في ابن أبي حاتم ٢/٢/١٢١.
وأبوه: "علقمة بن الفغواء الخزاعي"، دليل رسول الله ﷺ إلى تبوك.
سمع النبي صلى الله عليه وسلم. روى عن عمر. روى عنه ابنه عبد الله. مترجم في الإصابة، وأسد الغابة، وطبقات ابن سعد ٤/٢/٣٢ ثم ٥: ٣٤٠، والكبير للبخاري ٤/١/٣٩، وابن أبي حاتم ٣/١/٤٠٤.
ومضى تخريج الأثر فيما سلف مما كتبناه، وهو بمثل لفظ الطبري، إلا في بعض حروف يسيرة، وإلا ما جاء في رواية الجصاص في أحكام القرآن. كتبه محمود محمد شاكر.
22
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في حدّ"الوجه" الذي أمر الله بغسله، القائمَ إلى الصلاة بقوله:"إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم".
23
فقال بعضهم: هو ما ظهر من بَشرة الإنسان من قُصَاص شعر رأسه، (١) منحدرا إلى منقطع ذَقَنه طولا وما بين الأذنين عرضا. قالوا: فأما الأذن وما بطن من داخل الفم والأنف والعين، فليس من الوجه وغير واجب غسلُ ذلك ولا غسل شيء منه في الوضوء. (٢) قالوا: وأما ما غطاه الشعر منه كالذقن الذي غطاه شعر اللحية، والصدغين اللذين قد غطاهما عِذَار اللحية، فإن إمرار الماء على ما على ذلك من الشعر، مجزئ من غسل ما بطن منه من بشرة الوجه،
(٣) لأن"الوجه"
(١) "قصاص الشعر" (بضم القاف وكسرها وفتحها) : نهاية منبته من مقدم الرأس.
(٢) في المطبوعة: "فليس من الوجه ولا غيره ولا أحب غسل ذلك"، كان في المخطوطة: "فليس من الوجه وغيره اجب غسل ذلك" مع وصل راء"غير" بما يشبه الهاء المفردة، ففعل الناشر ما فعل في إفساد هذه العبارة، بلا أمانة ولا عقل.
(٣) في المطبوعة: "مجزئ عن غسل"، وما في المخطوطة، هو الجيد الذي سار عليه القدماء.
24
عندهم: هو ما عَنَّ لعين الناظر من ذلك فقابلها (١) دون غيره.
ذكر من قال ذلك:
١١٣٤٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عمر بن عبيد، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال، يجزئ اللحية ما سال عليها من الماء. (٢)
١١٣٤١ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا المغيرة، عن إبراهيم قال: يكفيه ما سال من الماء من وجهه على لحيته.
١١٣٤٢ - حدثنا ابن المثنى، قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم، بنحوه.
١١٣٤٣ - حدثنا ابن المثنى، قال، حدثنا أبو داود، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، بنحوه.
١١٣٤٤ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة في تخليل اللحية، قال: يجزيك ما مرَّ على لحيتك.
١١٣٤٥ - حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، قال، حدثنا مصعب بن المقدام، قال، حدثنا زائدة، عن منصور، قال: رأيت إبراهيم يتوضأ، فلم يخلِّل لحيته. (٣)
(١) في المخطوطة: "فهو باطن لعين الناظر"، وهو تحريف، وصححها في المطبوعة: "ما ظهر لعين الناظر"، ورأيت قراءتها كما أثبتها يقال: "عن الشيء يعن عننا وعنونا": عرض وظهر أمامك.
(٢) الأثر: ١١٣٤٠ - في المخطوطة: "عن معمره"، وفي المطبوعة: عن معمر"، والصواب ما أثبته.
"عمر بن عبيد بن أبي أمية الطنافسي"، مضى برقم: ٨٩٧٩.
و"مغيرة"، هو"مغيرة بن مقسم الضبي"، مضى مرارا كثيرة، وروايته عن"إبراهيم النخعي"، دائرة في التفسير، وانظر الآثار التالية لهذا.
وقد مضى هذا الإسناد نفسه برقم: ٨٩٧٩.
(٣) الأثر: ١١٣٤٥ -"هرون بن إسحق الهمداني" و"مصعب بن المقدام"، مضيا برقم: ٣٠٠١.
26
١١٣٤٦ - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا ابن إدريس، عن سعيد الزبيدي، عن إبراهيم، قال: يجزيك ما سال عليها من أن تخللها. (١)
١١٣٤٧ - حدثنا ابن المثنى، قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن يونس، قال: كان الحسن إذا توضأ مسح لحيته مع وجهه.
١١٣٤٨ - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا ابن إدريس، قال، حدثنا هشام، عن الحسن، أنه كان لا يخلِّل لحيته.
١١٣٤٩ - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا ابن المبارك، عن هشام، عن الحسن أنه كان لا يخلل لحيته إذا توضأ.
١١٣٥٠ - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا هارون، عن إسماعيل، عن الحسن، مثله.
١١٣٥١ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا هشيم، عن أشعث، عن ابن سيرين، قال، ليس غسلُ اللحية من السنة.
١١٣٥٢ - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا هارون، عن عيسى بن يزيد، عن عمرو، عن الحسن: أنه كان إذا توضأ لم يبلِّغ الماء في أصول لحيته.
١١٣٥٣ - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا هارون، عن أبي شيبة سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي، قال: سألت إبراهيم: أخلِّل لحيتي عند الوضوء بالماء؟ فقال، لا إنما يكفيك ما مرَّت عليه يدك. (٢)
١١٣٥٤ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، سألت شعبة عن تخليل اللحية في الوضوء، فقال: قال المغيرة، قال إبراهيم: يكفيه ما سال من الماء من وجهه على لحيته.
(١) الأثر: ١١٣٤٦، ١١٣٥٣ -"سعيد الزبيدي"، هو"سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي""أبو شيبة"، وثقه أبو داود، وابن حبان، وقال البخاري: "لا يتابع في حديثه".
مترجم في التهذيب وسيأتي في الأثر رقم: ١١٣٥٣.
(٢) الأثر: ١١٣٤٦، ١١٣٥٣ -"سعيد الزبيدي"، هو"سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي""أبو شيبة"، وثقه أبو داود، وابن حبان، وقال البخاري: "لا يتابع في حديثه".
مترجم في التهذيب وسيأتي في الأثر رقم: ١١٣٥٣.
27
١١٣٥٥ - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال، حدثنا حجاج بن رشدين قال، حدثنا عبد الجبار بن عمر: أن ابن شهاب وربيعة توضآ فأمرا الماء على لحاهما، ولم أر واحدا منهما خلّل لحيته.
١١٣٥٦ - حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: سألت سعيد بن عبد العزيز، عن عَرْك العارضين في الوضوء، فقال: ليس ذلك بواجب، رأيت مكحولا يتوضأ فلا يفعل ذلك. (١)
١١٣٥٧ - حدثنا أبو الوليد أحمد بن عبد الرحمن القرشي، قال، حدثنا الوليد، قال، أخبرني سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، قال، ليس عَرْك العارضين في الوضوء بواجب. (٢)
١١٣٥٨ - حدثنا أبو الوليد، قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني إبراهيم بن محمد، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: يكفيه ما مرَّ من الماء على لحيته. (٣)
١١٣٥٩ - حدثنا أبو الوليد القرشي، قال، حدثنا الوليد، قال، أخبرني ابن لهيعة، عن سليمان بن أبي زينب، قال، سألت القاسم بن محمد: كيف أصنع بلحيتي إذا توضأت؟ قال: لستُ من الذين يغسلون لحاهم. (٤)
(١) الأثر: ١١٣٥٦ -"أبو الوليد الدمشقي"، هو"أبو الوليد القرشي"، كما في الأثر: ١١٣٥٩، وهو: "أحمد بن عبد الرحمن بن بكار بن عبد الملك بن الوليد بن بسر بن أرطأة القرشي"، ويقال في نسبته"البسري"، نسبة إلى جده، ويقال"العامري"، لأنه من ولد"معيص بن عامر بن لؤي". ثقة صدوق. مترجم في التهذيب.
(٢) الأثر: ١١٣٥٧ -"سعيد بن بشير الأزدي"، مضى برقم: ١٢٦، ٥٤٣٩، ٩٦٣٢.
(٣) الأثر: ١١٣٥٨ -"إبراهيم بن محمد" هو: "إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة"، "أبو إسحق الفزاري"، مضى برقم: ٣٨٣٣، ١١٢٨٥.
(٤) الأثر: ١١٣٥٩ -"سليمان بن أبي زينب السبأي الشامي"، روى عنه سعيد بن أبي أيوب المصري. مترجم في الكبير ٢/٢/١٥، وابن أبي حاتم ٢/١/١١٨. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "سلمان بن أبي زينب"، وهو خطأ لا شك فيه.
28
١١٣٦٠ - حدثنا أبو الوليد، قال، حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو: ليس عَرْك العارضين وتشبيك اللحية بواجب في الوضوء. (١)
* * *
ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة في غسل ما بَطَن من الفم والأنف.
١١٣٦١ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لولا التلمُّظ في الصلاة ما مضمضتُ. (٢)
١١٣٦٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت عبد الملك يقول: سئل عطاء عن رجل صلى ولم يتمضمض، قال: ما لم يسَّم في الكتاب يجزئه.
١١٣٦٣ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: ليس المضمضة والاستنشاق من واجب الوضوء.
١١٣٦٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الصباح، عن أبي سنان قال: كان الضحاك ينهانا عن المضمضة والاستنشاق في الوضوء في رمضان.
١١٣٦٥ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت هشامًا، عن الحسن قال: إذا نسى المضمضة والاستنشاق، قال: إن ذكر وقد دخل في الصلاة فليمض في صلاته. وإن كان لم يدخل تمضمض واستنشق.
(١) "عرك اللحية": دلكها. وأما "تشبيك اللحية" فقلما تصيب صفته في كتب اللغة، وهو بين في الآثار. روى البيهقي في السنن ١: ٥٥، عن ابن عمر: "كان رسول الله ﷺ إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك، ثم شبك لحيته بأصابعه من تحتها"، يعني أنه أنشب فيها أصابعه منفرجة، فشبكها فيها.
(٢) الأثر: ١١٣٦١ -"عبد الملك بن أبي بشير البصري"، روى عن عكرمة وعبد الله بن مساور، وغيرهما. روى عنه ليث بن أبي سليم، وسفيان الثوري، وزهير بن معاوية، وغيرهم ثقة. مترجم في التهذيب.
و"التلمظ": تحريك اللسان في الفم بعد الأكل، كأنه يتتبع بقية الطعام بين أسنانه.
29
١١٣٦٦ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن شعبة قال: سألت الحكم وقتادة عن رجل ذكر وهو في الصلاة أنه لم يتمضمض ولم يستنشق، فقال: يمضي في صلاته.
* * *
ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة: من أن الأذنين ليستا من الوجه.
١١٣٦٧ - حدثني يزيد بن مخلد الواسطي قال، حدثنا هشيم، عن غيلان قال: سمعت ابن عمر يقول: الأذنان من الرأس. (١)
١١٣٦٨ - حدثنا عبد الكريم بن أبي عمي، قال، حدثنا أبو مطرف [....] قال، حدثنا غيلان مولى بني مخزوم، قال: سمعت ابن عمر يقول: الأذنان من الرأس. (٢)
١١٣٦٩ - حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا محمد بن يزيد، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: الأذنان من الرأس، فإذا مسحت الرأس فامسحهما.
(١) الأثر: ١١٣٦٧ -"يزيد بن مخلد الواسطي"، "أبو خداش"، روى عن هشيم، وبشر بن مبشر. روى عنه إبراهيم بن يوسف الهسنجاني، وعلي بن الحسين بن الجنيد. مترجم في ابن أبي حاتم ٤/٢/٢٩١.
"غيلان" هو: "غيلان بن عبد الله الواسطي" مولى قريش (مولى بني مخزوم). سمع ابن عمر. سمع منه شعبة وهشيم. روى ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: "سمعت أبي يقول: غيلان بن عبد الله مولى قريش، الذي حدثنا عنه هشيم، روى عنه شعبة، هو أحب إلي من سهيل بن ذكوان". مترجم في الكبير ٤/١/١٠٥، وابن أبي حاتم ٣/٢/٥٣. ثم انظر ذكره في الآثار الآتية: ١١٣٦٨، ١١٣٧٠.
(٢) الأثر: ١١٣٦٨ -"عبد الكريم بن أبي عمير الدهان - أو الدهقان"، شيخ الطبري.
مضى برقم: ٧٥٧٨. و"أبو مطرف"، المعروف بذلك هو"ابن أبي الوزير": "محمد بن عمر بن مطرف الهاشمي"، روى عن شريك وهشيم وغيرهما، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير ١/١/١٧٨، وابن أبي حاتم ٤/١/٢٠.
وقد وضعت نقطا بعده، لأني أرجح أنه روى ذلك عن"هشيم"، كما في الأثر السالف، والأثر: ١١٣٧٠، فإن مدار هذا الخبر على"هشيم، عن غيلان".
وانظر"غيلان، مولى بني مخزوم"، في التعليق على الأثر السالف.
30
١١٣٧٠ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرني غيلان بن عبد الله مولى قريش، قال: سمعت ابن عمر سأله سائل قال: إنه توضأ ونسي أن يمسح أذنيه، قال فقال ابن عمر: الأذنان من الرأس. ولم ير عليه بأسا. (١)
١١٣٧١ - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أيوب بن سويد= ح، وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن= جميعا، عن سفيان، عن سالم أبي النضر، عن سعيد بن مرجانة، عن ابن عمر، أنه قال: الأذنان من الرأس.
١١٣٧٢ - حدثني ابن المثنى قال، حدثني وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن رجل، عن ابن عمر قال: الأذنان من الرأس.
١١٣٧٣ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: الأذنان من الرأس. (٢)
١١٣٧٤ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتاده، عن الحسن وسعيد بن المسيب قالا الأذنان من الرأس.
١١٣٧٥ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة قال: الأذنان من الرأس= عن الحسن وسعيد.
(١) الأثر: ١١٣٧٠ -"غيلان بن عبد الله، مولى قريش"، انظر التعليق على الأثرين السالفين.
(٢) الأثر: ١١٣٧٣ -"علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة بن زهير بن عبد الله بن جدعان"، أو: "علي بن زيد بن جدعان" منسوبا إلى جده. مضى برقم: ٤٠، ٤٨٩٧، ٦٤٩٥، ٩٢٩٣، ١٠٢٧٥.
و"يوسف بن مهران البصري"، روى عن ابن عباس، وابن عمر، وجابر. روى عنه علي بن زيد بن جدعان قال أحمد: "لا يعرف، ولا أعرف أحدا روى عنه إلا علي بن زيد". وقال ابن سعد: "ثقة قليل الحديث". مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٣٧٥، وابن سعد ٧/١/١٦١، وابن أبي حاتم ٤/٢/٢٢٩.
31
١١٣٧٦ - حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني أبو عمرو، عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن عمر قال: الأذنان من الرأس.
١١٣٧٧ - حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني ابن لهيعة، عن أبي النضر، عن ابن عمر، مثله. (١)
١١٣٧٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عيسى بن يزيد، عن عمرو، عن الحسن قال، الأذنان من الرأس.
١١٣٧٩ - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة= أو: عن أبي هريرة، شك ابن بزيع=: أن النبي ﷺ قال: الأذنان من الرأس.
١١٣٨٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معلى بن منصور، عن حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة قال: الأذنان من الرأس= قال حماد: لا أدري هذا عن أبي أمامة أو: عن النبي صلى الله عليه وسلم.
١١٣٨١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة قال، حدثني حماد بن زيد قال، حدثني سنان بن ربيعة أبو ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة، أن رسول الله ﷺ قال: الأذنان من الرأس. (٢)
(١) الأثران ١١٣٧٦، ١١٣٧٧ -"أبو الوليد الدمشقي" هو: "أحمد بن عبد الرحمن القرشي"، وانظر الآثار السالفة: ١١٣٥٦ - ١١٣٦٠.
(٢) الآثار: ١١٣٧٩ - ١١٣٨١ -"معلى بن منصور الرازي"، في الإسناد الثاني، روى عن مالك، ومحمد بن ميمون الزعفراني، وحماد بن زيد، وهشيم، وغيرهم. روى عنه البخاري، وذكره في الكبير، ولم يذكر فيه جرحا. ووثقه ابن معين، وأبو حاتم وابن حبان وغيرهم. وقد تكلموا فيه. مترجم في التهذيب.
و"سنان" بن ربيعة الباهلي، أبو ربيعة صاحب السابرى"، روى عن أنس، وشهر بن حوشب، وغيرهما. روى عنه الحمادان. قال ابن معين: "ليس بالقوي"، وقال أبو حاتم: "شيخ مضطرب الحديث". وذكره ابن حبان في الثقات. روى له البخاري مقرونا بغيره في الصحيح.
و"شهر بن حوشب الأشعري"، تابعي، وثقه أخي السيد أحمد فيما سلف رقم: ١٤٨٩، ٥٢٤٤، ٦٦٥٠ - ٦٦٥٢.
وهذا الخبر رواه أحمد في المسند ٥: ٢٥٨، ٢٦٤، ٢٦٨. مطولا، وأبو داود في سننه ١: ٦٨، رقم: ١٣٤، وابن ماجه ١: ١٥٢، رقم: ٤٤٤، والبيهقي في السنن ١: ٦٦، ٦٧، والترمذي في السنن (شرح أخي السيد أحمد) ١: ٥٣ - ٥٥، به بنحوه. وقال: "وقد أطال العلماء البحث في هذه الكلمة، وهل هي مدرجة من كلام أبي أمامة أو مرفوعة؟ ورجح كثير منهم الإدراج. انظر التلخيص (ص: ٣٣)، ونصب الراية (١: ١٠ - ١٢)، والراجح عندي أن الحديث صحيح. فقد روي من غير وجه بأسانيد بعضها جيد، ويؤيد بعضها بعضا"، ثم أفاض في الكلام فيه.
وأما شك بن بزيع -في الأثر الأول- فالظاهر أنه خطأ من ابن بزيع، وأن الصواب أنه عن أبي أمامة، لا عن أبي هريرة، وسيأتي خبر أبي هريرة بعد، رقم: ١١٣٨٣.
32
١١٣٨٢ - حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني ابن جريج وغيره، عن سليمان بن موسى: أن النبي ﷺ قال: الأذنان من الرأس. (١)
١١٣٨٣ - حدثنا الحسن بن شبيب، قال، حدثنا علي بن هاشم بن البريد قال، حدثنا إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأذنان من الرأس. (٢)
١١٣٨٤ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن يونس: أن الحسن قال: الأذنان من الرأس.
* * *
وقال آخرون:"الوجه" كل ما دون منابت شعر الرأس إلى منقطع الذَّقَن
(١) الأثر: ١١٣٨٢ -"سليمان بن موسى الأموي"، أبو هشام الأشدق، فقيه أهل الشام في زمانه. ثقة ثبت، ولكنه يروي أحاديث ينفرد بها لا يرويها غيره. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر مرسل، وإن كان سليمان بن موسى قد روى عن أبي أمامة.
(٢) الأثر: ١١٣٨٣ -"الحسن بن شبيب بن راشد بن مطر"، أبو علي المؤدب، شيخ الطبري مضى برقم: ٩٦٤٢، وهو ليس بالقوي.
و"علي بن هاشم بن البريد البريدي العائذي". له في مسلم حديثان. روى عنه جماعة من الأئمة، ووثقوه وضعفه بعضهم. مترجم في التهذيب.
و"إسمعيل بن مسلم المكي"، مضى توثيقه، برقم: ٥٤١٧.
وروى ابن ماجه ١: ١٥٢، رقم: ٤٤٥، خبر أبي هريرة، من طريق عمرو بن الحصين، عن محمد بن عبد الله بن علاثة، عن عبد الكريم الجزري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. وقد ضعفوه، لضعف عمرو بن الحصين، ومحمد بن عبد الله بن علاثة.
33
طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا، ما ظهر من ذلك لعين الناظر، وما بَطَن منه من منابت شعر اللحية النابت على الذَّقَن وعلى العارضين، وما كان منه داخل الفم والأنف، وما أقبل من الأذنين على الوجه. كل ذلك عندهم من"الوجه" الذي أمر الله بغسله بقوله:"فاغسلوا وجوهكم". وقالوا: إن ترك شيئا من ذلك المتوضِّئ فلم يغسله لم تُجْزِه صلاته بوضوئه ذلك.
ذكر من قال ذلك:
١١٣٨٥ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثني محمد بن بكر وأبو عاصم قالا أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني نافع: أن ابن عمر كان يبُلّ أصول شعر لحيته، ويغلغِل بيده في أصول شعرها حتى يَكثر القَطَرانُ منها. (١)
١١٣٨٦ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن ابن جريج قال، أخبرني نافع مولى ابن عمر: أن ابن عمر كان يغلغل يديه في لحيته حتى يَكثر منها القَطَران. (٢)
١١٣٨٧ - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث، عن سعيد قال، حدثنا ليث، عن نافع، عن ابن عمر: كان إذا توضأ خلَّل لحيته حتى يبلغ أصول الشعر.
١١٣٨٨ - حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا معلى بن جابر اللقيطي قال، أخبرني الأزرق بن قيس قال: رأيت ابن عمر توضأ فخلَّل لحيته. (٣)
(١) في المطبوعة في الأثرين جميعا"حتى تكثر القطرات"، والصواب من المخطوطة.
"قطر الماء يقطر قطرا وقطورا وقطرانا": سال وتتابع.
(٢) في المطبوعة في الأثرين جميعا"حتى تكثر القطرات"، والصواب من المخطوطة.
"قطر الماء يقطر قطرا وقطورا وقطرانا": سال وتتابع.
(٣) الأثر: ١١٣٨٨ -"يزيد"، هو"يزيد بن زريع"، مضى مرارا.
و"معلى بن جابر مسلم اللقيطي"، وثقه ابن حبان، ولم يذكر البخاري فيه جرحا. مترجم في الكبير ٤/١/٣٩٤، وابن أبي حاتم ٤/١/٣٣٢، وتعجيل المنفعة: ٤٠٩.
و"الأزرق بن قيس الحارثي"، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير ١/٢/٦٩، وابن أبي حاتم ١/١/٣٣٩.
34
١١٣٨٩ - حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ليث، عن نافع: أن ابن عمر كان يخلّل لحيته بالماء حتى يبلغ أصول الشعر.
١١٣٩٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر قال، حدثنا ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن عبيد بن عمير: أن أباه عبيد بن عمير كان إذا توضأ غَلغل أصابعه في أصول شعر الوجه يغلغلها بين الشعر في أصوله، يدلك بأصابعه البشرة= فأشار لي عبد الله كما أخبره الرجل، كما وصف عنه. (١)
١١٣٩١ - حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا الوليد قال، حدثنا أبو عمرو، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا توضأ عرَك عَارضيه بعض العرك، وشبَّك لحيته بأصابعه أحيانا ويترك أحيانًا. (٢)
١١٣٩٢ - حدثنا أبو الوليد وعلي بن سهل قالا حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو، وأخبرني عبدة، عن أبي موسى الأشعري، نحو ذلك.
١١٣٩٣ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن مسلم قال: رأيت ابن أبي ليلى توضأ فغسل لحيته، وقال: من استطاع منكم أن يُبْلغ الماء أصولَ الشعر فليفعل.
١١٣٩٤ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن ابن جريج، عن عطاء قال: حقٌّ عليه أن يبل أصول الشعر.
١١٣٩٥ - حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا شعبة، عن الحكم قال: كان مجاهد يخلِّل لحيته.
(١) الأثر: ١١٣٩٠ -"محمد بن بكر بن عثمان البرساني"، مضى برقم: ٥٤٣٨.
وأما قوله: "كما أخبره الرجل. كما وصف عنه" فإني في شك منها، ولكن هكذا جاءت في المخطوطة أيضا.
(٢) الأثر: ١١٣٩١ - رواه البيهقي في السنن ١: ٥٥، من طريق عبد الواحد بن قيس، عن نافع، بمثله. وانظر تفسير"تشبيك اللحية" فيما سلف ص: ٢٩، تعليق: ١، في الأثر: ١١٣٦٠.
35
١١٣٩٦ - حدثنا حميد قال، حدثنا سفيان، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد: أنه كان يخلِّل لحيته إذا توضأ.
١١٣٩٧ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.
١١٣٩٨ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.
١١٣٩٩ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو داود الحفري، عن سفيان، عن ابن شبرمة، عن سعيد بن جبير قال: ما بال اللحية تغسل قبل أن تنبت فإذا نبتت لم تغسَل؟ (١)
١١٤٠٠ - حدثنا ابن المثني، قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يخلل لحيته إذا توضأ.
١١٤٠١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ليث، عن طاوس: أنه كان يخلِّل لحيته.
١١٤٠٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن إسماعيل، عن ابن سيرين: أنه كان يخلل لحيته.
١١٤٠٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن هشام، عن ابن سيرين، مثله.
١١٤٠٤ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، سألت شعبة عن تخليل اللحية في الوضوء، فذكر عن الحكم بن عتيبة: أن مجاهدا كان يخلل لحيته.
(١) الأثر: ١١٣٩٩ -"أبو داود الحفري"، (بالحاء المهملة) هو: "عمر بن سعد بن عبيد"، مضى برقم: ٨٦٣.
36
١١٤٠٥ - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا هارون، عن عمرو عن معروف، قال، رأيت ابن سيرين توضأ فخلل لحيته.
١١٤٠٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا هشام، عن ابن سيرين، مثله.
١١٤٠٧ - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن الزبير بن عدي، عن الضحاك قال: رأيته يخلل لحيته.
١١٤٠٨ - حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن أبي الأشهب، عن موسى بن أبي عائشة، عن زيد الخدري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال: رأيت النبي ﷺ توضأ فخلَّل لحيته، فقلت: لم تفعل هذا يا نبي الله؟ قال:"أمرني بذلك ربيِّ". (١)
١١٤٠٩ - حدثنا تميم قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن سلام بن سَلْم، عن
(١) الأثر: ١١٤٠٨ -"محمد بن يزيد الكلاعي"، الواسطي، روى عن إسمعيل بن أبي خالد، وأبي الأشهب جعفر بن حيان السعدي، وغيرهما. روى عنه أحمد، وابن معين، وغيرهما من الأئمة. قال أحمد: "كان ثبتا في الحديث". مترجم في التهذيب.
و"أبو الأشهب" هو: "جعفر بن حيان السعدي العطاردي"، روى عن أبي رجاء العطاردي، والحسن البصري، وغيرهما. ثقة مترجم في التهذيب.
"وموسى بن أبي عائشة المخزومي"، روى عبد الله بن شداد بن الهاد، وعمرو بن الحارث، وسعيد بن جبير، روى عنه شعبة والسفيانان وغيرهم. ثقة مترجم في التهذيب.
وأما "زيد الخدري"، فلم أجد له ترجمة، ولم أعرف من يكون. وأخشى أن يكون في الإسناد خلط، أو أن يكون في هذا الاسم تحريف.
وأما "يزيد الرقاشي"، فهو: "يزيد بن أبان الرقاشي"، ضعيف مضى برقم: ٦٦٥٤، ٦٧٢٨، ٧٧٥٧.
وستأتي رواية هذا الخبر عن يزيد الرقاشي عن أنس، في رقم: ١١٤٠٩، ١١٤١١.
ومدار هذا الخبر على يزيد الرقاشي، فهو إسناد ضعيف.
وهذا الخبر رواه ابن ماجه في سننه ١: ١٤٩، رقم: ٤٣١ من طريق يحيى بن كثير، أبو النضر، صاحب البصري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، بغير هذا اللفظ. ورواه الحاكم في المستدرك مرسلا عن أنس، من طريق موسى بن أبي عاشة أيضا عن أنس. وأشار إليه البيهقي في السنن ١: ٥٤.
37
زيد العمي، عن معاوية بن قرة= أو: يزيد الرقاشي= عن أنس، قال: وضّأت النبي صلى الله عليه وسلم، فأدخل أصابعه من تحت حَنَكه، فخلَّل لحيته، وقال: بهذا أمرني ربي جل وعز". (١)
١١٤١٠ - حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، قال، حدثنا المحاربي، عن سلام بن سَلْم المديني، قال، حدثنا زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (٢)
١١٤١١ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا أبو عبيدة الحداد، قال حدثنا موسى بن ثروان، عن يزيد الرقاشي، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هكذا أمرني ربي"! وأدخل أصابعه في لحيته، فخلَّلها (٣)
(١) الأثر: ١١٤٠٩ - طريق أخرى، لخبر يزيد الرقاشي، عن أنس.
و"سلام بن سلم المدائني" ويقال: "سلامة بن سليم"، "وابن سليمان"، والصواب الأول، هو"سلام الطويل"، أكثر روايته عن"زيد العمي". وروى عنه عبد الرحمن بن محمد المحاربي. قال أحمد: "روى أحاديث منكرة". وقال البخاري: "تركوه"، وقال النسائي: "ليس بثقة، ولا يكتب حديثه". مترجم في التهذيب.
وكان في المطبوعة: "سلام بن سليم"، وأثبت ما في المخطوطة.
و"زيد العمي" هو"زيد بن الحواري"، قاضي هراة. روى عن أنس، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، والحسن، ومعاوية بن قرة وغيرهم. متكلم فيه. مترجم في التهذيب.
و"معاوية بن قرة المزني"، أبو إياس، تابعي ثقة، كان من عقلاء الرجال. مترجم في التهذيب.
وهذا الحديث ضعيف لضعف سلام بن سلم.
و"الحنك": ما تحت الذقن من الإنسان وغيره.
(٢) الأثر: ١١٤١٠ -"محمد بن إسمعيل الأحمسي" شيخ الطبري، مضى برقم: ٤٠٥، ٧١٨، ٩١٥٥.
و"المحاربي"، هو"عبد الرحمن بن محمد بن زياد"، ثقة. مضى برقم: ٢٢١، ٨٧٥.
و"سلام بن سلم المديني"، هو الذي مضى في الأثر السالف، ونسب في المراجع"المدائني".
وكان في المخطوطة هنا: "سلم بن سلام المديني"، وهو سهو من الناسخ لا شك فيه.
وهذا أيضا ضعيف الإسناد، كالذي قبله.
(٣) الأثر: ١١٤١١ - هو مكرر الأثرين السالفين: ١١٤٠٨، ١١٤٠٩، من طريق أخرى.
"أبو عبيدة الحداد" هو: "عبد الواحد بن واصل السدوسي"، ثقة، من شيوخ أحمد، مضى برقم: ٣٠٢٣، ٩٨٣٧.
"موسى بن ثروان العجلي" (بالثاء المثلثة)، ويقال: "موسى بن سروان"، و"موسى بن فروان" (بالفاء). ثقة. مترجم في التهذيب والكبير ٤/١/٢٨١، وابن أبي حاتم ٤/١/١٣٨.
وكان في المخطوطة والمطبوعة"شروان" (بالشين المعجمة)، وهو خطأ.
وهذا الخبر ضعيف، لضعف يزيد الرقاشي.
38
١١٤١٢ - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا معاوية بن هشام وعبيد الله بن موسى، عن خالد بن إلياس، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة: أن رسول الله ﷺ توضأ، فخلّل لحيته. (١)
١١٤١٣ - حدثنا علي بن الحسين بن الحر، قال، حدثنا محمد بن ربيعة، عن واصل بن السائب، عن أبي سورة، عن أبي أيوب، قال: رأينا النبي ﷺ توضأ، وخلّل لحيته. (٢)
(١) الأثر: ١١٤١٢ -"معاوية بن هشام" و"عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي"، مضيا مرارا كثيرة.
و"خالد بن إلياس بن صخر القرشي العدوي، المدني"، من ولد عامر بن لؤي. قال البخاري: "ليس بشيء". وقال أحمد: "متروك الحديث". مترجم في ميزان الاعتدال للذهبي ١: ٢٩٥، والكبير للبخاري ٢/١/١٢٩، وابن أبي حاتم ١/٢/٣٢١.
و"عبد الله بن رافع المخزومي"، مولى أم سلمة، تابعي ثقة. مضى برقم: ٥٣٩٨.
وهذا الخبر خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ١: ٢٣٥، وقال: "رواه الطبراني في الكبير.
وفيه: خالد بن إلياس، ولم أر من ترجمه". فقصر، فقد ذكرنا من ترجمه قبل.
(٢) الأثر: ١١٤١٣ -"علي بن الحسين بن الحر" هو"علي بن الحسين بن إبراهيم بن الحر بن زعلان" المعروف بابن أشكاب الأكبر، ثقة، مترجم في تاريخ بغداد ١١: ٣٩٢، وابن أبي حاتم ٣/١/١٧٩.
و"محمد بن ربيعة الكلابي الرؤاسي"، ثقة، مضى برقم: ١٨١، ٦٨٦٠.
و"واصل بن السائب الرقاشي"، قال ابن معين: "ليس بشيء"، وقال البخاري: "منكر الحديث". مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/١٧٣، وابن أبي حاتم ٤/٢/٣٠.
و"أبو سورة"، ابن أخي أبي أيوب الأنصاري. قال البخاري: "منكر الحديث، يروي عن أبي أيوب مناكير لا يتابع عليها". وقال الترمذي في العلل عن البخاري: "لا يعرف لأبي سورة سماع من أبي أيوب". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٤/٢/٣٨٨.
وهذا خبر ضعيف، لضعف واصل بن السائب، وأبي سورة.
رواه ابن ماجه في السنن ١: ١٤٩، رقم: ٤٣٣، من طريق إسمعيل بن عبد الله الرقي عن محمد بن ربيعة، به، نحوه، وضعفه الزيلعي في نصب الراية ١: ٢٤.
وسيأتي هذا الخبر بإسناد آخر رقم: ١١٤١٨.
39
١١٤١٤ - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا زيد بن حباب قال، حدثنا عمر بن سليمان، عن أبي غالب، عن أبي أمامة:"أن النبي ﷺ خلّل لحيته". (١)
١١٤١٥ - حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني قال، حدثنا سفيان، عن عبد الكريم أبي أمية: أن حسان بن بلال المزني رأى عمار بن ياسر توضأ وخلل لحيته، فقيل له: أتفعل هذا، فقال: إني رأيت رسول الله ﷺ يفعله. (٢)
(١) الأثر: ١١٤١٤ -"زيد بن حباب العكلي"، ثقة. مضى برقم: ٢١٨٥، ٥٣٥٠، ٨١٦٥. وكان في المطبوعة: "زيد بن حبان"، وهو خطأ محض.
و"عمر بن سليمان"، هكذا جاء في المطبوعة، وفي نصب الراية: "عمر بن سليمان الباهلي"، وفي المخطوطة"عمرو بن سليمان". ولا أدري كيف اتفق ذلك في التفسير، وفي نصب الراية، نقلا عن الطبراني في معجمه، وابن أبي شيبة في مصنفه!! فإنه يكاد يكون من المقطوع به أنه"عمر بن سليم الباهلي"، فهو الذي يروي عن أبي غالب، صاحب أبي أمامة، وهو الذي يروي عنه زيد بن الحباب، كما في ترجمته في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/١/١١٢، ١١٣. قال أبو زرعة: "صدوق"، وذكره ابن حبان في الثقات. فلا أدري أجائز أن يكون فاتهم أن في اسم أبيه اختلافا: "سليم "أو" سليمان"؟
و"أبو غالب" صاحب أبي أمامة، معروف بكنيته، قال ابن معين: "صالح الحديث"، وحسن الترمذي بعض أحاديثه، وصحح بعضها، وقال ابن حبان: "لا يجوز الاحتجاج به إلا فيما وافق الثقات". وضعفه بعضهم. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر خرجه الزيلعي في نصب الراية ١: ٢٥، فقال: "رواه الطبراني في معجمه، وابن أبي شيبة في مصنفه، والطبراني: حدثنا عنبسة بن غنام، قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا عمر بن سليمان الباهلي، عن ابن غالب (والصواب: عن أبي غالب)، عن أبي أمامة... ". الحديث.
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ١: ٢٣٥، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، وفيه الصلت ابن دينار، وهو متروك". فهذا إسناد آخر للطبراني، فيما يظهر، غير الذي خرجه الزيلعي في نصب الراية.
(٢) الأثر: ١١٤١٥ -"محمد بن عيسى الدامغاني"، شيخ الطبري، مضى برقم: ٣٢٢٥. و"سفيان" هو ابن عيينة.
و"عبد الكريم أبو أمية" هو"عبد الكريم بن أبي المخارق"، روى عن أنس بن مالك، وطاوس وحسان بن بلال، وغيره. وهو ضعيف، متكلم فيه. وأنكر البخاري وابن عيينة سماع عبد الكريم من حسان بن بلال حديث التخليل. مترجم في التهذيب.
و"حسان بن بلال المزني" روى عن عمار بن ياسر. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر رواه ابن ماجه ١: ١٤٨، رقم: ٤٢٩، والحاكم في المستدرك ١: ١٤٩، وأبو داود الطيالسي رقم: ٦٤٥، والترمذي في السنن ١: ٤٤ (شرح أخي السيد أحمد)، وقد استوفى أخي الكلام فيه هناك. وانظر أيضا نصب الراية للزيلعي ١: ٢٤.
40
١١٤١٦ - حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا الوليد قال، حدثنا أبو عمرو قال، أخبرني عبد الواحد بن قيس، عن يزيد الرقاشي وقتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا توضأ عَرك عارضيه، وشبك لحيته بأصابعه. (١)
١١٤١٧ - حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني أبو مهدي سعيد بن سنان، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (٢)
١١٤١٨ - حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي قال، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي أبو عبد الله قال، حدثني واصل الرقاشي، عن أبي سودة= هكذا قال
(١) الأثر: ١١٤١٦ -"أبو الوليد": هو: "أحمد بن عبد الرحمن القرشي"، انظر ما مضى في التعليقات على الآثار: ١١٣٥٦ - ١١٣٦٠.
و"الوليد"، هو"الوليد بن مسلم"، انظر ما سلف أيضا.
و"عبد الواحد بن قيس السلمي" الأفطس النحوي. روى عن أبي أمامة، ونافع مولى ابن عمر، ويزيد الرقاشي. وروى عنه أبو عمرو الأوزاعي. تكلموا فيه. مترجم في التهذيب.
وانظر تفسير"تشبيك اللحية" فيما سلف: ١١٣٦٠، ١١٣٩١.
(٢) الأثر: ١١٤١٧ -"أبو مهدي"، "سعيد بن سنان الحنفي"، روى عن أبيه، وأبي الزاهرية، وغيرهما. روى عنه بشر بن بكر التنيسي، وابن المبارك، والوليد بن مسلم، وغيرهم، قال أحمد: "ضعيف"، وقال ابن معين: "ليس بثقة". وقال الجوزجاني: "أخاف أن تكون أحاديثه موضوعة، لا تشبه أحاديث الناس". وقال مسلم في الكنى: "منكر الحديث". مترجم في التهذيب.
و"أبو الزاهرية"، هو: "حدير بن كريب الحضرمي"، روى عن حذيفة، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عمرو بن العاص. ثقة. مضى برقم: ١١٢٥٥.
و"جبير بن نفير الحضرمي"، ثقة من كبار التابعين، كان جاهليا. مضى برقم: ٧٠٠٩. وهذا الخبر مرسل.
41
الأحمسي= عن أبي أيوب قال: كان رسول الله ﷺ إذا توضأ تمضمض ومسح لحيته من تحتها بالماء. (١)
* * *
ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة في غسل ما بَطن من الأنف والفم.
١١٤١٩ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح قال، سمعت مجاهدا يقول: الاستنشاق شَطْر الوضوء.
١١٤٢٠ - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن شعبة قال: سألت حمادا عن رجل ذكر وهو في الصلاة أنه لم يتمضمض ولم يستنشق، قال حماد: ينصرف فيتمضمض ويستنشق.
١١٤٢١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الصباح، عن أبي سنان قال: قدمت الكوفة فأتيت حمادا فسألته عن ذلك= يعني: عمن ترك المضمضة والاستنشاق وصلى= فقال: أرى عليه إعادة الصلاة.
١١٤٢٢ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا شعبة قال: كان قتادة يقول: إذا ترك المضمضة أو الاستنشاق أو أذنه أو طائفة من رجله حتى يدخل في صلاته، فإنه ينفتِلُ ويتوضأ، ويعيد صلاته. (٢)
* * *
(١) الأثر: ١١٤١٨ -"محمد بن إسمعيل الأحمسي"، مضى قريبا رقم: ١١٤١٠.
و"محمد بن عبيد الطنافسي" أبو عبد الله الأحدب، ثقة معروف، مضى برقم: ٤٠٥، ٩١٥٥.
و"واصل الرقاشي"، هو: "واصل بن السائب الرقاشي"، مضى برقم: ١١٤١٣.
و"أبو سودة"، إنما هو"أبو سورة" (بالراء) كما سلف في رقم: ١١٤١٣، وإنما قال ذلك محمد بن إسمعيل الأحمسي، شيخ الطبري، وأخطأ. وكان في المطبوعة"أبو سورة" بالراء، وهو تصحيح لا معنى له. والصواب من المخطوطة، وإن كان خطأ على الحقيقة.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده ٥: ٤١٧، عن محمد بن عبيد الطنافسي، بمثله، مطولا.
وهو ضعيف الإسناد، كأخيه السالف رقم: ١١٤١٣.
(٢) في المطبوعة: "فإنه ينتقل"، وهو خطأ محض، وهو في المخطوطة كما أثبته غير منقوط.
يقال، "انفتل فلان عن صلاته، أو من صلاته"، أي: انصرف. ويقال: "فتل وجهه عن القوم": صرفه ولفته.
42
ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة من أن ما أقبل من الأذنين فمن الوجه، وما أدبر فمن الرأس.
١١٤٢٣ - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا أشعث، عن الشعبي، قال: ما أقبل من الأذنين فمن الوجه، وما أدبر فمن الرأس.
١١٤٢٤ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني شعبة، عن الحكم وحماد، عن الشعبي في الأذنين: باطنهما من الوجه، وظاهرهما من الرأس.
١١٤٢٥ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن الشعبي قال: مقدَّم الأذنين من الوجه، ومؤخَّرهما من الرأس.
١١٤٢٦ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم وحماد، عن الشعبي بمثله= إلا أنه قال: باطن الأذنين.
١١٤٢٧ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن حماد، عن الشعبي بمثله، إلا أنه قال: باطن الأذنين.
١١٤٢٨ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن حماد، عن الشعبي، بمثله.
١١٤٢٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: باطن الأذنين من الوجه، وظاهرهما من الرأس.
١١٤٣٠ - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا أبو تميلة= ح، وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية= قالا جميعا، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن عبيد الله الخولاني، عن ابن
43
عباس قال: قال علي بن أبي طالب: ألا أتوضأ لكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال قلنا: نعم! فتوضأ، فلما غسل وجهه، ألقَم إبهاميه ما أقبل من أذنيه. قال: ثم لما مسح برأسه مسح أذنيه من ظهورهما (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندنا قولُ من قال:"الوجه" الذي أمر الله جل ذكره بغسله القائمَ إلى صلاته: كل ما انحدر عن منابت شَعَر الرأس إلى مُنقطع الذَّقَن طولا وما بين الأذنين عرضا مما هو ظاهر لعين الناظر، دون ما بطن من الفم والأنف والعين، ودون ما غطاه شعر اللحية والعارضين والشاربين فستره عن أبصار الناظرين، ودون الأذنين.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب= وإن كان ما تحت شعر اللحية والشاربين قد كان"وجها" يجب غسله قبل نبات الشعر الساتر عن أعين الناظرين على القائم إلى صلاته= لإجماع جميعهم على أن العينين من الوجه، ثم هم -مع إجماعهم على ذلك- مجمعون على أن غسلَ ما علاهما من أجفانهما دون إيصال الماء إلى ما تحت الأجفان منهما مجزئ.
فإذْ كان ذلك منهم إجماعا بتوقيف الرسول ﷺ أمته على ذلك، فنظير ذلك كل ما علاه شيء من مواضع الوضوء من جسد ابن آدم من نفس خلقه ساتِرَه لا يصل الماء إليه إلا بكلفة ومؤنة وعلاج، قياسا لما ذكرنا من حكم العينين في ذلك.
(١) الأثر: ١١٤٣٠ -"محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة". ثقة، مضى برقم: ١١٣٢٩.
و"عبيد الله الخولاني"، هو"عبيد الله بن الأسود"، ويقال: "عبيد الله بن الأسد" ربيب ميمونة، روى عنها، وعن ابن عباس. ثقة.
وهذا الخبر رواه أبو داود في السنن ١: ٦٤، رقم: ١١٧، ورواه أحمد في المسند رقم: ٦٢٥، مطولا، وقد ضعف البخاري هذا الحديث وقال: "ما أدري ما هذا"، ولكن أخي السيد أحمد صححه في شرح هذا الخبر في المسند.
44
فإذا كان ذلك كذلك، فلا شك أن مثلَ العينين في مؤنة إيصال الماء إليهما عند الوضوء ما بطن من الأنف والفم وشَعَر اللحية والصدغين والشاربين، لأن كل ذلك لا يصل الماء إليه إلا بعلاجٍ لإيصال الماء إليه نحو كلفة علاج الحدقتين لإيصال الماء إليهما أو أشدّ.
وإذا كان ذلك كذلك، كان بيِّنًا أن غسل مَنْ غسل من الصحابة والتابعين ما تحت منابت شعر اللحية والعارضين والشاربين، وما بطن من الأنف والفم، إنما كان إيثارًا منه لأشق الأمرين عليه: من غسل ذلك وترك غسله، كما آثر ابن عمر غسل ما تحت أجفان العينين بالماء بصبِّه الماء في ذلك= لا على أنّ ذلك كان عليه عنده فرضا واجبا. فأما من ظنّ أن ذلك من فعلهم كان على وجه الإيجاب والفرض، فإنه خالف في ذلك بقوله منهاجَهم وأغفل سبيلَ القياس، لأن القياس هو ما وصفنا من تمثيل المختلف فيه من ذلك، بالأصل المجمع عليه من حكم العينين= وأنْ لا خبر عن واحد من أصحاب رسول الله ﷺ أوجب على تارك إيصال الماء في وضوئه إلى أصول شعر لحيته وعارضيه، وتارك المضمضة والاستنشاق إعادةَ صلاته إذا صلى بطهره ذلك. ففي ذلك أوضح الدليل على صحة ما قلنا من أن فعلهم ما فعلوا من ذلك كان إيثارا منهم لأفضل الفعلين من الترك والغسل.
فإن ظن ظان أن في الأخبار التي رويت عن رسول الله ﷺ أنه قال:
١١٤٣١ - "إذا توضأ أحدكم فليستنثر". (١)
=دليلا على وجوب الاستنثار، فإن في إجماع الحجة على أن ذلك غيرُ فرض واجب، يجب على من تركه إعادة الصلاة التي صلاها قبل غسله، ما يغني عن إكثار القول فيه.
* * *
(١) الأثر: ١١٤٣١ - هذا خبر لم يذكر إسناده، وانظر مثل لفظه في البخاري (فتح ١: ٢٢٩).
45
وأما الأذنان فإن في إجماع جميعهم على أن ترك غسلهما، أو غسل ما أقبل منهما مع الوجه، غيُر مفسد صلاةَ من صلى بطهره الذي ترك فيه غسلهما= مع إجماعهم جميعا على أنه لو ترك غسل شيء مما يجب عليه غسله من وجهه في وضوئه أن صلاته لا تجزئه بطهوره ذلك= ما ينبئ عن أنّ القول في ذلك ما قاله أصحاب رسول الله ﷺ الذي ذكرنا قولهم: (١) إنهما ليسا من الوجه= دون ما قاله الشعبي.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في"المرافق"، هل هي من اليد الواجب غسلها، أم لا؟ بعد إجماع جميعهم على أن غسل اليد إليها واجب.
فقال مالك بن أنس= وسئل عن قول الله:"فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق" أترى أن يخلف المرفقين في الوضوء؟ = قال: الذي أمر به أن يُبْلغ"المرفقين"، قال تبارك وتعالى:"فاغسلوا وجوهكم" فذهب هذا يغسل خلفه!! (٢) فقيل له: فإنما يغسل إلى المرفقين والكعبين لا يجاوزهما؟ فقال، لا أدري"ما لا يجاوزهما" أما الذي أمر به أن يبلغ به فهذا: إلى المرفقين والكعبين= حدثنا يونس، عن أشهب عنه.
* * *
(١) في المطبوعة: "ما ينبئ عن القول في ذلك مما قاله أصحاب رسول الله... "، وهو مضطرب، وفي المخطوطة مثله، إلا أنه كتب"ما قاله أصحاب رسول الله... "، وصواب السياق يقتضي أن يكون: "ما ينبئ عن أن القول... " بزيادة"أن".
(٢) في المطبوعة: "مذهب هذا يغسل خلفه"، وقد استشكلها ناشر المطبوعة الأولى، وحق له. وهي في المخطوطة مثلها سيئة الكتابة، وصوابها"فذهب"، وهذه الجملة، تعجب ممن قيل له: "فاغسلوا وجوهكم"، فراح يغسل ما خلف الوجه، أي القفا.
46
وقال الشافعي: لم أعلم مخالفا في أن المرافق فيما يغسل"، كأنه يذهب إلى أن معناها: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى أن تُغْسَل المرافق= حدثنا بذلك عنه الربيع. (١)
* * *
وقال آخرون: إنما أوجب الله بقوله:"وأيديكم إلى المرافق" غسلَ اليدين إلى المرفقين، فالمرفقان غايةٌ لما أوجب الله غسله من آخر اليد، والغاية غير داخلة في الحدِّ، كما غير داخل الليلُ فيما أوجب الله تعالى على عباده من الصوم بقوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [سورة البقرة: ١٨٧] لأن الليل غاية لصوم الصائم، إذا بلغه فقد قضى ما عليه. قالوا: فكذلك المرافق في قوله:"فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق" غاية لما أوجب الله غسلَه من اليد. وهذا قول زُفَر بن الهذيل. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن غسل اليدين إلى المرفقين من الفرض الذي إن تركه أو شيئا منه تارك، لم تجزه الصلاة مع تركه غسلَه. فأما المرفقان وما وراءهما، فإن غسل ذلك من الندب الذي ندبَ إليه ﷺ أمته بقوله:
١١٤٣٢ - "أمتي الغرُّ المحجلون من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يُطيل غُرَّته فليفعل". (٣)
(١) هذا كله نص الشافعي في الأم ١: ٢٢، إلا أن فيه: "كأنهم ذهبوا إلى أن معناها... "
(٢) "زفر بن الهذيل بن قيس العنبري"، أبو الهذيل، صاحب أبي حنيفة. كان من أصحاب الحديث، ثم غلب عليه الرأي، فكان من أصحاب أبي حنيفة.
(٣) هذا حديث صحيح، لم يذكر إسناده، ورواه البخاري (الفتح ١: ٢٠٧، ٢٠٨) ولفظه: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين"، بمثله.
و"الغر" جمع"أغر"، أي ذو غرة (بضم الغين وتشديد الراء)، وهي لمعة بيضاء، تكون في جبهة الفرس، وأراد بذلك النور الذي يكون في وجوه أهل الإيمان بمحمد ﷺ وبما جاء به، واهتدوا بهديه.
و"المحجلون" من"التحجيل"، وهو بياض يكون في ثلاث قوائم من قوائم الفرس. وهذه سيما المؤمنين الذين اتبعوه ﷺ يوم القيامة.
47
=فلا تفسد صلاة تاركِ غسلِهما وغسل ما وراءهما، لما قد بينا قبلُ فيما مضى: من أن كل غاية حُدَّت بـ"إلى" فقد تحتمل في كلام العرب دخول الغاية في الحدّ وخروجها منه. وإذا احتمل الكلام ذلك لم يجز لأحد القضاء بأنها داخلة فيه، إلا لمن لا يجوز خلافه فيما بيَّن وحَكم، ولا حُكم بأن المرافق داخلة فيما يجب غسله عندنا= ممن يجب التسليم بحكمه.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في صفة"المسح" الذي أمر الله به بقوله:"وامسحوا برءوسكم".
فقال بعضهم: وامسحوا بما بدا لكم أن تمسحوا به من رءوسكم بالماء، إذا قمتم إلى الصلاة.
ذكر من قال ذلك:
١١٤٣٣ - حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال، حدثنا حماد بن مسعدة، عن عيسى بن حفص قال: ذكر عند القاسم بن محمد مسحُ الرأس فقال: يا نافع كيف كان ابن عمر يمسح؟ فقال، مسحةً واحدة= ووصف أنه مسح مقدَّم رأسه إلى وجهه= فقال القاسم: ابن عمر أفقهُنا وأعلمُنا.
١١٤٣٤ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني نافع: أن ابن عمر كان إذا توضأ ردَّ كفه اليمنى إلى الماء ووضعهما فيه، ثم مسح بيديه مقدَّم رأسه.
١١٤٣٥ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن بكير، قال أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني نافع: أن ابن عمر كان يضع بطن كفه اليمنى على الماء، (١)
(١) في المطبوعة: "كان يضع بطن كفيه على الماء"، ليت شعري كيف استجاز الناشر أن يجعل"كفه اليمنى""كفيه"؟ أمن أجل أن الناسخ كتب في الجملة التالية: "ثم لا ينفضهما، ثم تمسح بهما" بالتثنية؟ ولقد أخطأ الناسخ في تثنية الضمير، فرددته إلى الصواب بإفراد الضمير.
48
لا ينفضهما ثم يمسح بها ما بين قَرْنيه إلى الجبين واحدًة، ثم لا يزيد عليها في كل ذلك مسحةٌ واحدة، مقبلةً من الجبين إلى القرن. (١)
١١٤٣٦ - حدثنا تميم بن المنتصر قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا شريك، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا توضأ مسح مقدَّم رأسه.
١١٤٣٧ - حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا إسحاق قال، أخبرنا شريك، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: يجزيك أن تمسح مقدَّم رأسك إذا كنت معتمرا. (٢) وكذلك تفعل المرأة.
١١٤٣٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الله الأشجعي، عن سفيان، عن ابن عجلان، عن نافع قال: رأيت ابن عمر مسح بَيافوخه مسحة= وقال سفيان: إن مسح شعرةً أجزأه= يعني واحدةً.
١١٤٣٩ - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبد السلام بن حرب قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم قال: أيّ جوانب رأسك أمْسَسْتَ الماء أجزأك. (٣)
١١٤٤٠ - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا علي بن ظبيان قال، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: أي جوانب رأسك أمسست الماء أجزأك. (٤)
١١٤٤١ - حدثنا الرفاعي قال، حدثنا وكيع، عن إسماعيل الأزرق، عن الشعبي، مثله. (٥)
(١) "القرن" هو حد الرأس وجانبها، وهما قرنان عن يمين وشمال.
(٢) "اعتمر الرجل يعتمر، فهو معتمر": إذا تعمم بعمامة، فهو معتم. و"العمارة" (بفتح العين) : كل شيء على الرأس، من عمامة، أو قلنسوة، أو تاج، أو غير ذلك.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "مسست الماء"، وهو خطأ، انظر الخبر التالي.
(٤) الأثر: ١١٤٤٠ - كان في المطبوعة: "... عن الشعبي، مثله"، ولم يثبت نص الخبر، وهو ثابت في المخطوطة. فرددته إلى مكانه.
(٥) الأثر: ١١٤٤١ - هذا الأثر، أخره ناشر المطبوعة السالفة، فوضعه بعد الأثر التالي، وقد أساء.
49
١١٤٤٢ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن نافع قال: كان ابن عمر يمسح رأسه هكذا= فوضع أيوب كفّه وسط رأسه، ثم أمرَّها على مقدَّم رأسه.
١١٤٤٣ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن الحباب، عن سفيان، قال: إن مسح رأسه بأصبع واحدة أجزأه. (١)
١١٤٤٤ - حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: قلت لأبي عمرو: ما يجزئ من مسح الرأس؟ قال: أن تمسح مقدَّم رأسك إلى القفا أحبُّ إلّي.
١١٤٤٥ - حدثني العباس بن الوليد، عن أبيه، عنه، نحوه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فامسحوا بجميع رءوسكم. قالوا: إن لم يمسح بجميع رأسه بالماء، لم تجزِه الصلاة بوضوئه ذلك.
ذكر من قال ذلك:
١١٤٤٦ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا أشهب قال، قال مالك: من مسح بعضَ رأسه ولم يعمَّ أعاد الصلاة بمنزلة من غسل بعضَ وجهه أو بعضَ ذراعه. قال، وسئل مالك عن مسح الرأس، قال: يبدأ من مقدَّم وجهه، فيدير يديه إلى قفاه، ثم يردُّهما إلى حيث بدأ منه.
* * *
وقال آخرون: لا يجزئ مسح الرأس بأقل من ثلاث أصابع. وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف ومحمد.
* * *
(١) الأثر: ١١٤٤٣ -"زيد بن الحباب"، مضى قريبا برقم: ١١٤١٤، وكان في المخطوطة والمطبوعة: "يزيد بن الحباب"، وهو خطأ.
50
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن الله جل ثناؤه أمر بالمسح برأسه القائمَ إلى صلاته مع سائر ما أمره بغسله معه أو مسحه، ولم يحدَّ ذلك بحدٍّ لا يجوز التقصير عنه ولا يجاوزه. وإذ كان ذلك كذلك، فما مسح به المتوضئ من رأسه فاستحقَّ بمسحه ذلك أن يقال:"مسح برأسه"، فقد أدّى ما فرض الله عليه من مسح ذلك لدخوله فيما لزمه اسم"ماسحٍ برأسه" إذا قام إلى صلاته. (١)
* * *
فإن قال لنا قائل: فإن الله قد قال في التيمم: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) [سورة النساء: ٤٣] أفيجزئ المسحُ ببعض الوجه واليدين في التيمم؟
قيل له: كلَّ ما مسح من ذلك بالتراب، فيما تنازعت فيه العلماء= فقال بعضهم:"يجزيه ذلك من التيمم" وقال بعضهم:"لا يجزيه"= فهو مجزئه، لدخوله في اسم"الماسحين به".
وما كان من ذلك مجمعا على أنه غير مجزئه، فمسلَّم لما جاءت به الحجة نقلا عن نبيِّها صلى الله عليه وسلم. ولا حجة لأحد علينا في ذلك، إذ كان من قولنا: إن ما جاء في آي الكتاب عامًّا في معنىً، فالواجب الحكم أنه على عمومه، (٢)
حتى يخصه ما يجب التسليم له، فإذا خُصَّ منه شيء، كان ما خُصَّ منه خارجا من ظاهره، وحكم سائره على العموم. (٣)
وقد بيَّنا العلة الموجبة صحة القول بذلك في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٤)
* * *
و"الرأس" الذي أمر الله جل وعز بالمسح به بقوله:"وامسحوا برءوسكم
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "اسم مامسح"، وصواب قراءتها ما أثبت.
(٢) في المطبوعة: "فالواجب الحكم به على عمومه"، وأسقط"من". وفي المخطوطة: "فالواجب من الحكم به على عمومه"، وهو الصواب، مع جعل"به""أنه"، كما أثبتها.
(٣) انظر تفسير آية التيمم في ٨: ٤١٠ - ٤٢٥.
(٤) انظر القول في الخصوص والعموم فيما سلف ٢: ٢٠٧، ٥٣٩/٤: ١٣٤/٥: ٤٠، ١٣٠، وفي مواضع أخرى كثيرة متفرقة.
51
وأرجلكم إلى الكعبين" هو منابت شعر الرأس، دون ما جاوز ذلك إلى القفا ممَّا استدبر، ودون ما انحدر عن ذلك مما استقبلَ من قِبل وجه إلى الجبهة.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه جماعة من قرأة الحجاز والعراق: (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)، نصبًا، فتأويله: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديَكم إلى المرافق وأرجلَكم إلى الكعبين، وامسحوا برءوسكم وإذا قرئ كذلك، كان من المؤخر الذي معناه التقديم، وتكون"الأرجل" منصوبة عطفا على"الأيدي". وتأول قارئو ذلك كذلك، أن الله جل ثناؤه: إنما أمر عباده بغسل الأرجل دون المسح بها.
* * *
ذكر من قال: عنى الله بقوله:"وأرجلكم إلى الكعبين" الغسلَ.
١١٤٤٧ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة أن رجلا صلى وعلى ظهر قدمه موضع ظُفُر، فلما قضى صلاته، قال له عمر: أعدْ وضوءك وصلاتَك.
١١٤٤٨ - حدثنا حميد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا عبد الله بن حسن قال، حدثنا هزيل بن شرحبيل، عن ابن مسعود قال: خلِّلوا الأصابع بالماء، لا تخلَّلها النارُ. (١)
(١) الأثر: ١١٤٤٨ -"عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب"، روى له الأربعة، ثقة. وكان من العباد، له شرف وعارضة وهيبة ولسان شديد، وكان ذا منزلة من عمر بن عبد العزيز. مترجم في التهذيب.
و"هزيل بن شرحبيل الأودي"، الأعمى، أخو الأرقم بن شرحبيل، روى عن أخيه، وعثمان، وعلي، وطلحة، وسعد وابن مسعود، وغيرهم. تابعي ثقة، من أصحاب عبد الله بن مسعود. ويقال: أدرك الجاهلية. مترجم في التهذيب.
52
١١٤٤٩ - حدثنا عبد الله بن الصباح العطار قال، حدثنا حفص بن عمر الحوضي، قال، حدثنا مُرجَّى= يعني: ابن رجاء اليشكري= قال، حدثنا أبو روح عمارة بن أبي حفصة، عن المغيرة بن حنين: أن النبي ﷺ رأى رجلا يتوضأ وهو يغسل رجليه، فقال: بهذا أمرت. (١)
١١٤٥٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن واقد مولى زيد بن خليدة، قال: سمعت مصعب بن سعد يقول: رأى عمر بن الخطاب قوما يتوضأون فقال: خلِّلوا. (٢)
١١٤٥١ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى قال، سمعت القاسم قال: كان ابن عمر يخلع خفَّيه، ثم يتوضأ فيغسل رجليه، ثم يخلِّل أصابعه.
١١٤٥٢ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،
(١) الأثر: ١١٤٤٩ -"عبد الله بن الصباح بن عبد الله الهاشمي، العطار" شيخ الطبري، روى عنه الجماعة، سوى ابن ماجه. ثقة. مترجم في التهذيب.
و"حفص بن عمر الحوضي، النمري"، أبو عمر الحوضي. روى عنه البخاري وأبو داود. قال أحمد: "ثبت، ثبت، متقن، لا يؤخذ عليه حرف واحد". مترجم في التهذيب.
و"مرجي بن رجاء اليشكري"، ضعيف، قال ابن معين: "ليس حديثه بشيء". مترجم في التهذيب.
و"أبو روح": "عمارة بن أبي حفصة العتكي". ثقة. مضى برقم: ٨٥١٣.
و"مغيرة بن حنين"، تابعي، روى عن علي. روى عنه عمارة بن أبي حفصة. ذكره البخاري في الكبير ٤/١/٣١٨، وابن أبي حاتم ٤/١/٢٢٠، لم يزيدا على ذلك شيئا، لا جرحا ولا تعديلا.
وهذا خبر مرسل، ضعيف لضعف مرجي بن رجاء.
(٢) الأثر: ١١٤٥٠ -"واقد، مولى زيد بن خليدة" كوفي. روى عن زادان، وسعيد بن جبير. روى عنه سفيان الثوري، وشعبة. قال الثوري: "كان شيخ صدق". مترجم في التهذيب.
و"مصعب بن سعد بن أبي وقاص الزهري"، أبو زرارة، تابعي ثقة، مضى برقم ٩٨٤١. وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا: "مصعب بن سعيد"، وليس في التابعين من يقال له: "مصعب بن سعيد"، وبعيد أن يكون تابعيا يروى عنه، ثم يغفلونه. فثبت عندي أنه"مصعب بن سعد".
53
عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم قال: قلت للأسود: رأيتَ عمر يغسل قدميه غَسْلا؟ قال: نعم.
١١٤٥٣ - حدثني محمد بن خلف قال، حدثنا إسحاق بن منصور، قال، حدثنا محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عمر بن عبد العزيز: أنه قال لابن أبي سويد: بلغنا عن ثلاثة كلهم رأوا النبي ﷺ يغسل قدميه غسلا أدناهم ابن عمك المغيرة. (١)
١١٤٥٤ - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا الصباح، عن محمد= وهو ابن أبان= عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: اغسلوا الأقدام إلى الكعبين.
١١٤٥٥ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن خالد، عن أبي قلابة: أن عمر بن الخطاب رأى رجلا قد ترك على ظهر قدمه مثل الظُفُر، فأمره أن يعيد وضوءه وصلاته.
١١٤٥٦ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، عن شيبة بن نِصاح قال: صحبت القاسم بن محمد إلى مكة، فرأيته إذا توضأ للصلاة يُدخل أصابع رجليه يصب عليها الماء، قلت: يا أبا محمد، لم تصنع هذا؟ قال: رأيت ابن عمر يصنعه. (٢)
١١٤٥٧ - حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس قال: سمعت أبي، عن حماد، عن إبراهيم في قوله:"فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين" قال: عاد الأمرُ إلى الغسل.
١١٤٥٨ - حدثني الحسين بن علي الصدائي، قال، حدثنا أبي، عن حفص
(١) الأثر: ١١٤٥٣ -"ابن أبي سويد" هو: "محمد بن أبي سويد الثقفي الطائفي". روى عن عثمان بن العاص، وعمر بن عبد العزيز. روى له الترمذي حديثا واحدا. مترجم في التهذيب.
و"المغيرة"، يعني: "المغيرة بن شعبة الثقفي"، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(٢) الأثر: ١١٤٥٦ -"شيبة بن نصاح بن سرجس المخزومي"، مولى أم سلمة، أتي به إليها وهو صغير، فمسحت رأسه. كان قاضيا بالمدينة. ثقة قليل الحديث. مترجم في التهذيب.
"نصاح" بكسر النون.
54
الغاضري، عن عامر بن كليب، عن أبي عبد الرحمن قال: قرأ عليَّ الحسن والحسين رضوان الله عليهما، فقرآ: (وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فسمع علي رضى الله عنه ذلك= وكان يقضي بين الناس= فقال:"وَأَرْجُلَكُمْ"، هذا من المقدم والمؤخر من الكلام. (١)
١١٤٥٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الوهاب بن عبد الأعلى، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه قرأها: (فَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب، وقال: عاد الأمر إلى الغسل. (٢)
١١٤٦٠ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة وأبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه أنه قرأها: (وَأَرْجُلَكُمْ) وقال: عاد الأمر إلى الغسل.
١١٤٦١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن المبارك، عن قيس، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله: أنه كان يقرأ: (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب.
١١٤٦٢ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
(١) الأثر: ١١٤٥٨ -"الحسين بن علي بن يزيد بن سليم الصدائي"، مضى مرارا منها: ٢٠٩٣، ٥٤٢٧، ٥٤٣٧.
وأبوه: "علي بن يزيد بن سليم الصدائي" مضى برقم: ٢٠٩٣.
و"حفص الغاضري" هو: "حفص بن سليمان الأسدي الغاضري"، متروك الحديث، مضى برقم: ٥٧٥٣.
و"عاصم بن كليب بن شهاب المجنون الجرمي"، مضى برقم: ٨٠٩٨، ثقة قليل الحديث.
و"أبو عبد الرحمن" هو: "أبو عبد الرحمن السلمي": "عبد الله بن حبيب بن ربيعة"، الضرير، مقرئ الكوفة. ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبيه صحبة. إليه انتهت القراءة تجويدا وضبطا. أخذ القراءة عرضا عن عثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب. وأخذ القراءة عنه أئمة التابعين، منهم الحسن والحسين، رضي الله عنهما.
أقرأ القرآن في المسجد الأعظم بالكوفة، أربعين سنة، من زمن عثمان رضي الله عنه إلى أن توفي سنة ٧٤، رحمه الله. وقد مضى برقم: ٨٢.
(٢) الأثر: ١١٤٥٩ -"عبد الوهاب بن عبد الأعلى" (!!)، لم أجد له ذكرا في شيء من الكتب، ولا مر بنا قبل ذلك. ولكن هكذا هو في المخطوطة والمطبوعة.
والذي يروى عن"خالد الحذاء" ممن اسمه"عبد الوهاب": "عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي"، و"عبد الوهاب بن عطاء الخفاف"، فأخشى أن يكون أحدهما، ومنها الناسخ أو أخطأ المملي.
55
حدثنا أسباط، عن السدي، قوله: "فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين"، فيقول: اغسلوا وجوهكم، واغسلوا أرجلكم، وامسحوا برءوسكم. فهذا من التقديم والتأخير.
١١٤٦٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي، عن شيبان، قال، أثبت لي عن علي أنه قرأ: (وَأَرْجُلَكُمْ). (١)
١١٤٦٤ - حدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه: (وأرجلكم) رجع الأمر إلى الغسل.
١١٤٦٥ - حدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خالد، عن عكرمة، مثله.
١١٤٦٦- حدثني المثني، قال، حدثنا الحماني، قال، حدثنا شريك، عن الأعمش قال: كان أصحاب عبد الله يقرأونها: (وَأَرْجُلَكُمْ) فيغسلون.
١١٤٦٧ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: اغسل القدمين إلى الكعبين.
١١٤٦٨ - حدثني عبد الله بن محمد الزهري قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي السوداء، عن ابن عبد خير، عن أبيه قال: رأيت عليًّا توضأ، فغسل ظاهر قدميه، وقال: لولا أني رأيت رسول الله ﷺ فَعَل ذلك، ظننت أن بَطْنَ القدم أحقُّ من ظاهرها. (٢)
(١) الأثر: ١١٤٦٣ -"حسين بن علي بن وليد الجعفي"، مضى في مواضع كثيرة، منها رقم: ٢٩، ١٧٤، ٤٤١، ٧٢٨٧، ٧٤٩٩.
و"شيبان" النحوي، هو: "شيبان بن عبد الرحمن"، أبو معاوية. مضى كثيرا، من ذلك رقم: ٢٣٤٠، ٤٨٩٨، ٥٢٨٠، ٩٢٢٢، ٩٢٢٣، ٩٤٥٦.
و"شيبان النحوي"، روى القراءة عن عاصم، وروى القراءة عنه: "حسين بن علي الجعفي"، انظر طبقات القراء للجزري ١: ٣٢٩، رقم: ١٤٣٥.
(٢) الأثر: ١١٤٦٨ -"عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور الزهري"، شيخ الطبري، روى عن سفيان بن عيينة، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وأبي عامر العقدي، وغيرهم.
روى عنه الجماعة، سوى البخاري. وروى عنه أبو جعفر في التاريخ ٢: ٤٠"عبد الله بن محمد الزهري، عن سفيان". مترجم في التهذيب.
وكان في المطبوعة: "عبد الله بن محمد الزبيري"، لم يحسن قراءة ما في المخطوطة.
و"أبو السوداء" هو: "المسيب بن عبد خير بن يزيد الهمداني". ثقة. مضى برقم: ٥٨٥٠، ٥٨٥١.
و"ابن عبد خير"، هو"المسيب بن عبد خير بن يزيد الهمداني". ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/١/٤٠٨.
وأبوه: "عبد خير بن يزيد الخيواني الهمداني"، مخضرم، تابعي ثقة. مضى برقم: ٨٠٣٥.
وهذا خبر صحيح الإسناد رواه أحمد في مسنده من طريق المسيب بن عبد خير، عن أبيه برقم: ٩١٨، ١٠١٤، ١٠١٥، مع اختلاف في لفظه. ورواه من طريق أبي إسحق، عن عبد خير، برقم: ٧٣٧، ٩١٧، ١٠١٣، ١٢٦٣، ومن طريق السدي، عن عبد خير برقم: ٩٤٣. مطولا.
56
١١٤٦٩ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان قال، حدثنا عبد الملك، عن عطاء قال: لم أر أحدا يمسح على القدمين.
١١٤٧٠ - حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن قيس بن سعد، عن مجاهد أنه قرأ: (وَأرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فنصبها، وقال: رجع إلى الغسل.
١١٤٧١ - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا جابر بن نوح قال، سمعت الأعمش يقرأ: (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب.
١١٤٧٢ - حدثني يونس، قال، أخبرنا أشهب قال: سئل مالك عن قول الله:"وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين" أهي:"أرجلَكم" أو"أرجلِكم"؟ فقال: إنما هو الغسل وليس بالمسح، لا تُمْسح الأرجل، إنما تُغسل. قيل له: أفرأيت من مسح أيحزيه ذلك؟ قال: لا.
١١٤٧٣ - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سلمة، عن الضحاك:"وامسحوا برءوسكم وأرجلَكم" قال: اغسلوها غسلا.
* * *
وقرأ ذلك آخرون من قراء الحجاز والعراق: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ) بخفض"الأرجل". وتأول قارئو ذلك كذلك: أنّ الله إنما أمر عباده بمسح الأرجل
57
في الوضوء دون غسلها، وجعلوا"الأرجل" عطفا على"الرأس"، فخفضوها لذلك.
ذكر من قال ذلك من أهل التأويل:
١١٤٧٤ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن قيس الخراساني، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الوضوء غَسْلتان ومَسْحتان. (١)
١١٤٧٥ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل، عن حميد= ح، وحدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا حميد= قال، قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده: يا أبا حمزة إن الحجاج خطبَنا بالأهواز ونحن معه، فذكر الطَّهور فقال:"اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلَكم، وإنه ليس شيء من ابن آدم أقرَب إلى خَبَثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورَهما وعَرَاقيبهما". فقال أنس: صدق الله وكذبَ الحجاج، قال الله:"وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم" قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلَّهما. (٢)
١١٤٧٦ - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا حماد قال، حدثنا عاصم الأحول، عن أنس قال: نزل القرآن بالمسح، والسنة الغسلُ. (٣)
١١٤٧٧ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن موسى
(١) الأثر: ١١٤٧٤ -"محمد بن قيس الخراساني"، لم أجد له ذكرا، ولم أعرف من يكون. وعسى أن يكون محرفا.
(٢) الأثر: ١١٤٧٥ -"موسى بن أنس بن مالك الأنصاري"، قاضي البصرة. روى عن أبيه أنس بن مالك، وعبد الله بن عباس. روى عنه ابن حمزة، وعطاء بن أبي رباح، وحميد الطويل، وغيرهم. قال ابن سعد: "كان ثقة قليل الحديث". مترجم في التهذيب.
وسيأتي هذا الخبر بلفظ آخر برقم: ١١٤٧٧، فانظر تخريجه هناك.
و"الخبث" (بفتحتين) : النجس، يعني البول والغائط، ويقال لهما"الأخبثان".
(٣) الأثر: ١١٤٧٦ - في المطبوعة: "حدثنا ابن سهل"، أسقط"على"، وهي ثابتة في المخطوطة.
58
بن أنس قال: خطب الحجاج فقال:"اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلَكم، ظهورَهما وبطونَهما وعراقيبَهما، فإن ذلك أدنى إلى خبثكم". قال أنس: صدق الله وكذب الحجاج، قال الله:"وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم إلى الكعبين". (١)
١١٤٧٨ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة قال: ليس على الرجلين غسل، إنما نزل فيهما المسح. (٢)
١١٤٧٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عنبسة، عن جابر، عن أبي جعفر، قال: امسح على رأسك وقدميك.
١١٤٨٠ - حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: نزل جبريل بالمسح. قال: ثم قال الشعبي: ألا ترى أن"التيمم" أن يمسح ما كان غسلا ويُلغِي ما كان مسحًا؟
١١٤٨١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: أُمر بالتيمم فيما أُمر به بالغسل.
١١٤٨٢ - حدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي أنه قال: إنما هو المسح على الرجلين، ألا ترى أنه ما كان عليه الغسل، جعل عليه المسح، وما كان عليه المسح أهمل؟
١١٤٨٣ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر أنه قال: أمر أن يمسح في التيمم، ما أمر أن يغسل في الوضوء، وأبطل
(١) الأثر: ١١٤٧٧ - انظر الأثر السالف رقم: ١١٤٧٥.
وفي المخطوطة: "أدنى إلى أخبثكم"، بإفراد"أخبث"، وإنما جاء على التثنية: "الأخبثان"، وهما البول والغائط. وأما في المطبوعة، فإنه جعلها"خبثكم" فأسقط الألف. والصواب ما أثبت.
وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن ١: ٧١، من طريق يحيى بن أبي طالب، عن عبد الوهاب بن عطاء، عن حميد، به نحوه.
(٢) الأثر: ١١٤٧٨ -"عبيد الله العتكي" هو: "عبيد الله بن عبد الله العتكي"، أبو المنيب. مضى برقم: ١٦٣٤، ٤٢٦٨، ٥٥٠٠، وكان في المطبوعة والمخطوطة"عبد الله العتكي"، والصواب ما أثبته، مصغرا.
59
ما أمر أن يُمسح في الوضوء: الرأس والرجلان.
١١٤٨٤ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي قال: أمر أن يمسح بالصعيد في التيمم، ما أمر أن يغسل بالماء. وأهمِل ما أمر أن يمسح بالماء.
١١٤٨٥ - حدثنا ابن أبي زياد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا إسماعيل قال: قلت لعامر: إن ناسًا يقولون إن جبريل ﷺ نزل بغسل الرجلين! فقال: نزل جبريل بالمسح. (١)
١١٤٨٦ - حدثنا أبو بشر الواسطي إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد بن عبد الله، عن يونس قال، حدثني من صحب عكرمة إلى واسط قال: فما رأيته غسل رجليه، إنما يمسح عليهما، حتى خرج منها. (٢)
١١٤٨٧ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم إلى الكعبين" افترض الله غَسلتين ومسحتين.
١١٤٨٨ - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن الأعمش، عن يحيى بن وثَاب، عن علقمة: أنه قرأ:"وَأَرْجُلِكُمْ" مخفوضة"اللام". (٣)
١١٤٨٩ - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن الأعمش، مثله.
(١) الأثر: ١١٤٨٥ -"ابن أبي زياد"، هو: "عبد الله بن عبد الحكم بن أبي زياد القطواني"، مضى برقم: ٢٢٤٧، ٥٧٩٦، وغيرهما.
(٢) الأثر: ١١٤٨٦ -"إسحق بن شاهين الواسطي"، أبو بشر الواسطي"، مضى برقم: ٧٢١١، ٩٧٨٨.
و"خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي"، مضى أيضا: ٤٤٣٣، ٧٢١١، ٩١٤١، ٩٧٨٨.
(٣) الأثر: ١١٤٨٨ -"يحيى بن وثاب الأسدي" المقرئ. روى عن ابن عمر، وابن عباس، وعلقمة. ثقة. قال الأعمش: "كان يحيى بن وثاب من أحسن الناس قراءة، وكان إذا قرأ لا يسمع في المسجد حركة". مترجم في التهذيب.
60
١١٤٩٠ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو الحسين العكلي، عن عبد الوارث، عن حميد، عن مجاهد: أنه كان يقرأ:"وَأَرْجُلِكُمْ". (١)
١١٤٩١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال، كان الشعبي يقرأ:"وَأَرْجُلِكُمْ" بالخفض.
١١٤٩٢ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الحسن بن صالح، عن غالب، عن أبي جعفر، أنه قرأ:"وَأَرْجُلِكُمْ" بالخفض. (٢)
١١٤٩٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة، عن الضحاك: أنه قرأ"وَأَرْجُلِكُمْ" بالكسر.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في ذلك، أن الله عزّ ذكره أمر
(١) الأثر: ١١٤٩٠ -"أبو الحسين العكلي"، هو"زيد بن الحباب العكلي"، مضى برقم: ٢١٨٥، ٥٣٥٠، ٨١٦٥، وغيرها. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "أبو الحسن" وهو خطأ.
و"عبد الوارث" هو: "عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان العنبري". إمام حافظ مقرئ. مضى برقم: ٢١٥٤، ٦٥٨٩، ٦٥٩١، ٦٨١٩. ومترجم أيضا في طبقات القراء للجزري ١: ٤٧٨، رقم: ١٩٨٩، أخذا القراءة عرضا على أبي عمرو بن العلاء، ورافقه في العرض علي حميد بن قيس المكي.
و"حميد" هو"حميد الأعرج"، "حميد بن قيس المكي الأسدي" القارئ، مضى برقم: ٣٣٥٢، ٦٤٦١، ومترجم أيضا في طبقات القراء للجزري ١: ٢٦٥، رقم: ١٢٠٠. أخذ القراءة عن"مجاهد بن جبر". روى القراءة عنه سفيان بن عيينة، وأبو عمرو بن العلاء، وعبد الوارث بن سعيد. توفى سنة ١٣٠.
(٢) الأثر: ١١٤٩٢ -"الحسن بن صالح بن حي الثوري"، مضى برقم: ١٧٨، ٥٣٤٧، ٧٥٩٤.
وأما "غالب"، فكأنه يعني"غالب بن فائد الأسدي" المقرئ، روى عن سفيان الثوري، وإسرائيل، وأبي بكر بن عياش، وعرض القراءة على حمزة الزيات. قال أبو حاتم: "هو مقرئ ليس به بأس". وقال أبو زرعة: "هو شيخ كوفي، لا أعرفه". مترجم في ابن أبي حاتم ٣/٢/٤٩.
وأما "أبو جعفر"، فهو"أبو جعفر المخزومي": "يزيد بن القعقاع"، الإمام القارئ، أحد القراء العشرة، تابعي مشهور كبير القدر. مترجم في طبقات القراء للجزري ٢: ٣٨٢، رقم: ٣٨٨٢.
61
بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء، كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم. وإذا فعل ذلك بهما المتوضئ، كان مستحقًّا اسم"ماسحٍ غاسلٍ"، لأن"غسلهما" إمرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء. و"مسحهما"، إمرار اليد أو ما قام مقام اليد عليهما. فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو"غاسل ماسح".
ولذلك= من احتمال"المسح" المعنيين اللذين وصفتُ من العموم والخصوص اللذين. أحدهما مسح ببعض والآخر مسح بالجميع= اختلفت قراءة القرأة في قوله:"وأرجلكم" فنصبها بعضهم= توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما الغسل وإنكارًا منه المسح عليهما، مع تظاهر الأخبار عن رسول الله ﷺ بعموم مسحهما بالماء. =وخفضها بعضهم، توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما المسح.
ولما قلنا في تأويل ذلك= إنه معنّي به عموم مسح الرجلين بالماء= كره من كره للمتوضئ الاجتزاءَ بإدخال رجليه في الماء دون مسحهما بيده، أو بما قام مقام اليد، توجيها منه قوله:"وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين" إلى مسح جميعهما عامًّا باليد، أو بما قام مقام اليد، دون بعضهما مع غسلهما بالماء، كما:-
١١٤٩٤ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان= قال، حدثنا نافع، عن ابن عمر= عن الأحول، عن طاوس، أنه سئل عن الرجل يتوضأ ويدخل رجليه في الماء. قال: ما أعدُّ ذلك طائلا. (١)
* * *
(١) الأثر: ١١٤٩٤ - في هذا الإسناد خطأ لم أهتد إلى صوابه، فإن"سفيان بن عيينة" لم يرو عن"نافع" مولى"ابن عمر".
وأخشى أن يكون صوابه"قال حدثنا عبد الرحمن، قال حدثنا سفيان = وحدثنا نافع بن عمر= عن الأحول... ".
وإن"عبد الرحمن بن مهدي"، يروي عن نافع بن عمر بن عبد الله بن جميل الجمحي"، ولكن لا أدري، أروى"نافع بن عمر" هذا عن"الأحول" أم لم يرو عنه.
وأما "الأحول"، فهو"سليمان بن أبي مسلم المكي"، روى عنه سفيان بن عيينة. ومضى برقم: ٧٨٦٧.
وقوله: "ما أعد ذلك طائلا" أي مغنيا أو مجزئا. وأصل"الطائل": النفع والفائدة.
ويقال: "هذا أمر لا طائل فيه"، إذا لم يكن فيه غناء ولا مزية.
62
وأجاز ذلك من أجاز، توجيهًا منه إلى أنه معنيٌّ به الغسل. كما:-
١١٤٩٥ - حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس قال: سمعت هشاما يذكر، عن الحسن، في الرجل يتوضأ في السفينة، قال: لا بأس أن يغمس رجليه غمسًا.
١١٤٩٦ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال: أخبرني أبو حرّة، عن الحسن في الرجل إذا توضأ على حرف السفينة، قال: يخضخِضُ قدميه في الماء. (١)
* * *
=فإذا كان"المسحَ" المعنيان اللذان وصفنا: من عموم الرجلين بالماء، وخصوص بعضهما به= وكان صحيحًا بالأدلّة الدالة التي سنذكرها بعدُ، أنّ مراد الله من مسحهما العموم، وكان لعمومهما بذلك معنى"الغسل" و"المسح"= فبيِّنٌ صواب قرأة القراءتين جميعًا (٢)
= أعني النصب في"الأرجل" والخفض. لأن في عموم الرجلين بمَسحهما بالماء غسلُهما، وفي إمرار اليد وما قام مقام اليد عليهما مسحُهما.
فوجه صواب قراءة من قرأ ذلك نصبا لما في ذلك من معنى عمومها بإمرار الماء عليهما. (٣)
ووجهُ صواب قراءة من قرأه خفضا، لما في ذلك من إمرار اليد عليهما، أو ما قام مقام اليد، مسحا بهما.
(١) الأثر: ١١٤٩٦ -"أبو حرة" البصري، هو"واصل بن عبد الرحمن"، مضى مثل هذا الإسناد برقم: ٦٣٨٥. وكان في المطبوعة هنا: "أبو حمزة"، وهو خطأ محض.
و"خضخض الماء": حركه.
(٢) في المطبوعة: "صواب القراءتين جميعا"، خالف المخطوطة وحذف."قرأة" (بفتح القاف والراء والهمزة)، جمع"قارئ"، كما سلف مئات من المرات.
(٣) في المطبوعة: "معنى عمومهما" بالتثنية، والصواب من المخطوطة.
63
غير أنّ ذلك وإن كان كذلك، وكانت القراءتان كلتاهما حسنًا صوابًا، فأعجب القراءتين إليّ أن أقرأها، قراءة من قرأ ذلك خفضًا، لما وصفت من جمع"المسح" المعنيين اللذين وصفت، ولأنه بعد قوله:"وامسحوا برءوسكم" فالعطف به على"الرءوس" مع قربه منه، أولى من العطف به على"الأيدي"، وقد حيل بينه وبينها بقوله:"وامسحوا برءوسكم".
* * *
فإن قال قائل: وما الدليل على أن المراد بالمسح في الرجلين العموم، دون أن يكون خصوصًا، نظيرَ قولك في المسح بالرأس؟
قيل: الدليل على ذلك، تظاهرُ الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه قال:"ويل للأعقاب وبُطون الأقدام من النار". ولو كان مسح بعض القدم مجزئا عن عمومها بذلك (١) لما كان لها الويل بترك ما تُرك مسحه منها بالماء بعد أن يُمسح بعضها. لأن من أدَّى فرض الله عليه فيما لزمه غسلُه منها لم يستحق الويل، بل يجب أن يكون له الثواب الجزيل. وفي وجوب الويل لعَقِب تارك غسل عَقِبه في وضوئه، (٢) أوضحُ الدليل على وجوب فرض العموم بمسح جميع القدم بالماء، وصحةِ ما قلنا في ذلك، وفسادِ ما خالفه.
* * *
ذكر بعض الأخبار المروية عن رسول الله ﷺ بما ذكرنا:
١١٤٩٧ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا شعبة، عن محمد بن زياد قال: كان أبو هريرة يمرُّ ونحن نتوضأ من المَطْهَرة، فيقول: (٣)
أسبغوا الوضوء، اسبغوا الوضوء، قال أبو القاسم: ويلٌ للعراقيبِ من النار.
(١) في المطبوعة: "مجزئا عن عمومها"، والصواب من المخطوطة، وكأن الناشر قد اعتاد أن يضع"عن"، مكان"من" في مثل هذا، انظر ما سلف: ص: ٢٥، تعليق: ٣.
(٢) في المطبوعة: "فوجب الويل"، وهو فاسد. وفي المخطوطة: "في وجوب الويل"، سقط من الناسخ"الواو" من أول الكلام، فأثبتها.
(٣) "المطهرة" (بفتح الميم، وكسرها) : الإناء الذي يكون فيه الماء، ليتوضأ منه.
64
١١٤٩٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه= إلا أنه قال: ويل للأعقاب من النار. (١)
١١٤٩٩ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن محمد بن زياد قال: كان أبو هريرة يمرّ بأناس يتوضأون يُسِيئون الطهور، (٢) فيقول: اسبغوا الوضوء، فإني سمعت أبا القاسم ﷺ يقول: ويلٌ للعَقِب من النار.
١١٥٠٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
١١٥٠١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
١١٥٠٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ويل للأعقاب من النار. (٣)
١١٥٠٣ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثني سليمان بن بلال قال، حدثني سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للأعقاب من النار يوم القيامة. (٤)
١١٥٠٤ - حدثني إسحاق بن شاهين وإسماعيل بن موسى قالا حدثنا خالد بن عبد الله، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال، قال
(١) في المخطوطة: "ويل للعراقيب"، كالذي قبله، ولا يستقيم ذلك، فالظاهر أن الصواب هو ما ثبت في المطبوعة.
(٢) في المطبوعة: "مسرعين الطهور"، وفي المخطوطة: "يسوون الطهور" فكأن قراءتها كما أثبت. ولو قرئت: (يُسوُون الطهور)، لكان صوابًا. فقد حكى ابن خالويه أنه يقال: "أسوى" بمعنى: أساء.
(٣) الآثار ١١٤٩٧ - ١١٥٠٢ - ست طرق، لخبر محمد بن زياد، عن أبي هريرة.
و"محمد بن زياد القرشي الجحمي"، تابعي ثقة.
والحديث، رواه البخاري (الفتح ١: ٢٣٣) ومسلم ٣: ١٣١، وأحمد في المسند رقم: ٧١٢٢، من طريق شعيب، عن محمد بن زياد، وبرقم: ٧٨٠٣، من طريق معمر، عن محمد بن زياد. وانظر تعليق أخي السيد أحمد عليه هناك. وهو حديث صحيح.
(٤) الأثر: ١١٥٠٣ -"خالد بن مخلد القطواني"، صدوق في الرواية، مضى برقم: ٢٢٠٦، ٤٥٧٧، ٨١٦٦، ٨٣٩٧.
و"سليمان بن بلال التيمي"، ثقة، مضى برقم: ٤٣٣٣، ٤٩٢٣، ١٠٨٤٦.
و"سهيل بن أبي صالح ذكوان السمان". ثقة، مضى برقم: ١٠٦٧٦.
وأبوه: "أبو صالح ذكوان السمان". مضى برقم: ٣٠٤، ٣٢٢٦، ٥٣٨٧.
حديث صحيح، رواه مسلم ١: ١٣١، من طريق جرير، عن سهيل، بنحوه. ورواه أحمد في مسنده رقم: ٧٧٧٨، من طريق معمر، عن سهيل، بمثله. وسيأتي في الذي يليه بإسناد آخر.
65
رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ويلٌ للأعقاب من النار= وقال إسماعيل في حديثه: ويلٌ للعراقيب من النار". (١)
١١٥٠٥ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن سالم الدوسي قال: دخلت مع عبد الرحمن بن أبي بكر على عائشة، فدعا بوضوء، فقالت عائشة: يا عبد الرحمن، أسبغ الوضوء، فإنّي سمعت رسول الله ﷺ يقول: ويل للأعقاب من النار. (٢).
١١٥٠٦ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عمر بن يونس الحنفي قال، حدثنا عكرمة بن عمار قال، حدثنا يحيى بن أبي كثير قال، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال، حدثني أبو سالم مولى المَهْري =هكذا قال عمر بن يونس= قال: خرجت أنا وعبد الرحمن بن أبي بكر في جنازة سعد بن أبي وقاص قال:
(١) الأثر: ١١٥٠٤ -"إسحق بن شاهين الواسطي"، مضى قريبا برقم: ١١٤٨٦.
و"إسمعيل بن موسى الفزاري" شيخ الطبري، مضى برقم: ٨٤٩، ٩٦٨٢.
و"خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي الطحان"، مضى برقم: ٤٤٣٣، ٧٢١١، ٩١٤١، ٩٧٨٨.
وهذا إسناد آخر للحديث السالف.
(٢) الأثر: ١١٥٠٥ -"يحيى بن أبي كثير الطائي"، روى عن أنس، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعن سالم مولى دوس. ثقة مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر رواه يحيى بن أبي كثير مرتين هنا وفي رقم: ١١٥٠٧، عن"سالم" مباشرة، ثم عنه بواسطة أبي سلمة بن عبد الرحمن، في الأثر التالي.
و"سالم الدوسي" هو"سالم بن عبد الله النصري"، و"أبو عبد الله مولى شداد"، و"سالم مولى شداد بن الهاد"، وهو"سالم مولى النصريين"، و"سالم سبلان"، و"سالم مولى مالك بن أوس بن الحدثان النصري" و"سالم مولى المهري"، و"سالم مولى دوس"، هذه كلها جاءت في أخباره، كما قال النووي في شرح مسلم. قال أبو حاتم: "كان سالم من خيار المسلمين"، وكانت عائشة تستعجب بأمانته، تستأجره. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/٢/١١٠.
وسيأتي تخرج حديث"سالم" في رقم: ١١٥١٠.
66
فمررت أنا وعبد الرحمن على حُجرة عائشة أخت عبد الرحمن، فدعا عبد الرحمن بوضوء، فسمعت عائشة تناديه: يا عبد الرحمن، أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول:"ويل للأعقاب من النار" (١).
١١٥٠٧ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن سالم مولى دَوْس قال: سمعت عائشة تقول لأخيها عبد الرحمن: يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء، فإنّي سمعت رسول الله ﷺ يقول: ويل للأعقاب من النار" (٢).
(١) الأثر: ١١٥٠٦-"عمر بن يونس الحنفي اليمامي"، ثقة ثبت. مضى برقم: ٤٤٣٥، ٨٢٢٤.
و"عكرمة بن عمار العجلي"، ثقة، مضى برقم: ٨٤٩، ٢١٨٥.
و"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري"، ثقة. مضى برقم: ٨، ٦٧، ٣٠١٥، ٨٣٩٤.
و"أبو سالم مولى المهري"، هو"سالم الدوسي" الذي مضى في الأثر السالف. وقول الطبري: "هكذا قال عمر بن يونس"، يعني في روايته عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، فإن ابن حجر نقل في التهذيب في ترجمته: "وقال عبد الغني بن سعيد في إيضاح الإشكال: وهو الذي روى عنه أبو سلمة فقال: حدثنا أبو سالم، أو سالم، مولى المهري".
وقال البخاري في الكبير ٢/٢/١١٠: "وقال عكرمة، عن يحيى، حدثني أبو سلمة، حدثني أبو سالم المهري - ولا يصح". وهو يعني هذا الإسناد نفسه.
و"المهري" (بالراء والياء المشددة)، وكان في المطبوعة والمخطوطة بالدال، وهو خطأ محض. وسيأتي في التخريج في الأثر رقم: ١١٥١٠.
(٢) الأثر: ١١٥٠٧-"علي بن المبارك الهنائي" ثقة. قال أحمد: "كانت عنده كتب عن يحيى بن أبي كثير، بعضها سمعها، وبعضها عرض". مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر أيضا من رواية يحيى بن أبي كثير، عن سالم، دون واسطة، كما أشرت إليه في التعليق على الأثر: ١١٥٠٥.
67
١١٥٠٨ - حدثني يعقوب وسوار بن عبد الله، قالا حدثنا يحيى القطان، عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي سلمة، أن عائشة رأت عبد الرحمن يتوضأ فقالت: أسبغ الوضوء، فإنّي سمعت رسول الله ﷺ يقول: ويل للأعقاب من النار. (١).
١١٥٠٩- حدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا ابن عيية ويحيى بن سعيد القطان، عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي سلمة، قال، رأت عائشة عبد الرحمن يتوضأ، فقالت: أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: ويلٌ للعراقيب من النار. (٢).
١١٥١٠ - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن راشد قال: أخبرنا حيوة بن شريح قال، أخبرنا أبو الأسود: أنّ أبا عبد الله مولى شدّاد بن الهاد حدّثه: أنه دخل على عائشة زوج النبي ﷺ وعندها عبد الرحمن، فتوضأ عبد الرحمن، ثم قام فأدبر، فنادته عائشة فقالت: يا عبد الرحمن! فأقبل عليها، فقالت له: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: ويلٌ للأعقاب من النار. (٣).
(١) الأثران: ١١٥٠٨، ١١٥٠٩-"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" روى عن عائشة بغير واسطة. وهذان الخبران لم يصرح فيهما أبو سلمة بسماعه من عائشة، وقد مضى برقم: ١١٥٠٦، أنه سمع ذلك من سالم مولى المهري.
(٢) الأثران: ١١٥٠٨، ١١٥٠٩-"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" روى عن عائشة بغير واسطة. وهذان الخبران لم يصرح فيهما أبو سلمة بسماعه من عائشة، وقد مضى برقم: ١١٥٠٦، أنه سمع ذلك من سالم مولى المهري.
(٣) الأثر: ١١٥١٠-"أبو زرعة، وهب الله بن راشد المصري"، مؤذن الفسطاط. مضى برقم: ٢٣٧٧، ٢٨٩١، ٥٠٠٥، ٥٣٨٦، ٦٤٥٨. وكان في المطبوعة هنا: "أخبرنا أبو رواحة وعبد الله بن راشد قالا"، تصرف في نص المخطوطة تصرفا قبيحا، وجعل الرجل الواحد رجلين، ووضع مكان"قال"، "قالا" وليس في العبث بالأمانة أقبح من هذا الفعل.
و"حيوة بن شريح"، مضى برقم: ٢٨٩١، ٣١٧٩.
و"أبو الأسود"، هو"يتيم عروة": "محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود الأسدي" مضى برقم: ٢٨٩١.
وكان في المطبوعة: "أخبرنا عبد الله مولى شداد بن الهاد"، وفي المخطوطة: "أنا عبد الله مولى شداد بن الهاد". والصواب بينهما ما أثبته بزيادة"أن"، كما في مسلم ٣: ١٢٨.
وهذا الخبر: ١١٥١٠، أخرجه مسلم في صحيحه ٣: ١٢٨، من طريق حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن حيوة، عن محمد بن عبد الرحمن، ولم يذكر لفظه. والطحاوي في شرح معاني الآثار ١: ٢٣، وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير ٢/٢/١١١، مختصرا.
وأما الحديث: ١١٥٠٦، فقد أخرجه مسلم في صحيحه ٣: ١٢٨، من طريق"محمد بن حاتم، وأبو معن الرقاشي، قال حدثنا عمر بن يونس، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثني يحيى بن أبي كثير، قال حدثني أو حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن، حدثني سالم مولى المهري"، ولم يقل عمر بن يونس فيه"أبو سالم المهري"، كما قال الطبري إنه كذلك في رواية"عمر بن يونس". وقد مضى أن البخاري قال في قوله: "أبو سالم المهري"، إنه لا يصح.
وحديث سالم، أخرجه مسلم أيضا (٣: ١٢٧، ١٢٨) من طريق عبد الله بن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن سالم. وأخرجه البيهقي في السنن ١: ٦٩، والطيالسي: ٢١٧، رقم: ١٥٥٢، من طريق ابن أبي ذئب، عن عمران بن بشير، عن سالم سبلان، وفيه زيادة: "ويل للأعقاب من النار يوم القيامة"، وعنه البيهقي في السنن ١: ٦٩. ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار ١: ٢٣.
68
١١٥١١ - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال، حدثني أبو إسحاق، عن سعيد= أو: شعيب= بن أبي كرب قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ويل للعراقيب من النار" (١).
١١٥١٢- حدثنا خلاد بن أسلم قال، حدثنا النضر قال، أخبرنا شعبة،
(١) الأثر: ١١٥١١-"أبو إسحق" هو السبيعي.
"سعيد بن أبي كرب (أو كريب) الهداني"، سئل أبو زرعة عنه فقال: "كوفي ثقة"، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/٤٦٧، وابن أبي حاتم ٢/١/٥٧.
كان في المطبوعة والمخطوطة هنا"أبو إسحق، عن سعد = أو: سعيد= ابن أبي كرب". وهو خطأ لا شك فيه، فإن البخاري قد نص على أن شعبة قد روى عن أبي إسحق"عن سعيد = أو شعيب". وكذلك روى أحمد في مسنده ٣: ٣٦٩"عن أبي إسحق أنه سمع سعيد بن أبي كريب" أو: شعيب بن أبي كريب". وهكذا جاء في المسند، "كريب" مصغرا، ومثله في التهذيب، وابن ماجه.
وهذا الخبر رواه الطبري هنا من ثلاث طرق عن أبي إسحق، إلى رقم: ١١٥١٦، وسأذكر بقية تخريجه في الأثر الأخير.
69
عن أبي إسحاق قال، سمعت ابن أبي كرب قال، سمعت جابر بن عبد الله قال، سمعت رسول الله ﷺ يقول: ويل للعَقِب= أو: العراقيب= من النار" (١).
١١٥١٣ - حدثني إسماعيل بن محمود الحجيري، قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال، سمعت سعيدا يقول، سمعت جابرا يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ويل للأعقاب من النار. (٢).
١١٥١٤ - حدثنا ابن بشار وابن المثني، قالا حدثنا عبد الرحمن، قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للعراقيب من النار. (٣)
١١٥١٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الصباح بن محارب، عن محمد بن أبان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله قال: سَمِع أذني من النبي صلى الله عليه وسلم: ويل للعراقيب من النار. (٤)
(١) الأثر: ١١٥١٢-"خلاد بن أسلم"، أبو بكر الصفار، شيخ الطبري، مضى برقم: ٣٠٠٤.
و"النضر" هو: "النضر بن شميل المازني" النحوي البصري، روى له الأئمة، كان أروى الناس عن شعبة. وكان النضر إمام في العربية والحديث. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر مكرر الذي سلف.
(٢) الأثر: ١١٥١٣-"إسمعيل بن محمود الحجيري" شيخ الطبري. لم أجد له ترجمة ولا ذكرا فيما بين يدي من الكتب، ولا أدري أهو"الحجيري" أم"الجحيري"، فإنه في المخطوطة غير منقوط.
و"خالد بن الحارث بن عبيد الهجيمي"، سلف برقم: ٧٥٠٧، ٧٨١٨، ٩٨٧٨. وهذا الخبر مكرر الخبرين السالفين.
(٣) الأثر: ١١٥١٤- هذا الخبر من طريق سفيان عن أبي إسحق، رواه الطحاوي في معاني الآثار ١: ٣٣ من طريق مؤمل بن إسمعيل، عن سفيان، عن أبي إسحق، بزيادة في آخره: "أسبغوا الوضوء".
(٤) الأثر: ١١٥١٥، ١١٥١٦-"الصباح بن محارب التيمي" الكوفي ثقة، لم يرو له سوى ابن ماجه. قال أبو زرعة، وأبو حاتم: "صدوق". وقال العقيلي: "يخالف في بعض حديثه". مترجم في التهذيب.
و"محمد بن أبان بن صالح بن عمير الجعفي"، تزوج في الجعفيين، فنسب إليهم. ضعفوه، متكلم في حفظه. مضى برقم: ٢٧٢٠.
هذا، وأثر أبي إسحق، عن سعيد بن أبي كرب، رواه أحمد في المسند ٣: ٣٩٠ من طريق إسرائيل، عن أبي إسحق، وبمثله الطحاوي في معاني الآثار ١: ٣٣. ثم رواه أحمد في ٣: ٣٩٣ من طريق يزيد بن عطاء، عن أبي إسحق. ورواه ابن ماجه في سننه ١: ١٥٥، رقم: ٤٥٤، من طريق الأحوص، عن أبي إسحق.
70
١١٥١٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الصباح بن محارب، عن محمد بن أبان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله قال: سمع أذني من النبي صلى الله عليه وسلم:"ويلٌ للعراقيب من النار! أسبغوا الوضوء. (١)
١١٥١٧- حدثني الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا الوليد بن القاسم، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله قال: أبصر النبي ﷺ رجلا يتوضأ، وبقي من عَقِبه شيء، فقال: ويلٌ للعراقيب من النار. (٢).
١١٥١٨ - حدثني علي بن مسلم قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى قوما يتوضأون لم يُصب أعقابَهم الماءُ، فقال: ويل للعراقيب من النار. (٣).
١١٥١٩ - حدثنا أبو سفيان الغنوي يزيد بن عمرو قال، حدثنا خلف بن الوليد قال، حدثني أيوب بن عتبة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن معيقيب قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للعراقيب من النار. (٤)
(١) الأثر: ١١٥١٦- انظر التعليق على الأثر السالف.
(٢) الأثران: ١١٥١٧، ١١٥١٨-"أبو سفيان" هو: "طلحة بن نافع القرشي"، ثقة، مضى برقم: ٦٦٥٤.
وهذا الخبر رواه أحمد في المسند ٣: ٣١٦ من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، بنحوه.
(٣) الأثران: ١١٥١٧، ١١٥١٨-"أبو سفيان" هو: "طلحة بن نافع القرشي"، ثقة، مضى برقم: ٦٦٥٤.
وهذا الخبر رواه أحمد في المسند ٣: ٣١٦ من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، بنحوه.
(٤) الأثر: ١١٥١٩-"أبو سفيان الغنوي"، "يزيد بن عمرو"، شيخ الطبري، لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من الكتب.
و"معيقيب"، هو: "معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي"، ويقال: "معيقب"، أسلم قديما بمكة، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا. روي عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده ٣: ٤٢٦، ثم ٥: ٤٢٥، من طريق خلف بن الوليد بإسناده ولفظه. وقال ابن كثير في تفسيره ٣: ٩٢: "تفرد به أحمد".
71
١١٥٢٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو قال، رأى رسول الله ﷺ قوما يتوضأون، فرأى أعقابهم تلوح، فقال:"ويلٌ للأعقاب من النار! أسبغوا الوضوء. (١)
١١٥٢١- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى الأعرج، عن عبد الله بن عمرو قال: أبصر رسول الله ﷺ قومًا يتوضأون لم يتمُّوا الوضوء، فقال: أسبغوا الوضوء، ويلٌ للعراقيب =أو: الأعقاب= من النار! (٢)
١١٥٢٢ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن رجل من أهل مكة، عن عبد الله بن عمرو: أن النبي ﷺ رأى قوما يتوضأون، فلم يتمُّوا الوضوء، فقال: ويلٌ للأعقاب من النار. (٣).
(١) الأثر: ١١٥٢٠- هذا الخبر رواه أبو جعفر من طريق سفيان، عن منصور، هنا، ورقم: ١١٥٢٣، ورواه برقم: ١١٥٢١ من طريق شعبة، عن منصور، ورواه برقم ١١٥٢٤، من طريق إسرائيل، عن منصور. وسيأتي تخريجه في آخرها.
(٢) الأثر: ١١٥٢٠- هذا الخبر رواه أبو جعفر من طريق سفيان، عن منصور، هنا، ورقم: ١١٥٢٣، ورواه برقم: ١١٥٢١ من طريق شعبة، عن منصور، ورواه برقم ١١٥٢٤، من طريق إسرائيل، عن منصور. وسيأتي تخريجه في آخرها.
(٣) الأثر: ١١٥٢٢-"أبو بشر"، "جعفر بن إياس"، وهو"ابن أبي وحشية"، سلف مرارا كثيرة.
وهذا الخبر أخرجه أحمد في مسنده برقم: ٦٩١١، من هذه الطريق نفسها، بلفظه. قال أخي السيد أحمد: "الرجل من أهل مكة الذي رواه عنه أبو بشر، هو: "يوسف بن ماهك.. ، كما نص عليه الحافظ في التعجيل: ٥٥١".
و"يوسف بن ماهك بن مهران الفارسي المكي"، ثقة عدل روى له الأئمة. مترجم في التهذيب. والحديث المصرح فيه بذكر"يوسف بن ماهك"، رواه البخاري (الفتح ١: ١٣٢، ١٧٠، ٢٣٢)، ومسلم في صحيحه ٣: ١٣٠، ١٣١.
وكان في المخطوطة في هذا الخبر"عن رجل من أهل مكة، عن عبد الرحمن بن عمرو"، وهو خطأ لا شك فيه، أحسن ناشر المطبوعة الأولى في تصحيحه وأصاب.
72
١١٥٢٣ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله ﷺ رأى قوما يتوضأون وأعقابُهم تلوح، فقال: ويلٌ للأعقاب من النار! أسبغوا الوضوء. (١)
١١٥٢٤ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن منصور، عن هلال، عن أبي يحيى مولى عبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن عمرو قال: كنا مع رسول الله ﷺ بين مكة والمدينة، فسبقنا ناس فتوضأوا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى أقدامهم بيضا من أثر الوضوء، فقال، ويلٌ للعراقيب من النار! أسبغوا الوضوء" (٢)
١١٥٢٥ - حدثني علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا المحاربي، عن مطرح بن يزيد، عن عبيد الله بن زَحْر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للأعقاب من النار! قال: فما بقي في المسجد شريفٌ ولا وضيع إلا نظرتُ إليه يقلِّب عُرْقوبيه ينظر إليهما. (٣)
(١) الآثار: ١١٥٢٠- ١١٥٢٤، خلا الحديث (١١٥٢٢) - خبر منصور، عن هلال بن يساف، رواه الأئمة من طرق. رواه مسلم في صحيحه ٣: ١٢٨-١٣٠، وأحمد في مسنده من طرق رقم: ٦٥٢٨، ٦٨٠٩، ٦٨٨٣، والنسائي في سننه ١: ٧٧، ٧٨، وابن ماجه ١: ١٥٤، رقم: ٤٥٠، والطحاوي في شرح معاني الآثار ١: ٣٣، والبيهقي في السنن ١: ٦٩. وانظر تخريجه في شرح المسند رقم: ٦٥٢٨.
وقوله: "تلوح": أي تلمع، من بياضها. وأتى في الأثر: ١١٥٢٤، "فرأى أقدامهم بيضا من أثر الوضوء".
(٢) الآثار: ١١٥٢٠- ١١٥٢٤، خلا الحديث (١١٥٢٢) - خبر منصور، عن هلال بن يساف، رواه الأئمة من طرق. رواه مسلم في صحيحه ٣: ١٢٨-١٣٠، وأحمد في مسنده من طرق رقم: ٦٥٢٨، ٦٨٠٩، ٦٨٨٣، والنسائي في سننه ١: ٧٧، ٧٨، وابن ماجه ١: ١٥٤، رقم: ٤٥٠، والطحاوي في شرح معاني الآثار ١: ٣٣، والبيهقي في السنن ١: ٦٩. وانظر تخريجه في شرح المسند رقم: ٦٥٢٨.
وقوله: "تلوح": أي تلمع، من بياضها. وأتى في الأثر: ١١٥٢٤، "فرأى أقدامهم بيضا من أثر الوضوء".
(٣) الأثر: ١١٥٢٥-"مطرح بن يزيد الأسدي الكناني"، أبو المهلب. روى عن عبيد الله بن زحر. ضعيف قال أبو حاتم: "ليس بالقوي، هو ضعيف الحديث. يروي أحاديث بن زحر عن علي بن يزيد، فلا أدري من علي بن يزيد أو منه". مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/١٩، وابن أبي حاتم ٤/١/٤٠٩.
و"عبيد الله بن زحر الضمري الإفريقي"، وثقه أخي السيد أحمد فيما سلف رقم: ٧٦٦٠، وقال، "ضعفه أحمد، وابن معين، وابن المديني.. ولم يذكره البخاري ولا النسائي في الضعفاء. ونرى أن من تكلم فيه، إنما هو من أجل نسخة يرويها عن علي بن يزيد الألهاني، الحمل فيها على علي بن يزيد". وانظر التهذيب.
و"علي بن يزيد الألهاني". ضعيف بمرة. روى عن القاسم بن عبد الرحمن، صاحب أبي أمامة، نسخة كبيرة. روى عن عبيد الله بن زحر، ومطرح بن يزيد، وآخرين. ضعفه أحمد. وقال ابن معين: "علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة"، "ضعاف كلها" وقال، "أحاديث عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد، ضعيفة". وقال البخاري: "منكر الحديث ضعيف".
"القاسم"، هو"القاسم بن عبد الرحمن الشامي"، اختلف فيه، قال أخي السيد أحمد: "والراجح أنه ثقة، وأن ما أنكر عليه، إنما جاء من الرواة عنه الضعفاء. وقد بينا ذلك في شرح المسند: ٥٩٨، وما علقنا به على تهذيب السنن للمنذري: ٢٣٧٦". مضى ذلك برقم: ١٩٣٩.
فهذا حديث ضعيف لضعف رواته.
73
١١٥٢٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حسين، عن زائدة، عن ليث قال، حدثني عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة= أو: أخي أبى أمامة= أن رسول الله ﷺ أبصر أقواما يتوضأون، وفي عَقِب أحدهم =أو كعب أحدهم= مثلُ موضع الدرهم= أو: موضع الظفُر= لم يمسَّه الماء، فقال: ويلٌ للأعقاب من النار! فقال: فجعل الرجل إذا رأى في عقبه شيئا لم يصبه الماء أعادَ وضوءه. (١).
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما حدّثكم به:-
١١٥٢٧ - محمد بن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، عن أوس بن أبي أوس، قال: رأيت رسول الله ﷺ توضأ ومسح على نعليه، ثم قام فصلى. (٢)
* * *
(١) الأثر: ١١٥٢٦-"عبد الرحمن بن سابط"، واختلف في اسمه فقيل هو: "عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط" انظر ما سلف رقم: ٥٠٣، ٥٠٤، ٥٩٩، ٤٣٤١. وهو تابعي ثقة. قيل ليحيى بن معين: "سمع عبد الرحمن من سعد بن أبي وقاص؟ قال: لا. قيل: من أبي أمامة؟ قال: لا. قيل: من جابر؟ قال: لا، هو مرسل"، فهذا خبر مرسل.
(٢) الأثر: ١١٥٢٧-"يعلى بن عطاء العامري الطائفي". روي عن أبيه، وأوس بن أبي أوس، وغيرهما. وروي عنه شعبة، والثوري، وحماد بن سلمة، وشريك، وهشيم. ثقة. مترجم في التهذيب.
وأبوه"عطاء العامري الطائفي". روى عن أوس بن أبي أوس، وابن عمرو بن العاص، وابن عباس. وروى عنه ابنه يعلى. ذكره ابن حبان في الثقات.
و"أوس بن أبي أوس الثقفي"، هو"أوس بن حذيفة" الصحابي.
وانظر الاختلاف في اسم أبيه، في التهذيب، والإصابة، والكبير للبخاري ١/٢/١٦، ١٧، وابن أبي حاتم ١/١/٣٠٣.
وسيأتي هذا الخبر برقم: ١١٥٢٩ من طريق هشيم، عن يعلى بن عطاء. وسنخرجه هناك.
74
=وما حدثك به:_
١١٥٢٨ - عبد الله بن الحجاح بن المنهال قال، حدثني أبي قال، حدثنا جرير بن حازم قال، سمعت الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة قال: أتى رسول الله ﷺ سُبَاطة قوم فبال عليها قائما، ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه. (١)
* * *
=وما حدثك به:-
١١٥٢٩ - الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا يعلى بن عطاء، عن أبيه، عن أوس بن أبي أوس قال:"رأيت رسول الله ﷺ أتى سُبَاطة قوم، فتوضأ ومسح على قدميه" (٢)
* * *
(١) الأثر: ١١٥٢٨-"جرير بن حازم الأزدي العتكي"، مضى برقم: ٥٩٧، إمام حافظ، قال قراد: "قال لي شعبة: عليك بجرير بن حازم فاسمع منه. وقال ابنه وهب بن جرير: كان شعبة يأتي أبي فيسأله عن حديث الأعمش، فإذا حدثه قال: هكذا والله سمعته من الأعمش". فجرير يروى عن الأعمش، مباشرة، ثم من طريق شعبة عنه. بيد أن أبا جعفر الطبري، قال بعد في (ص: ٨٠) إن هذا الخبر لم ينقله عن الأعمش بهذا اللفظ غير جرير بن حازم، وإن أصحاب الأعمش الحفاظ الثقات، رووه عنه بغير هذا اللفظ. (انظر رقم: ١١٥٣١-١١٥٣٦). وقد نقله ابن كثير في تفسيره ٣: ٩٤، وقال، "وهو حديث صحيح" ثم قال عن هاتين الروايتين = رواية جرير بن حازم، ورواية الحفاظ من أصحاب الأعمش=: "ويحتمل الجمع بينهما بأن يكون في رجله خفان، عليهما نعلان".
(٢) الأثر: ١١٥٢٩- انظر التعليق على الأثر السالف رقم: ١١٥٢٨.
وهذا الحديث رواه أبو داود في سننه ١: ٧٨، رقم: ١٦٠، من طريق مسدد وعباد بن موسى، عن هشيم. ورواه أحمد في مسنده مختصرا ٤: ٨ عن هشيم. ولفظ أبي داود: "أن رسول الله ﷺ توضأ ومسح على نعليه وقدميه = وقال عباد: رأيت رسول الله ﷺ أتى كظامة قوم - يعني الميضأة، ولم يذكر مسدد: الميضأة، والكظامة - ثم اتفقا: فتوضأ ومسح على نعليه وقدميه".
وأما رواية أحمد في المسند: "رأيت رسول الله ﷺ أتى كظامة قوم فتوضأ".
وأما ما جاء في الخبر هنا"سباطة قوم"، فإنه خالف رواية أبي داود عن هشيم أنه قال"كظامة"، ومن العجيب أن ابن كثير نقل الخبر عن هذا الموضع من سنن أبي داود فكتب أيضا"سباطة قوم"، مع أن"الكظامة" (بكسر الكاف) جاءت مفسرة في حديث أبي داود أنها الميضأة. وأما "السباطة" (بضم السين)، فهي الكناسة، أو الموضع الذي يرمي فيه التراب والأوساخ وما يكنس من المنازل.
وأما "الكظامة"، فإن أبا داود فسرها بأنها الميضأة، وهو تفسير بالمعنى، وإلا فإنها قناة في باطن الأرض يجري الماء فيها.
وعجب آخر، أن ابن كثير كتب: "أتى سباطة قوم فبال"، فزاد"فبال"، وهي ليست في حديث هشيم هذا، في سنن أبي داود. ولا في المسند، فلا أدري من أين جاء بها؟ وأخشى أن تكون عجلة منه أو من ناسخ تفسيره، اشتبه عليه حديث"أبي وائل" عن حذيفة الآتي في رقم: ١١٥٣١ وما بعدها، فعجل فكتبه كذلك.
75
=وما أشبه ذلك من الأخبار الدالة على أن المسح ببعض الرجلين في الوضوء مجزئ؟ قيل له: أما حديث أوس بن أبى أوس فإنه لا دلالة فيه على صحة ذلك، إذ لم يكن في الخبر الذي روي عنه ذكر أنه رأى النبي ﷺ توضأ بعد حدَثٍ يوجب عليه الوضوء لصلاته، فمسح على نعليه، أو على قدميه. وجائز أن يكون مسحه على قدميه الذي ذكره أوس كان في وضوء توضأه من غير حدث كان منه وجب عليه من أجله تجديد وضوئه، لأن الرواية عنه ﷺ أنه كان إذا توضأ لغير حدث، كذلك يفعل، يدل على ذلك ما:-
١١٥٣٠ - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو مالك الجنبي، عن مسلم، عن حبة العرني قال: رأيت عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه شرب في الرحبة قائما، ثم توضأ ومسح على نعليه وقال: هذا وضوء من لم يحدث، هكذا رأيت رسول الله ﷺ صنع. (١)
* * *
(١) الأثر: ١١٥٣٠-"محمد بن عبيد بن محمد بن واقد المحاربي" شيخ الطبري، مضت روايته عنه كثيرا منها: ١٩٥٢، ٣١٦٧، ٣٣٦٦، ٤٢٩٤، ٨٧٥٦، ٩١٨٠. روى عنه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وآخرون. قال النسائي: "لا بأس به"، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
و"أبو مالك الجنبي": هو: "عمرو بن هاشم الحنبي الكوفي". قال أحمد: "صدوق، ولم يكن صاحب حديث". وقال البخاري: "فيه نظر"، وقال أبو حاتم: "لين الحديث، يكتب حديثه". قال ابن سعد: "كان صدوقا، ولكنه كان يخطئ كثيرا"، وضعفه مسلم، وقال ابن حبان: "لا يجوز الاحتجاج بخبره". مترجم في التهذيب.
و"مسلم" و"مسلم الأعور" وهو: "مسلم بن كيسان الضبي الملائي" الأعور. مضى برقم: ٩٦٧٣. روى عن أنس بن مالك، ومجاهد وسعيد بن جبير، وحبة العرني، وغيرهم. قال البخاري: "يتكلمون فيه"، وقال أيضا: "ضعيف" ذاهب الحديث، لا أروى عنه". وقال عمرو بن علي: "كان يحيى بن سعيد، وابن مهدي، لا يحدثان عن مسلم الأعور، وكان شعبة وسفيان يحدثان عنه، وهو منكر الحديث جدا". مترجم في التهذيب.
و"حبة العرني" هو"حبة بن جوين بن علي بن عبدنهم العرني البجلي". روى عن ابن مسعود، وعلي، وعمار. روى عنه سلمة بن كهيل، والحكم بن عتيبة، ومسلم الأعور. قال ابن معين"حبة العرني، ليس بشيء". وقال البخاري: "فيه نظر، يذكر عنه سوء مذهب"، وقال النسائي: "ليس بالقوي"، وقال ابن سعد: "يضعف"، ونقل عن أحمد أنه وثقه، وقال العجلي: "كوفي تابعي ثقة". وقال ابن حبان: "كان غاليا في التشيع، واهيا في الحديث". مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٢/١/٨٦، وابن أبي حاتم ١/٢/٢٥٣.
وهذا خبر ضعيف كما ترى، بضعف رواته.
76
=فقد أنبأ هذا الخبر عن صحة ما قلنا في معنى حديث أوس.
* * *
فإن قال: فإن حديث أوس، وإن كان محتملا من المعنى ما قلت، فإنه محتمل أيضا ما قاله من قال أنه معنيٌّ به المسح على النعلين أو القدمين في وضوء توضأه رسول الله ﷺ من حدثٍ؟
قيل: أحسن حالات الخبر ما حُمِّل ما قلتَ، (١) إن سلم له ما ادَّعى من احتماله ما ذكر من المسح على القدم أو النعل بعد الحدث، وإن كان ذلك غير محتمله عندنا، إذ كان غير جائز أن تكون فرائضُ الله وسنن رسوله ﷺ متنافيًة متعارضًة، وقد صح عنه ﷺ الأمرُ بعموم غسل القدمين في الوضوء بالماء، بالنقل المستفيض القاطع عذرَ من انتهى إليه وبلَغه. وإذْ كان
(١) في المطبوعة: "ما احتمل ما قلت"، وأثبت ما في المخطوطة، فإنه لا بأس به.
77
ذلك عنه صحيحا، فغير جائز أن يكون صحيحا عنه إباحةُ ترك غسل بعض ما قد أوجبَ فرضًا غَسْلَه في حال واحدة ووقت واحد، لأن ذلك إيجاب فرض وإبطاله في حال واحدة. وذلك عن أحكام الله وأحكام رسوله ﷺ منتفٍ.
غير أنا إذا سلَّمنا لمن ادَّعى في حديث أوس ما ادعى= من احتماله مسح النبيّ ﷺ على قدمه في حال وضوء من حدَث، ثقًة منا بالفَلَج عليه، بأنه لا حجة له في ذلك= (١) قلنا: فإذا كان محتملا ما ادَّعيت، أفمحتمل هو ما قلناه إنّ ذلك كان من النبي ﷺ في حال وضوئه لا من حدث؟ (٢)
فإن قال:"لا" ثبتت مكابرته لأنه لا بيان في خبر أوس أن النبي ﷺ فعل ذلك في وضوء من حدث.
وإن قال:"بل هو محتمل ما قلتَ ومحتمل ما قلنا".
قيل له: فما البرهان على أن تأويلك الذي ادَّعيتَ فيه أولى به من تأويلنا؟ فلن يدّعي برهانا على صحة دعواه في ذلك، إلا عُورض بمثله في خلاف دعواه.
وأما حديث حذيفة فإن الثِّقات الحفَّاظ من أصحاب الأعمش حدثوا به، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة:"أن النبي ﷺ أتى سُبَاطة قوم فبال قائما، ثم توضأ ومسح على خفيه".
١١٥٣١ - حدثنا بذلك أحمد بن عبدة الضبي قال، حدثنا أبو عوانة، عن
(١) في المطبوعة: ".. في حال وضوء من حدث، ففيه نبأ بالفلج عليه، فإنه لا حجة له في ذلك"، وهو خلف من الكلام رديء لا معنى له. وكان في المخطوطة: ".. نفه منا بالفلح عليه فإنه لا حجة له في ذلك"، وصواب قراءة ذلك ما أثبته، وأخطأ ناسخ المخطوطة، فجعل"بأنه"، "فإنه" بالفاء. والصواب المحض هو ما أثبته. يقول: إذا سلمنا له ذلك ثقة منا بالفلج عليه.. قلنا: واستقام الكلام، والحمد لله وحده.
(٢) في المطبوعة: "في حال وضوئه لا من حدث"، وفي المخطوطة: "في حال وضوئه من حدث" خطأ أسقط"غير"، وصوابه ما أثبت، استظهارا من نهجه في عبارته فيما سلف، وإن كان ما في المطبوعة صواب مستعمل.
78
الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة.
١١٥٣٢- ح، حدثني المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن حذيفة.
١١٥٣٣ - ح، حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة.
١١٥٣٤ - ح، حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة.
١١٥٣٥ - ح، حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال، حدثنا عمي يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة.
١١٥٣٦ - ح، حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة. (١).
* * *
(١) الآثار: ١١٥٣١- ١١٥٣٦-"أبو أوائل" هو"شقيق بن سلمة الأسدي"، من كبار التابعين الثقات، لا يسأل عن مثله. مضى كثيرا، منها رقم: ١٧٧، ٣٩٥٦، ٤٢٢٣، ٤٥٢٦، ٧٢٧٩، ٧٢٨٢، ٩٦٧١.
وهذا الحديث رواه الأئمة من طرق عن الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن حذيفة، بمثله. رواه البخاري (الفتح ١: ٢٨٢)، ليس فيه زيادة"ومسح على خفيه"، ولكن رواها مسلم في صحيحه ٣: ١٦٥، لأنها زيادة من حافظ. وانظر تفصيل ذلك فيما قاله ابن حجر في الفتح، وما كتبه أخي السيد أحمد في شرح الترمذي ١: ١٩، ٢٠.
هذا، وقد جاء الأثر: ١١٥٣٥، في المطبوعة: "حدثنا عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد"، وفي المخطوطة: "عمر بن يحيى بن سعيد"، وكل ذلك خطأ لا شك فيه.
وإن"عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي"، مضت ترجمته برقم ٣٠٠، ٢٨١٣، وهو يروى عن عمه"يحيى بن عيسى الرملي"، كما مضى هناك، ولم يذكر أنه روى عن غير عمه هذا.
وعمه"يحيى بن عيسى الرملي". مضى برقم: ٣٠٠، ٦٣١٧، ٩٠٣٥، وأما "عمر بن يحيى بن سعيد"، كما في المخطوطة، فليس في الرواة من سمى بذلك. وأما ما غيره ناشر المطبوعة"عمرو بن يحيى بن سعيد"، فإن في الرواة"عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص"، روى عن جده"سعيد بن عمرو" وروى عنه ابن عيينة وروح بن عبادة، وهذه الطبقة، لا يدرك"عيسى بن عثمان الرملي" أن يروى عنه. وظاهر أن الناسخ كتب مكان"عمي""عمر" وزاد بعده"بن"، وأخطأ في قراءة"عيسى"، فكتب"سعيد"، فرددت الإسناد إلى صوابه.
79
=وكل هؤلاء يحدّث ذلك عن الأعمش، بالإسناد الذي ذكرنا عن حذيفة:"أن النبي ﷺ مسح على خفيه"، وهم أصحاب الأعمش. ولم ينقل هذا الحديث عن الأعمش غير جرير بن حازم. (١) ولو لم يخالفه في ذلك مخالف، لوجب التثبت فيه لشذوذه، فكيف والثِّقات من أصحاب الأعمش يخالفونه في روايته ما روى من ذلك!! ولو صح ذلك عن النبي ﷺ كان جائزا أن يكون مسح على نعليه وهما ملبوستان فوق الجوربين، وإذا جاز ذلك لم يكن لأحد صرفُ الخبر إلى أحد المعاني المحتمِلِها الخَبرُ إلا بحجة يجب التسليم لها.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في"الكعب".
فقال بعضهم بما:-
١١٥٣٧ - حدثني أحمد بن حازم الغفاري قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا القاسم بن الفضل الحدّاني، قال، قال أبو جعفر: أين"الكعبين"؟ فقال القوم: هاهنا. فقال: هذا رأس الساق! ولكن"الكعبين" هما عند المفصل (٢)
(١) انظر ما سلف في التعليق على الأثر: ١١٥٢٨.
(٢) الأثر: ١١٥٣٧-"القاسم بن الفضل بن معدان بن قريط الحداني، الأزدي"، أبو المغيرة. لم يكن حدانيا، كان نازلا فيهم، هو أزدي من بني الحارث بن مالك. روى عن أبيه وابن سيرين، ومعاوية بن قرة، وأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين. وغيرهم. ثقة ثبت. قال يحيى القطان: "كان منكرا"، يعني من فطنته. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/١/١٦٩، وابن أبي حاتم ٣/٢/١١٦.
و"أبو جعفر" هو الباقر: "محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب"، مضى برقم: ٥١٢٣، ٥٤٦٣.
وفي المطبوعة هنا: "أين الكعبان"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب محض، استفهم عن"الكعبين" في لفظ الآية.
80
١١٥٣٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا أشهب قال، قال مالك:"الكعب" الذي يجب الوضوء إليه، هو الكعب الملتصق بالساق المحاذِي العقب، وليس بالظاهر في ظاهر القدم.
* * *
وقال آخرون بما:-
١١٥٣٩ - حدثنا الربيع قال، قال الشافعي: لم أعلم مخالفًا في أن"الكعبين" اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء، هما الناتئان وهما مجمع مَفْصِل الساق والقدم (١)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن"الكعبين" هما العظمان اللذان في مفصل الساق والقدم، تسمِّيهما العرب"المِنْجَمين". (٢) وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: هما عظما الساق في طرفها (٣)
* * *
واختلف أهل العلم في وجوب غسلهما في الوضوء وفي الحدّ الذي ينبغي أن يبلغ بالغسل إليه من الرجلين نحو اختلافهم في وجوب غسل المرفقين، وفي الحد الذي ينبغي أن يبلغ بالغسل إليه من اليدين. وقد ذكرنا ذلك ودللنا على الصحيح من القول فيه بعلله فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (٤)
* * *
(١) هذا في الأم للشافعي ١: ٢٣ مع خلاف يسير في لفظه، قال الشافعي"لم أسمع مخالفا في أن الكعبين اللذين ذكر الله عز وجل في الوضوء هما الكعبان الناتئان..".
وكان في المطبوعة هنا"مجمع فصل الساق والقدم"، وهو خطأ لا شك فيه.
(٢) "المنجم" (بكسر الميم وسكون النون وفتح الجيم) و (بفتح الميم وسكون النون وكسر الجيم) مثل: "منبر" و"مجلس"، ويقال مثل: "مقعد" (بفتحتين) : وهو الكعب والعرقوب، وكل ما نتأ.
(٣) لم أعرف قائل هذا، وهو صواب محض.
(٤) انظر ما سلف قريبا ص: ٤٧، ٤٨.
81
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وإن كنتم جنبا" وإن كنتم أصابتكم جنابة قبل أن تقوموا إلى صلاتكم فقمتم إليها="فاطَّهَّروا"، يقول: فتطهّروا بالاغتسال منها قبل دخولكم في صلاتكم التي قمتم إليها. (١)
* * *
ووحَّد"الجُنب" وهو خبر عن الجميع، لأنه اسم خرج مخرج الفعل (٢) كما قيل:"رجل عَدْل وقوم عدل"، و"رجل زَوْرٌ وقوم زَوْرٌ"، وما أشبه ذلك لفظ الواحد والجميع والاثنين والذكر والأنثى فيه واحد.
يقال منه:"أجنَب الرجل" و"جَنُب" و"اجتَنَب" (٣) والفعل"الجنابة"، و"الاجناب". (٤) وقد سمع في جمعه"أجناب"، وليس ذلك بالمستفيض الفاشي في كلام العرب، بل الفصيح من كلامهم ما جاء به القرآن (٥).
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: إن كنتم جرحى أو مُجَدَّرين (٦) وأنتم
(١) انظر تفسير"التطهر" فيما سلف ٤: ٣٨٣-٣٨٧.
(٢) "الفعل" هنا، يعني به المصدر، كما سلف مرارا. انظر فهارس المصطلحات.
(٣) "اجتنب"، زيادة عما جاء في كتب اللغة، وعندهم أيضا: "تجنب" و"استجنب" في هذا المعنى.
(٤) "الفعل" هنا، يعني به المصدر، كما سلف مرارا. انظر فهارس المصطلحات.
(٥) انظر تفسير"الجنب"، فيما سلف ٨: ٣٤٠، ٣٧٩، ولم يشرح أبو جعفر هناك هذا الحرف، ثم استوفاه في هذا الموضع. وهو من اختصاره في تفسيره.
(٦) يقال، "جدر الرجل، جدرا" (بالبناء للمجهول، بضم أوله وكسر ثانيه) "فهو جدير". و"جدر" (بالبناء للمجهول مشدد الدال) "فهو مجدر"، إذا أصابه الجدري.
82
جنب =
وقد بيَّنا أن ذلك كذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته (١).
* * *
وأما قوله:"أو على سفر" فإنه يقول: وإن كنتم مسافرين وأنتم جنب (٢) ="أو جاء أحد منكم من الغائط" يقول: أو جاء أحدكم وقد قضى حاجته فيه وهو مسافر. وإنما عنى بذكر مجيئه منه قضاء حاجته فيه (٣).
= أو لامستم النساء" يقول أو جامعتم النساء وأنتم مسافرون. وقد ذكرنا اختلاف المختلفين فيما مضى قبل في"اللمس" وبينا أولى الأقوال في ذلك بالصواب فيما مضى بما أغنى عن إعادته (٤).
* * *
فإن قال قائل: وما وجه تكرير قوله:"أو لامستم النساء" إن كان معنى"اللمس" الجماع، وقد مضى ذكر الواجب عليه بقوله:"وإن كنتم جنبا فاطّهروا"؟
قيل: وجه تكرير ذلك أن المعنى الذي ألزمه تعالى ذكره من فرضه (٥) بقوله:"وإن كنتم جنبا فاطهروا" غيُر المعنى الذي ألزمه بقوله:"أو لامستم النساء" وذلك أنه بيَّن حكمه في قوله:"وإن كنتم جنبا فاطهروا" إذا كان له السبيل إلى الماء الذي يطهّره، ففرض عليه الاغتسال به (٦) ثم بيَّن حكمه إذا أعوزه الماء فلم يجد إليه السبيلَ وهو مسافر غير مريض مقيم، فأعلمه أن التيمم بالصعيد له حينئذ الطهور.
* * *
(١) انظر ما سلف ٨: ٣٨٥-٣٨٨.
(٢) انظر تفسير"على سفر" فيما سلف ٨: ٣٨٨.
(٣) انظر تفسير"الغائط" فيما سلف ٥: ٣٥٤/٨: ٣٨٨. وفي المطبوعة: "بعد قضاء حاجته"، وأثبت ما في المخطوطة، وكان فيها"فقد قضى".
(٤) انظر تفسير"الملامسة" و"اللمس" فيما سلف ٨: ٣٨٩-٤٠٦.
(٥) في المطبوعة: "أن المعنى الذي ذكره تعالى من فرضه"، وكان في المخطوطة: "أن المعنى الذي تعالى ذكره"، سقط منها"ألزمه"، استظهرتها من تمام الجملة.
(٦) في المطبوعة: "فرض" حذف الفاء، وهو خطل.
83
القول في تأويل قوله: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا" فإن لم تجدوا= أيها المؤمنون إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم مرضى مقيمون، أو على سفر أصحَّاء، أو قد جاء أحد منكم من قضاء حاجته، أو جامع أهلَه في سفره="ماء فتيمموا صعيدا طيبا، يقول: فتعمَّدوا واقصدوا وجه الأرض="طيبا"، يعني: طاهرا نظيفا غير قذر ولا نجس، جائزا لكم حلالا="فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه" يقول: فاضربوا بأيديكم الصعيد الذي تيممتموه وتعمدتموه بأيديكم، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم مما عَلِق بأيديكم="منه"، يعني: من الصعيد الذي ضربتموه بأيديكم من تُرابه وغباره.
وقد بينا فيما مضى كيفية"المسح بالوجوه والأيدي منه"= واختلاف المختلفين في ذلك= والقول في معنى"الصعيد" و"التيمم"، ودللنا على الصحيح من القول في كل ذلك بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع (١).
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج" ما يريد الله= بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى صلاتكم، والغُسل
(١) انظر تفسير"المسح بالوجوه والأيدي" فيما سلف ٨: ٤١٠-٤٢٥ = وتفسير التيمم" فيما سلف ٨: ٤٠٧، تعليق: ٢، والمراجع هناك = وتفسير"الصعيد" فيما سلف ٨: ٤٠٨، ٤٠٩ = وتفسير"الطيب" فيما سلف ٨: ٤٠٩، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
84
من جنابتكم والتيمم صعيدا طيبا عند عدمكم الماء="ليجعل عليكم من حرج= ليلزمكم في دينكم من ضيق، ولا ليعنتكم فيه.
* * *
وبما قلنا في معنى"الحرج" قال أهل التأويل (١).
ذكر من قال ذلك:
١١٥٤٠ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن خالد بن دينار، عن أبي العالية= وعن أبي مكين، عن عكرمة في قوله:"من حرج" قالا من ضيق.
١١٥٤١ - حدثنا محمد بن عمرو، قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"من حرج" من ضيق.
١١٥٤٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولكن يريد ليطهركم" ولكن الله يريد أن يطهِّركم بما فرض عليكم من الوضوء من الأحداث والغسلِ من الجنابة، والتيمم عند عدم الماء، فتنظفوا وتطهّروا بذلك أجسامكم من الذنوب (٢). كما:-
١١٥٤٣ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد قال، حدثنا قتادة عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة: أنّ رسول الله ﷺ قال: إن الوضوء يكفّر ما قبله، ثم تصير الصلاة نافلة. قال قلت: أنت سمعت
(١) انظر تفسير"الحرج" فيما سلف ٨: ٥١٨، وما سلف من فهارس اللغة.
(٢) انظر تفسير"التطهر" فيما سلف قريبا ص: ٨٢، تعليق: ١.
85
ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، غيرَ مرة، ولا مرتين، ولا ثلاث، ولا أربع، ولا خمس (١).
١١٥٤٤ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة صديّ بن عجلان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحوه (٢).
١١٥٤٥ - حدثنا أبو كريب، ومحمد بن المثني ويحيى بن داود الواسطي، قالوا، حدثنا إبراهيم بن يزيد مردانبه القرشي قال، أخبرنا رقبة بن مصقلة العبدي، عن شمر بن عطية، عن شهر بن حوشب، عن أبي إمامة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة، خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه" (٣)
(١) الأثر: ١١٥٤٣-"سعيد"، هو: سعيد بن أبي عروبة.
و"شهر بن حوشب"، تابعي ثقة، مضى توثيقه برقم: ١٤٨٩، ٥٢٤٤، ٦٦٥٠-٦٦٥٢. فهو حديث صحيح الإسناد، وسيأتي بإسنادين آخرين بعد.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده ٥: ٢٥١، من طريق محمد بن بشر، عن سعيد = وفي ص ٢٦١، من طريق محمد بن جعفر، عن سعيد. بمثله.
هذا، وقد كان في المخطوطة والمطبوعة: "لا مرة ولا مرتين.."، وهذا غير جائز، إلا أن يقول: "لا ثلاثا، ولا أربعا، ولا خمسا" بالنصب. فمن أجل ذلك، ومن أجل رواية أحمد في الموضعين، ورواية الطيالسي في مسنده: ١٥٤، جعلت"غير" مكان"لا". كما في روايتهم.
(٢) الأثر: ١١٥٤٤-"معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي"، مضى مرارا وأبوه"هشام الدستوائي"، مضى مرارا.
وهذا إسناد آخر للخبر السالف، من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة. رواه أبو داود الطيالسي في مسنده من هذه الطريق نفسها ص: ١٥٤، رقم: ١١٢٩.
وخبر أبي أمامة هذا، رواه أحمد من طرق أخرى. فرواه من طريق أبي خريم، عقبة بن أبي الصهباء، عن أبي غالب الراسبي، عن أبي أمامة (٥: ٢٥٤) = ومن طريق سليم بن حيان، عن أبي غالب، عن أبي أمامة (٥: ٢٥٥) = ومن طريق حماد بن سلمة، عن أبي غالب، عن أبي أمامة (٥: ٢٥٦)، بغير هذا اللفظ. ومن هذه الطريق رواه أبو داود الطيالسي في مسنده ص: ١٥٥ رقم: ١١٣٥، بمثله.
(٣) الأثر: ١١٥٤٥-"يحيى بن داود بن ميمون الواسطي"، شيخ الطبري. ذكره ابن حبان في الثقات وقال: "مستقيم الحديث"، مات سنة ٢٤٤. مضت رواية الطبري عنه برقم: ٤٤٥١. مترجم في التهذيب.
"إبراهيم بن يزيد بن مردانبه القرشي المخزومي"، مولى عمرو بن حريث. قال أبو حاتم: "شيخ، يكتب حديثه ولا يحتج به". مترجم في التهذيب، والخلاصة، والكبير ١/١/٣٣٦.
وكان في المطبوعة: "إبراهيم بن يزيد يزرانبه" (بالياء في أوله)، كما في الخلاصة، وبحذف (بن). وضبطه في الخلاصة: "بفتح التحتانية، والمهملة، بينهما زاي ساكنة، ثم نون بعد الألف، وموحدة".
أما في المخطوطة ففيها: "يزيد بن مردانيه" بإثبات"بن" وبياء منقوطة، والصواب بالباء. وهكذا جاء في التهذيب، وفي تاريخ البخاري، وذكره البخاري أيضا بالذال"مرذانبه"، وضبطه في التقريب"بنون، ثم موحدة". فأثبت ما اتفقت عليه المخطوطة، وتاريخ البخاري، وضبط التقريب.
و"رقبة بن مصقلة بن عبد الله العبدي"، قال أحمد: "شيخ ثقة من الثقات، مأمون" وكان مفوها، يعد من رجالات العرب، وكانت فيه دعابة. مترجم في التهذيب.
و"شمر بن عطية بن بهدلة، وغيرهم. قال ابن سعد: "ثقة، وله أحاديث صالحة".
وهذا الخبر رواه أحمد من طريق وكيع، عن الأعمش، عن شمر، عن شهر، في مسنده ٥: ٢٥٢، ٢٥٦، وخرجه في مجمع الزوائد، وقال: "رواه أحمد والطبراني في الكبير بنحوه، وإسناده حسن". وفيه في رواية الخبر زيادة في آخره: "فإن قعد قعد مغفورا له".
ثم رواه أحمد في المسند من طرق أخرى، من طريق أبي النضر، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة (٥: ٢٦٣)، مطولا، وخرجه صاحب مجمع الزوائد (١: ٢٢٢)، وقال: "رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط. وفي إسناد أحمد: عبد الحميد بن بهرام، عن شهر. واختلف في الاحتجاج بهما، والصحيح أنهما ثقتان، ولا يقدح الكلام فيهما".
ثم رواه أحمد أيضا في المسند (٥: ٢٦٤) من طريقين، عن زائدة، عن عاصم بن أبي النجود، عن شهر بن حوشب.
86
١١٥٤٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن منصور عن سالم بن أبي الجعد، عن كعب بن مرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما من رجل يتوضأ فيغسل يديه= أو: ذراعيه= إلا خرجت خطاياه منهما، فإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه، فإذا مسح رأسه خرجت خطاياه من رأسه، وإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه. (١)
(١) الأثر: ١١٥٤٦-"كعب بن مرة البهزي السلمي "أو" مرة بن كعب"، اختلف في ذلك، وهكذا ذكره أحمد في إسناد هذا الخبر. وانظر ما قاله ابن حجر في الترجمتين من الإصابة.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده ٤: ٢٣٤ مطولا من طريق: "محمد بن جعفر، عن شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد = قال شعبة، قال، قد حدثني به منصور، وذكر ثلاثة بينه وبين مرة بن كعب= ثم قال بعد: عن منصور، عن سالم، عن مرة، أو عن كعب".
ثم عاد أحمد فرواه أيضا (٤: ٣٢١) من طريق: "سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن رجل، عن كعب بن مرة البهزي".
و"سالم بن أبي الجعد الأشجعي"، مات سنة ٩٧، ٩٨، وسمع جابرا وأنسا، وعبد الله بن عمرو، وهو تابعي ثقة. قال ابن حجر في التهذيب: روى عن كعب بن مرة، وقيل: "لم يسمع منه".
ومع انقطاعه، قال ابن كثير في تفسيره (٣: ٩٧) بعد أن ذكر حديث أحمد: "وهذا إسناد صحيح". وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (١: ٢٢٤، ٢٢٥) ثم قال، "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح".
هذا، وقد كان سياق الخبر هكذا في المطبوعة: "ما من رجل يتوضأ فيغسل وجهه إلا خرجت خطاياه من وجهه، وإذا غسل يديه أو ذراعيه، خرجت خطاياه من ذراعيه.."، وهذا تغيير من الناشر الأول، لأن الخبر جاء في المخطوطة هكذا: "ما من رجل يتوضأ فيغسل يديه أو ذراعيه إلا خرجت خطاياه من وجهه، فإذا مسح رأسه.."، سقط من كلامه ما أثبته من رواية ابن كثير في تفسيره ٣: ٩٧، عن هذا الموضع من تفسير ابن جرير.
87
١١٥٤٧ - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا حاتم، عن محمد بن عجلان، عن أبى عبيد مولى سليمان بن عبد الملك، عن عمرو بن عبسة: أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا غسل المؤمن كفّيه انتثرت الخطايا من كفَّيه، وإذا تمضمض واستنشق خرجت خطاياه من فيه ومنخريه، وإذا غسل وجهه خرجت من وجهه حتى تخرج من أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت من يديه، فإذا مسح رأسه وأذنيه خرجت من رأسه وأذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت حتى تخرج من أظفار قدميه، فإذا انتهى إلى ذلك من وضوئه كان ذلك حظّه منه، فإذ قام فصلى ركعتين مقبلا فيهما بوجهه وقلبه على ربه، كان من خطاياه كيوم ولدته أمّه" (١)
(١) الأثر: ١١٥٤٧-"عثمان بن سعيد بن مرة القرشي"، روى عنه أبو كريب، مترجم في التهذيب.
وهناك أيضا"عثمان بن سعيد الزيات الأحول"، يروى عنه أبو كريب، مضى برقم: ١٣٧، فلا أدري أيهما هو.
و"حاتم"، هو: "حاتم بن إسمعيل المدني"، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: ٢٠٠٣.
و"محمد بن عجلان المدني"، أحد العلماء العاملين الثقات، مضى برقم: ٣٠٤، ٤١٧٠، ٥٥٨٩.
و"أبو عبيد المذحجي" مولى سليمان بن عبد الملك، مختلف في اسمه. ثقة من أتباع التابعين، روى عن عمر بن عبد العزيز، ورجاء بن حيوة. مترجم في التهذيب. وكان في المخطوطة هنا"عن أبي عبيدة"، والصواب ما في المطبوعة.
و"عمرو بن عبسة السلمي"، أسلم قديما بمكة، وكان أخا لأبي ذر لأمه. وكان في الجاهلية يعتزل عبادة الأصنام، فلما أسلم يومئذ كان ربع الإسلام، كان المسلمون يومئذ: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وبلال، كما قال في حديثه. وكان في المخطوطة: "ابن عنبسة"، وهو خطأ صرف.
وهذا الخبر الذي رواه أبو جعفر منقطع، لم يسمع أبو عبيد من عمرو بن عبسة، وقد روى من طرق صحاح. رواه مسلم في صحيحه ٦: ١١٤-١١٦، ورواه أحمد في مسنده ٤: ١١٢، ١١٣، ٢٨٥-٣٨٨، ورواه ابن سعد في الطبقات ٤/١/١٥٨، ١٥٩، مطولا، وهو حديث إسلام عمرو بن عبسة بطوله، بغير هذا اللفظ.
88
١١٥٤٨ - حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني مالك بن أنس، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال، إذا توضأ العبد المسلم =أو المؤمن= فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطرة من الماء، أو نحو هذا. وإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشت بها يداه مع الماء، أو مع آخر قطرة من الماء، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب" (١).
١١٥٤٩ - حدثنا عمران بن بكار الكلاعي، قال، حدثنا علي بن عياش، قال، حدثنا أبو غسان، قال، حدثنا زيد بن أسلم، عن حمران مولى عثمان قال،
(١) الأثر: ١١٥٤٨- رواه مالك في الموطأ ص ٣٢، رقم: ٣١، ومسلم في صحيحه ٣: ١٣٢، ١٣٣، وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ١: ٢٢٦ مطولا بلفظ آخر وقال، "رواه الطبراني في الأوسط، وهو في الصحيح باختصار، ورجاله موثقون". وانظر ابن كثير ٣: ٩٧.
وخبر أبي جعفر هنا مختصر، والزيادة في الموطأ ومسلم: "فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء".
وفي المخطوطة والمطبوعة: "مع آخرة قطرة من الماء" في الموضعين، وهو في مسلم والموطأ: "مع آخر قطر الماء".
89
أتيت عثمان بن عفان بوضوء وهو قاعد، فتوضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: رأيت رسول الله ﷺ يتوضأ كوضوئي هذا. ثم قال: من توضأ وضوئي هذا كان من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وكانت خُطاه إلى المساجد نافلة. (١)
* * *
وقوله:"وليتم نعمته عليكم" فإنه يقول: ويريد ربكم =مع تطهيركم من ذنوبكم بطاعتكم إياه فيما فرض عليكم من الوضوء والغسل إذا قمتم إلى الصلاة بالماء إن وجدتموه، وتيممكم إذا لم تجدوه= أن يتم نعمته عليكم بإباحته لكم التيمم، وتصييره لكم الصعيد الطيب طهورا، رخصة منه لكم في ذلك مع سائر نِعَمه التي أنعم بها عليكم (٢) أيها المؤمنون ="لعلكم تشكرون" يقول: لكي تشكروا الله على نعمه التي أنعمها عليكم بطاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم (٣).
* * *
(١) الأثر: ١١٥٤٩-"علي بن عياش بن مسلم الألهاني الحمصي"، ثقة حجة متقن، من شيوخ أحمد، روى له الأربعة، مترجم في التهذيب.
و"أبو غسان" هو: "محمد بن مطرف الليثي المدني"، أحد الأعلام الأثبات، مضى برقم: ٢٩٩٠.
وهذا الخبر من طريق زيد بن أسلم، عن حمران، عن عثمان، رواه مسلم في صحيحه بنحو من لفظه ٣: ١١٣.
وقد روي من طرق أخرى كثيرة، عن حمران بن أبان مولى عثمان، عن عثمان مختصرا ومطولا، انظر مسلم في صحيحه ٣: ١٠٥-١١٧، ١٣٣، وسنن أبي داود ١: ٦٠، رقم: ١٠٦، وأحمد في المسند بالأرقام: ٤٠٦، ٤١٥، ٤١٨، ٤١٩، ٤٢١، ٤٢٨، ٤٣٠، ٤٥٩، ٤٧٦، ٤٧٨، ٤٨٤، ٤٨٦، ٤٨٧، ٤٨٩، ٤٩٣، ٥٠٣.
(٢) انظر تفسير"إتمام النعمة" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (تمم) (نعم).
(٣) في المطبوعة: "يقول: تشكرون الله على نعمه.."، وفي المخطوطة: "تشكروا الله.."، والصواب ما أثبت. وانظر ما سلف في مواضع كثيرة، في تفسير"لعل" بمعنى"لكي"، منها ١: ٣٦٤، ٣٦٥/٢: ٦٩، ٢، ٨٥.
90
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: (١) واذكروا نعمة الله عليكم أيها المؤمنون، بالعقود التي عقدتموها لله على أنفسكم، واذكروا نعمته عليكم في ذلك بأن هداكم من العقود لما فيه الرضا، ووفقكم لما فيه نجاتكم من الضلالة والرَّدَى في نِعم غيرها جَمّة. كما:-
١١٥٥٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"واذكروا نعمة الله عليكم" قال، النعم: آلاءُ الله.
١١٥٥١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وأما قوله:"وميثاقه الذي واثقكم به" فإنه يعني: واذكروا أيضا أيها المؤمنون، في نعم الله التي أنعم عليكم="ميثاقه الذي واثقكم به، وهو عهده الذي عاهدكم به. (٢)
* * *
واختلف أهل التأويل في"الميثاق" الذي ذكر الله في هذه الآية، أيَّ مواثيقه عَنى؟
فقال بعضهم: عنى به ميثاقَ الله الذي واثقَ به المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين بايعوا رسولَ الله ﷺ على السمع والطاعة
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني جل ثناؤه بقوله"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(٢) انظر تفسير"الميثاق" فيما سلف ٩: ٣٦٣، تعليق: ١، والمراجع هناك.
91
له فيما أحبّو وكرهوا، والعمل بكل ما أمرهم الله به ورسوله.
ذكر من قال ذلك:
١١٥٥٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله:"واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا" الآية، يعني: حيث بعث الله النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه الكتاب، (١) فقالوا:"آمنا بالنبي ﷺ وبالكتاب، (٢) وأقررنا بما في التوراة"، فذكّرهم الله ميثاقَه الذي أقروا به على أنفسهم، وأمرهم بالوفاء به.
١١٥٥٣ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا"، فإنه أخذ ميثاقنا فقلنا: سمعنا وأطعنا على الإيمان والإقرار به وبرسوله.
* * *
وقال آخرون: بل عنى به جلّ ثناؤه: ميثاقه الذي أخذ على عباده حين أخرجهم من صُلب آدم صلى الله عليه وسلم، وأشهدهم على أنفسهم: ألستُ بربكم؟ فقالوا: بلى شهدنا.
ذكر من قال ذلك:
١١٥٥٤ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
(١) "حيث" هنا، استعملت في موضع"حين". وقد قال الأصمعي: "ومما تخطئ فيه العامة والخاصة، باب"حين" و"حيث"، غلط فيه العلماء، مثل أبي عبيدة وسيبويه". وقال أبو حاتم: "رأيت في كتاب سيبويه أشياء كثيرة، يجعل حين: حيث"، وكذلك في كتاب أبي عبيدة بخطه. قال أبو حاتم: واعلم أن"حين" و"حيث" ظرفان، فحين ظرف للزمان، وحيث ظرف للمكان، ولكل واحد منهما حد لا يجاوزه، والأكثر من الناس جعلوهما معا: حيث".
ثم انظر مقالة الأخفش أن"حيث" ظرف للزمان، في الخزانة ٣: ١٦٢. والأمر يحتاج إلى زيادة بحث. ليس هذا موضعه.
(٢) في المطبوعة: "بالنبي والكتاب" وأثبت ما في المخطوطة.
92
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وميثاقه الذي واثقكم به" قال: الذي واثق به بني آدم في ظهر آدم.
١١٥٥٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
* * *
ثال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك: قولُ ابن عباس، وهو أن معناه:"واذكروا" أيها المؤمنون="نعمة الله عليكم" التي أنعمها عليكم بهدايته إياكم للإسلام="وميثاقه الذي واثقكم به"، يعني: وعهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا ﷺ على السمع والطاعة له في المنشَط والمكرَه، والعُسر واليُسر="إذ قلتم سمعنا" ما قلت لنا، وأخذت علينا من المواثيق وأطعناك فيما أمرتنا به ونهيتنا عنه، وأنعم عليكم أيضا بتوفيقكم لقبول ذلك منه بقولكم له:"سمعنا وأطعنا"، يقول: ففُوا لله، أيها المؤمنون بميثاقه الذي واثقكم به، ونعمته التي أنعم عليكم في ذلك بإقراركم على أنفسكم بالسمع له والطاعة فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، يَفِ لكم بما ضمن لكم الوفاءَ به إذا أنتم وفيتم له بميثاقه، من إتمام نعمته عليكم، وبإدخالكم جنته وإنعامكم بالخلود في دار كرامته، وإنقاذكم من عقابه وأليم عذابه.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من قول من قال:"عنى به الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم صلوات الله عليه"، لأن الله جل ثناؤه ذكرَ بعقب تذكرة المؤمنين ميثاقَه الذي واثقهم به، ميثاقَه الذي واثق به أهل التوراة= بعد ما أنزل كتابه على نبيه موسى ﷺ فيما أمرهم به ونهاهم= فيها، (١) فقال: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا)، الآيات بعدها [سور المائدة: ١٢] = مُنبِّهًا بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
(١) قوله: "فيها"، أي في التوراة، والسياق: "ميثاقه الذي واثق به أهل التوراة.. فيها".
93
محمد على مواضع حظوظهم من الوفاء لله بما عاهدهم عليه= ومعرِّفَهم سوء عاقبة أهل الكتاب في تضييعهم ما ضيعوا من ميثاقه الذي واثقهم به في أمره ونهيه، وتعزير أنبيائه ورسله= زاجرًا لهم عن نكث عهودهم، فيُحلّ بهم ما أحلَّ بالناكثين عهوده من أهل الكتاب قبلهم.
فكان= إذْ كان الذي ذكرهم فوعظهم به ونهاهم عن أن يركبوا من الفعل مثلَه، ميثاقَ قوم أخذ ميثاقهم بعد إرسال الرسول إليهم وإنزال الكتاب عليهم (١) واجبًا أن يكون الحال التي أخذ فيها الميثاق والموعوظين نظيرَ حال الذين وعظوا بهم. وإذا كان ذلك كذلك، كان بيِّنًا صحة ما قلنا في ذلك وفسادُ خلافه.
* * *
وأما قوله:"واتقوا الله إنّ الله عليم بذات الصدور"، فإنه وعيد من الله جل اسمه للمؤمنين كانوا برسوله ﷺ من أصحابه (٢) وتهدُّدًا لهم أن ينقضوا ميثاق الله الذي واثقهم به في رسوله (٣) وعهدهم الذي عاهدوه فيه= بأن يضمروا له خِلاف ما أبدوا له بألسنتهم. (٤).
يقول لهم جل ثناؤه: واتقوا الله، أيها المؤمنون، فخافوه أن تبدِّلوا عهده وتنقضوا ميثاقه الذي واثقكم به، أو تخالفوا ما ضمنتم له بقولكم:"سمعنا وأطعنا"، بأن تضمروا له غير الوفاء بذلك في أنفسكم، فإن الله مطلع على ضمائر صدوركم (٥) وعالم بما تخفيه نفوسكم لا يخفى عليه شيء من ذلك، فيُحّل بكم من عقوبته ما لا قبل لكم به، كالذي حلَّ بمن قبلكم من اليهود من المسخ وصنوف النّقم، وتصيروا في معادِكم إلى سخط الله وأليم عقابه.
* * *
(١) سياق هذه العبارة: "فكان.. واجبا أن يكون الحال.."، وأما الجملة التي بينهما فهي معترضة، فمن أجل ذلك وضعتها بين خطين.
(٢) في المطبوعة: ".. للمؤمنين الذين أطافوا برسوله"، غير ما في المخطوطة، وهو صواب محض وعربي عريق، وضع مكان"كانوا": "الذي أطافوا".
(٣) في المطبوعة: "وتهديدا لهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.
(٤) قوله: "بأن يضمروا.." متعلق"أن ينقضوا ميثاق الله.."، بأن يضمروا.
(٥) انظر تفسير"ذات الصدور" فيما سلف ٧: ١٥٥، ٣٢٥.
94
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيامُ لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، (١) ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعدواتهم لكم، ولا تقصِّروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم لكم، (٢) ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدِّي، واعملوا فيه بأمري.
* * *
وأما قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا" فإنه يقول: ولا يحملنكم عداوةُ قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة.
* * *
وقد ذَكرنا الرواية عن أهل التأويل في معنى قوله: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) [سورة النساء: ١٣٥] وفي قوله: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) [سورة المائدة: ٢] واختلاف المختلفين في قراءة ذلك، والذي هو أولى بالصواب من القول فيه والقراءة= بالأدلة الدالة على صحته، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٣)
* * *
وقد قيل: إن هذه الآية نزلت على رسول الله ﷺ حين همت اليهود بقتله.
ذكر من قال ذلك:
(١) في المطبوعة: "لولايتهم"، وأسقط"لكم"، وأثبتها من المخطوطة.
(٢) انظر تفسير"القسط" فيما سلف ٩: ٣٠١، تعليق: ٥، والمراجع هناك.
(٣) انظر ما سلف ٩: ٣٠١، الآية الأولى = ثم الثانية ٩: ٤٨٣- ٤٨٧.
95
١١٥٥٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير:"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى"، نزلت في يهود خيبر، أرادوا قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم= وقال ابن جريج، قال عبد الله بن كثير: ذهب رسول الله ﷺ إلى يهود يستعينهم في دية، فهمُّوا أن يقتلوه، فذلك قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا"... الآية.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: اعدلوا" أيها المؤمنون، على كل أحد من الناس وليًّا لكم كان أو عدوًّا، فاحملوهم على ما أمرتكم أن تحملوهم عليه من أحكامي، ولا تجوروا بأحد منهم عنه.
* * *
وأما قوله:"هو أقرب للتقوى" فإنه يعني بقوله:"هو" العدلُ عليهم أقرب لكم أيها المؤمنون إلى التقوى، يعني: إلى أن تكونوا عند الله باستعمالكم إياه من أهل التقوى، وهم أهل الخوف والحذر من الله أن يخالفوه في شيء من أمره، أو يأتوا شيئا من معاصيه. (١)
* * *
وإنما وصف جل ثناؤه"العَدْل" بما وصفه به من أنه"أقرب للتقوى" من الجور، لأن من كان عادلا كان لله بعدله مطيعًا، ومن كان لله مطيعا، كان لا شك
(١) انظر تفسير"العدل"، و"التقوى"، فيما سلف من فهارس اللغة.
96
من أهل التقوى، ومن كان جائرا كان لله عاصيا، ومن كان لله عاصيا، كان بعيدًا من تقواه.
* * *
وإنما كنى بقوله:"هو أقرب" عن الفعل (١) والعرب تكني عن الأفعال إذا كَنَتْ عنها بـ "هو" وبـ "ذلك"، كما قال جل ثناؤه: (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (٢) [سورة البقرة: ٢٧١] و (ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ) [سورة البقرة: ٢٣٢]. (٣) ولو لم يكن في الكلام"هو" لكان"أقرب" نصبا، ولقيل:"اعدلوا أقربَ للتقوى"، كما قيل: (انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ) [سورة النساء: ١٧١]. (٤)
* * *
وأما قوله:"واتقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون"، فإنه يعني: واحذروا أيها المؤمنون، أن تجوروا في عباده فتجاوزوا فيهم حكمه وقضاءَه الذين بيّن لكم، فيحلّ بكم عقوبته، وتستوجبوا منه أليم نكاله="إن الله خبير بما تعملون"، يقول: إن الله ذو خبرة وعلم بما تعملون أيها المؤمنون فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، من عمل به أو خلافٍ له، مُحْصٍ ذلكم عليكم كلّه، حتى يجازيكم به جزاءَكم، المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيءَ بإساءته، فاتقوا أن تسيئوا. (٥)
* * *
(١) "الفعل"، يعني مصدر الفعل، كما سلف قريبا ص: ٨٢، تعليق: ٢، وانظر فهرس المصطلحات.
(٢) كان في المطبوعة: "هو خير لكم"، وفي المخطوطة بإسقاط"هو"، وهذا الذي أثبته هو نص آية البقرة: ٢٧١، وراجع ذلك في ٥: ٥٨٢ مما سلف. وانظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٠٣.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "ذلك أذكى"، وأثبت نص آية البقرة. وانظر ما سلف ٥: ٢٩.
(٤) انظر ما سلف ٩: ٤١٣-٤١٥.
(٥) انظر تفسير"خبير" فيما سلف من فهارس اللغة.
97
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات"، وعد الله أيها الناس الذين صدّقوا الله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به من عند ربهم، وعملوا بما واثقهم الله به، وأوفوا بالعقود التي عاقدَهم عليها بقولهم:"لنسمعن ولنطيعنَّ الله ورسوله" فسمعوا أمر الله ونهيه وأطاعوه، فعملوا بما أمرهم الله به، وانتهوا عما نهاهم عنه. (١)
ويعني بقوله:"لهم مغفرة" لهؤلاء الذين وفوا بالعقود والميثاق الذي واثقهم به ربهم="مغفرة" وهي ستر ذنوبهم السالفة منهم عليهم وتغطيتها بعفوه لهم عنها، وتركه عقوبتهم عليها وفضيحتهم بها (٢) ="وأجر عظيم" يقول: ولهم مع عفوه لهم عن ذنوبهم السالفة منهم، جزاءً على أعمالهم التي عملوها ووفائهم بالعقود التي عاقدوا ربهم عليها="أجر عظيم"، و"العظيم" من خيره غير محدود مبلغه، ولا يعرف منتهاه غيره تعالى ذكره. (٣)
* * *
فإن قال قائل: إن الله جل ثناؤه أخبر في هذه الآية أنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولم يخبر بما وعدهم، فأين الخبر عن الموعود؟
قيل: بلى (٤) إنه قد أخبَر عن الموعود، والموعود هو قوله:"لهم مغفرة وأجر عظيم".
(١) انظر تفسير"الصالحات" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٢) انظر تفسير"المغفرة" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٣) انظر تفسير"الأجر" و"عظيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٤) "بلى" تكون جوابا للكلام الذي فيه الجحد كقوله: "ألست بربكم قالوا بلى". هكذا قالوا، وقال ابن هشام في المغنى في باب"بلى": "ولكن وقع في كتب الحديث أنها يجاب بها الاستفهام المجرد، ففي صحيح البخاري في كتاب الإيمان: أنه عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه: أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا: بلى = وفي صحيح مسلم في كتاب الهبة: أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال، بلى! قال، فلا إذن = وفيه أيضا أنه قال، أنت الذي لقيتني بمكة؟ فقال له: بلى".
فمن أجل ذلك استعمله الطبري في جواب الاستفهام الذي لا جحد فيه، فكأنه عد سؤال السائل جحدا لذكره في الآية، فقال في جوابه"بلى"، بمعنى: ليس ذلك كما تزعم، وانظر ما سلف ٢: ٢٨٠، ٥١٠، وما سيأتي في الأثر رقم: ١١٨١٨.
98
فإن قال: فإن قوله:"لهم مغفرة وأجر عظيم" خبرٌ مبتدأ، ولو كان هو الموعود لقيل:"وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجرًا عظيمًا، ولم يدخل في ذلك"لهم"، وفي دخول ذلك فيه، دلالة على ابتداء الكلام، وانقضاء الخبر عن الوعد!
قيل: إن ذلك وإن كان ظاهره ما ذكرتَ، فإنه مما اكتُفي بدلالة ما ظهر من الكلام على ما بطن من معناه= من ذكر بعضٍ قد ترك ذكره فيه، وذلك أن معنى الكلام: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن يغفر لهم ويأجرهم أجرًا عظيما= لأن من شأن العرب أن يُصْحِبوا"الوعد""أن" ويعملوه فيها، فتركت"أن" إذ كان"الوعد" قولا. ومن شأن"القول" أن يكون ما بعده من جمل الأخبار مبتدأ، وذكر بعده جملة الخبر اجتزاءً بدلالة ظاهر الكلام على معناه، وصرفا للوعد= الموافق للقول في معناه وإن كان للفظه مخالفا= إلى معناه، (١) فكأنه قيل:"قال الله: للذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجر عظيم".
* * *
وكان بعض نحويي البصرة يقول، إنما قيل:"وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم"، في الوعد الذي وُعِدوا (٢) =فكأن معنى الكلام على تأويل قائل هذا القول: وعد الله الذي آمنوا وعملوا الصالحات، لهم مغفرة وأجر عظيم، [فيما وعدهم به]. (٣)
* * *
(١) السياق: "وصرفا للوعد.. إلى معناه"، أي: إلى معنى القول.
(٢) في المطبوعة: "الوعد الذي وعدوا" بإسقاط"في"، وهي في المخطوطة مكتوبة بسن القلم بين"عظيم" و"الوعد".
(٣) اقتصر في هذا الموضع في المطبوعة والمخطوطة على نص الآية، واستظهرت تمام الكلام من تفسير القرطبي ٦: ١١٠، وقد عقب عليه بقوله: "وهذا المعنى عن الحسن"، فلا أدري أأصبت في ذلك، أم أخطأني التوفيق!
99
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"والذين كفروا" والذين جحدوا وحدانية الله، ونقضوا ميثاقه وعقودَه التي عاقدوها إياه="وكذبوا بآياتنا" يقول: وكذبوا بأدلّة الله وحججه الدالة على وحدانيته التي جاءت بها الرسل وغيرها="أولئك أصحاب الجحيم" يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم= أهل"الجحيم"، يعني: أهل النار الذين يخلُدون فيها ولا يخرجون منها أبدًا. (١)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (٢) "يا أيها الذين آمنوا" يا أيها الذين أقرُّوا بتوحيد الله ورسالة رسوله ﷺ وما جاءهم به من عند ربهم="اذكروا نعمة الله عليكم"، اذكروا النعمة التي أنعم الله بها عليكم، فاشكروه عليها بالوفاء له بميثاقه الذي واثقكم به، والعقود التي عاقدتم نبيكم ﷺ عليها. ثم وصف نعمته التي أمرهم جل ثناؤه بالشكر عليها مع سائر نعمه، فقال، هي كفُّه عنكم أيدي القوم الذين همُّوا بالبطش بكم، فصرفهم عنكم،
(١) انظر تفسير"الكفر" و"الآيات" و"أصحاب الجحيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٢) كان في المطبوعة والمخطوطة: "يعنى بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا أقروا.."، فأثبت ما يقتضيه سياق أبي جعفر في سائر تفسيره، وهو في أغلب الظن اختصار سيئ من الناسخ.
100
وحال بينهم وبين ما أرادوه بكم. (١)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة هذه النعمة التي ذكّر الله جل ثناؤه أصحابَ نبيه ﷺ بها، وأمرهم بالشكر له عليها.
فقال بعضهم: هو استنقاذ الله نبيه محمدا ﷺ وأصحابَه مما كانت اليهود من بني النضير همُّوا به يوم أتوهم يستحملونهم دية العامريَّين اللذين قَتلهما عمرو بن أمية الضمري. (٢)
ذكر من قال ذلك:
١١٥٥٧ - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر قالا خرج رسول الله ﷺ إلى بني النضير ليستعينَهم على دية العامريَّين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضَّمري. فلما جاءهم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا محمدًا أقرب منه الآن، فَمَن رجلٌ يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب: أنا. (٣) فأتى رسولَ الله ﷺ الخبرُ، وانصرف عنهم، فأنزل الله عز ذكره فيهم وفيما أرادَ هو وقومه:"يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذْ همَّ قومٌ أن يبسطوا إليكم أيديهم"... الآية. (٤)
(١) انظر تفسير"الكف" فيما سلف ٨: ٥٤٨/٩: ٢٩ = وقد مضى"الهم" غير مشروح أيضا فيما سلف ٩: ١٩٩.
(٢) "الحمالة" (بفتح الحاء) : الدية والغرامة التي يحملها قوم عن قوم يكفلون دفعها يقال: "تحمل الحمالة" و"استحمل القوم"، طلب إليهم أن يعينوه في"حمالته"، وهي الدية التي تكفل بها.
(٣) "ظهر على البيت": علاه، أي ركب ظهره. وكان في المطبوعة: "فمروا رجلا يظهر" وليس فيها ولا في المخطوطة: "أنا"، فلذلك غيرها الناسخ، لفساد خط الناسخ في هذا الموضع. والصواب من سيرة ابن هشام.
(٤) الأثر: ١١٥٥٧- هو في سيرة ابن هشام ٢: ٢١١، ٢١٢، ثم يأتي فيها بغير هذا اللفظ ٣: ١٩٩-٢٠٠.
101
١١٥٥٨ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم"، قال: اليهود دخل عليهم النبي ﷺ حائطا لهم، (١) وأصحابه من وراء جداره، فاستعانهم في مغَرِم ديةٍ غَرِمها، ثم قام من عندهم، فائتمروا بينهم بقتله، فخرج يمشي القَهقَرى ينظر إليهم، ثم دعا أصحابه رجلا رجلا حتى تَتَامُّوا إليه.
١١٥٥٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"اذكروا نعمة الله عليكم إذ هَمَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكفَّ أيديهم عنكم" يهودُ حين دخل النبي ﷺ حائطا لهم، وأصحابه من وراء جدار لهم، فاستعانهم في مغرم، في الدية التي غرمها (٢) ثم قام من عندهم، فائتمروا بينهم بقتله، فخرج يمشي معترضا ينظرُ إليهم خِيفتَهم (٣) ثم دعا أصحابه رجلا رجلا حتى تتامُّوا إليه. قال الله جل وعز:"فكف أيديهم عنكم واتَّقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون".
١١٥٦٠ - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني أبو معشر، عن يزيد بن أبي زياد قال: جاء رسول الله ﷺ بني النضير يستعينهم في عَقْلٍ أصابه (٤) ومعه أبو بكر وعمر وعلي فقال: أعينوني في عَقْلٍ أصابني. فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة! اجلس حتى نطعمَك ونعطَيك الذي تسألنا! فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم
(١) "الحائط": البستان من النخيل، قد أحاطوه بجدار.
(٢) في المطبوعة: "في مغرم في دية غرمها" كما في الدر المنثور ١: ٢٦٦. وفي المخطوطة: "في الدية" بالتعريف فرجحت أنه قد سقط من الكلام"التي" فأثبتها.
(٣) "معترضا"، أي يأخذ يمنة ويسرة، يميل بوجهه إليهم ينظر، ويمشي هكذا وهكذا، لا تستقيم مشيته على الطريق.
(٤) "العقل" هو: الدية.
102
وأصحابُه ينتظرونه، وجاء حُييّ بن أخطب وهو رأس القوم، وهو الذي قال لرسول الله ﷺ ما قال، فقال حيي لأصحابه: لا ترونه أقربَ منه الآن، اطرحوا عليه حجارة فاقْتُلوه، ولا ترون شرًّا أبدًا! فجاءوا إلى رحًى لهم عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم، حتى جاءه جبريل ﷺ فأقامه من ثَمَّ، فأنزل الله جل وعز:"يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذْ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكفَّ أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون"، فأخبر الله عزَّ ذكره نبيّه ﷺ ما أرادوا به.
١١٥٦١ - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير:"يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم" الآية، قال، يهودُ، دخلَ عليهم النبي ﷺ حائطا، فاستعانهم في مَغْرَمٍ غرمه، فائتمروا بينهم بقتله، فقام من عندهم فخرج معترِضًا ينظر إليهم خِيفتَهم، (١) ثم دعا أصحابه رجلا رجلا حتى تتامُّوا إليه.
١١٥٦٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قال: بعث رسول الله ﷺ المنذر بن عمرو الأنصاري= أحدَ بني النجار وهو أحد النُّقباء ليلة العقبة= فبعثه في ثلاثين راكبًا من المهاجرين والأنصار، فخرجوا، فلقوا عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر على بئر معونة، وهي من مياه بني عامر، فاقتتلوا، فقُتل المنذرُ وأصحابُه إلا ثلاثة نَفَرٍ كانوا في طلب ضَالة لهم، فلم يرعهم إلا والطيرُ تحُوم في السماء، يسقط من بين خراطيمها عَلَقُ الدم. (٢) فقال أحد النفر: قُتِل أصحابنا والرحمنِ! ثم تولّى يشتدُّ حتى لقي رجلا (٣) فاختلفا ضربتين، فلما خالطته الضربة، رفع رأسه إلى السماء ففتح
(١) "معترضا" أي يأخذ يمنة ويسرة، يميل بوجهه إليهم ينظر، ويمشي هكذا وهكذا، لا تستقيم مشيته على الطريق.
(٢) "العلق" (بفتحتين) : قطع الدم الغليظ الجامد قبل أن ييبس.
(٣) "اشتد": عدا عدوا شديدا.
103
عينيه ثم قال: الله أكبر، الجنةُ وربّ العالمين!! فكان يُدْعى"أعنقَ لِيَمُوت"، (١) ورجع صاحباه، فلقيا رجلين من بني سليم، وبين النبي ﷺ وبين قومهما مُوَادعة، فانتسبا لهما إلى بني عامر، فقتلاهما. وقدِم قومهما إلى النبي ﷺ يطلبون الدية، فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعليُّ وطلحة وعبد الرحمن بن عوف، حتى دخلوا إلى كعب بن الأشرف ويهود النضير، فاستعانهم في عَقْلهما. قال، فاجتمعت اليهودُ لقتل رسول الله ﷺ وأصحابه، واعتَلُّوا بصنيعة الطعام، (٢) فأتاه جبريل ﷺ بالذي أجمعت عليه يهودُ من الغَدر، (٣) فخرج ثم دعا عليًّا، فقال، لا تبرح مَقامك، فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عنِّي فقل:"وجّه إلى المدينة فأدركوه". (٤) قال: فجعلوا يمرُّون على عليّ، فيأمرهم بالذي أمرَه حتى أتى عليه آخرُهم، ثم تبعهم، فذلك قوله: (وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) [سورة المائدة: ١٣].
١١٥٦٣ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك في قوله:"يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكفّ أيديهم عنكم" قال: نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه، حين أرادوا أن يغدِروا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون: بل النعمة التي ذكرها الله في هذه الآية، فأمر المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم بالشُّكر له عليها: أنَّ اليهود كانت هَمَّت بقتل النبيّ ﷺ في طعامٍ دعوه إليه، فأعلم الله عز وجل نبيّه صلى
(١) "أعنق ليموت" و"المعنق ليموت"، يقال هو"المنذر بن عمرو الأنصاري"، ويقال هو"حرام بن ملحان النجاري". ="أعنق الرجل إعناقا": سارع وأسرع إسراعًا شديدًا حتى يسبق الناس. سمي بذلك، لأنه أسرع إلى مصرعه، رضي الله عنه.
(٢) "الصنيعة" و"الصنيع": الطعام يصنع ويهيأ للحفاوة والإكرام.
(٣) في المطبوعة: "اجتمعت عليه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٤) في المخطوطة: "وجه المدينة" أسقط"إلى"، والجيد ما في المطبوعة.
104
الله عليه وسلم ما همُّوا به، فانتهى هو وأصحابه عن إجابتهم إليه.
ذكر من قال ذلك:
١١٥٦٤ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم" إلى قوله:"فكف أيديهم عنكم" وذلك أن قوما من اليهود صَنَعوا لرسول الله وأصحابه طعاما ليقتلوه إذا أتى الطعام، فأوحى الله إليه بشأنهم، فلم يأتِ الطعام، وأمرَ أصحابه فلم يأتوه. (١)
* * *
وقال آخرون: عنى الله جل ثناؤه بذلك: النعمةَ التي أنعمها على المؤمنين باطلاع نبيّه ﷺ على ما همَّ به عدوّه وعدوُّهم من المشركين يوم بَطْن نَخْلٍ من اغترارهم إياهم، والإيقاع بهم، إذا هُم اشتغلوا عنهم بصلاتهم، فسجدوا فيها= وتعريفِه نبيَّه ﷺ الِحذَار من عدوّه في صَلاته بتعليمه إيَّاه صلاة الخوف.
ذكر من قال ذلك:
١١٥٦٥ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسُطوا إليكم أيديهم"... الآية، ذكر لنا أنها نزلت على رسول الله ﷺ وهو ببَطْنِ نخل في الغَزْوة السابعة، (٢) فأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتِكوا
(١) في المطبوعة: "وأمر أصحابه فأبوه"، و"أبوه" هنا سقيمة المنزل. وفي المخطوطة: "فأتوه" معجمة. وهو مخالف لما في الترجمة، إذ قال، "فانتهى هو وأصحابه عن إجابتهم إليه"، فآثرت أن أثبت نص ما في الدر المنثور ١: ٢٦٦، فهو المطابق للترجمة. ونقله السيوطي عن ابن جرير، وابن أبي حاتم، من هذه الطريق نفسها.
(٢) هكذا قال: "في الغزوة السابعة"، وهي في كثير من الروايات"الغزوة التاسعة"، وهي"غزوة ذي أمر" بنجد، انظر ابن سعد ٢/١/٢٤، وإمتاع الأسماع للمقريزي ١: ١١٠، ١١١. وانظر التعليق على الأثر التالي، والأثر السالف رقم: ١٠٣٤٠، والذي جاء في الأخبار أن صلاة الخوف كانت في السنة السابعة.
105
به، فأطلعه الله على ذلك. ذكر لنا أن رجلا انتدب لقتله، فأتى نبيَّ الله ﷺ وسيفُه موضوع، فقال: آخذه، يا نبي الله؟ قال: خذه! قال: أستلُّه؟ قال: نعم! فسلَّه، فقال، من يمنعك منِّي؟ قال:"الله يمنعُني منك!. فهدّده أصحاب رسول الله ﷺ وأغلظوا له القول، فشامَ السَّيف (١) وأمر نبيُّ الله ﷺ أصحابَه بالرحيل، فأنزلت عليه صلاة الخوف عند ذلك. (٢)
١١٥٦٦ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، ذكره عن أبي سلمة، عن جابر: أنّ النبيّ ﷺ نزل منزلا وتفرَّق الناس في العِضاه يستظِلُّون تحتها، (٣) فعلَّق النبي ﷺ سلاحَه بشجرةٍ، فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله ﷺ وأخذه فسلَّه، ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال، من يمنعك مني؟ والنبي ﷺ يقول:"الله"، فشامَ الأعْرابي السيف، (٤) فدعا النبي ﷺ أصحابه فأخبرهم خبرَ الأعرابيّ، وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه= قال معمر: وكان قتادة يذكر نحو هذا، وذكر أنَّ قومًا من العرب أرادُوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا هذا الأعرابي. وتأوّل:"اذكروا نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم"، الآية. (٥)
* * *
(١) "شام السيف": أغمده. وهو من الأضداد، ويقال أيضا: "شام السيف": إذا سله.
(٢) الأثر: ١١٥٦٥- هذا الخبر عن"صلاة الخوف"، لم يذكره أبو جعفر في صلاة الخوف فيما سلف ٥: ٢٣٧-٢٥٠، ولا في ٩: ١٢٣-١٦٦.
(٣) "العضاه" (بكسر العين) : اسم يقع على ما عظم من شجر الشوك وطال واشتد شوكه، فاستظل به الناس.
(٤) "شام السيف": أغمده. وهو من الأضداد، ويقال أيضا: "شام السيف": إذا سله.
(٥) الأثر: ١١٥٦٦-"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضى مرارا. وكان في المطبوعة والمخطوطة"ابن أبي سلمة" بزيادة"ابن"، والصواب حذفها كما في تفسير ابن كثير ٣: ١٠١.
وهذا الخبر عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر في مسند أحمد ٣: ٣١١، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: "حدثنا عبد الله قال: وجدت هذا الحديث في كتاب أبي بخط يده، وسمعته في موضع آخر: حدثنا أبو اليمان قال، أخبرني شعيب، عن الزهري، حدثني سنان بن أبي سنان الدؤلي، وأبو سلمة بن عبد الرحمن: أن جابر بن عبد الله الأنصاري"، وساق الخبر بغير هذا اللفظ مطولا.
ثم رواه أحمد أيضا ٣: ٣٦٤، من طريق عفان بن أبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بغير ذاك اللفظ.
وروى أحمد خبر جابر مطولا مفصلا، من طريق أبي بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر قال: قاتل رسول الله ﷺ محارب خصفة بنخل = في المسند ٣: ٣٦٤، ٣٦٥ ثم: ٣٩٠.
ورواه البخاري في صحيحه (الفتح ٧: ٣٢٩-٣٣١)، بأسانيد. ورواه مسلم في صحيحه ١٥: ٤٤، ٤٥، بإسناد الطبري وأحمد.
وانظر أيضا ما رواه أبو جعفر من حديث جابر فيما سلف برقم: ١٠٣٢٥.
وقال ابن كثير في تفسيره ٣: ١٠١، بعد أن ساق خبر أبي جعفر عن هذا الموضع من التفسير: "وهذا الأعرابي، هو غورث بن الحارث، ثابت في الصحيح".
106
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل ذلك، قولُ من قال: عنى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية، نعمتَه على المؤمنين به وبرسوله التي أنعم بها عليهم في استنقاذه نبيّهم محمدا ﷺ مما كانت يهود بني النضير همت به من قتله وقتل من معه يومَ سار إليهم نبيّ الله ﷺ في الدية التي كان تحمَّلها عن قتيلي عمرو بن أمية.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة في تأويل ذلك لأن الله جل ثناؤه عقًّب ذكر ذلك برمي اليهود بصنائعها وقبيح أفعالها، وخيانتها ربَّها وأنبياءها. ثم أمر نبيَّه ﷺ بالعفو عنهم، والصفح عن عظيم جهلهم، فكان معلوما بذلك أنه ﷺ لم يؤمر بالعفو عنهم والصفح عَقِيب قوله:"إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم" وغيرُهم كان يبسط الأيدي إليهم. (١) لأنه لو كان الذين همُّوا ببسط الأيدي إليهم غيرَهم لكان حريًّا أن يكون الأمر بالعفو والصفح عنهم، لا عمَّن لم يجر لهم بذلك ذكر= ولكان الوصف بالخيانة في وصفهم في هذا الموضع،
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "ومن غيرهم كان يبسط الأيدي إليهم" بزيادة"من"، وهو فساد في الكلام شديد، والصواب حذف"من"، كما يدل عليه سياق الكلام. والواو في"وغيرهم" واو الحال.
107
لا في وصف من لم يجر لخيانته ذكر، ففي ذلك ما ينبئ عن صحة ما قضينا له بالصحة من التأويلات في ذلك، دون ما خالفه.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) ﴾
(١) قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: واحذرُوا الله، أيها المؤمنون أن تخالفوه فيما أمركم ونهاكم، وأن تنقضوا الميثاق الذي واثقكم به فتستوجبوا منه العقابَ الذي لا قبل لكم به="وعلى الله فليتوكل المؤمنون" يقول: وإلى الله فليُلْقِ أزمَّة أمورهم، ويستسلم لقضائه، ويثقْ بنصرته وعونه (٢) = المقروّن بوحدانيّة الله ورسالة رسوله، العاملون بأمره ونهيه، فإن ذلك من كمال دينهم وتمامِ إيمانهم= وأنّهم إذا فعلوا ذلك كلأهم ورعاهم وحفظهم ممن أرادهم بسوء، كما حفظكم ودافع عنكم، أيها المؤمنون اليهودَ الذين همُّوا بما همُّوا به من بسط أيديهم إليكم، كلاءَةً منه لكم، إذ كنتم من أهل الإيمان به وبرسوله دون غيره، (٣) فإن غيره لا يطيق دَفْع سوءٍ أراد بكم ربُّكم ولا اجتلابَ نفعٍ لكم لم يقضه لكم.
* * *
(١) سقط من المخطوطة والمطبوعة صدر بقية الآية، وهو قوله: "واتقوا الله"، فأثبتها.
(٢) انظر تفسير"التوكل" فيما سلف ٨: ٥٦٦، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) قوله: "دون غيره"، أي: كما حفظكم ودافع عنكم دون غيره.
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾
قال أبو جعفر: وهذه الآية أنزلتْ إعلامًا من الله جلّ ثناؤه نبيَّه ﷺ والمؤمنين به، أخلاقَ الذين همُّوا ببسط أيديهم إليهم من اليهود. كالذي:-
١١٥٦٧ - حدثنا الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك، عن الحسن في قوله:"ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل" قال: اليهود من أهل الكتاب.
* * *
= (١) وأن الذي هموا به من الغدر ونقض العهد الذي بينهم وبينه، من صفاتهم وصفات أوائلهم وأخلاقِهم وأخلاقِ أسلافهم قديما= (٢) واحتجاجا لنبيه ﷺ على اليهود، بإطلاعه إيَّاه على ما كان علمه عندَهم دون العرب من خفيّ أمورهم ومكنون علومهم= وتوبيخا لليهود في تمادِيهم في الغيّ، وإصرارهم على الكفر، مع علمهم بخطأ ما هم عليه مقيمون.
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تستعظموا أمرَ الذين همُّوا ببسط أيديهم إليكم من هؤلاء اليهود بما همُّوا به لكم، ولا أمرَ الغدر الذي حاولوه وأرادوه بكم، فإن ذلك من أخلاق أوائلهم وأسْلافهم، لا يَعْدُون أن يكونوا على منهاج أوَّلهم وطريق سَلَفِهم. ثم ابتدأ الخبر عز ذكره عن بعضِ غَدَراتهم وخياناتهم وجراءَتهم على ربهم ونقضهم ميثاقَهم الذي واثقَهم عليه بَارِئُهم، (٣) مع نعمه التي خصَّهم بها،
(١) قوله: "وأن الذي هموا به.." معطوف على قوله:
"إعلاما منه نبيه.. أخلاق الذين هموا وأن الذي هموا به.."، هذا سياق الجملة.
(٢) قوله"واحتجاجا.."، معطوف على قوله آنفا: "وهذه الآية أنزلت إعلاما..".
(٣) في المطبوعة: "الذي واثقتهم عليه بأدائهم"، لم يحسن قراءة المخطوطة إذ كانت غير معجمة، فحرفها تحريفا أفضى إلى هلاك العبارة كلها.
109
وكراماته التي طوّقهم شكرها، فقال، ولقد أخذ الله ميثاق سَلَف من همّ ببسط يده إليكم من يهود بني إسرائيل، يا معشر المؤمنين بالوفاء له بعهوده وطاعته فيما أمرهم ونهاهم، (١) كما:-
١١٥٦٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل" قال: أخذ الله مواثيقهم أن يخلصوا له، ولا يعبدُوا غيره.
* * *
="وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا" يعني بذلك: وبعثنا منهم اثنى عشر كفيلا كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه.
و"النقيب" في كلام العرب، كالعَرِيف على القوم، غير أنه فوق"العريف". يقال منه:"نَقَب فلان على بني فلان فهو ينقُبُ نَقْبًا (٢) فإذا أريد أنه لم يكن نقيبا فصار نقيبا، قيل:"قد نَقُبَ فهو ينقُب نَقَابة" = ومن"العريف":"عَرُف عليهم يَعْرُف عِرَافَةً". فأما"المناكب" فإنهم كالأعوان يكونون مع العُرفاء، واحدهم"مَنْكِب".
وكان بعض أهل العلم بالعربية يقول: هو الأمين الضامن على القوم. (٣)
* * *
فأما أهل التأويل فإنهم قد اختلفوا بينهم في تأويله.
(١) انظر تفسير"أخذ الميثاق" فيما سلف ص: ٩١، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة: "نقبا"، وهذا مصدر غريب جدا، ولم تذكره العربية، وهو جائز على ضعف شديد، وأنا أخشى أن يكون ذلك خطأ من النساخ، وأن الصواب هو الذي أجمعت عليه كتب اللغة"نقابة" (بكسر النون) في مصدر هذا الفعل. أما مصدر الفعل الذي يليه فهو بفتح النون. وقال سيبويه: "النقابة بالكسر الاسم، وبالفتح المصدر، مثل الولاية والولاية".
(٣) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٥٦.
110
فقال بعضهم: هو الشاهد على قومه.
ذكر من قال ذلك:
١١٥٦٩ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا"، من كل سِبْط رجل شاهد على قومه.
* * *
وقال آخرون:"النقيب"، الأمين.
ذكر من قال ذلك:
١١٥٧٠ - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال:"النقباء" الأمناء.
١١٥٧١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
* * *
وإنما كان الله عز ذكره أمر موسى نبيّه ﷺ ببعثة النقباء الاثنى عشر من قومه بني إسرائيل إلى أرض الجبابرة بالشأم، ليتحسَّسوا لموسى أخبارَهم (١) إذْ أراد هلاكهم، وأن يورِّث أرضَهم وديارَهم موسى وقومَه، وأن يجعلها مساكن لبني إسرائيل بعد ما أنجاهم من فرعون وقومه، وأخرجهم من أرض مصر، فبعث مُوسى الذين أمَره الله ببعثهم إليها من النقباء، كما:
١١٥٧٢ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أمر الله بني إسرائيل بالسير إلى أرْيَحَا، وهى أرض بيت المقدس، فساروا حتى إذا كانوا قريبا منهم بعث موسى اثنى عشر نقيبا من جميع أسباط بني إسرائيل. فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبابرة، فلقيهم رجل
(١) في المطبوعة: "ليتجسسوا" بالجيم، و"التحسس" بالحاء: تطلب الخبر وتبحثه. وفي التنزيل: "يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه".
111
من الجبَّارين يقال له"عاج"، فأخذ الاثنى عشر، فجعلهم في حُجْزَته (١) وعلى رأسه حَمْلَةُ حطب. (٢) فانطلق بهم إلى امرأته فقال: انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا!! فطرَحَهم بين يديها، فقال، ألا أطْحَنُهم برجلي! فقالت امرأته: بل خلّ عنهم حتى يخبروا قومَهم بما رأوا. ففعل ذلك. فلما خرج القومُ، قال بعضهم لبعض: يا قوم إنكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبرَ القوم، ارتدُّوا عن نبيِّ الله عليه السلام، ولكن اكتموه وأخبروا نَبِيَّ الله، فيكونان هما يَرَيان رأيهما! (٣) فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك ليكتموه، ثم رجعوا فانطلق عشرة منهم فنكثوا العهدَ، فجعل الرجل يخبر أخاه وأباه بما رأى من [أمر] "عاج" (٤) وكتم رجلان منهم، فأتوا موسى وهارون، فأخبروهما الخبرَ، فذلك حين يقول الله (٥) "ولقد أخذ الله ميثاقَ بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا". (٦)
١١٥٧٣ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"اثنى عشر نقيبا" من كل سبط من بني إسرائيل رجل، أرسلهم موسى إلى الجبارين، فوجدوهم يدخل في كُمِّ أحدهم اثنان منهم يُلقونهم إلقاءً (٧) ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس
(١) "الحجزة" (بضم فسكون) : موضع شد الإزار. وسبحان الله!! كيف كان يبالغ هؤلاء الرواة من أصحاب الإسرائيليات!!
(٢) في المطبوعة: "حزمة حطب"، لم يحسن قراءة المخطوطة مع وضوحها. وأثبتها لما طابقت المخطوطة تاريخ الطبري. وما سيأتي برقم: ١١٦٥٦.
و"الحملة" (بفتح الحاء) : هي مقدار ما يحمله الحامل، كما يقال: "قبضة"، لمقدار ما تقبض عليه الكف. وهذا حرف لم أجد النص عليه في كتاب.
(٣) "نبي الله"، يعني موسى وهرون عليهما السلام. وكان في المطبوعة: "فيما يريان"، والصواب من المخطوطة والتاريخ.
(٤) هذه الزيادة بين القوسين، من تاريخ الطبري.
(٥) انظر ما كتبته في ص: ٩٢، تعليق: ١، في أمر"حيث" و"حين".
(٦) الأثر: ١١٥٧٢- هو من بقية الأثر الذي رواه أبو جعفر قديما برقم: ٩٩١، وهو في تاريخ الطبري ١: ٢٢١، ٢٢. وسيأتي صدره برقم: ١١٦٥٦.
(٧) في المخطوطة: "يلفونهم الفا" غير واضحة ولا منقوطة، وفي المطبوعة هنا"يلفونهم لفا"، وسيأتي برقم: ١١٦٦٠، كما أثبتها، في المخطوطة والمطبوعة معا. وانظر الأثر التالي: ١١٥٧٤، والتعليق عليه.
112
منهم في خشبة (١) ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبُّها خمسة أنفس أو أربع. فرجع النقباء كلٌّ منهم يَنْهى سِبْطه عن قتالهم إلا يوشع بن نون وكلاب بن يافنة، (٢) يأمران الأسباط بقتال الجبابرة وبجهادهم، فعصوا هذين وأطاعُوا الآخرين.
١١٥٧٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه= إلا أنه قال: من بني إسرائيل رجالٌ= وقال أيضا: يلقونهما. (٣)
١١٥٧٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: أمر موسى أن يسير ببني إسرائيل إلى الأرض المقدّسة، وقال: إني قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلا فاخرج إليها، وجاهد من فيها من العدوّ، فإني ناصركم عليهم، وخُذ من قومك اثنى عشر نقيبًا من كل سبط نقيبا يكون على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به، وقل لهم: إن الله يقول لكم: (إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ)... إلى قوله: (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) وأخذ موسى منهم اثنى عشر نقيبا اختارهم من الأسباط كفلاء على قومهم بما هم فيه، على الوفاء بعهده وميثاقه. وأخذ من كل سبط منهم خيرَهم وأوفاهم رجلا. يقول الله عز وجل:"ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبًا" فسار بهم موسى إلى الأرض المقدّسة بأمر الله، حتى إذا نزل التيه بين مصر والشام= وهي بلاد ليس فيها خَمَرٌ
(١) في المخطوطة: "خمسة أنفاس بينهم في خشبة"، وفي المطبوعة: "خمسة أنفس بينهم في خشبة"، وأثبت ما في تفسير البغوي (هامش ابن كثير ٣: ١٠٤)، فهو أقرب إلى هذا السياق. وانظر ما سيأتي، الأثر رقم: ١١٥٧٣.
(٢) في المطبوعة: "وكالب بن يوفنا"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو فيها هنا" " غير منقوطة، ولكنه سيأتي في المخطوطة، في رقم: ١١٦٦٦، كما أثبته هنا. وانظر ما مضى ٥: ٢٧٢. وفي التاريخ ١: ٢٢٢: "كالوب بن يوفنة، وقيل: كلاب بن يوفنة ختن موسى". وسيأتي بعض هذا الأثر مختصرا برقم: ١١٦٦٠.
(٣) في المطبوعة: "يلففونها"، مع أنها في المخطوطة كما أثبتها واضحة منقوطة، وانظر التعليق على الأثر السالف ص: ١١٢، تعليق: ٧، وانظر الأثر التالي: ١١٦٦٠.
113
ولا ظلّ (١) = دعا موسى ربه حين آذاهم الحرّ، فظلَّل عليهم بالغمام، ودعا لهم بالرزق، فأنزل الله عليهم المنَّ والسلوى. (٢) وأمر الله موسى فقال: أَرْسل رجالا يتحسسّون إلى أرض كنعان التي وهبت لبني إسرائيل (٣) من كل سبط رجلا. فأرسل موسى الرءوس كلهم الذين فيهم، [فبعث الله جل وعزّ من برّية فاران بكلام الله، وهم روءس بني إسرائيل]. (٤) وهذه أسماء الرَّهط الذين بعث الله جل ثناؤه من بني إسرائيل إلى أرض الشام، فيما يذكر أهل التوراة ليجوسوها لبني إسرائيل (٥) من سبط روبيل:"شامون بن زكوّن" (٦) = ومن سبط شمعون:"شافاط بن حُرّي" (٧) ومن سبط يهوذا:"كالب بن يوفنّا (٨) ومن سبط أتين:"يجائل بن يوسف" (٩) =ومن سبط يوسف: وهو سبط أفرائيم:"يوشع بن نون" (١٠) ومن سبط بنيامين"فلط بن رفون" (١١) =ومن سبط زبالون:"جدي بن سودي (١٢) =ومن سبط منشا بن يوسف:"جدي بن سوسا (١٣) =ومن سبط دان:"حملائل بن جمل" (١٤) =ومن سبط أشر: ساتور بن ملكيل" (١٥) = ومن سبط نفتالي:"نحى بن وفسي" (١٦) =ومن سبط جاد:"جولايل بن ميكي". (١٧)
=فهذه أسماء الذين بعثهم موسى يتحسّسون له الأرض= (١٨) ويومئذ سمى"هوشع بن نون":"يوشع بن نون" (١٩) =فأرسلهم وقال لهم: ارتفعوا قِبَل الشمس، فارقوا الجبل، وانظروا ما في الأرض، وما الشعب الذي يسكنون، أقوياء هم أم ضعفاء، أقليل هم أم كثير؟ وانظروا أرضهم التي يسكنون: أسمينة هي [أم هزيلة] ؟ أذات شجر أم لا؟ اجتازوا، واحملوا إلينا من ثمرة تلك الأرض. وكان ذلك في أول ما أشجن بكر ثمرة العنب. (٢٠)
(١) في المطبوعة: "شجر ولا ظل"، وفي المخطوطة: "حعر"، والصواب ما أثبته، كما مضى في الأثر: ٩٩٢، و"الخمر" (بفتحتين) : كل ما سترك من شجر أو بناء أو غيره.
(٢) إلى هذا الموضع مضى قديما في الأثر رقم: ٩٩٢.
(٣) في المخطوطة: "وهب"، والصواب ما في المطبوعة. وفي المطبوعة: "يتجسسون" بالجيم، وانظر ص: ١١١، تعليق: ١.
(٤) هذه الجملة التي بين القوسين، من المخطوطة، وحذفها ناشر المطبوعة. وهي عبارة غير مفهومة، ولم أستطع أن أهتدي إلى صوابها، ولا استطعت أن أصل الكلام بعضه ببعض. والذي في كتاب القوم، في العهد القديم، في سفر العدد، في الإصحاح الثالث عشر: "فأرسلهم موسى من برية فاران حسب قول الرب". وكل وجه من التصحيف، أو التحريف، أو النقص في العبارة، أردت أن أحمل عليه هذه الجملة، حتى تستقيم، خرج معي وجها ضعيف التركيب، فتركت ذلك لمن يحسن أن يقيمه، أو لمن يهتدي إلى صوابه من مرجع آخر، غير المراجع التي بين يدي.
(٥) هذه الأسماء مذكورة في كتاب القوم، في سفر العدد، في الإصحاح الثالث عشر. ونقلها عن هذا الموضع من الطبري، ابن كثير في تفسيره ٣: ١٠٣. وذكرها ابن حبيب في"المحبر" ص: ٤٦٤، ونقلها عنه القرطبي في تفسيره ٦: ١١٣، فسأذكر بعد، ما اختلف فيه من الأسماء، عن هذه المراجع، ونصها في كتاب القوم.
(٦) في كتاب القوم: "من سبط رَأو بين: شمع بن زكُّور"، كما في المحبر. وفي المطبوعة وابن كثير"بن ركون"، وفي القرطبي"ركوب". وفي المخطوطة، تقرأ كما كتبتها.
(٧) في كتاب القوم: ".. بن حوري". وفي المحبر: "شرفوط بن حوري"، وفي القرطبي: "شوقوط بن حوري".
(٨) في كتاب القوم: ".. بن يُفَنّة"، وفي المحبر: "كولب.."، وفي القرطبي: "يوقنا".
(٩) في كتاب القوم: "ومن سبط يسَّاكرَ: يجال بن يوسف"، وكان في المطبوعة هنا"ومن سبط كاذ: ميخائيل بن يوسف"، ولا أدري من أين جاء به ناشر المطبوعة. وفي ابن كثير: "ومن سبط أتين: ميخائيل بن يوسف"، ولم أجد في الأسباط"أتين"، ولكن هكذا كتب في مخطوطة التفسير كما كتبته غير منقوط، وفيها أيضا"محامل" غير منقوطة، والذي أثبته هو صواب قراءتها. أما في المحبر فهو: "ومن سبط إساخر: يغوول بن يوسف"، وفي القرطبي: "ومن سبط الساحر: يوغول بن يوسف". وهذا السبط، ذكره الطبري عن محمد بن إسحق فيما سلف رقم: ٢١٠٧: "يشجر"، وهو"يساكر"، فالذي لا شك فيه أن"أبين" التي في مخطوطة التفسير، هي"يشجر"، أو "أشجر"، ولكني تركتها كما هي في المخطوطة.
(١٠) في كتاب القوم: "من سبط أفرايم: هو شع بن نون"، ولكن كتب في مخطوطة التفسير"يوشع" هنا، وكان الأجود أن يكتب هنا"هوشع"، لأنه سيأتي في آخر الخبر أنه يومئذ سمى"هوشع"، "يوشع".
(١١) في كتاب القوم: "من سبط بنيامين فَلطي بن رافو" وفي المخطوطة: "بن دفون"، وفي المطبوعة: "بن ذنون"، وفي ابن كثير: "فلطم بن دفون"، وفي المحبر: "يلطى بن ردفوا"، وفي القرطبي: "يلظى بن روقو".
(١٢) في كتاب القوم: "من سبط زبولون: جَدّ يئيل بن سودى"، وفي المخطوطة"جدي بن سوشي"، ولكن ابن كثير نقله في تفسيره عن الطبري: "جدي بن شورى"، فتبين أن"سوشي" تحريف"سودي". وكان في المطبوعة"كرابيل بن سودي"، وفي المحبر"كداييل بن شوذي"، وفي القرطبي: "كرابيل بن سورا".
(١٣) في كتاب القوم: "من سبط يوسف، من سبط منسي: جدّي بن سوسي"، وفي ابن كثير: "بن موسى"، خطأ. وفي المحبر: "كدي بن سوسي"، وفي القرطبي والمطبوعة: "سوشا".
(١٤) في كتاب القوم: ".. عميئيل بن جملّى" وفي ابن كثير: "خملائيل بن حمل"، وفي المحبر: "عماييل بن كملى"، وفي القرطبي: "عمائيل بن كسل".
(١٥) في كتاب القوم: "من سبط أشير: ستور بن ميخائيل"، وفي المطبوعة: "أشار: سابور"، فأثبت ما في المخطوطة، وهي غير منقوطة. وفي ابن كثير: "أشار: ساطور بن ملكيل". وفي المحبر"ومن سبط أوشير: شتور بن ميخائيل"، "شير: ستور".
(١٦) في كتاب القوم"من سبط نفتالي: نحيى بن وفسى"، وفي المطبوعة: "محر بن وقسى"، وفي المخطوطة: "ومن سبط ثفثا أبي بحر بن وفسى"، وصواب قراءتها ما أثبت. وفي ابن كثير: "بحر بن وقسي". وفي المحبر: "يحيى بن وقسي: وفي القرطبي: "يوحنا بن وقوشا".
(١٧) في كتاب القوم: "من سبط جاد: جأوئيل بن ماكي" وفي المخطوطة: "ومن سبط دار: جولائل بن منكد"، وفي المطبوعة: "ومن سبط يساخر: حولايل بن منكد"، وفي تفسير ابن كثير: "ومن سبط يساخر: لايل بن مكيد" وفي المحبر: "ومن سبط جاذ: كوآءل بن موخى". وفي القرطبي: "ومن سبط كاذ: كوال بن موخى". فأثتب"جاد" مكان"دار" في المخطوطة، من أسماء الأسباط في رواية ابن إسحق فيما سلف في الأثر رقم: ٢١٠٧. وقرأت"منكد""ميكي"، لأنها أقرب إلى"ماكي" و"موخي".
هذا، وقد نقل ابن كثير في تفسيره ٣: ١٠٣ أسماء هؤلاء النقباء، وقال: "وقد رأيت في السفر الرابع من التوراة، تعداد النقباء على أسباط بني إسرائيل، وأسماء مخالفة لما ذكره ابن إسحق، والله أعلم". ولكن اتضح من المراجعة أن الذي ذكره ابن إسحق، هو الموجود في النسخة التي بين أيدينا من التوراة. أما الذي نقله ابن كثير فهو مخالف كل المخالفة لما في رواية ابن إسحق، ولما جاء في كتاب القوم. فلا ريب أن التوراة التي كانت في يد ابن كثير، هي غير التي في أيدينا من كتاب القوم.
(١٨) في المطبوعة: "يتجسسون" بالجيم، وانظر ما سلف ص: ١١١، تعليق: ١، وص: ١١٤، تعليق: ٣.
(١٩) في المطبوعة والمخطوطة في هذا الاسم الأول"يوشع"، ولكن المخطوطة غير متقوطة، والصواب أن تكون"هوشع" كما أثبتها. انظر ص: ١١٥، تعليق: ٢.
(٢٠) في المطبوعة: ".. أشمسة هي أم ذات شجر، واحملوا إلينا من ثمرة تلك الأرض"، رأى ما في المخطوطة لا يقرأ، فحذفه. وكان في المخطوطة: "أسمسه هي أم ذات شجر أم لا احباروا واحملوا إلينا..". ورأيت أن أقرأها كذلك، استظهارا مما جاء في كتاب القوم، في سفر العدد، في الإصحاح الثالث عشر: "وكيف هي الأرض: أسمينة أم هزيلة؟ أفيها شجر أم لا؟ وتشددوا فخذوا من ثمر الأرض".
يقال، "أرض سمينة"؛ جيدة الترب، قليلة الحجارة، قوية على ترشيح النبت. ويقال، "أرض مهزولة"، رقيقة. و"المهازل": الجدوب، فلذلك آثرت وضع"هزيلة" كما جاءت في كتاب القوم بهذا المعنى، وإن أغفلتها كتب اللغة، أو أغفلت النص عليها.
وكان في المطبوعة: "وكان في أول ما سمى لهم من ذلك ثمرة العنب"، وهو تصرف رديء مستهجن. فإن الذي في المخطوطة هو: "وكان ذلك في أول ما سمى بكر ثمرة العنب" لم يحسن قراءة"سمن"، فتصرف بلا ورع. والذي في كتاب القوم ما نصه: "وأما الأيام فكانت أيام باكورات العنب". فاستظهرت منها صواب ما في المخطوطة، وقرأت: "أول ما سمن": "أول ما أشجن بكر ثمرة العنب".
و"الشجنة" (بكسر فسكون) : الشعبة من عنقود العنب تدرك كلها. يقال منها"أشجن الكرم"، أدركت عناقيده وطابت.
وقوله"بكر العنب"، فإن"بكر كل شيء"، أوله. وهو صحيح في العربية، وإن كانوا قد خصوا الثمار التي أدركت في أول إدراكها بقولهم: "باكورة الثمرة".
114
١١٥٧٦ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبًا" فهم من بني إسرائيل، بعَثهم موسى لينظُروا له إلى المدينة. فانطلقوا فنظروا إلى المدينة، فجاءوا بحبّة من فاكهتهم وِقْرَ رجلٍ، (١) فقالوا:
(١) "الوقر" (بكسر الواو وسكون القاف) : الحمل. وفي حديث عمر بن الخطاب والمجوس: "فألقوا وقر بغل أو بغلين"، أي: حمل بغل أو بغلين.
117
اقدُروا قوة قوم وبأسهم هذه فاكهتهم! فعند ذلك فُتِنوا فقالوا: لا نستطيع القتال، (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [سورة المائدة: ٢٤].
١١٥٧٧ - حدثت عن الحسين بن الفرج المروزي قال: سمعت أبا مُعاذ الفضلَ بن خالد يقول في قوله:"وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبًا" أمر الله بني إسرائيل أن يسيروا إلى الأرض المقدّسة مع نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم، فلما كانوا قريبًا من المدينة قال لهم موسى: ادخلوها! فأبوا وجَبُنوا، وبعثُوا اثنى عشر نقيبًا لينظروا إليهم، فانطلقوا فنظروا، فجاءوا بحبة من فاكهتهم بوِقْرِ الرجل، فقالوا: اقدورا قوة قوم وبأسهم، (١) هذه فاكهتهم!! فعند ذلك قالوا لموسى: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ).
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال الله لبني إسرائيل:"إني معكم"، يقول: إني ناصركم على عدوّكم وعدوِّي الذين أمرتكم بقتالهم، (٢) إن قاتلتموهم ووفيتم بعهدي وميثاقي الذي أخذته عليكم.
* * *
وفي الكلام محذوف، استغنى بما ظهر من الكلام عما حذف منه. وذلك أن معنى الكلام: وقال الله لَهُم إني معكم= فترك ذكر"لهم"، استغناء بقوله:"ولقد أخذ الله ميثاقَ بني إسرائيل"، إذ كان مُتقدّم الخبر عن قوم مسمَّين بأعيانهم، فكان معلومًا أن ما في سياق الكلام من الخبر عنهم، (٣) إذ لم يكن الكلام مصروفًا عنهم إلى غيرهم.
* * *
ثم ابتدأ ربُّنا جل ثناؤه القسمَ فقال: قسمًا لئن أقمتم، معشر بني إسرائيل، الصلاة ="وآتيتم الزكاة"، أي: أعطيتموها من أمرتكم بإعطائها (٤) ="وآمنتم برسلي" يقول: وصدّقتم بما آتاكم به رسلي من شرائع ديني.
(١) في المطبوعة في الموضعين: "قدروا"، والجيد من المخطوطة.
(٢) انظر تفسير"مع" فيما سلف ٣: ٢١٣-٢١٤/٥: ٣٥٣.
(٣) في المطبوعة: "كان معلوما"، والسياق يقتضي"فكان" بالفاء.
(٤) انظر فهارس اللغة فيما سلف في تفسير"إقامة الصلاة"، و"إيتاء الزكاة".
118
وكان الربيع بن أنس يقول: هذا خطاب من الله للنقباء الاثنى عشر.
١١٥٧٨ - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: أنّ موسى ﷺ قال للنقباء الاثنى عشر: سيروا إليهم= يعني: إلى الجبارين= فحدثوني حديثهم، وما أمْرهم، ولا تخافوا إن الله معكم ما أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزّرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنًا.
* * *
قال أبو جعفر: وليس الذي قاله الربيع في ذلك ببعيد من الصواب، غيرَ أن من قضاءِ الله في جميع خلقه أنه ناصرٌ من أطاعه، ووليّ من اتّبع أمره وتجنّب معصيتَه وتحامَى ذنوبه. (١) فإذ كان ذلك كذلك، وكان من طاعته إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والإيمان بالرسل، وسائر ما ندب القوم إليه= كان معلوما أن تكفير السيئات بذلك وإدخال الجنات به. لم يخصص به النقباء دون سائر بني إسرائيل غيرهم. فكان ذلك بأن يكون ندبًا للقوم جميعا، وحضًّا لهم على ما حضَّهم عليه، أحق وأولى من أن يكون ندبًا لبعضٍ وحضًّا لخاصّ دون عامّ.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"وعزرتموهم".
فقال بعضهم: تأويل ذلك: ونصرتموهم.
ذكر من قال ذلك:
١١٥٧٩ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وعزرتموهم" قال: نصرتموهم.
(١) في المطبوعة: "وجافى ذنوبه"، وفي المخطوطة: "وعامى ذنوبه" فرأيت أن أقرأها "تحامى"، فهي عندي أجود وأبين في معنى اتقاء الذنوب والتباعد عنها.
119
١١٥٨٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١١٥٨١ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وعزرتموهم" قال: نصرتموهم بالسيف.
* * *
وقال آخرون: هو الطاعة والنصرة.
ذكر من قال ذلك:
١١٥٨٢ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت عبد الرحمن بن زيد يقول في قوله:"وعزرتموهم" قال:"التعزيز" و"التوقير"، الطاعة والنصرة.
* * *
واختلف أهل العربية في تأويله.
فذكر عن يونس [الحرمري] أنه كان يقول (١) تأويل ذلك: أثنيتم عليهم.
١١٥٨٣ - حدثت بذلك عن أبي عبيدة معمر بن المثنى عنه (٢).
* * *
وكان أبو عبيدة يقول: معنى ذلك نصرتموهم وأعنتموهم ووقّرتموهم وعظمتوهم وأيَّدتموهم، وأنشد في ذلك: (٣)
وَكَمْ مِنْ مَاجِدٍ لَهُمُ كَرِيمٍ وَمِنْ لَيْثٍ يُعَزَّرُ في النَّدِيِّ (٤)
(١) قوله: "يونس [الحرمري] "، هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة، وهو مشكل، فإنه إما أن يكون نسبة نسب إليها، ونسبة"يونس بن حبيب"، هي"النحوي" ونسبته في ولائه"الضبي"، وهو مولى"بلال بن هرمي من بني ضبيعة بن بجالة" (النقائص: ٣٢٣)، ولا أظنه محرفا عن شيء من ذلك = وإما أن يكون نسبة إلى مكان، ويونس من أهل جبل (بفتح الجيم وتشديد الباء مضمومة) (انظر طبقات النحويين للزبيدي: ٤٨). وليس تحريفا لهذا أيضا. ولعل باحثًا يهتدي إلى صوابه، فتركته كما هو. هذا مع أن أبا عبيدة في مجاز القرآن، لم يذكر غير اسمه، والطبري يروي هذا عن أبي عبيدة.
(٢) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٥٧.
(٣) لم أعرف قائله.
(٤) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٥٧. و"الندى": مجلس القوم، ما داموا مجتمعين فيه، فإذا تفرقوا عنه فليس بندي. ومثله"النادي".
ومن العجب العاجب شرح من شرح هذا البيت فقال! "واللهم، بكسر اللام وسكون الهاء، الثور المسن.. ولعل الكلمة محرفة عن كلمة شهم". وهذا خلط لا يعلى عليه، فتجنب مثله.
120
وكان الفراء يقول:"العَزْر" الردُّ"عَزَرته"، رددته: إذا رأيته يظلم فقلت:"اتق الله" أو نهيته، فذلك"العزر".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب، قول من قال:"معنى ذلك: نصرتموهم". وذلك أن الله جل ثناؤه قال في"سورة الفتح": (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) [سورة الفتح: ٨، ٩] فـ"التوقير" هو التعظيم. وإذْ كان ذلك كذلك كان القول في ذلك إنما هو بعضُ ما ذكرنا من الأقوال التي حكيناها عمن حكينا عنه. وإذا فسد أن يكون معناه: التعظيم= وكان النصر قد يكون باليد واللسان، فأما باليد فالذبُّ بها عنه بالسيف وغيِره، وأما باللسان فحُسْن الثناء، والذبّ عن العرض= صحَّ أنه النصر، إذ كان النصر يحوي معنى كلِّ قائلٍ قال فيه قولا مما حكينا عنه.
* * *
وأما قوله:"وأقرضتم الله قرضا حسنًا" فإنه يقول: وأنفقتم في سبيل الله، وذلك في جهاد عدوه وعدوكم="قرضا حسنًا" يقول: وأنفقتم ما أنفقتم في سبيله، فأصبتم الحق في إنفاقكم ما أنفقتم في ذلك، ولم تتعدوا فيه حدودَ الله وما ندبكم إليه وحثَّكم عليه إلى غيره. (١)
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف قال:"وأقرضتم الله قرضا حسنا" ولم يقل:"إقراضا حسنًا"، وقد علمت أن مصدر"أقرضت""الإقراض"؟
قيل: لو قيل ذلك كان صوابا، ولكن قوله:"قرضًا حسنًا" أخرج
(١) انظر تفسير"القرض"، و"القرض الحسن" فيما سلف ٥: ٢٨٢، ٢٨٣، = وقوله: "إلى غيره" متعلق بقوله"ولم تتعدوا فيه... ".
121
مصدرًا من معناه لا من لفظه. وذلك أن في قوله:"أقرض" معنى"قرض"، كما في معنى"أعطى""أخذ". فكان معنى الكلام: وقَرَضْتم الله قرضًا حسنًا، ونظير ذلك: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا) [سورة نوح: ١٧] إذ كان في"أنبتكم" معنى:"فنبتم"، وكما قال امرؤالقيس:
وَرُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبَةً أيَّ إِذْلالِ (١)
إذ كان في"رضت" معنى"أذللت"، فخرج"الإذلال" مصدرا من معناه لا من لفظه. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك بني إسرائيل، يقول لهم جل ثناؤه: لئن أقمتم الصلاة، أيها القوم الذين أعطوني ميثاقَهم بالوفاء بطاعتي واتباع أمري، وآتيتم الزكاة، وفعلتم سائرَ ما وعدتكم عليه جنّتي="لأكفرن عنكم سيئاتكم"،
(١) ديوانه: ١٤١، وغيره، وقبل البيت، يقول لصاحبته بعد ما سما إليها سمو حباب الماء:
حَلَفْتُ لَهَا بِاللهِ حَلْفَةَ فَاجِرٍ لَنَامُوا، فَمَا إنْ من حَدِيثٍ ولا صَالِي
فَلَمَّا تَنَازَعْنَا الْحَدِيثَ وأَسْمَحَتْ، هَصَرَتْ بُغِصْنٍ ذِي شَمَارِيخَ مَيَّالِ
وَصِرْنَا إِلَى الحُسْنَى، وَرَقَّ كَلامُنَا ورُضْتُ، فَذَلَّتْ صَعْبَةً أيَّ إِذْلالِ!!
و"راض الدابة أو غيرها يروضها": وطأها وذللها وعلمها السير.
(٢) انظر ما سلف ٥: ٥٣٣، ٥٣٤. هذا وقد سلف في ٥: ٢٨٢، ٢٨٣، "يقرض الله قرضا حسنا"، فلم يستوف الكلام هناك. وهذا باب من أبواب اختصار أبي جعفر تفسيره.
122
يقول: لأغطين بعفوي عنكم- وصفحي عن عقوبتكم، على سالف أجرامكم التي أجرمتموها فيما بيني وبينكم (١) - على ذنوبكم التي سلفت منكم من عبادة العجل وغيرها من موبقات ذنوبكم (٢)
="ولأدخلنكم" مع تغطيتي على ذلك منكم بفضلي يوم القيامة="جنات تجري من تحتها الأنهار".
* * *
فـ"الجنات" البساتين. (٣)
* * *
وإنما قلت معنى قوله:"لأكفرّن" لأغطين، لأن"الكفر" معناه الجحود، والتغطية، والستر، كما قال لبيد:
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا (٤)
يعني:"غطاها"، فـ"التكفير""التفعيل" من"الكَفْر".
* * *
واختلف أهل العربية في معنى"اللام" التي في قوله:"لأكفرن".
فقال بعض نحويي البصرة:"اللام" الأولى على معنى القسم= يعني"اللام" التي في قوله:"لئن أقمتم الصلاة" قال: والثانية معنى قسمٍ آخر.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: بل"اللام" الأولى وقعت موقع اليمين، فاكتفى بها عن اليمين= يعني بـ"اللام الأولى":"لئن أقمتم الصلاة". قال، و"اللام" الثانية= يعني قوله:"لأكفرنّ عنكم سيئاتكم"= جواب لها، يعني"اللام" التي في قوله:"لئن أقمتم الصلاة" واعتلّ لقيله ذلك بأن قوله:"لئن أقمتم الصلاة"
(١) سياق الجملة: "لأغطين بعفوي عنكم.. على ذنوبكم.."
(٢) انظر تفسير"التكفير" و"السيئات" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (كفر) و (سوأ).
(٣) انظر تفسير"الجنات" فيما سلف من فهارس اللغة (جنن).
(٤) سلف البيت وتمامه وتخريجه في ١: ٢٥٥.
123
غير تام ولا مستغنٍ عن قوله:"لأكفرن عنكم سيئاتكم". وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز أن يكون قوله:"لأكفرنّ عنكم سيئاتكم" قسما مبتدأ، بل الواجب أن يكون جوابًا لليمين إذْ كانت غير مستغنية عنه.
* * *
وقوله: (تجري من تحتها الأنهار) يقول: تجري من تحت أشجار هذه البساتين التي أدخلكموها الأنهار.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: فمن جحد منكم، يا معشر بني إسرائيل، شيئا مما أمرته به فتركه، أو ركب ما نهيته عنه فعمله بعد أخذي الميثاق عليه بالوفاء لي بطاعتي واجتناب معصيتي="فقد ضلَّ سواء السبيل" يقول: فقد أخطأ قصدَ الطريق الواضح، وزلَّ عن منهج السبيل القاصد.
* * *
"والضلال"، الركوب على غير هدى، وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع. (١)
* * *
وقوله"سواء" يعني به: وسط=: و"السبيل"، الطريق.
* * *
وقد بيَّنا تأويل ذلك كله في غير هذا الموضع، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٢)
* * *
(١) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف ٢: ٤٩٥، ٤٩٦/٦: ٦٦، ٥٨٤، ومواضع غيرها، التمسها في فهارس اللغة.
(٢) انظر تفسير"سواء السبيل" فيما سلف ٢: ٤٩٦، ٤٩٧، وفهارس اللغة في (سوى) و (سبل).
124
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ﴾
قال أبو جفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لا تعجبن من هؤلاء اليهود الذين همُّوا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك، ونكثوا العهدَ الذي بينك وبينهم، غدرًا منهم بك وبأصحابك، فإن ذلك من عاداتهم وعادات سَلَفهم، ومن ذلك أنَّي أخذت ميثاق سلفهم على عهد موسى ﷺ على طاعتي، وبعثت منهم اثنى عشر نقيبًا وقد تُخُيِّرُوا من جميعهم ليتحسَّسُوا أخبار الجبابرة، ووعدتهم النصرَ عليهم، وأن أورثهم أرضَهم وديارهم وأموالهم، بعد ما أريتهم من العِبَر والآيات- بإهلاك فرعون وقومِه في البحر، وفلق البحر لهم، وسائر العبر- ما أريتهم، (١) فنقضوا مِيثاقهم الذي واثقوني ونكثوا عهدي، فلعنتهم بنقضهم ميثاقهم. فإذْ كان ذلك من فعل خيارهم مع أياديَّ عندهم، فلا تستنكروا مثله من فعل أرَاذلهم.
* * *
=وفى الكلام محذوف اكتُفِي بدلالة الظاهر عليه، وذلك أن معنى الكلام:"فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل"- فنقضوا الميثاق، فلعنتهم="فبما نقضْهم ميثاقهم لعناهم" فاكتفى بقوله:"فبما نقضهم ميثاقهم" من ذكر"فنقضوا". (٢)
* * *
ويعني بقوله جل ثناؤه:"فبما نقضهم ميثاقهم"، فبنقضهم ميثاقهم، كما قال قتادة.
١١٥٨٤ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
(١) السياق: "بعد ما أريتهم من العبر والآيات.. ما أريتهم"، وما بين الخطين فصل مفسر.
(٢) انظر تفسير"النقص" فيما سلف ٩: ٣٦٣.
125
"فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم" يقول: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم. (١)
١١٥٨٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"فبما نقضهم ميثاقهم" قال: هو ميثاق أخذه الله على أهل التوراة فنقضوه.
* * *
وقد ذكرنا معنى"اللعن" في غير هذا الموضع. (٢)
* * *
و"الهاء والميم" من قوله:"فبما نقضهم" عائدتان على ذكر بني إسرائيل قبل.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهلِ المدينة وبعض أهل مكة والبصرة والكوفة: (قَاسِيَةً) بالألف=
* * *
=على تقدير"فاعلة" من"قسوة القلب"، من قول القائل:"قَسَا قلبه، فهو يقسُو وهو قاسٍ"، وذلك إذا غلظ واشتدّ وصار يابسًا صلبًا (٣) كما قال الراجز: وَقَدْ قَسَوْتُ وَقَسَتْ لِدَاتِي (٤)
* * *
=فتأويل الكلام على هذه القراءة: فلعنَّا الذين نقضوا عهدي ولم يفُوا بميثاقي من بني إسرائيل، بنقضهم ميثاقهم الذي واثقوني="وجعلنا قلوبهم قاسية"،
(١) الأثر: ١١٥٨٤- في المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا كثير، قال حدثنا يزيد"، وهو خطأ، وهو إسناد دائر في التفسير.
(٢) انظر تفسير"اللعن" فيما سلف ٩: ٢١٣، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير"القسوة" فيما سلف ٢: ٢٣٣.
(٤) مر تخريجه فيما سلف ٢: ٢٣٣، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٥٨.
126
غليظة يابسةً عن الإيمان بي، والتوفيق لطاعتي، منزوعةً منها الرأفةُ والرحمة.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَسِيَّةً).
* * *
ثم اختلف الذين قرأوا ذلك كذلك في تأويله.
فقال بعضهم: معنى ذلك معنى"القسوة"، لأن"فعيلة" في الذم أبلغ من"فاعلة"، فاخترنا قراءتها"قسية" على"قاسية" لذلك.
* * *
وقال آخرون منهم: بل معنى"قسِيَّة" غير معنى"القسوة"، وإنما"القسية" في هذا الموضع: القلوبُ التي لم يخلص إيمانها بالله، ولكن يخالط إيمانها كُفْر، كالدراهم"القَسِيَّة"، وهي التي يخالط فضّتها غشٌّ من نحاس أو رَصاص وغير ذلك، كما قال أبو زُبَيْد الطائي:
لَهَا صَوَاهِلُ فِي صُمِّ السِّلامِ كَمَا صَاحَ القَسِيَّاتُ فِي أَيْدِي الصَّيارِيفِ (١)
(١) المعاني الكبير: ١٠٢٤، ١٠٢٥، وأمالي القالى ١: ٢٨، وسمط اللآلئ: ١٢٨، ٩٣١، واللسان (أمر) (صهل) من قصيدته في رثاء أمير المؤمنين المقتول ظلمًا، ذي النورين عثمان بن عفان، يقول فيها:
يَا لَهْفَ نَفْسِي إنْ كَانَ الَّذِي زَعَمُوا حَقًّا، وَمَاذَا يَرُدُّ الْيَومَ تَلْهِيفِي!!
إِنْ كَانَ عُثْمَانُ أَمْسَى فَوْقَهُ أَمَرٌ كَرَاقِبِ العُونِ فَوْقَ القُنَّةِ المُوفِي
"الأمر" (بفتحتين) : الحجارة. و"العون" جمع"عانة"، وهي حمر الوحش."وراقب العون": الفحل الذي يحوطها ويحرسها على مربأة عالية، ينتظر مغيب الشمس فيرد بها الماء.
ثم يقول بعد ذلك:
يَا بُؤْسَ لْلأرْضِ، مَا غَالَتْ غَوَائِلُهَا مِنْ حُكْمِ عَدْلٍ وَجُودٍ غَيْرِ مَكْفُوفِ!!
على جَنَابَيْهِ مِنْ مَظَلُومَةٍ قِيَمٌ تَعَاوَرَتْهَا مَسَاحٍ كَالْمَنَاسِيفِ
لَهَا صَوَاهَلُ فِي صُمِّ السِّلامِ، كَمَا صَاحَ القَسِيَّاتُ فِي أَيْدِي الصَّيَارِيفِ
كَأنَّهُنَّ بِأَيْدِي الْقَوْمِ فِي كَبَدٍ طَيْرٌ تَكَشفُ عَنْ جُونٍ مَزَاحِيفِ
قوله: "جنابيه" أي: جانبيه."مظلومة": حفرت ولم تكن حفرت من قبل، يعني أرض لحده."قيم" جمع"قامة": يعني ما ارتفع من ركام تراب القبر. و"المساحي" جمع"مسحاة": وهي المجرفة من الحديد. و"المناسيف" جمع"منسفة"، وهي آلة يقلع بها البناء وينسف، أصلب وأشد من المسحاة. و"الصواهل" جمع"صاهلة" مصدر على"فاعلة"، بمعنى"الصهيل": وهو صوت الخيل الشديد، وكل صوت يشبهه. و"الصم" جمع"أصم"، يعني أنها حجارة صلبة تصهل منها المساحي. و"السلام" (بكسر السين) الصخور. و"الصياريف"هم"الصيارف"، وزاد الياء للإشباع. و"الكبد": الشدة. و"الجون": السود. و"مزاحيف"، تزحف من الإعياء، يعني إبلا قد هلكت من الإعياء. شبه المساحي بأيدي القوم وهم يحفرون قبره، بنسور تقع على الإبل المعيية، ثم تنهض، ثم تعود فتسقط عليها. وكان قبر عثمان في حرة المدينة ذات الحجارة السود، فلذلك قال: "عن جون مزاحيف".
127
يصف بذلك وقع مَسَاحي الذين حفروا قبر عثمان على الصخور، وهي"السِّلام".
* * *
قال أبو جعفر: وأعجبُ القراءتين إليّ في ذلك، قراءة من قرأ: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَسِيَّةً) على"فعيلة"، لأنها أبلغ في ذم القوم من"قاسية". وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويل من تأوله:"فعيلة" من"القسوة"، كما قيل:"نفس زكيّة" و"زاكية"، و"امرأة شاهدة" و"شهيدة"، لأن الله جل ثناؤه وصف القوم بنقضهم ميثاقَهم وكفرِهم به، ولم يصفهم بشيء من الإيمان، فتكون قلوبهم موصوفة بأنّ إيمانها يخالطه كفر، كالدراهم القَسِيَّة التي يخالط فضَّتها غشٌّ.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: وجعلنا قلوب هؤلاء الذين نقضوا عهودَنا من بني إسرائيل قَسِيَّة، منزوعا منها الخير، مرفوعًا منها التوفيق، فلا يؤمنون ولا يهتدون، فهم لنزعِ الله عز وجل التوفيقَ من قلوبهم والإيمانَ، يحرّفون كلام
128
ربِّهم الذي أنزله على نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم، وهو التوراة، فيبدّلونه، ويكتبون بأيديهم غير الذي أنزله الله جل وعز على نبيهم، ثم يقولون لجهال الناس: (١) "هذا هو كلام الله الذي أنزله على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم، والتوراة التي أوحاها إليه". (٢) وهذا من صفة القرون التي كانت بعد موسى من اليهود، ممن أدرك بعضُهم عصرَ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن الله عزّ ذكره أدخلهم في عِدَاد الذين ابتدأ الخبر عنهم ممن أدرَك موسى منهم، إذ كانوا من أبنائهم وعلى منهاجهم في الكذب على الله، والفرية عليه، ونقض المواثيق التي أخذها عليهم في التوراة، كما:-
١١٥٨٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"يحرّفون الكلم عن مواضعه" يعني: حدود الله في التوراة، ويقولون: إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه، وإن خالفكم فاحذروا.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾
يعني تعالى ذكره بقوله:"ونسوا حظًّا" وتركوا نصيبا، وهو كقوله: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) [سورة التوبة: ٦٧] أي: تركوا أمر الله فتركهم الله. (٣)
* * *
وقد مضى بيان ذلك بشواهده في غير هذا الموضع، فأغنى ذلك عن إعادته. (٤)
* * *
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(١) في المطبوعة: "ويقولون"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) انظر تفسير"تحريف الكلم عن مواضعه" فيما سلف ٢: ٢٤٨/٨: ٤٣٠-٤٣٢.
(٣) انظر تفسير"النسيان" فيما سلف ٢: ٩، ٤٧٦/٥: ١٦٤/٦: ١٣٣- ١٣٥.
(٤) انظر التعليق السالف، وتفسير"حظ" فيما سلف من فهارس اللغة.
129
ذكر من قال ذلك:
١١٥٨٧ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ونسوا حظًّا مما ذكروا به" يقول: تركوا نصيبًا.
١١٥٨٨ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن في قوله:"ونسوا حظًّا مما ذكروا به" قال: تركوا عُرَى دينهم، ووظائفَ الله جل ثناؤه التي لا تُقْبل الأعمال إلا بها. (١)
..............................................
................................................ (٢)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ﴾
قال أبو جعفر: يقول تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولا تزال يا محمد تَطَّلع من اليهود= الذين أنبأتك نبأهم، من نقضهم ميثاقي، ونكثهم
(١) "الوظائف" جمع"وظيفة"، وهي من كل شيء، ما يقدر له في كل يوم من رزق أو طعام أو علف أو شراب. ثم قالوا: "وظف الشيء على نفسه توظيفا"، أي: ألزمها إياه، وقالوا: "عليه كل يوم وظيفة من عمل"، أي: ما ألزم عمله في يومه هذا. وعنى الحسن بقوله"وظائف الله"، فروضه التي ألزمها عباده في الإيمان به، وطاعته، وإخلاص النية له سبحانه. وهذا حرف ينبغي تقييده في كتب اللغة، من كلام الحسن رضي الله عنه.
(٢) وضعت هذه النقط دلالة على سقط أو خرم في نسخ ناسخ المخطوطة. وذلك أنه كتب في أول تفسير هذا الجزء من الآية: "ونسوا حظًا"، ثم ساق كلام أبي جعفر إلى آخر الخبر رقم: ١١٥٨٨.
ثم بدأ بعد ذلك هكذا: "القول في تأويل قوله عز ذكره: "مما ذكروا به" = ثم ساق تفسير الجزء التالي من الآية، وهو: "ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم". ولم يكتب هذا الجزء من الآية، والتفسير تفسيرها. فاتضح من ذلك أن الناسخ نسى تفسير"مما ذكروا" فسقط منه. ولم يذكر الآية التي يفسرها كلام أبي جعفر.
هذا، وانظر معنى"التذكير" فيما سلف ٥: ٥٨٠/٦: ٦٢-٦٥، ٢١١.
130
عهدي، مع أياديَّ عندهم، ونعمتي عليهم= على مثل ذلك من الغدر والخيانة="إلا قليلا منهم"، إلا قليلا منهم [لم يحزنزا]. (١)
* * *
و"الخائنة" في هذا الموضع: الخيانة، وُضع وهو اسمٌ- موضع المصدر، كما قيل:"خاطئة"، للخطيئة (٢) و"قائلة" للقيلولة.
* * *
وقوله:"إلا قليلا منهم"، استثناء من"الهاء والميم" اللتين في قوله:"على خائنة منهم".
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١١٥٨٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تزال تطلع على خائنة منهم" قال: على خيانة وكذب وفجور.
١١٥٩٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل وعزّ:"ولا تزال تطلع على خائنة منهم" قال: هم يهودُ مِثْلُ الذي هموا به من النبي ﷺ يوم دخل حائطهم.
(١) في المطبوعة، وقف عند قوله: "إلا قليلا منهم"، وأسقط: "إلا قليلا منهم لم يخونوا". وفي المخطوطة سقط من الناسخ"لم يخونوا" فكتب"إلا قليلا منهم، إلا قليلا منهم". واستظهرت"لم يخونوا"ووضعتها بين قوسين، من قوله بعد: إنه استثناء من الهاء والميم في"خائنة منهم".
(٢) في المطبوعة: "خاطئة، للخطأة"، كأنه استنكرها، وسيأتي في تفسير أبي جعفر ٢٩: ٣٣ (بولاق) في تفسير قوله تعالى: "والموتفكات بالخاطئة"، قال، "بالخاطئة، يعني بالخطيئة". وهكذا كتب أبو جعفر كما ترى، وإن كان لا يعجبني هذا التمثيل، بل كنت أوثر أن يقول إنه مصدر جاء على فاعلة، مثل"العافية". إلا أن يكون أبو جعفر أراد أن"الخطيئة" مصدر على"فعيلة" كالشبيبة والفضيحة، وأشباهها، وهي قليلة.
131
١١٥٩١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
١١٥٩٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد وعكرمة قوله:"ولا تزال تطلع على خائنة منهم" من يهود مثلُ الذي همُّوا بالنبي ﷺ يوم دخل عليهم.
* * *
وقال بعض القائلين: (١) معنى ذلك: ولا تزال تطلع على خائن منهم، قال: والعرب تزيد"الهاء" في آخر المذكر كقولهم:"هو راوية للشعر"، و"رجل علامة"، وأنشد: (٢)
حَدَّثْتَ نَفْسَكَ بِالوَفَاءِ ولَمْ تَكُنْ لِلغَدْرِ خَائِنَةً مُغِلَّ الإصْبَعِ (٣)
(١) ما أشد استنكار أبي جعفر لمقالات أبي عبيدة معمر بن المثنى، حتى يذكره مجهلا بأساليب مختلفة!! وهذا الآتي هو نص كلام أبي عبيدة في مجاز القرآن ١: ١٥٨.
(٢) هو رجل من السواقط، من بني أبي بكر بن كلاب. و"السواقط" هم الذين يردون اليمامة لامتياز التمر.
(٣) الكامل للمبرد ١: ٢١١، مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٥٨، وإصلاح المنطق: ٢٩٥، واللسان (صبع) (غلل) (خون). وهذا من شعر له خبر. وذلك أن هذا الشاعر لما ورد اليمامة كان معه أخ له جميل، فنزل جارا لعمير بن سلمى، فقال قرين أخو عمير للكلابي: "لا تردن أبياتنا بأخيك هذا"، مخافة جماله، فرآه قرين بين أبياتهم بعد، وأخوه عمير غائب، فقتله. فجاء الكلابي قبر سلمى (أبي عمير، وقرين) فاستجار به وقال: حَدَّثْتَ نَفْسَك........................................
فلجأ قرين إلى وجوه بني حنيفة (وهم زيد بن يربوع، وآل مجمع)، فحملوا إلى الكلابي ديات مضاعفة، فأبى أن يقبلها. فلما قدم عمير، فقالت له أمه: "لا تقتل أخاك، وسق إلى الكلابي جميع ماله"، فأبى الكلابي أن يقبل. فأخذ عمير أخاه قرينًا فقتله، وقال:وقالت أم عمير لعمير:
وَإِذَا اسْتَجَرْتَ مِنَ الْيَمَامَةِ فَاسْتَجِرْ زَيْدَ بن يَرْبُوعٍ وَآلَ مُجَمِّعِ
وَأَتَيْتُ سُلْمِيَّا فَعُذْتُ بِقَبْرِهِ وَأَخُو الزَّمَانَةِ عَائِذٌ بِالأمْنَعِ
أَقَرِينُ إِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ فَوَارِسِي بِعَمَايَتَيْنَ إِلَى جَوَانِبِ ضَلْفَعِ
قَتَلْنَا أَخَانَا لِلْوَفَاءِ بِجَارِنَا وَكَانَ أَبُونَا قَدْ تُجِيرُ مَقابِرُهْ
تَعُدُّ مَعَاذِرًا لا عُذْرَ فِيهَا وَمَنْ يَقْتُلْ أَخَاهُ فَقَدْ أَلاَمَا
وقوله: "أخو الزمانة"، هي العاهة، يريد ضعفه عن درك ثأره. و"عمايتان" و"ضلفع" مواضع من بلاد هذا الكلابي. وقوله"مغل الإصبع"، كناية عن الخيانة والسرقة."أغل يغل": خان الأمانة خلسة. ويقول بعضهم: "مغل الإصبع"، منصوب على النداء.
132
فقال:"خائنة"، وهو يخاطب رجلا.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من التأويل في ذلك، القولُ الذي رويناه عن أهل التأويل. لأنّ الله عنى بهذه الآية، القوم من يهود بني النضير الذين همُّوا بقتل رسول الله ﷺ وأصحابه، إذ أتاهم رسول الله ﷺ يستعينهم في دية العامريّين، فأطلعه الله عز ذكره على ما قد همُّوا به. ثم قال جل ثناؤه بعد تعريفِه أخبار أوائلهم، وإعلامه منهج أسلافهم، وأنَّ آخرهم على منهاج أوّلهم في الغدر والخيانة، لئلا يكبُر فعلُهم ذلك على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فقال جل ثناؤه: ولا تزال تطَّلع من اليهود على خيانة وغدرٍ ونقضِ عهد= ولم يرد أنّه لا يزال يطلع على رجل منهم خائنٍ. وذلك أن الخبر ابتُدِئ به عن جماعتهم فقيل:"يا أيها الذين آمنوا اذكرُوا نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم"، ثم قيل:"ولا تزال تطلع على خائنة منهم"، فإذ كان الابتداء عن الجماعة، فالختْمُ بالجماعة أولى. (١)
* * *
(١) في المطبوعة: "فلتختم بالجماعة أولى"، ولست أدري فيم يغير الصواب المستقيم!
133
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) ﴾
قال أبو جعفر: وهذ أمر من الله عز ذكره نبيَّه محمدًا ﷺ بالعفو عن هؤلاء القوم الذين همُّوا أن يبسطوا أيديهم إليه من اليهود. يقول الله جل وعز له: اعف، يا محمد، عن هؤلاء اليهود الذين همُّوا بما هموا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل، واصفح لهم عن جُرْمهم بترك التعرُّض لمكروههم، فإني أحب من أحسنَ العفو والصَّفح إلى من أساء إليه. (١)
* * *
وكان قتادة يقول: هذه منسوخة. ويقول: نسختها آية"براءة": (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) الآية [سورة التوبة: ٢٩].
١١٥٩٣ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فاعف عنهم واصفح"، قال: نسختها: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ).
١١٥٩٤ - حدثني المثني قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا همام، عن قتادة:"فاعف عنهم واصفح إنّ الله يحب المحسنين"، ولم يؤمر يومئذ بقتالهم، فأمره الله عز ذكره أن يعفو عنهم ويصفح. ثم نسخ ذلك في"براءة" فقال: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [سورة التوبة: ٢٩]، وهم أهل الكتاب، فأمر الله
(١) انظر تفسير"العفو" فيما سلف من فهارس اللغة = وتفسير"الصفح" فيما سلف ٢: ٥٠٣ = وتفسير"المحسنين"، فيما سلف من فهارس اللغة.
134
جل ثناؤه نبيَّه ﷺ أن يقاتلهم حتى يسلموا أو يقرُّوا بالجزية.
١١٥٩٥ - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال، قرأت على ابن أبي عروبة، عن قتادة، نحوه.
* * *
قال أبو جعفر: والذي قاله قتادة غير مدفوع إمكانهُ، غير أن الناسخ الذي لا شك فيه من الأمر، هو ما كان نافيًا كلَّ معاني خلافهِ الذي كان قبله، فأمَّا ما كان غير نافٍ جميعَه، فلا سبيل إلى العلم بأنه ناسخ إلا بخبر من الله جل وعز أو من رسوله صلى الله عليه وسلم. وليس في قوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) دلالةٌ على الأمر بنفي معاني الصَّفح والعفو عن اليهود.
وإذ كان ذلك كذلك= وكان جائزًا مع إقرارهم بالصَّغار وأدائهم الجزية بعد القتال، الأمرُ بالعفو عنهم في غَدْرة همُّوا بها، أو نكثةٍ عزموا عليها، ما لم يَنْصِبُوا حربًا دون أداء الجزية، (١) ويمتنعوا من الأحكام اللازمَتِهم (٢) = لم يكن واجبا أن يحكم لقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) الآية، بأنه ناسخ قوله:"فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين".
* * *
(١) في المطبوعة: "ما لم يصيبوا حربًا"، والصواب المحض من المخطوطة. يقال: "نصب له الحرب نصبًا": وضعها وأظهرها، وأعلنها. و"ناصبه الحرب والعداوة": أي أظهرها ولج في إظهارها.
(٢) في المطبوعة: "اللازمة منهم"، غير صواب المخطوطة، إلى ما درج عليه كلام أمثاله، وقد مضى مثل ذلك مرارًا، ومضى مثل ذلك من فعل الناشر.
135
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: وأخذنا من النصارى الميثاقَ على طاعتي وأداء فرائضي، واتباع رسلي والتصديق بهم، فسلكوا في ميثاقي الذي أخذتُه عليهم منهاج الأمة الضالة من اليهود، فبدلوا كذلك دينَهم، ونقضوه نقضَهم، (١) وتركوا حظّهم من ميثاقي الذي أخذته عليهم بالوفاء بعهدي، وضيَّعوا أمري، (٢) كما:-
١١٥٩٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ومن الذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظًّا مما ذكروا به"، نسوا كتاب الله بين أظهرهم، وعهدَ الله الذي عهده إليهم، وأمرَ الله الذي أمرهم به.
١١٥٩٧ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قالت النصارى مثل ما قالت اليهود، ونسوا حظًّا مما ذكروا به.
* * *
(١) في المطبوعة: "ونقضوا"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) انظر تفسير"أخذ الميثاق" فيما سلف ص: ١١٠، تعليق: ١، والمراجع هناك= وتفسير"النسيان" و"الحظ" فيما سلف ص: ١٢٩، تعليق: ٣، ٤، والمراجع هناك= وتفسير"التذكير" فيما سلف ص: ١٣٠، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
135
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فأغرينا بينهم" حرّشنا بينهم وألقينا، كما تغري الشيء بالشيء.
يقول جل ثناؤه: لما ترك هؤلاء النصارى، الذين أخذتُ ميثاقهم بالوفاء بعهدي، حظَّهم مما عهدتُ إليهم من أمري ونهيي، أغريتُ بينهم العداوة والبغضاء.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة"إغراء الله عز ذكره بينهم العداوة، والبغضاء". (١)
(١) انظر تفسير"البغضاء" فيما سلف ٧: ١٤٦.
136
فقال بعضهم: كان إغراؤه بينهم بالأهواء التي حَدَثت بينهم.
ذكر من قال ذلك:
١١٥٩٨ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال: أخبرنا العوام بن حوشب، عن إبراهيم النخعي في قوله:"فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء"، قال: هذه الأهواء المختلفة والتباغُض، فهو الإغراء.
١١٥٩٩ - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب قال: سمعت النخعي يقول:"فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء"، قال: أغرى بعضهم ببعض بخصُومات بالجدال في الدين.
١١٦٠٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا العوام بن حوشب، عن إبراهيم النخعي والتّيمي، قوله:"فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء"، قال: ما أرى"الإغراء" في هذه الآية إلا الأهواء المختلفة= وقال معاوية بن قرة: الخصومات في الدين تُحْبِط الأعمال.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك هو العداوة التي بينهم والبغضاء.
ذكر من قال ذلك:
١١٦٠١ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" الآية، إنّ القوم لما تركوا كتابَ الله، وعصَوْا رسله، وضَيّعوا فرائضه، وعطّلوا حدُوده، ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، بأعْمالهم أعمالِ السوء، ولو أخذ القوم كتاب الله وأمرَه، ما افترقوا ولا تباغَضُوا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأولين في ذلك عندنا بالحق، تأويلُ من قال:"أغرى بينهم بالأهواء التي حدثت بينهم"، كما قال إبراهيم النخعي، لأن عداوة النصارى
137
بينَهم، إنما هي باختلافهم في قولهم في المسيح، وذلك أهواءٌ، لا وحيٌ من الله.
* * *
واختلف أهل التأويل في المعنيِّ بـ"الهاء والميم" اللتين في قوله:"فأغرينا بينهم".
فقال بعضهم: عني بذلك اليهود والنصارى. فمعنى الكلام على قولِهم وتأويلهم: فأغرينا بين اليهود والنصارى، لنسيانهم حظًّا مما ذكّروا به.
ذكر من قال ذلك:
١١٦٠٢ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: وقال في النصارى أيضا:"فنسوا حظًّا مما ذكروا به"، فلما فعلوا ذلك، أغرى الله عز وجل بينَهم وبين اليهود العداوةَ والبغضاءَ إلى يوم القيامة.
١١٦٠٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة"، قال: هم اليهود والنصارى. قال ابن زيد: كما تُغْري بين اثنين من البهائم.
١١٦٠٤ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء"، قال: اليهود والنصارى.
١١٦٠٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١١٦٠٦ - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة قال: هم اليهود والنصارى، أغرى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
* * *
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك النصارَى وحدَها. وقالوا: معنى ذلك: فأغرينا بين النصارى، عقوبةً لها بنسيانها حظًّا مما ذكرت به. قالوا: وعليها عادت
138
"الهاء والميم" في"بينهم"، دون اليهود.
ذكر من قال ذلك:
١١٦٠٧ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، (١) عن أبيه، عن الربيع قال: إن الله عز ذكره تقدَّم إلى بني إسرائيل: أن لا تشتروا بآيات الله ثمنًا قليلا وعلموا الحكمة ولا تأخذوا عليها أجرًا، فلم يفعل ذلك إلا قليل منهم، فأخذُوا الرّشوة في الحكم، وجاوزوا الحدود، فقال في اليهود حيث حكموا بغير ما أمر الله: (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) [سورة المائدة: ٦٤]، وقال في النصارى:"فنسوا حظًّا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأولين بالآية عندي ما قاله الربيع بن أنس، وهو أنّ المعنيّ بالإغراء بينهم، النصارى، في هذه الآية خاصة= وأنّ"الهاء والميم" عائدتان على النصارى دون اليهود، لأن ذكر"الإغراء" في خبر الله عن النصارى، بعد تقضِّي خبره عن اليهود، وبعد ابتدائه خبَره عن النصارى، فلأنْ يكون ذلك معنيًّا به النصارى خاصًّة، (٢) أولى من أن يكون معنيًّا به الحزبان جميعًا، لما ذكرنا.
* * *
فإن قال قائل: وما العداوة التي بين النصارى، فتكون مخصوصة بمعنى ذلك؟
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "عبيد الله بن أبي جعفر"، والصواب"عبد الله" كما أثبته، وهو"عبد الله بن أبي جعفر الرازي"، مضى مئات من المرات في الأسانيد السالفة.
(٢) في المطبوعة: "فأن لا يكون ذلك معنيا به إلا النصارى خاصة"، وهو كلام بريء من العربية. وفي المخطوطة: "فلا يكون ذلك معنيا به إلا النصارى خاصة"، وهو مثله، ولكنه سهو من الناسخ وغفلة، أخطأ فكتب"فلأن يكون""فلا يكون"، ثم زاد"إلا". وهذا كله فساد، صوابه ما أثبت.
139
قيل: ذلك عداوة النسطوريةِ واليعقوبيةِ، والملكيةَ= والملكيةِ النسطوريةَ واليعقوبيةَ. (١) وليس الذي قاله من قال:"معنيٌّ بذلك: إغراء الله بين اليهود والنصارى" ببعيد، غير أن هذا أقرب عندي، وأشبهُ بتأويل الآية، لما ذكرنا.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (١٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم: اعفُ عن هؤلاء الذين همُّوا ببسط أيديهم إليك وإلى أصحابك واصفح، فإن الله عز وجل من وراء الانتقام منهم، وسينبئهم الله عند ورودهم عليه في معادهم، بما كانوا في الدنيا يصنعون، من نقضهم ميثاقه، ونكثهم عهده، وتبديلهم كتابه، وتحريفهم أمره ونهيه، فيعاقبهم على ذلك حسب استحقاقهم.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره لجماعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أهل الكتاب" من اليهود والنصارى="قد جاءكم رسولنا"، يعني محمّدا صلى الله عليه وسلم، كما:-
(١) في المطبوعة: "ذلك عداوة النسطورية واليعقوبية والملكية النسطورية واليعقوبية". وهو كلام خال من المعنى، صوابه من المخطوطة. يعني عداوة هؤلاء لهؤلاء= وعداوة هؤلاء لهؤلاء.
140
١١٦٠٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا"، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقوله:"يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب"، يقول: يبين لكم محمّد رسولنا، كثيرًا مما كنتم تكتمونه الناسَ ولا تُبينونه لهم ممّا في كتابكم. وكان مما يخفونه من كتابهم فبيَّنه رسولُ الله ﷺ للناس: رَجْمُ الزَّانيين المحصنين.
* * *
وقيل: إن هذه الآية نزلت في تبيين رسول الله ﷺ ذلك للناس، من إخفائهم ذلك من كتابهم.
ذكر من قال ذلك:
١١٦٠٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال، من كفر بالرجم، فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب. قوله:"يا أهل الكتاب قد جاءكم رسوُلنا يبين لكم كثيرًا مما كنتم تخفون من الكتاب"، فكان الرجمُ مما أخفوا. (١).
١١٦١٠ - حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبَّويه، أخبرنا علي بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله. (٢).
(١) الأثر: ١١٦٠٩-"يحيى بن واضح"، أبو تميلة، مضى مرارا، منها: ٣٩٢.
و"الحسين بن واقد المروزي"، ثقة. مضى برقم: ٤٨١، ٦٣١١.
و"يزيد النحوي"، هو"يزيد بن أبي سعيد النحوي المروزي"، ثقة، مضى برقم: ٦٣١١. وهذا إسناد صحيح، وسيأتي تخريجه في الأثر التالي.
(٢) الأثر: ١١٦١٠-"عبد الله بن أحمد بن شبويه الخزاعي"، ثقة مضى برقم: ١٩٠٩، ٤٦١٢، ٤٩٢٣.
و"علي بن الحسن بن شقيق بن دينار"، ثقة، من شيوخ أحمد، مضى برقم: ١٥٩١، ١٩٠٩، ٩٩٥١، وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا: "علي بن الحسين"، وهو خطأ محض.
وهذا إسناد صحيح أيضا، مكرر الذي قبله. وهذا الخبر أخرجه الحاكم في المستدرك ٤: ٣٥٩ من طريق علي بن الحسن بن شقيق، بمثله، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٢٦٩، وزاد نسبته إلى ابن الضريس، والنسائي، وابن أبي حاتم.
فائدة: راجع أحاديث الرجم فيما سيأتي برقم ١١٩٢١-١١٩٢٤.
141
١١٦١١ - حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن عكرمة في قوله:"يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم"، إلى قوله:"صراط مستقيم"، قال: إنّ نبيّ الله أتاه اليهود يسألونه عن الرجم، واجتمعوا في بيتٍ، قال: أيُّكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صُوريا، فقال: أنت أعلمهم؟ قال، سل عما شئت، قال،"أنت أعلمهم؟ " قال: إنهم ليزعمون ذلك! قال: فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى، والذي رفع الطُّور، وناشده بالمواثيق التي أُخذت عليهم، حتى أخذه أفْكَل، (١) فقال: إن نساءنا نساء حسان، فكثر فينا القتل، فاختصرنا أُخصورةً، (٢) فجلدنا مئة، وحلقنا الرءوس، وخالفنا بين الرءوس إلى الدواب (٣) = أحسبه قال: الإبل= قال: فحكم عليهم بالرجم، فأنزل الله فيهم:"يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيين لكم"، الآية= وهذه الآية: (وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
(١) "أفكل" (علي وزن أفعل) : رعدة تعلو الإنسان من برد أو خوف أو غيرهما، وليس له فعل، وأنشد ابن بري:
بِعَيْشِكِ هَاتِي فَغَنِّي لَنَا فَإِنَّ نَدَامَاكِ لَمْ يَنْهَلُوا
فَبَاتَتْ تُغَنِّي بِغِرْبَالِهَا غِنَاء رُوَيْدًا لَهُ أفْكَلُ
(٢) قوله: "فاختصرنا أخصورة"، هكذا جاءت في المخطوطة أيضا. وفي تفسير أبي حيان ٣: ٤٤٧"فاختصرنا فجلدنا مئة مئة"، وحذف"أخصورة". ولم أجد لها في اللغة ذكرًا، بمعنى: شيئًا من الاختصار. والذي في الكتب"الخصيري" (بضم الخاء وفتح الصاد وسكون الياء بعدها راء مفتوحة)، وهي: حذف الفضول من كل شيء، مثل"الاختصار". فلعل صواب العبارة: "فاختصرنا خصيري"، أي اختصارا من حكم الرجم. وتركت ما في المطبوعة والمخطوطة، مخافة أن يكون في الكلمة تحريف لم أهتد إليه.
(٣) في تفسير أبي حيان"وخالفنا بين الرءوس على الدبرات"، وكأنه خطأ.
142
لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) [سورة البقرة: ٧٦]. (١)
* * *
وقوله:"ويعفو عن كثير" يعني بقوله:"ويعفو"، ويترك أخذكم بكثير مما كنتم تخفون من كتابكم الذي أنزله الله إليكم، وهو التوراة، فلا تعملون به حتى يأمره الله بأخذكم به. (٢).
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لهؤلاء الذين خاطبهم من أهل الكتاب:"قد جاءكم"، يا أهل التوراة والإنجيل="من الله نور"، يعني بالنور، محمدًا ﷺ الذي أنار الله به الحقَّ، وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك، فهو نور لمن استنار به يبيِّن الحق. ومن إنارته الحق، تبيينُه لليهود كثيرًا مما كانوا يخفون من الكتاب. (٣)
* * *
وقوله:"وكتاب مبين"، يقول: جل ثناؤه: قد جاءكم من الله تعالى النور الذي أنار لكم به معالم الحقِّ،="وكتاب مبين"، يعني كتابًا فيه بيان ما اختلفوا فيه بينهم: من توحيد الله، وحلاله وحرامه، وشرائع دينه، وهو القرآن الذي أنزله
(١) الأثر: ١١٦١١- في هذا الأثر، ذكر سبب نزول آية"سورة البقرة": ٧٦، ولم يذكره أبو جعفر في تفسير الآية هناك (٢: ٢٥٠-٢٥٤)، مع أنه يصلح أن يكون وجهًا آخر في تفسير الآية، وأن يكون مرادًا بها"الرجم". فهذا دليل آخر على اختصار أبي جعفر تفسيره، وهو أيضا وجه من وجوه منهجه في اختصاره.
(٢) انظر تفسير"العفو" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٣) انظر تفسير"نور" فيما سلف ٩: ٤٢٨.
على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يبين للناس جميع ما بهم الحاجةُ إليه من أمر دينهم، ويوضحه لهم، حتى يعرفوا حقَّه من باطله. (١)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ﴾
قال أبو جعفر: يعني عز ذكره: يهدي بهذا الكتاب المبين الذي جاء من الله جل جلاله= ويعني بقوله:"يهدي به الله"، يرشد به الله ويسدِّد به، (٢) = و"الهاء" في قوله:"به" عائدة على"الكتاب"="من اتبع رضوانه"، يقول: من اتبع رِضَى الله. (٣)
* * *
واختلف في معنى"الرضى" من الله جل وعز.
فقال بعضهم: الرضى منه بالشيء"، القبول له والمدح والثناء. قالوا: فهو قابل الإيمان، ومُزَكّ له، ومثنٍ على المؤمن بالإيمان، وواصفٌ الإيمانَ بأنه نور وهُدًى وفصْل. (٤)
* * *
وقال آخرون: معنى"الرضى" من الله جل وعز، معنى مفهوم، هو
(١) انظر تفسير"مبين" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٢) انظر تفسير"يهدي" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٣) انظر تفسير"الرضوان" فيما سلف ٦: ٢٦٢/٩: ٤٨٠.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "وفضل" بالضاد المعجمة، و"الفصل" هنا هو حق المعنى، لأنه يفصل بين الحق والباطل.
144
خلاف السخط، وهو صفة من صفاته على ما يعقل من معاني:"الرضى" الذي هو خلاف السخط، وليس ذلك بالمدح، لأن المدح والثناء قولٌ، وإنما يثنى ويمدح ما قد رُضِي. قالوا: فالرضا معنًى، و"الثناء" و"المدح" معنًى ليس به.
* * *
ويعني بقوله:"سُبُل السلام"، طرق السلام (١) = و"السلام"، هو الله عزَّ ذكره.
١١٦١٢ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"من اتبع رضوانه سبل السلام"، سبيل الله الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه، وابتعث به رسله، وهو الإسلام الذي لا يقبل من أحد عملا إلا به، لا اليهودية، ولا النصرانية، ولا المجوسية.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ﴾
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: يهدي الله بهذا الكتاب المبين، من اتبع رضوان الله إلى سبل السلام وشرائع دينه="ويخرجهم"، يقول: ويخرج من اتبع رضوانه= و"الهاء والميم" في:"ويخرجهم" إلى من ذُكر="من الظلمات إلى النور"، يعني: من ظلمات الكفر والشرك، إلى نور الإسلام وضيائه (٢) ="بإذنه"، يعني: بإذن الله جل وعز. و"إذنه في هذا الموضع: تحبيبه إياه الإيمان برفع طابَع الكفر عن قلبه، وخاتم الشرك عنه، وتوفيقه لإبصار سُبُل السّلام. (٣)
* * *
(١) انظر تفسير"سبيل" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٢) انظر تفسير"من الظلمات إلى النور" فيما سلف ٥: ٤٢٤-٤٢٦.
(٣) انظر تفسير"الإذن" فيما سلف ٨: ٥١٦، تعليق: ١، والمراجع هناك.
145
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني عز ذكره بقوله:"ويهديهم"، ويرشدهم ويسددهم (١) ="إلى صراط مستقيم"، يقول: إلى طريق مستقيم، وهو دين الله القويم الذي لا اعوجاج فيه. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾
قال أبو جعفر: هذا ذمٌّ من الله عز ذكره للنصارى والنصرانية، الذين ضلُّوا عن سبل السلام= واحتجاجٌ منه لنبيه محمد ﷺ في فِرْيتهم عليه بادّعائهم له ولدًا.
يقول جل ثناؤه: أقسم، لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم= و"كفرهم" في ذلك، تغطيتهم الحقّ في تركهم نفي الولد عن الله جل وعز، وادِّعائهم أن المسيح هو الله، فرية وكذبًا عليه. (٣)
* * *
وقد بينا معنى:"المسيح" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٤).
* * *
(١) انظر تفسير"يهدي" في فهارس اللغة.
(٢) انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف ٨: ٥٢٩، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير"الكفر" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٤) انظر تفسير"المسيح" فيما سلف ٩: ٤١٧، تعليق: ١، والمراجع هناك.
146
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، للنصارى الذين افتروا عليّ، وضلُّوا عن سواء السبيل بقيلهم: إنّ الله هو المسيح ابن مريم:"من يملك من الله شيئًا"، يقول: من الذي يطيق أن يدفع من أمر الله جل وعز شيئا، فيردّه إذا قضاه.
* * *
= من قول القائل:"ملكت على فلان أمره"، إذا صار لا يقدر أن ينفذ أمرًا إلا به. (١)
* * *
وقوله:"إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا"، يقول: من ذا الذي يقدر أن يرد من أمر الله شيئًا، إن شاء أن يهلك المسيح بن مريم، بإعدامه من الأرض وإعدام أمه مريم، وإعدام جميع من في الأرض من الخلق جميعا. (٢)
* * *
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الجهلة من النصارى: لو كان المسيح كما تزعمون= أنّه هو الله، وليس كذلك= لقدر أن يردَّ أمرَ الله إذا جاءه بإهلاكه وإهلاك أمه. وقد أهلك أمَّه فلم يقدر على دفع أمره فيها إذْ نزل ذلك. ففي ذلك لكم معتَبرٌ إن اعتبرتم، وحجة عليكم إن عقلتم: في أن المسيح، بَشَر كسائر بني آدم، وأن الله عز وجل هو الذي لا يغلب ولا يقهر ولا يردُّ له
(١) هذا بيان قلما تصيبه في كتب اللغة.
(٢) انظر تفسير"الإهلاك" فيما سلف ٤: ٢٣٩، ٢٤٠/٩: ٤٣٠.
147
أمر، بل هو الحيُّ الدائم القيُّوم الذي يحيي ويميت، وينشئ ويفني، وهو حي لا يموت.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾
قال أبو جعفر: يعني تبارك وتعالى بذلك: والله له تصريف ما في السموات والأرض وما بينهما (١) = يعني: وما بين السماء والأرض= يهلك من يشاء من ذلك ويبقي ما يشاء منه، ويوجد ما أراد ويعدم ما أحبّ، لا يمنعه من شيء أراد من ذلك مانع، ولا يدفعه عنه دافع، يُنْفِذ فيهم حكمه، ويُمضي فيهم قضاءه= لا المسيح الذي إن أراد إهلاكه ربُّه وإهلاكَ أمّه، لم يملك دفع ما أراد به ربُّه من ذلك.
* * *
يقول جل وعز: كيف يكون إلهًا يُعبد من كان عاجزًا عن دفع ما أراد به غيره من السوء، وغير قادرٍ على صرف ما نزل به من الهلاك؟ بل الإله المعبود، الذي له ملك كل شيء، وبيده تصريف كل من في السماءِ والأرض وما بينهما.
* * *
فقال جل ثناؤه:"وما بينهما"، وقد ذكر"السموات" بلفظ الجمع، ولم يقل:"وما بينهن"، لأن المعنى: وما بين هذين النوعين من الأشياء، كما قال الراعي:
(١) انظر تفسير"الملك" فيما سلف ٨: ٤٨، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
148
طَرَقَا، فَتِلْكَ هَمَاهِمِي، أَقْرِيهِمَا قُلُصًا لَوَاقِحَ كَالقِسِيِّ وَحُولا (١)
فقال:"طرقا"، مخبًرا عن شيئين، ثم قال:"فتلك هَمَاهمي"، فرجع إلى معنى الكلام.
* * *
وقوله:"يخلق ما يشاء"، يقول جل ثناؤه: وينشئ ما يشاء ويوجده، ويخرجُه من حال العدم إلى حال الوجود، ولن يقدر على ذلك غير الله الواحد القهَّار. وإنما يعني بذلك، أنّ له تدبير السموات والأرض وما بينهما وتصريفه، وإفناءه وإعدامه، وإيجادَ ما يشاء مما هو غير موجود ولا مُنْشأ. يقول: فليس ذلك لأحد سواي، فكيف زعمتم، أيها الكذبة، أنّ المسيح إله، وهو لا يطيق شيئا من ذلك، بل لا يقدر على دفع الضرَر عن نفسه ولا عن أمه، ولا اجتلابِ نفعٍ إليها إلا بإذني؟
* * *
(١) من قصيدته في جمهرة أشعار العرب: ١٧٣، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١١٨، ١٦٠، يقول لابنته خليدة:قَالَتْ خُلَيْدَةُ: طَرَقَا، فَتِلْكَ هَمَا هِي...........................
لَمَّا رَأَتْ أَرَقِي وَطُولَ تَلَدُّدِي ذَاتَ الْعِشَاء وَلَيْلَيِ الْمَوْصُولا
مَا عَرَاكَ، وَلَمْ تَكُنْ أَبَدًا إِذَا عَرَتِ الشُّئُونُ سَؤُولا
أَخُلَيْدَ، إِنَّ أَبَاكِ ضَافَ وِسَادَهُ هَمَّان باتَا جَنْبَةً وَدَخِيلا
"الهماهم": الهموم. و"قلص" جمع"قلوص": الفتية من الإبل."لواقح": حوامل، جمع"لاقح". و"الحول"، جمع"حائل"، وهي الناقة التي لم تحمل سنة أو سنتين أو سنوات، وكذلك كل حامل ينقطع عنها الحمل. يقول: أجعل قرى هذه الهموم، نوقًا هذه صفاتها، كأنها قسى موترة من طول أسفارها، فأضرب بها الفيافي.
والشاهد الذي أراده الطبري أنه قال: "فتلك هماهمي"، وقد ذكر قبل"همان"، ثم عاد بعد يقول: "أقريهما"، وقد قال: "فتلك هماهمي" جمعًا. وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١١٨، ١٦٠.
149
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: الله المعبودُ، هو القادر على كل شيء، والمالك كلَّ شيء، الذي لا يعجزُه شيء أراده، ولا يغلبه شيء طلبه، المقتدرُ على هلاك المسيح وأمه ومن في الأرض جميعًا = لا العاجز الذي لا يقدر على منع نفسه من ضُرّ نزل به من الله، ولا منْعِ أمّه من الهلاك. (١)
* * *
(١) انظر تفسير"قدير" فيما سلف من فهارس اللغة.
150
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل وعز عن قوم من اليهود والنصارى أنهم قالوا هذا القول.
* * *
وقد ذكر عن ابن عباس تسمية الذين قالوا ذلك من اليهود.
١١٦١٣ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: أتى رسولَ الله ﷺ نعمانُ بن أضَاء (١) وبحريّ بن عمرو، وشأس بن عدي، فكلموه، فكلّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الله وحذّرهم نقمته، فقالوا: ما تُخَوّفنا،
(١) في المطبوعة: "نعمان بن أحي، ويحرى بن عمرو.."، وفي المخطوطة:
150
يا محمد!! نحن والله أبناء الله وأحبَّاؤه!! (١) = كقول النصارى، فأنزل الله جل وعز فيهم:"وقالت اليهودُ والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه"، إلى آخر الآية. (٢)
* * *
وكان السدي يقول في ذلك بما:
١١٦١٤ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه"، أما"أبناء الله"، فإنهم قالوا: إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدًا من ولدك، (٣) أدخلهم النار، فيكونون فيها أربعين يومًا حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم، ثم ينادي منادٍ: أن أخرجوا كل مختون من ولدِ إسرائيل، فأخرجهم. فذلك قوله: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) [سورة آل عمران: ٢٤]. وأما النصارى، فإن فريقًا منهم قال للمسيح: ابن الله. (٤)
* * *
والعرب قد تخرج الخبرَ، إذا افتخرت، مخرجَ الخبر عن الجماعة، وإن كان ما افتخرت به من فعل واحد منهم، فتقول:"نحن الأجواد الكرام"، وإنما الجواد فيهم واحدٌ منهم، وغير المتكلِّم الفاعلُ ذلك، كما قال جرير:
"عثمان بن أصار ويحوى بن عمرو "، وكلاهما خطأ، وصوابه من سيرة ابن هشام.
نَدَسْنَا أَبَا مَنْدُوسَةَ القَيْنَ بِالقَنَا وَمَارَ دَمٌ مِنْ جَارِ بَيْبَةَ نَاقعُ (٥)
(١) في المخطوطة: "نحن أبناء الله وأحباءه، بل أنتم بشر ممن خلق"، وهو من عجلة الناسخ لا شك في ذلك.
(٢) الأثر: ١١٦١٣- سيرة ابن هشام ٢: ٢١٢، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١١٥٥٧.
(٣) في المخطوطة: "إلى بني إسرائيل إن ولدك من الولد فأدخلهم النار"، وهو خلط بلا معنى، صوابه ما في المطبوعة على الأرجح.
(٤) الأثر: ١١٦١٤- لم يمض هذا الأثر في تفسير آية سورة البقرة: ٨٠ (٢: ٢٧٤-٢٧٨)، ولا آية سورة آل عمران: ٢٤ (٦: ٢٩٢، ٢٩٣). وهذا أيضا من الأدلة على اختصار أبي جعفر تفسيره.
(٥) ديوانه: ٣٧٢، والنقائض: ٦٩٣، واللسان (بيب) (مور) (ندس). و"ندس": طعن طعنًا خفيفًا. و"أبو مندوسة"، هو مرة بن سفيان بن مجاشع، جد الفرزذق. قتلته بنو يربوع -قوم جرير- في يوم الكلاب الأول. و"القين" لقب لرهط الفرزدق، يهجون به. و"جاربيبة"، هو الصمة بن الحارث الجشمي، قتله ثعلبة بن حصبة، وهو في جوار الحارث بن بيبة بن قرط بن سفيان بن مجاشع، من رهط الفرزدق. و"مار الدم على وجه الأرض": جرى وتحرك فجاء وذهب. و"دم ناقع"، أي: طري لم ييبس.
151
فقال:"نَدَسْنَا"، وإنما النادس رجل من قوم جريرٍ غيرُه، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن جماعة هو أحدهم. فكذا أخبر الله عزّ ذكره عن النصارى أنها قالت ذلك، على هذا الوجه إن شاء الله.
* * *
وقوله:"وأحباؤه"، وهو جمع"حبيب".
* * *
يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل" لهؤلاء الكذبة المفترين على ربهم="فلم يعذبكم" ربكم، يقول: فلأي شيء يعذبكم ربكم بذنوبكم، إن كان الأمر كما زعمتم أنكم أبناؤه وأحبّاؤه، فإن الحبيب لا يعذِّب حبيبه، وأنتم مقرُّون أنه معذبكم؟ وذلك أن اليهود قالت: إن الله معذبنا أربعين يومًا عَدَد الأيام التي عبدنا فيها العجل، (١) ثم يخرجنا جميعًا منها، فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم: إن كنتم، كما تقولون، أبناءُ الله وأحباؤه، فلم يعذبكم بذنوبكم؟ يعلمهم عز ذكره أنَّهم أهل فرية وكذب على الله جل وعز.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، قل لهم: ليس الأمر كما زعمتم أنكم أبناء الله وأحباؤه="بل أنتم بشر ممن خلق"، يقول: خلق من بني آدم، خلقكم الله مثل سائر بني آدم، (٢) إن أحسنتم جُوزيتم بإحسانكم،
(١) انظر ما سلف ٦: ٢٩٢.
(٢) انظر تفسير"بشر" فيما سلف ٦: ٥٣٨.
152
كما سائر بني آدم مجزيُّون بإحسانهم، وإن أسأتم جوزيتم بإساءتكم، كما غيركم مجزيٌّ بها، ليس لكم عند الله إلا ما لغيركم من خلقه، فإنه يغفر لمن يشاء من أهل الإيمان به ذنوبَه، فيصفح عنه بفضله، ويسترها عليه برحمته، فلا يعاقبه بها.
* * *
وقد بينا معنى"المغفرة"، في موضع غير هذا بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (١).
* * *
="ويعذب من يشاء" يقول: ويعدل على من يشاء من خلقه فيعاقبه على ذنوبه، ويفضَحه بها على رءوس الأشهاد فلا يسترها عليه.
* * *
وإنما هذا من الله عز وجل وعيد لهؤلاء اليهود والنصارى المتّكلين على منازل سَلَفهم الخيارِ عند الله، الذين فضلهم الله جل وعز بطاعتهم إياه، واجتباهم لمسارعتهم إلى رضاه، (٢) واصطبارهم على ما نابهم فيه. (٣) يقول لهم: لا تغتروا بمكان أولئك مني ومنازلهم عندي، فإنهم إنما نالوا ما نالوا منّي بالطاعة لي، وإيثار رضاي على محابِّهم= (٤) لا بالأماني، فجدُّوا في طاعتي، وانتهوا إلى أمري، وانزجروا عما نهيتُهم عنه، فإني إنما أغفر ذنوب من أشاء أن أغفر ذنوبه من أهل طاعتي، وأعذّب من أشاء تعذيبه من أهل معصيتي= (٥) لا لمن قرَّبتْ زُلْفَةُ آبائه مني، وهو لي عدوّ، ولأمري ونهيي مخالفٌ.
* * *
(١) انظر ما سلف ٢: ١٠٩، ١١٠، ثم سائر فهارس اللغة.
(٢) في المطبوعة: "واجتنابهم معصيته لمسارعتهم"، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة، وزاد"معصيته" لتستقيم له قراءته. و"الاجتباء": الاصطفاء والاختيار.
(٣) في المخطوطة: "إلى ما نابهم فيه"، والجيد ما في المطبوعة.
(٤) يقول: "نالوا ما نالوا مني بالطاعة لي.. لا بالأماني". هكذا السياق.
(٥) يقول: "فإني أغفر ذنوب من أشاء.. لا لمن قربت زلفة آبائه مني"، هكذا السياق.
153
وكان السدي يقول في ذلك بما:-
١١٦١٥ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء"، يقول: يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له، ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذِّبه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) ﴾
قال أبو جعفر يقول: لله تدبيرُ ما في السموات وما في الأرض وما بينهما، وتصريفُه، وبيده أمره، وله ملكه، (١) يصرفه كيف يشاء، ويدبره كيف أحبّ، (٢) لا شريك له في شيء منه، ولا لأحدٍ معهُ فيه ملك. فاعلموا أيها القائلون:"نحن أبناء الله وأحباؤه"، أنه إن عذبكم بذنوبكم، لم يكن لكم منه مانع، ولا لكم عنه دافع، لأنه لا نسب بين أحد وبينه فيحابيه لسبب ذلك، ولا لأحد في شيء دونه ملك، فيحول بينه وبينه إن أراد تعذيبه بذنوبه، (٣) وإليه مصير كل شيء ومرجعه. فاتَّقوا أيها المفترون، عقابَه إياكم على ذنوبكم بعد مرجعكم إليه، ولا تغتروا بالأمانيّ وفضائل الآباء والأسلاف.
* * *
(١) انظر تفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف قريبا ص: ١٤٨، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) في المطبوعة: "كيف أحبه"، وأثبت الجيد من المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "بذنبه"، وفي المخطوطة: "بدونه"، ورجحت ما أثبت.
154
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أهل الكتاب"، اليهودَ الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَر رسول الله ﷺ يوم نزلت هذه الآية. وذلك أنهم= أو: بعضهم، فيما ذكر= لما دعاهم رسول الله ﷺ إلى الإيمان به وبما جاءهم به من عند الله، قالوا: ما بعثَ الله من نبيّ بعد موسى، ولا أنزل بعد التوراة كتابًا!
١١٦١٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود: يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله! لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مَبعثه، وتصفونه لنا بصفته! فقال رافع بن حُرَيملة ووهب بن يهودا (١) ما قلنا هذا لكم، وما أنزل الله من كتاب بعد موسى، ولا أرسل بشيرًا ولا نذيرًا بعده! (٢) فأنزل الله عز وجل في [ذلك من] قولهما (٣) "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشيرٌ ونذيرٌ والله على كل شيء قدير". (٤)
* * *
(١) في المطبوعة: "رافع بن حرملة"، وفي المخطوطة: "نافع بن حرملة"، وأثبت ما في سيرة ابن هشام.
(٢) في المخطوطة: "ولا أرسل بشيرًا ونذيرًا"، والصواب ما في المطبوعة كما في سيرة ابن هشام.
(٣) الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام.
(٤) سيرة ابن هشام ٢: ٢١٢، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١١٦١٣.
155
ويعني بقوله جل ثناؤه:"فقد جاءكم رسولنا"، قد جاءكم محمد ﷺ رسولنا="يبين لكم"، يقول: يعرفكم الحقَّ، ويوضح لكم أعلام الهدى، ويرشدكم إلى دين الله المرتضى، (١) كما:-
١١٦١٧ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل"، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، جاء بالفرقان الذي فرَق الله به بين الحق والباطل، فيه بيان الله ونوره وهداه، وعصمةٌ لمن أخذ به.
* * *
="على فترة من الرسل"، يقول: على انقطاع من الرسل= و"الفترة" في هذا الموضع الانقطاع= يقول: قد جاءكم رسولنا يبين لكم الحق والهدى، على انقطاع من الرسل.
* * *
و"الفترة""الفعلة" من قول القائل:"فتر هذا الأمر يفتُر فُتورًا"، وذلك إذا هدأ وسكن. وكذلك"الفترة" في هذا الموضع، معناها: السكون، يراد به سكون مجيء الرسل، وذلك انقطاعها.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في قدر مدة تلك الفترة، فاختلف في الرواية في ذلك عن قتادة. فروى معمر عنه ما:-
١١٦١٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"على فترة من الرسل" قال: كان بين عيسى ومحمَّدٍ ﷺ خمسمائة وستون سنة.
* * *
(١) انظر تفسير"التبيين" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (بين).
156
وروى سعيد بن أبي عروبة عنه ما:-
١١٦١٩ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كانت الفترة بين عيسى ومحمّدٍ صلى الله عليهما، ذكر لنا أنها كانت ستمائة سنة، أو ما شاء من ذلك، والله أعلم. (١)
١١٦٢٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن أصحابه قوله:"قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل"، قال: كان بين عيسى ومحمد صلى لله عليهما خمسمائة سنة وأربعون سنة= قال معمر، قال قتادة: خمسمائة سنة وستون سنة.
* * *
وقال آخرون بما:-
١١٦٢١ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"على فترة من الرسل"، قال: كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما، أربعمائة سنة وبضعًا وثلاثين سنة.
ويعني بقوله:"أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير" أن لا تقولوا، وكي لا تقولوا، كما قال جل ثناؤه: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [سورة النساء: ١٧٦]، بمعنى: أن لا تضلوا، وكي لا تضلوا.
* * *
فمعنى الكلام: قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل، كي لا تقولوا ما جاءَنا من بشير ولا نذير. يعلمهم عز ذكره أنه قد قطَع عذرهم برسوله صلى الله عليه وسلم، وأبلغ إليهم في الحجة. (٢)
(١) كان في المطبوعة: "وما شاء الله" بالواو، وفي المطبوعة والمخطوطة: "الله أعلم" بغير واو. والصواب ما أثبت.
(٢) انظر ما سلف ٩: ٤٤٥، ٤٤٦.
157
ويعني بـ"البشير"، المبشر من أطاع الله وآمن به وبرسوله، وعمل بما آتاه من عند الله، بعظيم ثوابه في آخرته (١) = وبـ"النذير"، المنذر من عصاه وكذّب رسولَه ﷺ وعمل بغير ما أتاه من عند الله من أمره ونهيه، بما لا قبل له به من أليم عقابه في معاده، وشديد عذابه في قِيامته.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لهؤلاء اليهود الذين وصفنا صفتهم: قد أعذرنا إليكم، واحتججنا عليكم برسولنا محمد ﷺ إليكم، وأرسلناه إليكم ليبيّن لكم ما أشكل عليكم من أمر دينكم، كيلا تقولوا:"لم يأتنا من عندك رسولٌ يبيِّن لنا ما نحن عليه من الضلالة"، فقد جاءكم من عندي رسول يبشر من آمن بي وعمل بما أمرته وانتهى عما نهيته عنه، وينذر من عصاني وخالف أمري، وأنا القادر على كل شيء، أقدر على عقاب من عصاني، وثواب من أطاعني، فاتقوا عقابي على معصيتكم إياي وتكذيبكم رسولي، واطلبوا ثوابي على طاعتكم إياي وتصديقكم بشيري ونذيري، فإني أنا الذي لا يعجزه شيء أرادَه، ولا يفوته شيء طلبه. (٢)
(١) وانظر تفسير"البشارة" فيما سلف ٩: ٣١٨، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير"قدير" فيما سلف من فهارس اللغة.
158
القول في تأويل عز ذكره: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُم﴾
قال أبو جعفر: وهذا أيضا من الله تعريفٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قديمَ تمادي هؤلاء اليهود في الغيّ، وبعدِهم عن الحق، وسوء اختيارهم لأنفسهم، وشدة خلافهم لأنبيائهم، وبطء إنابتهم إلى الرشاد، مع كثرة نعم الله عندهم، وتتابع أياديه وآلائه عليهم= مسلِّيًا بذلك نبيه محمدًا ﷺ عما يحلّ به من علاجهم، وينزل به من مقاساتهم في ذات الله. يقول الله له صلى الله عليه وسلم: لا تأسَ على ما أصابك منهم، فإن الذهابَ عن الله، والبعد من الحق، وما فيه لهم الحظ في الدنيا والآخرة، من عاداتهم وعادات أسلافهم وأوائلهم= وتعزَّ بما لاقى منهم أخوك موسى صلى الله عليه وسلم= واذْكُر إذ قال موسى لهم:"يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم"، يقول: اذكروا أيادِي الله عندكم، وآلاءه قبلكم، (١) كما:-
١١٦٢٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة:"اذكروا نعمة الله عليكم"، قال: أيادي الله عندكم وأيَّامه. (٢)
١١٦٢٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"اذكروا نعمة الله عليكم" يقول: عافية الله عز وجل.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا ما قلنا، لأن الله لم يخصص من النعم شيئًا، بل عمَّ ذلك بذكر النعم، فذلك على العافية وغيرها، إذ كانت"العافية" أحد معاني"النعم".
(١) انظر تفسير"النعمة" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٢) الأثر: ١١٦٢٢-"عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبيد الله بن أسامة الأسدي الحميدي". روى عن ابن عيينة، والشافعي وهذه الطبقة. روى عن البخاري. ومضى برقم: ٩٩١٤.
159
القول في تأويل جل ثناؤه: ﴿إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنَّ موسى ذكَّر قومه من بني إسرائيل بأيَّام الله عندهم، وبآلائه قبلهم، مُحَرِّضهم بذلك على اتباع أمر الله في قتال الجبارين، (١) فقال لهم: اذكروا نعمة الله عليكم أنْ فضّلكم، بأن جعل فيكم أنبياء يأتونكم بوحيه، ويخبرونكم بأنباء الغيب، (٢) ولم يعط ذلك غيركم في زمانكم هذا. (٣)
=فقيل: إن الأنبياء الذين ذكَّرهم موسى أنهم جُعلوا فيهم: هم الذين اختارهم موسى إذ صار إلى الجبل، وهم السبعون الذين ذكرهم الله فقال: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا) [سورة الأعراف: ١٥٥].
* * *
="وجعلكم ملوكًا" سخر لكم من غيركم خدمًا يخدمونكم.
* * *
وقيل: إنما قال ذلك لهم موسى، لأنه لم يكن في ذلك الزمان أحدٌ سواهم يخدُمه أحد من بني آدم.
ذكر من قال ذلك:
١١٦٢٤ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياءَ
(١) في المطبوعة: "فحرضهم بذلك"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "ويخبرونكم بآياته الغيب"، وهو كلام فارغ من المعنى، وفي المخطوطة هكذا"بآياتنا الغيب"، وصواب قراءتها ما أثبت.
(٣) انظر تفسير"نبي" فيما سلف ٢: ١٤٠-١٤٢/٦: ٣٨٠، وغيرها في فهارس اللغة.
160
وجعلكم ملوكًا"، قال: كنا نحدَّثُ أنهم أول من سُخِّر لهم الخدَم من بني آدم ومَلَكوا.
* * *
وقال آخرون: كل من ملك بيتًا وخادمًا وامرأةً، فهو"ملك"، كائنًا من كان من الناس.
ذكر من قال ذلك:
١١٦٢٥ - حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا أبو هانئ: أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم! قال ألك مسكن تسكُنُه؟ قال: نعم! قال: فأنت من الأغنياء! فقال: إنّ لي خادمًا. قال: فأنت من الملوك. (١)
١١٦٢٦ - حدثنا الزبير بن بكار قال، حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض قال: سمعت زيد بن أسلم يقول:"وجعلكم ملوكًا" فلا أعلم إلا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان له بيتٌ وخادم فهو ملك. (٢)
١١٦٢٧ - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا العلاء بن عبد الجبار، عن
(١) الأثر: ١١٦٢٥-"أبو هانئ"، هو: "حميد بن هانئ الخولاني المصري" من ثقات التابعين، مضى: ٦٠٣٩، ٦٦٥٧.
و"أبو عبد الرحمن الحبلي"، هو: "عبد الله بن يزيد المعافري"، تابعي ثقة، مضى برقم: ٦٦٥٧، ٩٤٨٣.
وهذا حديث صحيح، رواه مسلم في صحيحه ١٨: ١٠٩، ١١٠، من طريق أبي الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، عن ابن وهب، بإسناده، مطولا.
وقصر السيوطي في الدر المنثور ١: ٢٧٠ فقال"أخرجه سعيد بن منصور"، واقتصر عليه.
(٢) الأثر: ١١٦٢٦-"الزبير بن بكار" شيخ الطبري، مضى برقم: ٧٨٥٥.
"وأنس بن عياض بن ضمرة"، ثقة. مضى برقم: ٧، ١٦٧٩.
والحديث خرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ٢٧٠، ولم ينسبه لابن جرير، ونسبه للزبير بن بكار في الموفقيات، ولأبي داود في مراسيله. وذكره ابن كثير في تفسيره ٣: ١١٢، ١١٣، وقال: "وهذا مرسل غريب".
161
حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن: أنه تلا هذه الآية:"وجعلكم ملوكًا"، فقال: وهل المُلْك إلا مركبٌ وخادمٌ ودار؟
فقال قائلو هذه المقالة: إنما قال لهم موسى ذلك، لأنهم كانوا يملكون الدّور والخدم، ولهم نساءٌ وأزواج.
ذكر من قال ذلك:
١١٦٢٨ - حدثنا سفيان بن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور= قال: أراه عن الحكم=:"وجعلكم ملوكًا"، قال: كانت بنو إسرائيل إذا كان للرجل منهم بيتٌ وامرأة وخادم، عُدَّ ملكًا.
١١٦٢٩ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان= ح، وحدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان= عن منصور، عن الحكم:"وجعلكم ملوكًا" قال: الدار والمرأة، والخادم= قال سفيان: أو اثنتين من الثلاثة. (١)
١١٦٣٠ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن رجل، عن ابن عباس في قوله:"وجعلكم ملوكًا" قال: البيت والخادم.
١١٦٣١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن الحكم أو غيره، عن ابن عباس في قوله:"وجعلكم ملوكًا" قال: الزوجة والخادم والبيت.
١١٦٣٢ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وجعلكم ملوكًا" قال: جعل لكم أزواجًا وخدمًا وبيوتًا.
١١٦٣٣ - حدثنا المثنى قال، حدثنا علي بن محمد الطنافسي قال، حدثنا
(١) في المطبوعة: "واثنتين" بالواو، والصواب من المخطوطة.
162
أبو معاوية، عن حجاج بن تميم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس في قول الله:"وجعلكم ملوكًا" قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار يسمَّى مَلِكًا. (١)
١١٦٣٤ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وجعلكم ملوكًا" قال: مُلْكُهم الخدم= قال قتادة: كانوا أوَّل من مَلك الخدم.
١١٦٣٥ - حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز بن أبان قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد:"وجعلكم ملوكًا" قال: جعل لكم أزواجًا وخدمًا وبيوتًا.
* * *
وقال آخرون: إنما عنى بقوله:"وجعلكم ملوكًا" أنهم يملكون أنفُسَهم وأهلِيهم وأموالهم.
ذكر من قال ذلك:
١١٦٣٦ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وجعلكم ملوكًا" يملك الرجل منكم نفسَه وأهلَه ومالَه.
(١) الأثر: ١١٦٣٣-"علي بن محمد بن إسحق الطنافسي"، روى عن أبي معاوية الضرير. ثقة صدوق. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/١/٢٠٢. وكان في المخطوطة"الطيالسي"، وهو خطأ من الناسخ.
و"أبو معاوية" الضرير، هو: "محمد بن خازم التميمي". ثقة كثير الحديث، كان يدلس. مضى برقم: ٢٧٨٣.
و"حجاج بن تميم الجزري". روى عن ميمون بن مهران، وروى عنه أبو معاوية الضرير. قال النسائي: "ليس بثقة"، وقال الأزدي: "ضعيف". وقال العقيلي: "روى عن ميمون بن مهران أحاديث لا يتابع عليها". وقال ابن حبان في الثقات: "روى عن ميمون بن مهران. روى عنه أبو معاوية الضرير". مترجم في التهذيب. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "حجاج بن نعيم"، وهو خطأ محض كما ترى.
163
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (٢٠) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف فيمن عنوا بهذا الخطاب.
فقال بعضهم: عني به أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
١١٦٣٧ - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك وسعيد بن جبير:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين"، قالا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون: عُنِي به قوم موسى صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
١١٦٣٨ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، هم قوم موسى.
١١٦٣٩ - حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز بن أبان قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين"، قال: هم بين ظهرانيه يومئذٍ. (١)
* * *
ثم اختلفوا في الذي آتاهمُ الله ما لم يؤت أحدًا من العالمين.
(١) الأثر ١١٦٣٩- هذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٣١١، ٣١٢، من طريق مصعب بن المقدام، عن سفيان بن سعيد، عن الأعمش، مطولا. ونصه: "الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ". وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
والذي في نص الطبري"هم بين ظهرانيه يومئذ"، الضمير بالإفراد، كأنه يعني"العالم" الذي هم بين ظهرانيه يومئذ.
والخبر خرجه السيوطه في الدر المنثور ١: ٢٦٩، وزاد نسبته للفريابي، وابن المنذر، والبيهقي في شعب الإيمان.
164
فقال بعضهم: هو المنّ والسلوى والحجر والغمام. (١)
ذكر من قال ذلك:
١١٦٤٠ - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين" قال: المنّ والسلوى والحجر والغمام.
١١٦٤١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين"، يعني: أهل ذلك الزمان، المنَّ والسلوى والحجر والغمام.
* * *
وقال آخرون: هو الدَّار والخادِم والزوجة.
ذكر من قال ذلك:
١١٦٤٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بشر بن السري، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين" قال: الرجل يكون له الدار والخادم والزوجة. (٢)
١١٦٤٣ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس:"وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين"، المنّ والسلوى والحجر والغمام.
* * *
(١) "الحجر"، يعني الحجر الذي ضربه موسى بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا. وانظر ما سلف ٢: ١١٩-١٢٢.
(٢) الأثر: ١١٦٤٢-"بشر بن السري البصري"، أبو عمرو الأفوه، ثقة كثير الحديث. روى له الجماعة، وهو من شيوخ أحمد. مترجم في التهذيب.
و"طلحة بن عمرو بن عثمان الحضرمي"، روى عن عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير وغيرهما. ضعيف جدًا، قال أحمد: "لا شيء، متروك الحديث". وقال ابن عدي: "روى عنه قوم ثقات، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه". وقال ابن حبان: "لا يحل كتب حديثه ولا الرواية عنه، إلا على جهة التعجب". مترجم في التهذيب.
165
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين"، في سياق قوله:"اذكروا نعمة الله عليكم"، ومعطوفٌ عليه. (١)
ولا دلالة في الكلام تدلّ على أن قوله:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين" مصروف عن خطاب الذين ابتدئَ بخطابهم في أوّل الآية. فإذ كان ذلك كذلك، فأنْ يكون خطابًا لهم، أولى من أن يقال: هو مصروف عنهم إلى غيرهم.
فإن ظن ظان أن قوله:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين"، لا يجوز أن يكون لهم خطابًا، (٢) إذ كانت أمة محمَّد قد أوتيت من كرامة الله جلّ وعزّ بنبيِّها عليه السلام محمّدٍ، ما لم يُؤتَ أحدٌ غيرهم، (٣) =وهم من العالمين= (٤) فقد ظنَّ غير الصواب. وذلك أن قَوله:"وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين"، خطاب من موسى ﷺ لقومه يومئذٍ، وعنى بذلك عالمي زمانه، لا عالمي كل زمان. ولم يكن أوتي في ذلك الزمان من نِعَم الله وكرامته، ما أوتي قومُه صلى الله عليه وسلم، أحد من العالمين. (٥) فخرج الكلام منه صلى الله عليه على ذلك، لا على جميع [عالم] كلِّ زمان. (٦)
* * *
(١) لم يفهم ناشر المطبوعة عربية أبي جعفر، فجعل الكلام هكذا: "وآتاكم ما لم يوت أحدا من العالمين، خطاب لبني إسرائيل حيث جاء في سياق قوله: اذكروا نعمة الله عليكم = ومعطوفًا عليه"، فغير وزاد وأساء وخان الأمانة!!
(٢) في المطبوعة: "لا يجوز أن تكون خطابًا لبني إسرائيل" بزيادة"لبني إسرائيل"، وفي المخطوطة: "أن تكون له خطابا"، وصواب قراءتها ما أثبت.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "من كرامة الله نبيها عليه السلام محمدًا ما لم يؤت أحدًا غيرهم"، فأثبت زيادة المخطوطة، وجعلت"نبيها""بنبيها"، بزيادة الباء في أوله، وجعلت"أحدًا""أحد"، وذلك الصواب المحض.
(٤) السياق: "فإن ظن ظان.. فقد ظن غير الصواب".
(٥) السياق: "ولم يكن أوتي في ذلك الزمان.. أحد من العالمين".
(٦) انظر تفسير"العالمين" فيما سلف ١: ١٤٣-١٤٦/٢: ٢٣-٢٦/٥: ٣٧٥/٦: ٣٩٣.
166
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قول موسى ﷺ لقومه من بني إسرائيل، وأمرِه إياهم =عن أمر الله إياه= بأمرهم بدخول الأرض المقدسة.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الأرض التي عناها بـ"الأرض المقدَّسة".
فقال بعضهم: عنى بذلك الطورَ وما حوله.
ذكر من قال ذلك:
١١٦٤٤ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"الأرض المقدسة" الطور وما حوله.
١١٦٤٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١١٦٤٦ - حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس:"ادخلوا الأرض المقدسة"، قال: الطور وما حوله.
* * *
وقال آخرون: هو الشأم.
ذكر من قال ذلك:
١١٦٤٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"الأرض المقدسة" قال: هي الشأم.
* * *
167
وقال آخرون: هي أرض أريحا.
ذكر من قال ذلك:
١١٦٤٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" قال: أريحا.
١١٦٤٩ - حدثني يوسف بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: هي أريحا.
١١٦٥٠ - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان، عن أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: هي أريحا.
* * *
وقيل: إن"الأرض المقدسة" دمشق وفلسطين وبعض الأرْدُنّ.
* * *
وعنى بقوله:"المقدسة" المطهرة المباركة، (١) كما:-
١١٦٥١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"الأرض المقدسة"، قال: المباركة.
١١٦٥٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بمثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: هي الأرض المقدّسة، كما قال نبي الله موسى صلى الله عليه، لأن القول في ذلك بأنها أرض دون أرض، لا تُدرك حقيقةُ صحته إلا بالخبر، ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به. غير أنها لن تخرج من أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر، لإجماع جميع أهل التأويل والسِّير والعلماء بالأخبار على ذلك.
* * *
(١) انظر تفسير"التقديس" فيما سلف ١: ٤٧٥، ٤٧٦/٢: ٣٢٢.
168
ويعني بقوله:"التي كتب الله لكم" التي أثبت في اللوح المحفوظ أنها لكم مساكن ومنازل دون الجبابرة التي فيها. (١)
* * *
فإن قال قائل: فكيف قال:"التي كتب الله لكم"، وقد علمت أنَّهم لم يدخلوها بقوله:"فإنها محرَّمة عليهم"؟ فكيف يكون مثبتا في اللوح المحفوظ أنها مساكن لهم، ومحرمًا عليهم سكناها؟
قيل: إنها كتبت لبني إسرائيل دارًا ومساكن، وقد سكنوها ونزلوها وصارت لهم، كما قال الله جل وعز. وإنما قال لهم موسى:"ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم"، يعني بها: كتبها الله لبني إسرائيل، =وكان الذين أمرهم موسى بدخولها من بني إسرائيل= ولم يعن ﷺ أن الله تعالى ذكره كتبها للذين أمرهم بدخولها بأعيانهم.
ولو قال قائل: قد كانت مكتوبة لبعضهم ولخاص منهم= فأخرج الكلام على العموم، والمراد منه الخاص، إذ كان يُوشع وكالب قد دخلا (٢) وكانا ممن خوطب بهذا القول= كان أيضًا وجهًا صحيحًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق.
١١٦٥٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق،"التي كتب الله لكم"، التي وهب الله لكم.
* * *
وكان السدي يقول: معنى"كتب" في هذا الموضع، بمعنى: أمر.
١١٦٥٤ - حدثنا بذلك موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم"، التي أمركم الله بها.
* * *
(١) انظر تفسير"كتب" فيما سلف ٩: ٢٦٢، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) في المطبوعة: "يوشع وكلاب"، وانظر ما سلف ص: ١١٣ تعليق: ٢.
169
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (٢١) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قيل موسى عليه السلام لقومه من بني إسرائيل، إذ أمرهم عن أمر الله عزّ ذكره إيّاه بدخول الأرض المقدسة، أنه قال لهم: امضُوا، أيها القوم، لأمر الله الذي أمركم به من دخول الأرض المقدسة="ولا ترتدوا" يقول: لا ترجعوا القهقرى مرتدّين (١) ="على أدباركم" يعني: إلى ورائكم، (٢) ولكن امضوا قُدُمًا لأمر الله الذي أمركم به، من الدخول على القوم الذين أمركم الله بقتالهم والهجوم عليهم في أرضهم، وأنّ الله عز ذكره قد كتبها لكم مسكنًا وقرارًا.
ويعني بقوله:"فتنقلبوا خاسرين"، أي: تنصرفوا خائبين هُلَّكًا. (٣)
* * *
وقد بينا معنى"الخسارة" في غير هذا الموضع، بشواهده المغنية عن إعادته في هذا الموضع. (٤)
* * *
فإن قال قائل: وما كان وجه قيل موسى لقومه، إذْ أمرهم بدخول الأرض المقدسة:"لا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين"، أوَ يستوجب الخسارة من لم يدخل أرضًا جعلت له؟
(١) انظر تفسير"ارتد" فيما سلف ٣: ١٦٣/٤: ٣١٦.
(٢) انظر تفسير"الأدبار" فيما سلف ٧: ١٠٩.
(٣) انظر تفسير"انقلب" فيما سلف ٣: ١٦٣/٧: ٤١٤. وكانت هذه العبارة في المخطوطة والمطبوعة: "أنكم تنصرفوا خائبين هكذا"، ورجحت أن صواب قراءتها ما أثبت.
و"هلك" جمع"هالك". وقد مر تفسيره"الخسارة" بمعنى"الهلاك".
(٤) انظر تفسير"الخسارة" فيما سلف ٩: ٢٢٤، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
170
قيل: إن الله عز ذكره كان أمرهم بقتال من فيها من أهل الكفر به وفرض عليهم دخولها، (١) فاستوجب القوم الخسارة بتركهم إذًا فرض الله عليهم من وجهين: أحدُهما: تضييع فرض الجهاد الذي كان الله عز ذكره فرضه عليهم= والثاني: خلافهم أمر الله في تركهم دخول الأرض، وقولهم لنبيهم موسى ﷺ إذ قال لهم:"ادخلوا الأرض المقدسة":"إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون".
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك بما:
١١٦٥٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" أمروا بها، كما أمروا بالصلاة والزكاة والحجِّ والعُمْرة.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن جواب قوم موسى عليه السلام، إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة: أنهم أبوا عليه إجابته إلى ما أمرهم به من ذلك، (٢) واعتلّوا عليه في ذلك بأن قالوا، إن في الأرض المقدسة التي تأمرنا بدخولها، قومًا جبارين لا طاقة لنا بحربهم، ولا قوة لنا بهم. وسموهم"جبّارين"، لأنهم كانوا لشدة بطشهم وعظيم خلقهم، (٣) فيما ذكر لنا، قد قهروا سائر الأمم غيرهم.
(١) في المطبوعة: "كان أمره"، والصواب من المخطوطة.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "إجابة إلى ما أمرهم"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "بشدة بطشهم"، والسياق يقتضي ما أثبت.
171
وأصل"الجبار"، المصلح أمر نفسه وأمر غيره، ثم استعمل في كل من اجترَّ نفعا إلى نفسه بحق أو باطل طلبَ الإصلاح لها، حتى قيل للمتعدِّي إلى ما ليس له= بغيًا على الناس، وقهرًا لهم، وعتوًّا على ربه="جبار"، وإنما هو"فعّال" من قولهم:"جبر فلان هذا الكسر"، إذا أصلحه ولأمه، ومنه قول الراجز: (١)
قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإلهُ فَجَبَرْ وَعَوَّرَ الرَّحمنُ مَنْ وَلَّي العَوَرْ (٢)
يريد: قد أصلح الدين الإله فصلح. ومن أسماء الله تعالى ذكره"الجبار"، لأنه المصلحُ أمرَ عباده، القاهرُ لهم بقدرته.
* * *
ومما ذكرته من عظم خلقهم ما:-
١١٦٥٦ - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قصة ذكرها من أمر مُوسى وبني إسرائيل، قال، ثم أمرهم بالسير إلى أريحا= وهي أرض بيت المقدس= فساروا، حتى إذا كانوا قريبًا منهم، بعث موسى اثنى عشر نقيبًا من جميع أسباط بني إسرائيل، فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبَّارين، فلقيهم رجل من الجبارين، يقال له:"عاج"، (٣) فأخذ الاثنى عشر فجعلهم في حُجْزَته، وعلى رأسه حَمْلة حطب، (٤) وانطلق بهم
(١) هو العجاج.
(٢) ديوانه: ١٥، واللسان (جبر) (عور)، وهو أول أرجوزته التي مدح بها عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وقد مضت منها أبيات، وذكرنا خبرها فيما سلف، انظر ١: ١٩٠/٢: ١٥٧/٣: ٢٢٩/٤: ٣٢١. وقوله: "قد جبر الدين الإله"، من قولهم: "جبرت العظم" متعديًا، "فجبر"، لازمًا، أي: انجبر العظم نفسه. و"العور" في هذا الشعر هو قبح الأمر وفساده، وترك الحق فيه، وليس من عور العين. و"عور الشيء" قبحه. يدعو فيقول: قبح الله من اتبع الفساد واستقبله بوجهه. من قولهم"ولي الشيء وتولاه"، أي اتبعه وفي التنزيل: "ولكل وجهة هو موليها"، أي مستقبلها ومتبعها، فهذا تفسير البيت بلا خلط في تفسيره.
(٣) في المطبوعة: "عوج"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو موافق لما سلف رقم: ١١٥٧٢، وتاريخ الطبري.
(٤) انظر ما سلف ص ١١٢ تعليق: ١، ٢، وما غيره، مصحح المطبوعة السالفة هناك.
172
إلى امرأته فقال، انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا!! فطرحهم بين يديها، فقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: لا بل خلِّ عنهم حتى يُخْبروا قومهم بما رأوا! ففعل ذلك. (١)
١١٦٥٧ - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، قال أبو سعيد، قال عكرمة، عن ابن عباس قال: أمر موسى أن يدخل مدينة الجبَّارين. قال: فسار موسى بمن معه حتى نزل قريبًا من المدينة =وهي أريحاء= فبعث إليهم اثنى عشر عينًا، من كل سبطٍ منهم عينًا، ليأتوه بخبر القوم. قال: فدخلوا المدينة، فرأوا أمرًا عظيمًا من هيئتهم وجثثهم وعظمهم، فدخلوا حائطًا لبعضهم، فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه، فجعل يجتني الثمار وينظر إلى آثارهم، وتتبعهم. فكلما أصاب واحدًا منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة، وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه، فقال الملك: قد رأيتم شأننا وأمرنا، اذهبوا فأخبروا صاحبكم. قال: فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عايَنُوا من أمرهم.
١١٦٥٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"إن فيها قومًا جبَّارين"، ذكر لنا أنهم كانت لهم أجسام وخِلَقٌ ليست لغيرهم.
١١٦٥٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: إن موسى عليه السلام قال لقومه:"إني سأبعث رجالا يأتونني بخبرهم"= وإنه أخذ من كل سبط رجلا فكانوا اثنى عشر نقيبًا، فقال:"سيروا إليهم وحدِّثوني حديثهم وما أمرهم، ولا تخافوا، إن الله معكم ما أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برُسله، وعزرتموهم، وأقرضُتم الله قرضًا حسنًا"= وإنّ القوم ساروا حتى هجموا عليهم، (٢) فرأوا أقوامًا لهم أجسام عجبٌ عظمًا
(١) الأثر: ١١٦٥٦- مضى مطولا برقم: ١١٥٧٢، وهو في تاريخ الطبري ١: ٢٢١، ٢٢٢.
(٢) في المطبوعة: "ثم إن القوم"، وأثبت ما في المخطوطة.
173
وقوة، وإنه =فيما ذكر= أبصرهم أحد الجبَارين، وهم لا يألون أن يخفُوا أنفسهم حين رأوا العجب. فأخذ ذلك الجبّار منهم رجالا فأتى رئيسَهم، فألقاهم قدّامه، فعجبوا وضحكوا منهم. فقال قائل منهم:"فإنّ هؤلاء زعموا أنهم أرادوا غزوكم"!! (١) وأنه لولا ما دفع الله عنهم لقُتلوا، وأنهم رجعوا إلى موسى عليه السلام فحدّثوه العجب.
١١٦٦٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"اثنى عشر نقيبًا" من كل سبط من بني إسرائيل رجل، أرسلهم موسى إلى الجبارين، فوجدُوهم يدخل في كُمِّ أحدهم اثنان منهم، يلقونهم إلقاءً، ولا يحمل عنقود عِنبهم إلا خمسة أنفُسٍ بينهم في خشبة، ويدخُل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس، أو أربعة. (٢)
١١٦٦١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
١١٦٦٢ - حدثني محمد بن الوزير بن قيس، عن أبيه، عن جويبر، عن الضحاك:"إن فيها قومًا جبارين" قال: سِفْلة لا خَلاقَ لهم. (٣)
* * *
(١) في المطبوعة: "إن هؤلاء"، بحذف الفاء، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) الأثر: ١١٦٦٠- مضى هذا الأثر برقم: ١١٥٧٣، ١١٥٧٤.
(٣) الأثر: ١١٦٦٢-"محمد بن وزير بن قيس الواسطي"، روى عن أبيه، وابن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وغيرهم. روى عنه الترمذي وابن أبي حاتم، وغيرهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٤/١/١١٥.
وأبوه"وزير بن قيس الواسطي"، روى عن جويبر. مترجم في ابن أبي حاتم ٤/٢/٤٤.
174
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (٢٢) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قولِ قوم موسى لموسى، جوابًا لقوله لهم:"ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم"، فقالوا:"إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها"، يعنون: [حتى يخرج] من الأرض المقدسة الجبارون الذين فيها، (١) جبنًا منهم، وجزعًا من قتالهم. وقالوا له: إن يخرج منها هؤلاء الجبارون دخلناها، وإلا فإنا لا نُطيق دخولها وهم فيها، لأنه لا طاقة لنا بهم ولا يَدَان. (٢)
١١٦٦٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، أن كالب بن يافنا، أسكت الشعْبَ عن موسى ﷺ فقال لهم: إنا سنعلو الأرض ونرثُها، وإن لنا بهم قوّة! وأما الذين كانوا معه فقالوا: لا نستطيع أن نصل إلى ذلك الشعب، من أجل أنهم أجرأ منا! ثم إن أولئك الجواسيس أخبروا بني إسرائيل الخبر، وقالوا: إنّا مررنا في أرض وحسسناها، فإذا هي تأكل ساكنها، ورأينا رجالهَا جسامًا، ورأينا الجبابرة بني الجبابرة، وكنا في أعينهم مثل الجراد! فأرجفت الجماعة من بني إسرائيل، فرفعوا أصواتهم بالبكاء. فبكى الشعب تلك الليلة، ووسوسُوا على موسى وهارون، (٣) فقالوا لهما: يا ليتنا مِتنا في أرض مصر! وليتنا نموت في هذه البرية، ولم يدخلنا الله هذه الأرض لنقع في الحرب، فتكون نساؤنا وأبناؤنا وأثقالنا غنيمًة! ولو كنا قعودًا في أرض مصر، كان خيرًا لنا وجعل الرجل يقول لأصحابه: تعالوا نجعل علينا رأسًا وننصرف إلى مصر.
* * *
(١) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق.
(٢) في المطبوعة: "ولا يد"، وفي المخطوطة"ولا يدان" غير منقوطة.
(٣) "وسوس عليه"، انظر تفسيرها في الأثر رقم: ١١٦٩٧ ص: ١٩٥، تعليق: ٧.
175
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن الرجلين الصَّالحين من قوم موسى:"يوشع بن نون" و"كالب بن يافنا"، أنهما وفَيا لموسى بما عهد إليهما من ترك إعلام قومِه بني إسرائيل= الذين أمرَهم بدخول الأرض المقدسة على الجبابرة من الكنعانيين= بما رأيا وعاينا من شدّة بطش الجبابرة وعِظم خلقهم، ووصفهما الله عز وجل بأنهما ممن يخاف الله ويراقبه في أمره ونهيه، كما:-
١١٦٦٤ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان= ح، وحدثنا ابن وكيع قال حدثنا أبي، عن سفيان= ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان= عن منصور، عن مجاهد:"قال: رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، قال: كلاب بن يافنا، (١) ويوشع بن نون.
١١٦٦٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن منصور، عن مجاهد قال:"رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، قال: يوشع بن نون، وكلاب بن يافنا، (٢) وهما من النقباء.
١١٦٦٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قصة ذكرها، قال: فرجع النقباء، كلُّهم ينهى سِبْطه عن قتالهم، إلا يوشع بن نون، وكلاب بن يافنة، (٣) يأمران الأسباط بقتال الجبارين ومجاهدتهم، فعصوهما، وأطاعوا الآخرين، فهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما. (٤)
(١) في المطبوعة الموضعين: "يوفنة"، وفي المخطوطة في الموضعين: "فانيا"، وانظر ص: ١١٣ تعليق: ٢.
(٢) في المطبوعة: "يوفنا"، وفي المخطوطة: "فانيه". وانظر التعليق على الأثر: ١١٥٧٣.
(٣) في المطبوعة: "يوفنا"، وفي المخطوطة: "فانيه". وانظر التعليق على الأثر: ١١٥٧٣.
(٤) الأثر: ١١٦٦٦- مضى هذا الخبر برقم: ١١٥٧٣، ومضى صدره قريبًا برقم: ١١٦٦٠.
176
١١٦٦٧ - حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، مثل حديث ابن بشار، عن ابن مهدي= إلا أنّ ابن حميد قال في حديثه: هما من الاثنى عشر نقيبًا.
١١٦٦٨ - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، قال أبو سعيد، قال عكرمة، عن ابن عباس في قصة ذكرها. قال: فرجعوا= يعني النقباء الاثنى عشر= إلى موسى، فأخبروه بما عاينوا من أمرهم، فقال لهم موسى: اكتموا شأنهم، ولا تخبروا به أحدًا من أهل العسكر، فإنكم إن أخبرتموهم بهذا الخبر فَشِلوا ولم يدخلوا المدينة. (١) قال: فذهب كل رجل منهم فأخبر قريبه وابنَ عمه، إلا هذين الرجلين= يوشع بن نون، وكلاب بن يوفنة= فإنهما كتما ولم يخبرا به أحدًا، وهما اللذان قال الله عز وجل:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، إلى قوله:"وبين القوم الفاسقين".
١١٦٦٩ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، وهما اللذان كتماهم: يوشع بن نون فتى موسى، (٢) وكالوب بن يوفنة ختَنُ موسى.
١١٦٧٠ - حدثنا سفيان قال، حدثنا عبيد الله، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، كالوب، ويوشع بن النون فتى موسى. (٣)
١١٦٧١ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
(١) "فشل": جبن ونكص.
(٢) في المخطوطة: "هو يوشع بن النون"، وأظن أصلها"هوشع بن النون"، كما سلف في ص: ١١٣، تعليق: ٢. وكان في المطبوعة هنا"نون"، فأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "بن نون"، في الموضعين، وأثبت ما في المخطوطة.
177
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، والرجلان اللذان أنعم الله عليهما من بني إسرائيل: يوشع بن النون، وكالوب بن يوفنة.
١١٦٧٢ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما" ذكر لنا أن الرجلين: يوشع بن نون وكالب.
١١٦٧٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: أن موسى قال للنقباء لمَّا رجعوا فحدثوه العجبَ:"لا تحدثوا أحدًا بما رأيتم، إن الله سيفتحها لكم ويظهركم عليها من بعد ما رأيتم" =وإن القوم أفشوا الحديث في بني إسرائيل، فقام رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما، (١) كان أحدهما، فيما سمعنا، يوشع بن نون وهو فتى موسى، والآخر كالب- فقالا"ادخلوا عليهم الباب" إلى"إن كنتم مؤمنين". (٢)
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"قال رجلان من الذين يخافون".
قرأ ذلك قرأة الحجاز والعراق والشام: (قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بفتح"الياء" من"يخافون"، على التأويل الذي ذكرنا عمن ذكرنا عنه آنفًا، أنهما يوشع بن نون وكالب، من قوم موسى، ممن يخاف الله، وأنعمَ عليهما بالتوفيق.
* * *
(١) في المخطوطة: "فقام رجلان هما اللذان يخافون.."، والذي في المطبوعة هو الصواب.
(٢) في المطبوعة: "ادخلوا عليهما الباب إن كنتم مؤمنين"، وهو غير صواب، والصواب من المخطوطة.
178
وكان قتادة يقول: في بعض القراءة: (قَالَ رَجُلانِ مِنَ الذِينَ يَخَافُونَ اللهَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا).
١١٦٧٤ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة= ح، وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، في بعض الحروف: (يَخَافُونَ اللهَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا).
* * *
وهذا أيضا مما يدل على صحة تأويل من تأوَّل ذلك على ما ذكرنا عنه أنه قال: يوشع، وكالب.
* * *
وروي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ ذلك: (قَالَ رَجُلانِ مِنَ الذِينَ يُخَافُونَ) بضم الياء (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا).
١١٦٧٥ - حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا هشيم، عن القاسم بن أبي أيوب= ولا نعلمه أنه سمع منه= عن سعيد بن جبير: أنه كان يقرؤها بضم الياء من: (يُخافُونَ).
وكأن سعيدًا ذهب في قراءته هذه إلى أن الرجلين اللذين أخبر الله عنهما أنهما قالا لبني إسرائيل:"ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون"، كانا من رهط الجبابرة، وكانا أسلما واتَّبعا موسى، فهما من أولاد الجبابرة الذين يخافهم بنو إسرائيل، (١) وإن كانوا لهم في الدين مخالفين. (٢)
* * *
وقد حكي نحو هذا التأويل عن ابن عباس.
(١) في المخطوطة: "فهم من أولاد الجبابرة"، والصواب ما في المطبوعة.
(٢) في المطبوعة: "وإن كانا لهم في الدين مخالفين"، وفي المخطوطة: "وإن كانوا لهم في الدنيا مخالفين"، والصواب المحض ما أثبته.
179
١١٦٧٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين"، قال: هي مدينةُ الجبارين. لما نزل بها موسى وقومه، بعث منهم اثني عشر رجلا= وهم النقباء الذين ذكر بعثتهم (١) = ليأتوه بخبرهم. فساروا، فلقيهم رجل من الجبارين، فجعلهم في كسائه، فحملهم حتى أتى بهم المدينة، ونادى في قومه فاجتمعوا إليه، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: نحن قوم موسى، بعثَنا إليكم لنأتيه بخبركم! فأعطوهم حبَّة من عِنب بوِقْر الرجل، (٢) فقالوا لهم: اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم: اقدُروا قَدْر فاكهتهم! فلما أتوهم قالوا لموسى:"اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون"! ="قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، وكانا من أهل المدينة أسلَما واتّبعا موسى وهارون، فقالا لموسى:"ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكَّلوا إن كنتم مؤمنين".
* * *
قال أبو جعفر: فعلى هذه القراءة وهذا التأويل، لم يكتم من الاثنى عشر نقيبًا أحدٌ، ما أمرهم موسى بكتمانه بني إسرائيل مما رأوا وعاينوا من عظم أجسام الجبابرة، وشدة بطشهم، وعجيب أمورهم، بل أفشوا ذلك كله. وإنما القائل للقوم ولموسى:"ادخلوا عليهم الباب"، رجلان من أولاد الذين كان بنو إسرائيل يخافونهم ويرهبون الدخولَ عليهم من الجبابرة، كان أسلما وتبعا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب عندنا، قراءةُ من قرأ:
(١) في المطبوعة: "ذكر نعتهم"، وفي المخطوطة: "ذكر بعثهم"، وكتبتها"بعثتهم"، ويعني بذلك ما جاء في الآية السالفة من هذه السورة: ١٠"ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبًا".
(٢) "الوقر" (بكسر فسكون) : الحمل والثقل.
180
(مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) لإجماع قرأة الأمصار عليها= وأنَّ ما استفاضت به القراءة عنهم، فحجة لا يجوز خلافها، وما انفرد به الواحد، فجائز فيه الخطأ والسهو. ثم في إجماع الحجةِ في تأويلها على أنهما رجلان من أصحاب موسى من بني إسرائيل وأنهما يوشع وكلاب، ما أغنى عن الاستشهاد على صحة القراءة بفتح"الياء" في ذلك، وفسادِ غيره. وهو التأويل الصحيحُ عندنا، لما ذكرنا من إجماعها عليه.
* * *
وأما قوله:"أنعم الله عليهما"، فإنه يعني: أنعم الله عليهم بطاعة الله في طاعة نبيه موسى صلى الله عليه، وانتهائهم إلى أمره، والانزجار عما زجرهما عنه صلى الله عليه وسلم، من إفشاء ما عاينا من عجيب أمر الجبارين إلى بني إسرائيل، الذي حدّث عنه أصحابهما الآخرون الذين كانوا معهما من النقباء. (١)
* * *
وقد قيل إن معنى ذلك: أنعم الله عليهما بالخوف.
ذكر من قال ذلك:
١١٦٧٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا خلف بن تميم قال، حدثنا إسحاق بن القاسم، عن سهل بن علي قوله:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، قال: أنعم الله عليهما بالخوف. (٢)
* * *
(١) في المطبوعة: "الذي حذر عنه أصحابهما الآخرين.."، وفي المخطوطة: "الذي حول عنه أصحابهما الآخرون"، وصواب قراءة ذلك ما أثبت، ولا معنى لتغيير ما غيره ناشر المطبوعة الأولى.
(٢) الأثر: ١١٦٧٧-"خلف بن تميم بن أبي عتاب التميمي"، أبو عبد الرحمن ثقة عابد. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/١٨٠، وابن أبي حاتم ١/٢/٣٧٠.
و"إسحق بن القاسم"، لم أجده.
وأما "سهل بن علي"، فلم أجد من يسمى بذلك إلا"سهل بن علي المروزي"، روى عن المبارك. روى عنه المراوزة كلامه، وتأدبوا بورعه. مترجم في ابن أبي حاتم ٢/١/٢٠٣.
181
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان الضحاك يقول، وجماعة غيره.
١١٦٧٨ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، بالهدى فهداهما، فكانا على دين موسى، وكانا في مدينة الجبّارين.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قول الرجلين اللذين يخافان الله لبني إسرائيل، إذ جبُنوا وخافوا من الدخول على الجبارين، لمَّا سمعوا خبرهم، وأخبرهم النقباء الذين أفشَوْا ما عاينوا من أمرهم فيهم، وقالوا: (١) "إن فيها قومًا جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها"، فقالا لهم: ادخلوا عليهم، أيها القوم بابَ مدينتهم، فإن الله معكم، وهو ناصركم، وإنكم إذا دخلتم الباب غلبتموهم، كما:-
١١٦٧٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوَّل، قال: لما هم بنو إسرائيل بالانصراف إلى مصر، حين أخبرهم النقباء بما أخبروهم من أمر الجبابرة، خرَّ موسى وهارون على وجوههما سجودًا قدِّام جماعة بني إسرائيل، وخرَّق يوشع بن نون وكالب بن يافنا ثيابهما، وكانا من جواسيس الأرض، وقالا لجماعة بني إسرائيل:"إن الأرض مررنا بها وحسِسْناها صالحًة، (٢) رضيها ربُّنا لنا فوهبها لنا، وإنها.. تفيض لبنًا وعسلا (٣) ولكن افعلوا واحدة:
(١) السياق:.. إذ جبنوا وخافوا.. وقالوا"، معطوفا على ذلك.
(٢) "حس منه خيرًا وأحس"، رآه وعلمه.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "وإنها لم تكن تفيض لبنًا وعسلا"، وهو لا يستقيم، والذي جاء في كتاب القوم، في سفر العدد، في الإصحاح الثالث عشر: "وحقًا إنها تفيض لبنًا وعسلا"، وفي الرابع عشر = وهو نص هذا الكلام بالعربية="ويعطينا إياها أرضًا تفيض لبنًا وعسلا". فحذفت"لم تكن"، ووضعت مكانها نقطًا، مخافة أن تكون الكلمة محرفة عن شيء لم أعرفه.
182
لا تعصُوا الله، ولا تخشوا الشعب الذين بها، فإنهم خُبْزُنا، ومُدَفَّعون في أيدينا، (١) إن كبرياءهم ذهبت منهم، (٢) وإن الله معنا فلا تخشوهم. فأراد جماعة من بني إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة.
١١٦٨٠ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنهم بعثوا اثنى عشر رجلا من كل سبط رجلا عيونًا لهم، وليأتوهم بأخبار القوم. فأمَّا عشرة فجبَّنُوا قومهم وكرَّهوا إليهم الدخول عليهم. وأما الرجلان فأمرا قومهما أن يدخلوها، وأن يتبعوا أمر الله، ورغَّبا في ذلك، وأخبرا قومهما أنهم غالبون إذا فعلوا ذلك.
١١٦٨١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"عليهم الباب"، قرية الجبَّارين.
* * *
(١) في المطبوعة: "فإنهم جبناء مدفعون.."، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في كتاب القوم في سفر العدد، الإصحاح الرابع عشر. ويعني بقوله: "خبرنا"، أي هم طعمة لنا وغنيمة، كما نقول بالعربية.
(٢) في المطبوعة: "إن حاربناهم ذهبت منهم"، ولا أدري ما هذا. وفي المخطوطة: "إن حرباهم ذهبت منهم". ورأيت أن أقرأها كذلك، فإني رأيت في كتاب القوم: "قد زال عنهم ظلهم، والرب معنا"، كأنه يعني: قد ذهب عنهم ما كان ملازمًا لهم من الجرأة والقوة والبطش والمهابة.
هذا، ومن المفيد أن تقارن هذا المروى عن ابن إسحق، بترجمة التوراة الموجودة في أيدينا، فإن هذه الروايات عن ابن إسحق، ترجمته قديمة للتوراة بلا شك. ولعل متتبعًا يتتبع هذه الرواية عن ابن إسحق وغيره، ويقارنها بالترجمة الموجودة الآن، فإن في ذلك فوائد تاريخية عظيمة، وفوائد في مناهج الترجمة قديمًا وحديثًا.
183
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا خبر من الله جل وعزّ عن قول الرجلين اللذين يخافان الله، أنهما قالا لقوم موسى يشجعانهم بذلك، ويرغِّبانهم في المضيّ لأمر الله بالدخول على الجبارين في مدينتهم= توكلوا أيها القوم، على الله في دخولكم عليهم، فيقولان لهم: (١) ثقوا بالله، (٢) فإنه معكم إن أطعتموه فيما أمركم من جهاد عدوِّكم. وعنيا بقولهما:"إن كنتم مؤمنين" إن كنتم مصدِّقي نبيكم ﷺ فيما أنبأكم عن ربَّكم من النصرة والظفر عليهم، وفي غير ذلك من إخباره عن ربه= ومؤمنين بأن ربَّكم قادر على الوفاء لكم بما وعدكم من تمكينكم في بلاد عدوِّه وعدوِّكم.
* * *
(١) في المطبوعة: "ويقولان"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) انظر تفسير"التوكل" فيما سلف ص: ١٠٨، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
184
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا (٢٤) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ذكره عن قول الملأ من قوم موسى لموسى، إذ رُغِّبوا في جهاد عدوِّهم، ووعِدوا نصر الله إيَّاهم إن هم ناهضوهم ودخلوا عليهم باب مدينتهم، أنهم قالوا له:"إنا لن ندخلها أبدًا" يعنون: إنا لن ندخل مدينتهم أبدًا.
184
و"الهاء والألف" في قوله:"إنا لن ندخلها"، من ذكر"المدينة".
* * *
ويعنون بقولهم:"أبدًا"، أيام حياتنا (١) ="ما داموا فيها"، يعنون: ما كان الجبارُون مقيمين في تلك المدينة التي كتبها الله لهم وأُمِروا بدخولها="فاذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ههنا قاعدون"، لا نجيء معك يا موسى إن ذهبت إليهم لقتالهم، ولكن نتركك تذهب أنت وحدك وربُّك فتقاتلانهم.
* * *
وكان بعضهم يقول في ذلك: ليس معنى الكلام: اذهب أنت، وليذهب معك ربك فقاتلا= ولكن معناه: اذهب أنت، يا موسى، وليعنك ربُّك. وذلك أن الله عز ذكره لا يجوز عليه الذهاب. (٢)
وهذا إنما كان يحتاج إلى طلب المخرج له، لو كان الخبر عن قوم مؤمنين. فأمّا قومٌ أهلُ خلافٍ على الله عز ذكره ورسوله، فلا وجه لطلب المخرج لكلامهم فيما قالوا في الله عز وجل وافتروا عليه، إلا بما يشبه كفرهم وضلالتهم.
* * *
وقد ذكر عن المقداد أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خلافَ ما قال قومُ موسى لموسى.
١١٦٨٢ - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي= وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= عن سفيان، عن مخارق، عن طارق: أن المقداد بن الأسود قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل:"اذهب أنت ورَبك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون"، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. (٣)
(١) انظر تفسير"أبدا" فيما سلف ٩: ٢٢٧.
(٢) هذه مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن ١: ١٦٠، بمعناه، وبغير لفظه.
(٣) الأثر: ١١٦٨٢-"مخارق"، هو: "مخارق بن عبد الله بن جابر البجلي الأحمسي"، ويقال: "مخارق بن خليفة". مترجم في التهذيب.
و"طارق هو"طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الأحمسي"، رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه مرسلا، وروى عن الخلفاء الأربعة، وهو من أصحاب عبد الله بن مسعود. مترجم في التهذيب. ومضى برقم: ٩٧٤٤.
وهذا الخبر روي من طريق طارق، مطولا ومختصرًا. رواه البخاري مختصرًا، مرسلا وموصولا في صحيحه (الفتح ٨: ٢٠٥)، ورواه مطولا موصولا (الفتح ٧: ٢٢٣-٢٢٧)، ورواه أحمد مطولا في مسند ابن مسعود برقم: ٣٦٩٨، ٤٠٧٠، ٤٣٧٦.
وهذا الخبر في مشورة النبي ﷺ أصحابه قبل بدر لما وصل الصفراء، وبلغه أن قريشًا قصدت بدرًا، وأن أبا سفيان نجا بما معه، فاستشار الناس. وانظر القصة مفصلة في كتب السير. ثم انظر الخبر التالي، وأن ذلك كان يوم الحديبية.
185
١١٦٨٣ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنّ رسول الله ﷺ قال لأصحابه يوم الحديبية، حين صَدّ المشركون الهَدْيَ وحيل بينهم وبين مناسكهم:"إني ذاهب بالهَدْيِ فناحِرُه عند البيت! فقال له المقداد بن الأسود: أمَا والله لا نكون كالملأ من بني إسرائيل إذْ قالوا لنبيهم:"اذهب أنت وربك فقاتِلا إنا ههنا قاعدون" ولكن: اذهب أنت وربك فقاتِلا إنّا معكم مقاتلون! فلما سمعها أصحابُ نبيِّ الله ﷺ تتابعوا على ذلك. (١)
* * *
وكان ابن عباس والضحاك بن مزاحم وجماعة غيرهما يقولون: إنما قالوا هذا القول لموسى عليه السلام، حين تبيَّن لهم أمر الجبارين وشدّةُ بطشهم.
١١٦٨٤ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: أمر الله جل وعزّ بني إسرائيل أن يسيروا إلى الأرض المقدسة مع نبيهِّم موسى عليه السلام، فلما كانوا قريبًا من المدينة قال لهم موسى:"ادخلوها"، فأبوا وجبُنوا، وبعثوا اثنى عشر نقيبًا لينظروا
(١) الأثر: ١١٦٨٣- كرر في المخطوطة هذا الأثر بإسناده ونصه، ففي المرة الأولى كتبه إلى قوله: "إنا معكم مقاتلون"، ثم عاد فكتب الخبر نفسه بإسناده، وأتمه على وجهه إلى آخره. والظاهر أنه وقف عند هذا الموضع، ثم عاد يكتب، وكان الخبر قبله ينتهي أيضًا بقوله: "إنا معكم مقاتلون"، فظن أن الذي كتب هو الخبر الأول، فعاد فكتب الخبر بإسناده من أوله إلى تمامه.
186
إليهم، فانطلقوا فنظروا فجاءوا بحبة فاكهة من فاكهتهم بوِقْر الرجل، فقالوا: اقدُرُوا قوّة قوم وبأسُهم هذه فاكهتهم! فعند ذلك قالوا لموسى:"اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون".
١١٦٨٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، نحوه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٥) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل وعز عن قيل قوم موسى حين قال له قومه ما قالوا، من قولهم:"إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون"= أنه قال عندَ ذلك، وغضب من قيلهم له، (١) داعيا: يا رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي= يعني بذلك، لا أقدر على أحد أن أحمله على ما أحب وأريد من طاعتك واتّباع أمرك ونهيك، إلا على نفسي وعلى أخي.
* * *
= من قول القائل:"ما أملك من الأمر شيئا إلا كذا وكذا"، بمعنى: لا أقدر على شيء غيره. (٢)
* * *
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "من قيلهم لهم"، والسياق يقتضي"له"، وسياق العبارة: "أنه قال عند ذلك.. داعيًا: يا رب..".
(٢) انظر تفسير"ملك" فيما سلف قريبًا ص: ١٠٥.
187
ويعني بقوله:"فافرق بيننَا وبين القوم الفاسقين"، افصل بيننا وبينهم بقضاء منك تقضيه فينا وفيهم فتبعِدُهم منّا.
* * *
=من قول القائل:"فَرَقت بين هذين الشيئين"، بمعنى: فصلت بينهما، من قول الراجز: (١)
يَا رَبِّ فافْرُقْ بَيْنَهُ وَبَيْنِي أَشَدَّ مَا فَرَّقْتَ بَيْنَ اثْنَيْنَ (٢)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
ذكر من قال ذلك:
١١٦٨٦ - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال، حدثني عمي
(١) لعله: حبينة بن طريف العكلي. وانظر التعليق التالي. و"حبينة" بالباء، والنون وأخطأ من ظن أنه بنونين.
(٢) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٦٠، وهكذا جاء هناك وهنا. وفي المخطوطة: "يا رب فارق"، وصححه في المطبوعة، وجاء تصحيحه موافقًا لما في مجاز القرآن. ولم أجد الرجز بهذا اللفظ، وظني أنه رجز حبينة بن طريف العكلي، له خبر طويل (انظر تهذيب إصلاح المنطق ١: ١٣٨)، كان بينه وبين ليلى الأخيلية كلام، فقال لها: "أما والله لو أن لي منك النصف، لسببتك سبًا يدخل معك قبرك!! " ثم راجزها وفضحها، فقال في رجزه ذلك:
جَارِيَةٌ منْ شِعْب ذي رُعَيْنِ حَيَّاكَةٌ تَمْشِي بِعُلْطَتَيْنِ
وَذِي هِبَابٍ نَعِظِ الْعَصْرَيْنِ قَدْ خَلَجَتْ بحاجِبٍ وعَيْنِ
يَا قَوْمِ خَلُّوا بَيْنَها وَبَيْنِي أَشَدَّ مَا خُلِّي بَيْنَ اثْنَيْنَ
لم يُلْقَ قَطُّ مِثْلَنَا سِيَّيْنِ
"حياكة"، تحيك في مشيتها، أي تتبختر. و"وتتثط بالعلطتان"، قلادتان أو ودعتان تكون في أعناق الصبيان، "خجلت العين" واضطربت. يصفها بالغمز للرجال."سيين": مثلين. و"هب التيس هبابًا وهبيبًا"، هاج ونب للسفاد.
وتجد هذا الشعر وخبره مفرقًا في المؤتلف والمختلف للآمدي: ٩٧، وإصلاح المنطق: ٨٩، وتهذيب إصلاح المنطق: ١٣٨، واللسان (خلج) (علط) (نعظ) (عرك)، والمخصص ٢: ٤٧. والشعر بهذه الرواية لا شاهد فيه.
188
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين"، يقول: اقض بيني وبينهم.
١١٦٨٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين"، يقول: اقض بيننا وبينهم.
١١٦٨٨ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: غضب موسى ﷺ حين قال له القوم:"اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون"، فدعا عليهم فقال:"رب إنّي لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين"، وكانت عَجْلَةً من موسى عِجلها. (١)
١١٦٨٩ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين"، يقول: اقض بيننا وبينهم، وافتح بيننا وبينهم= كلّ هذا يقول الرجل:"اقض بيننا" (٢)
فقضاء الله جل ثناؤه بينه وبينهم: أن سماهم"فاسقين". (٣)
* * *
وعنى بقوله:"الفاسقين" الخارجين عن الإيمان بالله وبه إلى الكفر بالله وبه.
* * *
وقد دللنا على أن معنى"الفسق"، الخروج من شيء إلى شيء، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (٤)
* * *
(١) "عجلة" مصدر الواحدة من قولهم: "عجل"، إذا أسرع.
(٢) في المطبوعة: "كل هذا من قول الرجل"، وأثبت ما في المخطوطة، وكأنه صواب، وكأنه يقول"افرق بينا" و"اقض بينا"، و"افتتح بيننا" كل ذلك يقول الرجل بمعنى"اقض بيننا".
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "فقضى الله"، وآثرت قراءتها كذلك لحسن سياقها، وهو في المخطوطة يكثر أن يكتب"قضاء" هكذا"قضى"، كما سلف مرارا.
(٤) انظر تفسير"الفسق" فيما سلف ١: ٤٠٩، ٤١٠/٢: ١١٨/ ثم ٩: ٥١٥، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
189
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الناصب لِـ"الأربعين".
فقال بعضهم: الناصب له قوله:"محرّمة"، وإنما حرم الله جل وعزّ على القوم الذين عصوه وخالفوا أمره من قوم موسى وأبوا حَرْب الجبارين (١) = دخولَ مدينتهم أربعين سنة، (٢) ثم فتحها عليهم وأسكنهموها، (٣) وأهلك الجبارين بعد حرب منهم لهم، بعد أن انقضت الأربعون سنة وخرجوا من التيه. (٤)
١١٦٩٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: لما قال لهم القوم ما قالوا، ودعا موسى عليهم، أوحى الله إلى موسى:"إنها محرمة عليهم أربعين سنًة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين"، وهم يومئذ، فيما ذكر، ستمائة ألف مقاتل. فجعلهم"فاسقين" بما عصوا. فلبثوا أربعين سنة في فراسخ ستّة، أو دون ذلك، يسيرون كل يوم جادِّين لكي يخرجوا منها، حتى سئموا ونزلوا، (٥) فإذا هم في الدار التي منها ارتحلوا= وإنهم اشتكوا إلى موسى ما فُعِل بهم، فأنزل عليهم المنّ والسلوى، وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم، وينشأ الناشئ فتكون معه على هيئته. (٦) وسأل موسى ربه أن
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "وإنما حرم الله جل وعز القوم.."، والسياق يقتضي ما أثبت، بزيادة"على".
(٢) قوله"دخول" منصوب، مفعول لقوله: "حرم". وكان في المطبوعة: "ودخول مدينتهم"، وهو خطأ لا شك فيه، والكلام لا يستقيم.
(٣) في المطبوعة: "وأسكنوها"، غير ما في المخطوطة لغير علة.
(٤) في المطبوعة: "بعد أن قضيت الأربعون سنة"، غير ما في المخطوطة لغير علة.
(٥) في المطبوعة: "حتى يمسوا وينزلوا"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب.
(٦) قوله: "ما هي قائمة لهم"، كأنه يعني أن ثيابهم كانت لا تبلي، بل لا تزال قائمة. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ينشأ" بغير واو، فزدتها لاقتضاء السياق.
190
يسقيهم، فأتى بحجر الطور، وهو حجر أبيض، إذا ما نزل القوم ضربه بعصاه، فيخرج منه اثنتا عشرة عينًا، لكل سبط منهم عَيْنٌ، قد علم كل أناس مشربهم. حتى إذا خَلَت أربعون سنة، وكانت عذابًا بما اعتدوا وعصوا، أوحى إلى موسى: أنْ مُرْهم أن يسيروا إلى الأرض المقدسة، فإن الله قد كفاهم عدوَّهم، وقل لهم إذا أتوا المسجد: أن يأتوا الباب، ويسجدوا إذا دخلوا، ويقولوا:"حطة"= وإنما قولهم:"حطة"، أن يحطَّ عنهم خطاياهم= فأبى عامة القوم وعصوا، وسجدوا على خدِّهم، وقالوا:"حنطة"، فقال الله جل ثناؤه: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ إِلَى بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [سورة البقرة: ٥٩]. (١)
* * *
وقال آخرون: بل الناصب لِـ"الأربعين"،"يتيهون في الأرض". قالوا: ومعنى الكلام: قال، فإنَّها محرمة عليهم أبدًا، يتيهون في الأرض أربعين سنة. قالوا: ولم يدخُل مدينة الجبَّارين أحد ممن قال:"إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون"، وذلك أن الله عز ذكره حرَّمها عليهم. قالوا: وإنما دخلها من أولئك القوم يُوشع وكلاب، اللذان قالا لهم:"ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون"، وأولادُ الذين حرَّم الله عليهم دخولها، فتيَّههم الله فلم يدخلها منهم أحدٌ.
ذكر من قال ذلك:
١١٦٩١ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان بن حرب قال، حدثنا أبو هلال، عن قتادة في قول الله جل وعزّ:"إنها محرمة عليهم"، قال: أبدًا.
١١٦٩٢ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سليمان بن حرب قال، حدثنا أبو هلال، عن قتادة في قول الله:"يتيهون في الأرض"، قال: أربعين سنة.
١١٦٩٣ - حدثنا المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا هارون
(١) الأثر: ١١٦٩٠- كأن هذا هو الأثر الذي ذكر أبو جعفر إسناده ولم يتمه فيما مضى رقم: ٩٩٣. فلا أدري أفعل ذلك اختصارا، أم سقط الخبر من هناك.
191
النحوي قال، حدثني الزبير بن الخرّيت، عن عكرمة في قوله:"فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض"، قال: التحريم، التيهاءُ. (١)
١١٦٩٤ - حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: غضب موسى على قومه فدعا عليهم فقال:"رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي" الآية، فقال الله جل وعز:"فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض". فلما ضُرِب عليهم التيه، ندم موسى. وأتاه قومه الذين كانوا [معه] يطيعونه، (٢) فقال له: ما صنعت بنا يا موسى! فمكثوا في التيه. فلما خرجوا من التيه، رُفع المنُّ والسلوى وأكلُوا من البقول. والتقى موسى وعاج، (٣) فنزا موسى في السماء عشرة أذرع (٤) = وكانت عصاه عشرة أذرع، وكان طوله عشرة أذرع= فأصاب كعب عاج فقتله. (٥) ولم يبق [أحد] ممن أبى أن يدخل قرية الجبَارين مع موسى، إلا مات ولم يشهد الفتح. (٦) ثم إن الله جل وعز لما انقضت الأربعون سنة، بعث يوشع بن النون نبيًا، (٧) فأخبرهم أنه نبيّ، وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبّارين، فبايعوه وصدَّقوه، فهزم الجبارين واقتحمُوا عليهم يقتُلونهم، (٨)
(١) الأثر: ١١٦٩٣-"مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي".
و"هرون النحوي"، هو: "هرون بن موسى الأزدي"، الأعور.
و"الزبير بن الحزيت". ثقات مضوا جميعًا برقم: ٤٩٨٥.
وهذا الخبر، رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ٢٢٥، ٢٢٦.
وكان في المطبوعة هنا: "التحريم، لا منتهى له"، وهو تصرف معيب بالغ العيب. وفي المخطوطة: "التحريم، المنتهى"، فآثرت قراءتها"التيهاء" يقال: "أرض تيه، وتيهاء"، ويقال، "تيه" جمع"تيهاء"، وهي المفازة يتاه فيها. وفي تاريخ الطبري ١: ٢٢٦"التحريم: التيه".
(٢) هذه الزيادة بين القوسين مما مضى في ٢: ٩٨، رقم: ٩٩١.
(٣) في المطبوعة: "عوج" في هذا المكان، وكل ما سيأتي، وأثبت ما في المخطوطة.
(٤) في المطبوعة: "فوثب"، ولم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة. و"نزا ينزو نزوا"، وثب. وهي كما أثبتها في تاريخ الطبري ٢: ٢٢٣.
(٥) عند هذا الموضع انتهى ما رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ٢٢٣.
(٦) زدت ما بين القوسين من تاريخ الطبري، ولا يستقيم الكلام إلا بها.
(٧) في المطبوعة: "بن نون".
(٨) في المطبوعة: "يقاتلونهم"، وأثبت ما في المخطوطة. وفي تاريخ الطبري: "فقتلوهم".
192
فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عُنُق الرجل يضربونها لا يقطعونها. (١)
١١٦٩٥ - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، قال أبو سعيد، (٢) عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال الله جل وعز: لما دعا موسى="فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض". (٣) قال: فدخلوا التيه، فكلُّ من دخل التيه ممن جاوز العشرين سنًة مات في التيه. (٤)
قال: فمات موسى في التيه، ومات هارون قبله. قال: فلبثوا في تيههم أربعين سنة، فناهض يوشع بمن بقي معه مدينةَ الجبارين، فافتتح يوشع المدينة. (٥)
١١٦٩٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال الله جل وعزّ:"إنها محرّمة عليهم أربعين سنة"، حرمت عليهم [القُرَى]، (٦) فكانوا لا يهبطون قرية ولا يقدرون على ذلك، إنما يتبعون الأطواء أربعين سنة، (٧) =وذكر لنا أن موسى ﷺ مات في الأربعين سنة، وأنه لم يدخل بيت المقدس منهم إلا أبناؤهم والرجلان اللذان قالا ما قالا. (٨)
١١٦٩٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل قال: لما فعلت بنو إسرائيل ما فعلت= من
(١) الأثر: ١١٦٩٤- هذا الأثر رواه أبو جعفر مفرقًا بين تاريخه وتفسيره، كما مر عليك في التعليقات السالفة. ومن عند ذلك الموضع الذي أشرت إليه في ص: ١٩٢ التعليق رقم: ٥، إلى هذا الموضع رواه أبو جعفر في التاريخ ١: ٢٢٥.
(٢) في المخطوطة: "أبو سعد"، وهو خطأ، وانظر الأثر السالف رقم: ١١٦٦٨.
(٣) في المطبوعة: "قال لما دعا موسى قال الله فإنها محرمة.."، غير ما في المخطوطة، مع أنه مطابق لما في تاريخ الطبري.
(٤) في المخطوطة؛"جاز العشرين"، وما في المطبوعة مطابق لما في التاريخ.
(٥) الأثر: ١١٦٩٥- هذا الأثر، رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ٢٢٥.
(٦) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري، وهي زيادة لا بد منها. وكان في المطبوعة والمخطوطة بعد"وكانوا" بالواو، والصواب من التاريخ.
(٧) "الأطواء" جمع"طوى" (بفتح الطاء، وكسر الواو، وتشديد الياء) : وهو البئر المطوية بالحجارة، وهو صفة على"فعيل" بمعنى"مفعول" انتقل إلى الأسماء، فلذلك جمعوه على"أفعال" كما قالوا: "شريف" و"أشراف"، و"يتيم"، و"أيتام".
(٨) الأثر: ١١٦٩٦- رواه أبو جعفر في التاريخ ١: ٢٢٥، إلا قوله: "إنما يتتبعون الأطواء".
193
معصيتهم نبيّهم، وهّمهم بكالب ويوشع، إذْ أمرَاهم بدخول مدينة الجبارين، وقالا لهم ما قالا= ظهرت عظمة الله بالغمام على باب قُبّة الزُّمَرِ على كل بني إسرائيل، (١) فقال جل ثناؤه لموسى: إلى متى يعصيني هذا الشعب؟ وإلى متى لا يصدّقون بالآيات كلِّها التي وضَعتُ بينهم؟ أضربهم بالموت فأهلكهم، (٢) وأجعل لك شعبًا أشد وأكبر منهم. فقال موسى: يسمع أهلُ المصر الذين أخرجتَ هذا الشعب بقوّتك من بينهم، (٣) ويقول ساكن هذه البلاد الذين قد سمعوا أنك أنت الله في هذا الشعب، (٤) فلو أنك قتلت هذا الشعب كلهم كرجل واحد، لقالت الأمم الذين سمعوا باسمك:"إنما قتل هذا الشعب من أجل الذين لا يستطيع أن يدخلهم الأرض التي خلق لهم، فقتلهم في البّرية"، ولكن لترتفع أياديك ويعظم جزاؤك، يا رَبِّ، كما كنت تكلَّمت وقلتَ لهم، فإنه طويلٌ صبرك، كثيرة نعمك، وأنت تغفر الذنوب فلا توبق، (٥) وإنك تحفظ [ذنب] الآباء على الأبناء وأبناء الأبناء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة. (٦) فاغفر، أيْ ربِّ، آثام هذا الشعب بكثرة نعمك، وكما غفرت لهم منذ أخرجتهم من أرض مصر إلى الآن. فقال الله جل ثناؤه لموسى صلى الله عليه: قد غفرت لهم بكَلمتك، ولكن حيٌّ أنا، (٧) وقد ملأت الأرض محمدتي كلها، لا يرى القوم الذين قد رأوا محمدتي وآياتي التي فعلت في أرض مصر وفي القفار، (٨) وابتلوني عشر مرات ولم يطيعوني، (٩) لا يرون الأرض التي حلفت لآبائهم، (١٠) ولا يراها من أغضبني، فأما عبدي كالب الذي كان روحه معي واتبع هواي، (١١) فإني مدخله الأرض التي دخلها، ويراها خَلَفه.
=وكان العماليق والكنْعانيون جلوسًا في الجبال، ثم غدوا فارتحلوا إلى القفار في طريق بحر سوف، (١٢) وكلم الله عز وجل موسى وهارون، وقال لهما: إلى متى توسوس عليّ هذه الجماعة جماعة السوء؟ قد سمعتُ وسوسة بني إسرائيل. (١٣) وقال،
(١) كان في المطبوعة: "على نار فيه الرمز"، وهو لا معنى له، وفي المخطوطة"على فيه الرمز" كل ذلك غير منقوط، وصواب قراءته كما أثبت، فإني أشك في كلمة"نار" التي كانت في المطبوعة، والتي في المخطوطة غير منقوطة، فرجحت قراءتها"باب"، لأنه يكثر في كتاب القوم: "باب خيمة الاجتماع" كما في سفر العدد، الإصحاح العاشر مثلا. و"خيمة الاجتماع"، هي التي جاءت في خبر بن إسحق"قبة الزمر"، و"الزمر" جمع"زمرة" وهي الجماعة. ويقابل ما رواه ابن إسحق هنا في سفر العدد، الإصحاح الرابع عشر، "ثم ظهر مجد الرب في خيمة الاجتماع"، فثبت بهذا أن"خيمة الاجتماع" هي"قبة الزمر". و"القبة" عند العرب. هي خيمة من أدم مستديرة.
هذا، وخبر ابن إسحق هذا بطوله، هو ترجمة أخرى للإصحاح الرابع عشر من سفر العدد. فمن المفيد مراجعته، كما أسلفت في ص: ١٨٣، تعليق ٢. وسأجتهد في بيان بعض خلاف الترجمة هنا.
(٢) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "أضربهم بالموت"، وفي كتاب القوم"بالوبأ"، وغير بعيد أن يكون لفظ"الموت" مصحفا عن"الوبأ".
(٣) في كتاب القوم: "فيسمع المصريون..".
(٤) في المطبوعة: "ساكنو هذه البلاد"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٥) من الحسن أن تقرأ هذا النص في كتاب القوم، فإنه هناك: "فالآن لتعظم قدرة سيدي كما تكلمت قائلا. الرب طويل الروح، كثير الإحسان، يغفر الذنب والسيئة".
(٦) في المطبوعة: "إلى ثلاثة أجيال وأربعة"، وأثبت ما في المخطوطة. و"الأحقاب" جمع"حقب" (بضم فسكون، أو بضمتين) : وهي الدهر، قيل: ثمانون سنة، وقيل أكثر. وأما ما بين القوسين فقد استظهرته من كتاب القوم، فإن الكلام بغيره غير مستقيم. وهو في كتابهم: "بل يجعل ذنب الآباء على الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع".
(٧) في المطبوعة: "ولكن قد أتى أني أنا الله"، غير ما في المخطوطة، إذ لم يحسن قراءته، وهو كما أثبته، وهو في كتاب القوم أيضًا: "ولكن حي أنا فتملأ كل الأرض من مجد الرب".
(٨) في المطبوعة والمخطوطة: "ألا ترى القوم"، والسياق يقتضي ما أثبت، وهو بمعناه في كتاب القوم.
(٩) في المطبوعة: "وسلوني عشر مرات"، و"ابتلاه": اختبره، وفي كتاب القوم: "وجربوني عشر مرات".
(١٠) في المطبوعة: "التي خلقت"، وهو ليس صحيح المعنى، بل هو باطل. وهي في المخطوطة غير منقوطة، وهي في كتاب القوم"حلفت" كما هي في رسم المخطوطة، وكما أثبتها، واتفقت على ذلك الترجمة القديمة، وهذه الترجمة التي بين أيدينا. والمعنى في ذلك: الأرض التي أقسمت لآبائهم بعزتي وجلالي أن أجعلها لأبنائهم.
(١١) في ترجمة القوم: "وأما عبدي كالب، فمن أجل أنه كانت معه روح أخرى. وقد اتبعني تمامًا".
(١٢) في المطبوعة والمخطوطة: "في طريق يحرسون"، وهو تصحيف وتحريف. والصواب ما أثبته و"بحر سوف" هو المعروف باسم"البحر الأحمر"، وكان العرب يعرفونه باسم"بحر القلزم"، و"القلزم": مدينة قديمة كانت قرب أيلة والطور. و"السوف" لعلها نطق قديم لقول العرب"السيف" (بكسر السين)، وهو ساحل البحر، ولعله قد سمى به موضع هناك، فنسب إليه البحر.
(١٣) "وسوس عليه"، و"الوسوسة"، مضت في الأثر رقم: ١١٦٦٣، ولم أشرحها هناك.
وأصل"الوسوسة": الصوت من الريح، أو صوت الحلي والقصب وغيرها. و"الوسوسة" أيضا: كلام خفي مختلط لا يستبين."وسوس الرجل": إذا تكلم بكلام لم يبينه. وهذه ترجمة بلا شك يراد بها الإكثار من الكلام الخفي المبهم، يتناقله القوم بينهم متذمرين. ويقابله في ترجمة القوم، في الكتاب الذي بين أيدينا: "قد سمعت تذمر بني إسرائيل.."
194
لأفعلن بكم كما قلت لكم، (١) ولتلقينَّ جِيَفكم في هذه القفار، وكحسابكم، (٢) من بني عشرين سنة فما فوق ذلك، من أجل أنكم وسوستم عليّ، (٣) فلا تدخلوا الأرض التي رفعت [يدي] إليها، (٤) ولا ينزل فيها أحد منكم غير كالب بن يوفنا ويوشع بن نون، وتكون أثقالكم كما كنتم الغنيمة، وأما بنُوكم اليوم الذين لم يعلموا ما بين الخير والشر، فإنهم يدخلون الأرض، وإني بهم عارف، لهم الأرض التي أردت لهم، وتسقط جيفكم في هذه القفار، وتتيهون في هذه القفار على حساب الأيَّام التي حَسَستم الأرض أربعين يومًا، مكان كل يوم سنةً وتقتلون بخطاياكم أربعين سنة، وتعلمون أنكم وسوستم قُدَّامي. إنى أنا الله فاعل بهذه الجماعة= جماعة بني إسرائيل الذين وعدوا قدامي= بأن يتيهوا في القفار، (٥) فيها يموتون.
= فأما الرهط الذين كان موسى بعثهم ليتحسسوا الأرض، ثم حرَّشوا الجماعة، فأفشوا فيهم خبرَ الشرّ، فماتوا كلهم بغتًة، وعاش يوشع وكالب بن يوفنا من الرهط الذين انطلقوا يتحسسون الأرض.
=فلما قال موسى عليه السلام هذا الكلام كلَّه لبني إسرائيل، حزن الشعب
(١) في كتاب القوم هكذا: "لأفعلن بكم كما تكلمتم في أذني".
(٢) في المطبوعة: "وحسابكم"، وأثبت ما في المخطوطة، يعني: مثل عددكم، أي جميعا. وفي كتاب القوم: "جميع المعدودين منكم حسب عددكم".
(٣) انظر تفسير"الوسوسة" آنفا ص ١٩٥، رقم: ٧.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "التي دفعت إليها"، وليس له معنى، فجعلتها"رفعت" وزدت"يدي" بين القوسين استظهارًا من نص كتاب القوم، وفيه: "التي رفعت يدي لأسكننكم فيها".
(٥) في المطبوعة: "قد أتى أني أنا الله......... الذين وعدوا بأن يتيهوا........"، وأثبتت ما في المخطوطة. وفي كتاب القوم: "........ فتعرفون ابتعادي. أنا الرب قد تكلمت، لأفعلن هذا بكل هذه الجماعة الشريرة المتفقة على. في هذا القفر يفنون وفيه يموتون".
196
حزنًا شديدًا، وغدوا فارتفعوا، إلى رأس الجبل، (١) وقالوا: نرتقي الأرض التي قال جل ثناؤه، من أجل أنا قد أخطأنا. فقال لهم موسى:"لم تعتدون في كلام الله؟ من أجل ذلك لا يصلح لكم عمل، ولا تصعدوا من أجل أنَّ الله ليس معكم، فالآن تنكسرون من قدّام أعدائكم، من أجل العمالقة والكنعانيين أمامكم، فلا تقعوا في الحرب من أجل أنكم انقلبتم على الله، فلم يكن الله معكم". فأخذوا يَرْقَوْنَ في الجبل، ولم يبرح التابوت الذي فيه مواثيق الله جل ذكره وموسى من المحلة= يعني من الخيمة (٢) = حتى هبط العماليق والكنعانيون في ذلك الحائط، فحرقوهم وطردوهم وقتلوهم. (٣) فتيّهم الله عز ذكره في التيه أربعين سنًة بالمعصية، حتى هلك من كان استوجب المعصية من الله في ذلك. =قال: فلما شَبّ النواشئ من ذراريهم وهلك آباؤهم، وانقضت الأربعون سنة التي تُيِّهوا فيها، (٤) وسار بهم موسى ومعه يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، وكان -فيما يزعمون- على مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون، وكان لهما صهرًا، (٥) قدَّم يوشع بن نون إلى أريحا، في بني إسرائيل، فدخلها بهم، وقتل بها الجبابرة الذين كانوا فيها، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل، فأقام فيها ما شاء الله أن يُقيم، ثم قبضه الله إليه، لا يعلم قبره أحد من الخلائق.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: إن"الأربعين" منصوبة بـ"التحريم"= وإنّ قوله:"محرمة عليهم أربعين سنة"، معنيٌّ به جميع قوم موسى، لا بعض دون بعض منهم. لأن الله عز ذكره عمَّ بذلك القوم، ولم يخصص منهم بعضًا دون بعض. وقد وفَى الله جل ثناؤه بما وعدهم به من العقوبة، فتيَّههم أربعين سنة، وحرَّم على جميعهم، في الأربعين سنة التي مكثوا فيها تائهين، دخولَ الأرض المقدَّسة، فلم يدخلها منهم أحد، لا صغير ولا كبير، ولا صالح ولا طالح، حتى انقضت السنون التي حرَّم الله عز وجَل عليهم فيها دخولها. ثم أذن لمن بقي منهم وذراريهم بدخُولها مع نبي الله موسى والرجلين اللذين أنعمَ الله عليهما، وافتتح قرية الجبارين، إن شاء الله، نبيُّ الله موسى صلى الله عليه وسلم، وعلى مقدّمته يوشع، وذلك لإجماع أهل العلم بأخبار الأوَّلين أن عوج بن عناق قتلَه موسى صلى الله عليه وسلم. (٦) فلو كان قتلُه إياه قبل مصيره في التيه، وهو من أعظم الجبارين خلقًا، لم تكن بنو إسرائيل تجزَع من الجبارين الجزعَ الذي ظهر منها. ولكن ذلك كان، إن شاء الله، بعد فناء الأمة التي جزعت وعصت ربها، وأبت الدخول على الجبارين مدينَتهم.
وبعدُ: فإن أهل العلم بأخبار الأوّلين مجمعون على أن بلعم بن باعور، (٧) كان ممن أعان الجبارين بالدعاء على موسى. ومحالٌ أن يكون ذلك كان وقوم موسى ممتنعون من حربهم وجهادهم، لأن المعونة إنما يحتاج إليها من كان مطلوبًا، فأما ولا طالب، فلا وجه للحاجة إليها.
(١) في المطبوعة: "على رأس الجبل"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "يعني من الحكمة"، والصواب ما أثبت، لأن"التابوت" كان في خيمة. واللفظة في المخطوطة غير بينة الكتابة. وانظر صفة"الخيمة" التي كان فيها التابوت في قاموس كتابهم.
(٣) إلى هذا الموضع انتهى الإصحاح الرابع عشر من سفر العدد. وقد تبين أن ما رواه ابن إسحق، هو ترجمة أخرى لهذا الإصحاح. ولغة ترجمة ابن إسحق تخالف كل المخالفة، عبارة ابن إسحق في سائر ما كتب من السير، وفيها عبارات وجمل وألفاظ، لا أشك في أنها من عمل مترجم قديم. ومحمد بن إسحق مات في نحو سنة ١٥٠ من الهجرة، فهذه الترجمة التي رواها عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول، قد تولاها بلا ريب رجال قبل هذا التاريخ، أي في القرن الأول من الهجرة. وهذا أمر مهم، أرجو أن أتتبعه فيما بعد حتى أضع له تاريًخا يمكن أن يكشف عن أمر هذه الترجمة العتيقة.
(٤) في المطبوعة: "التي تتيهوا" بتاءين، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في تاريخ الطبري ١: ٢٢٦.
(٥) من أول قوله: "فلما شب النواشئ"، إلى هذا الموضع، مروي في تاريخ الطبري ١: ٢٢٦.
(٦) في المطبوعة: "عوج بن عنق"، وأثبت ما في المخطوطة. وانظر ما سلف أنه روى في اسمه"عاج" ص: ١٩٢، تعليق: ٢.
(٧) في المطبوعة: "باعوراء"، وأثبت ما في المخطوطة.
197
١١٦٩٨ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نوف قال: كان سرير عوج ثمانمائة ذراع، وكان طول موسى عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع، ووثب في السماء عشرة أذرع، (١) فضرب عوجًا فأصاب كعبه، فسقط ميتًا، فكان جسرًا للناس يمرُّون عليه. (٢)
١١٦٩٩ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا قيس، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت عصا موسى عشرة أذرع، ووثبته عشرة أذرع، وطوله عشرة أذرع، (٣) فوثب فأصاب كعب عوج فقتله، فكانَ جسرًا لأهل النيل سنة. (٤)
* * *
ومعنى:"يتيهون في الأرض"، يحارون فيها ويضلُّون= ومن ذلك قيل للرجل الضال عن سبيل الحق:"تائه". وكان تيههم ذلك: أنهم كانوا يصبحون أربعين سنة كل يوم جادِّين في قدر ستة فراسخ للخروج منه، فيمسون في الموضع الذي ابتدأوا السير منه.
١١٧٠٠ - حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع. (٥)
١١٧٠١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
(١) في المطبوعة"عشرة أذرع" في المواضع الثلاثة، وأثبت ما في المخطوطة، وكلاهما صواب فإن"الذراع"، مؤنثة، وقد تذكر.
(٢) الأثر: ١١٦٩٨- رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ٢٢٣.
(٣) في المطبوعة"عشرة أذرع" في المواضع الثلاثة، وأثبت ما في المخطوطة، وكلاهما صواب فإن"الذراع"، مؤنثة، وقد تذكر.
(٤) الأثر: ١١٦٩٩- رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ٢٢٣.
هذا، وكل ما رواه أبو جعفر من أخبار عوج، وما شابهه مما مضى في ذكر ضخامة خلق هؤلاء الجبارين، إنما هي مبالغات كانوا يتلقونها من أهل الكتاب الأول، لا يرون بروايتها بأسًا. وهي أخبار زيوف لا يعتمد عليها.
(٥) الأثر: ١١٧٠٠- انظر الأثر السالف رقم: ١١٦٩٠.
199
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: تاهت بنو إسرائيل أربعين سنة، يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا في تيههم.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فلا تأس"، فلا تحزن.
يقال منه:"أسِيَ فلان على كذا يأسىَ أسًى"، و"قد أسيت من كذا"، أي حزنت، ومنه قول امرئ القيس:
وُقُوفًا بِهَا صَحْبي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ... يَقُولُونَ: لا تَهْلِكْ أَسًى وتَجَمَّل (١)
يعني: لا تهلك حزنًا.
* * *
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١١٧٠٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فلا تأس" يقول: فلا تحزن.
١١٧٠٣ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط، عن السدي:"فلا تأس على القوم الفاسقين"، قال: لما ضُرب عليهم التّيه، ندم موسى صلى الله عليه وسلم، فلما نَدِم أوحى الله إليه:"فلا تأس على القوم الفاسقين"، لا تحزن على القوم الذين سمَّيتهم"فاسقين"، فلم يحزن. (٢)
* * *
(١) ديوانه: ١٢٥، من معلقته المشهورة.
(٢) الأثر: ١١٧٠٣- هو بعض الأثر السالف قديمًا رقم: ٩٩١. وأسقط ناشر المطبوعة الأولى: "فلم يحزن"، لأنها كانت في المخطوطة: "فلا تحزن"، فظنها تكرارًا فحذفها، وهي ثابتة كما كتبتها في الأثر السالف: ٩٩١.
200
القول في تأويل قوله عز وجل: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واتلُ على هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطُوا أيديهم إليكم، وعلى أصحابك معك (١) = وعرِّفهم مكروهَ عاقبة الظلم والمكر، وسوء مغبَّة الخَتْر ونقض العهد، (٢) وما جزاء الناكثِ وثوابُ الوافي= (٣) خبرَ ابني آدم، هابيل وقابيل، وما آل إليه أمر المطيع منهما ربَّه الوافي بعهده، وما إليه صار أمر العاصي منهما ربَّه الخاتِر الناقضِ عهده. (٤) فلتعرف بذلك اليهود وخَامِة غِبّ غَدْرهم ونقضهم ميثاقَهم بينك وبينهم، (٥) وهمَّهم
(١) أخطأ ناشر المطبوعة الأولى فهم هذه العبارة، فجعلها"واتل على هؤلاء الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليكم عليك وعلى أصحابك معك"، فزاد"عليك"، وجعل"معهم"، "معك" فأخرج الكلام من عربية أبي جعفر، إلى كلام غسل من عربيته.
وسياق الكلام: واتل على هؤلاء اليهود.. وعلى أصحابك معهم". فسبحان من سلط الناشرين على الكاتبين!!
(٢) "الختر": هو أسوأ الغدر. وأقبح الخديعة، وفي الحديث: "ما ختر قوم بالعهد إلا سلط عليهم العدو"، وفي التنزيل: "وما يحجد بآياتنا إلا كل ختار كفور". ولم يحسن ناشر المطبوعة قراءة"الختر"، فجعل مكانها"الجور".
(٣) قوله"خبر ابني آدم" منصوب، مفعول قوله: "واتل على هؤلاء اليهود"، وما بين الخطين، جملة فاصلة للبيان.
وانظر تفسير"يتلو" فيما سلف ٢: ٤٠٩، ٤١١، ٥٦٩/٣: ٨٦/٦: ٤٦٦/٧: ٩٧. وتفسير"نبأ" فيما سلف ١: ٤٨٨، ٤٨٩/٦: ٢٥٩، ٤٠٤.
(٤) في المطبوعة: "الجائر"، وانظر تفسير"الختر" فيما سلف تعليق: ٢، وهي في المخطوطة غير منقوطة.
(٥) في المطبوعة: "وخامة غب عدوهم"، وهو فاسد مريض، وهي في المخطوطة كما كتبتها غير منقوطة.
201
بما همُّوا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك، فإن لك ولهم (١) = في حسن ثوابي وعِظَم جزائي على الوفاء بالعهد الذي جازيت المقتولَ الوافِيَ بعهده من ابني آدم، وعاقبتُ به القاتل الناكثَ عهده= عزاءً جميلا. (٢)
* * *
واختلف أهل العلم في سبب تقريب ابني آدم القربان، وسبب قَبُول الله عز وجل ما تقبل منه، ومَنِ اللذان قرَّبا؟
فقال بعضهم: كان ذلك عن أمر الله جل وعز إياهما بتقريبه، وكان سبب القبول أن المتقبَّل منه قرَّب خير ماله، وقرب الآخر شر ماله، وكان المقرِّبان ابني آدم لصلبه، أحدهما: هابيل، والآخرُ: قابيل.
ذكر من قال ذلك:
١١٧٠٤ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن هشام بن سَعْد، عن إسماعيل بن رافع قال: بلغني أن ابني آدم لمّا أُمِرَا بالقربان، كان أحدهما صاحب غَنَم، وكان أُنْتِجَ له حَمَلٌ في غنمه، (٣) فأحبه حتى كان يؤثره بالليل، وكان يحمله على ظهره من حبه، حتى لم يكن له مالٌ أحبَّ إليه منه. فلما أُمِر بالقربان قرّبه لله فقبله الله منه، فما زال يَرْتَع في الجنة حتى فُدِي به ابن إبراهيم صلى الله عليهما. (٤)
١١٧٠٥ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عوف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو قال: إنّ ابني آدم اللذين قرّبا قربانًا فتقبّل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، كان أحدهما صاحب حَرْثٍ،
(١) يعني النبي ﷺ وأصحابه.
(٢) السياق: "فإن لك ولهم.. عزاء جميلا".
(٣) "أنتج" (بالبناء للمجهول)، أي: ولد. و"الحمل" (بفتحتين) : الخروف.
(٤) الأثر: ١١٧٠٤-"هشام بن سعد المدني"، ثقة، تكلموا فيه من جهة حفظه. مضى برقم: ٥٤٩٠. وكان في المطبوعة هنا: "بن سعيد"، والصواب من المخطوطة.
"إسمعيل بن رافع بن عويمر المدني القاص"، ضعيف جدا، مضى برقم: ٤٠٣٩.
202
والآخر صاحب غنم. وأنهما أُمرا أن يقرّبا قربانًا= وإن صاحب الغَنَم قرب أكرم غنمه وأسمَنَها وأحسَنَها طيّبًة بها نفسه= وإن صاحبَ الحرث قرّب شَرّ حرثه، [الكوزن] والزُّوان، (١) غير طيبةٍ بها نفسه= وإن الله تقبّل قربان صاحب الغنم، ولم يتقبل قُربان صاحب الحرث. وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه. وقال: أيمُ الله، إنْ كان المقتول لأشدّ الرجلين، ولكن منعه التحرُّجُ أن يبسطَ يده إلى أخيه. (٢)
* * *
وقال آخرون: لم يكن ذلك من أمرِهما عن أمرِ الله إياهما به.
ذكر من قال ذلك:
١١٧٠٦ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يُتصدَّق عليه، (٣) وإنما كان القربان يقرِّبه الرجل. فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا"لو قربنا قربانًا"! وكان الرجل إذا قرب قربانًا فرضيه الله جل وعزّ، أرسل إليه نارًا فأكلته. وإن لم يكن رضيَه الله، خَبَتِ النار. فقرّبا قربانًا، وكان أحدهما راعيًا، وكان الآخر حرَّاثًا، وإنّ صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنَها، وقرب الآخر بعضَ زرعه. (٤) فجاءت النار فنزلت يينهما، فأكلت الشاة وتركت
(١) "الكوزن"، هكذا في المطبوعة والمخطوطة، وفي تاريخ الطبري"الكوذر"، ولم أجدها في شيء مما بين يدي من الكتب. والذي وجدته أن"الدوسر": نبات كنبات الزرع، له سنبل وحب دقيق أسمر، يكون في الحنطة، ويقال هو"الزوان". و"الزوان" (بضم الزاي) : ما يخرج من الطعام فيرمي به، وهو الرديء منه. وقيل: هو حب يخالط الحنطة، تسميه أهل الشأم: "الشيلم".
(٢) الأثر: ١١٧٠٥- رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ٧١، وسيأتي برقم: ١١٧٢٧، مختصرًا. وفي المطبوعة هنا: "أن يبسط يده إلى أخيه"، زاد"يده"، وهي ليست في المخطوطة، ولا في التاريخ، ولا في هذا الأثر الذي سيرويه مرة أخرى بعد.
(٣) في المطبوعة: "فيتصدق"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(٤) في المطبوعة: "أبغض زرعه"، غير ما في المخطوطة، وهي موافقه لما في التاريخ. ويعني بقوله: "بعض زرعه"، أي: ما اتفق له، غير متخير كما تخير أخوه. وهو كقوله في الأثر رقم: ١١٧٠٩."زرعا من زرعه".
203
الزرع، وإن ابن آدم قال لأخيه: أتَمْشي في الناس وقد علموا أنك قرَّبت قربانًا فتُقبِّل منك، ورُدَّ علي؟ فلا والله لا تنظر الناس إليّ وإليك وأنت خير مني!! فقال: لأقتلنَّك! فقال له أخوه: ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين. (١)
١١٧٠٧ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إذ قربا قربانًا"، قال: ابنا آدم، هابيل وقابيل، لصلب آدم. فقرّب أحدهما شاةً، وقرب الآخر بَقْلا فقبل من صاحب الشاة، فقتله صاحبه.
١١٧٠٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١١٧٠٩ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذْ قرّبا قربانًا" قال: هابيل وقابيل، فقرب هابيل عَنَاقًا من أحسن غَنَمه، (٢) وقرب قابيل زرعًا من زرعه. قال: فأكلت النار العَناقَ، ولم تأكل الزرع، فقال: لأقتلنك! قال: إنما يتقبل الله من المتقين.
١١٧١٠ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا رجل سمع مجاهدا في قوله:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانًا" قال: هو هابيل وقابيل لصُلْب آدم، قربا قربانًا، قرب أحدهما شاة من غنمه، وقرب الآخر بَقْلا فتُقُبِّل من صاحب الشاة، فقال لصاحبه: لأقتلنك! فقتله. فعقل الله إحدى رجليه بساقها إلى فخذها إلى يوم القيامة، وجعل وجهه إلى الشمس حيثما دارت، عليه حَظِيرة من ثلج في الشتاء، وعليه في الصيف حظيرة من نار، ومعه
(١) الأثر: ١١٧٠٦- رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ٧١، وسيأتي برقم: ١١٧٥٠، بزيادة في آخره.
(٢) "العناق" (بفتح العين) : وهي الأنثى من المعز ما لم تتم سنة.
204
سبعةُ أملاكٍ، كلما ذهب مَلَك جاء الآخر.
١١٧١١ - حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان= ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان= عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن ابن عباس:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قرّبا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر"، قال: قرّب هذا كبشًا، وقرّب هذا صُبَرًا من طعام، (١) فتقبل من أحدهما، قال: تُقُبل من صاحب الشاة، ولم يتقبل من الآخر.
١١٧١٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قرّبا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر"، كان رجلان من بني آدم، فتُقُبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر.
١١٧١٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، قال: كان أحدهما اسمه قابيل، والآخر هابيل، أحدهما صاحب غنم، والآخر صاحب زرع، فقرب هذا من أمثل غنمه حَمَلا وقرّب هذا من أرذَلِ زرعه، (٢) قال: فنزلت النار فأكلت الحمل، فقال لأخيه: لأقتلنك!
١١٧١٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوَّل: أن آدم أمر ابنه قابيل أن يُنكِح أختَه تُؤْمَهُ هابيل، وأمر هابيل أن ينكح أخته تُؤْمَه قابيل، (٣) فسلم لذلك هابيل ورضي، وأبى قابيل
(١) "الصبر" (بضم الصاد وفتح الباء) جمع"صبرة" (بضم فسكون) : كومة من طعام بلا كيل ولا وزن. ويقال: "اشتريت الشيء صبرة"، أي بلا كيل ولا وزن. وفي المطبوعة: "صبرة" وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "من أردإ زرعه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة في الموضعين"توأمة"، وأثبت ما في المخطوطة، وفي تاريخ الطبري: "توأمته". و"التوأم" و"التئم" (بكسر فسكون) و"التؤم" (بضم فسكون)، و"التئيم"، هو من جميع الحيوان، المولود مع غيره في بطن، من الاثنين إلى ما زاد، ذكرًا كان أوأنثى، أو ذكرًا مع أنثى. ويقال أيضا"توأم للذكر"و"توأمة" للأنثى.
وفي المخطوطة والمطبوعة في جميع المواضع"قابيل". وأما في التاريخ، فهو في جميع المواضع"قين" مكان"قابيل"، وهما واحد، فتركت ما في المطبوعة والمخطوطة على حاله، وإن كان يخالف ما رواه أبو جعفر في التاريخ.
205
ذلك وكره، (١) تكرمًا عن أخت هابيل، ورغب بأخته عن هابيل، وقال: نحنَ وِلادة الجنة، وهما من ولادة الأرض، وأنا أحق بأختي! = ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول: كانت أخت قابيل من أحسن الناس، فضن بها عن أخيه وأرادها لنفسه. فالله أعلم أيّ ذلك كان= فقال له أبوه: يا بني إنها لا تحلُّ لك! فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه، فقال له أبوه: يا بني فقرّب قربانًا، ويقرّب أخوك هابيل قربانًا، فأيُّكما قَبِل الله قربَانه فهو أحق بها. وكان قابيل على بَذْر الأرض، وكان هابيل على رِعاية الماشية، فقرب قابيل قمحًا وقرّب هابيل أبْكارًا من أبكار غنمه= وبعضهم يقول: قرب بقرة= فأرسل الله جل وعز نارًا بيضاء فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، وبذلك كان يُقْبَل القُربان إذا قبله. (٢)
١١٧١٥ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي فيما ذكر، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس= وعن مرة، عن ابن مسعود= وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: وكان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية، (٣) فكان يزوّج غلام هذا البطن، جاريةَ هذا البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن، غلامَ هذا البطن الآخر. حتى ولد له ابنان يقال لهما: قابيل، وهابيل. وكان قابيل صاحب زرع، وكان
(١) في المطبوعة: "وكرهه"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(٢) الأثر: ١١٧١٤- رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ٧٠.
(٣) في المطبوعة: "كان.." بغير واو، وأثبت ما في المخطوطة.
206
هابيل صاحب ضَرْعٍ. وكان قابيل أكبرهما، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل. وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه وقال: هي أختي، ولدت معي، وهي أحسن من أختك، وأنا أحق أن أتزوَّجها! فأمره أبوه أن يزوِّجها هابيل، فأبى. وإنهما قربا قربانًا إلى الله أيُّهما أحق بالجارية، كان آدم يومئذ قد غاب عنهما إلى مكة ينظر إليها، قال الله عز ذكره لآدم: يا آدمُ، هل تعلم أن لي بيتًا في الأرض؟ قال: اللهم لا! قال: فإن لي بيتًا بمكة فأتِه. فقال آدم للسماء:"احفظي ولدي بالأمانة"، فأبت. وقال للأرض، فأبت. وقال للجبال فأبت. وقال لقابيل، فقال: نعم، تذهب وترجع وتجدُ أهلك كما يسرُّكَ. فلما انطلق آدم، قربا قربانًا، وكان قابيل يفخَر عليه فقال: أنا أحق بها منك، هي أختي، وأنا أكبر منك، وأنا وصيُّ والدي! فلما قرَّبا، قرب هابيل جَذَعة سمينة، (١) وقرّب قابيل حُزمة سنبل، فوجد فيها سنبلةً عظيمة، ففرَكَها فأكلها. فنزلت النار فأكلت قربانَ هابيل، وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي! فقال هابيل: إنما يتقبَّل الله من المتقين. (٢)
١١٧١٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، ذكر لنا أنهما هابيل وقابيل. فأما هابيل، فكان صاحب ماشية، فعمَد إلى خير ماشيته فتقرّب بها، فنزلت عليه نار فأكلته= وكان القربان إذا تُقُبل منهم، نزلت عليه نار فأكلته. وإذا رُدَّ عليهم أكلته الطيرُ والسباع= وأما قابيل، فكان صاحب زرع، فعمد إلى أردإ زرعه فتقرب به، فلم تنزل عليه النار، فحسد أخاه عند ذلك فقال: لأقتلنك! قال: إنما يتقبل الله من المتقين.
١١٧١٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
(١) "الجذعة" من الضأن والمعز، الصغير، لم يتم سنته.
(٢) الأثر: ١١٧١٥- رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ٦٨، ٦٩.
207
معمر، عن قتادة في قوله:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، قال: هما هابيل وقابيل، قال: كان أحدهما صاحب زرع، والآخر صاحب ماشية، فجاء أحدهما بخيرِ ماله، وجاء الآخر بشر ماله. فجاءت النار فأكلت قربان أحدهما، وهو هابيل، وتركت قربان الآخر، فحسده فقال: لأقتلنك!
١١٧١٨ - حدثنا سفيان قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"إذ قرّبا قربانًا"، قال: قرّب هذا زرعًا، وذَا عناقًا، فتركت النارُ الزرعَ وأكلتِ العَناق. (١)
* * *
وقال آخرون: اللذان قرّبا قربانًا، وقصَّ الله عز ذكره قصصهما في هذه الآية: رجلان من بني إسرائيل، لا من ولد آدم لصلبه.
ذكر من قال ذلك:
١١٧١٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن قال: كان الرجلان اللذان في القرآن، اللذان قال الله:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وإنما كان القُربان في بني إسرائيل، وكان آدم أول من مات. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، أن اللذين قرّبا القربان كانا ابني آدم لصلبه، لا من ذرّيته من بني إسرائيل. وذلك أن الله عز وجل يتعالى عن أن يخاطب عبادَه بما لا يفيدهم به فائدة، والمخاطبون بهذه الآية كانوا عالمين أن تقريبَ القربان لله لم يكن إلا في ولد آدم، دون الملائكة والشياطين
(١) "العناق": أنثى المعز، ما لم تتم سنة.
(٢) الأثر: ١١٧١٩-"سهل بن يوسف الأنماطي"، روى عن ابن عون، وعوف الأعرابي، وحميد الطويل، وغيرهم. روى عنه أحمد، ويحيى بن معين، ومحمد بن بشار، وغيرهم. مترجم التهذيب.
وهذا الخبر رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ٧١.
وسيأتي رد هذا الذي قاله الحسن فيما سيأتي ص: ٢١٩، ٢٢٠.
208
وسائرِ الخلق غيرهم. فإذْ كان معلومًا ذلك عندهم، فمعقول أنه لو لم يكن معنيًّا بِ"ابني آدم" اللذين ذكرهما الله في كتابه، ابناهُ لصلبه، لم يفدْهم بذكره جل جلاله إياهما فائدة لم تكن عندهم. وإذْ كان غيرَ جائز أن يخاطبهم خطابًا لا يفيدهم به معنًى، فمعلوم أنه عَنى بـ"ابني آدم"، [ابني آدم لصلبه]، لا بَنِي بنيه الذين بَعُد منه نسبهم، (١) مع إجماع أهل الأخبار والسير والعلم بالتأويل، على أنهما كانا ابني آدم لصلبه، وفي عهد آدم وزمانه، وكفى بذلك شاهدا.
* * *
وقد ذكرنا كثيًرا ممن نُصَّ عنه القول بذلك، وسنذكر كثيرًا ممن لم يذكر إن شاء الله.
١١٧٢٠ - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا حسام بن المِصَكّ، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد قال: لما قتل ابن آدم أخاه، مكث آدم مائة سنة حزينًا لا يضحك، ثم أتي فقيل له: حيّاك الله وبيّاك! = فقال:"بياك"، أضحكك. (٢)
١١٧٢١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن غياث بن إبراهيم، عن أبي إسحاق الهمداني قال، قال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: لما قتل ابن آدم أخاه، بكى آدم فقال:
تَغَيَّرَتِ الْبِلادُ وَمَنْ عَلَيْهَا فَلَوْنُ الأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيحُ
تَغَيَّرَ كُلُّ ذِي لَوْنٍ وَطَعْمٍ وَقَلَّ بَشَاشَةُ الْوَجْهِ الْمَلِيحِ
(١) في المطبوعة، بغير الزيادة التي بين القوسين. أما المخطوطة، فكانت العبارة غير مستقيمة، كتب هكذا: "أنه عني بابني آدم لصلبه بني بنيه الذين بعد منه نسبهم" فالصواب زيادة ما زدته بين القوسين، وزيادة"لا" كما فعل في المطبوعة السابقة.
(٢) الأثر: ١١٧٢٠-"حسام بن مصك بن ظالم بن شيطان الأزدي". روى عن الحسن. وابن سيرين، وقتادة، ونافع مولى ابن عمر. روى عنه أبو داود الطيالسي، وهشيم، ويزيد بن هرون، وغيرهم. ضعفوه، حتى قال ابن معين: "كان كثير الخطأ، فاحش الوهم، حتى خرج عن حد الاحتجاج به". مترجم في التهذيب.
209
فأجيب آدم عليه السلام:
أَبَا هَابِيلَ قَدْ قُتِلا جَمِيعًا وَصَارَ الْحَيُّ كَالْمَيْتِ الذَّبِيحِ
وَجَاءَ بِشِرَّةٍ قَدْ كَانَ مِنْهَا عَلَى خَوْفٍ، فَجَاءَ بِهَا يَصِيحُ (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأما القول في تقريبهما ما قرَّبا، فإن الصواب فيه من القول أن يقال: إن الله عز ذكره أخبرَ عبادَه عنهما أنهما قد قربا، ولم يخبر أن تقريبهما ما قرّبا كان عن أمر الله إياهما به، ولا عن غير أمره. وجائز أن يكون كان عن أمر الله إياهما بذلك= وجائز أن يكون عن غير أمره. غير أنه أيّ ذلك كان، فلم يقرّبا ذلك إلا طلب قرْبةٍ إلى الله إن شاء الله.
* * *
وأما تأويل قوله:"قال لأقتلنك"، فإن معناه: قال الذي لم يُتَقَبَّل منه قربانه، للذي تُقُبّل منه قربانه:"لأقتلنك"، فترك ذكر:"المتقبل قربانه" و"المردود عليه قربانه"، استغناء بما قد جرى من ذكرهما عن إعادته. وكذلك ترك ذكر"المتقبل قربانه" مع قوله،"قال إنما يتقبل الله من المتقين".
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس.
١١٧٢٢ - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"قال لأقتلنك"، فقال له أخوه: ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين. (٢)
(١) الأثر: ١١٧٢١-"غياث بن إبراهيم النخعي، الكوفي"، قال يحيى بن معين: "كذاب خبيث". وقال خالد بن الهياج: "سمعت أبي يقول: رأيت غياث بن إبراهيم، ولو طار على رأسه غراب لجاء فيه بحديث! وقال: إنه كان كذابًا يضع الحديث من ذات نفسه". مترجم في الكبير ٤/١/١٠٩، وابن أبي حاتم ٣/٢/٥٧، وفي لسان الميزان، وميزان الاعتدال.
وفي المخطوطة والمطبوعة، سقط من الإسناد"عن غياث بن إبراهيم"، وزدته من إسناد أبي جعفر في تاريخه ١: ٧٢، وروى الخبر هناك.
(٢) الأثر: ١١٧٢٢- هذا ختام الأثر السالف رقم: ١١٧٠٦.
210
١١٧٢٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إنما يتقبل الله من المتقين"، قال يقول: إنك لو اتقيت الله في قربانك تُقُبل منك، جئت بقربانٍ مغشوش بأشرِّ ما عندك، (١) وجئت أنا بقربان طيِّب بخير ما عندي. قال: وكان قال: يتقبل الله منك ولا يتقبل مني!
* * *
ويعني بقوله:"من المتقين"، من الذين اتقوا الله وخافوه، بأداء ما كلفهم من فرائضه، واجتناب ما نهاهم عنه من معصيته. (٢)
* * *
وقد قال جماعة من أهل التأويل:"المتقون" في هذا الموضع، الذين اتقوا الشرك.
ذكر من قال ذلك:
١١٧٢٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:"إنما يتقبل الله من المتقين"، الذين يتقون الشرك.
* * *
وقد بينا معنى"القربان" فيما مضى= وأنه"الفعلان" من قول القائل:"قرَّب"، كما"الفُرْقان""الفعلان" من"فرق"، و"العُدْوان" من"عدا". (٣)
* * *
وكانت قرابين الأمم الماضية قبل أمَّتنا، كالصدقات والزكوات فينا، غير أن قرابينهم كان يُعْلم المتقبل منها وغير المتقبَّل =فيما ذكر= بأكل النار ما تُقُبل منها، وترك النار ما لم يُتقبّل منها. (٤) و"القربان" في أمّتنا، الأعمال الصالحة، من الصَّلاة، والصيام، والصدقة على أهل المسكنة، وأداءِ الزكاة المفروضة. ولا سبيل
(١) قوله: "بأشر ما عندك"، أي: "بشر ما عندك"، وهي لغة قليلة. وقد مضت في الخبر رقم: ٥٠٨٠، وانظر التعليق هناك: ٥: ٨٥، تعليق: ١.
(٢) انظر تفسير"اتقى" فيما سلف من فهارس اللغة (وقى).
(٣) انظر ما سلف ٧: ٤٤٨.
(٤) انظر الأثرين السالفين: ٨٣١٠، ٨٣١١.
211
لها إلى العلم في عاجلٍ بالمتقبَّل منها والمردود. (١)
* * *
وقد ذكر عن عامر بن عبد الله العنبري، أنه حين حضرته الوفاة بَكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقد كنتَ وكنتَ! فقال: يبكيني أنّي أسمع الله يقول:"إنما يتقبل الله من المتقين".
١١٧٢٥ - حدثني بذلك محمد بن عمر المقدمي قال، حدثني سعيد بن عامر، عن همّام، عمن ذكره، عن عامر. (٢)
* * *
وقد قال بعضهم: قربان المتقين، الصلاة.
١١٧٢٦ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث، عن عمران بن سليمان، عن عدي بن ثابت قال: كان قربان المتّقين، الصلاة. (٣)
* * *
(١) قوله: "لها"، الضمير عائد إلى قوله: "أمتنا".
(٢) الأثر: ١١٧٢٥-"محمد بن عمر بن علي بن عطاء المقدمي"، مضى برقم: ٦٢٢٥، ٦٨٠٩.
و"سعيد بن عامر الضبعي"، ثقة مأمون. مترجم في التهذيب.
و"همام" هو"همام بن يحيى بن دينار الأزدي"، ثقة صدوق. مترجم في التهذيب.
و"عامر بن عبد الله العنبري"، هو"عامر بن عبد الله بن عبد قيس العنبري"، ويقال: "عامر بن عبد قيس"، أحد الزهاد الثمانية، وهم: "عامر بن عبد الله بن عبد قيس، وأويس القرني، وهرم بن حبان، والربيع بن خثيم، ومسروق بن الأجدع، والأسود بن يزيد، وأبو مسلم الخولاني، والحسن بن أبي الحسن البصري". انظر ترجمته في حلية الأولياء ٢: ٨٧-٩٥، وكتاب الزهد لأحمد بن حنبل: ٢١٨- ٢٢٨. ولم أجد هذا الخبر في أخباره في الكتابين.
(٣) الأثر: ١١٧٢٦-"عمران بن سليمان القيسي"، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في لسان الميزان.
و"عدي بن ثابت الأنصاري"، ثقة، إلا أنه كان يتشيع. مات سنة ١١٦. مترجم في التهذيب.
212
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (٢٨) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن المقتول من ابني آدم أنه قال لأخيه= لما قال له أخوه القاتل: لأقتلنك=: والله"لئن بسطت إليَّ يدك"، يقول: مددت إليَّ يدك="لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك"، يقول: ما أنا بمادٍّ يدي إليك (١) "لأقتلك".
* * *
وقد اختلف في السبب الذي من أجله قال المقتول ذلك لأخيه، ولم يمانعه ما فَعَل به. فقال بعضهم: قال ذلك، إعلامًا منه لأخيه القاتل أنه لا يستحل قتلَه ولا بسطَ يده إليه بما لم يأذن الله جل وعز له به. (٢)
ذكر من قال ذلك:
١١٧٢٧ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عوف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو أنه قال: وايم الله، إن كان المقتول لأشدَّ الرجلين، ولكن منعه التحرُّج أن يبسُط إلى أخيه. (٣)
١١٧٢٨ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك"، ما أنا بمنتصر، (٤) ولأمسكنَّ يدي عنك.
* * *
(١) انظر تفسير: "بسط" فيما سلف ص: ١٠٠.
(٢) في المطبوعة: "بما لم يأذن الله به"، أسقط ما هو ثابت في المخطوطة، ولا أدري لم يرتكب ذلك!!
(٣) الأثر: ١١٧٢٧- سلف هذا الأثر مطولا برقم: ١١٧٠٥، وانظر التعليق عليه هناك.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "لا أنا"، والسياق يقتضي ما أثبت.
213
وقال آخرون: لم يمنعه مما أراد من قتله، وقال ما قال له مما قصَّ الله في كتابه: [إلا] أن الله عزّ ذكره فرضَ عليهم أن لا يمتنع من أريد قتله ممن أراد ذلك منه. (١)
ذكر من قال ذلك:
١١٧٢٩ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا رجل سمع مجاهدًا يقول في قوله:"لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك"، قال مجاهد: كان كُتب عليهم، (٢) إذا أراد الرجل أن يقتل رجلا تركه ولا يمتنع منه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عز ذكره قد كان حرَّم عليهم قتل نفسٍ بغير نفس ظلمًا، وأن المقتول قال لأخيه:"ما أنا بباسط يدي إليك إن بسطت إليّ يدك"، لأنه كان حرامًا عليه من قتل أخيه مثلُ الذي كان حرامًا على أخيه القاتل من قتله. فأما الامتناع من قتله حين أراد قتله، فلا دلالة على أن القاتلَ حين أراد قتله وعزم عليه، كان المقتول عالمًا بما هو عليه عازمٌ منه ومحاولٌ من قتله، فترك دفعَه عن نفسه. بل قد ذكر جماعة من أهل العلم أنه قتله غِيلةً، اغتاله وهو نائم، فشدَخ رأسه بصخرةٍ. (٣) فإذْ كان ذلك ممكنًا، ولم يكن في الآيةِ دلالة على أنه كان مأمورًا بترك منع أخيه من قتله، يكون جائزًا ادعاءُ ما ليس في الآية، إلا ببرهان يجب تسليمُه.
* * *
وأما تأويل قوله:"إنّي أخاف الله رب العالمين" فإنه: إنّي أخاف الله في بسط يدي إليك إن بسطتها لقتلك= (٤) "رب العالمين"، يعني: مالك الخلائق كلها (٥) =أن يعاقبني على بسط يدي إليك.
* * *
(١) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق هذه الجملة.
(٢) في المطبوعة: "كان كتب الله عليهم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) انظر الآثار التالية من رقم: ١١٧٤٦-١١٧٤٩.
(٤) في المطبوعة: "فإني أخاف"، وهو لا يستقيم، والصواب ما أثبته من المخطوطة.
(٥) انظر تفسير"رب" و"العالمون" فيما سلف من فهارس اللغة.
214
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معناه: إني أريد أن تبوء بإثمي من قتلك إياي، وإثمك في معصيتك الله، وغير ذلك من معاصيك. (١)
ذكر من قال ذلك:
١١٧٣٠ - حدثني موسى بن هارون، (٢) قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في حديثه، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس= وعن مرة، عن ابن مسعود= وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، يقول: إثم قتلي، إلى إثمك الذي في عنقك="فتكون من أصحاب النار".
١١٧٣١ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، يقول: بقتلك إياي، وإثمك قبل ذلك.
١١٧٣٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، قال: بإثم قتلي وإثمك.
١١٧٣٣ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك" يقول: إني أريد أن يكون عليك خطيئتك ودمي، تبوء بهما جميعًا.
١١٧٣٤ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز، عن سفيان، عن
(١) في المطبوعة: "وإثمك في معصيتك الله بغير ذلك من معاصيك"، وهو كلام لا يستقيم، لا شك أن صوابه ما أثبت.
(٢) في المطبوعة: "محمد بن هرون"، وهو خطأ لا شك فيه، صوابه في المخطوطة.
215
منصور، عن مجاهد:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، يقول: إني أريد أن تبوء بقتلك إياي="وإثمك"، قال: بما كان منك قبل ذلك.
١١٧٣٥ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثني عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، قال: أما"إثمك"، فهو الإثم الذي عمل قبل قتل النفس =يعني أخاه= وأما"إثمه"، فقتلُه أخاه.
* * *
=وكأن قائلي هذه المقالة، وجَّهوا تأويل قوله:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، إلى: إني أريد أن تبوء بإثم قتلي (١) =فحذف"القتل" واكتفى بذكر"الإثم"، إذ كان مفهومًا معناه عند المخاطبين به.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إني أريد أن تبوء بخطيئتي، فتتحمل وزرها، وإثمِك في قتلك إيّاي. وهذا قول وجدتُه عن مجاهد، وأخشى أن يكون غلطًا، لأن الصحيح من الرواية عنه ما قد ذكرنا قبلُ.
ذكر من قال ذلك:
١١٧٣٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، يقول: إني أريد أن تكون عليك خطيئتي ودمي، فتبوء بهما جميعًا.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن تأويله: إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي (٢) =وذلك هو معنى قوله:"إني
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "أي: إني أريد.."، وصواب قراءتها ما أثبت.
(٢) انظر تفسير"باء" فيما سلف ٢: ١٣٨، ٣٤٥/٧: ١١٦، ٣٦٦ = وتفسير"الإثم"، فيما سلف من فهارس اللغة.
216
أريد أن تبوء بإثمي" =وأما معنى:"وإثمك"، فهو إثمه بغير قتله، وذلك معصيته الله جل ثناؤه في أعمالٍ سِوَاه.
وإنما قلنا ذلك هو الصواب، لإجماع أهل التأويل عليه. لأن الله عز ذكره قد أخبرنا أن كل عامل فجزاءُ عمله له أو عليه. وإذا كان ذلك حكمه في خلقه، فغير جائز أن يكون آثام المقتول مأخوذًا بها القاتل، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثامِ معاصيه التي ارتكبها بنفسه، دون ما ركبَه قتيلُه.
* * *
فإن قال قائل: أو ليس قتلُ المقتول من بني آدم كان معصيةً لله من القاتل؟ قيل: بلى، وأعظِمْ بها معصية!
فإن قال: فإذا كان لله جل وعز معصيًة، فكيف جاز أن يُريد ذلك منه المقتول، ويقول:"إني أريد أن تبوء بإثمي"، وقد ذكرتَ أن تأويل ذلك، إني أريد أن تبوء بإثم قتلي؟ [قيل] معناه: (١) إني أريد أن تبوء بإثم قتلي إن قتلتني، لأني لا أقتلك، فإن أنت قتلتني، فإني مريد أن تبوء بإثم معصيتك الله في قتلك إياي. وهو إذا قتله، فهو لا محالة باءَ به في حكم الله، فإرادته ذلك غير موجبةٍ له الدخولَ في الخطأ.
* * *
ويعني بقوله:"فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين"، يقول: فتكون بقتلك إياي من سكان الجحيم، ووقود النار المخلدين فيها (٢) ="وذلك جزاء الظالمين"، يقول: والنار ثوابُ التاركين طريق الحق، الزائلين عن قصد
(١) في المطبوعة، وصل الكلام، فلم يكن للاستفهام جواب، فكتب هكذا: "إني أريد أن تبوء بإثم قتلي، فمعناه: إني أريد..". وفي المخطوطة مثل ذلك، إلا أنه كتب"ومعناه" بالواو. واستظهرت أن الصواب ما زدت بين القوسين"قيل"، فإنه هذا أول جواب السائل.
(٢) انظر تفسير"أصحاب النار" فيما سلف ٢: ٢٨٦/٤: ٣١٧/٥: ٤٢٩/ ٦: ١٤/ ٧: ١٣٣، ١٣٤.
217
السبيل، المتعدِّين ما جُعِل لهم إلى ما لم يجعل لهم. (١)
وهذا يدل على أن الله عز ذكره قد كان أمرَ ونهى آدم بعد أن أهبطه إلى الأرض، ووعد وأوعد. ولولا ذلك ما قال المقتول للقاتل:"فتكون من أصحاب النار" بقتلك إياي، ولا أخبره أن ذلك جزاء الظالمين. فكان مجاهد يقول: عُلّقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه في الشمس حيثما دارت دار، عليه في الصيف حظيرة من نار، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج.
١١٧٣٧ - حدثنا بذلك القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال مجاهد ذلك= قال: وقال عبد الله بن عمرو: وإنا لنجد ابنَ آدم القاتلَ يقاسِم أهل النار قسمًة صحيحًة العذابَ، عليه شطرُ عذابهم. (٢)
* * *
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحو ما روي عن عبد الله بن عمرو، خبٌر.
١١٧٣٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير= وحدثنا سفيان قال، حدثنا جرير وأبو معاوية= ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية ووكيع= جميعًا، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأوَّلَ كفلٌ منها، ذلك بأنه أول من سَنَّ القتل. (٣)
١١٧٣٩ - حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي= ح، وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن= جميعا، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (٤)
(١) انظر تفسير"جزاء" و"الظالمون" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٢) الأثر: ١١٧٣٧- رواه أبو جعفر فيما سلف برقم: ١١٧١٠، طريق أخرى. وليس فيه هذه الزيادة عن عبد الله بن عمرو.
(٣) الأثران: ١١٧٣٨، ١١٧٣٩- هذا حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده من هذه الطرق، من حديث عبد الله بن مسعود برقم: ٣٦٣٠، ٤٠٩٢، ٤١٢٣. ورواه البخاري في صحيحه من طرق عن الأعمش (الفتح ٦: ٢٦٢/١٢: ١٦٩/ ١٣: ٢٥٦)، ورواه مسلم في صحيحه من طرق عن الأعمش ١١: ١٦٥، ١٦٦. وقال ابن كثير في تفسيره ٣: ١٣٠: "وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود، من طرق عن الأعمش، به". ورواها أبو جعفر في تاريخه ١: ٧٢، بمثل الذي رواه هنا.
و"الكفل" (بكسر فسكون) : الحظ والنصيب من الوزر والإثم. وانظر تفسير أبي جعفر فيما سلف ٨: ٥٨١.
(٤) الأثران: ١١٧٣٨، ١١٧٣٩- هذا حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده من هذه الطرق، من حديث عبد الله بن مسعود برقم: ٣٦٣٠، ٤٠٩٢، ٤١٢٣. ورواه البخاري في صحيحه من طرق عن الأعمش (الفتح ٦: ٢٦٢/١٢: ١٦٩/ ١٣: ٢٥٦)، ورواه مسلم في صحيحه من طرق عن الأعمش ١١: ١٦٥، ١٦٦. وقال ابن كثير في تفسيره ٣: ١٣٠: "وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود، من طرق عن الأعمش، به". ورواها أبو جعفر في تاريخه ١: ٧٢، بمثل الذي رواه هنا.
و"الكفل" (بكسر فسكون) : الحظ والنصيب من الوزر والإثم. وانظر تفسير أبي جعفر فيما سلف ٨: ٥٨١.
218
١١٧٤٠ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حسن بن صالح، عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم النخعي قال: ما من مقتول يقتل ظلمًا، إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كفلٌ منه.
١١٧٤١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن حكيم بن حكيم، أنه حُدِّث عن عبد الله بن عمرو: أنه كان يقول: إن أشقى الناس رجلا لابْنُ آدم الذي قتل أخاه، ما سُفِك دم في الأرض منذ قَتَل أخاه إلى يوم القيامة، إلا لحق به منه شيء، وذلك أنه أوَّل من سنَّ القتل. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الخبر الذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (٢) مبينٌ عن أنّ القول الذي قاله الحسن في ابني آدم اللذين ذكرهما الله في هذا الموضع (٣) أنهما ليسا بابني آدم لصلبه، ولكنهما رجلان من بني إسرائيل= وأن القول الذي حكي عنه (٤) أنّ أول من مات آدم، وأن القربان الذي كانت
(١) الأثر: ١١٧٤١-"حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف الأنصاري"، روى عن ابن عمه أبي أمامة بن سهل، ونافع بن جبير بن مطعم، والزهري، وغيرهم. ذكره ابن حبان في الثقات، وصحح له الترمذي وابن خزيمة وغيرها، وقال ابن سعد: "كان قليل الحديث، ولا يحتجون بحديثه". مترجم في التهذيب.
(٢) في المطبوعة: "وبهذا الخبر.."، غير ما في المخطوطة، لم يحسن قراءة الآتي.
(٣) في المطبوعة: "تبين أن القول"، جعلها كذلك، وغير التي قبلها من أجل تغييره. وفي المخطوطة"متبين عن القول" غير منقوطة، والصواب ما أثبته، أسقط الناسخ"أن"، والسياق دال على ذلك.
(٤) قول الحسن هذا، هو ما رواه في الأثر رقم: ١١٧١٩. وانظر أيضا ما سيأتي ص: ٢٢٤.
219
النار تأكله لم يكن إلا في بني إسرائيل= (١) خطأ، لأن رسول الله ﷺ قد أخبر عن هذا القاتل الذي قَتَل أخاه: أنه أول من سَنَّ القتل. وقد كان، لا شك، القتلُ قبل إسرائيل، فكيف قبل ذريته! فخطأ من القول أن يقال: أول من سن القتل رجلٌ من بني إسرائيل. (٢)
وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الصحيح من القول هو قول من قال:"هو ابن آدم لصلبه"، لأنه أولُ من سن القتل، فأوجب الله له من العقوبة ما رَوَينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٣٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فطوّعت" فآتتهُ وساعدته عليه. (٣)
* * *
وهو"فعَّلت" من"الطوع"، من قول القائل:"طاعني هذا الأمر"، إذا انقاد له.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويله.
فقال بعضهم، معناه: فشجَّعت له نفسه قتل أخيه.
ذكر من قال ذلك:
(١) السياق: وهذا الخبر... مبين عن أن القول الذي قاله الحسن... خطأ".
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: "وخطأ من القول" بالواو، والسياق يقتضي الفاء، كما أثبتها.
(٣) في المطبوعة: "فأقامته وساعدته... "، وفي المخطوطة كما كتبتها، ولكنها غير منقوطة. يقال: "آتيته على هذا الأمر مؤاتاة"، إذا وافقته وطاوعته. قالوا: "والعامة تقول: واتيته. قالوا: ولا تقل: واتيته، إلا في لغة لأهل اليمن. ومثله آسيت، وآكلت، وآمرت= وإنما جعلوها واوًا على تخفيف الهمزة في: يواكل، ويوامر، ونحو ذلك".
220
١١٧٤٢ - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ومحمد بن حميد قالا حدثنا حكام بن سلم، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد:"فطوعت له نفسه"، قال: شجعت. (١)
١١٧٤٣ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فطوعت له نفسه" قال: فشجعته.
١١٧٤٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فطوعت له نفسه قتل أخيه"، قال: شجعته على قتل أخيه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: زيَّنَت له.
ذكر من قال ذلك:
١١٧٤٥ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فطوعت له نفسه"، قال: زينت له نفسه قتلَ أخيه فقَتله.
* * *
ثم اختلفوا في صفة قتله إياه، كيف كانت، والسبب الذي من أجله قتله.
* * *
فقال بعضهم: وجده نائمًا فشدَخ رأسه بصَخرة.
ذكر من قال ذلك:
١١٧٤٦ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي فيما ذكر، عن أبى مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس=
(١) الأثر: ١١٧٤٢-"عنبسة"، هو"عنبسة بن سعيد بن الضريس الأسدي" مضى مرارًا، منها رقم: ٢٢٤، ٣٣٥٦، ٥٣٨٥.
و"ابن أبي ليلى"، هو"محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى"، مضى مرارًا. رقم: ٣٢، ٣٣، ٦٣١، ٣٩١٤، ٥٤٣٤.
وكان في الإسناد هنا، في المخطوطة والمطبوعة: "عن عنبسة بن أبي ليلى"، وهو خطأ لا شك فيه، وقد مضى هذا الإسناد كثيًرا، انظر مثلا رقم: ٦٣١.
221
وعن مرة، عن عبد الله= وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فطوعت له نفسه قتل أخيه" فطلبه ليقتله، فراغ الغلام منه في رءوس الجبال. وأتاه يومًا من الأيام وهو يرعى غنمًا له في جبل، وهو نائم، فرفع صخرة فشدَخ بها رأسه، فمات، فتركه بالعَرَاء.
* * *
وقال بعضهم ما:-
١١٧٤٧ - حدثني محمد بن عمر بن علي قال، سمعتَ أشعث السجستاني يقول: سمعت ابن جريج قال: ابنُ آدم الذي قتل صاحبَه لم يدر كيف يقتله، فتمثَّل إبليس له في هيئة طير، فأخذ طيرًا فقطع رأسه، (١) ثم وضعه بين حجرين فشدَخ رأسه، فعلَّمه القتل.
١١٧٤٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قتله حيث يرعَى الغنم، فأتاه فجعل لا يدري كيف يقتله، (٢) فلَوَى برقبته وأخذ برأسه، فنزل إبليس وأخذ دابَّةً أو طيرًا، فوضع رأسه على حجرٍ، ثم أخذ حجرًا آخر فرضخ به رأسه، وابنُ آدم القاتلُ ينظر. فأخذ أخاه فوضع رأسه على حجَر، وأخذ حجرًا آخر فرضخ به رأسه.
١١٧٤٩ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا رجل سمع مجاهدًا يقول، فذكر نحوه.
١١٧٥٠ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما أكلت النار قربانَ ابن آدم الذي تُقُبِّل قربانه، قال الآخر لأخيه: أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قربانًا فتقُبِّل منك، ورُدَّ عليَّ؟ والله لا تنتظر الناس إلي وإليك وأنت خير
(١) في المطبوعة: "فقصع رأسه"، ولا تصح وأثبت ما في المخطوطة. وإنما عني"قطع رأسه"، علمه قطع الرأس في القتل، ثم علمه الشدخ في القتل. صورتان للقتل.
(٢) في المطبوعة"فأتى"، وأثبت ما في المخطوطة.
222
مني! فقال:"لأقتلنك"، فقال له أخوه: ما ذنبي؟ "إنما يتقبل الله من المتقين". فخوّفه بالنار، فلم ينته ولم ينزجر="فطوعت له نفسه قتلَ أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين". (١)
١١٧٥١ - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم، قال: أقبلت مع سعيد بن جبير أرمي الجَمْرة، وهو متقَنّع متوكئٌ على يدي، حتى إذا وازينا بمنزل سَمُرَةَ الصوّاف، (٢) وقف يحدثني عن ابن عباس قال: نهى أن ينكح المرأة أخوها تُؤْمها، (٣) وينكحها غيره من إخوتها. وكان يولد في كل بطن رجلٌ وامرأة. فوُلدت امرأةٌ وسيمةٌ، وولدت امرأة دميمة قبيحة. فقال أخو الدّميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي. قال: لا أنا أحق بأختي. فقرّبا قربانًا، فتقبل من صاحب الكبش، ولم يتقبل من صاحب الزرع، فقتله. فلم يزل ذلك الكبش محبوسًا عند الله عز وجل حتى أخرجه في فداء إسحاق، فذبحه على هذا الصَّفا في ثَبِير، عند منزل سمرة الصواف، (٤) وهو على يمينك حين ترمي الجمار = قال ابن جريج، وقال آخرون بمثل هذه القصة. قال: فلم يزل بنو آدم على ذلك حتى مضى أربعة آباء، فنكح ابنةَ عمه، وذهب نكاح الأخوات. (٥)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عز ذكره قد أخبر عن القاتل أنه قتل أخاه، ولا خبر عندنا يقطع العذر بصفة قتله إياه. وجائزٌ أن يكون على نحو ما قد ذكر السديّ في خبره= وجائزٌ أن يكون كان على
(١) الأثر: ١١٧٥٠- مضى مفرقًا برقم: ١١٧٠٦، ١١٧٢٢.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة"بمنزل سمرة الصراف" بالراء، وأثبت ما في تاريخ الطبري، ولا أدري ما يكون هذا، فلم أجد موضعًا بهذا الاسم فيما بين يدي من المراجع. و"سمرة الصراف"، اسم رجل. ولم أعرف من يكون.
(٣) في تاريخ الطبري: "أن تنكح المرأة أخاها توأمها"، وكان في المطبوعة هنا"توأمها"، وأثبت ما في المخطوطة، وانظر ما سلف ص: ٢٠٥، تعليق: ٣.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة"بمنزل سمرة الصراف" بالراء، وأثبت ما في تاريخ الطبري، ولا أدري ما يكون هذا، فلم أجد موضعًا بهذا الاسم فيما بين يدي من المراجع. و"سمرة الصراف"، اسم رجل. ولم أعرف من يكون.
(٥) الأثر: ١١٧٥١- رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ٦٩.
223
ما ذكره مجاهد، والله أعلم أيُّ ذلك كان. غير أن القتل قد كان لا شك فيه.
* * *
وأما قوله:"فأصْبَحَ من الخاسرين"، فإن تأويله: فأصبح القاتل أخاه من ابني آدم، من حزب الخاسرين، وهم الذين باعوا آخرتهم بدنياهم، بإيثارهم إياها عليها، فوُكسوا في بيعهم، وغبنوا فيه، وخابوا في صفقتهم. (١)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا أحدُ الأدلة على أن القول في أمر ابني آدم بخلاف ما رواه عمرو، عن الحسن، (٢) لأن الرجلين اللذين وصف الله صفتهما في هذه الآية، لو كانا من بني إسرائيل، لم يجهل القاتلُ دفنَ أخيه ومواراة سوأة أخيه، ولكنهما كانا من ولد آدم لصلبه، ولم يكن القاتلُ منهما أخاه عَلِم سنّة الله في عبادِهِ الموتى، (٣) ولم يدر ما يصنع بأخيه المقتول. فذكر أنه كان يحمله على عاتقه حينًا حتى أراحت جيفته، (٤) فأحب الله تعريفَه السنة في موتى خلقه، فقيَّض له الغرابين اللذين وصف صفتهما في كتابه.
* * *
(١) انظر تفسير"الخاسرين" و"الخسران" فيما سلف ص: ١٧٠، تعليق: ٤. والمراجع هناك.
(٢) يعني الأثر: ١١٧١٩، وانظر ما سلف أيضًا في ص: ٢١٩.
(٣) في المخطوطة: "في عاده الموتى"، وفي المطبوعة: "في عادة الموتى"، وهذا كلام لا معنى له، صواب قراءته ما أثبت.
(٤) "أراح اللحم"، أنتن وسطعت له ريح خبيثة.
224
ذكر الأخبار عن أهل التأويل بالذي كان من فعل القاتل من ابني آدم بأخيه المقتول، بعد قتله إياه.
١١٧٥٢ - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يحيى بن أبي روق الهمداني، عن أبيه، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: مكث يحمل أخاه في جِرابٍ على رقبته سنًة، حتى بعث الله جل وعز الغُرَابين، فرآهما يبحثان، فقال:"أعجزتُ أن أكون مثل هذا الغراب"؟ فدفن أخاه. (١)
١١٧٥٣ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه"، بعث الله جل وعز غرابًا حيًّا، إلى غراب ميت، فجعل الغراب الحيُّ يواري سوأة الغراب الميت، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب" الآية.
١١٧٥٤ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي فيما ذكر، عن أبي مالك= وعن أبي صالح، عن ابن عباس= وعن مرة، عن عبد الله= وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما مات الغلام تَركه بالعراء، ولا يعلم كيف يَدْفن. فبعث الله جل وعزّ غرابين أخوين، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حَثا عليه. فلما رآه قال:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي"، فهو قول الله:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه".
١١٧٥٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يبحث"، قال: بعث الله غرابًا حتى
(١) الأثر: ١١٧٥٢-"يحيى بن أبي روق"، هو"يحيى بن عطية بن الحارث الهمداني الكوفي. ضعيف. قال يحيى بن معين"ليس بثقة". مترجم في لسان الميزان، وابن أبي حاتم ٤/٢/١٨٠ وأبوه"أبو روق" هو"عطية بن الحارث الهمداني"، ثقة، لا بأس به. مضى برقم: ١٣٧، ٩٦٣٢.
225
حفر لآخر إلى جنبه ميت= وابن آدم القاتل ينظر إليه= ثم بحث عليه حتى غيَّبه. (١)
١١٧٥٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"غرابًا يبحث في الأرض"، حتى حفر لآخر ميت إلى جنبه، فغيّبه، وابن آدم القاتل ينظر إليه، حيث يبحثُ عليه حتى غيبه، فقال:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"، الآية.
١١٧٥٧ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد قوله:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض"، قال: بعث الله غرابًا إلى غراب، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، فجعل يَحْثِي عليه التراب، (٢) فقال:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين".
١١٧٥٨ - حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض"، قال: جاء غراب إلى غراب ميّت، فحثَى عليه من التراب حتى واراه، فقال الذي قتل أخاه:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"، الآية.
١١٧٥٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية قال: لما قتله ندم، فضَّمه إليه حتى أروح، (٣) وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يَرْمي به فتأكله.
١١٧٦٠ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
(١) "بحث عليه": يعني حفر التراب عليه وغطاه به.
(٢) "حثا عليه التراب يحثوه حثوًا" و"حثى عليه التراب يحثيه حثيًا": هاله. والثاني منهم أعلى من الأول وأفصح. وقد مضت: "حثا"، وستأتي في الآثار التالية: "يحثو"، فأغنانا ذكرها هنا عن ذكرها فيما سلف وما سيأتي.
(٣) "أروح اللحم، وأراح". أنتن، وانظر للتعليق السالف ص: ٢٢٤، تعليق: ٤.
226
قوله:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه"، أنه بعثه الله عز ذكره يبحثُ في الأرض، ذكر لنا أنهما غرابان اقتَتَلا فقتل أحدهما صاحبه، وذلك = يعني ابن آدم = ينظر، وجعل الحيّ يَحْثِي على الميت الترابَ، فعند ذلك قال ما قال:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب" الآية، إلى قوله:"من النادمين".
١١٧٦١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: أما قوله:"فبعث الله غرابًا"، قال: قتل غرابٌ غرابًا، فجعل يحثُو عليه، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه حين رآه:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين".
١١٧٦٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه"، قال: وارى الغراب الغراب. قال: كان يحمله على عاتقه مائة سنة لا يدري ما يصنع به، يحمله ويضعه إلى الأرض، حتى رأى الغراب يدفن الغرابَ، فقال:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين".
١١٧٦٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا معلَّى بن أسد قال، حدثنا خالد، عن حصين، عن أبي مالك في قول الله:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"، قال: بعث الله عزّ وجل غرابًا، فجعل يَبْحَثُ على غراب ميت الترابَ. قال: فقال عند ذلك:"أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين".
١١٧٦٤ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض"، بعث الله غرابًا حيًّا إلى غراب ميّت، فجعل الغراب الحيُّ يواري سوأة الغراب الميت، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"، الآية.
227
١١٧٦٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، فيما يذكر عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل، قال: لما قتله سُقِط في يديه، ولم يَدْر كيف يواريه. وذلك أنه كان، فيما يزعمون، أوَّل قتيل من بني آدم وأوّل ميت= [قال] :"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي" الآية= [إلى قوله:"ثم إن كثيًرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون"، قال] :(١) ويزعم أهل التوراة أن قابيل حين قتل أخاه هابيل قال له جل ثناؤه: يا قابيل، (٢) أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري، ما كنت عليه رقيبًا! فقال الله جل وعز له: إنّ صوت دم أخيك لينادِيني من الأرض، الآن أنت ملعون من الأرضِ التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك. فإذا أنت عملت في الأرض، فإنها لا تعود تعطيك حرثَها حتى تكون فزعًا تائهًا في الأرض. قال قابيل: عظمت خطيئتي من أن تغفرها! (٣) قد أخرجتني اليوم عن وجه الأرض، وأتوارى من قُدَّامك، وأكون فزعًا تائهًا في الأرض، وكل من لقيني قتلني! فقال الله جل وعز: ليس ذلك كذلك، ولا يكون كل من قتل قتيلا يجزى بواحدٍ سبعة، ولكن من قتل قابيل يجزي سبعة، (٤) وجعل الله في قابيل آية لئلا يقتله كل من وجده، وخرج قابيل من قدام الله عز وجل من شرقي عدن الجنة. (٥)
(١) زدت ما بين القوسين من تاريخ الطبري.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "قابيل"، وفي التاريخ مكان"قابيل" في كل موضع"قين"، وانظر ص: ٢٠٥، تعليق: ٣.
(٣) في المخطوطة: "قال ومن عظمت خطيئتي"، وصوابها"قال قين: عظمت... " كما في التاريخ ولكن المخطوطة جرت هنا على أن تضع"قابيل" مكان"قين"، فوضع الناشر الأول للتفسير"قال قابيل" وهو حسن.
(٤) كانت هذه الجملة في المطبوعة: "ولا يكون كل قاتل قتيلا يجزي واحدا، ولكن يجزي سبعة" وهي فاسدة كل الفساد، صححتها من تاريخ الطبري، ولكني سرت على نهج المخطوطة في وضع"قابيل" مكان"قين"، فكتبت"من قتل قابيل".
(٥) الأثر: ١١٧٦٥- هذا الذي رواه ابن إسحق من قول أهل التوراة، تجده في كتاب القوم في سفر التكوين، في الإصحاح الرابع، وهو ترجمة أخرى لهذه الفقرة من هذا الإصحاح. وانظر ما سلف ص: ١٨٣، تعليق: ٢.
228
١١٧٦٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا الأعمش، عن خيثمة قال: لما قتل ابن آدم أخاه نَشِفت الأرض دمه، فلُعِنت فلم تَنْشَف الأرض دمًا بعدُ. (١)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: فأثار الله للقاتل (٢) =إذ لم يدر ما يصنع بأخيه المقتول="غرابًا يبحث في الأرض"، يقول: يحفر في الأرض، فيثير ترابها="ليريه كيف يواري سوأة أخيه"، يقول: ليريه كيف يواري جيفةَ أخيه.
* * *
وقد يحتمل أن يكون عُنِيَ بـ"السوأة"، الفرج، غير أن الأغلب من معناه ما ذكرت من الجيفة، بذلك جاء تأويل أهل التأويل.
* * *
قال أبو جعفر: وفي ذلك محذوفٌ ترك ذكره، استغناء بدلالة ما ذكر منه، وهو:"فأراه بأن بحث في الأرض لغراب آخر ميتٍ فواراه فيها"، فقال القاتل أخاه حينئذ:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"، الذي وارى الغرابَ الآخر الميتَ="فأواري سوأة أخي"، فواراه حينئذ="فأصبح من النادمين"، على ما فرط منه، من معصية الله عز ذكره في قتله أخاه. (٣)
* * *
وكل ما ذكر الله عز وجلّ في هذه الآيات، مثلٌ ضربه الله عز ذكره لبني آدم، وحرَّض به المؤمنين من أصحاب رسول الله ﷺ على استعمال العفوِ والصفح عن اليهود= الذين كانوا هموا بقتل النبي ﷺ وقتلهم= من بني النضير، (٤) إذ أتوهم يستعينونهم في دية قتيلي عمرو بن أمية الضمري،
(١) "نشفت الأرض الماء تنشفه نشفًا" (على وزن: علم يعلم) : شربته.
(٢) انظر تفسير"بعث" فيما سلف ٢: ٨٤، ٨٥/٥: ٤٥٧.
(٣) في المخطوطة: "في قتله أخيه"، والصواب ما في المطبوعة، أو تكون: "في قتل أخيه".
(٤) السياق: "... عن اليهود... من بني النضير".
229
وعرَّفهم جل وعز رداءة سجيَّة أوائلهم، (١) وسوء استقامتهم على منهج الحق، مع كثرة أياديه وآلائه عندهم. وضرب مثلهم في غَدْرهم، (٢) ومثل المؤمنين في الوفاء لهم والعفو عنهم، بابني آدم المقرِّبَين قرابينهما، (٣) اللذين ذكرهما الله في هذه الآيات. ثم ذلك مثلٌ لهم على التأسِّي بالفاضل منهما دون الطالح. (٤) وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
١١٧٦٧ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال، قلت لبكر بن عبد الله، أما بلغك أن نبيَّ الله ﷺ قال:"إن الله جل وعز ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا خيرَهما ودعوا شرَّهما"؟ قال: بلى.
١١٧٦٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ابني آدم ضُرِبا مثلا لهذه الأمة، فخذوا بالخير منهما.
١١٧٦٩ - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عاصم الأحول، عن الحسن قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهم ودعوا الشر. (٥)
* * *
(١) في المخطوطة هكذا: "ردأ سجه أوائلهم" وغير منقوطة، وما في المطبوعة مقارب للصواب.
(٢) في المطبوعة: "في عدوهم"، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "قرا بينهم"، والصواب ما أثبت.
(٤) في المخطوطة: "دون الصالح"، وهو خطأ محض. ولعل الأصل: "بالصالح منهما دون الطالح".
(٥) الآثار: ١١٧٦٧- ١١٧٦٩- هذه الثلاثة أخبار مرسلة، لم أهتد إلى شيء منها في دواوين السنة.
230
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"من أجل ذلك"، من جرِّ ذلك وجَريرته وجنايته. يقول: من جرِّ القاتل أخاه من ابني آدم= اللذين اقتصصنا قصتهما= الجريرةَ التي جرَّها، وجنايتِه التي جناها="كتبنا على بني إسرائيل".
* * *
يقال منه:"أجَلْت هذا الأمر"، أي: جررته إليه وكسبته،"آجله له أجْلا"، كقولك:"أخَذْته أخذًا"، ومن ذلك قول الشاعر: (١)
وَأَهْلِ خِبَاءٍ صَالِحٍ ذَاتُ بَيْنِهمْ... قَدِ احْتَرَبُوا فِي عَاجِلٍ أَنَا آجِلُه (٢)
(١) نسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن فقال: "قال الخنوت، وهو توبة بن مضرس، أحد بني مالك بن سعد بن زيد مناة بن تميم. وإنما سماه الخنوت، الأحنف بن قيس. لأن الأحنف كلمه، فلم يكلمه احتقارًا له، فقال: إن صاحبكم هذا الخنوت! والخنوت: المتجبر الذاهب بنفسه، المستصغر للناس".
و"الخنوت" (بكسر الخاء، ونون مشددة مفتوحة، واو ساكنة).
وذكره الآمدي في المؤتلف والمختلف ص: ٦٨ وقال: "وقتل أخواه... فأدرك الأخذ بثأرهما... وجزع على أخويه جزعًا شديدًا،... وكان لا يزال يبكي أخويه، فطلب إليه الأحنف أن يكف، فأبى، فسماه: الخنوت = وهو الذي يمنعه الغيظ أو البكاء من الكلام".
ونسبه التبريزي في شرح إصلاح المنطق، والشنتمري في شرح ديوان زهير إلى خوات بن جبير الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو الذي يذكر في خبر ذات النحيين.
وألحق بشعر زهير بن أبي سلمى، في ديوانه (شرح الشنتمري).
(٢) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٦٣ (وفيه مراجع)، وشرح إصلاح المنطق ١: ١٤، وشرح شعر زهير للشنتمري: ٣٣، واللسان (أجل)، وفي رواية لابن برى، في اللسان. وَأَهْل خِبَاء آمِنِين، فَجَعْتُهُمْ... بِشَيْءٍ عَزِيزٍ عَاجِل أَنَا آجِلُهْ
وَأَقْبَلْتُ أَسْعَى أَسْأَلُ الْقَوْمَ مَالَهُمْ... سُؤَالَكَ بِالَّشْيءِ الَّذِي أَنْتَ جَاهِلُهْ
ويروى الشطر الأول، من البيت الثاني: فَأَقْبَلَتْ فِي السَّاعِينَ أَسْأَلُ عَنْهُمُ
وفي المخطوطة: "قد اصرموا"، غير منقوطة، والصواب من المراجع.
231
يعني بقوله:"أنا آجله"، أنا الجارُّ ذلك عليه والجانِي.
* * *
فمعنى الكلام: من جناية ابن آدم القاتل أخاه ظلمًا، حكمنا على بني إسرائيل أنه من قتل منهم نفسًا ظلمًا، بغير نفس قتلت، فقتل بها قصاصًا (١) ="أو فساد في الأرض"، يقول: أو قتل منهم نفسًا بغير فسادٍ كان منها في الأرض، فاستحقت بذلك قتلها. و"فسادها في الأرض"، إنما يكون بالحرب لله ولرسوله، وإخافة السبيل. (٢)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:
ذكر من قال ذلك:
١١٧٧٠ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل"، يقول: من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلمًا.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله جل ثناؤه:"من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا".
فقال بعضهم: معنى ذلك: ومن قتل نبيًّا أو إمام عدل، فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن شدَّ على عضُد نبيّ أو إمام عدل، فكأنما أحيا الناس جميعًا.
ذكر من قال ذلك:
١١٧٧١ - حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزي قال، حدثنا الفضل
(١) انظر تفسير"كتب" فيما سلف ص: ١٦٩، تعليق ١. والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير"الفساد في الأرض" فيما سلف ١: ٢٨٧، ٤٠٦/ ٤: ٢٣٨، ٢٣٩، ٢٤٣، ٤٢٤/ ٥: ٣٧٢/ ٦: ٤٧٧.
232
بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"من قتل نفسًا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا"، قال: من شدّ على عضُد نبيّ أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعًا، ومن قتل نبيًّا أو إمام عدل، فكأنما قتل الناس جميعًا. (١)
١١٧٧٢ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا"، يقول: من قتل نفسًا واحدًة حرَّمتها، فهو مثل من قتل الناس جميعًا="ومن أحياها"، يقول: من ترك قتل نفس واحدة حرمتها مَخَافتي، واستحياها أن يقتلها، فهو مثل استحياء الناس جميعًا= يعني بذلك الأنبياء.
* * *
وقال آخرون:"من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا"، عند المقتول في الإثم="ومن أحياها"، فاستنقذها من هلكةٍ="فكأنما أحيى الناس جميعًا"، عند المستنقذ.
ذكر من قال ذلك:
١١٧٧٣ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، فيما ذكر عن أبي مالك= وعن أبي صالح، عن ابن عباس= وعن مرة الهمداني، عن عبد الله= وعن ناسٍ من أصحاب رسول الله ﷺ قوله:"من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتَلَ
(١) الأثر: ١١٧٧١-"أبو عمار المروزي"، هو: "الحسين بن حريث بن الحسن بن ثابت". روى عن ابن المبارك، والفضل بن موسى، وابن أبي حازم، وابن عيينة، وغيرهم. روى عنه الجماعة سوى ابن ماجه. ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير ١/٢/٣٨٩، وابن أبي حاتم ١/٢/٥٠.
و"الفضل بن موسى السيناني"، أبو عبد الله المروزي. ثقة ثبت روى له الجماعة. مترجم في التهذيب.
و"الحسين بن واقد المروزي"، مضى برقم: ٤٨١٠، ٦٣١١.
233
الناس جميعًا"، عند المقتول، يقول: في الإثم="ومن أحياها"، فاستنقذها من هلكة="فكأنما أحيى الناس جميعًا"، عند المستنقَذ.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إن قاتل النفس المحرم قتلُها، يصلى النار كما يصلاها لو قتل الناس جميعًا="ومن أحياها"، من سلم من قتلها، فقد سلم من قتل الناس جميعًا.
ذكر من قال ذلك:
١١٧٧٤ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"من أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، قال: من كف عن قتلها فقد أحياها="ومن قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعًا"، قال: ومن أوبقها.
١١٧٧٥ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن خصيف، عن مجاهد قال: من أوبق نفسًا فكما لو قتل الناس جميعًا، ومن أحياها وسلم من ظُلمها فلم يقتلها، (١) فقد سلم من قتل الناس جميعًا.
١١٧٧٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن خصيف، عن مجاهد:"فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، لم يقتلها، وقد سلم منه الناس جميعًا، لم يقتل أحدًا.
١١٧٧٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الأوزاعي قال، أخبرنا عبدة بن أبي لبابة قال: سألت مجاهدًا= أو: سمعته يُسْأل= عن قوله:"من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا"، قال: لو قتل الناس جميعًا، كان جزاؤه جهنم خالدًا فيها وغَضِب
(١) في المطبوعة: "وسلم من طلبها"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب.
234
الله عليه ولَعنه، وأعد له عذابًا عظيمًا. (١)
١١٧٧٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قراءةً، عن الأعرج، (٢) عن مجاهد في قوله:"فكأنما قتل الناس جميعًا"، قال: الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدًا، جعل الله جزاءه جهَنّم، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا. يقول: لو قتل الناس جميعًا لم يزد على مثل ذلك من العذاب= قال ابن جريج، قال مجاهد:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا" قال: من لم يقتل أحدًا، فقد استراح الناسُ منه.
١١٧٧٩ - حدثنا سفيان قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد قال: أوبق نفسه. (٣)
١١٧٨٠ - حدثنا سفيان قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال: في الإثم.
١١٧٨٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد:"من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا"، وقوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) [سورة النساء: ٩٣] قال: يصير إلى جهنم بقتل المؤمن، كما أنه لو قتل الناس جميعًا لصار إلى جهنم.
١١٧٨١ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا" قال: هو كما قال= وقال:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، فإحياؤها: لا يقتل نفسًا حرمها الله، فذلك الذي أحيى الناس جميعًا، يعني: أنه من حرم قتلها إلا بحقٍّ، حَيِي الناس منه جميعًا.
(١) هذا تضمين آية"سورة النساء": ٩٣.
(٢) في المطبوعة: "قراءة عن الأعرج"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "أوبق نفسا"، وأثبت ما في المخطوطة.
235
١١٧٨٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهد:"ومن أحياها"، قال: ومن حرَّمها فلم يقتلها.
١١٧٨٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن العلاء قال: سمعت مجاهدًا يقول:"من أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، قال: من كف عن قتلها فقد أحياها.
١١٧٨٤ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"فكأنما قتل الناس جميعًا" قال: هي كالتي في"النساء": (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) [سورة النساء: ٩٣]، في جزائه.
١١٧٨٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فكأنما قتل الناس جميعًا" كالتي في"سورة النساء"، (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) في جزائه="ومن أحياها"، ولم يقتل أحدًا، فقد حيِيَ الناس منه.
١١٧٨٦ - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهد في قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا"، قال: التفت إلى جلسائه فقال: هو هذا وهذا. (١)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا، لأنه يجب عليه من القِصاص به والقوَد بقتله، مثلُ الذي يجب عليه من القَوَد والقصاص لو قتل الناس جميعًا.
ذكر من قال ذلك:
(١) كأنه يعني بقوله: "هو هذا وهذا"، أن قتل نفس محرمة بغير نفس أو فساد في الأرض قتل للناس جميعًا، وإحياؤها إحياء للناس جميعًا.
236
١١٧٨٧ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا"، قال: يجب عليه من القتل مثلُ لو أنه قتل الناس جميعًا. قال: كان أبي يقول ذلك.
* * *
وقال آخرون معنى قوله:"ومن أحياها": من عفا عمن وجب له القِصَاص منه فلم يقتله.
ذكر من قال ذلك:
١١٧٨٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، يقول: من أحياها، أعطاه الله جل وعزّ من الأجر مثلُ لو أنه أحيى الناس جميعًا="أحياها" فلم يقتلها وعفا عنها. قال: وذلك وليّ القتيل، والقتيل نفسه يعفو عنه قبل أن يموت. قال: كان أبي يقول ذلك:
١١٧٨٩ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن يونس، عن الحسن في قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، قال: من عفا.
١١٧٩٠ - حدثنا سفيان قال، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، قال: من قُتِل حميمٌ له فعفا عن دمه. (١)
١١٧٩١ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن يونس، عن الحسن."ومن أحياها فكأنما أحيى الناسَ جميعًا"، قال: العفو بعد القدرة.
* * *
(١) "الحميم": ذو القرابة القريب.
237
وقال آخرون: معنى قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، ومن أنجاها من غَرَق أو حَرَقٍ. (١)
ذكر من قال ذلك:
١١٧٩٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد:"ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا" قال: من أنجاها من غَرَق أو حرَقٍ أو هَلَكةٍ.
١١٧٩٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، قال: من غرَق أو حَرَق أو هَدَمٍ. (٢)
١١٧٩٤ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل عن خصيف، عن مجاهد:"ومن أحياها"، قال: أنجاها.
* * *
وقال الضحاك بما:-
١١٧٩٥ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن أبي عامر، عن الضحاك قال:"من قتل نفسًا بغير نفس"، قال: من تورَّع أو لم يتورَّع. (٣)
١١٧٩٦ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فكأنما أحيى الناس جميعًا"، يقول: لو لم يقتله لكان قد أحيى الناس، فلم يستحلّ محرَّمًا.
* * *
(١) "الحرق" (بفتحتين) : النار ولهبها، كالحريق. وفي الحديث: "الحرق والغرق والشرق شهادة" (كل ذلك بفتحات).
(٢) "الهدم" (بفتحتين). وهو البناء المهدوم، وفي حديث الشهداء: "وصاحب الهدم شهادة".
(٣) كأنه يعني: من تورع عن قتلها، أو لم يتورع ولكنه لم يقتل، فكأنما أحيى الناس جميعا.
238
وقال قتادة والحسن في ذلك بما:-
١١٧٩٧ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن:"من قتل نفسًا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض"، قال: عَظُم ذلك.
١١٧٩٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس" الآية، من قتلها على غير نفس ولا فسادٍ أفسدته="فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا" عظُم والله أجرُها، وعظُم وزرها! فأحيها يا ابن آدم بما لك، وأحيها بعفوك إن استطعت، ولا قوة إلا بالله. وإنا لا نعلمُه يحل دم رجل مسلمٍ من أهل هذه القبلة إلا بإحدى ثلاث: رجل كفرَ بعد إسلامه، فعليه القتل= أو زنى بعد إحصانه، فعليه الرجم= أو قتل متعمدًا، فعليه القَوَد.
١١٧٩٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال: تلا قتادة:"من قتل نفسًا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا" قال: عظم والله أجرُها، وعظم والله وِزْرها!
١١٨٠٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سلاّم بن مسكين قال، حدثني سليمان بن علي الربعي قال: قلت للحسن:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس" الآية، أهي لنا يا أبا سعيد، كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: إِي والذي لا إله غيره، كما كانت لبني إسرائيل! وما جعل دماءَ بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا؟ (١)
١١٨٠١ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
(١) الأثر: ١١٨٠٠-"سلام بن مسكين بن ربيعة الأزدي"، "أبو روح"، ثقة. مضى برقم: ٦٩٢.
و"سليمان" بن علي الربعي الأزدي". ثقة. مترجم في التهذيب.
239
المبارك، عن سعيد بن زيد قال: سمعت خالدًا أبا الفضل قال: سمعت الحسن تلا هذه الآية:"فطوَّعت له نفسه قتل أخيه" إلى قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، ثم قال: عظَّم والله في الوزر كما تسمعون، ورغَّب والله في الأجر كما تسمعون! إذا ظننت يا ابن آدم، أنك لو قتلت الناس جميعًا، فإن لك من عملك ما تفوز به من النار، كذَبَتْك والله نفسك، وكذَبَك الشيطان. (١)
١١٨٠٢ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن فضيل، عن عاصم، عن الحسن في قوله:"فكأنما قتل الناس جميعًا" قال: وِزْرًا="ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا" قال: أجرًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: تأويل
(١) الأثر: ١١٨٠١-"سعيد بن زيد بن درهم الأزدي"، أخو: حماد بن زيد. تكلموا فيه، ووثقوه فقالوا: "صدوق حافظ"، وأعدل ما قيل فيه ما قاله ابن حبان: "كان صدوقا حافظًا، ممن كان يخطئ في الأخبار ويهم، حتى لا يحتج به إذا انفرد". مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/٤٣٢، وابن أبي حاتم ٢/١/٢١.
و"خالد، أبو الفضل". قال البخاري في الكبير ٢/١/١٥٣:
"خالد بن أبي الفضل، سمع الحسن. روى عنه سعيد بن زيد قوله وكنيته خالد بن رباح أبا الفضل، فلا أدري هو ذا أم لا"؟ كأن البخاري يعني هذا الأثر.
ثم ترجم"خالد بن رباح الهذلي" ٢/١/١٣٦، وقال: "سمع منه وكيع"، ولم يذكر"سعيد بن زيد". وقال: "قال يزيد بن هرون، أخبرنا خالد بن رباح أبو الفضل".
وأما ابن أبي حاتم فقد ترجم في الجرح والتعديل ١/٢/٣٤٦: "خالد بن الفضل. روي عن الحسن. روى عنه سعيد بن زيد. سمعت أبي يقول ذلك".
ثم ترجم في ١/٢/٣٣٠. و"خالد بن رباح الهذلي، أبو الفضل... روى عن الحسن...."، ولم يذكر في الرواه عنه"سعيد بن زيد".
وترجم له الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة: ١١٢، وفي لسان الميزان ٢: ٣٧٤، "خالد بن رباح الهذلي، أبو الفضل البصري"، ونقل عن ابن حبان في الضعفاء أن كنيته"أبو الفضل" ثم قال: "ولما ذكره في الطبقة الثالثة من الثقات قال: خالد بن رباح أبو الفضل، يروي عن الحسن. روى عنه سعيد بن زيد". قال ابن حجر: "فما أدري، ظنه آخر، أو تناقض فيه؟ ".
أما ترجمته في لسان الميزان، فلم يذكر كنيته هناك، ونقل بعض ما جاء في تعجيل المنفعة.
والظاهر أن"خالدًا أبا الفضل"، هو"خالد بن رباح الهذلي" نفسه، وأن ما جاء في ابن أبي حاتم"خالد بن الفضل" خطأ أو وهم. والظاهر أيضًا أنه توقف في أمر"خالد بن أبي الفضل"، ورجح أن يكون خطأ من الرواة، وأن الراوية"خالد أبو الفضل". وهو"خالد بن رباح الهذلي" نفسه.
240
ذلك: أنه من قتل نفسًا مؤمنة بغير نفس قَتَلتها فاستحقت القَوَد بها والقتل قِصاصًا= أو بغير فساد في الأرض، بحرب الله ورسوله وحرب المؤمنين فيها= فكأنما قتل الناس جميعًا فيما استوجب من عظيم العقوبة من الله جل ثناؤه، كما أوعده ذلك من فعله ربُّه بقوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [سورة النساء: ٩٣].
* * *
وأما قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا" فأولى التأويلات به، قول من قال: من حرّم قتل من حرّم الله عز ذكره قتله على نفسه، فلم يتقدّم على قتله، فقد حيى الناس منه بسلامتهم منه، وذلك إحياؤه إياها. وذلك نظير خبر الله عز ذكره عمن حاجّ إبراهيم في ربّه إذ قال له إبراهيم: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [سورة البقرة: ٢٥٨]. فكان معنى الكافر في قيله:"أنا أحيي"، (١) أنا أترك من قَدَرت على قتله- وفي قوله:"وأميت"، قتله من قتله. (٢) فكذلك معنى"الإحياء" في قوله:"ومن أحياها"، من سلِمَ الناس من قتله إياهم، إلا فيما أذن الله في قتله منهم="فكأنما أحيى الناس جميعًا".
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بتأويل الآية، لأنه لا نفسَ يقومُ قتلُها في عاجل الضُّرّ مقام قتل جميع النفوس، ولا إحياؤها مقامَ إحياء جميع النفوس في عاجل النفع. فكان معلومًا بذلك أن معنى"الإحياء": سلامة جميع النفوس منه، لأنه من لم يتقدم على نفس واحدة، فقد سلم منه جميع النفوس- وأن الواحدة منها التي يقوم قتلُها مقام جميعها إنما هو في الوِزْر، لأنه لا نفس من نفوس بني آدم يقوم فقدها مقام فقد جميعها، وإن كان فقد بعضها أعمّ ضررًا من فقد بعض. (٣)
* * *
(١) في المطبوعة والمخطوطة هنا: "أنا أحيي وأميت" ولا شك أن قوله: "وأميت" تكرار، فتركته.
(٢) انظر ما سلف: ٥: ٤٣٢.
(٣) انظر تفسير"الإحياء" فيما سلف ٥: ٤٣٢، وما بعدها.
241
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا قسم من الله جل ثناؤه أقسم به: أن رسله صلوات الله عليهم قد أتت بني إسرائيل الذين قصَّ الله قَصَصهم وذكر نبأهم في الآيات التي تقدَّمت، من قوله:"يا أيُّها الذين آمنوا اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسُطوا إليكم أيديهم" إلى هذا الموضع="بالبينات"، يعني: بالآيات الواضحة والحجج البيِّنة على حقيقة ما أرسلوا به إليهم، (١) وصحة ما دعوهم إليه من الإيمان بهم، وأداء فرائضِ الله عليهم.
=يقول الله عز ذكره:"ثم إن كثيًرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون"، يعني: أن كثيرًا من بني إسرائيل.
* * *
=و"الهاء والميم" في قوله:"ثم إن كثيرًا منهم"، من ذكر بني إسرائيل، وكذلك ذلك في قوله:"ولقد جاءتهم".
* * *
="بعد ذلك"، يعني: بعد مجيء رسل الله بالبينات (٢).
="في الأرض لمسرفون"، يعني: أنهم في الأرض لعاملون بمعاصي الله، ومخالفون أمر الله ونهيه، ومحادُّو الله ورسله، باتباعهم أهواءَهم. وخلافهم على أنبيائهم، وذلك كان إسرافهم في الأرض. (٣)
* * *
(١) في المطبوعة: "على حقية"، فعل بما كان في المخطوطة، كما فعل بأخواتها من قبل، انظر ما سلف، كما أشرت إليه في ص: ١٩، تعليق: ٣، والمراجع السابقة هناك.
(٢) انظر تفسير"البينات" فيما سلف ٩: ٣٦٠، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير"الإسراف" فيما سلف ٧: ٢٧٢، ٥٧٩.
242
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا﴾
قال أبو جعفر: وهذا بيان من الله عز ذكره عن حكم"الفساد في الأرض"، الذي ذكره في قوله:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض"= أعلم عباده: ما الذي يستحق المفسدُ في الأرض من العقوبة والنكال، فقال تبارك وتعالى: لا جزاء له في الدنيا إلا القتلُ، والصلب، وقطعُ اليد والرِّجل من خلافٍ، أو النفي من الأرضِ، خزيًا لهم. وأما في الآخرة إن لم يتبْ في الدنيا، فعذاب عظيم.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية.
فقال بعضهم: نزلت في قوم مِن أهل الكتاب كانوا أهل مودَاعةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض، فعرَّف الله نبيَّه ﷺ الحكمَ فيهم.
ذكر من قال ذلك:
١١٨٠٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا"، قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي ﷺ عهدٌ وميثاق، فنقضوا العهدَ وأفسدوا في الأرض، فخيَّرَ الله رسوله: إن شاء أن يقتل، وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خِلافٍ.
١١٨٠٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: كان قوم بينهم وبين رسول الله ﷺ ميثاقٌ، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل، وأفسدوا في الأرض، فخيَّر الله جل
243
وعز نبيَّه ﷺ فيهم، فإن شاء قتل، وإن شاء صَلَب، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
١١٨٠٥ - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول، فذكر نحوه.
* * *
وقال آخرون: نزلت في قوم من المشركين.
ذكر من قال ذلك:
١١٨٠٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى "أن الله غفور رحيم"، نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن تقدِروا عليه لم يكن عليه سبيل. وليست تُحْرِزُ هذه الآية الرجلَ المسلم من الحدِّ. إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يُقْدَر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحدُّ الذي أصاب. (١)
١١٨٠٧ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن أشعث، عن الحسن:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، قال: نزلت في أهل الشرك.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت في قوم من عُرَيْنه وعُكْل، ارتدُّوا عن الإسلام، وحارَبوا الله ورسوله.
[ذكر من قال ذلك] :
١١٨٠٨ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا سعيد
(١) الأثر: ١١٨٠٦-"يزيد" هو"يزيد النحوي"، "يزيد بن أبي سعيد النحوي المروزي" مضى برقم: ٦٣١١. وكان في المطبوعة هنا: "زيد"، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة. وأخرجه النسائي في سننه ٧: ١٠١ بمثله. وأبو داود في سننه ٤: ١٨٧، رقم ٤٣٧٢، وسيأتي برقم: ١١٨٧٢.
244
بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس: أن رهطًا من عُكْلٍ وعُرَينة، أتوا النبي ﷺ فقالوا: يا رسول الله، إنا أهل ضَرْع، ولم نكن أهل ريفٍ، (١) وإنا استوخمنا المدينة، (٢) فأمر لهم النبي ﷺ بِذَوْدٍ وراعٍ، (٣) وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فقتلوا راعيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم. فأتيَ بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وَسَمل أعينهم، (٤) وتركهم في الحرَّة حتى ماتوا (٥) = فذُكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله". (٦)
١١٨٠٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا روح قال، حدثنا هشام بن أبي عبد الله، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثل هذه القصة. (٧)
١١٨١٠ - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبى يقول:
(١) "أهل ضرع": أهل إبل وشاء. و"الضرع"، ثدي كل ذات خف أو ظلف، يعني أنهم أهل بادية= و"أهل ريف": أهل زرع وحرث، وهم الحضر. و"الريف"، ما قارب الماء من أرض العرب وغيرها.
(٢) "استوخموا المدينة": استثقلوها، ولم يوافق هواؤها أبدانهم، فمرضوا.
(٣) "الذود": القطيع من الإبل، من الثلاث إلى التسع.
(٤) "سمل عينه": فقأها بحديدة محماة، أو بشوك، أو ما شابه ذلك. وإنما فعل بهم ذلك، لأنهم فعلوا بالرعاة مثله، فجازاهم على صنيعه بمثله.
(٥) "الحرة" (بفتح الحاء) : أرض ذات حجارة سود نخرات، كأنها أحرقت بالنار. ومدينة رسول الله ﷺ بين حرتين.
(٦) الأثران: ١١٨٠٨، ١١٨٠٩-"روح بن عباة القيسي"، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. مضى برقم: ٣٠١٥، ٣٣٥٥، ٣٩١٢.
و"هشام بن أبي عبد الله" في الأثر الثاني هو"الدستوائي".
وهذا حديث صحيح، رواه أحمد من طرق في مسنده ٣: ١٦٣، من طريق معمر، عن قتادة/ و١٧٠، من طريق سعيد عن قتادة/ و٢٣٣، من طريق سعيد أيضا/ و٢٨٧ من طريق حماد، عن قتادة/ و٢٩٠ من طريق عفان عن قتادة. ورواه البخاري في صحيحه (الفتح ٧: ٣٥١) من طريق عبد الأعلى بن حماد، عن يزيد بن زريع، عن سعيد، بمثله. وأشار إليه مسلم في صحيحه ١١: ١٥٧. وأبو داود في سننه ٤: ١٨٦، رقم ٤٣٦٨، من طريق هشام، عن قتادة، والنسائي في سننه من طرق ٧: ٩٧، والبيهقي في السنن ٨: ٦٢.
(٧) الأثران: ١١٨٠٨، ١١٨٠٩-"روح بن عباة القيسي"، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. مضى برقم: ٣٠١٥، ٣٣٥٥، ٣٩١٢.
و"هشام بن أبي عبد الله" في الأثر الثاني هو"الدستوائي".
وهذا حديث صحيح، رواه أحمد من طرق في مسنده ٣: ١٦٣، من طريق معمر، عن قتادة/ و١٧٠، من طريق سعيد عن قتادة/ و٢٣٣، من طريق سعيد أيضا/ و٢٨٧ من طريق حماد، عن قتادة/ و٢٩٠ من طريق عفان عن قتادة. ورواه البخاري في صحيحه (الفتح ٧: ٣٥١) من طريق عبد الأعلى بن حماد، عن يزيد بن زريع، عن سعيد، بمثله. وأشار إليه مسلم في صحيحه ١١: ١٥٧. وأبو داود في سننه ٤: ١٨٦، رقم ٤٣٦٨، من طريق هشام، عن قتادة، والنسائي في سننه من طرق ٧: ٩٧، والبيهقي في السنن ٨: ٦٢.
245
أخبرنا أبو حمزة، عن عبد الكريم= وسئل عن أبوال الإبل= فقال: حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين فقال: كان ناس أتوا النبي ﷺ فقالوا: نبايعك على الإسلام! فبايعوه وهم كَذَبة، وليس الإسلامَ يريدون. ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة! (١) فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هذه اللَّقاح تغدو عليكم وتروح، (٢) فاشربوا من أبوالها وألبانها. قال: فبينا هم كذلك، إذ جاء الصريخُ، فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، (٣) فقال: قتلوا الراعي، وساقوا النَّعَم! فأمر نبي الله فنودي في الناس: أنْ"يا خيل الله اركبي"! (٤) قال: فركبوا، لا ينتظر فارسٌ فارسًا. قال: فركب رسول الله ﷺ على أثرهم، فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنَهم، فرجع صحابة رسول الله ﷺ وقد أسروا منهم، فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية. قال: فكان نفيُهم: أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنَهم وأرضهم، ونفوهم من أرض المسلمين. وقتل نبي الله منهم، وصلب وقَطَع، وَسَمل الأعين. قال: فما مثَّل رسول الله ﷺ قبلُ ولا بعدُ. قال: ونهَى عن المُثْلة، وقال: لا تمثِّلوا بشيء. قال: فكان أنس بن مالك يقول ذلك، غير أنه قال: أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم. (٥)
* * *
(١) "اجتوى الأرض والبلد": إذا كره المقام فيه، وإن كانت موافقة له في بدنه. ويقال: "الاجتواء": أن لا تستمرئ الطعام بالأرض والشراب، غير أنك إذ أحببت المقام بها ولم يوافقك طعامها، فأنت"مستوبل"، ولست بمجتو. ويقال في شرح حديث العرنيين: أصابهم"الجوى"، وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول.
(٢) "اللقاح" (بكسر اللام) جمع"لقحة" (بكسر فسكون)، وهي ذوات الألبان من النوق.
(٣) "الصريخ" و"الصارخ": المستغيث. وقوله: "صرخ إلى رسول الله"، كأنه يعني: انتهى باستغاثته إلى رسول الله. وهو تعبير قلما تظفر به في المراجع فقيده.
(٤) قال ابن الأثير: "هذا على حذف المضاف، أراد: يا فرسان خيل الله اركبي، وهذا من أحسن المحازات وألطفها"، وهي في التنزيل: "وأجلب عليهم بخيلك ورجلك"، أي بفرسانك ورجالتك.
(٥) الأثر: ١١٨١٠-"أبو حمزة"، هو"ميمون، أبو حمزة الأعور القصاب"، ضعيف جدا، مضى برقم: ٦١٩٠.
و"عبد الكريم"، هو"عبد الكريم بن مالك الجزري: " أبو سعيد، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: ٨٩٢.
246
قال: وبعضهم يقول: هم ناس من بني سليم، ومنهم من عرينة، وناس من بَجيلة
[ذكر من قال ذلك] :
١١٨١١ - حدثني محمد بن خلف قال، حدثنا الحسن بن حماد، عن عمرو بن هاشم، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن إبراهيم، عن جرير قال: قَدِم على النبي ﷺ قوم من عرينة، حفاةً مضرورين، (١) فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. (٢) فلما صَحُّوا واشتدُّوا، قتلوا رِعاءَ اللقاح، (٣) ثم خرجوا باللِّقاح عامدين بها إلى أرض قومهم. قال جرير: فبعثني رسولُ الله ﷺ في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعد ما أشرَفُوا على بلاد قومهم، فقدِمنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقطع أيديهم وأرجلَهم من خلاف، وسملَ أعينهم، وجعلوا يقولون:"الماء"! ورسول الله ﷺ يقول:"النار"! حتى هلكوا. قال: وكره الله عز وجلَ سَمْل الأعين، فأنزل هذه الآية:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى آخر الآية. (٤)
(١) "المضرور" و"الضرير": المريض المهزول الذي أصابه الضر.
(٢) يعني بقوله: "فأمر بهم"، يعني: أمر ان يمرضوا ويعتني بأمرهم.
(٣) "الرعاء" و"الرعاة" جمع"راع".
(٤) الأثر: ١١٨١١-"محمد بن خلف بن عمار العسقلاني"، شيخ الطبري، مضى برقم: ١٢٦، ٦٥٣٤.
و"الحسن بن حماد بن كسيب الحضرمي"، وهو"سجادة". روي عن حفص بن غياث ويحيى بن سعيد الأموي، وأبي خالد الأحمر، وأبي مالك الجنبي، ووكيع، وغيرهم. روى عنه أبو داود، وابن ماجه وغيرهم. ثقة. قال أحمد: "صاحب سنة، ما بلغني عنه إلا خيرًا". توفى سنة ٢٤١. وكان في المطبوعة: "الحسن بن هناد"، خطأ، صوابه في المخطوطة. وتفسير ابن كثير.
و"عمرو بن هاشم"، هو"أبو مالك الجنبي"، صدوق يخطئ، لينوه. مضى برقم: ١٥٣٠
و"موسى عبيدة بن نشيط الربذي" ضعيف نمرة، قال أحمد: "لا تحل الرواية عندي عن موسى بن عبيدة". مضى برقم: ١٨٧٥، ٣٢٩١، ٨٣٦١، ١١١٣٤= وكان في المطبوعة والمخطوطة: "موسى بن عبيد"، وهو خطأ، صوابه من تفسير ابن كثير.
وأما "محمد بن إبراهيم"، فكأنه"محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي"، رأى سعد بن أبي وقاص، وأبا سعيد الخدري، وأرسل عن ابن عمر وابن عباس. فلا أدري أسمع من جرير بن عبد الله، أم لا. وجرير مات سنة ٥١.
وهذا الخبر ضعيف جدا، وهو أيضا لا يصح، لأن جرير بن عبد الله البجلي صاحب رسول الله ﷺ وفد على النبي ﷺ في العام الذي توفى فيه، وخبر العرنيين كان في شوال سنة ست، في رواية الواقدي (ابن سعد٢/١/٦٧)، وكان أمير السرية كرز بن جابر الفهري. وذلك قبل وفاة رسول الله ﷺ في شهر ربيع الأول سنة ١١ من الهجرة، بأعوام.
وهذا الخبر، ذكره الحافظ ابن حجر، في ترجمة"جرير بن عبد الله البجلي"، وضعفه جدا. أما ابن كثير، فذكره في تفسيره ٣: ١٣٩، وقال: "هذا حديث غريب، وفي إسناده الربذي، وهو ضعيف. وفي إسناده فائدة: وهو ذكر أمير هذه السرية. وهو جرير بن عبد الله البجلي. وتقدم في صحيح مسلم أن هذه السرية كانوا عشرين فارسًا من الأنصار. وأما قوله: فكره الله سمل الأعين، فإنه منكر. وقد تقدم في صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاء، فكان ما فعل بهم قصاصًا، والله أعلم".
والعجب لابن كثير، يظن فائدة فيما لا فائدة فيه، فإن أمير هذه السرية، كان، ولا شك، كرز ابن جابر الفهري، ولم يرو أحد أن أميرها كان جرير بن عبد الله البجلي، إلا في هذا الخبر المنكر.
247
١١٨١٢ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن لهيعة، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن، عن عروة بن الزبير= ح، وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، وسعيد بن عبد الرحمن وابن سمعان، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: أغار ناس من عرينة على لِقَاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستاقوها وقتلوا غلامًا له فيها، فبعث في آثارهم، فأخِذوا، فقطع أيديهم وأرجلهم وَسَمل أعينهم. (١)
(١) الأثر: ١١٨١٢-"أبو الأسود"، "محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي"، هو"يتيم عروة" ثقة. سلف برقم: ٢٨٩١، ١١٥١٠.
"يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب"، ثقة، مستقيم الحديث. مترجم في التهذيب.
و"سعيد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حميل الجمحي"، قاضي بغداد. ثقة، قال أحمد: "ليس به بأس، وحديثه مقارب". وقال ابن أبي عدي: "له غرائب حسان، وأرجو أنها مستقيمة، وإنما يهم في الشيء بعد الشيء، فيرفع موقوفًا، ويصل مرسلا، لا عن تعمد". مترجم في التهذيب.
و"ابن سمعان"، هو"عبد الله بن سليمان بن سمعان المخزومي"، وهو ضعيف كذاب. سئل مالك عنه فقال: "كذاب". وقال هشام بن عروة (الذي روى عنه هذا الأثر هنا) :"حدث عني بأحاديث، والله ما حدثته بها، ولقد كذب علي". وقد أجمعوا على أنه لا يكتب حديثه، كما قال النسائي.
قال ابن عدي: "أروى الناس عنه ابن وهب، والضعف على حديثه ورواياته بين". أما ابن وهب الراوي عنه هنا، فقد سأله عنه أحمد بن صالح فقال: "ما كان مالك يقول في ابن سمعان؟ "، قال: "لا يقبل قول بعضهم في بعض".
وهذا الخبر الذي رواه الطبري بهذا الإسناد، صحيح، إلا ما كان من ضعف ابن سمعان وتركه، ولذلك رواه النسائي في سننه ٧: ٩٩، ١٠٠، فساق إسناد الطبري ولكنه أغفل ذكر ابن سمعان فقال: "أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح قال، أنبأنا ابن وهب قال. وأخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم وسعيد بن عبد الرحمن، وذكر آخر، عن هشام بن عروة، عن عروة بن الزبير"، فنكر ذكر"ابن سمعان"، لأنه متروك عنده.
وهذا الخبر روي بأسانيد صحاح أخرى مرفوعا إلى عائشة. انظر السنن للنسائي ٧: ٩٩.
248
١١٨١٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي الزناد، عن عبد الله بن عبيد الله، عن عبد الله بن عمر= أو: عمرو، شك يونس=، عن رسول الله ﷺ بذلك، ونزلت فيهم آية المحاربة. (١)
١١٨١٤ - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أنس قال: قدم ثمانية نفَرٍ من عُكْلٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلموا، ثم اجتووا المدينة، فأمرهم رسول الله ﷺ أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها.
(١) الأثر: ١١٨١٣-"عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري"، ثقة حافظ، مضى برقم: ١٣٨٧، ٥٩٧٣، ٦٨٨٩.
و"سعيد بن أبي هلال الليثي المصري"، ثقة، من أتباع التابعين. مضى برقم: ١٤٩٥، ٥٤٦٥. و"أبو الزناد" هو: "عبد الله بن ذكوان القرشي"، قيل إن أباه كان أخا أبي لؤلؤة، قاتل عمر بن الخطاب. ثقة، لم يكن بالمدينة بعد كبار التابعين أعلم منه.
و"عبد الله بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب". روى عن عمه عبد الله، وروى عنه أبو الزناد. ثقة. روى له أبو داود والنسائي حديثًا واحدًا، هو هذا الحديث.
وكان في المخطوطة والمطبوعة: "عبد الله بن عبد الله"، وهو خطأ محض.
وأما ما شك فيه يونس من أنه"عبد الله بن عمر بن الخطاب "أو"عبد الله بن عمرو بن العاص"، فشك لا مكان له. والصحيح أنه"عبد الله بن عمر بن الخطاب".
وهذا الحديث رواه أبو داود في سننه ٤: ١٨٦- ١٨٧، رقم ٤٣٦٩، مطولا. ورواه النسائي في سننه ٧: ١٠٠ بمثل رواية أبي جعفر.
249
ففعلوا، فقتلوا رعاتها، واستاقوا الإبل. فأرسل رسول الله ﷺ في أثرهم قَافَة، (١) فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، (٢) وتركهم فلم يحسِمْهُم حتى ماتوا. (٣)
١١٨١٥ - حدثنا علي قال، حدثنا الوليد قال، حدثني سعيد، عن قتادة، عن أنس قال: كانوا أربعة نفرٍ من عرينة، وثلاثةً من عكل. فلما أتي بهم، قطع أيديهم وأرجلهم، وَسَمل أعينهم، ولم يحسمهم، وتركهم يتلقَّمون الحجارة بالحرَّة، (٤) فأنزل الله جل وعز في ذلك:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، الآية. (٥)
١١٨١٦ - حدثني علي قال، حدثنا الوليد، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم من بجيلة. قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام. (٦)
(١) "القافة" جمع"قائف": وهو الذي يعرف آثار الأقدام ويتبعها."قاف الأثر يقوفه قيافة، واقتافه اقتيافا".
(٢) "حسمه الدم يحسمه حسمًا": أي قطعة بالكي بالنار.
(٣) الأثر: ١١٨١٤- هذا الخبر رواه أحمد في مسند أنس من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة الجرمي ٣: ١٩٨، من طريق أبي جعفر نفسها، وفيه"قتلوا رعاتها- أو رعاءها"، وفيه زيادة"ولم يحسمهم حتى ماتوا، وسمل أعينهم".
ورواه البخاري في صحيحه من طريق أيوب، عن أبي قلابة (الفتح ١: ٢٨٩/٦: ١٠٨/٧: ٣٥٢/١٢: ٩٩)، ورواه أيضا من طريق أبي رجاء مولى أبي قلابة، عن أنس (الفتح ٨: ٢٠٦) واستوفى الحافظ الكلام في شرحه وبيانه.
ورواه مسلم في صحيحه من طرق ١١: ١٥٣- ١٥٧.
ورواه أبو داود في سننه ١: ١٨٥، ١٨٦ من طرق.
ورواه النسائي في سننه من طرق ٧: ٩٣- ٩٥.
(٤) "يتلقمون الحجارة": أي يضعون الحجارة في أفواههم من العطش، كي تستدر الريق. وجاء مفسرًا في ألفاظ الحديث الأخرى. قال أنس: "فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشًا". يقال: "لقم الطعام وتلقمته والتقمه".
(٥) الأثر: ١١٨١٥- انظر الأثرين السالفين رقم: ١١٨٠٨، ١١٨٠٩.
(٦) الأثر: ١١٨١٦- انظر سنن النسائي ٧: ٩٨، وقول أمير المؤمنين عبد الملك لأنس وهو يحدثه حديث العرنيين: "بكفر أو بذنب؟ "، فقال أنس: "بكفر". وسيأتي هذا الخبر مطولا، وقول أبي جعفر فيه، وتخريجه هناك برقم: ١١٨٥٤.
250
١١٨١٧ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا"، قال: أنزلت في سُودان عرينة. قال: أتوا رسول الله ﷺ وبهم الماءُ الأصفر، فشكوا ذلك إليه، فأمرهم فخرجوا إلى إبل رسول الله ﷺ من الصدقة، فقال: اشربوا من ألبانها وأبوالها! فشربوا من ألبانها وأبوالها، حتى إذا صَحُّوا وبرأوا، قتلوا الرعاة واستاقوا الإبل.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال: أنزل الله هذه الآية على نبيِّه صلى الله عليه وسلم، معرِّفَه حكمه على من حارب الله ورسوله، (١) وسعى في الأرض فسادًا، بعد الذي كان من فعل رسول الله ﷺ بالعرنيِّين ما فعل.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك، لأن القِصَص التي قصّها الله جل وعزّ قبلَ هذه الآية وبعدَها، من قَصَص بنى إسرائيل وأنبائهم، فأن يكون ذلك متوسِّطًا، (٢) من تعريف الحكم فيهم وفي نظرائهم، (٣) أولى وأحقّ.
وقلنا: كان نزول ذلك بعد الذي كان من فعلِ رسول الله ﷺ بالعرنيِّين ما فعل، لتظاهر الأخبار عن أصحاب رسول الله ﷺ بذلك.
* * *
وإذ كان ذلك أولى بالآية لما وصفنا، فتأويلها: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل، أنه من قتل نفسًا بغير نفس، أو سعى بفسادٍ في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا= ولقد جاءتهم رُسُلنا
(١) في المطبوعة: "معرفة حكمه"، وهو خطأ.
(٢) "متوسطًا"، منصوب على الحال.
(٣) في المطبوعة: "من يعرف الحكم"، ومثلها في المخطوطة، ولكنها غير منقوطة، ورجحت أن يكون صوابها ما أثبت.
251
بالبينات ثُمَّ إن كثيًرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون- يقول: لساعون في الأرض بالفساد، وقاتلوا النفوس بغير نفس، وغير سعي في الأرض بالفسادِ حربًا لله ولرسوله= فمن فعل ذلك منهم، يا محمد، فإنما جزاؤه: أن يقتَّلوا، أو يصلَّبوا، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض.
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن تكون الآية نزلت في الحال التي ذكرتَ: من حال نقض كافرٍ من بني إسرائيل عهدَه= ومن قولك إن حكم هذه الآية حكم من الله في أهل الإسلام، (١) دون أهل الحرب من المشركين؟
قيل: جازَ أن يكون ذلك كذلك، لأن حكم من حارب الله ورسوله وسَعى في الأرض فسادًا من أهل ذمَّتنا وملَّتنا واحد. والذين عنوا بالآية، كانوا أهل عهد وذِمَّة، وإن كان داخلا في حكمها كل ذمِّي وملِّي، وليس يَبْطُل بدخول من دخل في حكم الآية من الناس، أن يكون صحيحًا نزولها فيمن نزلت فيه.
* * *
وقد اختلف أهل العلم في نسخ حكم النبي ﷺ في العرنيين.
فقال بعضهم: ذلك حكم منسوخ، نسخَه نهيُه عن المثلة بهذه الآية= أعني بقوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا" الآية. وقالوا: أنزلت هذه الآية عِتابًا لرسول الله ﷺ فيما فعل بالعُرَنيين.
* * *
وقال بعضهم: بل فِعْلُ النبيِّ ﷺ بالعرنيين، حكمٌ ثابت في نظرائهم أبدًا، لم ينسخ ولم يبدّل. وقوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية، حكمٌ من الله فيمن حارب وسَعى في الأرض فسادًا بالحِرَابة. (٢)
قالوا:
(١) قوله: "ومن قولك"، الواو واو الحال، يعني: كيف يجوز ذلك، وأنت تقول كذا وكذا.
(٢) "الحرابة" (بكسر الحاء) مصدر مثل"العبادة" و"الرعاية" و"التجارة"، يراد به معنى: "المحاربة لله ورسوله، والسعي في الأرض فسادًا". وهو مصدر من قولهم: "حربه" أي سلبه وأخذ ماله وتركه بلا شيء. وليس مصدر"حارب"، فإن مصدر ذلك"محاربة وحرابًا"مثل"قاتل مقاتلة وقتالا". وهذا اللفظ على كثرة دورانه في كتب الأئمة لم يرد له ذكر في كتب اللغة، كأنهم عدوه مما استعمله الفقهاء، ولم تأت به رواية اللغة. وهو، إن شاء الله، عربي صحيح البناء.
252
والعرنيون ارتدُّوا، وقتلوا، وسرقوا، وحاربوا الله ورسوله، فحكمهم غير حكم المحارب الساعي في الأرض بالفساد من أهل الإسلام أو الذمة. (١)
* * *
وقال آخرون: لم يسمُل النبي ﷺ أعين العرنيِّين، ولكنه كان أراد أن يسمُل، فأنزل الله جل وعز هذه الآية على نبيه، يعرِّفه الحكم فيهم، ونهاه عن سمل أعينهم.
ذكر القائلين ما وصفنا:
١١٨١٨ - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: ذاكرت اللَّيث بن سعد ما كان من سَمْل رسول الله ﷺ أعيُنهم، وتركه حَسْمهم حتى ماتوا، فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ معاتبةً في ذلك، وعلَّمه عقوبة مثلهم: من القطع والقتل والنفي، ولم يسمل بعدَهم غيرَهم. قال: وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو، (٢) فأنكر أن تكون نزلت معاتبة، وقال: بَلَى، (٣) كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم، فرفع عنهم السمل.
١١٨١٩ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتي بهم= يعني العرنيين= فأراد أن يسمُل أعينهم، فنهاه الله عن ذلك، وأمره أن يقيم فيهم الحدود، كما أنزلها الله عليه. (٤)
* * *
(١) في المطبوعة: "الإسلام والذمة"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) "أبو عمرو" يعني الأوزاعي.
(٣) "بلى" استعملها هنا جوابًا في غير حجد سبقها. وقد سلفت قبل ذلك، انظر ما سلف ص ٩٨: تعليق: ٤.
(٤) انظر الاختلاف في نسخ هذه الآية في"الناسخ والمنسوخ" لأبي جعفر النحاس: ١٢٣- ١٢٨، فهو فصل مهم.
253
واختلف أهل العلم في المستحق اسم"المحارب لله ورسوله"، الذى يلزمه حكمُ هذه. فقال بعضهم: هو اللص الذي يقطَع الطريق.
ذكر من قال ذلك:
١١٨٢٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة وعطاء الخراساني في قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا" الآية، قالا هذا، اللص الذي يقطع الطريق، (١) فهو محارب.
* * *
وقال آخرون: هو اللص المجاهر بلصوصيته، المكابرُ في المصر وغيره. (٢)
وممن قال ذلك الأوزاعي.
١١٨٢١ - حدثنا بذلك العباس، عن أبيه عنه. (٣)
* * *
=وعنه، وعن مالك، والليث بن سعد، وابن لهيعة.
(١) في المطبوعة: "هذا هو اللص"، زيادة لا خير فيها، زادها من نفسه.
(٢) في المخطوطة: "المكاثر" بالثاء المثلثة. والذي في المطبوعة هو الصواب: "كابره على حقه" جاحده وغالبه عليه. و"إنه لمكابر عليه"، إذا أخذ منه عنوة وقهرًا. وهي كثيرة في كتاب الأم للشافعي في هذا الموضع من باب الفقه. انظر الأم ٦: ١٤٠، وغيرها.
(٣) الأثر: ١١٨٢١-"العباس"، يعني"العباس بن الوليد بن مزيد العذري الآملي البيروتي"، شيخ أبي جعفر، مضى برقم: ٨٩١.
وأبوه: "الوليد بن مزيد العذري البيروتي". روى عن الأوزاعي، وروى عنه ابنه العباس. ويروى عن الأوزاعي أنه قال: "ما عرض علي كتاب أصح من كتب الوليد بن مزيد". مترجم في التهذيب.
وكان في المخطوطة هنا: "حدثنا بذلك العباس، عن أبيه وعنه عن مالك والليث... "، وهو خطأ لا شك. فإن"الوليد بن مزيد" لم تذكر له رواية عن مالك أو الليث أو ابن لهيعة. والذي رواه عنهم هو: "الوليد بن مسلم" الآتي في الآثار التالية. فمن أجل ذلك صح بعض ما في المطبوعة، وصححت ما تركه. ففي المطبوعة: "... عن أبيه، عنه وعن مالك... "، فجعلته: "وعنه وعن مالك... " لأنه سيروي في ذلك قول الأوزاعي أيضا من طريق الوليد بن مسلم برقم: ١١٨٢٤، كما سيأتي. واستقام بذلك الكلام.
254
١١٨٢٢ - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس: تكونُ محاربةٌ في المصر؟ قال: نعم، والمحارب عندنا من حمل السلاح على المسلمين في مصرٍ أو خلاء، فكان ذلك منه على غير نائرة كانت بينهم ولا ذَحْل ولا عداوة، (١) قاطعًا للسبيل والطريق والديار، مخيفًا لهم بسلاحه، فقتل أحدًا منهم، قتله الإمام كقِتْلة المحارب، (٢) ليس لوليّ المقتول فيه عَفْوٌ ولا قَوَد.
١١٨٢٣ - حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال: وسألت عن ذلك الليث بن سعد وابن لهيعة، قلت تكون المحاربة في دُور المصر والمدائن والقُرى؟ فقالا نعم، إذا هم دخَلوا عليهم بالسيوف عَلانيةً، أو ليلا بالنيران. (٣) قلت: فقتلوا أو أخذُوا المال ولم يقتلوا؟ فقال: نعم هم المحاربون، فإن قَتَلوا قُتِلوا، وإن لم يَقْتُلوا وأخذوا المال، قُطِعوا من خلاف إذا هم خرجوا به من الدّار، ليس من حارب المسلمين في الخَلاء والسبيل، بأعظم محاربةً مِمَن حاربهم في حَرِيمهم ودورهم!
١١٨٢٤ - حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو: (٤) وتكون المحاربة في المصر، شَهَر على أهله بسلاحه ليلا أو نهارًا= قال علي، قال الوليد: وأخبرني مالك: أن قتل الغِيلة عنده بمنزلة المحاربة. قلت: وما قتل الغِيلَة؟ قال: هو الرجل يخدَع الرَّجل والصبيَّ، فيدخِلُه بيتًا أو يخلُو به، فيقتله، ويأخذ ماله. فالإمام وليّ قتل هذا، وليس لولي الدم والجرح قَوَد ولا قصاص.
* * *
=وهو قول الشافعي.
١١٨٢٥- حدثنا بذلك عنه الربيع.
* * *
(١) "النائرة": الفتنة الحادثة في عداوة وشحناء، و"نار الحرب" و"نائرتها": شرها وهيجها. و"الذحل": الثأر.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "كقتله المحارب"، والمخطوطة غير منقوطة، فهذا صواب قراءتها. و"القتلة": هيأة القتل.
(٣) قوله"قلت" هنا، ليست في المخطوطة، وزادها الناشر الأول، وأحسن في فعله.
(٤) "الوليد بن مسلم"، و"أبو عمرو" هو: الأوزاعي، انظر التعليق السالف ص: ٢٥٤، رقم: ٣.
255
وقال آخرون:"المحارب"، هو قاطع الطريق. فأما"المكابر في الأمصار"، (١) فليس بالمحارب الذي له حكم المحاربين. وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه.
١١٨٢٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا بشر بن المفضل، عن داود بن أبي هند، قال: تذاكرنا المحاربَ ونحن عند ابن هبيرة، في أناس من أهل البصرة، فاجتمع رأيهم: أن المحارب ما كان خارجًا من المصر.
* * *
وقال مجاهد بما:-
١١٨٢٧ - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا" قال: الزنا، والسرقة، وقتل الناس، وإهلاك الحرث والنسل.
١١٨٢٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد:"ويسعون في الأرض فسادًا" قال:"الفساد"، القتل، والزنا، والسرقة.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال:"المحارب لله ورسوله"، من حارب في سابلة المسلمين وذِمَّتهم، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حِرَابة. (٢)
وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال بالصواب، لأنه لا خلاف بين الحجة أن من نصب حربًا للمسلمين على الظلم منه لهم، أنه لهم محارب، ولا خلاف فيه. فالذي وصفنا صفته، لا شك فيه أنه لهم نَاصبٌ حربًا ظلمًا. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء كان نصبه الحربَ لهم في مصرهم وقُراهم، أو في سُبلهم وطرقهم: في أنه لله ولرسوله محارب، بحربه من نَهَاه الله ورسوله عن حربه.
* * *
(١) انظر تفسير"المكابر" فيما سلف قريبًا ص: ٢٥٤، تعليق: ٢.
(٢) انظر ما قلته في"الحرابة" فيما سلف ص: ٢٥٢، تعليق: ٢.
256
وأما قوله:"ويسعون في الأرض فسادًا"، فإنه يعني: ويعملون في أرض الله بالمعاصي: من إخافة سُبُل عباده المؤمنين به، أو سُبُل ذمتهم، وقطعِ طرقهم، وأخذ أموالهم ظلمًا وعدوانًا، والتوثُّب على حرمهم فجورًا وفُسُوقًا. (١)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما للذي حاربَ الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادًا، من أهل ملة الإسلام أو ذمتهم- إلا بعض هذه الخلال التي ذكرها جل ثناؤه.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في هذه الخلال، أتلزم المحاربَ باستحقاقه اسم"المحاربة"، أم يلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جُرْمه، مختلفًا باختلاف أجرامه؟
[فقال بعضهم: تجب على المحارب العقوبة على قدر استحقاقه، ويلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جُرْمه، مختلفًا باختلاف أجرامه]. (٢)
ذكر من قال ذلك:
١١٨٢٩ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله
(١) انظر تفسير"الفساد في الأرض" فيما سلف ص: ٢٣٢، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) هذه الزيادة بين القوسين، لا بد منها، فإن أبا جعفر سيذكر هذا القول، والقول الآخر، فيما اختلفوا فيه. ومن دأبه أن يصدر كل قول قاله العلماء بترجمة قولهم. فسقط من هذا الموضع ترجمة هذا الباب، فاستظهرتها من سؤاله السالف، ومن معنى الآثار التالية، ومن ترجيح أبي جعفر بين هذين التأويلين فيما سيأتي ص: ٢٦٤، والظاهر أن الناسخ سها، واختلط عليه ختام جملة بختام جملة أخرى، فأسقط الترجمة.
257
ورسوله" إلى قوله:"أو ينفوا من الأرض"، قال: إذا حارب فقتَل، فعليه القتل إذا ظُهِر عليه قبْلَ توبته. (١) وإذا حارب وأخذ المال وقتل، فعليه الصَّلب إن ظُهِر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ ولم يقتل، فعليه قطعُ اليدِ والرجل من خلافٍ إن ظُهِر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخاف السبيل، فإنما عليه النّفي.
١١٨٣٠ - حدثنا ابن وكيع وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن حماد، عن إبراهيم:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" قال: إذا خرج فأخاف السبيل وأخذ المال، قُطعت يده ورجله من خِلافٍ. وإذا أخاف السبيلَ، ولم يأخذ المال وقتل، صُلب.
١١٨٣١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم -فيما أرى - في الرجل يخرج محاربًا، قال: إن قطع الطريق وأخذ المال، قطعت يدُه ورجله. وإن أخذ المال وقَتل، قُتل، وإن أخذ المال وقَتَل ومثَّل، صُلب.
١١٨٣٢ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية، قال: إذا قتل وأخذ المال وأخاف السبيل، صُلب. وإذا قتل لم يعدُ ذلك، قُتل. إذا أخذ المالَ لم يعدُ ذلك، قُطِع. وإذا كان يُفْسد نُفي.
١١٨٣٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سماك، عن الحسن:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى قوله:"أو ينفوا من الأرض" قال: إذا أخافَ الطريق ولم يَقتُل ولم يأخذ المال، نُفي.
١١٨٣٤ - حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن حصين قال: كان يقال: من حارب فأخاف السبيل وأخذ المال ولم يقتُل،
(١) "ظهر عليه" (بالبناء للمجهول) : أي غلب فأخذ.
258
قطِعت يده ورجله من خلاف. وإذا أخذ المال وقَتَل، صُلب.
١١٨٣٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أنه كان يقول في قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى قوله:"أو ينفوا من الأرض"، حدودٌ أربعة أنزلها الله. فأما من أصاب الدم والمال جميعًا، صلب. وأما من أصاب الدم وكفّ عن المال، قُتل. ومن أصاب المال وكفَّ عن الدم، قُطع. ومن لم يصب شيئًا من هذا، نفي.
١١٨٣٦ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: نهى الله نبيَّه عليه السلام عن أن يسمل أعينَ العرنيين الذين أغاروا على لِقَاحه، وأمره أن يقيم فيهم الحدود كما أنزلها الله عليه. فنظر إلى من أخذ المال ولم يقتل، فقطَع يدَه ورجلَه من خلاف، يدَه اليمنى ورجلَه اليسرى. ونظر إلى من قتل ولم يأخذ مالا فقَتَله. ونظر إلى من أخذ المال وقتل، فصلبه. وكذلك ينبغي لكل من أخاف طريقَ المسلمين وقَطَع، أن يصنع به إن أخِذ وقد أخَذ مالا قطعت يده بأخذِه المال، ورجلُه بإخافة الطريق. وإن قَتَل ولم يأخذ مالا قُتِل، وإن قتل وأخذ المال، صُلِب.
١١٨٣٧ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا فضيل بن مرزوق قال: سمعت السدي يسأل عطيّة العوفيّ، عن رجل محاربٍ، خرج فأخذ ولم يصبْ مالا ولم يهرق دمًا. قال: النفي بالسيف، (١) وإن أخذ مالا فيده بالمال، ورجلُه بما أخاف المسلمين. وإن هو قتل ولم يأخذ مالا قتل. وإن هو قتل وأخذ المال، صُلب= وأكبر ظني أنه قال: تقطع يده ورجله.
١١٨٣٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عطاء الخراساني وقتادة في قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية،
(١) قوله: "النفي بالسيف"، يعني أن يطارد حتى يخرج من الأرض، حتى يدخلوا مأمنهم وأرضهم، كما سلف في الأثر رقم: ١١٨١٠.
259
قال: هذا، اللصُّ الذي يقطع الطريقَ، فهو محارب. فإن قتل وأخذ مالا صُلب. وإن قتل ولم يأخذ مالا قُتِل. وإن أخذ مالا ولم يقتل، قطعت يده ورجله. (١) وإن أخِذ قبل أن يفعل شيئا، من ذلك، نفي.
١١٨٣٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن قيس بن سعد، عن سعيد بن جبير قال: من خرج في الإسلام محاربًا لله ورسوله فقتل وأصاب مالا فإنه يقتل ويُصْلَب. ومن قتل ولم يصب مالا فإنه يقتل كما قَتَل. ومن أصاب مالا ولم يقتل، فإنه يُقْطَع من خلاف. وإن أخاف سبيل المسلمين، نُفي من بلده إلى غيره، لقول الله جل وعز:"أو ينفَوا من الأرض".
١١٨٤٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، قال: كان ناس يسعون في الأرض فسادًا، وقَتَلوا وقَطَعوا السبيل، فصُلِب أولئك. وكان آخرون حاربُوا واستحلُّوا المال ولم يعدُوا ذلك، فقطعت أيديهم وأرجلهم. وآخرون حارَبوا واعتزَلوا ولم يعدوا ذلك، فأولئك أخْرجوا من الأرض.
١١٨٤١ - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي هلال. قال، حدثنا قتادة، عن مورِّق العجلي في المحارب قال: إن كان خرج فقتَل وأخذ المال، صُلب. وإن كان قتل ولم يأخذ المالَ، قُتل. وإن كان أخذ المال ولم يقتل، قُطع. وإن كان خرج مُشَاقًا للمسلمين: نُفي.
١١٨٤٢ - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن عطية العوفي، عن ابن عباس قال: إذا خرج المحاربُ وأخاف الطريق وأخذ المال، قطعت يده
(١) في المخطوطة: "وإن قتل ولم يأخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله"، وهو خطأ محض، صوابه ما في المطبوعة بلا شك.
260
ورجله من خلاف. فإن هو خرج فقَتَل وأخذ المال، قطعت يده ورجله من خِلافٍ ثم صُلب. وإن خرج فقَتَل ولم يأخذ المال، قُتِل. وإن أخاف السبيل ولم يقْتُل ولم يأخذ المال، نفي.
١١٨٤٣ - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، حدثني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي= وعن أبي معاوية، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا" قالا إن أخاف المسلمين فقَطَع المال ولم يسفك، قُطِع. (١) وإذا سفك دمًا: قتل وصُلب. وإن جمعهما فاقتطع مالا وسفك دمًا، قُطع ثُمّ قتل ثم صلب، كأن الصلب مُثْلَةٌ، وكأن القطع:"السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما"، (٢) وكأن القتل:"النفس بالنفس". وإن امتنع، فإن من الحقّ على الإمام وعلى المسلمين أن يطلُبوه حتى يأخذوه، فيقيموا عليه حكم كتاب الله:"أو ينفوا من الأرض"، من أرض الإسلام إلى أرضِ الكفر.
قال أبو جعفر: واعتلَّ قائلو هذه المقالة لقولهم هذا، بأن قالوا: إن الله أوجبَ على القاتل القوَد، وعلى السارق القَطع. وقالوا: قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يحل دَمُ امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خِلال: رجل قتل فقتل، ورجل زنى بعد إحصان فرُجم، ورجل كفر بعد إسلامه". (٣) قالوا: فحظر النبيُ ﷺ قتل رجل مسلم إلا بإحدى هذه الخلال الثلاث. فأما أن يقتل من أجل إخافته السبيل من غير أن يقتل أو يأخذ مالا فذلك تقدُّمٌ على الله ورسوله بالخلافِ عليهما في الحكم. قالوا: ومعنى قول من قال:"الإمام فيه بالخيار، إذا قَتَل وأخاف السبيل وأخذ المال"، فهنالك خيار الإمام في قولهم بين القتل، أو
(١) في المطبوعة: "فاقتطع المال"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما بمعنى واحد.
(٢) في المخطوطة: "وكان السارق والسارقة... "، والصواب ما في المطبوعة. وهذا والذي بعده تضمين لآيتي الحكمين: في السرقة وقتل النفس.
(٣) هذا حديث صحيح متفق على معناه، رواه بغير إسناده. انظر مسلم ١١: ١٦٤، ١٦٥.
261
القتل والصلب، أو قطع اليد والرجل من خلاف. وأما صلبه باسم المحاربة، من غير أن يفعل شيئًا من قتل أو أخذ مال، فذلك ما لم يقله عالم.
* * *
وقال آخرون: الإمام فيه بالخيار: أن يفعل أيَّ هذه الأشياء التي ذكرَها الله في كتابه.
ذكر من قال ذلك:
١١٨٤٤ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن عطاء= وعن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في المحارب: أن الإمام مخير فيه، أيَّ ذلك شاءَ فعل.
١١٨٤٥ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن عبيدة، عن إبراهيم: الإمام مخير في المحارب، أيَّ ذلك شاء فعل. إن شاء قتل، وإن شاء قطع، وإن شاء نفى، وإن شاء صلب.
١١٨٤٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن الحسن في قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، إلى قوله:"أو ينفوا من الأرض"، قال: يأخذ الإمام بأيِّها أحب.
١١٨٤٧ - حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن الحسن:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" قال: الإمام مخيَّرٌ فيها.
١١٨٤٨ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، مثله.
١١٨٤٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن قيس بن سعد قال، قال عطاء: يصنع الإمام في ذلك ما شاء. إن شاء قتل، أو قطع، أو نَفَى، لقول الله:"أن يقتَّلوا أو يصلبوا أو تقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض"، فذلك إلى الإمام الحاكم، يصنع فيه ما شاء.
262
١١٨٥٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية، قال: من شَهَر السلاح في قُبّة الإسلام، (١) وأخاف السبيل، ثم ظُفِر به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجلَه.
١١٨٥١ - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة قال، أخبرنا أبو هلال قال، أخبرنا قتادة، عن سعيد بن المسيب: أنه قال في المحارب: ذلك إلى الإمام، إذا أخذه يصنع به ما شاء.
١١٨٥٢ - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي هلال قال، حدثنا هارون، عن الحسن في المحارب قال: ذاك إلى الإمام، يصنع به ما شاء.
١١٨٥٣ - حدثنا هناد قال، حدثنا حفص بن غياث، عن عاصم، عن الحسن:"إنما جزاءُ الذين يحاربون الله ورسوله"، قال: ذلك إلى الإمام.
* * *
قال أبو جعفر: واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن قالوا: وجدنا العطوف التي بـ"أو" في القرآن بمعنى التخيير، في كل ما أوجب الله به فرضًا منها، وذلك كقوله في كفارة اليمين: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [سورة المائدة: ٨٩]، وكقوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [سورة البقرة: ١٩٦]،
(١) في المطبوعة: "في فئة الإسلام"، ولا معنى لها، ولم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة والصواب ما قرأت. و"قبة الإسلام" يعني في ظله، وحيث مستقر سلطانه. ولذلك سموا"البصرة": قبة الإسلام، قال الشاعر:
بَنَتْ قُبَّةَ الإِسْلامِ قَيْسٌ لأَهْلِهَا وَلَوْ لَمْ يُقِيمُوهَا لَطَالَ الْتِوَاؤُهَا
وأصل"القبة": خيمة من أدم مستديرة. وذلك كقولهم أيضا: "دار الإسلام" بهذا المعنى الذي بينته.
263
وكقوله: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) [سورة المائدة: ٩٥]. قالوا: فإذا كانت العُطوفُ التي بـ"أو" في القرآن، في كل ما أوجب الله به فرضًا منها في سائر القرآن، بمعنى التخيير، فكذلك ذلك في آية المحاربين= الإمام مخير فيما رأى الحكم به على المحارب إذا قَدَر عليه قبل التوبة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا، تأويلُ من أوجب على المحارب من العقوبة على قدر استحقاقه، وجعل الحكم على المحاربين مختلِفًا باختلاف أفعالهم. فأوجب على مُخيف السبيل منهم= إذا قُدِر عليه قبل التوبة، وقبل أخذ مالٍ أو قتل= النفيَ من الأرض. وإذا قُدر عليه بعد أخذ المال وقتل النفس المحرم قتلُها= الصلب، لما ذكرت من العلة قبل لقائلي هذه المقالة.
* * *
فأما ما اعتلّ به القائلون: إنّ الإمام فيه بالخيار، من أن"أو" في العطف تأتي بمعنى التخيير في الفرض، فقولٌ لا معنى له، (١) لأن"أو" في كلام العرب قد تأتي بضروب من المعاني، لولا كراهة إطالة الكتاب بذكرها لذكرتها، وقد بينت كثيرًا من معانيها فيما مضى، وسنأتي على باقيها فيما يستقبل في أماكنها إن شاء الله. (٢)
=فأما في هذا الموضع، فإن معناها التعقيب، وذلك نظير قول القائل:"إن
(١) في المطبوعة: "فنقول: لا معنى له". وهو كلام متهالك، صوابه ما في المخطوطة.
(٢) انظر ما سلف ١: ٣٣٦، ٣٣٧/٢: ٢٣٥- ٢٣٧/٤: ٧٥، ٧٦/٦: ٥١٣/٧: ١٩٤.
264
جزاء المؤمنين عند الله يوم القيامة أن يدخلهم الجنة، أو يرفع منازلهم في علِّيين، أو يسكنهم مع الأنبياء والصديقين"، فمعلوم أن قائل ذلك غير قاصد بقيله إلى أن جزاء كل مؤمن آمن بالله ورسوله، فهو في مرتبة واحدة من هذه المراتب، ومنزلة واحدة من هذه المنازل= بإيمانه، بل المعقول عنه أن معناه: أن جزاء المؤمن لن يخلُو عند الله عز ذكره من بعض هذه المنازل. فالمقتصد منزلته دون منزلة السابق بالخيرات، والسابق بالخيرات أعلى منه منزلة، والظالم لنفسه دونهما، (١)
وكلٌّ في الجنة كما قال جل ثناؤه: (جنات عدن يدخلونها) [سورة فاطر: ٣٣]. فكذلك معنى العطوف بـ"أو" في قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، الآية، إنما هو التعقيب.
فتأويله: إن الذي يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادًا، لن يخلو من أن يستحق الجزاءَ بإحدى هذه الخلال الأربع التي ذكرها الله عز ذكره= لا أن الإمام محكم فيه ومخيَّرٌ في أمره= كائنةً ما كانت حالته، عظمت جريرته أو خفَّتْ، (٢) لأن ذلك لو كان كذلك، لكان للإمام قتل من شَهر السلاح مخيفًا السبيلَ وصلْبُه، وإن لم يأخذ مالا ولا قتل أحدًا، وكان له نفيُ من قَتَل وأخذَ المال وأخافَ السبيل. وذلك قولٌ إن قاله قائل، خلافُ ما صحّت به الآثار عن رسول الله ﷺ من قوله:"لا يحل دَمُ امرئ ٍمسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل قتل رجلا فقتل به، أو زنى بعد إحصان فرجم، أو ارتَدّ عن دينه" (٣) =وخلاف قوله:
(١) اقرأ آية"سورة فاطر": ٣٢ ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾.
(٢) في المطبوعة: "وعظمت" بواو لا مكان لها هنا.
(٣) انظر تخريج هذا الخبر فيما سلف قريبًا ص: ٢٦١، تعليق: ٣.
265
"القطعُ في رُبْع دينارٍ فصاعدًا"، (١) وغيرُ المعروف من أحكامه. (٢)
* * *
فإن قال قائل: فإن هذه الأحكام التي ذكرتَ، كانت عن رسول الله ﷺ في غير المحارب، وللمحارب حكم غير ذلك منفرد به.
قيل له: فما الحكم الذي انفرد به المحارب في سننه؟
فإن ادَّعى عنه ﷺ حكمًا خلاف الذي ذكرنا، أكذبه جميعُ أهل العلم، لأن ذلك غير موجود بنقلِ واحدٍ ولا جماعة.
وإن زعم أن ذلك الحكم هو ما في ظاهر الكتاب، قيل له: فإن أحسن حالاتك إن سُلِّم لك، (٣) أن ظاهر الآية قد يحتمل ما قلت وما قاله من خالفك =فما برهانك على أنّ تأويلك أولى بتأويل الآية من تأويله؟
وبعد، فإذ كان الإمام مخيَّرًا في الحكم على المحارب، من أجل أنّ"أو" بمعنى التخيير في هذا الموضع عندك، أفله أن يصلبه حيًّا، ويتركه على الخشبة مصلوبًا حتى يموت من غير قتله.
فإن قال:"ذلك له"، خالف في ذلك الأمة.
وإن زعم أنَّ ذلك ليس له، وإنما له قتله ثم صلبه، أو صلبه ثم قتله= ترك علّته من أنّ الإمام إنما كان له الخيار في الحكم على المحارب من أجل أن"أو" تأتي بمعنى التخيير.
وقيل له: فكيف كان له الخيار في القتل أو النفي أو القطع، ولم يكن له الخيار في الصلب وحده، حتى تجمع إليه عقوبة أخرى؟
(١) هذا خبر مجمع عليه في الصحاح، انظر فتح الباري ١٢: ٨٩- ٩١، وسيأتي تخريجه برقم: ١١٩١٢.
(٢) قوله: "وغير المعروف من أحكامه"، معطوف على ما سلف: "وذلك قول إن قاله قائل: خلاف ما صححت به الآثار عن رسول الله... ".
(٣) في المطبوعة: "أن يسلم لك"، غير ما في المخطوطة، وهو محض الصواب.
266
وقيل له: هل بينك وبين من جعل الخيار حيث أبيت، وأبى ذلك حيث جعلته له= فرقٌ من أصلٍ أو قياس؟ (١) فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم الآخر مثله.
* * *
وقد روي عن رسول الله ﷺ بتصحيح ما قلنا في ذلك، بما في إسناده نظر، وذلك ما"-
١١٨٥٤ - حدثنا به علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب: أنّ عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم من بجيلة. قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابُوا الفرجَ الحرام. قال أنس: فسأل رسول الله ﷺ جبريل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب، فقال: من سَرَق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته، ورجلَه بإخافته. ومن قتل فاقتله. ومن قتل وأخاف السبيل واستحلَّ الفرج الحرام، فاصلبه. (٢)
* * *
(١) السياق: "هل بينك وبين من جعل الخيار.... فرق من أصل أو قياس".
(٢) الأثر: ١١٨٥٤-"الوليد بن مسلم الدمشقي القرشي"، ثقة حافظ متقن، من شيوخ أحمد سلفت ترجمته مرارًا منها: ٢١٨٤، ٦٦١١.
"ابن لهيعة" هو: "عبد الله بن لهيعة"، تكلموا فيه كثيًرا، ووثقه أخي السيد أحمد فيما سلف رقم: ١٦٠، ٢٩٤١، وبعضهم يقول: "لا يحتج بحديثه".
و"يزيد بن أبي حبيب المصري"، ثقة أخرج له الجماعة، مضى برقم: ٤٣٤٨، ٥٤١٨، ٥٤٩٣.
وعلة هذا الخبر، ضعف ابن لهيعة، عند من يرى ضعفه وترك الاحتجاج بحديثه. ثم إن يزيد بن أبي حبيب لم يدرك أن يسمع من أنس، ولم يذكر أنه سمع منه.
وقد مضى صدر هذا الخبر فيما سلف برقم: ١١٨١٦، فانظر التعليق عليه هناك. وسيأتي في الأثر: ١١٨٨٥، أن رواية يزيد بن أبي حبيب لهذا الخبر، عن كتاب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان.
267
وأما قوله:"أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف"، فإنه يعني به جل ثناؤه: أنه تقطع أيديهم مخالِفًا في قطعها قَطْع أرجلهم. وذلك أن تقطع أيْمُن أيديهم، وأشمُلُ أرجلهم. فذلك"الخلاف" بينهما في القطع.
ولو كان مكان"من" في هذا الموضع"على" أو"الباء"، فقيل:"أو تقطع أيديهم وأرجلهم على خلاف= أو: بخلاف"، لأدَّيا عما أدّت عنه"من" من المعنى.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"النفي" الذي ذكر الله في هذا الموضع.
فقال بعضهم: هو أن يطلب حتى يقدر عليه، أو يهرب من دار الإسلام.
ذكر من قال ذلك:
١١٨٥٥ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"أو ينفوا من الأرض"، قال: يطلبهم الإمام بالخيل والرّجال حتى يأخذهم فيقيم فيهم الحكم، أو ينفوا من أرض المسلمين.
١١٨٥٦ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال، نفيُه: أن يطلب.
١١٨٥٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أو ينفوا من الأرض"، يقول: أو يهربوا حتى يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب.
١١٨٥٨ - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن كتاب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان: أنه كتب إليه:"ونفيه، أن يطلبه الإمام حتى يأخذه، فإذا أخذه أقام عليه إحدى هذه المنازل التي ذكر الله جل وعز بما استحل". (١)
(١) الأثر: ١١٨٥٨- انظر التعليق السالف على الأثر: ١١٨٥٤.
268
١١٨٥٩ - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال: فذكرت ذلك لليث بن سعد فقال: نفيُه، طلبُه من بلد إلى بلد حتى يؤخذ، أو يخرجه طلبُه من دار الإسلام إلى دار الشرك والحرب، إذا كان محاربًا مرتدًّا عن الإسلام= قال الوليد: وسألت مالك بن أنس، فقال مثله.
١١٨٦٠ - حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال: قلت لمالك بن أنس والليث بن سعد: وكذلك يطلب المحاربُ المقيم على إسلامه، يضطرّه بطلبه من بلد إلى بلد حتى يصير إلى ثغر من ثغور المسلمين أو أقصى حَوْزِ المسلمين، (١) فإن هم طلبوه دخل دار الشرك؟ قالا لا يُضْطَرّ مسلم إلى ذلك.
١١٨٦١ - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك:"أو ينفوا من الأرض" قال: أن يطلبوه حتى يعجزوا.
١١٨٦٢ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول، فذكر نحوه.
١١٨٦٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث، عن عاصم، عن الحسن:"أو ينفوا من الأرض"، قال: ينفى حتى لا يُقْدَر عليه.
١١٨٦٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"أو ينفوا من الأرض"، قال: أخرجوا من الأرض. أينما أدركوا أخْرجوا حتى يلحقوا بأرض العدّو.
١١٨٦٥ - حدثنا الحسن قال، حدثنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر،
(١) في المطبوعة: "حتى يصير إلى ثغر من ثغور المسلمين أو أقصى جوار المسلمين" وصواب ذلك"حتى"، و"أو أقصى حوز المسلمين"، كما في المخطوطة.
و"الحوز" من الأرض (بفتح فسكون) : أن يتخذها رجل، ويبين حدودها فيستحقها، فلا يكون لأحد حق معه، فذلك"الحوز". ومنه"حوز الدار"، ومنه أيضًا"حوزة الإسلام"، أي حدوده ونواحيه، وفي الحديث: "فحمى حوزة الإسلام".
269
عن الزهري في قوله:"أو ينفوا من الأرض"، قال: نفيه: أن يُطلب فلا يُقْدر عليه، كلَّما سُمع به في أرض طُلِب.
١١٨٦٦ - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني سعيد، عن قتادة:"أو ينفوا من الأرض"، قال: إذا لم يَقْتُل ولم يأخذ مالا طُلب حتى يُعْجِز.
١١٨٦٧ - حدثني ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرني نافع بن يزيد قال، حدثني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي= وعن أبي معاوية، عن سعيد بن جبير:"أو ينفوا من الأرض"، من أرض الإسلام إلى أرض الكفر.
* * *
وقال آخرون: معنى"النفي" في هذا الموضع: أن الإمام إذا قدر عليه نفاه من بلدته إلى بلدةٍ أخرى غيرها.
ذكر من قال ذلك:
١١٨٦٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد، عن سعيد بن جبير:"أو ينفوا من الأرض"، قال: من أخاف سبيل المسلمين، نُفي من بلده إلى غيره، لقول الله جل وعز:"أو ينفوا من الأرض".
١١٨٦٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يزيد بن أبي حبيب وغيره، عن حيَّان بن سُرَيج: أنه كتب إلى عمر بن عبدْ العزيز في اللصوص، ووصف له لصوصيتهم، وحبَسهم في السجون، قال: قال الله في كتابه:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خِلاف"، وترك:"أو ينفوا من الأرض". فكتب إليه عمر بن عبد العزيز:"أما بعد، فإنك كتبت إليّ تذكر قول الله جل وعزّ:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا
270
أن يقتّلوا أو يصِلَّبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ"، وتركت قول الله:"أو ينفوا من الأرض"، فنبيٌّ أنت، يا حيّان!! لا تحرّك الأشياء عن مواضِعها، أتجرَّدت للقتل والصَّلب كأنك عبدُ بني عقيل، (١) من غير ما أُشبِّهك به؟ إذا أتاك كتابي هذا، فانفهم إلى شَغْبٍ".
١١٨٧٠ - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني الليث، عن يزيدَ وغيره، بنحو هذا الحديث= غير أن يونس قال في حديثه:"كأنك عبد بني أبي عقال، (٢) من غير أن أشبهك به".
١١٨٧١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، أن الصَّلت، كاتب حيَّان بن سُرَيج، أخبرهم: أن حيّان كتب إلى عمر بن عبد العزيز:"أن ناسًا من القبط قامت عليهم البيَّنة بأنهم حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادًا، وأن الله يقول:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا" فقرأ حتى بلغ،"وأرجلهم من خلاف"، وسكت عن النفي. وكتب إليه:"فإن رأى أمير المؤمنين أن يُمْضي قضاءَ الله فيهم، فليكتب بذلك". فلما قرأ عمر بن عبد العزيز كتابه قال: لقد اجتزأ حيان! ثم كتب إليه:"إنه قد بلغني كتابك وفهمته، ولقد اجتزأتَ، كأنما كتبتَ بكتاب يزيد بن أبي مسلم، أو عِلْج صاحبِ العراق، (٣) من غير أن أشبهك بهما، فكتبت
(١) "تجرد للأمر": جد فيه جدا بالغًا، وتفرغ له وشمر فيه، كما يتجرد المرء من ثيابه وينضوها عنه لكيلا تعوقه. يقال: "تجرد فلان للعبادة"، وقال الأخطل: وَأَطْفَأْتُ عَنِّي نَارَ نُعْمَانَ بَعْدَ مَا... أَعَدَّ لأَمْرٍ فَاجِرٍ وَتَجَرَّدَا
وقال ابن قيس الرقيات: تَجَرَّدُوا يَضْرِبُونَ بَاطِلَهُمْ... بِالحقِّ حَتَّى تَبَيَّنَ الْكَذِبُ
و"عبد بني عقيل"، الصواب أن يقال"عبد بني أبي عقيل"، فإن أبا عقيل، هو جد"الحجاج ابن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود الثقفي". وذلك أن ثقيفا جد الحجاج الأعلى، كان فيما يقولون، هو: "قسى (ثقيف) بن منبه بن النبيت بن منصور بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن إياد بن نزار"، وأنه ليس كما جاء في نسب ثقيف أنه من"مضر بن نزار"، وأن ثقيفًا، فيما يروي عن ابن عباس: كان عبدًا لامرأة نبي الله صالح، فوهبته لصالح، وأنه هو"أبو رغال" الذي يرجم قبره. يقول حسان بن ثابت في هجاء ثقيف (ديوانه: ٣٤١، ٣٤٢) : إِذَا الثَّقَفِيُّ فَاخَرَكُمْ فَقُولُوا:... هَلُمَّ نَعُدُّ أُمَّ أَبِي رِغَالِ
أَبُوكُمْ أَخْبَثُ الآبَاءِ طُرًّا... وأَنْتُمْ مُشْبِهُوهُ عَلَى مِثالِ
وفي هذا الشعر زعم حسان أن ثقيفًا كان عبدًا للفرز، وهو سعد بن زيد مناة بن تميم، فقال: عَبِيدُ الْفِزْرِ أَوْرَثَهُمْ بَنِيِه... وَآلَى لا يَبِيعُهُمُ بِمَالِ
وَمَا لِكَرَامَةٍ حُبِسُوا، وَلَكِنْ... أَرَادَ هَوَانَهُمْ أُخْرَى اللَّيَالِي
وأما هجاء الحجاج بأنه"عبد من إياد"، فيقول مالك بن الريب (الكامل ١: ٣٠٢) : فَمَاذَا تَرَى الحجَّاجَ يَبْلُغُ جُهْدُهُ... إِذَا نَحْنُ جَاوَزْنَا حَِيرَ زِيادِ
فَلَوْلا بَنُوا مَرْوَانَ كَانَ ابْنُ يُوسُفٍ... كَمَا كَانَ، عَبْدًا مِنْ عَبِيدِ إيَادِ
زَمَانَ هُوَ الْعَبْدُ الْمُقِرُّ بِذِلَّةٍ... يُرَاوِحُ صِبْيَانَ الْقُرَى وَيُغَادِي
فإن الحجاج كان معلمًا بالطائف، وكان يهجى بذلك. فهذا تفسير"عبد بني أبي عقيل". وكان الحجاج، كما تعلم، مسرفًا في القتل، فلذلك قال عمر رضي الله عنه ما قال.
(٢) لم أجد وجها لقوله: "عبد بن أبي عقال"، فإن جده الذي ينسب إليه هو"أبو عقيل" كما سلف في الأثر الماضي.
(٣) "يزيد بن أبي مسلم"، و"يزيد بن دينار"، من موالي ثقيف، وليس مولى عتاقة، وكان أخا الحجاج من الرضاعة. وكان من أصحاب الحجاج وولاته، وكان يتشبه به في سيرته، وولي العراق وإفريقية. قال ابن عبد الحكم في سيرة عمر بن عبد العزيز: ٣٤، ٣٥: "وكان يظهر التأله، والنفاذ لكل ما أمر به السلطان، مما جل أو صغر، من السيرة بالجور، والمخالفة للحق. وكان في هذا يكثر الذكر والتسبيح، ويأمر بالقوم فيكونون بين يديه يعذبون، وهو يقول: سبحان الله والحمد لله، شد يا غلام موضع كذا وكذا -لبعض مواضع العذاب- وهو يقول: لا إله إلا الله والله أكبر، شد يا غلام موضع كذا وكذا. فكانت حالته شر تلك الحالات".
وكان يزيد يوم استخلف عمر بن عبد العزيز، واليًا على إفريقية، فلم يكد عمر يواري جثة سليمان بن عبد الملك، حتى عجل ودعا بقرطاس ودواة، فكتب ثلاثة كتب، لم يسعه فيما بينه وبين الله عز وجل أن يؤخرها، فأمضاها من فوره. فأخذ الناس يهمزون عمر بن عبد العزيز، لما رأوو من عجلته، فقالوا: "ما هذه العجلة؟ أما كان يصبر إلى أن يرجع إلى منزله؟ هذا حب السلطان! هذا الذي يكره ما دخل فيه!!. ولم يكن بعمر عجلة، ولا محبة لما صار إليه، ولكنه حاسب نفسه، ورأى أن تأخير ذلك لا يسعه. فكان أحد هذه الكتب الثلاثة كتابه بعزل يزيد بن أبي مسلم. (سيرة عمر بن عبد العزيز: ٣٤، ٣٥ / والوزراء للجهشياري: ٤٢).
وأما "علج صاحب العراق" = و"العلج" الرجل من كفار العجم وغيرهم = فإنه يعني الحجاج نفسه وكان واليًا على العراق، وجعله"علجًا"، كأنه مولى من الموالي غليظ، كما سماه عبدا في الأثر السالف.
271
بأول الآية، ثم سكتَّ عن آخرها، وإن الله يقول:"أو ينفوا من الأرض"، فإن كانت قامت عليهم البينة بما كتبتَ به، فاعقد في أعناقهم حديدًا، ثم غيّبهم إلى شَغْبٍ وبَدَا." (١)
* * *
قال أبو جعفر:"شَغْبٌ و"بَدَا"، موضعان. (٢)
* * *
(١) الآثار: ١١٨٦٩-١١٨٧١-"يزيد بن أبي حبيب المصري"، مضى قريبًا في الأثر رقم: ١١٨٥٤.
وأما "الصلت"، فهو: "الصلت بن أبي عاصم"، ولم أعثر له على ترجمة، ورأيت ذكره في كتاب فتوح مصر لابن عبد الحكم ص: ٩٠.
وأما "حيان بن سريج المصري"، فكان عاملا لعمر بن عبد العزيز على مصر. ترجم له ابن أبي حاتم ١/٢/ ٢٤٧، والكبير للبخاري ٢/١/٥٢. وضبط"سريج" بالسين غير معجمة، والجيم في المؤتلف لعبد الغني بن سعيد الأزدي المصري ص: ٧٦، وقال ناشر التاريخ الكبير في تعليقه: "وكذا ضبطه ابن ماكولا في الإكمال.... ووقع هنا في الأصل: "شريح".
وكذلك يقع في كثير من الكتب"شريح"، وكذلك كان هنا في المطبوعة في سائر المواضع، أما المخطوطة، فهي غير منقوطة. وتبعت ضبط الحافظ عبد الغني، لأنه مصري، وهو أعلم بأنساب المصريين.
وكان في المطبوعة"حبان" بالباء الموحدة، وهو خطأ محض.
(٢) "شغب" (بفتح فسكون) : منهل بين طريق مصر والشام، و"بدا": واد قرب أيلة، من ساحل البحر، وهما من ديار بني عذرة، يقول كثير:ويقول عبد الله بن السائب:فقال ابنه:
وَأَنْتِ الَّتيِ حَبَّبْتِ شَغْبًا إلَى بَدَا إلَيَّ، وَأَوْطَانِي بِلادٌ سِوَاهُمَا
فَلَمَّا عَلَوْا شَغْبًا تَبَيَّنْتُ أَنَّهُ تَقَطَّعَ مِنْ أَهْلِ الحِجَازِ عَلائِقِي
فَلا زِلْنَ حَسْرَى ظُلَّعًا، لِمْ حَمَلْنَنَا إلَى بَلَدٍ نَاءٍ قَلِيلِ الأَصَادِقِ!!
فهذا يؤيد أنها منفى بعيد لأهل الحجاز والشام، كما جاء في هذا الخبر.
273
وقال آخرون: معنى"النفي من الأرض"، في هذا الموضع: الحبس.
ذكر من روى ذلك عنه:
وهو قول أبى حنيفة وأصحابه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: معنى"النفي من الأرض"، في هذا الموضع، هو نفيه من بلد إلى بلد غيره، وحبْسُه في السجن في البلد الذي نفي إليه، حتى تظهر توبته من فسوقه، ونزوعه عن معصيته ربَّه.
وإنما قلتُ ذلك أولى الأقوال بالصحة، لأن أهل التأويل اختلفوا في معنى ذلك على أحد الأوجه الثلاثة التي ذكرت. وإذْ كان ذلك كذلك= وكان معلومًا أن الله جل ثناؤه إنما جعل جزاء المحارب: القتلَ أو الصلبَ أو قطعَ اليد والرجل من خلافٍ، بعد القدرة عليه، لا في حال امتناعه= كان معلومًا أنّ النفي أيضًا إنما هو جزاؤه بعد القُدرة عليه، لا قبلها. ولو كان هَرَبه من الطلب نفيًا له من الأرض، (١) كان قطع يده ورجله من خلافٍ في حال امتناعه وحربه على وجه القتال، بمعنى إقامة الحدِّ عليه بعد القدرة عليه. وفي إجماع الجميع أن ذلك لا يقوم مقام نفيه الذي جعله الله عز وجل حدًّا له بعد القدرة عليه، [بطل أن يكون نفيُه من الأرض، هربَهُ من الطلب]. (٢)
وإذْ كان كذلك، فمعلوم أنه لم يبق إلا الوجهان الآخران، وهو النفي من بلدة إلى أخرى غيرها، أو السَّجْن. فإذْ كان كذلك، فلا شك أنه إذا
(١) في المطبوعة: "هروبه"، وفي المخطوطة: "هو به"، و"الهروب" ليس مصدرًا عربيًا، وإن كان قد كثر استعماله في زماننا هذا، وإنما المصدر"الهرب" (بفتحتين)، فالصواب"هربه" كما أثبت.
(٢) هذه الزيادة بين القوسين، زيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام. وقد استظهرتها من كلام أبي جعفر فيما سلف، وما سيأتي بعده.
274
نُفي من بلدةٍ إلى أخرى غيرها، فلم ينف من الأرض، بل إنما نفي من أرض دون أرض. وإذ كان ذلك كذلك= وكان الله جل ثناؤه إنما أمر بنفيه من الأرض= كان معلومًا أنه لا سبيل إلى نفيه من الأرض إلا بحبسه في بُقْعة منها عن سائرها، فيكون منفيًّا حينئذ عن جميعها، إلا مما لا سبيل إلى نفيه منه.
* * *
وأما معنى"النفي"، في كلام العرب، فهو الطرد، ومن ذلك قول أوس بن حجر:
يُنْفَوْنَ عَنْ طْرُقِ الكِرَامِ كَمَا تَنْفِي المَطَارِقُ مَا بَلِي القَرَدُ (١)
ومنه قيل للدراهم الرديئة وغيرها من كل شيء:"النُّفَاية". (٢) وأما المصدر من"نفيت"، فإنه"النفي""والنَّفَاية"، (٣) ويقال:"الدلو ينفي الماء"، ويقال لما تطاير من الماء من الدلو:"النّفِيُّ"، ومنه قول الراجز: (٤)
(١) شرح المفضليات: ٨٢٧، وليس في ديوان أوس، وهو من شعره، من القصيدة الخامسة التي أولها:
أَبَنِي لُبَيْنَي لَسْتُمُ بِيَدٍ إِلا يَدٌ لَيْسِتْ لَهَا عَضُدُ
ويهجوهم، ورواية المفضليات"من طرق الكرام". و"المطارق" جمع"مطرقة" و"مطرق" وهو القضيب الذي يضرب به الصوف أو القطن لينتفش، وينفي منه القرد. و"القرد" (بفتحتين) : ما تمعط من الوبر والصوف وتلبد وانعقدت أطرافه، وهو نفاية الصوف، ثم استعمل فيما سواه من الوبر والشعر والكتان. وقوله: "ما يلي القرد"، أي: ما وليه القرد، من قولهم"وليه يليه"، أي: قاربه ودنا منه. يعني: ما قاربه القرد وباشره ولصق به تعقده.
وكان في المطبوعة: "ما يلي الفردا"، وهو خطأ، ومخالفة للمخطوطة، وهي فيها منقوطة، على خلاف العادة في مثلها.
(٢) "النفاية" هنا (بضم النون)، لا شك في ذلك. انظر التعليق التالي.
(٣) و"النفاية" هنا (بكسر النون)، لأنه عدها مصدرًا، مثل: "رعت الماشية رعيًا ورعاية" (بكسر الراء). هكذا استظهرته. وأما كتب اللغة فلم تذكر في مصادر"نفي" إلا"نفيًا" و"نفيانًا" فهذا مصدر يزاد عليها إن صح له شاهد من الشعر أو الآثار.
(٤) هو الأخيل الطائي.
275
كأَنَّ مَتْنَيِه مِنَ النَّفِيِّ مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ (١)
ومنه قيل:"نَفىَ شَعَرُه"، إذا سقط، يقال:"حَال لونُك، ونَفىَ شعرُك". (٢)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٣٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ذلك"، هذا الجزاء الذي جازيت به الذين حاربوا الله ورسولَه، وسعوا في الأرض فسادًا في الدنيا، من قتلٍ أو صلبٍ أو قطع يد ورجل من خلاف="لهم"، يعني: لهؤلاء المحاربين="خزي في الدنيا"، يقول: هو لهم شرٌّ وعار وذلةٌ، ونكال وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة.
* * *
يقال منه:"أخزيتُ فلانًا، فَخَزِي هو خِزْيًا". (٣)
* * *
وقوله:"ولهم في الآخرة عذاب عظيم"، يقول عز ذكره: لهؤلاء الذين حاربوا الله ورسولَه وسعوا في الأرض فسادًا، فلم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا= في
(١) سلف البيت وشرحه وتخريجه في ٣: ٢٢٥/ ٥: ٥٢٣، ولم أشر هناك إلى مجيئه في هذا المكان في التفسير، فأثبته هناك.
(٢) هذا في خبر محمد بن كعب القرظي وعمر بن عبد العزيز لما استخلف فرآه شعثًا قال:
"... وكان عهدنا به بالمدينة أميًرا علينا، حسن الجسم، ممتلئ البضعة، فجعلت أنظر إليه نظرًا، لا أكاد أصرف بصري عنه، فقال: يا ابن كعب، مالك تنظر إلي نظرًا ما كنت تنظره إلي قبل؟ قال فقلت: لعجبي! قال: ومما عجبك؟ فقلت: لما نحل من جسمك، ونفى من شعرك، وتغير من لونك؟ قال: وكيف لو رأيتني بعد ثلاث في قبري، حين تقع عيناي على وجنتي، ويسيل منخري وفمي دودًا وصديدًا، لكنت لي أشد نكرة منك اليوم! ".
"نفى الشعر": ثار وذهب وشعث وتساقط.
(٣) انظر تفسير"الخزي" فيما سلف ٢: ٣١٤، ٥٢٥/٧: ٤٧٩.
276
الآخرة، (١) مع الخزي الذي جازيتهم به في الدنيا، والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها="عذاب عظيم"، يعني: عذاب جهنم. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك: إلا الذين تابوا من شركهم ومناصَبتهم الحربَ لله ولرسوله والسَّعيِ في الأرض بالفساد، بالإسلام والدخولِ في إلإيمان، من قبل قُدرة المؤمنين عليهم، فإنه لا سبيل للمؤمنين عليهم بشيء من العقوبات التي جعلَها الله جزاء لِمَنْ حارَبه ورسوله وسَعى في الأرض فسادًا، من قتلٍ، أو صلب، أو قطع يد ورجل من خلاف، أو نفي من الأرض= فلا تِباعَةَ قِبَله لأحدٍ فيما كان أصاب في حال كفره وحربه المؤمنين، (٣) في مالٍ ولا دم ولا حرمةٍ. قالوا: فأما المسلم إذا حارب المسلمين أو المعاهدين، وأتى بعض ما يجب عليه العقوبة، فلن تضع توبته عنه عقوبةَ ذنبه، بل توبته فيما بينه وبين الله، وعلى الإمام إقامةُ الحدّ الذي أوجبه الله عليه، وأخذُه بحقوق الناس.
ذكر من قال ذلك:
١١٨٧٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا قوله:"إنما جزاء
(١) السياق: "لهؤلاء الذين حاربوا الله ورسوله.... في الآخرة... ".
(٢) انظر تفسير"عذاب عظيم" فيما سلف من فهارس اللغة (عذب) (عظم).
(٣) "التبعة" (بفتح التاء وكسر الباء)، و"التباعة" (بكسر التاء) : ما فيه إثم يتبع به مرتكبه. يقال: "ما عليه من الله في هذا تبعة، ولا تباعة".
277
الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض" إلى قوله:"فاعلموا أنّ الله غفور رحيم"، نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن يُقدر عليه، لم يكن عليه سبيل. وليس تُحْرِز هذه الآية الرجلَ المسلم من الحدِّ إن قتل، أو أفسد في الأرض، أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يُقْدر عليه. ذلك يقام عليه الحدّ الذي أصاب. (١)
١١٨٧٣ - حدثنا بشار قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم"، قال: هذا لأهل الشرك، إذا فعلوا شيئًا في شركهم، فإن الله غفور رحيمٌ، إذا تابوا وأسْلموا.
١١٨٧٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا" الزنا، (٢) والسرقة، وقتل النفس، وإهلاك الحرث والنسل="إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
١١٨٧٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: كان قوم بينهم وبين الرَّسول ﷺ ميثاقٌ، فنقضوا العهدَ وقطعوا السبيل، وأفسدوا في الأرض، فخيرَّ الله نبيَّه ﷺ فيهم: فإن شاء قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. فمن تاب من قبل أن تقدروا عليه، قُبِلَ ذلك منه.
١١٨٧٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"،
(١) الأثر ١١٨٧٢- مضى برقم: ١١٨٠٦، وانظر التعليق عليه.
(٢) في المطبوعة: "بالزنا"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب.
278
الآية= فذكر نحو قول الضحاك، إلا أنه قال: فإن جاء تائبًا فدخل في الإسلام، قُبل منه، ولم يؤاخذ بما سلَف.
١١٨٧٧ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، قال: هذا لأهل الشرك، إذا فعلوا شيئًا من هذا في شركهم، ثم تابوا وأسلموا، فإن الله غفور رحيم.
١١٨٧٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن عطاء الخراساني وقتادة: أما قوله:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، فهذه لأهل الشرك. فمن أصاب من المشركين شيئًا من المسلمين وهو لهم حَرْب، فأخذ مالا وأصاب دمًا، ثم تاب قبل أن تقدروا عليه، أُهْدِر عنه ما مَضَى.
* * *
وقال آخرون: بل هذه الآية معنيٌّ بالحكم بها، المحاربون اللهَ ورسوله: الحُرَّابُ من أهل الإسلام، (١) من قطع منهم الطريق وهو مقيم على إسلامه، ثم استأمن فأُومن على جناياته التي جناها، وهو للمسلمين حرب= ومَن فعل ذلك منهم مرتدًّا عن الإسلام، (٢) ثم لحق بدار الحرب، ثم استأمن فأومن. قالوا: فإذا أمَّنه الإمام على جناياته التي سلفت، لم يكن قِبَله لأحد تَبِعة في دمٍ ولا مالٍ أصابه قبل توبته، وقبلَ أمان الإمام إيَّاه.
ذكر من قال ذلك:
١١٨٧٩ - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني أبو أسامة،
(١) "الحراب" جمع"حارب"، و"الحارب": هو الغاصب الناهب الذي يعري الناس ثيابهم. وكأنه عنى به هنا: صفة"المحارب لله ورسوله"، وإفساده في الأرض. وانظر ما سيأتي ص: ٢٨٢، تعليق: ٢.
(٢) قوله: "ومن فعل... " معطوف على قوله: "الحراب من أهل الإسلام... " يعني: هذا وهذا.
279
عن أشعث بن سوار، عن عامر الشعبي: أن حارثة بن بَدْرٍ خرج محاربًا، فأخاف السبيل، وسفَك الدمَ، وأخذ الأموال، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقْدرَ عليه، فقبل علي بن أبي طالب عليه السلام توبته، وجعل له أمانًا منشورًا على ما كان أصاب من دٍم أو مال.
١١٨٨٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن مجالد، عن الشعبي: أن حارثة بن بدرٍ حاربَ في عهد علي بن أبي طالب، فأتى الحسن بن علي رضوان الله عليهما، فطلبَ إليه أن يستأمن له من عليّ، فأبى. ثم أتى ابن جعفر، فأبى عليه. (١) فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأمَّنه، وضمّه إليه. وقال له: استأمِنْ لِي أميرَ المؤمنين علي بن أبي طالب. (٢) قال: فلما صلى عليٌّ الغداة، (٣) أتاه سَعيد بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين، ما جزاء الذين يحارِبون الله ورسوله؟ قال: أن يقتَّلوا، أو يصلبوا، أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض. قال: ثم قال:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم". قال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر؟ قال: وإن كان حارثة بن بدر! قال: فهذا حارثة بن بدر قد جاء تائبًا، فهو آمن؟ قال: نعم! قال: فجاء به فبايعه، وقبل ذلك منه، وكتب له أمانًا.
١١٨٨١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن مجالد، عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر قد أفسد في الأرض وحارب، ثم تاب. وكُلِّم له عليّ فلم يُؤْمنه. فأتى سعيدَ بن قيس فكلّمه، فانطلق سعيدُ بن قيس إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، ما تقولُ فيمن حارب الله ورسوله؟ =فقرأ الآية كلها= فقال: أرأيت من تابَ من قبل أن تقدِر عليه؟
(١) يعني عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "استأمن إلى"، والصواب ما أثبت.
(٣) "الغداة"، يعني صلاة الفجر.
280
قال: أقول كما قال الله. قال: فإنه حارثة بن بدر! قال: فأمَّنه علي، فقال حارثة:
أَلا أَبْلِغَا هَمْدَانَ إِمَّا لَقِيتَها عَلَى النَّأيِ لا يَسْلَمْ عَدُوٌّ يَعِيبُهَا
لَعَمْرُ أَبِيهَا إنَّ هَمَدَانَ تَتَّقِي الإلهَ وَيَقْضِي بِالْكِتَابِ خَطِيبُهَا (١)
١١٨٨٢- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، وتوبته من قبل أن يُقْدر عليه: أن يكتُب إلى الإمام يَستأمنه على ما قَتل وأفسدَ في الأرض:"فإن لم يؤمني على ذلك، ازددت فسادًا وقتلا وأخذًا للأموال أكثر مما
(١) الآثار: ١١٨٧٩- ١١٨٨١-"عبد الرحمن بن مغراء الدوسي"، ثقة، متكلم فيه، مضى برقم: ١٦١٤.
وأما "حارثة بن بدر بن حصين الغداني"، من بني غدانة بن يربوع، كان من فرسان بني تميم ووجوهها وساداتها. وكان فاتكًا صاحب شراب. وكان فصيحًا بليغًا عارفًا بأخبار الناس وأيامهم، حلوًا شاعرًا ذا فكاهة، فكان زياد يأنس به طول حياته (الأغاني ٢١: ٢٥).
وأما "سعيد بن قيس الهمداني"، فهو من بني عمرو بن السبيع. وكان سيد همدان في زمانه.
ولما أمن علي رضي الله عنه حارثه بن بدر، وقف على المنبر فقال: "أيها الناس، إني كنت نذرت دم حارثة بن بدر، فمن لقيه فلا يعرض له". فانصرف سعيد بن قيس إلى حارثة، وأعلمه، وحمله وكساه وأجازه بجائزة سنية. فلما أراد حارثة الانصراف إلى البصرة شيعه سعيد بن قيس في ألف راكب، وحمله وجهزه.
وأما البيتان، فهما في تاريخ ابن عساكر ٣: ٤٣٠، مع اختلاف يسير في روايتهما.
وأما قوله: "ويقضي بالكتاب خطيبها"، فكأنه عنى بخطيب همدان الفقيه الجليل: "مسروق بن الأجدع الهمداني"، صاحب، على وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. وكأنه يشير بهذا البيت إلى ما روي عن مسروق أنه أتى يوم صفين، فوقف بين الصفين ثم قال:
أيها الناس، أنصتوا. ثم قال: أرأيتم لو أن مناديًا ناداكم من السماء فسمعتم كلامه ورأيتموه فقال: إن الله ينهاكم عما أنتم فيه، أكنتم مطيعيه؟ قالوا: نعم! قال: فوالله لقد نزل بذلك جبرئيل على محمد صلى الله عليه وسلم. فما زال يأتي من هذا- أي: يقول مثل هذا- ثم تلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكمْ رَحِيمًا).
ثم انساب في الناس فذهب. (ابن سعد ٦: ٥٢).
281
فعلت ذلك قبل". فعلى الإمام من الحقّ أن يؤمنه على ذلك. فإذا أمّنه الإمام جاء حتى يضع يده في يد الإمام، فليس لأحد من الناس أن يتّبِعه، ولا يأخذه بدَم سفكه، ولا مال أخذه. وكل مالٍ كان له فهو له، لكيلا يقتل المؤمنين أيضًا ويفسد. فإذا رجع إلى الله جل وعزّ فهو وليُّه، يأخذه بما صنع، وتوبته فيما بينه وبين الإمام والناس. فإذا أخذه الإمام، وقد تابَ فيما يزعُم إلى الله جل ثناؤه قبل أن يُؤمنه الإمام، فليقم عليه الحدّ.
١١٨٨٣ - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن سعيد بن عبد العزيز، أخبرني مكحول، أنه قال: (١) إذا أعطاه الإمام أمانًا، فهو آمن، ولا يقام عليه حدُّ ما كان أصاب.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: كلُّ من جاء تائبًا من الحُرَّاب قبل القُدْرة عليه، (٢) استأمن الإمام فأمَّنه أو لم يستأمنه، بعدَ أن يجيء مستسلمًا تاركًا للحرب.
ذكر من قال ذلك:
١١٨٨٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن أشعث، عن عامر قال: جاء رجل من مُرادٍ إلى أبي موسى، وهو على الكوفة في إمرة عثمان، بعد ما صلَّى المكتوبة فقال: يا أبا موسى، هذا مَقَام العائذِ بك، أنا فلان بن فلان المرادِيّ، كنت حاربتُ الله ورسوله، وسعيتَ في الأرض، وإني تبتُ من قبل أن تَقْدر عليّ! فقام أبو موسى فقال: هذا فلان ابن فلان، وإنه كان حاربَ الله ورسوله، وسعَى في الأرض فسادًا، وإنه تاب قبل أن يُقْدَر عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير. فأقام الرجل ما شاءَ الله، ثم إنه خرج فأدركه الله جل وعزّ بذُنوبه فقَتَله.
(١) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "أخبرني مكحول أنه قال"، وأرجح: أن الصواب"عن مكحول أنه قال"، وانظر الأسانيد السالفة رقم: ٣٩٩٧، ٤١٢٩، ٥٣٥٩، ٨٩٦٦.
(٢) "الحراب" جمع"حارب"، انظر تفسيرها فيما سلف ص: ٢٧٩، تعليق: ١.
282
١١٨٨٥ - حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل السدي، عن الشعبي قال: جاء رجل إلى أبي موسى، فذكر نحوه.
١١٨٨٦ - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك: أرأيت هذا المحارب الذي قد أخاف السبيل، وأصابَ الدم والمال، فلحق بدار الحرْب، أو تمنَّع في بلاد الإسلام، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقْدر عليه؟ قال: تقبل توبته. قال قلت: فلا يُتَّبع بشيء من أحداثه؟ قال: لا إلا أن يوجد معه مالٌ بعينه فيردّ إلى صاحبه، أو يطلبه وليُّ من قَتل بدم في حَرْبه يثبت ببيّنَةٍ أو اعترافٍ فيقاد به. وأما الدماء التي أصابها ولم يطلبها أولياؤها، فلا يتَّبعه الإمام بشيء= قال علي، قال الوليد: فذكرت ذلك لأبي عمرو، فقال: تقبل توبته إذا كان محاربًا للعامة والأئمة، قد آذاهم بحَرْبه، فشهر سلاحه، وأصاب الدماء والأموال، فكانت له مَنْعة أو فِئة يلجأ إليهم، أو لحق بدار الحرب فارتدَّ عن الإسلام، أو كان مقيمًا عليه، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقدرَ عليه، قُبلت توبته، ولم يتَّبَع بشيء منه.
١١٨٨٧ - حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو: سمعت ابن شهاب الزهريّ يقول ذلك.
١١٨٨٨ - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال: فذكرت قول أبي عمرو ومالك لليث بن سعد في هذه المسألة، فقال: إذا أعلن بالمحاربة العامة والأئمة، (١) وأصابَ الدماء والأموال، فامتنع بمحاربته من الحكومة عليه، (٢) أو لحق بدار الحرب، ثم جاء تائبًا من قبل أن يقدر عليه، قبلت توبته، ولم يتَّبَع بشيء من أحْدَاثه في حربه من دم خاصةٍ ولا عامة، وإن طلبه وليه.
(١) في المطبوعة: "للعامة"، والصواب من المخطوطة.
(٢) "الحكومة عليه" يعني: القضاء عليه.
283
١١٨٨٩ - حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال، قال الليث= وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدنيّ، وهو الأمير عندنا: أن عليًّا الأسديّ حاربَ وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال، فطلبته الأئمة والعامة، فامتنع ولم يُقْدر عليه حتى جاء تائبًا، وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) [سورة الزمر: ٥٣]. الآية، فوقف عليه فقال: يا عبد الله، أعد قراءَتها. فأعادها عليه، فغَمَد سيفه، ثم جاء تائبًا، حتى قَدِم المدينة من السَّحَر، فاغتسل، ثم أتى مسجد رسول الله ﷺ فصلى الصبح، ثم قعد إلى أبي هريرة في غِمار أصحابه. فلما أسفر عرفه الناس وقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم عليّ، جئت تائبًا من قبلِ أن تَقْدروا عليَّ! فقال أبو هريرة: صدق. وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بنَ الحكم في إمرته على المدينة في زمن معاوية، فقال: هذا عليٌّ، جاء تائبًا، ولا سبيل لكم عليه ولا قتل. قال، فترك من ذلك كله. (١) قال: وخرج عليَّ تائبًا مجاهدًا في سبيل الله في البحر، فلقُوا الروم، فقرَّبوا سفينته إلى سفينة من سفنهم، فاقتحم على الرُّوم في سفينتهم، فهُزِموا منه إلى سفينتهم الأخرى، فمالت بهم وبه، فغرقوا جميعًا. (٢)
١١٨٩٠ - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا مطرف بن معقل قال، سمعت عطاء قال في رجل سرق سرقة فجاء بها تائبًا من غير أن يُؤخَذ، فهل عليه حدٌّ؟ قال: لا! ثم قال:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدِروا عليهم"، الآية. (٣)
(١) قوله: "فترك" بالبناء للمجهول، كأنه يعني أنه لم يؤخذ بشيء من كل أحداثه التي أتاها وهو في محاربته لله ولرسوله.
(٢) الأثر: ١١٨٨٩-"موسى بن إسحق المدني، الأمير"، لم أعرف من يكون. و"علي الأسدي"، لم أعرفه أيضا.
وكأني قد مر بي مثل هذا الإسناد فيما سلف، ولكن سقط علي تقييده، فمن وجده فليثبته هنا. فلعله يكشف عن هذا الأمير المذكور في هذا الخبر.
(٣) الأثر: ١١٨٩٠-"مطرف بن معقل الشقري السعدي" ويقال: "الباهلي"، أبو بكر.
روى عن الحسن، والشعبي، وابن سيرين، وقتادة، وعطاء. قال أحمد: "كان ثقة وزيادة". مترجم في الكبير ٤/١/٣٩٧، وابن أبي حاتم ٤/١/٣١٥، ولسان الميزان ٦: ٤٨.
284
١١٨٩١ - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، حدثني أبو صخرٍ، عن محمد بن كعب القرظي= وعن أبي معاوية عن سعيد بن جبير= قالا إن جاء تائبًا لم يقتطع مالا ولم يسفك دمًا، تُرك. فذلك الذي قال الله:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، يعني بذلك أنه لم يسفك دمًا ولم يقتطع مالا. (١)
* * *
وقال آخرون: بل عنى بالاستثناء في ذلك، التائبَ من حربه اللهَ ورسولَه والسعيِ في الأرض فسادًا بعد لحاقه في حربه بدار الكفر. فأما إذا كانت حِرَابته وحربُه وهو مقيم في دار الإسلام، (٢) وداخلٌ في غمار الأمة، فليست توبته واضعة عنه شيئًا من حدود الله جل وعز، ولا من حقوق المسلمين والمعاهدين، بل يؤخذ بذلك.
ذكر من قال ذلك:
١١٨٩٢ - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني إسماعيل، عن هشام بن عروة: أنه أخبره أنهم سألوا عروة عمن تلصّص في الإسلام فأصاب حدودًا ثم جاء تائبًا، فقال: لا تقبل توبته، لو قبل ذلك منهم اجترأوا عليه، وكان فسادًا كبيرًا. ولكن لو فرّ إلى العدوّ، ثم جاء تائبًا، لم أر عليه عقوبة.
* * *
(١) الأثر: ١١٨٩١-"أبو صخر" هو"حميد بن زياد بن أبي المخارق، الخراط"، مضى برقم: ٤٣٢٥، ٥٣٨٦، ٨٣٩١- وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا"أبو صخرة"، بالتاء في آخره، وقد مضى على الصواب قريبًا برقم: ١١٨٦٧.
و"أبو معاوية" هو"عمار بن معاوية الدهني"، مضى أيضًا برقم: ٩٠٩، ٤٣٢٥، ٥٣٨٦.
(٢) انظر ما قلته في"الحرابة" ص: ٢٥٢، تعليق: ٢، وص: ٢٥٦، تعليق: ٢.
285
وقد روي عن عروة خلاف هذا القول، وهو ما:-
١١٨٩٣ - حدثني به علي قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني من سمع هشام بن عروة، عن عروة قال، يقام عليه حدُّ ما فر منه، ولا يجوز لأحدٍ فيه أمان = يعني، الذي يصيب حدًّا، ثم يفرُّ فيلحق الكفار، ثم يجيء تائبًا.
* * *
وقال آخرون: إن كانت حِرَابته وحربه في دار الإسلام، (١) وهو في غير مَنْعة من فئة يلجأ إليها، ثم جاء تائبًا قبل القدرة عليه، فإن توبته لا تضع عنه شيئا من العقوبة ولا من حقوق الناس. وإن كانت حِرَابته وحَرْبه في دار الإسلام، أو هو لاحقٌ بدار الكفر، غير أنه في كل ذلك كان يلجأ إلى فئة تمنعه ممن أراده من سلطان المسلمين، ثم جاء تائبًا قبل القدرة عليه، فإن توبته تضع عنه كل ما كان من أحْداثه في أيام حِرابته تلك، إلا أن يكون أصاب حدًّا أو أمَرَ الرُّفقة بما فيه عقوبة، (٢) أو غُرْم لمسلم أو معاهد، وهو غير ملتجئ إلى فئة تمنعه، فإنه يؤخذ بما أصاب من ذلك وهو كذلك، ولا يضع ذلك عنه توبتُه.
ذكر من قال ذلك:
١١٨٩٤ - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو: إذا قطع الطريق لصٌّ أو جماعة من اللصوص، فأصابوا ما أصابوا من الدماء والأموال، ولم يكن لهم فئة يلجأون إليها ولا مَنْعة، ولا يأمنون إلا بالدخول في غِمَار أمتهم وسوادِ عامّتهم، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقْدر عليه، لم تُقبل توبته، وأقيم عليه حدهّ ما كان.
١١٨٩٥ - حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال: ذكرت لأبي عمرو قول عُروة:"يقام عليه حدّ ما فرّ منه، ولا يجوز لأحد فيه أمان"، فقال أبو عمرو: إن فرّ من حَدَثه في دار الإسلام، فأعطاه إمامٌ أمانًا، لم يجزْ أمانُه. وإن هو
(١) انظر ص: ٢٨٥، تعليق: ٢.
(٢) "الرفقة"، يعني أصحابه الذين يرافقهم ويلجأ إليهم وهم فئته.
286
لحق بدار الحرب، ثم سأل إمامًا أمانًا على أحداثه، لم ينبغ للإمام أن يعطيه أمانًا. وإن أعطاه الإمام أمانًا وهو غير عالم بأحداثه، فهو آمن. وإن جاء أحدٌ يطلبه بدم أو مال رُدّ إلى مأمنه، فإن أبى أن يَرجع فهو آمن ولا يُتَعَرَّض له. قال: وإن أعطاه أمانًا على أحداثه وهو يعرفها، فالإمام ضامنٌ واجب عليه عَقْلُ ما كان أصاب من دم أو مال، (١) وكان فيما عطّل من تلك الحدود والدماء آثمًا، وأمره إلى الله جل وعز. قال: وقال أبو عمرو: فإذا أصاب ذلك، وكانت له مَنْعة أو فئة يلجأ إليها، أو لحق بدار الحرب فارتدّ عن الإسلام، أو كان مقيمًا عليه، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقْدر عليه، قُبِلت توبته، ولم يُتَّبع بشيء من أحداثه التي أصابها في حربه، إلا أن يوجد معه شيءٌ قائم بعينه فيردّ إلى صاحبه.
١١٨٩٦ - حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني ابن لهيعة، عن ربيعة قال: تقبل توبتُه، ولا يتَّبع بشيء من أحداثِه في حربه، إلا أن يطلبه أحد بدم كان أصابه في سِلْمه قبل حربه، فإنه يقاد به.
١١٨٩٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معمر الرقي قال، حدثنا الحجاج، عن الحكم بن عتيبة قال: قاتل الله الحجاج! إن كان ليفقَهُ! أمَّن رجلا من محاربته، فقال، انظروا هل أصاب شيئا قبل خروجه؟
* * *
وقال آخرون: تضع توبته عنه حدَّ الله الذي وجب عليه بمحاربته، ولا يسقط عنه حقوق بني آدم.
وممن قال ذلك الشافعي.
١١٨٩٨- حدثنا بذلك عنه الربيع.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: توبة المحارب الممتنع بنفسه أو بجماعة معه قبل القُدرة عليه، تضع عنه تَبِعات الدنيا
(١) "العقل"، دية الجناية.
287
التي كانت لزمته في أيام حربه وحِرَابته، (١) من حدود الله، وغُرْم لازم، وقَوَدٍ وقصاص، إلا ما كان قائمًا في يده من أموال المسلمين والمعاهدين بعينه، فيردّ على أهله= لإجماع الجميع على أن ذلك حكم الجماعة الممتنعة المحاربة لله ولرسوله، الساعيةِ في الأرض فسادًا على وجه الردة عن الإسلام. فكذلك حكم كل ممتنع سَعَى في الأرض فسادًا، جماعةً كانوا أو واحدًا.
فأمَّا المستخفي بسرقته، والمتلصِّصُ على وجه اغتفال من سرقه، (٢) والشاهرُ السلاحَ في خلاء على بعض السابلة، وهو عند الطلب غير قادر على الامتناع، فإن حكم الله عليه= تاب أو لم يتب= ماضٍ، وبحقوق من أخذ ماله، أو أصاب وليَّه بدم أو خَتْلٍ مأخوذ، وتوبته فيما بينه وبين الله جل وعز= قياسًا على إجماع الجميع على أنه لو أصاب شيئًا من ذلك وهو للمسلمين سِلْمٌ، ثم صار لهم حربًا، أن حربه إياهم لن يضعَ عنه حقًا لله عز ذكره، ولا لآدمي، فكذلك حكمه إذا أصاب ذلك في خلاء أو باستخفاء، وهو غير ممتنع من السلطان بنفسه إن أراده، ولا له فئة يلجأ إليها مانعةٌ منه.
وفي قوله:"إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم"، دليل واضح لمن وُفِّق لفهمه، أنّ الحكم الذي ذكره الله جل وعزّ في المحاربين، يجري في المسلمين والمعاهدين، دون المشركين الذين قد نصبُوا للمسلمين حربًا، وذلك أن ذلك لو كان حكمًا في أهل الحرب من المشركين، دون المسلمين ودون ذمتهم، لوجب أن
(١) انظر"الحرابة" فيما سلف ص: ٢٨٥، تعليق: ٢.
(٢) "اغتفل الرجل"، يعني: اهتبل غفلته فأخذ ما أخذ. وهذا حرف لم تقيده كتب اللغه، بل قيدوا: "تغفله" (بتشديد الفاء)، و"استغفلته"، أي: تحينت غفلته. وهذا الذي استعمله أبو جعفر صحيح في القياس والعربية، وقد رأيت أبا الفرج الأصفهاني، صاحب الأغاني، يستعمله أيضا، فجاء في الأغاني ٢: ٩٩، في أخبار عدي بن زيد الشاعر، فذكر جده"زيد بن أيوب" ومقتله، فكان مما قال: "ثم إن الأعرابي اغتفل زيد بن أيوب، فرماه بسهم فوضعه بين كتفيه، ففلق قلبه".
وكان في المطبوعة هنا: "على وجه إغفال من سرقة"، وليس هذا صحيحًا في قياس العربية، حتى يغير ما كان في المخطوطة. وهو في المخطوطة غير منقوط، وهذا صواب قراءته.
288
لا يُسْقِطَ إسلامُهم عنهم= إذا أسلموا أو تابوا بعد قدرتنا عليهم= ما كان لهم قبل إسلامهم وتوبتهم من القتل، وما للمسلمين في أهل الحرب من المشركين. وفي إجماع المسلمين أنّ إسلام المشرك الحربيِّ يضع عنه، بعد قدرة المسلمين عليه، ما كان واضعَه عنه إسلامه قبل القدرة عليه= ما يدلّ على أن الصحيح من القول في ذلك قول من قال:"عنى بآية المحاربين في هذا الموضع، حُرَّاب أهل الملة أو الذمة، (١) دون من سواهم من مشرِكي أهل الحرب".
* * *
وأما قوله:"فاعلموا أن الله غفور رحيم"، فإن معناه: فاعلموا أيها المؤمنون، أن الله غير مؤاخذٍ من تاب من أهل الحرب لله ولرسوله، الساعين في الأرض فسادًا، وغيرهم بذنوبه، ولكنه يعفو عنه فيسترها عليه، ولا يفضحه بها بالعقوبة في الدنيا والآخرة= رحيم به في عفوه عنه، وتركه عقوبته عليها. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله فيما أخبرهم ووعَد من الثواب وأوعدَ من العقاب (٣) "اتقوا الله" يقول: أجيبوا الله فيما أمركم ونهاكم بالطاعة له في ذلك، وحقِّقوا إيمانكم وتصديقكم ربَّكم ونبيَّكم
(١) "الحراب" جمع"حارب"، وقد سلف القول فيها في ص: ٢٧٩، تعليق: ١، فراجعه. وكان في المطبوعة: "حراب أهل الإسلام"، وفي المخطوطة: "أهل المسلة"، وصواب قراءتها ما أثبت.
(٢) انظر تفسير"غفور" و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٣) في المطبوعة: "ووعدهم من الثواب"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب محض.
289
بالصالح من أعمالكم (١) ="وابتغوا إليه الوسيلة"، يقول: واطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه. (٢)
* * *
و"الوسيلة": هي"الفعيلة" من قول القائل:"توسلت إلى فلان بكذا"، بمعنى: تقرَّبت إليه، ومنه قول عنترة:
إنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ إِنْ يَأْخُذُوكِ، تكَحَّلِي وتَخَضَّبي (٣)
يعني بـ"الوسيلة"، القُرْبة، ومنه قول الآخر: (٤)
إِذَا غَفَلَ الوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا وَعَادَ التَّصَافِي بَيْنَنَا وَالوَسَائِلُ (٥)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١١٨٩٩ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا
(١) انظر تفسير"اتقوا" فيما سلف من فهارس اللغة (وقى).
(٢) انظر تفسير"ابتغى" فيما سلف ٩: ٤٨٠، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) أشعار الستة الجاهليين: ٣٩٦، مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٦٥، والخزانة ٣: ١١، وغيرها، من أبيات له قالها لامرأته، وكانت لا تزال تذكر خيله، وتلومه في فرس كان يؤثره على سائر خيله ويسقيه ألبان إبله، فقال:
لا تَذْكُرِي مُهْرِي وَمَا أَطْعَمْتُهُ فَيَكُونَ جِلْدُكِ مِثْلَ جِلْدِ الأَجْرَبِ
إِنَّ الْغَبُوقَ لَهُ، وَأَنْتِ مَسُوءَةٌ، فَتَأَوَّهِي مَا شِئْتِ ثُمَّ تَحَوَّبِي
كَذَبَ الْعَتِيقُ وَمَاءُ شَنٍّ بَارِدٌ إنْ كُنْتِ سَائِلَتِي غَبُوقًا فَاذْهَبي
إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ....... ...................
وَيَكُونَ مَرْكَبُكِ القَعُودُ وَحِدْجُهُ وَابْنُ النَّعَامَةِ يَوْمَ ذَلِكَ مَرْكَبِي!
ينذرها بالطلاق إن هي ألحت عليه بالملامة في فرسه، فإن فرسه هو حصنه وملاذه. أما هي فما تكاد تؤسر في حرب، حتى تتكحل وتتخضب لمن أسرها. يقول: إن أخذوك تكحلت وتخضبت لهم.
(٤) لم أعرف قائله.
(٥) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٦٤.
290
سفيان= ح، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن الحباب، عن سفيان= عن منصور، عن أبي وائل:"وابتغوا إليه الوسيلة"، قال: القربة في الأعمال.
١١٩٠٠ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= ح، وحدثنا سفيان قال، حدثنا أبي= عن طلحة، عن عطاء:"وابتغوا إليه الوسيلة"، قال: القربة.
١١٩٠١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة"، قال: فهي المسألة والقربة. (١)
١١٩٠٢ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وابتغوا إليه الوسيلة"، أي: تقربوا إليه بطاعته والعملِ بما يرضيه.
١١٩٠٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وابتغوا إليه الوسيلة"، القربة إلى الله جل وعزّ.
١١٩٠٣ - حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، خبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"وابتغوا إليه الوسيلة"، قال: القربة.
١١٩٠٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قوله:"وابتغوا إليه الوسيلة"، قال: القربة.
١١٩٠٥ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وابتغوا إليه الوسيلة"، قال: المحبّة، تحبّبوا إلى الله. وقرأ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) [سورة الإسراء: ٥٧].
* * *
(١) في المطبوعة: "هي المسألة"، وأثبت ما في المخطوطة.
291
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه للمؤمنين به وبرسوله: وجاهدوا، أيها المؤمنون، أعدائي وأعداءَكم= في سبيلي، يعني في دينه وشَرِيعته التي شرعها لعباده، وهي الإسلام. (١) يقول: أتْعِبُوا أنفسكم في قتالهم وحملهم على الدخول في الحنيفية المسلمة، (٢) ="لعلكم تفلحون"، يقول: كيما تنجحوا، فتدركوا البقاء الدَّائم والخلود في جناته.
* * *
وقد دللنا على معنى"الفلاح" فيما مضى بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٣٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: إن الذين جحدوا ربوبية ربّهم وعبدوا غيرَه، من بني إسرائيل الذين عبدوا العجل، ومن غيرهم الذين عبدوا الأوثان والأصنام، وهلكوا على ذلك قبل التوبة= لو أن لهم مِلك ما في الأرض كلِّها وضعفَه معه، ليفتدوا به من عقاب الله إياهم على تركهم أمرَه، وعبادتهم غيره يوم القيامة، فافتدوا بذلك كله، ما تقبَّل الله منهم ذلك فداءً وعِوضًا من عذابهم وعقابهم، بل هو معذّبهم في حَمِيم يوم القيامة عذابًا موجعًا لهم.
(١) انظر تفسير"السبيل" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٢) انظر تفسير"جاهد" فيما سلف ٤: ٣١٨.
(٣) انظر تفسير"الفلاح" فيما سلف ١: ٢٤٩، ٢٥٠/٣: ٥٦١/٧: ٩١، ٥٠٩
292
وإنما هذا إعلامٌ من الله جل ثناؤه لليهود الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنَّهم وغيرهم من سائر المشركين به، سواءٌ عنده فيما لهم من العذاب الأليم والعقاب العظيم. وذلك أنهم كانوا يقولون: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً)، اغترارًا بالله جل وعزّ وكذبًا عليه. فكذبهم تعالى ذكره بهذه الآية وبالتي بعدها، وحَسَم طمعهم، فقال لهم ولجميع الكفرة به وبرسوله:"إن الذين كفروا لو أنّ لهم ما في الأرض جميعًا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تُقُبّل منهم ولهم عذابٌ أليم. يُريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم"، يقول لهم جل ثناؤه: فلا تطمعوا أيُّها الكفرة في قَبُول الفدية منكم، ولا في خروجكم من النار بوسَائل آبائكم عندي بعد دخولكموها، إن أنتم مُتّم على كفركم الذي أنتم عليه، ولكن توبوا إلى الله توبةً نَصُوحًا. (١)
* * *
(١) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
293
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٣٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يريدون أن يخرجوا من النار"، يريد هؤلاء الذين كفروا بربهّم يوم القيامة، أن يخرجوا من النار بعد دخولها، وما هم بخارجين منها="لهم عذاب مقيم"ن يقول: لهم عذابٌ دائم ثابت لا يزول عنهم ولا ينتقل أبدًا، كما قال الشاعر: (١)
فَإنَّ لَكُمْ بِيَوْمِ الشِّعْبِ مِنِّي عَذَابًا دَائِمًا لَكُمُ مُقِيمَا (٢)
(١) لم أعرف قائله.
(٢) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٦٥.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١١٩٠٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة: أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس رحمه الله: أعمى البصر أعمى القلب، يزْعُم أن قومًا يخرجون من النار، (١) وقد قال الله جل وعز:"وما هم بخارجين منها"؟ فقال ابن عباس: ويحك، أقرأ ما فوقها! هذه للكفّار.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ومن سرقَ من رجل أو امرأة، فاقطعوا، أيها الناس، يَدَه= ولذلك رفع"السارق والسارقة"، لأنهما غير معيّنين. ولو أريد بذلك سارقٌ وسارقة بأعيانهما، لكان وجه الكلام النّصب.
* * *
وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ ذلك: (والسارقون والسارقات).
١١٩٠٧ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن ابن عون، عن إبراهيم قال: في قراءتنا= قال: وربما قال: في قراءة عبد الله= (والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما).
(١) في المطبوعة: "يا أعمى البصر أعمى القلب، تزعم...." كأن نافعًا يوجه الحديث إلى ابن عباس، وهذا عجيب أن يكون من نافع، مع اجترائه وسلاطته! وكان في المخطوطة: "ما عمي البصار أعمى القلب، برعم"، هكذا غير منقوطة، فرأيت أن أقرأها كما أثبتها، على أنه إخبار لابن عباس عمن يقول ذلك.
294
١١٩٠٨ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن إبراهيم: في قراءتنا: (والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما).
* * *
=وفي ذلك دليل على صحة ما قلنا من معناه، وصحة الرفع فيه، وأن"السارق والسارقة" مرفوعان بفعلهما على ما وصفت، للعلل التي وصفت.
* * *
وقال تعالى ذكره:"فاقطعوا أيديهما"، والمعنى: أيديهما اليمنى، كما:-
١١٩٠٩ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فاقطعوا أيديهما" اليمنى.
١١٩١٠ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر قال: في قراءة عبد الله: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما).
* * *
ثم اختلفوا في"السارق" الذي عناه الله عز ذكره.
فقال بعضهم: عنى بذلك سارقَ ثلاثة دراهم فصاعدًا. وذلك قول جماعة من أهل المدينة، منهم مالك بن أنس ومن قال بقوله. واحتجّوا لقولهم ذلك، بأنّ:-
١١٩١١- رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قطَع في مِجَنّ قيمته ثلاثةُ دَرَاهم. (١)
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك سارق رُبع دينار أو قيمته. وممن قال ذلك، الأوزاعيّ ومن قال بقوله. واحتجوا لقولهم ذلك بالخبر الذي رُوي عن عائشة أنها قالت:
١١٩١٢- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القطعُ في ربع دِينارٍ فصاعدًا. (٢)
* * *
(١) الأثر: ١١٩١١- رواه بغير إسناد. رواه مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر في الموطأ: ٨٣١، ورواه البخاري من طريق مالك (الفتح ٢: ٩٣- ٩٤)، ورواه مسلم من طريقه أيضًا، في صحيحه ١١: ١٨٤، ١٨٥.
و"المجن": الترس، لأنه يجن صاحبه، أي يواريه.
(٢) الأثر: ١١٩١٢- ساقه هنا بغير إسناد أيضًا، وقد مضى ص: ٢٦٦، تعليق رقم: ١.
وهذا الخبر رواه البخاري بأسانيده (الفتح ١٢: ٨٩- ٩١)، ومسلم بأسانيده في صحيحه ١١: ١٨٠- ١٨٣.
295
وقال آخرون: بل عنى بذلك سارقَ عشرة دراهم فصاعدًا. وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه. واحتجوا في ذلك بالخبر الذي روي عن عبد الله بن عمرو، وابن عباس:
١١٩١٣- أن النبي ﷺ قَطَع في مِجَنّ قيمته عَشْرة دراهم. (١)
* * *
وقال آخرون: بل عني بذلك سارقَ القليل والكثير. واحتجوا في ذلك بأن الآية على الظاهر، وأنْ ليس لأحد أنَ يخُصَّ منها شيئًا، إلا بحجة يجب التسليم لها. (٢) وقالوا: لم يصحّ عن رسول الله ﷺ خبرٌ بأن ذلك في خاصّ من السُرَّاق. قالوا: والأخبار فيما قَطَع فيه رسول الله ﷺ مضطربة مختلفة، ولم يروِ عنه أحد أنه أتي بسارق درهمٍ فَخلَّى عنه، وإنما رووا عنه أنه قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم. قالوا: وممكن أن يكون لو أتى بسارق ما قيمته دانقٌ أن يَقْطع. قالوا: وقد قطع ابن الزبير في دِرْهم.
* * *
وروي عن ابن عباس أنه قال: الآيةُ على العموم.
١١٩١٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبد المؤمن، عن نجدة الحنفي قال: سألت ابن عباس عن قوله:"والسارق والسارقة"، أخاصّ أم عام؟ فقال: بل عام. (٣)
* * *
(١) الأثر: ١١٩١٣- خبر ابن عباس رواه الطحاوي في معاني الآثار ٢: ٩٣. وكان في المخطوطة والمطبوعة أن هذا الخبر مروي أيضًا عن"عبد الله بن عمر"، ولم أجد الرواية بذلك عن"ابن عمر بل الرواية التي احتجوا بها في كتب أصحاب أبي حنيفة هي ما قاله"عبد الله بن عمرو"، رواها عنه"عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده". رواه أحمد في المسند برقم: ٦٩٠٠، وانظر تخريج أخي السيد أحمد هناك. وانظر معاني الآثار للطحاوي ١: ٩٣، وأحكام القرآن للجصاص ٢: ٤١٧، فلذلك صححت ما قبل هذا الأثر"عبد الله بن عمرو"، لا كما كان في المطبوعة والمخطوطة"ابن عمر".
(٢) في المطبوعة: "وأنه ليس لأحد"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) الأثر: ١١٩١٤-"عبد المؤمن بن خالد الحنفي المروزي"، قاضي مرو. قال أبو حاتم: "لا بأس به"، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
و"نجدة بن نفيع الحنفي". روى عن ابن عباس. مترجم في التهذيب.
296
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، قولُ من قال:"الآية معنيّ بها خاصٌّ من السراق، وهم سُرَّاق ربع دينار فصاعدًا أو قيمته"، لصحة الخبر عن رسول الله ﷺ أنه قال:"القطعُ في ربع دينار فصاعدًا". وقد استقصيت ذكر أقوال المختلفين في ذلك مع عللهم التي اعتلّوا بها لأقوالهم، والبيانَ عن أولاها بالصواب، بشواهده، (١) في كتابنا"كتاب السرقة"، فكرهنا إطالة الكتاب بإعادة ذلك في هذا الموضع.
* * *
وقوله:"جزاء بما كسبا نكالا من الله"، يقول: مكافأةً لهما على سرقتهما وعملهما في التلصصّ بمعصية الله (٢) ="نكالا من الله" يقول: عقوبة من الله على لُصُوصيتهما. (٣)
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك ما:-
١١٩١٥ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم"، لا تَرْثُوا لهم أن تقِيموا فيهم الحدود، (٤) فإنه والله ما أمر الله بأمرٍ قَطُّ إلا وهو صلاحٌ، ولا نهى عن أمرٍ قَطُّ إلا وهو فساد. (٥)
* * *
(١) في المطبوعة: "والتلميح عن أولاها بالصواب"، والطبري لا يقول مثل هذا أبدًا. وفي المخطوطة: "والسارق عن أولاها بالصواب"، وهو تحريف قبيح من عجلة الناسخ، صواب قراءته ما أثبت.
(٢) انظر تفسير"الجزاء" فيما سلف من فهارس اللغة (جزى).
= وتفسير"كسب" فيما سلف ٩: ١٩٦، تعليق: ١ والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير"النكال" فيما سلف ٢: ١٧٦، ١٧٧/ ٨: ٥٨٠.
(٤) "رثى له يرثى": رحمه ورق له.
(٥) ولكننا قد أظلنا زمان عطلت فيه الحدود، بزعم الرثاء لمن أصاب حدًا من حدود الله. وطالت ألسنة قوم من أهل الدخل، فاجترأوا على الله بافترائهم، وزعموا أن الذي يدعونه من الرحمة لأهل الحدود هو الصلاح، وأن ما أمر الله به هو الفساد!! فاللهم نجنا من زمان تبجح فيه الأشرار بسلطانهم، وتضاءل فيه أهل الإيمان بمعاصيهم.
297
وكان عمر بن الخطاب يقول:"اشتدُّوا على السُّرَّاق، فاقطعوهم يدًا يدًا، ورجلا رجلا".
* * *
وقوله:"والله عزيز حكيم" يقول جل ثناؤه:"والله عزيزٌ" في انتقامه من هذا السارق والسارقةِ وغيرهما من أهل معاصيه="حكيم"، في حكمه فيهم وقضائه عليهم. (١)
يقول: فلا تفرِّطوا أيها المؤمنون، في إقامة حكمي على السرَّاق وغيرهم من أهل الجرائم الذين أوجبت عليهم حدودًا في الدنيا عقوبةً لهم، فإني بحكمتي قضيت ذلك عليهم، (٢) وعلمي بصلاح ذلك لهم ولكم.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه:"فمن تاب"، من هؤلاء السراق، يقول: من رجع منهم عمَّا يكرهه الله من معصيته إيَّاه، إلى ما يرضاه من طاعته (٣) ="من بعد ظلمه"، و"ظلمه"، هو اعتداؤه وعمله ما نهاه الله عنه من سرقة أموال الناس (٤) ="وأصلح"، (٥) يقول: وأصلح نفسه بحملها على مكروهها في طاعة الله،
(١) انظر تفسير"عزيز" فيما سلف ٩: ٣٧٨، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
= وتفسير"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "فإني بحكمي قضيت... "، والأجود هنا ما أثبت.
(٣) انظر تفسير"التوبة" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٤) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف من فهارس الغة.
(٥) زدت قوله تعالى: "وأصلح"، ليتم سياق أبي جعفر، كما جرى عليه في تفسيره، ولم تكن في المخطوطة ولا المطبوعة.
298
والتوبة إليه ممَّا كان عليه من معصيته. (١)
وكان مجاهد -فيما ذكر لنا- يقول: توبته في هذا الموضع، الحدُّ الذي يقام عليه.
............................................................................
...................................... (٢)
* * *
١١٩١٦ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح"، فتاب عليه، يقول: الحدُّ. (٣)
١١٩١٧ - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا موسى بن داود قال، حدثنا ابن لهيعة، عن حُيَيّ بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو قال: سرقت امرأة حُليًّا، فجاء الذين سرقتهم فقالوا: يا رسول الله، سرقتنا هذه المرأة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقطعوا يدها اليمنى. فقالت المرأة: هل من توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتِ اليومَ من خطيئتك كيوم ولدتك أمك! قال: فأنزل الله جل وعز:"فمن تاب من بعد ظُلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه". (٤)
* * *
(١) انظر تفسير"الإصلاح" فيما سلف ٩: ٣٤٠، تعليق: ٥، والمراجع هناك.
(٢) وضعت هذه النقط، لأني قدرت أن قول مجاهد قد سقط من الناسخ، أو من أبي جعفر نفسه. وذلك أن الخبر الآتي بعده عن ابن عباس، لا عن مجاهد.
(٣) في المطبوعة: "يقول: فتاب عليه بالحد"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب. يعني أن توبة الله عليه بعد الحد الذي يقام عليه لتوبته.
(٤) الأثر: ١١٩١٧-"موسى بن داود الضبي"، ثقة من شيوخ أحمد، مضى برقم: ١٠١٩٠ = و"ابن لهيعة"، مضى مرارًا.
و"حيي بن عبد الله بن شريح المعافري الحبلي المصري". روى له الأربعة، ثقة. تكلم فيه أحمد وقال: "عنده مناكير". وقال البخاري: "فيه نظر". وقال ابن معين"ليس به بأس" وقال ابن عدي: "أرجو أنه لا بأس به إذا روى عنه ثقة". وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
و"أبو عبد الرحمن الحبلي" هو"عبد الله بن يزيد المعافري"، تابعي ثقة. مضى برقم: ٦٦٥٧، ٩٤٨٣.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده برقم: ٦٦٥٧، من طريق حسن بن موسى عن ابن لهيعة، عن حيي، مطولا مفصلا، وخرجه أخي السيد أحمد هناك وقال: "إسناده صحيح".
ونقله ابن كثير في تفسيره ٣: ١٥٢، ثم نقل رواية أحمد، ثم قال: "وهذه المرأة، هي المخزومية التي سرقت، وحديثها ثابت في الصححين، من رواية الزهري، عن عروة، عن عائشة". ثم انظر فتح الباري (١٢: ٧٦- ٨٦)، وصحيح مسلم ١١: ١٨٦- ١٨٨.
والمرأة التي سرقت هي: "فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم" (ابن سعد ٨: ١٩٢)، وقد استوفى الحافظ ابن حجر خبرها في شرح هذا الحديث في الفتح.
299
وقوله:"فإن الله يتوب عليه"، يقول: فإن الله جل وعز يُرْجعه إلى ما يحبّ ويرضى، عما يكرَه ويسخط من معصيته. (١)
* * *
وقوله:"إن الله غفور رحيم" يقول: إن الله عز ذكره ساترٌ على من تاب وأناب عن معاصيه إلى طاعته ذنوبَه، بالعفو عن عقوبته عليها يوم القيامة، وتركه فضيحتَه بها على رءوس الأشهاد="رحيم" به وبعباده التائبين إليه من ذنوبهم. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم يعلم هؤلاء= [يعني القائلين] :"لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة"، الزاعمين أنهم أبناء الله وأحباؤه (٣) = أن الله مدبِّر ما في السموات وما في الأرض، ومصرفه وخالقه، لا
(١) في المطبوعة: "عما يكرهه...." وأثبت الصواب من المخطوطة.
(٢) انظر تفسير"غفور" و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٣) كان في المطبوعة: "ألم يعلم هؤلاء القائلون... الزاعمون"، وفي المخطوطة: "ألم يعلم هؤلاء القائلين... الزاعمين"، فأثبت ما في المخطوطة، وزدت"يعني" بين قوسين، فإني أرجح أنها سقطت من الناسخ.
يمتنع شيء مما في واحدة منهما مما أرادَه، لأن كل ذلك ملكه، وإليه أمره، ولا نسب بينه وبين شيء مما فيهما ولا مما في واحدة منهما، فيحابيه بسبب قرابته منه، فينجيه من عذابه، وهو به كافر، ولأمره ونهيه مخالف= أو يدخله النار وهو له مطيع لبعد قرابته منه، ولكنه يعذّب من يشاء من خلقه في الدنيا على معصيته بالقتل والخسف والمسخ وغير ذلك من صنوف عذابه، ويغفر لمن يشاء منهم في الدنيا بالتّوبة عليه من كفره ومعصيته، فينقذه من الهلكة، وينجيه من العقوبة ="والله على كل شيء قدير"، يقول: والله جل وعز على تعذيب من أرَاد تعذيبه من خلقه على معصيته، وغفرانِ ما أراد غفرانه منهم باستنقاذه من الهلكة بالتوبة عليه وغير ذلك من الامور كلها= قادرٌ، لأن الخلق خلقُه، والملك ملكه، والعباد عباده.
* * *
وخرج قوله:"ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض"، (١) خطابًا له صلى الله عليه وسلم، والمعنيُّ به من ذكرتُ من فرق بني إسرائيل الذين كانوا بمدينة رسول الله ﷺ وما حَوَاليها. وقد بيَّنا استعمال العرب نظيرَ ذلك في كلامها بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية.
فقال بعضهم: نزلت في أبي لُبابة بن عبد المنذر، بقوله لبني قريظة حين حاصرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنما هو الذَّبح، فلا تنزلوا على حكم سعد".
(١) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من نظائرها، في فهارس اللغة.
(٢) انظر ما سلف ٢: ٤٨٤- ٤٨٨.
301
ذكر من قال ذلك:
١١٩١٨ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم"، قال: نزلت في رجل من الأنصار= زعموا أنه أبو لبابة= أشارت إليه بنو قريظة يوم الحصار، ما الأمر؟ وعلام ننزل؟ فأشار إليهم أنه الذَّبح.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت في رجل من اليهود سأل رجلا من المسلمين يسألُ رسول الله ﷺ عن حُكمه في قتِيلٍ قتله.
ذكر من قال ذلك:
١١٩١٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن زكريا، عن عامر:"لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر"، قال: كان رجل من اليهود قتله رجل من أهل دينه، فقال القاتل لحلفائهم من المسلمين: سلوا ليِ محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن بُعِثَ بالدية اختصمنا إليه، (١) وإن كان يأمرنا بالقتل لم نأته. ١١٩٢٠ - حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن زكريا، عن عامر، نحوه.
* * *
(١) في المطبوعة: "فإن كان يقضي بالدية"، غير ما في المخطوطة، وهو ما أثبته. ويعني بقوله: "بعث بالدية" (بالبناء للمجهول) : أنه قد أوتي في رسالته وبعثته أن يحكم في مثل ذلك بالدية دون القصاص.
302
وقال آخرون: بل نزلت في عبد الله بن صوريا، وذلك أنه ارتدّ بعد إسلامه.
ذكر من قال ذلك:
١١٩٢١ - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال، حدثني الزهري قال: سمعت رجلا من مزينة يحدث، عن سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة حدّثهم: أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدراس حين قدم رسول الله ﷺ المدينة، (١) وقد زنَى رجل منهم بعد إحصانه، بامرأة من يهود قد أحصنت، فقالوا، انطلقوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد =صلى الله عليه وسلم= فاسألوه كيف الحكم فيهما، وولُّوه الحكم عليهما، (٢) فإن عمل فيهما بعملكم من التجبيه (٣) = وهو الجلد بحبل من ليف مطليٍّ بقار، ثم تُسوَّد وجوههما، ثم يحملان على حمارين، وتحوَّل وجوههما من قبل دُبُر الحمار = فاتبعوه، فإنما هو ملكٌ. وإن هو حكم فيهما بالرجم، فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه. (٤) فأتوه فقالوا: يا محمد، هذا الرجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت، فاحكم فيهما، فقد وليناك الحكم فيهما. فمشى رسول الله صلى الله عليه
(١) "بيت المدراس"، هو البيت الذي كان اليهود يدرسون فيه كتبهم.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "فولوه الحكم" بالفاء، وأثبت أجودهما من سيرة ابن هشام.
(٣) في المطبوعة: "بعملكم من التحميم، وهو الجلد"، لم يحسن قراءة المخطوطة، وهي غير منقوطة. وصواب قراءتها ما أثبت، وهي كما أثبتها في سيرة ابن هشام.
(٤) في سيرة ابن هشام: "وإن هو حكم فيهما بالرجم، فإنه نبي، فاحذروه... ".
303
وسلم حتى أتى أحبارهم إلى بيت المدراس، (١) فقال:"يا معشر اليهود، أخرجوا إليّ أعلمكم! " فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا الأعور= وقد روى بعض بني قريظة، (٢) أنهم أخرجوا إليه يومئذ مع ابن صوريا، أبا ياسر بن أخطب، ووهب بن يهوذا، فقالوا: هؤلاء علماؤنا! فسألهم رسول الله ﷺ حتى حصَّل أمرهم، إلى أن قالوا لابن صوريا: هذا أعلم من بقي بالتوراة (٣) = فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان غلامًا شابًّا من أحدثهم سنًّا، فألظَّ به رسول الله ﷺ المسألةَ، (٤) يقول: يا ابن صوريا، أنشُدك الله واذكِّرك أياديه عند بني إسرائيل، هل تعلم أنّ الله حكم فيمن زنىَ بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ فقال: اللهم نعم! أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعلمون أنك نبيٌّ مرسلٌ، ولكنهم يحسدونك! فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهما فرجما عند باب مسجده، في بني غنم بن مالك بن النجار. (٥) ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، فأنزل الله جل وعز:"يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم". (٦)
١١٩٢٢ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش= ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة بن حميد= عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب قال: مرَّ النبي ﷺ بيهوديٍّ محمَّم مجلود، (٧) فدعا النبي ﷺ رجلا من علمائهم
(١) في المطبوعة: "في بيت المدراس"، كما في سيرة ابن هشام، وأثبت ما في المخطوطة، فإنه صواب المعنى أيضا.
(٢) في ابن هشام: "وقد حدثني بعض بني قريظة".
(٣) قال ابن هشام في سيرته: من قوله: "وحدثني بعض بني قريظة"، إلى"أعلم من بقى بالتوراة"، من قول ابن إسحق. وما بعده، من الحديث الذي قبله= فلذلك وضعت ذلك كله بين خطين.
(٤) "ألظ به المسألة": ألح في سؤاله."لظ بالشيء" و"ألظ به"، لزمه وثابر عليه.
(٥) في المطبوعة والمخطوطة: "في بني عثمان بن غالب بن النجار"، وهو خطأ صرف، صوابه ما أثبته من سيرة ابن هشام وغيرها. وليس للنجار ولد يقال له"غالب"، ولا لمالك بن النجار ولد يقال له"عثمان".
(٦) الأثر: ١١٩٢١- سيرة ابن هشام ٢: ٢١٣، ٢١٤، وهو فيها تال للأثر السالف هنا رقم: ١١٦١٦.
وهذا الخبر رواه أحمد مختصرا. ورواه أبو داود في سننه ٤: ٢١٦-٢١٨، رقم: ٤٤٥٠، ٤٤٥١، بغير هذا اللفظ والبيهقي في السنن ٨: ٢٤٦، ٢٤٧. انظر تفسير ابن كثير ٣: ١٥٦، وسيأتي برقم: ١١٩٢٣، ١١٩٢٤.
(٧) في المطبوعة: "مر على النبي... "، بزيادة"على" كما في الروايات الأخرى، وأثبت ما كان في المخطوطة.
و"المحمم": المسود الوجه"حمم الرجل تحميما": سخم وجهه بالحمم، وهو الفحم.
304
فقال: أهكذا تجِدُون حدَّ الزاني فيكم؟ قال: نعم! قال: فأنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حدّ الزنى فيكم؟ قال: لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أحدِّثك، ولكن الرجم، ولكن كثرُ الزنا في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا:"تعالوا نجتمع فنضع شيئًا مكان الرجم، فيكون على الشريف والوضيع"، فوضعنا التحميم والجلد مكان الرجم! فقال النبى صلى الله عليه وسلم: أنا أوّل من أحيي أمرك إذ أماتوه! (١) فأمر به فرجم، فأنزل الله:"لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" الآية. (٢)
١١٩٢٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري قال: كنت جالسًا عند سعيد بن المسيب، وعند سعيد رجل يوقِّره، فإذا هو رجل من مزينة كان أبوه شَهِد الحديبية، وكان من أصحاب أبي هريرة قال: قال أبو هريرة: كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم=
١١٩٢٤- ح، وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح كاتب الليث قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني رجل من مزينة
(١) في المطبوعة: "اللهم إني أنا أول... "، وأثبت ما في المخطوطة، وبمثله في الناسخ والمنسوخ: ١٣٠.
(٢) الأثر: ١١٩٢٢- رواه أبو جعفر من ثلاث طرق، عن الأعمش. وسيرويه بعد برقم: ١٢٠٣٤، ١٢٠٣٦ من طريق القاسم، عن الحسين، عن أبي معاوية، ومن طريق هناد عن أبي معاوية.
و"عبيدة بن حميد بن صهيب التيمي"، مضى برقم: ٢٧٨١، ٢٩٩٨، ٨٧٨٣، وكان في المطبوعة: "عبيدة بن عبيد"، والصواب من المخطوطة.
و"عبد الله بن مرة الهمداني الخارفي"، مضى برقم: ٨٢٠٨.
وهذا الخبر رواه مسلم في صحيحه ١١: ٢٠٩، ٢١٠، وأحمد في مسنده ٤: ٢٨٦، والبيهقي في السنن ٨: ٢٤٦، وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: ١٣٠ وأبو داود في سننه ٤: ٢١٥، رقم: ٤٤٤٨، وقال ابن كثير في تفسيره، بعد أن ساق خبر أحمد: "انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري، وأبو داود والنسائي وابن ماجه، من غير وجه عن الأعمش، به".
وانظر تتمه هذا الأثر فيما سيأتي رقم: ١١٩٣٩، ورقم: ١٢٠٢٢.
305
ممن يَتَّبع العلمَ ويعيه، حدَّث عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة قال: بينا نحن مع رسول الله ﷺ إذ جاءه رجل من اليهود، وكانوا قد تشاوروا في صاحب لهم زنى بعد ما أحصن، (١) فقال بعضهم لبعض: إن هذا النبي قد بعث، وقد علمتم أنْ قد فُرِض عليكم الرجْم في التوراة فكتمتموه، واصطلحتم بينكم على عقوبة دونه، فانطلقوا نسأل هذا النبي، (٢) فإن أفتانا بما فرض علينا في التوراة من الرجم، تركنا ذلك، فقد تركنا ذلك في التوراة، فهي أحق أن تُطَاع وتصدَّق! فأتوا رسول الله ﷺ فقالوا: يا أبا القاسم إنه زنى صاحبٌ لنا قد أحصن، فما ترى عليه من العقوبة؟ قال أبو هريرة: فلم يَرْجع إليهم رسول الله ﷺ حتى قام وقمنا معه، فانطلق يؤمُّ مِدْراس اليهود، حتى أتاهم فوجدهم يتدارسون التوراة في بيت المدراس، فقال لهم: يا معشر اليهود، أنشُدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ماذا تجدون في التوراة من العُقوبة على من زنى وقد أحصن؟ قالوا: إنا نجده يحمَّم ويُجْلَد! وسكت حَبْرهم في جانب البيت، فلما رأى رسول الله ﷺ صَمته، ألظَّ يَنْشُدُه، فقال حبرهم: اللهم إذْ نَشَدتنا فإنا نجد عليهم الرجم! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فماذا كان أوّلُ ما ترخَّصتم به أمرَ الله"؟ قال: زنى ابن عم ملك فلم يرجمه، ثم زنى رجل آخر في أسرة من الناس، فأراد ذلك الملك رجمه، فقام دونه قومُه فقالوا: والله لا ترجمه حتى ترجُم فلانًا ابن عم الملك! فاصطلحوا بينهم عقوبة دون الرجم وتركوا الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أقضي بما في التوراة! فأنزل الله في ذلك:"يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" إلى قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون". (٣)
* * *
وقال آخرون: بل عُني بذلك المنافقون.
ذكر من قال ذلك:
١١٩٢٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير في قوله:"يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم"، قال: هم المنافقون.
١١٩٢٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"آمنا بأفواههم" قال يقول: هم المنافقون="سماعون لقوم آخرين"، قال: هم أيضًا سماعون لليهود. (٤)
* * *
(١) في المطبوعة: "قد أشاروا في صاحب لهم"، وفي المخطوطة: "شاوروا"، وهي ضعيفة هنا، ورأيت أن أقرأها"تشاوروا".
(٢) في المطبوعة: "فانطلقوا، فنسأل" وفي المخطوطة: "فسل" غير منقوطة، فرأيت أن أقرأها كما أثبتها.
(٣) الأثران: ١١٩٢٣، ١١٩٢٤- خبر الزهري هذا، رواه أبو جعفر فيما سلف من طريق ابن إسحق عن الزهري برقم: ١١٩٢١.
وستأتي روايته أيضا بغير هذا اللفظ، برقم: ١٢٠٠٨.
ورواه أبو داود في سننه ٤: ٤٤٥٠، من طريق معمر عن الزهري، وبرقم: ٤٤٥١، من طريق ابن إسحق، عن الزهري.
ورواه أحمد في مسنده مختصرا، برقم ٧٧٤٧، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن رجل من مزينة، وسيروي أبو جعفر هذا الخبر من طريق عبد الرازق فيما يلي برقم: ١٢٠٠٨، فقال أخي السيد أحمد في شرحه: "إسناده منقطع، لإبهام الرجل من مزينة الذي روى عن الزهري". ثم أشار في تخريجه إلى رواية الطبري رقم: ١١٩٢١، ولم يشر إلى هذين الخبرين رقم: ١١٩٢٣، ١١٩٢٤، ولا إلى الخبر الآتي رقم: ١٢٠٠٨، ثم ساق رواية عبد الرزاق عن مصر بنصها. ثم قال: "وهذا الرجل من مزينة، المجهول، وصفه الزهري، في رواية أبي داود، من طريق يونس ابن يزيد الأيلي عن الزهري: أنه ممن يتبع العلم ويعيه"، كما في إسنادنا هذا رقم: ١١٩٢٤، وفاته ما في الإسناد رقم ١١٩٢٣: أنه رجل من مزينة"كان أبوه شهد الحديبية". ومع كل ذلك، فالرجل لا يزال مجهولا لم يعرف.
فائدة: راجع ما سلف في أخبار الرجم من رقم: ١١٦٠٩- ١١٦١١.
(٤) الأثر: ١١٩٢٦- حذف في المطبوعة من أول قوله: "سماعون لقوم آخرين"، إلى آخر الخبر، وهو ثابت في المخطوطة كأنه استنكر ذكره هنا، مع أنه آت في تتمة الآية، ولم يذكر فيها قول مجاهد هناك. وهذا عبث لا معنى له.
306
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب، (١) أن يقال: عني بقوله: (٢) "لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم"، قومٌ من المنافقين. وجائزٌ أن يكون كان ممن دخل في هذه الآية ابنُ صوريا= وجائز أن يكون أبو لبابة= وجائز أن يكون غيرُهما، غير أن أثبت شيء روي في ذلك، ما ذكرناه من الرواية قبلُ عن أبي هريرة والبراء بن عازب، لأن ذلك عن رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان ذلك كذلك، كان الصحيحُ من القول فيه أن يقال: عُنِي به عبد الله بن صوريَا.
وإذا صحّ ذلك، كان تأويل الآية: يا أيُّها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في جحود نبوّتك، والتكذيبِ بأنك لي نبي، من الذين قالوا:"صدَّقنا بك يا محمد أنك لله رسول مبعوث، وعلمنا بذلك يقينًا، بوجودنا صِفَتك في كتابنا". (٣)
وذلك أن في حديث أبي هريرة الذي رواه ابن إسحاق عن الزهري: (٤) أن ابن صُوريا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما والله يا أبا القاسم، إنهم ليعلمون أنك نبى مُرسْل، ولكنهم يحسدونك". فذلك كان =على هذا الخبر= من ابن صوريا إيمانًا برسول الله ﷺ بفيه، ولم يكن مصدِّقًا لذلك بقلبه. فقال الله جل وعزّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مُطْلِعَه على ضمير ابن صوريا وأنه لم يؤمن بقلبه، يقول: ولم يصدِّق قلبه بأنك لله رسول مرسل. (٥)
* * *
(١) في المطبوعة: "وأولى الأقوال"، حذف"هذه"، وهي ثابتة في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "عني بذلك"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(٣) قوله: "بوجودنا صفتك"، أي: بأننا نجد صفتك...
(٤) في الأثر رقم: ١١٩٢١.
(٥) انظر تفسير"حزن" فيما سلف ٧: ٢٣٤، ٤١٨= وتفسير"سارع" فيما سلف ٧: ١٣٠، ٢٠٧، ٤١٨ = وانظر تفسير"من أفواههم" فيما سلف ٧: ١٤٥- ١٤٧= وتفسير"يقولون بأفواههم" ٧: ٣٧٨، ٣٧٩.
308
القول في تأويل قوله عز وجلّ: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها الرسولُ لا يحزنك تسرُّع من تسرَّع من هؤلاء المنافقين= الذين يظهارون بألسنتهم تصديقَك، وهم معتقدون تكذيبك= إلى الكفر بك، ولا تسرُّعُ اليهود إلى جحود نبوّتك. (١) ثم وصف جل وعزّ صفتهم، (٢)
ونعتهم له بنعوتهم الذَّميمة وأفعالهم الرديئة، وأخبره مُعزّيًا له على ما يناله من الحزن بتكذيبهم إياه، مع علمهم بصدقه، أنَّهم أهلُ استحلال الحرامِ والمآكل الرديئة والمطاعم الدنيئة من الرُّشَى والسُّحْت، (٣) وأنهم أهل إفكٍ وكذبٍ على الله، وتحريف لكتابه. (٤) ثم أعلمه أنه مُحِلٌّ بهم خزيَه في عاجل الدنيا، وعقابه في آجل الآخرة. فقال: هم"سماعون للكذب"، يعني هؤلاء المنافقين من اليهود، يقول: هم يسمعون الكذب، و"سمعهم الكذب"، سمعُهم قول أحبارهم: أنّ حكم الزاني المحصن في التوراة، التحميمُ والجلد="سماعون لقوم آخرين لم يأتوك"، يقول: يسمعون لأهل الزاني الذين أرادوا الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم القوم الآخرون الذين لم يكونوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا مصرِّين على أن يأتوه، كما قال مجاهد:-
١١٩٢٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج، قال مجاهد:"سماعون لقوم آخرين لم يأتوك"، مع من أتوك.
* * *
(١) انظر تفسير"هاد" فيما سلف ٢: ١٤٣، ٥٠٧/٩: ٣٩١.
(٢) في المطبوعة: "ثم وصف جل ذكره صفتهم"، غير ما في المخطوطة لغير طائل.
(٣) يعني ما سيأتي في الآية: ٤٢.
(٤) في المطبوعة: "وتحريف كتابه"، وفي المخطوطة: "أهل الإفك، وكذب على الله، وتحريف كتابه"، ورأيت السياق يقتضي أن تكون"وتحريف لكتابه"، فأثبتها.
309
واختلف أهل التأويل في"السماعين للكذب السماعين لقوم آخرين". (١)
فقال بعضهم:"سماعون لقوم آخرين"، يهود فَدَك. و"القوم الآخرون" الذين لم يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يهوُد المدينة. (٢)
ذكر من قال ذلك:
١١٩٢٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا زكريا ومجالد، عن الشعبي، عن جابر في قوله:"ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين"، قال: يهود المدينة="لم يأتوك يحرِّفون الكلم من بعد مواضعه"، قال: يهود فدك، يقولون ليهود المدينة:"إن أوتيتم هذا فخذوه".
* * *
وقال آخرون: المعنيّ بذلك قوم من اليهود، كان أهل المرأة التي بَغَتْ، بعثوا بهم يسألون رسولَ الله ﷺ عن الحكم فيها. والباعثون بهم هم"القوم الآخرون"، وهم أهل المرأة الفاجرة، لم يكونوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
١١٩٢٩ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ومن الذين هادوا سمَّاعون للكذب سمَّاعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون"، فإنّ بني إسرائيل أنزل الله عليهم: (٣) "إذا زنى منكم أحد فارجموه"، فلم يزالوا بذلك حتى زنى رجل من خيارهم، فلما اجتمعت بنو إسرائيل يرجمونه، قام الخيار والأشراف فمنعوه. ثم زنى رجل من الضعفاء،
(١) في المطبوعة: "في السماعون للكذب السماعون لقوم آخرين"، غير ما في المخطوطة بلا معنى، بل بفساد.
(٢) الظاهر أن في هذه الترجمة خطأ من أبي جعفر، وكأن صوابها: "فقال بعضهم: "سماعون لقوم آخرين، يهود المدينة. والقوم الآخرون الذين لم يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يهود فدك". والخبر نفسه بعد، دال على صحة ما ذهبت إليه.
(٣) في المطبوعة: "كان بنو إسرائيل... "، وأثبت ما في المخطوطة.
310
فاجتمعوا ليرجموه، فاجتمعت الضعفاء فقالوا: لا ترجموه حتى تأتُوا بصاحبكم فترجمونهما جميعًا! فقالت بنو إسرائيل: إن هذا الأمر قد اشتد علينا، فتعالوا فلنصلحه! فتركوا الرجم، وجعلوا مكانه أربعين جَلْدة بحبل مقيَّر، ويحملونه على حمار ووجهه إلى ذنبه، (١) ويسوِّدون وجهه، ويطوفون به. فكانوا يفعلون ذلك حتى بعث النبي ﷺ وقدم المدينة، فزنت امرأة من أشراف اليهود يقال لها:"بسرة"، فبعث أبوها ناسًا من أصحابه إلى النبي ﷺ فقال: سلوه عن الزنا وما نزل إليه فيه، فإنا نخاف أن يفضحنا ويُخْبرنا بما صنعنا، فإن أعطاكم الجلد فخذُوه، وإن أمركم بالرجم فاحذروه! فأتوا رسول الله ﷺ فسألوه، فقال: الرجم! فأنزل الله عز وجل:"ومن الذين هادوا سمَّاعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرِّفون الكلم من بعد مواضعه"، حين حرَّفوا الرجم فجعلوه جلدًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: إن"السماعين للكذب"، هم"السماعون لقوم آخرين". (٢)
وقد يجوز أن يكون أولئك كانوا من يهود المدينة، والمسموعُ لهم من يَهُود فدك= ويجوز أن يكون كانوا من غيرهم. غير أنه أيّ ذلك كان، فهو من صفة قوٍم من يهود، سَمِعوا الكذب على الله في حكم المرأة التي كانت بغت فيهم وهي محصنة، وأن حكمها في التوراة التحميم والجلد، وسألوا رسول الله ﷺ عن الحكم اللازم لها، وسمعوا ما يقول فيها قوم المرأة الفاجرة قَبْل أن يأتوا رسول الله ﷺ محتكمين إليه فيها. وإنما سألوا رسولَ الله ﷺ عن ذلك
(١) في المطبوعة: "ويحممونه ويحملونه على حمار"، زاد"ويحممونه"، ولا معنى لزيادتها، فإنه سيأتي بعد ما هو بمعناها، وهو قوله: "ويسودون وجهه". وأثبت ما في المخطوطة، وإن كان فيها"ويحملوه على حمار".
(٢) في المطبوعة: "إن السماعون... "، وأثبت ما في المخطوطة.
311
لهم، ليُعْلموا أهل المرأة الفاجرة ما يكون من جوابه لهم. فإن لم يكن من حكمه الرجم رَضُوا به حَكَمًا فيهم. وإن كان من حكمه الرّجم، حذِروه وتركوا الرضَى به وبحكمه.
* * *
وبنحو الذي قلنا كان ابن زيد يقول.
١١٩٣٠ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين"، قال: لقوم آخرين لم يأتوه من أهل الكتاب، (١) هؤلاء سماعون لأولئك القوم الآخرين الذين لم يأتوه، يقولون لهم الكذب:"محمد كاذبٌ، وليس هذا في التوراة، فلا تؤمنوا به". (٢)
* * *
(١) في المطبوعة: "لم ياتوك"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) عند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم للمخطوطة التي نقلت عنها نسختنا. وفي مخطوطتنا هنا ما نصه:
"يتلوهُ إن شاء الله تعالى:
القولُ في تاويل قوله: (يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ من بَعْد مَوَاضِعِهِ يَقُولُون إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإنْ لَمْ تُأْتَوْهُ فَاحْذَرُوا).
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا".
ثم يبدأ بعده:
"بِسمْ الله الرَّحمن الرحيمِ
رَبِّ يَسِّرْ"
312
القول في تأويل قوله عزّ وجلّ: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يحرف هؤلاء السمَّاعون للكذب، السماعون لقوم آخرين منهم لم يأتوك بعدُ من اليهود="الكلم" (١). وكان تحريفُهم ذلك، تغييرَهم حكم الله تعالى ذكره= الذي أنزله في التوراة في المحصَنات والمحصَنين من الزناة بالرجم= إلى الجلد والتحميم. فقال تعالى ذكره:"يحرّفون الكلم"، يعني: هؤلاء اليهود، والمعنيُّ حكم الكَلِم، فاكتفى بذكر الخبر من"تحريف الكلم" عن ذكر"الحكم"، لمعرفة السامعين لمعناه. وكذلك قوله:"من بعد مواضعه"، والمعنى: من بعد وضْع الله ذلك مواضعه، فاكتفى بالخبر من ذكر"مواضعه"، عن ذكر"وضع ذلك"، كما قال تعالى ذكره: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [سورة البقرة: ١٧٧]، والمعنى: ولكن البِرَّ برُّ من آمن بالله واليوم الآخر. (٢)
* * *
وقد يحتمل أن يكون معناه: يحرفون الكلم عن مواضعه= فتكون"بعد" وضعت موضع"عن"، كما يقال:"جئتك عن فراغي من الشغل"، يريد: بعد فراغي من الشُّغل.
* * *
ويعني بقوله:"إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا"، يقول هؤلاء الباغُون السمَّاعون للكذب: إن أفتاكم محمد بالجلد والتحميم في صاحبنا="فخذوه"، يقول: فاقبلوه منه، وإن لم يفتكم بذلك وأفتاكم بالرجم، فاحذروا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
(١) انظر تفسير"تحريف الكلم عن مواضعه" فيما سلف ٢: ٢٤٨/٨: ٤٣٠- ٤٣٢/١٠: ١٢٩
(٢) انظر ما سلف ٣: ٣٣٦- ٣٣٩.
313
ذكر من قال ذلك:
١١٩٣١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال، حدثني الزهري قال: سمعت رجلا من مزينة يحدِّث سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة حدثهم= في قصة ذكرها="ومن الذين هادوا سمَّاعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك"، قال: [أي الذين بعثوا منهم مَنْ] بعثوا وتخلفوا، (١) وأمروهم بما أمرُوهم به من تحريف الكلم عن مواضعه، فقال:"يحرِّفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه"، للتجبيه (٢) ="وإن لم تؤتوه فاحذروا"، أي الرجم. (٣)
١١٩٣٢ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إن أوتيتم هذا"، إن وافقكم هذا فخذوه. يهودُ تقولُه للمنافقين.
١١٩٣٣ - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،"إن أوتيتم هذا فخذوه"، إن وافقكم هذا فخذوه، وإن لم يوافقكم فاحذروه. يهود تقوله للمنافقين.
١١٩٣٤ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يحرفون الكلم من بعد مواضعه"، حين حرفوا الرجم فجعلوه جلدًا="يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا".
١١٩٣٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا زكريا ومجالد، عن الشعبي، عن جابر:"يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه"، يهود فدك، يقولون ليهود
(١) هذه الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام.
(٢) في المطبوعة: "للتحميم"، وأثبت ما في المخطوطة، وانظر شرح ذلك فيما سلف في الأثر: ١١٩٢١ ص: ٣٠٣، تعليق: ٣.
(٣) الأثر: ١١٩٣١- سيرة ابن هشام ٢: ٢١٤، وهو تتمة الأثر السالف رقم: ١١٩٢١.
314
المدينة: إن أوتيتم هذا الجلد فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا الرَّجم. (١)
١١٩٣٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا"، هم اليهودُ، زنت منهم امرأة، وكان الله قد حكم في التوراة في الزّنا بالرجم، فنَفِسوا أن يرجموها، (٢) وقالوا: انطلقوا إلى محمد، فعسى أن يكون عنده رُخْصة، فإن كانت عنده رخصة فاقبلوها! فأتَوْه، فقالوا: يا أبا القاسم، إنّ امرأة منّا زنت، فما تقول فيها؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: كيف حُكم الله في التوراة في الزاني؟ فقالوا: دعنا من التوراة، ولكن ما عندك في ذلك؟ فقال: ائتوني بأعلمكم بالتوراة التي أنزلت على موسى! فقال لهم: بالذي نجاكم من آل فرعون، وبالذي فَلَق لكم البحر فأنجاكم وأغرق آل فرعون، إلا أخبرتموني ما حُكْم الله في التوراة في الزاني؟! قالوا: حكمه الرَّجْم! فأمر بها رسول الله ﷺ فرجمت. (٣)
١١٩٣٧ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا"، ذكر لنا أن هذا كان في قتيلٍ من بني قريظة، قتلته النضير. فكانت النضير إذا قتلت من بني قريظة لم يُقِيدوهم، إنما يعطونهم الدية لفضلهم عليهم. وكانت قريظة إذا قتلت من النضير قتيلا لم يرضوا إلا بالقَوَد لفضلهم عليهم في أنفسهم تعزُّزًا. فقدم نبيُّ الله ﷺ المدينة على تَفِئَةِ قتيلهم هذا، (٤) فأرادوا أن يرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(١) الأثر: ١١٩٣٥- انظر الأثر السالف رقم: ١١٩٢٨.
(٢) "نفس عليه الشيء" و"نفس به عليه" (بكسر الفاء فيهما) : ضن به وبخل، يعني أنهم رقوا لها وضنوا بها على الرجم والموت.
(٣) قوله: "فأمر بها رسول الله"، إلى آخر الجملة، ليس في المخطوطة. وكأنه زاده من نص الدر المنثور ٢: ٢٨٢.
(٤) في المطبوعة: "على هيئة فعلهم هذا"، ولا معنى لها. وفي المخطوطة: "على نصه فصلهم هذا"، غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها. يقال: "أتيته على تفئة ذلك"، أي: على حينه وزمانه. وانظر مثل ذلك في الأثر رقم: ٧٩٤١، ج ٧: ٢٥٣، تعليق: ١.
وأما "فعلهم هذا"، كما في المطبوعة، و"فصلهم هذا" كما في المخطوطة، فصواب قراءته"قتيلهم هذا"، كما هو واضح من السياق.
315
فقال لهم رجل من المنافقين: إن قتيلكم هذا قتيل عَمْدٍ، متى ما ترفعونه إلى محمد ﷺ أخشى عليكم القَوَد، فإن قبل منكم الدية فخذوه، وإلا فكونوا منه على حَذَرٍ!
١١٩٣٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يحرفون الكلم من بعد مواضعه"، يقول: يحرّف هؤلاء الذين لم يأتوك الكلم عن مواضعه، لا يضعونه على ما أنزله الله. قال: وهؤلاء كلهم يهود، بعضهم من بعضٍ.
١١٩٣٩ - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية وعبيدة بن حميد، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب:"يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإذ لم تؤتوه فاحذروا"، يقولون: ائتوا محمدًا، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا. (١)
* * *
القول في تأويل قوله جل وعز: ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾
قال أبو جعفر: وهذا تسلية من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا ﷺ من حزنه على مسارعة الذين قصَّ قصتهم من اليهود والمنافقين في هذه الآية. يقول له تعالى ذكره: لا يحزنك تسرُّعهم إلى جحود نبوَّتك، فإني قد حَتَمْتُ عليهم أنهم
(١) الأثر: ١١٩٣٩- هذا تتمة الأثر السالف رقم: ١١٩٢٢، فانظر التعليق عليه هناك.
316
لا يتوبون من ضلالتهم، (١) ولا يرجعون عن كفرهم، للسابق من غضبي عليهم. وغير نافعهم حزنك على ما ترى من تسرُّعهم إلى ما جعلته سببًا لهلاكهم واستحقاقِهم وعيدي.
* * *
ومعنى"الفتنة" في هذا الموضع: الضلالة عن قصد السبيل. (٢)
* * *
يقول تعالى ذكره: ومن يرد الله، يا محمد، مَرْجعه بضلالته عن سبيل الهدى، (٣) فلن تملك له من الله استنقاذًا مما أراد الله به من الحيرة والضلالة. (٤) فلا تشعر نفسك الحزنَ على ما فاتك من اهتدائه للحق، كما:-
١١٩٤٠ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدى:"ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا".
............................................. (٥)
* * *
القول في تأويل قوله جل وعز: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٤١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا يحزُنك الذين يسارعون في الكفر من اليهودِ الذين وصفت لك صفتهم. وإن مسارعتهم إلى ذلك، أنّ الله قد أراد فتنتهم، وطَبَع على قلوبهم، ولا يهتدون أبدًا="أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم"، يقول: هؤلاء الذين لم يرد الله أن يطهِّر من دنس
(١) "حتم عليه": قضى عليه وأوجب الحكم.
(٢) انظر تفسير" الفتنة" فيما سلف ٩: ١٢٣، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "مرجعه بضلالته"، كأنه يعني: انصرافه بضلالته عن سبيل الهدى، وأخشى أن يكون اللفظ محرفًا.
(٤) انظر تفسير"ملك" فيما سلف ص: ١٤٧، ١٨٧
(٥) سقط بقية هذا الأثر من المخطوطة والمطبوعة، فوضعت النقط تنبيهًا على هذا الخرم.
317
الكفر ووَسخ الشرك قُلوبَهم، بطهارة الإسلام ونظافة الإيمان، (١) فيتوبوا، بل أراد بهم الخزي في الدنيا= وذلك الذلّ والهوان (٢) = وفي الآخرة عذابُ جهنم خالدين فيها أبدًا. (٣)
* * *
وبنحو الذي قلنا في معنى"الخزي"، روي القول عن عكرمة.
١١٩٤١ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن علي بن الأقمر وغيره، عن عكرمة، أولئك الذين لم يرد الله أن يطهِّر قلوبهم لهم في الدنيا خزي"، قال: مدينة في الروم تُفْتح فَيُسْبَوْن. (٤)
* * *
(١) انظر تفسير"طهر" فيما سلف ٣: ٣٨-٤٠، ٣٩٣، وفهارس اللغة.
(٢) انظر تفسير"الخزي" فيما سلف ص: ٢٧٦ تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير سائر ألفاظ الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
(٤) الأثر: ١١٩٤١-"علي بن الأقمر بن عمرو بن الحارث الهمداني"، أبو الوازع الكوفي. روى له الأئمة. ثقة حجة. مترجم في التهذيب.
و"سفيان" هو الثوري.
وكان في المطبوعة: "علي بن الأرقم"، وهو خطأ محض، صوابه في المخطوطة.
318
القول في تأويل قوله: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هؤلاء اليهود الذين وصفتُ لك، يا محمد، صفتَهم، سَمَّاعون لقِيل الباطل والكذب، ومن قيل بعضهم لبعض:"محمد كاذب، ليس بنبي"، وقيل بعضهم:"إن حكم الزاني المحصن في التوراة الجلد والتحميم"، وغير ذلك من الأباطيل والإفك= ويقبلون الرُّشَى فيأكلونها على كذبهم على الله وفريتهم عليه، (١) كما:-
١١٩٤٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبو عقيل
(١) في المخطوطة: "فيأكلوها"، والصواب ما في المطبوعة.
318
قال، سمعت الحسن يقول في قوله:"سماعون للكذب أكَّالون للسحت"، قال: تلك الحكام، سمعوا كِذْبَةً وأكلوا رِشْوَةً.
١١٩٤٣ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"سماعون للكذب أكالون للسحت"، قال: كان هذا في حكّام اليهودِ بين أيديكم، كانوا يسمعون الكذب ويقبلون الرُّشَى.
١١٩٤٤ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"أكالون للسحت"، قال: الرشوة في الحكم، وهم يهود.
١١٩٤٥ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي وإسحاق الأزرق= وحدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن= عن سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله:"أكالون للسحت"، قال:"السُّحت"، الرشوةُ.
١١٩٤٦ - حدثنا سفيان بن وكيع وواصل بن عبد الأعلى قالا حدثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن سلمة بن كهيل، عن سالم بن أبي الجعد قال: قيل لعبد الله: ما السحت؟ قال: الرشوة. قالوا: في الحكم؟ قال: ذاك الكفر.
١١٩٤٧ - حدثنا سفيان قال، حدثنا غندر ووهب بن جرير، عن شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق، عن عبد الله قال:"السحت"، الرشوة.
١١٩٤٨ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن حريث، عن عامر، عن مسروق قال: قلنا لعبد الله: ما كنا نرى"السحت" إلا الرشوة في الحكم! قال عبد الله: ذاك الكُفْر.
١١٩٤٩ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق، عن عبد الله قال:
319
"السحت"، الرُّشَى؟ قال: نعم. (١)
١١٩٥٠ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمار الدُّهني، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال: سألت عبد الله عن"السحت"، فقال: الرجل يطلب الحاجةَ للرجل فيقضيها، فيهدي إليه فيقبلُها.
١١٩٥١ - حدثنا سوّار قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا شعبة، عن منصور وسليمان الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق، عن عبد الله أنه قال:"السحت"، الرشى.
١١٩٥٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا المحاربي، عن سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله:"السحت"، قال: الرشوة في الدِّين.
١١٩٥٣ - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن خيثمة قال، قال عمر: [ما كان] من"السحت"، الرشى ومهر الزانية. (٢)
١١٩٥٤ - حدثني سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال:"السحت"، الرشوة.
١١٩٥٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"أكالون للسحت"، قال: الرشى.
١١٩٥٦ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي= عن طلحة، عن أبي هريرة قال: مهر البغي سُحْت، وعَسْبُ الفحل سحت، (٣) وكسْبُ الحجَّام سحت، وثمن الكلب سُحْت.
(١) لعل الصواب"قيل: السحت، الرشى "أو"سئل".
(٢) ما بين القوسين ثابت في المخطوطة والمطبوعة، وأنا في شك منه، ولذلك وضعته بين قوسين، فإن الكلام بغيره مستقيم. وأخشى أن يكون تحريفًا لشيء لم أستطع أن أستظهر صوابه. أو لعله سقط من الخبر شيء. بعد قوله: [ما كان]. وانظر الآثار رقم: ١١٩٥٦، ١١٩٦٤، ١١٩٦٥، فربما كان ما سقط هنا: "ما كان يعطي الكهان في الجاهلية"، كما في رقم: ١١٩٦٤.
(٣) "عسب الفحل": طرق الفحل وضرابه. يقال: "عسب الفحل الناقة يعسبها عسبًا"، و"فحل شديد العسب". و"العسب" بعد ذلك هو: الكراء الذي يؤخذ على ضراب الفحل. وقد جاء في الحديث النهي عن عسب الفحل، وهو كراء عسب الفحل. أما إعارة الفحل للضراب، فأمر مندوب إليه.
320
١١٩٥٧ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك قال:"السحت"، الرشوة في الحكم.
١١٩٥٨ - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال: سألت ابن مسعود عن"السحت"، قال: الرشى. فقلت: في الحكم؟ قال: ذاك الكفر.
١١٩٥٩ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أكالون للسحت"، يقول: للرشى.
١١٩٦٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن سلمة بن كهيل، عن مسروق، وعلقمة: أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة، فقال: هي السحت. قالا في الحكم؟ قال: ذاك الكفر! تم تلا هذه الآية: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (١) [سورة المائدة: ٤٤].
١١٩٦١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن المسعودي، عن بكير بن أبي بكير، عن مسلم بن صبيح قال: شفع مسروق لرجل في حاجة، فأهدى له جارية، فغضب غضبًا شديدًا وقال: لو علمت أنك تفعل هذا ما كلَّمت في حاجتك، ولا أكلم فيما بقي من حاجتك، سمعت ابن مسعود يقول:"من شفع شفاعة ليردّ بها حقًّا، أو يرفع بها ظلمًا، فأهدِيَ له
(١) الأثر: ١١٩٦٠-"علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي"، صاحب ابن مسعود، وكان أعلم الناس بحديث ابن مسعود. مترجم في التهذيب.
و"مسروق" هو: "مسروق بن الأجدع"، مضى برقم: ٤٢٤٢، ٧٢١٦، وغيرهما. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "عن مسروق، عن علقمة"، والصواب ما أثبت، فإن مسروقًا وعلقمة، من كبار أصحاب عبد الله بن مسعود. والسياق يدل على صواب ما أثبت.
321
فقبل، فهو سحت"، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم! قال: الأخذُ على الحكم كفر. (١)
١١٩٦٢ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"سماعون للكذب أكالون للسحت"، وذلك أنهم أخذوا الرشوة في الحكم، وقضوا بالكذب.
١١٩٦٣ - حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة، عن عمار، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق قال: سألت ابن مسعود عن"السحت"، أهو الرشى في الحكم؟ فقال: لا من لم يحكم بما أنزل الله فهو فاسق. ولكن"السحت"، يستعينك الرجل على المظلمة فتعينه عليها، فيهدي لك الهدية فتقبلُها.
١١٩٦٤ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن هبيرة السَّبائي قال: من السحت ثلاثة: مهرُ البغي، والرشوة في الحكم، وما كان يُعطى الكُهان في الجاهلية. (٢)
١١٩٦٥ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن مطيع، عن حماد بن سلمة، عن عطاء الخراساني، عن ضمرة، عن علي بن أبي طالب: أنه قال في كسب الحجام،
(١) الأثر: ١١٩٦١-"بكير بن أبي بكير"، لم أجد له ذكرًا في كتب التراجم التي بين يدي. وأخشى أن يكون تحريفًا كالذي يليه.
وأما "مسلم بن صبيح الهمداني"، فهو: "أبو الضحى"، وقد سلفت ترجمته مرارًا، منها: ٥٤٢٤، ٧٢١٦، ٨٢٠٦. ثقة كثير الحديث، يروي عن مسروق بن الأجدع. وانظر الأثر التالي: ١١٩٦٣.
وكان في المخطوطة: "هشام بن صبيح"، وفي المطبوعة: "هاشم بن صبيح"، وكلاهما خطأ محض، والذي في المخطوطة تحريف"مسلم".
(٢) الأثر: ١١٩٦٤-"يحيى بن سعيد"، أظنه"يحيى بن سعيد بن حيان التيمي"، "أبو حيان"، روى عنه ابن فضيل. مضى برقم: ٥٣٨٢، ٥٣٨٣.
و"عبد الله بن هبيرة السبائي"، ثقة. مضى برقم ١٩١٤، ٥٤٩٣، وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا"عبيد الله بن هبيرة"، وهو خطأ محض.
322
ومهر البغيّ، وثمن الكلب، والاستجْعَال في القضية، (١) وحلوان الكاهن، (٢) وعسب الفحل، (٣) والرشوة في الحكم، وثمن الخمر، وثمن الميتة: من السحت. (٤)
١١٩٦٦ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أكالون للسحت"، قال: الرشوة في الحكم.
١١٩٦٧ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الموال، عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر: أنّ رسول الله ﷺ قال: كُلُّ لحم أنبَته السُّحت فالنار أولى به. قيل: يا رسول الله، وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم. (٥)
١١٩٦٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الجبار بن عمر، عن الحكم بن عبد الله قال: قال لي أنس بن مالك: إذا انقلبت إلى أبيك فقل له: إياك والرشوة، فإنها سحت= وكان أبوه على شُرَط المدينة. (٦)
١١٩٦٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم،
(١) "الاستجعال"، يعني: أخذ الجعل (بضم فسكون)، وهو الأجر، واشتراطه لقضاء الحاجة. ولم يذكر هذا الحرف من الاشتقاق في معاجم اللغة. وإنما قالوا: "اجتعل" فهو"مجتعل" أي: أخذ جعلا. و"فلان يجاعل فلانًا"، أي: يصانعه برشوة.
(٢) "الحلوان": ما يعطاه الكاهن عن كهانته أجرة.
(٣) "عسب الفحل"، مضى تفسيره ص: ٣٢٠، تعليق: ٣، وفي المطبوعة: "عسيب الفحل"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة.
(٤) الأثر: ١١٩٦٥-"ضمرة" الذي يروي هنا عن علي بن أبي طالب، لم أعرف من يكون. وأخشى أن يكون فيه تحريف.
(٥) الأثر: ١١٩٦٧-"عبد الرحمن بن أبي الموال"، ويقال: "عبد الرحمن بن زيد بن أبي الموال"، ويقال" بن أبي الموالي"، ثقة. مترجم في التهذيب.
و"عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب"، ثقة. مضى توثيقه برقم: ٧٨١٩. وهذا خبر مرسل، خرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٢٨٤، ونسبه لعبد بن حميد، وابن مردويه مرفوعًا من حديث ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(٦) الأثر: ١١٩٦٨-"عبد الحبار بن عمر الأيلي"، ضعيف الحديث، ليس محله الكذب. ووثقه ابن سعد. مضى برقم: ٤٦٠٨، ٩٠٥٧.
أما "الحكم بن عبد الله"، وأبوه"عبد الله" الذي كان على شرط المدينة، فلم أعلم من يكونان؟
323
عن مسروق، عن عبد الله قال: الرشوة سُحت. قال مسروق: فقلنا لعبد الله: أفي الحكم؟ قال: لا ثم قرأ: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [سورة المائدة: ٤٤]، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [سورة المائدة: ٤٥]، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [سورة المائدة: ٤٧].
* * *
وأصل"السحت": كَلَبُ الجوع، يقال منه:"فلان مسحُوت المَعِدَة"، إذا كان أكولا لا يُلْفَى أبدًا إلا جائعًا، وإنما قيل للرشوة:"السحت"، تشبيهًا بذلك، كأن بالمسترشي من الشَّره إلى أخذ ما يُعطاه من ذلك، مثل الذي بالمسحوت المعدة من الشَّرَه إلى الطعام. يقالُ منه:"سحته وأسحته"، لغتان محكيتان عن العرب، ومنه قول الفرزدق بن غالب:
وَعَضُّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَع مِنَ الْمَالِ إلا مُسْحَتًا أَوْ مُجَلَّفُ (١)
يعني بِ"المسحت"، الذي قد استأصله هلاكًا بأكله إياه وإفساده، ومنه قوله تعالى: (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ) [سورة طه: ٦١]. وتقول العرب للحالق:"اسحت الشعر"، أي: استأصله.
* * *
(١) ديوانه: ٥٥٦، والنقائض: ٥٥٦، وطبقات فحول الشعراء: ١٩، والخزانة ٢: ٣٤٧، واللسان (سحت) (جلف)، وسيأتي في التفسير ١٦: ١٣٥، وفي غيرها كثير. والبيت من قصيدته المشهورة، وقبل البيت:
إِلَيْكَ أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَمَتْ بِنَا هُمُومُ الْمُنَى والْهَوْجَلُ الْمُتَعَسَّفُ
"الهوجل": البطن الواسع من الأرض. و"المتعسف": المسلوك بلا علم ولا دليل، فهو يسير فيها بالتعسف. ويروى: "أو مجرف"، وهو الذي جرفه الدهر، أي: اجتاح ماله وأفقره. ويروى في"إلا مسحت أو مجلف" بالرفع فيهما (كما سيأتي في ١٦: ١٣٥، من التفسير). وقد تجرف النحاة هذا البيت إعرابًا وتأويلا.
324
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرضْ عنهم"، إن جاء هؤلاء القوم الآخرون الذين لم يأتوك بعد =وهم قومُ المرأة البغيّة= محتكمين إليك، فاحكم بينهم إن شئت بالحقِّ الذي جعله الله حُكمًا له فيمن فعل فِعْل المرأة البغيَّة منهم= أو أعرض عنهم فدع الحكم بينهم إن شئت، والخيار إليك في ذلك.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١١٩٧٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أو أعرض عنهم"، يهودُ، زنى رجل منهم له نسبٌ حقير فرجموه، ثم زنى منهم شريف فحمَّمُوه، ثم طافوا به، ثم استفتوا رسول الله ﷺ ليوافقهم. قال: فأفتاهم فيه بالرجم، فأنكروه، فأمرهم أن يدعوا أحبارهم ورهبانهم، فناشدهم بالله: أتجدونه في التوراة؟ فكتموه، إلا رجلا من أصغرهم أعْوَرَ، فقال: كذبوك يا رسول الله، إنه لفي التوراة!
١١٩٧١ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث، عن ابن شهاب: أنّ الآية التي في"سورة المائدة"،"فإن جاءوك فاحكم بينهم"، كانت في شأن الرجم.
١١٩٧٢ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إنهم أتوه =يعني اليهود=
325
في امرأة منهم زنت، يسألونه عن عقوبتها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة؟ فقالوا: نؤمر برجم الزانية! فأمر بها رسول الله ﷺ فرجمت، وقد قال الله تبارك وتعالى:"وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئًا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين".
١١٩٧٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قوله:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، قال: كانوا يحدُّون في الزنا، إلى أن زنى شاب منهم ذو شرف، (١) فقال بعضهم لبعض: لا يدعكم قومه ترجمونه، ولكن اجلدوه ومثِّلوا به! فجلدوه وحملوه على حمارِ إكافٍ، (٢) وجعلوا وجهه مستقبِلَ ذنب الحمار= إلى أن زنى آخر وضيع ليس له شرف، فقالوا: ارجموه! ثم قالوا: فكيف لم ترجموا الذى قبله؟ ولكن مثل ما صنعتم به فاصنعوا بهذا! فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: سلوه، لعلكم تجدون عنده رخصة! فنزلت:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم" إلى قوله:"إنّ الله يحب المقسطين".
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في قتيل قُتل في يهودَ منهم، قتله بعضهم.
ذكر من قال ذلك:
١١٩٧٤ - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أن الآيات في"المائدة"، قوله:"فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، إلى قوله:"المقسطين"، إنما نزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة، وذلك أن قتلى بني النضير، وكان لهم شرف، (٣) تؤدِّي الدية كاملة، وإن قريظة كانوا يؤدون
(١) في المخطوطة: "إلى أن زنى الشاب منهم"، والذي في المطبوعة أرجح.
(٢) "الإكاف" مركب من المراكب، مثل الرحال والأقتاب.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "كان لهم شرف"، بغير واو، فأثبتها من سيرة ابن هشام.
326
نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله ﷺ على الحقّ في ذلك، فجعل الدية في ذاك سواءً= والله أعلم أيُّ ذلك كان. (١)
١١٩٧٥ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن علي بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت قريظة والنضير، وكان النضيرُ أشرفَ من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير، قُتِل به. وإذا قتل رجلٌ من النضير رجلا من قريظة، أدَّى مئة وَسْقَ تمرٍ. (٢) فلما بُعِث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَتَل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا! فقالوا: بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فنزلت"وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط". (٣)
١١٩٧٦ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان في حكم حيي بن أخطب: للنّضِيريِّ ديتان، (٤) والقرظيّ دية= لأنه كان من النضير. قال: وأخبر الله نبيه ﷺ بما في التوراة، (٥) قال: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [سورة المائدة: ٤٥]، إلى آخر الآية. قال: فلما رأت ذلك قريظة، لم يرضوا بحكم ابن أخطب، فقالوا: نتحاكم
(١) الأثر: ١١٩٧٤- سيرة ابن هشام ٢: ٢١٥، ٢١٦، وفي سيرة ابن هشام بين أن قوله"والله أعلم أي ذلك كان"، من كلام ابن إسحق.
ورواه أحمد في المسند رقم: ٣٤٣٤، مختصرًا.
(٢) "الوسق" (بفتح الواو وكسرها، وسكون السين) : هو حمل بعير، وهو ستون صاعًا بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(٣) الأثر: ١١٩٧٥-"عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي"، مضى مرارا. انظر رقم: ٢٠٩٢، ٢٢١٩، وغيرها إلى: ٩٤٥٦. وكان في المطبوعة والمخطوطة"عبد الله بن موسى"، وهو خطأ محض.
و"علي بن صالح بن صالح بن حي الهمداني"، ثقة. مضى برقم: ١٧٨. وانظر خبرًا بمعنى بعضه فيما سلف رقم: ٩٨٩٦، ومسند أحمد رقم: ٣٢١٢، ٣٤٣٤.
(٤) في المطبوعة: "للنضري"، والصواب من المخطوطة.
(٥) في المخطوطة: "وأخبر الله نبيه ﷺ في التوراة"، وما في المطبوعة أصح.
327
إلى محمد! فقال الله تبارك وتعالى:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، فخيرّه="وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله"، الآية كلها. وكان الشريف إذا زنى بالدنيئة رجموها هي، وحمَّموا وجهَ الشريف، وحملوه على البعير، وجَعلوا وجهه من قِبَل ذنب البعير. وإذا زنى الدنيء بالشريفة رجموه، وفعلوا بها هي ذلك. فتحاكموا إلى النبي ﷺ فرجمها. قال: وكان النبي ﷺ قال لهم: من أعلمكم بالتوراة؟ قالوا: فلان الأعور! فأرسل إليه فأتاه، فقال: أنت أعلمهم بالتوراة؟ قال: كذاك تزعم يهودُ! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طُور سَيْنَاء، ما تجد في التوراة في الزانيين؟ فقال: يا أبا القاسم، يرجمون الدنيئة، ويحملون الشريف على بعير، ويحمِّمون وجهه، ويجعلون وجهه من قبل ذنَبِ البعير، ويرجمون الدنيء إذا زنى بالشريفة، ويفعلون بها هي ذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أنشدك بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طُور سَيْناء، ما تجد في التوراة؟ فجعل يروغ، والنبي ﷺ يَنْشُده بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طور سيناء، حتى قال: يا أبا القاسم،"الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهو ذاك، اذهبوا بهما فارجموهما. قال عبد الله: (١) فكنت فيمن رجمهما فما زال يُجْنِئُ عليها، (٢) ويقيها الحجارة بنفسه حتّى مات. (٣)
* * *
(١) كأنه يعني"عبد الله بن عمر"، وإن لم يذكر في الخبر، كما سيأتي في التخريج.
(٢) "جنأ عليه" و"أجنأ عليه" و"جانأ عليه" و"تجانأ عليه": أكب عليها ومال ليقيها. وهي في المطبوعة"يجني عليها"، وهي صواب أيضًا، والمخطوطة غير منقوطة."جنا عليه يجني" انثنى، وحنى ظهره. وجاء الحديث باللفظين.
(٣) الأثر: ١١٩٧٦- خبر عبد الله بن عمر في رجم اليهودي اليهودية، رواه مسلم في صحيحه ١١: ٢٠٨، ٢٠٩ والبخاري، في صحيحه (الفتح ١٢: ١٤٨- ١٥٢) وشرحه الحافظ شرحًا وافيًا، وفي سنن أبي داود ٤: ٢١٤، رقم: ٤٤٤٦.
328
ثم اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية، هل هو ثابت اليوم؟ وهل للحكام من الخيار في الحكم والنظر بين أهل الذمّة والعهد إذا احتكموا إليهم، مثلُ الذي جعَل لنبيه ﷺ في هذه الآية، أم ذلك منسوخ؟
فقال بعضهم: ذلك ثابتٌ اليوم، لم ينسخه شيء، وللحكام من الخيار في كلّ دهر بهذه الآية، مثلُ ما جعَله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
١١٩٧٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن عمرو بن أبي قيس، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي: إنْ رفع إليك أحد من المشركين في قَضَاءٍ، فإن شئت فاحكم بينهم بما أنزل الله، وإن شئت أعرضت عنهم. (١)
١١٩٧٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي وإبراهيم قالا إذا أتاك المشركون فحكَّموك، فاحكم بينهم أو أعرض عنهم. وإن حكمت فاحكم بحكم المسلمين، ولا تعدُهُ إلى غيره.
١١٩٧٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، قال: إن شاء حكم، وإن شاء لم يحكم.
١١٩٨٠ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: إن شاء حكم، وإن شاء لم يحكم.
١١٩٨١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن محمد بن سالم، عن الشعبي قال: إذا أتاك أهل الكتاب بينهم أمر، فاحكم بينهم بحكم المسلمين، أو خَلِّ عنهم وأهلَ دينهم يحكمون فيهم، إلا في سرقة أو قتل.
١١٩٨٢ - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق عن ابن
(١) في المطبوعة: "أعرض عنهم"، وأثبت ما في المخطوطة.
329
جريج قال، قال لي عطاء، نحن مخيَّرون، إن شئنا حكمنا بين أهل الكتاب، وإن شئنا أعرضنا فلم نحكم بينهم. وإن حكمنا بينهم حكمنا بحكمنا بيننا، أو نتركهم وحكمهم بينهم= قال ابن جريج: وقال مثل ذلك عمرو بن شعيب. وذلك قوله:"فاحكم بينهم أو أعرض عنهم".
١١٩٨٣ - حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة= وحدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن مغيرة= عن إبراهيم والشعبي في قوله:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، قالا إذا جاءوا إلى حاكم المسلمين، فإن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم. وإن حكم بينهم، حكم بينهم بما في كتاب الله.
١١٩٨٤ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فإن جاءوك فاحكم بينهم"، يقول: إن جاءوك فاحكم بينهم بما أنزل الله، أو أعرض عنهم. فجعل الله له في ذلك رُخْصة، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم.
١١٩٨٥ - حدثنا هناد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي قالا إذا أتاك المشركون فحكَّموك فيما بينهم، فاحكم بينهم بحكم المسلمين ولا تعدُه إلى غيره، أو أعرض عنهم وخلِّهم وأهلَ دينهم.
* * *
وقال آخرون: بل التخيير منسوخٌ، وعلى الحاكم إذا احتكم إليه أهل الذمة أن يحكُم بينهم بالحق، وليس له ترك النظر بينهم.
ذكر من قال ذلك:
١١٩٨٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، نسخت بقوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ). [سورة المائدة: ٤٩].
330
١١٩٨٧ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن السدي قال: سمعت عكرمة يقول: نسختها (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ).
١١٩٨٨ - حدثنا ابن وكيع ومحمد بن بشار قالا حدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن السدي قال: سمعت عكرمة يقول: نسختها: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ).
١١٩٨٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد: لم ينسخ من"المائدة" إلا هاتان الآيتان:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، نسختها: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) [سورة المائدة: ٤٩]، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ) [سورة المائدة: ٢]، نسختها: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [سورة التوبة: ٥]. (١)
١١٩٩٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد قال: نسختها: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ).
١١٩٩١ - حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن منهال قال، حدثنا همام، عن قتادة قوله:"فان جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، يعني اليهود، فأمر الله نبيه ﷺ أن يحكم بينهم، ورخَّص له أن يُعْرض عنهم إن شاء، ثم أنزل الله تعالى ذكره الآية التي بعدها: (وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ) إلى قوله: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) [سورة المائدة: ٤٨]. فأمر الله نبيه ﷺ أن يحكم بينهم بما أنزل الله بعد ما رخَّص له، إن شاء، أن يُعْرض عنهم.
(١) الأثر: ١١٩٨٩- انظر الأثر التالي رقم: ١١٩٩٦، والتعليق عليه.
331
١١٩٩٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزريّ: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عديّ بن عديّ:"إذا جاءك أهل الكتاب فاحكم بينهم".
١١٩٩٣ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن السدي، عن عكرمة قال: نسخت بقوله: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ) [سورة المائدة: ٤٨].
١١٩٩٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الزهري قوله:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، قال: مضت السنة أن يُرَدُّوا قي حقوقهم ومواريثهم إلى أهلِ دينهم، إلا أن يأتوا راغبين في حدٍّ، يحكم بينهم فيه بكتاب الله.
١١٩٩٥ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما نزلت:"فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، كان النبي صلى الله عليه وسلم: إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، ثم نسخها فقال: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)، وكان مجبورًا على أن يحكم بينهم.
١١٩٩٦ - حدثنا محمد بن عمار قال، حدثنا سعيد بن سليمان قال، حدثنا عباد بن العوّام، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد قال: آيتان نسختا من هذه السورة= يعني"المائدة"، آية القلائد، وقوله:"فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، فكان النبيُّ ﷺ مخَّيرًا، إن شاء حكم، وإن شاء أعرض عنهم، فردّهم إلى احتكامهم، (١) أن يحكم بينهم بما في كتابنا. (٢)
* * *
(١) في المطبوعة: "فردهم إلى أن يحكم بينهم"، حذف ما كان في المخطوطة: "فردهم إلى أحكامهم أن يحكم بينهم"، وصواب قراءته ما أثبت.
(٢) الأثر: ١١٩٩٦-"سعيد بن سليمان الضبي"، هو"سعدويه"، ثقة مأمون من شيوخ البخاري، مضى برقم: ٦١١، ٢١٦٨.
و"عباد بن العوام الواسطي"، ثقة، من شيوخ أحمد، مضى برقم: ٢٨٥٣، ٥٤٣٣.
و"سفيان بن حسين الواسطي"، ثقة، تكلموا في روايته عن الزهري. مضى برقم: ٣٤٧١، ٦٤٦٢، ١٠٧٢٣.
و"الحكم"، هو"الحكم بن عتيبة"، تابعي ثقة فقيه مشهور، مضى مرارًا كثيرة.
وهذا الخبر رواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ، من طريق سعيد بن سليمان بمثله، مرفوعًا إلى ابن عباس، ثم قال: "وهذا إسناد مستقيم، وأهل الحديث يدخلونه في المسند".
332
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: إن حكم هذه الآية ثابتٌ لم ينسخ، وأن للحكَّام من الخِيار في الحكم بين أهل العهد إذا ارتفعوا إليهم فاحتكموا، وتركِ الحكم بينهم والنظر، مثلُ الذي جعله الله لرسوله ﷺ من ذلك في هذه الآية.
وإنما قلنا ذلك أولاهما بالصواب، لأن القائلين إن حكم هذه الآية منسوخ، زَعموا أنه نسخ بقوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ) [سورة المائدة: ٤٩] وقد دللنا في كتابنا:"كتاب البيان عن أصول الأحكام": أن النسخ لا يكون نسخًا، إلا ما كان نفيًا لحكمٍ غَيْرِه بكلِّ معانيه، حتى لا يجوز اجتماع الحكم بالأمرين جميعًا على صِحّته بوجه من الوجوه= بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
وإذْ كان ذلك كذلك= وكان غير مستحيل في الكلام أن يقال:"وأن احكم بينهم بما أنزل الله"، ومعناه: وأن أحكم بينهم بما أنزل الله إذا حكمت بينهم، باختيارك الحكم بينهم، إذا اخترت ذلك، ولم تختر الإعراض عنهم، إذ كان قد تقدَّم إعلام المقول له ذلك من قائِله: إنّ له الخيار في الحكم وترك الحكم= (٢) كان معلومًا بذلك أن لا دلالة في قوله:"وأن احكم بينهم بما أنزل الله"، أنه ناسخٌ قوله:"فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئًا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط"، لما وصفنا من احتمال ذلك ما بَيَّنَّا، بل هو
(١) انظر قوله في"النسخ" فيما سلف ٨: ١٢، تعليق ١، والمراجع هناك.
(٢) السياق: و"إذ كان ذلك كذلك، وكان غير مستحيل... كان معلوما".
333
دليل على مثل الذي دلَّ عليه قوله:"وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط".
وإذْ لم يكن في ظاهر التنزيل دليلٌ على نسخ إحدى الآيتين الأخرى، ولا نفي أحد الأمرين حكم الآخر= ولم يكن عن رسول الله ﷺ خبٌر يصحُّ بأن أحدهما ناسخ صاحبَه= ولا من المسلمين على ذلك إجماعٌ= (١) صحَّ ما قلنا من أن كلا الأمرين يؤيِّد أحدهما صاحبه، ويوافق حكمُه حكمَه، ولا نسخ في أحدهما للآخر.
* * *
وأما قوله:"وإن تُعْرِض عنهم فلن يضروك شيئًا"، فإن معناه: وإن تعرض يا محمد، عن المحتكمين إليك من أهل الكتاب، فتدَع النظر بينهم فيما احتكموا فيه إليك، فلا تحكم فيه بينهم (٢) ="فلن يضروك شيئًا"، يقول: فلن يقدِرُوا لك على ضُرَّ في دين ولا دنيا، فدع النظر بينهم إذا اخترت ترك النظر بينهم. (٣)
* * *
وأما قوله:"وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط"، فإن معناه: وإن اخترت الحكم والنَظَر، يا محمد، بين أهل العهدِ إذا أتوك="فاحكم بينهم بالقسط"، وهو العدل، (٤) وذلك هو الحكم بما جعله الله حكمًا في مثله على جميع خلقِه من أمة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١١٩٩٧ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة،
(١) السياق:
"وإذ لم يكن في ظاهر التنزيل دليل صح ما قلنا"، وما بينهما عطف على صدر الكلام.
(٢) انظر تفسير" الإعراض". فيما سلف ٩: ٣١٠، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير" الضر" فيما سلف ٧: ١٥٧.
(٤) انظر تفسير"القسط" فيما سلف ص: ٩٥، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
334
عن إبراهيم والشعبي:"وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط"، قالا إن حكم بينهم، حكم بما في كتاب الله.
١١٩٩٨ - حدثنا سفيان قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن العوَّام بن حوشب، عن إبراهيم:"وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط"، قال: أمر أن يحكم فيهم بالرجم.
١١٩٩٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن العوّام، عن إبراهيم التيمي في قوله:"وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط"، قال: بالرجم.
٢١٠٠٠ - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"بالقسط" بالعدل.
١٢٠٠١ - حدثنا هناد قال، حدثنا هشيم، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي في قوله:"فاحكم بينهم بالقسط"، قال: أمر أن يحكم بينهم بالرجم.
* * *
وأما قوله:"إن الله يحب المقسطين"، فمعناه: إن الله يحب العادلين في حكمهم بين الناس، (١) القاضين بينهم بحكم الله الذي أنزله في كتابه وأمْرِه أنبياءَه صلوات الله عليهم. (٢)
* * *
يقال منه:"أقسط الحاكم في حكمه"، (٣) إذا عدل وقضى بالحق،"يُقْسِط
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "العاملين في حكمه بين الناس"، وهو كلام فارغ المعنى. وصواب قراءته ما أثبت، إنما حرفه الناسخ بلا ريب.
(٢) في المطبوعة: "وأمر أنبياءه"، وهو اختلال في السياق، صوابه من المخطوطة، وصواب ضبطه ما رسمت، "وأمره" مصدر معطوف على قوله: "في كتابه".
(٣) انظر تفسير" أقسط" و"قسط" فيما سلف ٦: ٧٧، ٢٧٠/٧: ٥٤١/٩: ٣٠١/١٠: ٩٥، ٣٢٥
335
إقساطًا"= وأما"قسط"، فمعناه: الجور، (١) ومنه قول الله تعالى ذكره: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) [سورة الجن: ١٥]، يعني بذلك: الجائرين عن الحق.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وكيف يحكمك هؤلاء اليهود، يا محمد، بينهم، فيرضون بك حكمًا بينهم="وعندهم التوراة" التي أنزلتها على موسى، التي يقرُّون بها أنها حق، وأنها كتابي الذي أنزلته إلى نبيي، (٢) وأن ما فيه من حكم فمن حكمي، يعلمون ذلك لا يتناكرونه، ولا يتدافعونه، ويعلمون أن حكمي فيها على الزاني المحصن الرجم، وهم مع عملهم بذلك="يتولون"، يقول: يتركون الحكم به، بعد العلم بحكمي فيه، جراءة عليّ وعصيانًا لي. (٣)
وهذا، وإن كان من الله تعالى ذكره خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه تقريعٌ منه لليهود الذين نزلت فيهم هذه الآية. يقول لهم تعالى ذكره: كيف تقرّون، أيها اليهود، بحكم نبيّي محمد صلى الله عليه وسلم، مع جحودكم نبوته وتكذيبكم إياه، وأنتم تتركون حكمي الذي تقرون به أنه حق عليكم واجبٌ، جاءكم به موسى من عند الله؟ يقول: فإذْ كنتم تتركون حكمي الذي جاءكم به موسى الذي تقرّون
(١) قوله: "وأما "قسط"، فمعناه"الجور"، هذه الجملة ليست في المخطوطة، ولكن لا غنى عنها، فلذلك رجحت إثباتها كما هي في المطبوعة. وفي المطبوعة"وإقساطا به"، بزيادة"به"، ولا معنى لها، وليست في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: على"نبيي"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) انظر تفسير" تولى" فيما سلف ٩: ١٨، تعليق ١، والمراجع هناك.
336
بنبوّته في كتابي، فأنتم بترك حكمي الذي يخبركم به نبيِّي محمد أنه حكمي- أحْرَى، مع جحودكم نبوَّته.
* * *
ثم قال تعالى ذكره مخبرًا عن حال هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآية عنده، وحال نظرائهم من الجائرين عن حكمه، الزائلين عن محجّة الحق="وما أولئك بالمؤمنين"، يقول: ليس من فعل هذا الفعل- أي: من تولّى عن حكم الله، الذي حكم به في كتابه الذي أنزله على نبيه، في خلقه (١) = بالذي صدَّق الله ورسوله فأقرّ بتوحيده ونبوّة نبيه صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك ليس من فِعل أهل الإيمان.
* * *
وأصل"التولى عن الشيء"، الانصرافُ عنه، كما:-
١٢٠٠٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير:"ثم يتولون من بعد ذلك"، قال:"توليهم"، ما تركوا من كتاب الله.
١٢٠٠٣ - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله"، يعني: حدود الله، فأخبر الله بحكمه في التوراة.
١٢٠٠٤ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وعندهم التوراة فيها حكم الله"، أي: بيان الله ما تشاجروا فيه من شأن قتيلهم="ثم يتولون من بعد ذلك"، الآية.
١٢٠٠٥ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، قال= يعني الرب تعالى ذكره= يعيِّرهم:"وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله"، يقول: الرجم.
* * *
(١) السياق: "... الذي حكم به في كتابه... في خلقه".
337
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنا أنزلنا التوراة فيها بيانُ ما سألك هؤلاء اليهود عنه من حكم الزانيين المحصنين (١)
="ونور"، يقول: فيها جلاء ما أظلم عليهم، وضياءُ ما التبس من الحكم (٢) ="يحكم" بها النبيون الذين أسلموا"، يقول: يحكم بحكم التوراة في ذلك، أي: فيما احتكموا إلى النبي ﷺ فيه من أمر الزانيين="النبيون الذين أسلموا"، وهم الذين أذعنوا لحكم الله وأقرُّوا به. (٣)
* * *
وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك نبيّنا محمدا صلى الله عليه وسلم، في حكمه على الزانيين المحصنين من اليهود بالرجم، وفي تسويته بين دم قتلى النّضير وقريظة في القِصاص والدِّية، ومَنْ قبل محمد من الأنبياء يحكم بما فيها من حكم الله، كما:-
١٢٠٠٦ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا"، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
١٢٠٠٧ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن نبيّ الله ﷺ كان يقول لما أنزلت هذه الآية: نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان.
١٢٠٠٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، قال، حدثنا رجل من مزينة ونحن عند سعيد بن المسيب،
(١) انظر تفسير" الهدى" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٢) انظر تفسير"نور" فيما سلف ٥: ٤٢٤/٩: ٤٢٨/١٠: ١٤٥
(٣) انظر تفسير" الإسلام" فيما سلف من فهارس اللغة.
338
عن أبي هريرة قال: زنى رجل من اليهود وامرأة، (١) فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه نبي بُعِث بتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا:"فُتْيَا نبي من أنبيائك"!! قال: فأتوا النبي ﷺ وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم، ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يكلمهم كلمة، حتى أتى بيت مِدْراسهم، (٢) فقام على الباب فقال: أنشدُكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمّم ويجبَّه ويجلد="والتجبيه"، أن يحمل الزانيان على حمار، تُقَابل أقفيتهما، ويطاف بهما= وسكت شابٌّ [منهم]، (٣) فلما رآه سكت، ألظَّ به النِّشْدَةَ، (٤) فقال: اللهم إذ نشدتَنا، فإنا نجد في التوراة الرجْمَ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فما أوّل ما ارْتَخَصْتم أمر الله؟ (٥) قال: زنى رجل ذو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخَّر عنه الرجم. (٦) ثم زنى رجل في أسْوة من الناس، (٧) فأراد رَجْمَه، فحال قومه دونه وقالوا: لا ترجمْ صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه! فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أحكم بما في التوراة! فأمر بهما فرجما= قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم:"إنا أنزلنا التوراة فيها هدًى ونورٌ يحكم بها النبيون الذين أسلموا"، فكان النبيُّ منهم. (٨)
١٢٠٠٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"يحكم بها النبيون الذين أسلموا"، النبي ﷺ ومَنْ قبله من الأنبياء، يحكمون بما فيها من الحق.
(١) في المطبوعة: "بامرأة"، وأثبت ما كان هنا في المخطوطة، وهو مطابق لما في تفسير عبد الرزاق. انظر التخريج.
(٢) في المطبوعة"بيت المدراس"، وفي المخطوطة: "بيت مدراس"، وفوق"مدراس" حرف"ط"، دلالة على الخطأ، وما أثبته هو الصواب، من تفسير عبد الرزاق. وقد مضى تفسير"بيت المدراس" فيما سلف ص: ٣٠٣، تعليق: ١.
(٣) ما بين القوسين زيادة من تفسير عبد الرزاق.
(٤) "ألظ به"، ألح عليه، وقد مضى تفسيرها في ص: ٣٠٤: تعليق: ٢. و"النشدة": الاستحلاف بالله. يقال: "نشدتك الله نشدة ونشدة" (بفتح النون وكسرها) و"نشدانًا" (بكسر النون) : استحلفتك بالله.
وفيما نقله أخي السيد أحمد من تفسير عبد الرزاق (المخطوط) :"النشيد"؛ وقال أخي: "في أبي داود: النشدة"، وفي رواية أبي جعفر عن عبد الرزاق، اختلاف آخر عنه. و"النشيد": رفع الصوت، هكذا قالوا. وعندي أنه مصدر"نشدتك الله"، يزاد على مصادره.
(٥) في المطبوعة: "ما ارتخص أمر الله"، وفي المخطوطة: ما يحصص" [محذوفة النقط]، وهو خطأ لاشك فيه، وأثبت ما في تفسير عبد الرزاق.
(٦) قوله: "فأخر عنه الرجم"؛ أي: أسقط عنه الحد، كأنه أبعده عنه وصرفه أن يلحقه. وفي الخبر أن رسول الله ﷺ قال لعمر: "أخر عني يا عمر"، قالوا في معناه: "معناه: أخر عني رأيك أو نفسك، فاختصر إيجازا وبلاغة". فقصروا في شرحه، وإنما أراد معنى صرفه وإبعاده. وهو في هذا الخبر بالمعنى الذي فسرته. وهو مما يزاد على كتب اللغة، أو على بيانها على الأصح.
(٧) في المطبوعة: "في أسرة من الناس"، وهي بمثل ذلك في مخطوطة تفسير عبد الرزاق، ثم هي كذلك في سنن أبي داود وغيره. وفسروها فقالوا"الأسرة: عشيرة الرجل وأهل بيته، لأنه يتقوى بهم".
بيد أني أثبت ما هو واضح في المخطوطة: "في أسوة" بالواو، والواو هناك واضحة جدا، كبيرة الرأس، وما أظن الناسخ وضعها كذلك من عند نفسه، بل أرجح أنه وجد"الواو" ظاهرة في نسخة التفسير العتيقة التي نقل عنها، فأثبتها واضحة لذلك. فلو صح ما في المخطوطة، فهو عندي أرجح من رواية"في أسرة". وبيانها أنهم يقولون: "القوم أسوة في هذا الأمر"، أي: حالهم فيه واحدة. فأراد بقوله: "في أسوة من الناس"، أي: حاله حال سائر الناس، ليس من أشرافهم، أو من أهل بيت المملكة منهم، فهو يعامل كما يعامل سائر العامة. وقد جاء في أخبار رجم اليهوديين: "كنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد" (انظر ما سلف رقم: ١١٩٢٢). فهو يعني بقوله: "في أسوة من الناس"، أنه من ضعفائهم وعامتهم. وهذا أرجح عندي من"في أسرة من الناس"، فإنه يوشك أن يكون"في أسرة من الناس"، مما يوحي بأن له عشيرة يحمونه ويدفعون عنه ويتقوى بهم، وهو خلاف ما يدل عليه سياق هذا الخبر.
ولولا أني لا أجد في يدي البرهان القاطع، لقلت إن الذي في المخطوطة هو الصواب. وذلك أني أذكر أني قرأت مثل هذا التعبير في غير هذا الموضع، وجهدت أن أجده، فلم أظفر بطائل. فإذا وجدته في مكان آخر أثبته إن شاء الله، وكان حجة في المعنى الذي فسرته، وفوق كل ذي علم عليم.
(٨) الأثر: ١٢٠٠٨- انظر تخريج هذا الخبر فيما سلف في التعليق على الأثرين، رقم: ١١٩٢٣، ١١٩٢٤.
وقد نقله أخي السيد أحمد في مسند أحمد في التعليق على الخبر رقم: ٧٧٤٧، من مخطوطة تفسير عبد الرزاق، ولم يشر إلى موضعه هنا من تفسير الطبري. وقد بينت الاختلاف بين الروايتين فيما سلف من التعليقات.
339
١٢٠١٠ - حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن عوف، عن الحسن في قوله:"يحكم بها النبيون الذين أسلموا"، يعني النبي صلى الله عليه وسلم="للذين هادوا"، يعني اليهود، (١) فاحكم بينهم ولا تخشهم.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويحكم بالتوراة وأحكامها التي أنزل الله فيها في كل زمان -على ما أمر بالحكم به فيها- مع النبيين الذين أسلموا="الربانيون والأحبار".
* * *
و"الربانيون" جمع"رَبَّانيّ"، وهم العُلماء الحكماء البُصراء بسياسة الناس، وتدبير أمورهم، والقيام بمصالحهم= و"الأحبار"، هم العلماء.
* * *
وقد بينا معنى"الربانيين" فيما مضى بشواهده، وأقوالَ أهل التأويل فيه. (٢)
* * *
وأما"الأحبار"، فإنهم جمع"حَبْر"، وهو العالم المحكم للشيء، ومنه قيل لكعْب:"كعب الأحبار".
وكان الفراء يقول: أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد"الأحبار"،"حِبْر" بكسر"الحاء". (٣)
* * *
(١) انظر تفسير"هاد" فيما سلف ص: ٣٠٩، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير"الربانيون" فيما سلف ٦: ٥٤٠، ٥٤٤، وفيه بيان لا يستغني عن معرفته بصير باللغة.
(٣) انظر تفسير"الأحبار" فيما سلف ٦: ٥٤١، ٥٤٢ (الأثر: ٧٣١٢)، ثم ص: ٥٤٤.
341
وكان بعض أهل التأويل يقول: عُنِي بـ"الربانيين والأحبار" في هذا الموضع: ابنا صوريا اللذان أقرَّا لرسول الله ﷺ بحكم الله تعالى ذكره في التوراة على الزانيين المحصنين.
ذكر من قال ذلك:
١٢٠١١ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان رجلان من اليهود أخوان، يقال لهما ابنا صُوريا، وقد اتبعا النبيّ ﷺ ولم يسلما، وأعطياه عهدًا أن لا يسألهما عن شيء في التوراة إلا أخبراه به. وكان أحدُهما رِبِّيًّا، والآخر حَبْرًا. وإنما اتَّبعا النبى ﷺ يتعلمان منه. فدعاهما، فسألهما، فأخبراه الأمر كيف كان حين زَنَى الشريف وزنى المسكين، وكيف غيَّروه، فأنزل الله:"إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا"، يعني النبي صلى الله عليه وسلم="والربانيون والأحبار"، هما ابنا صوريا، للذين هادوا. ثم ذكر ابني صوريا فقال:"والربانيون والأحبار بما استُحْفِظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء".
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنّ التوراة يحكم بها مسلمو الأنبياء لليهود، والربانيون من خلقه والأحبار. وقد يجوز أن يكون عُني بذلك ابنا صوريا وغيرهما، غير أنه قد دخل في ظاهر التتزيل مسلمو الأنبياء وكل رَبَّاني وحبر. ولا دلالة في ظاهر التنزيل على أنه معنيٌّ به خاص من الربانيين والأحبار، ولا قامت بذلك حجة يجب التسليم لها. فكل رباني وحبر داخلٌ في الآية بظاهر التنزيل.
* * *
وبمثل الذي قلنا في تأويل"الأحبار"، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
342
١٢٠١٢ - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة، عن الضحاك:"الربانيون" و"الأحبار"، قُرّاؤهم وفقهاؤهم.
١٢٠١٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن أشعث، عن الحسن:"الربانيون والأحبار"، الفقهاء والعلماء.
١٢٠١٤ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"الربانيون"، العلماء الفقهاء، وهم فوق"الأحبار". (١)
١٢٠١٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"الربانيون"، فقهاء اليهود="والأحبار"، علماؤهم.
١٢٠١٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا سنيد بن داود قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة:"والربانيون والأحبار"، كلهم يحكم بما فيها من الحق.
١٢٠١٧ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد"الربانيون"، الولاة،="والأحبار"، العلماء.
* * *
وأما قوله:"بما استحفظوا من كتاب الله"، فإن معناه: يحكم النبيون الذين أسلموا بحكم التوراة، والربانيون والأحبار = يعني العلماء= بما استُودعوا علمه من كتاب الله الذي هو التوراة.
* * *
و"الباء" في قوله:"بما استحفظوا"، من صلة"الأحبار".
* * *
وأما قوله:"وكانوا عليه شهداء"، فإنه يعني: أن الربانيين والأحبار بما استودعوا من كتاب الله، يحكمون بالتوراة مع النبيين الذين أسلموا للذين هادوا، وكانوا على حكم النبيين الذين أسلموا للذين هادوا شهداء أنهم قضوا عليهم بكتاب الله الذي أنزله على نبيه موسى وقضائه عليهم، (٢) كما:-
(١) الأثر: ١٢٠١٤- انظر قوله مجاهد بإسناد آخر رقم: ٧٣١٢.
(٢) انظر تفسير"الشهداء" فيما سلف من فهارس اللغة (شهد).
343
١٢٠١٨ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وكانوا عليه شهداء"، يعني الربانيين والأحبار، هم الشهداء لمحمد ﷺ بما قال، أنه حق جاء من عند الله، فهو نبي الله محمد، أتته اليهود. فقضى بينهم بالحق.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لعلماء اليهود وأحبارهم: لا تخشوا الناس في تنفيذ حكمي الذي حكمت به على عبادي، وإمضائه عليهم على ما أمرت، فإنهم لا يقدرون لكم على ضر ولا نفع إلا بإذني، ولا تكتموا الرجمَ الذي جعلته حُكمًا في التوراة على الزانيين المحصنين، ولكن اخشوني دون كل أحدٍ من خلقي، فإن النفع والضر بيدي، وخافوا عقابي في كتمانكم ما استُحفِظتم من كتابي. (١) كما:-
١٢٠١٩ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فلا تخشوا الناس واخشون"، يقول: لا تخشوا الناس فتكتموا ما أنزلت.
* * *
وأما قوله:"ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا" يقول: ولا تأخذوا بترك الحكم بآيات كتابي الذي أنزلته على موسى، أيها الأحبار، عوضًا خسِيسًا= وذلك هو"الثمن القليل". (٢)
(١) انظر تفسير"الخشية" فيما سلف ٩: ٥١٧، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير"الاشتراء" فيما سلف ٨: ٥٤٢، تعليق: ٢، والمراجع هناك= وتفسير"الثمن القليل" فيما سلف ٧: ٥٠٠، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
344
وإنما أراد تعالى ذكره، نهيَهم عن أكل السحت على تحريفهم كتاب الله، وتغييرهم حكمه عما حكم به في الزانيين المحصنين، وغير ذلك من الأحكام التي بدَّلوها طلبًا منهم للرشَى، كما:-
١٢٠٢٠ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا"، قال: لا تأكلوا السحت على كتابي= وقال مرة أخرى، قال قال ابن زيد في قوله:"ولا تشتروا بآياتي ثمنًا" قال: لا تأخذوا به رشوة. (١)
١٢٠٢١ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا"، ولا تأخذوا طَمَعًا قليلا على أن تكتموا ما أنزلت. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون (٤٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن كتم حُكم الله الذي أنزله في كتابه وجعله حكمًا يين عباده، فأخفاه وحكم بغيره، كحكم اليهود في الزانيين المحصنين بالتجبيه والتحميم، وكتمانهم الرجم، (٣) وكقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفي بعض بنصف الدية، وفي الأشراف بالقِصاص، وفي الأدنياء بالدية، وقد سوَّى الله بين جميعهم في الحكم عليهم في التوراة="فأولئك هم الكافرون"، يقول:
(١) في المخطوطة: "في قوله: لا تشتر ثمنًا، قال: لا تأخذ به رشوة"، وتركت ما في المطبوعة على حاله.
(٢) في المطبوعة: "طعمًا قليلا"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الموافق لما في الآثار السالفة. انظر ما سلف الآثار رقم: ٨٢١، ٢٤٩٨، ٨٣٣٣.
(٣) "التجبيه"، و"التحميم"، مضى تفسيره في الآثار والتعليقات السالفة.
345
هؤلاء الذين لم يحكموا بما أنزل الله في كتابه، ولكن بدَّلوا وغيروا حكمه، وكتموا الحقَّ الذي أنزله في كتابه="هم الكافرون"، يقول: هم الذين سَتَروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبيينُه، وغطَّوه عن الناس، وأظهروا لهم غيره، وقضوا به، لسحتٍ أخذوه منهم عليه. (١)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل"الكفر" في هذا الموضع.
فقال بعضهم بنحو ما قلنا في ذلك، من أنه عنى به اليهود الذين حَرَّفوا كتاب الله وبدَّلوا حكمه.
ذكر من قال ذلك:
١٢٠٢٢ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب، عن النبي ﷺ في قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [سورة المائدة: ٤٥]، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [سورة المائدة: ٤٧]، في الكافرين كلها. (٢)
١٢٠٢٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن القاسم قال، حدثنا أبو حيان، عن أبي صالح قال: الثلاث الآيات التي في"المائدة"،"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"= (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، ليس في أهل الإسلام منها شيءٌ، هي في الكفار. (٣)
(١) انظر تفسير"الكافر" فيما سلف من فهارس اللغة (كفر).
(٢) الأثر: ١٢٠٢٢- مضى تخريج هذا الأثر، مطولا فيما سلف رقم: ١١٩٢٢، وتتمته برقم: ١١٩٣٩، ورواه أبو جعفر هناك مختصرًا، وهذا تمامه هنا.
(٣) الأثر: ١٢٠٢٣-"أبو حيان" هو: "يحيى بن سعيد بن حيان التيمي"، سلف برقم: ٥٣٨٢، ٥٣٨٣، ٦٣١٨، ٨١٥٥. وكان في المخطوطة هنا: "أبو حباب"، وفي الأثر التالي، أيضا وكأن الراجح هو ما أثبت في المطبوعة. وانظر التعليق على الأثر التالي.
346
١٢٠٢٤ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي حيان، عن الضحاك:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، و"الظالمون" و"الفاسقون"، قال: نزلت هؤلاء الآيات في أهل الكتاب. (١)
١٢٠٢٥ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت عمران بن حدير قال، أتى أبا مجلز ناسٌ من بني عمرو بن سدوس، فقالوا: يا أبا مجلز، أرأيت قول الله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، أحق هو؟ قال: نعم! قالوا: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، أحق هو؟ قال: نعم! قالوا: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، أحق هو؟ قال: نعم! قال فقالوا: يا أبا مجلز، فيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟ قال: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون، وإليه يدْعون، فإن هم تركوا شيئًا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبًا! فقالوا: لا والله، ولكنك تَفْرَقُ! (٢) قال: أنتم أولى بهذا مني! لا أرى، وإنكم أنتم ترون هذا ولا تحرَّجُون، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك= أو نحوًا من هذا.
١٢٠٢٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن عمران بن حدير قال: قعد إلى أبي مجلز نفرٌ من الإبَاضيَّة، قال فقالوا له: يقول الله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"،"فأولئك هم الظالمون"،"فأولئك هم الفاسقون"! قال أبو مجلز: إنهم يعملون بما يعلمون = يعني الأمراء = ويعلمون أنه ذنب! (٣) قال: وإنما أنزلت هذه الآية في اليهود! والنصارى قالوا:
(١) الأثر: ١٢٠٢٤-"أبو حبان"، "يحيى بن سعيد بن حيان التيمي"، انظر التعليق على الأثر السالف، و"أبو حيان التيمي"، يروي عن الضحاك. وكان في المطبوعة هنا أيضا"أبي حباب". وانظر التعليق على الأثر السالف.
(٢) في المطبوعة: "ولكنك تعرف"، وهو خطأ صرف، صوابه في المخطوطة."فرق يفرق فرقًا": فرغ وجزع.
(٣) في المطبوعة: "إنهم يعملون ما يعملون"، وفي المخطوطة: "إنه يعملون بما يعملون"، وصواب القراءة ما أثبت.
347
أما والله إنك لتعلم مثل ما نعلم، ولكنك تخشاهم! قال: أنتم أحق بذلك منّا! أمّا نحن فلا نعرف ما تعرفون! [قالوا] :(١) ولكنكم تعرفونه، ولكن يمنعكم أن تمضوا أمركم من خشيتهم! (٢)
١٢٠٢٧ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان= عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري، عن حذيفة في قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كانت لكم كل حُلْوة، ولهم كل مُرَّة!! ولتسلُكُنَّ طريقَهم قِدَى الشِّراك. (٣)
(١) ظاهر السياق يقتضي زيادة ما زدت بين القوسين، فهو منهم تقريع لأبي مجلز وسائر من يقول بقوله، ويخالف الإباضية.
(٢) الأثران: ١٢٠٢٥، ١٢٠٢٦- اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة. وبعد، فإن أهل الريب والفتن ممن تصدروا للكلام في زماننا هذا، قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله، وفي القضاء في الدماء والأعراض والأموال بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه، وفي اتخاذهم قانون أهل الكفر شريعة في بلاد الإسلام. فلما وقف على هذين الخبرين، اتخذهما رأيًا يرى به صواب القضاء في الأموال والأعراض والدماء بغير ما أنزل الله، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا تكفر الراضي بها، والعامل عليها.
والناظر في هذين الخبرين لا محيص له عن معرفة السائل والمسئول، فأبو مجلز (لاحق بن حميد الشيباني السدوسي) تابعي ثقة، وكان يحب عليا رضي الله عنه. وكان قوم أبي مجلز، وهم بنو شيبان، من شيعة علي يوم الجمل وصفين. فلما كان أمر الحكمين يوم صفين، واعتزلت الخوارج، كان فيمن خرج على علي رضي الله عنه، طائفة من بني شيبان، ومن بني سدوس بن شيبان بن ذهل. وهؤلاء الذين سألوا أبا مجلز، ناس من بني عمرو بن سدوس (كما في الأثر: ١٢٠٢٥)، وهم نفر من الإباضية (كما في الأثر: ١٢٠٢٦)، والإباضية من جماعة الخوارج الحرورية، هم أصحاب عبد الله بن إباض التيمي (انظر هذا التفسير ٧: ١٥٢-١٥٣، تعليق: ١)، وهم يقولون بمقالة سائر الخوارج في التحكيم، وفي تكفير علي رضي الله عنه إذ حكم الحكمين، وأن عليًا لم يحكم بما أنزل الله، في أمر التحكيم. ثم إن عبد الله بن إباض قال" إن من خالف الخوارج كافر ليس بمشرك، فخالف أصحابه، وأقام الخوارج على أن أحكام المشركين تجري على من خالفهم.
ثم افترقت الإباضية بعد عبد الله بن إباض الإمام افتراقًا لا ندري معه -في أمر هذين الخبرين- من أي الفرق كان هؤلاء السائلون، بيد أن الإباضية كلها تقول: إن دور مخالفيهم دور توحيد، إلا معسكر السلطان فإنه دار كفر عندهم. ثم قالوا أيضًا: إن جميع ما افترض الله سبحانه على خلقه إيمان، وأن كل كبيرة فهي كفر نعمة، لا كفر شرك، وأن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها.
ومن البين أن الذين سألوا أبا مجلز من الإباضية، إنما كانوا يريدون أن يلزموه الحجة في تكفير الأمراء، لأنهم في معسكر السلطان، ولأنهم ربما عصوا أو ارتكبوا بعض ما نهاهم الله عن ارتكابه. ولذلك قال لهم في الخبر الأول (رقم: ١٢٠٢٥) :"فإن هم تركوا شيئًا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبًا"، وقال لهم في الخبر الثاني"إنهم يعملون بما يعملون ويعلمون أنه ذنب".
وإذن، فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا، من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام، بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. فهذا الفعل إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه.
والذي نحن فيه اليوم، هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في شريعة الله، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع، على أحكام الله المنزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا، ولعلل وأسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها. فأين هذا مما بيناه من حديث أبي مجلز، والنفر من الإباضية من بني عمرو بن سدوس!!
ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مجلز، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة. فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكما وجعله شريعة ملزمة للقضاء بها. هذه واحدة. وأخرى، أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم الله فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة. وإما أن يكون حكم بها هوى ومعصية، فهذا ذنب تناوله التوبة، وتلحقه المغفرة. وإما أن يكون حكم به متأولا حكمًا خالف به سائر العلماء، فهذا حكمه حكم كل متأول يستمد تأويله من الإقرار بنص الكتاب، وسنة رسول الله.
وأما أن يكون كان في زمن أبي مجلز أو قبله أو بعده حاكم حكم بقضاء في أمر، جاحدًا لحكم من أحكام الشريعة، أو مؤثرًا لأحكام أهل الكفر على أحكام أهل الإسلام، فذلك لم يكن قط. فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه. فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير بابها، وصرفها إلى غير معناها، رغبة في نصرة سلطان، أو احتيالا على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله وفرض على عباده، فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله: أن يستتاب، فإن أصر وكابر وجحد حكم الله، ورضى بتبديل الأحكام= فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين. واقرأ كلمة أبي جعفر بعد ص: ٣٥٨، من أول قوله: "فإن قال قائل". ففيه قول فصل. وتفصيل القول في خطأ المستدلين بمثل هذين الخبرين، وما جاء من الآثار هنا في تفسير هذه الآية، يحتاج إلى إفاضة، اجتزأت فيها بما كتبت الآن، وكتبه محمود محمد شاكر.
(٣) الأثر: ١٢٠٢٧-"حبيب بن أبي ثابت الأسدي"، ثقة صدوق. مضى برقم: ٩٠١٢، ٩٠٣٥، ١٠٤٢٣.
و"أبو البختري"، هو"سعيد بن فيروز الطائي"، تابعي ثقة، يرسل الحديث عن عمر وحذيفة وسلمان وابن مسعود. قال ابن سعد في الطبقات ٦: ٢٠٤: "وكان أبو البختري كثير الحديث، يرسل حديثه، ويروي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع من كبير أحد. فما كان من حديثه سماعًا فهو حسن، وما كان"عن"، فهو ضعيف". ومضى برقم: ١٧٥، ١٤٩٧، فهو حديث منقطع، لأن أبا البختري لم يسمع من حذيفة.
وقوله: "قدى" (بكسر القاف وفتح الدال). يقال: "هو مني قيد رمح" (بكسر القاف) و"قاد رمح" و"قدى رمح" بمعنى، واحد: أي: قدر رمح، قال هدبة بن الخشرم:
وَإِنِّي إِذَا مَا المَوْتُ لَمْ يَكُ دُونَهُ قِدَى الشِّبْرِ، أَحْمِي الأنْفَ أَنْ أَتَأَخَّرَا
و"الشراك": سير النعل، ويضرب به المثل في الصغر والقصر. يريده تشبونهم: لا يكاد أمركم يختلف إلا قدر كذا وكذا.
وكان في المطبوعة هنا: "قدر الشراك"، وأثبت ما في المخطوطة، في هذا الأثر، وفي رقم: ١٢٠٣٠.
وخبر حذيفة، رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٣١٢، ٣١٣، من طريق جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، قال: "كنا عند حذيفة، فذكروا: "ومن لم يحكم لما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، فقال رجل من القوم: إن هذه في بني إسرائيل! فقال حذيفة: نعم الإخوة بنو إسرائيل، إن كان لكم الحلو، ولهم المر! كلا، والذي نفسي بيده، حتى تحذوا السنة بالسنة حذو القذة بالقذة". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي."السنة": الطريقة المتبعة. و"القذة": ريش السهم، يقدر الريش بعضه على بعض ليخرج متساويا.
348
١٢٠٢٨ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي حيان، عن الضحاك:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، و"الظالمون" و"الفاسقون"، قال: نزلت هؤلاء الآيات في أهل الكتاب.
١٢٠٢٩ - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري قال: قيل لحذيفة:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، ثم ذكر نحو حديث ابن بشار، عن عبد الرحمن.
١٢٠٣٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري قال: سأل رجل حذيفة عن هؤلاء الآيات:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"،"فأولئك هم الظالمون""فأولئك هم الفاسقون"، قال فقيل: ذلك في بني إسرائيل؟ قال: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كانت لهم كل مُرَّة، ولكم كل حلوة! كلا والله، لتسلكن طريقَهم قِدَى الشراك. (١)
(١) الأثران: ١٢٠٢٩، ١٢٠٣٠- طريقان أخريان للأثر السالف رقم: ١٢٠٢٧، وكان في الأثر الأخير هنا في المطبوعة: "قدر الشراك"، وأثبت ما في المخطوطة. انظر التعليق السالف.
350
١٢٠٣١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن رجل، عن عكرمة قال: هؤلاء الآيات في أهل الكتاب.
١٢٠٣٢ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، ذكر لنا أن هؤلاء الآيات أنزلت في قتيل اليهود الذي كان منهم. (١)
١٢٠٣٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، و"الظالمون"، و"الفاسقون"، لأهل الكتاب كلّهم، لما تركوا من كتاب الله.
١٢٠٣٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب قال: مُرَّ على النبي ﷺ بيهوديّ محمَّم مجلود، فدعاهم فقال: هكذا تجدون حدَّ من زنى؟ قالوا: نعم! فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم؟ قال: لا ولولا أنك أنشَدتني بهذا لم أخبرك، نجد حدَّه في كتابنا الرجم، ولكنه كثُر في أشرافنا، فكُنا إذا أخذنا الشّريف تركناه، وإذا أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحدّ، فقلنا: تعالوا فلنجتمع جميعًا على التحميم والجلد مكانَ الرجْم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنّي أول من أحيَى أمرك إذْ أماتوه! فأمر به فرجم، فأنزل الله:"يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" إلى قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، يعني اليهود:"فأولئك هم الظالمون"، يعني اليهود:"فأولئك هم الفاسقون"، للكفار كلها. (٢)
(١) في المطبوعة: "في قيل اليهود"، وفي المخطوطة: "في قبيل اليهود"، والصواب ما أثبت. وقد مضى خبر هذا القتيل مرارًا، وسيأتي قريبًا برقم: ١٢٠٣٧.
(٢) الأثر: ١٢٠٣٤- مضى تخريج هذا الأثر برقم: ١١٩٢٢، من طرق أخرى وسيأتي برقم: ١٢٠٣٦.
351
١٢٠٣٥ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: من حكم بكتابه الذي كتب بيده، وترك كتاب الله، وزعم أن كتابه هذا من عند الله، فقد كفر.
١٢٠٣٦ - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو حديث القاسم، عن الحسن= غير أن هنادًا قال في حديثه: فقلنا: تعالوا فلنجتمع في شيء نقيمه على الشريف والضعيف، فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم- وسائر الحديث نحو حديث القاسم. (١)
١٢٠٣٧ - حدثنا الربيع قال، حدثنا ابن وهب قال، حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه قال: كنا عند عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فذكر رجل عنده:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"،"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"،"ومن ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، فقال عبيد الله: أمَا والله إن كثيرًا من الناس يتأوَّلون هؤلاء الآيات على ما لم ينزلنَ عليه، وما أُنزلن إلا في حيين من يهود. ثم قال: هم قريظة والنضير، وذلك أنّ إحدى الطائفتين كانت قد غزت الأخرى وقهرتها قبل قدوم النبيّ ﷺ المدينةَ، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزةُ من الذليلة، فديته خمسون وَسْقًا، (٢) وكل قتيل قتلته الذَّليلة من العزيزة، فدِيَته مئة وَسْق. فأعطوهم فَرَقًا وضيمًا. (٣) فقدم النبي ﷺ وهم على ذلك، فذلَّت الطائفتان بمقدَم النبي صلى الله عليه وسلم، والنبيُّ ﷺ لم يظهر عليهما. فبيْنا هما على
(١) الأثر: ١٢٠٣٤- مضى تخريجه برقم: ١١٩٢٢، ورقم: ١٢٠٣٤.
(٢) "الوثق" (بفتح الواو كسرها) : حمل بعير، أو ستون صاعًا، وهو مكيال لهم.
(٣) "الفرق" (بفتحتين) الفزع، والجزع. و"الضيم": الظلم. يقول: فقبلوا ذلك خوفًا من بطشهم وجزعًا، ورضى بالظلم منهم.
352
ذلك، أصابت الذليلة من العزيزة قتيلا فقالت العزيزة: أعطونا مائة وسق! فقالت الذليلة: وهل كان هذا قط في حَيَّين دينهما واحد، وبلدهما واحد، ديةُ بعضهم ضعفُ دية بعض! إنما أعطيناكم هذا فَرَقًا منكم وضيمًا، فاجعلوا بيننا وبينكم محمدًا صلى الله عليه وسلم. فتراضيا على أن يجعلوا النبيَّ ﷺ بينهم. ثم إن العزيزة تذاكرت بينها، (١) فخشيت أن لا يعطيها النبيُّ ﷺ من أصحابها ضعف ما تعطِي أصحابها منها، فدسُّوا إلى النبي ﷺ إخوانهم من المنافقين، فقالوا لهم: اخبرُوا لنا رأيَ محمد صلى الله عليه وسلم، فإن أعطانا ما نريد حكَّمناه، وإن لم يعطنا حذرناه ولم نحكمه! فذهب المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأعلم الله تعالى ذكره النبيَّ ﷺ ما أرادوا من ذلك الأمر كله= قال عبيد الله: فأنزل الله تعالى ذكره فيهم:"يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يُسَارعون في الكفر"، هؤلاء الآيات كلهن، حتى بلغ:"وليحكُم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه" إلى"الفاسقون"= قرأ عبيد الله ذلك آيةً آيةً، وفسَّرها على ما أُنزل، حتى فرَغ [من] تفسير ذلك لهم في الآيات. (٢) ثم قال: إنما عنى بذلك يهود، وفيهم أنزلت هذه الصفة.
* * *
وقال بعضهم: عنى بـ"الكافرين"، أهل الإسلام، وب"الظالمين" اليهود، وب"الفاسقين" النصارى.
ذكر من قال ذلك:
١٢٠٣٨ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن زكريا، عن عامر قال: نزلت"الكافرون" في المسلمين، و"الظالمون" في اليهود، و"الفاسقون" في النصارى.
(١) في المخطوطة: *"نكرت" غير منقوطة، والذي في المطبوعة موافق للمعنى، ولم أعرف لقراءة ما في المخطوطة وجهًا إلا"فكرت بينها"، وهي سقيمة.
(٢) الذي بين القوسين، زيادة لا بد منها فيما أرى.
353
١٢٠٣٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن أبي السفر، عن الشعبي، قال:"الكافرون"، في المسلمين، و"الظالمون" في اليهود، و"الفاسقون"، في النصارى.
١٢٠٤٠ - حدثنا ابن وكيع وأبو السائب وواصل بن عبد الأعلى قالوا، حدثنا ابن فضيل، عن ابن شبرمة، عن الشعبي قال: آيةٌ فينا، وآيتان في أهل الكتاب:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، فينا، وفيهم:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"، و"الفاسقون" في أهل الكتاب.
١٢٠٤١ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر، مثل حديث زكريَّا عنه. (١)
١٢٠٤٢ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا شعبة، عن ابن أبي السفر، عن الشعبي:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: هذا في المسلمين"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، قال: النصارى.
١٢٠٤٣ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي قال، في هؤلاء الآيات التي في"المائدة":"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: فينا أهلَ الإسلام="ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"، قال: في اليهود="ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، قال: في النصارى.
١٢٠٤٤ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي في قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: نزلت الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى.
(١) يعني رقم: ١٢٠٣٨.
354
١٢٠٤٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن زكريا، عن الشعبي، بنحوه.
١٢٠٤٦ - حدثنا هناد قال، حدثنا يعلى، عن زكريا، عن عامر، بنحوه.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك: كفرٌ دون كفر، وظلمٍ دون ظلم، وفسقٌ دون فسق.
ذكر من قال ذلك:
١٢٠٤٧ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"،"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"،"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، قال: كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم.
١٢٠٤٨ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن عطاء، مثله.
١٢٠٤٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن أيوب بن أبي تميمة، عن عطاء بن أبي رباح، بنحوه.
١٢٠٥٠ - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، بنحوه.
١٢٠٥١ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، بنحوه.
١٢٠٥٢ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان، عن سعيد المكي، عن طاوس:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: ليس بكفرٍ ينقل عن الملّة.
١٢٠٥٣ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان، عن معمر بن راشد، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن
355
عباس:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافررن"، قال: هي به كفر، وليس كفرًا بالله وملائكته وكتبه ورسله. (١)
١٢٠٥٤ - حدثني الحسن قال، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: قال رجل لابن عباس في هذه الآيات:"ومن لم يحكم بما أنزل الله"، فمن فعل هذا فقد كفر؟ قال ابن عباس: إذا فعل ذلك فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر، وبكذا وكذا.
١٢٠٥٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال هي به كفر= قال: ابن طاوس: وليس كمن كفر بالله وملائكته وكُتُبه ورسله.
١٢٠٥٦ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن رجل، عن طاوس:"فأولئك هم الكافرون"، قال: كفر لا ينقل عن الملة= قال وقال عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآيات في أهل الكتاب، وهى مرادٌ بها جميعُ الناس، مسلموهم وكفارهم.
ذكر من قال ذلك:
١٢٠٥٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم قال: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل، ورَضي لهذه الأمّة بها.
(١) الأثر: ١٢٠٥٣- خبر طاوس عن ابن عباس، رواه الحاكم في المستدرك (٢: ٣١٣) من طريق سفيان بن عيينة، عن هشام بن ججير، عن طاوس، عن ابن عباس: "إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفرًا ينقل عنه الملة ="ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، كفر دون الكفر"، هذا لفظه، ثم قال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وقال الذهبي: "صحيح".
356
١٢٠٥٨ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: نزلت في بني إسرائيل، ورضى لكم بها.
١٢٠٥٩ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم في هذه الآية:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: نزلت في بني إسرائيل، ثم رضى بها لهؤلاء.
١٢٠٦٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن عوف، عن الحسن في قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: نزلت في اليهود، وهي علينا واجبةٌ.
١٢٠٦١ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن سلمة بن كهيل، عن علقمة ومسروق: أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة، فقال: من السحت. قال فقالا أفي الحكم؟ قال: ذاك الكُفْر! ثم تلا هذه الآية:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون".
١٢٠٦٢ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومن لم يحكم بما أنزل الله"، يقول: ومن لم يحكم بما أنزلتُ، فتركه عمدًا وجار وهو يعلم، فهو من الكافرين.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحدًا به. فأما"الظلم" و"الفسق"، فهو للمقرِّ به.
ذكر من قال ذلك:
١٢٠٦٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر. ومن أقرّ به ولم يحكم، فهو ظالم فاسقٌ.
357
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: نزلت هذه الآيات في كفّار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيُّون بها. وهذه الآيات سياقُ الخبر عنهم، فكونُها خبرًا عنهم أولى.
* * *
فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره قد عمَّ بالخبر بذلك عن جميع منْ لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصًّا؟
قيل: إن الله تعالى عَمَّ بالخبر بذلك عن قومٍ كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكمَ، على سبيل ما تركوه، كافرون. وكذلك القولُ في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدًا به، هو بالله كافر، كما قال ابن عباس، لأنه بجحوده حكم الله بعدَ علمه أنه أنزله في كتابه، نظير جحوده نبوّة نبيّه بعد علمه أنه نبيٌّ.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكتبنا على هؤلاء اليهود الذين يحكمونك، يا محمد، وعندهم التوراة فيها حكم الله.
ويعني بقوله:"وكتبنا"، وفرضنا عليهم فيها أن يحكموا في النَّفس إذا قتلت نفسًا بغير حق (١) ="بالنفس"، يعني: أن تقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة،
(١) انظر تفسير"كتب" فيما سلف ص: ٢٣٢ تعليق: ١، والمراجع هناك.
358
="والعين بالعين"، يقول: وفرضنا عليهم فيها أن يفقأوا العين التي فقأ صاحبها مثلَها من نفس أخرَى بالعين المفقوءة= ويجدع الأنف بالأنف= وتقطع الأذن بالأذن= وتقلع السنّ بالسنّ= ويُقْتَصَّ من الجارِح غيره ظلمًا للمجروح. (١)
وهذا إخبار من الله تعالى ذكره لنبيه محمد ﷺ عن اليهود= وتعزية منه له عن كفر من كفر منهم به بعد إقراره بنبوته، وإدباره عنه بعد إقباله= وتعريفٌ منه له جراءتهم قديمًا وحديثًا على ربِّهم وعلى رسل ربِّهم، وتقدُّمهم على كتاب الله بالتحريف والتبديل.
يقول تعالى ذكره له: وكيف يرضى هؤلاء اليهود، يا محمد، بحكمك، إذا جاءوا يحكمونك وعندهم التوراة التي يقرُّون بها أنها كتابي ووحيي إلى رسولي موسى صلى الله عليه وسلم، فيها حكمي بالرجم على الزناة المحصنين، وقضائي بينهم أن من قتَل نفسًا ظلمًا فهو بها قَوَدٌ، ومن فقأ عينًا بغير حق فعينه بها مفقوءة قِصَاصًا، ومن جدع أنفًا فأنفه به مجدوع، ومن قلع سنًّا فسنّه بها مقلوعة، ومن جرح غيره جرحًا فهو مقتصٌّ منه مثل الجرح الذي جرحه؟ = ثم هم مع الحكم الذي عندهم في التوراة من أحكامي، يتولون عنه ويتركون العمل به، يقول: فهم بترك حكمك، وبسخط قضائك بينهم، أحرَى وأولَى.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٢٠٦٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: لما رأت قريظة النبيَّ ﷺ قد حكم بالرجم، وكانوا يخفونه في كتابهم، نهضت قريظة فقالوا: يا محمد، اقضِ بيننا وبين إخواننا
(١) انظر تفسير"القصاص" فيما سلف ٣: ٣٥٧- ٣٦٦/ثم ٣: ٥٧٩ تعليق: ١.
359
بني النضير= وكان بينهم دمٌ قبلَ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت النضير يتعزَّزون على بني قريظة، ودياتهم على أنصاف ديات النضير، وكانت الدِّية من وُسُوق التمر: أربعين ومئة وسق لبني النضير، وسبعين وسقًا لبني قريظة= فقال: دمُ القرظيّ وفاءٌ من دم النضيريّ! (١) فغضب بنو النضير وقالوا: لا نطيعك في الرَّجم، ولكن نأخذ بحدودنا التي كنَّا عليها! فنزلت: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [سورة المائدة: ٥٠] ونزل:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس"، الآية.
١٢٠٦٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص"، قال: فما بالهم يخالفون، يقتلون النفسين بالنفس، ويفقأون العينين بالعين؟
١٢٠٦٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا خلاد الكوفي قال، حدثنا الثوري، عن السدي، عن أبي مالك قال: كان بين حيين من الأنصار قتالٌ، فكان بينهم قتلى، وكان لأحد الحيين على الآخر طَوْلٌ، (٢) فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يجعَلُ الحرَّ بالحرِّ، والعبدَ بالعبد، والمرأة بالمرأة، فنزلت: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) [سورة البقرة: ١٧٨] = قال سفيان: وبلغني عن ابن عباس أنه قال: نسختها:"النفس بالنفس". (٣)
١٢٠٦٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس"= فيها
(١) قوله: "وفاء من دم النضيري"، أي يعادله ويساويه. يقال: "وفى الدرهم المثقال" أي: عادله.
(٢) "الطول" (بفتح فسكون) : العلو والفضل والعزة.
(٣) الأثر: ١٢٠٦٦- مضى خبر السدي عن أبي مالك بإسناد آخر رقم: ٢٥٦٤.
360
في التوراة-"والعين بالعين" حتى:"والجروح قصاص"، قال مجاهد عن ابن عباس قال: كان على بني إسرائيل القصاصُ في القتلى، ليس بينهم دية في نفسٍ ولا جُرْحٍ. قال: وذلك قول الله تعالى ذكره:"وكتبنا عليهم فيها" في التوراة، فخفف الله عن أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، فجعل عليهم الدية في النَّفس والجِراح، وذلك تخفيف من ربكم ورحمة="فمن تصدَّق به فهو كفارة له".
١٢٠٦٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسنّ بالسن والجروح قصاص"، قال: إن بني إسرائيل لم تُجعل لهم ديةٌ فيما كتب الله لموسى في التوراة من نفس قتلت، أو جرح، أو سنّ، أو عين، أو أنف. إنما هو القصاصُ، أو العفو.
١٢٠٦٩ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وكتبنا عليهم فيها"، أي في التوراة="أن النفس بالنفس".
١٢٠٧٠ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وكتبنا عليهم فيها"، أي في التوراة، بأن النفس بالنفس.
١٢٠٧١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس" حتى بلغ"والجروح قصاص"، بعضها ببعض.
١٢٠٧٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أن النفس بالنفس"، قال يقول: تقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين، ويقطع الأنف بالأنف، وتنزع السنّ بالسن، وتقتصّ الجراح بالجراح.
* * *
361
قال أبو جعفر: فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما بينهم، رجالهم ونساؤهم، إذا كان في النفس وما دون النفس= ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم، إذا كان عمدًا في النفس وما دون النفس. (١)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيِّ به:"فمن تصدق به فهو كفارة له".
فقال بعضهم: عنى بذلك المجروحَ ووليَّ القتيل.
ذكر من قال ذلك:
١٢٠٧٣ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن الهيثم بن الأسود، عن عبد الله بن عمرو:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: يُهْدَم عنه = يعني المجروح = مثلُ ذلك من ذنوبه.
١٢٠٧٤ - حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن الهيثم بن الأسود، عن عبد الله بن عمرو، بنحوه.
١٢٠٧٥ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن الهيثم بن الأسود أبي العُرْيان قال: رأيت معاوية قاعدًا على السرير، وإلى جنبه رجلٌ أحمر كأنه مَوْلىً= وهو
(١) من أول قوله: "فهذا يستوي... " إلى آخر الكلام، يشبه عندي أن يكون من كلام أبي جعفر، فلذلك، فصلته عن خبر ابن عباس، وكتبت قبله: "قال أبو جعفر".
362
عبد الله بن عمرو= فقال في هذه الآية:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: يُهْدَم عنه من ذنوبه مثل ما تصدّق به. (١)
١٢٠٧٦ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: للمجروح.
١٢٠٧٧ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا شعبة، عن عمارة بن أبي حفصة، عن أبي عقبة، عن جابر بن زيد:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قا ل: للمجروح. (٢)
١٢٠٧٨ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثني حَرِميّ بن عمارة قال، حدثنا
(١) الآثار: ١٢٠٧٣- ١٢٠٧٥- ثم يأتي أيضًا من طريق أخرى برقم: ١٢٠٨٥.
"سفيان"، هو الثوري.
و"قيس بن مسلم الجدلي العدواني"، ثقة، مضى برقم: ٩٧٤٤.
و"طارق بن شهاب الأحمسي"، ثقة، مضى برقم: ٩٧٤٤، ١١٦٨٢.
و"الهيثم بن الأسود النخعي"، "أبو العريان"، أدرك عليًا، وروى عن معاوية وعبد الله بن عمرو. ثقة من خيار التابعين، كان خطيبًا شاعرًا. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر رواه في السنن ٨: ٥٤، بمثله. وذكره ابن كثير في تفسيره ٣: ١٦٧، من تفسير ابن أبي حاتم، من طريق أبي داود الطيالسي، عن شعبة. وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٢٨٨، وزاد نسبته للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
وقوله: "وإلى جنبه رجل أحمر كأنه مولى"، "الأحمر" عندهم: الأبيض، لأن بياض الناس تشوبه الحمرة، ولذلك سموا العجم"الحمراء"، لبياضهم، ولغلبة الشقرة عليهم. وقد ذكر ابن سعد (٤/٢/١١) صفة عبد الله بن عمرو، عن"العريان بن الهيثم بن الأسود النخعي" قال: "وفدت مع أبي إلى يزيد بن معاوية، فجاء رجل طوال أحمر، عظيم البطن، فسلم وجلس. فقال أبي: من هذا؟ فقيل: عبد الله بن عمرو". وروي أيضا عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، أنه وصف عبد الله بن عمرو فقال: "رجل أحمر عظيم البطن طوال". وعنى بقوله: "كأنه مولى"، كأنه من العجم أو الفرس.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: "وإلى جنبه رجل آخر"، وهو خطأ صرف كما ترى.
(٢) الأثر: ١٢٠٧٧-"عمارة بن أبي حفصة العتكي"، ثقة، مضى برقم: ٨٥١٣.
و"أبو عقبة"، لم أجد له ذكرا، ولم أعرف من هو.
و"جابر بن زيد الأزدي اليحمدي"، "أبو الشعثاء"، ثقة، كان من أعلم الناس بكتاب الله. مضى برقم: ٥١٣٦، ٥٤٧٢.
363
شعبة قال، أخبرني عمارة، عن رجل= قال حرميّ: نسيت اسمه= عن جابر بن زيد، بمثله. (١)
١٢٠٧٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: للمجروح.
١٢٠٨٠ - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا ابن فضيل، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر قال: دفع رجلٌ من قريش رجلا من الأنصار فاندقَّتْ ثنيَّتُه، فرفعه الأنصاري إلى معاوية. فلما ألحَّ عليه الرجل قال معاوية: شأنَكَ وصاحبَك! قال: وأبو الدرداء عند معاوية، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من مسلم يُصَاب بشيء من جسده فيَهبُه، إلا رفعه الله به درجةً وحطّ عنه به خطيئة. فقال له الأنصاري: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعته أذناي ووَعاه قلبي! فخلَّى سبيلَ القرشيّ، فقال معاوية: مروا له بمالٍ. (٢)
١٢٠٨١ - حدثنا محمود بن خداش قال، حدثنا هشيم بن بشير قال،
(١) الأثر: ١٢٠٧٨-"حرمي بن عمارة بن أبي حفصة العتكي"، مضى هو وأبوه"عمارة بن أبي حفصة" فيما سلف رقم: ٥٨١٣.
والرجل الذي نسيه"حرمي"، هو"أبو عقبة" المذكور في الأثر السالف.
(٢) الأثر: ١٢٠٨٠-"يونس بن أبي إسحق السبيعي"، ثقة. مضى برقم: ٣٠١٨.
و"أبو السفر"، هو: "سعيد بن يحمد الثوري" تابعي ثقة، يروي عن متوسطي الصحابة كابن عباس وابن عمر. مضى برقم: ٣٠١٠.
وهذا الإسناد منقطع، لأن أبا السفر لم يسمع أبا الدرداء.
وروى الخبر أحمد في مسنده ٦: ٤٤٨، من طريق وكيع عن يونس بن أبي إسحق، بمثله.
ورواه البيهقي في السنن ٨: ٥٥، من طريق شيبان بن عبد الرحمن، عن يونس بن أبي إسحق، بمثله. ورواه ابن ماجه في سننه ص: ٨٩٨، رقم: ٢٦٩٣.
ورواه الترمذي في"أبواب الديات"، "باب ما جاء في العفو"، من طريق عبد الله بن المبارك، عن يونس بن أبي إسحق. ثم قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ولا أعرف لأبي السفر سماعًا من أبي الدرداء".
وخرجه ابن كثير في تفسيره ٣: ١٦٨، وزاد نسبته لابن ماجه.
364
أخبرنا مغيرة، عن الشعبي قال، قال ابن الصامت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من جُرِح في جسده جراحةً فتصدَّق بها، كُفّر عنه ذنوبه بمثل ما تصدّق به. (١)
١٢٠٨٢ - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحسن في قوله:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: كفارة للمجروح.
١٢٠٨٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن زكريا قال: سمعت عامرًا يقول: كفارة لمن تصدَّق به.
١٢٠٨٤ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، يقول: لوليّ القتيل الذي عفا.
١٢٠٨٥ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني شبيب بن سعيد، عن شعبة بن الحجاج، عن قيس بن مسلم، عن الهيثم أبي العريان قال: كنت بالشأم، وإذا برجل مع معاوية قاعدٍ على السرير كأنه مولًى، قال:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: فمن تصدق به هدَم الله عنه مثلَه من ذنوبه= فإذا هو عبد الله بن عمرو. (٢)
* * *
(١) الأثر: ١٢٠٨١-"ابن الصامت"، هو"عبادة بن الصامت"، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الخبر، إسناد صحيح إلى الشعبي، رواه أحمد في مسنده ٥: ٣١٦، من طريق سريج بن النعمان، عن هشيم، بمثله، ثم رواه ابنه عبد الله في ٥: ٣٢٩، من طريق شجاع بن محمد، عن هشيم، بمثله ثم رواه عبد الله أيضا ٥: ٣٣٠، من طريق إسمعيل بن أبي معمر الهذلي، عن جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، عن ابن الصامت بلفظ: "من تصدق عن جسده بشيء، كفر الله تعالى عنه بقدر ذنوبه".
ورواه البيهقي بغير هذا اللفظ من طريق أبي داود، عن محمد بن أبان، عن علقمة بن مرثه، عن الشعبي"، وقال: "هو منقطع"، وذلك أن الشعبي، لم يسمع من عبادة بن الصامت.
وخرجه ابن كثير في تفسيره ٣: ١٦٨، وزاد نسبته للنسائي، عن علي بن حجر، عن جرير بن عبد الحميد.
(٢) الأثر: ١٢٠٨٥-"شبيب بن سعيد التميمي الحبطي"، ثقة، مضى برقم: ٦٦١٣.
وهذا الأثر مضى قبل ذلك بالأسانيد رقم ١٢٠٧٣ - ١٢٠٧٥، ولا أدري أسقط من الناسخ هنا"عن طارق بن شهاب"، كما في سائر الأسانيد، أم هكذا رواه ابن وهب عن شبيب بن سعيد. ولذلك تركته على حاله، ولكن لا شك أن الراوي عن الهيثم، هو طارق بن شهاب.
وأما قوله"الهيثم أبي العريان" فقد كان في المخطوطة والمطبوعة: "الهيثم بن العريان"، وهو خطأ لا شك فيه، صوابه ما أثبت. وقد مضى ذكره في الأسانيد السالفة، انظر التعليق هناك.
365
وقال آخرون: عنى بذلك الجارحَ. وقالوا: معنى الآية: فمن تصدق بما وجب له من قَود أو قصاصٍ على من وجب ذلك له عليه، فعفا عنه، فعفوه ذلك عن الجاني كفّارة لذنب الجاني المجرم، كما القِصاص منه كفَّارة له. قالوا: فأما أجْر العافِي المتصدِّق، فعلى الله.
ذكر من قال ذلك:
١٢٠٨٦ - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: كفارة للجارح، وأجر الذي أُصِيب على الله.
١٢٠٨٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا يونس، عن أبي إسحاق، قال سمعت مجاهدًا يقول لأبي إسحاق:"فمن تصدّق به فهو كفارة له"، يا أبا إسحاق، [لمن] ؟ (١) قال أبو إسحاق: للمتصدق= فقال مجاهد: للمذنب الجارح.
١٢٠٨٨ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، قال مغيرة، قال مجاهد: للجارح.
١٢٠٨٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن مجاهد، مثله.
١٢٠٩٠ - حدثنا هناد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم ومجاهد:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قالا للذي تُصُدِّق عليه،
(١) ما زدته بين القوسين، لا بد من زيادته أو ما بشبهه.
366
وأجرُ الذي أصيب على الله= قال هناد في حديثه، قالا كفارة للذي تُصُدِّق به عليه.
١٢٠٩١ - حدثنا هناد قال، حدثنا عبد بن حميد، عن منصور، عن مجاهد، بنحوه.
١٢٠٩٢ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن زكريا، عن عامر قال: كفارة لمن تُصُدِّق به عليه.
١٢٠٩٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد وإبراهيم قالا كفارة للجارح، وأجر الذي أصيب على الله.
١٢٠٩٤ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان قال: سمعت زيد بن أسلم يقول: إن عفا عنه، أو اقتص منه، أو قبل منه الدية، فهو كفّارة له.
١٢٠٩٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: كفارة للجارح، وأجرٌ للعافي، لقوله: (١) (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [سورة الشورى: ٤٠].
١٢٠٩٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فمن تصدّق به فهو كفارة له"، قال: كفارة للمتصدَّقِ عليه.
١٢٠٩٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد قال، حدثنا حصين، عن ابن عباس:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: هي كفارة للجارح.
١٢٠٩٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن
(١) في المخطوطة: "إلى قوله: فمن عفا... "، وفي الهامش حرف (ط) دلالة على الخطأ، والذي في المطبوعة هو الصواب.
367
عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، قال: فالكفارة للجارح، وأجر المتصدِّق على الله.
١٢٠٩٩ - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد أنه كان يقول:"فمن تصدق به فهو كفارة له"، يقول: للقاتل، وأجرٌ للعافي.
١٢١٠٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عمران بن ظبيان، عن عديّ بن ثابت قال، هُتِم رجل على عهد معاوية، (١) فأعطي دية فلم يقبل، ثم أعطي ديتين فلم يقبل، ثم أعطي ثلاثًا فلم يقبل. فحدَّث رجل من أصحاب النبي ﷺ أن رسول الله ﷺ قال:"فمن تصدّق بدمٍ فما دونه، كان كفّارة له من يوم تَصدَّق إلى يوم وُلد". قال: فتصدَّق الرجل. (٢)
١٢١٠١ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له"، يقول: من جرح فتصدَّق بالذي جُرِح به على الجارح،
(١) "هتم الرجل" (بالبناء للمجهول) : انكسر مقدم أسنانه."هتم فاه يهتمه هتمًا" متعديا = و"هتم هتما" (على وزن سكر) فهو"أهتم"، و"تهتمت ثناياه".
(٢) الأثر: ١٢١٠٠-"عمران بن ظبيان الحنفي". قال البخاري: "فيه نظر"، وقال أبو حاتم: "يكتب حديثه"، ثم اختلف في أمره ابن حبان، فذكره في الثقات، ثم عاد فذكره في الضعفاء، وقال"فحش خطؤه، حتى بطل الاحتجاج"، وضعفه العقيلي وابن عدي. وكان يميل إلى التشيع.
وأما "عدي بن ثابت الأنصاري"، فهو ثقة صدوق، كان إمام مسجد الشيعة وقاصهم. وروى له الأئمة، مضى برقم: ١١٧٢٦.
وهذا الخبر، خرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ٢٨٨، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور، وابن مردويه. ولفظ الخبر عن رسول الله: "من تصدق بدم فما دونه، فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت". وساقه بلفظه هذا ابن كثير في تفسيره ٣: ١٦٨، عن ابن مردويه، قال"حدثنا دعلج بن أحمد، حدثنا محمد بن علي بن زيد، عن سعيد بن منصور، عن سفيان، عن عمران بن ظبيان". وكأن الصواب هو هذا اللفظ، وما في التفسير أنا في شك من صحة لفظه، ولكني تركته على حاله، ولو كان: "من يوم ولد إلى يوم تصدق"، لكان أقوم لفظًا ومعنى.
368
فليس على الجارح سبيلٌ ولا قَوَدٌ ولا عَقْلٌ، ولا حَرَج عليه، (١) من أجل أنه تصدق عليه الذي جُرِح، فكان كفارة له من ظلمه الذي ظَلَم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: عني به:"فمن تصدّق به فهو كفارة له"، المجروحَ (٢) = فلأن تكون"الهاء" في قوله:"له" عائدةً على"مَنْ"، أولى من أن تكون مِنْ ذِكْر من لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح، وأحرَى، إذ الصدقة هي المكفِّرة ذنبَ صاحبها دون المتصدَّق عليه في سائر الصدقات غير هذه، فالواجب أن يكون سبيلُ هذه سبيلَ غيرها من الصدَّقات.
* * *
فإن ظنّ ظانّ أن القِصاصَ= إذْ كان يكفّر ذنب صاحبه المقتصّ منه الذي أتاه في قتل من قتله ظلمًا، لقول النبي ﷺ إذ أخذ البيعة على أصحابه (٣) "أن لا تقتلوا ولا تزنُوا ولا تسرقوا" ثم قال:"فمن فَعَل من ذلك شيئًا فأقيم عليه حدُّه فهو كفارته" (٤) فالواجب أن يكونَ عفوُ العافي المجنيِّ عليه، أو ولي المقتول عنه نظيرَه، (٥) في أن ذلك له كفارة. فإن ذلك لو وجب أن يكون كذلك، لوجب أن يكون عفوُ المقذوفِ عن قاذفه بالزنا، وتركِه أخذه
(١) في المطبوعة: "ولا جرح عليه"، والصواب ما أثبت، والمخطوطة غير منقوطة.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "عنى به فمن تصدق... "، والسياق يقتضي ما أثبت.
(٣) في المطبوعة: "كقول النبي صلى الله عليه وسلم"، والصواب ما أثبت.
(٤) هذا الخبر رواه أبو جعفر مختصرًا غير مسند، وهو خبر صحيح. انظر صحيح مسلم ١١: ٢٢٢ - ٢٢٤.
(٥) السياق: "فإن ظن ظان أن القصاص، إذ كان يكفر ذنب صاحبه... فالواجب أن يكون عفو العافي... نظيره.
369
بالواجب له من الحدِّ، وقد قذفه قاذِفُه وهو عفيفٌ مسلم مُحْصَن، كفَّارةً للقاذف من ذنبه الذى ركبه، ومعصيته التي أتاها. وذلك ما لا نعلم قائلا من أهل العلم يقوله.
فإذْ كان غير جائز أن يكون تركُ المقذوف =الذي وصفنا أمره= أخذَ قاذفه بالواجب له من الحدّ= كفارةً للقاذف من ذنبه الذي ركبه، كان كذلك غير جائز أن يكون ترك المجروح أخذَ الجارح بحقِّه من القصاص، كفَّارةً للجارح من ذنبه الذي ركبه.
* * *
فإن قال قائل: أو ليس للمجروح عندك أخْذُ جارحه بدية جرحه مكانَ القِصاص؟
قيل له: بلى!
فإن قال: أفرأيت لو اختار الدّية ثم عفا عنها، أكانت له قِبَله في الآخرة تَبِعةٌ؟
قيل له: هذا كلام عندنا محالٌ. وذلك أنه لا يكون عندنا مختارًا لديةٍ إلا وهو لها آخذٌ. فأما العفو فإنما هو عفو عن الدم= وقد دللنا على صحة ذلك في موضع غيرِ هذا، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع (١) = إلا أن يكون مرادًا بذلك هِبتُها لمن أخذت منه بعد الأخذ. مع أن عفوه عن الدية بعد اختياره إياها لو صَحَّ، لم يكن في صحة ذلك ما يوجب أن يكون المعفوُّ له عنها بريئًا من عقوبة ذنبه عند الله; لأن الله تعالى ذكره أوعد قاتلَ المؤمن بما أوعده به إن لم يتُبْ من ذنبه، والدية مأخوذة منه، أحبَّ أم سخط. والتوبة من التَائب إنما تكون توبةً إذا اختارها وأرادَها وآثرها على الإصرار.
* * *
فإن ظنّ ظانّ أن ذلك وإن كان كذلك، فقد يجب أن يكون له كفارةً، كما كان القصاص له كفارة، (٢) فإنَّا إنما جعلنا القِصاص له كفارة= مع ندمه وبَذْله نفسَه لأخذ الحق منها= تنصُّلا من ذنبه، بخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
(١) انظر ما سلف ٣: ٣٧١، وما قبلها.
(٢) في المطبوعة: "كما جاز القصاص"، وفي المخطوطة"كان" إلا أنه كتب جيما ثم وضع عليها شرطة الكاف، وأما الحرف الأخير فهو"نون"، فصحيح قراءته ما أثبت، وهو حق السياق أيضًا.
370
فأما الدية إذا اختارها المجروحُ ثم عفا عنها، فلم يُقْض عليه بحدّ ذنبه، فيكون ممن دخل في حكم النبي ﷺ وقوله:"فمن أقيم عليه الحد فهو كفارته". ثم مما يؤكد صحة ما قلنا في ذلك، الأخبارُ التي ذكرناها عن رسول الله ﷺ من قوله:"فمن تصدّق بدمٍ"، (١) وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد ذكرناها قبل.
* * *
وقد يجوز أن يكون القائلون إنه عنى بذلك الجارحَ، أرادوا المعنى الذي ذُكر عن عروة بن الزبير الذي:-
١٢١٠٢- حدثني به الحارث بن محمد قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، (٢) حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: إذا أصاب رجل رجلا ولا يعلم المُصاب من أصابه، فاعترف له المصيب، فهو كفارة للمُصيب. قال: وكان مجاهد يقول عند هذا: أصاب عروة ابن الزبير عينَ إنسان عند الركن فيما يستلمون، (٣) فقال له: يا هذا، أنا عروة بن الزبير، فإن كان بعينك بأس فأنَا بها!
* * *
وإذا كان الأمر من الجارح على نحو ما كان من عروة من خطأ فعلٍ على غير عمدٍ، ثم اعترف للذي أصابه بما أصابه، فعفا له المصاب بذلك عن حقِّه قبله، فلا تبعة له حينئذٍ قَبِل المُصيب في الدنيا ولا في الآخرة. لأن الذى كان وجب له قبله مالٌ لا قِصاص، وقد أبرأه منه: فإبراؤه منه، كفَّارة للمبرَّأ من حقه
(١) في المطبوعة والمخطوطة."فمن تصدق به"، والصواب ما أثبته، وهو نص الأثر السالف رقم: ١٢١٠٠.
(٢) في المطبوعة: "قال حدثنا ابن سلام"، وفي المخطوطة: "قال حدثنا القاسم الحارث بن سلام" ثم ضرب على"القاسم" و"الحارث" ثم وضع بجوار"القاسم" علامة التصحيح وهي (صح).
(٣) في المخطوطة: "فيما يسلمون"، وتركت ما في المطبوعة على حاله، وهو قريب الاستقامة. وفي تفسير أبي حيان ٣: ٤٩٧، "وهم يستلمون"، وهي أجود.
371
الذي كان له أخذه به، (١) فلا طَلِبة له بسبب ذلك قِبَله في الدنيا ولا في الآخرة، ولا عقوبة تلزمه بها بما كان منه إلى من أصابه، لأنه لم يتعمد إصابته بما أصابه به، فيكون بفعله آثمًا يستحق به العقوبة من ربه، (٢) لأن الله عز وجل قد وضع الجُناح عن عباده فيما أخطأوا فيه ولم يتعمّدوه من أفعالهم، فقال في كتابه: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ). (٣) [سورة الأحزاب: ٥]
* * *
و"التصدق"، في هذا الموضع، بالدم، العفو عنه. (٤)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن لم يحكم بما أنزل الله في التوارة من قَوَدِ النفس القاتلة قِصاصًا بالنفس المقتولة ظلمًا. ولم يفقأ عين الفاقئ بعين المفقوء ظلمًا، قِصاصًا ممن أمره الله به بذلك في كتابه، ولكن أقاد من بعضٍ ولم يُقِدْ من
(١) في المطبوعة: "كفارة له من حقه"، وفي المخطوطة"كفارة *لمتزامر [محذوفة النقط] من حقه"، والذي أثبته هو صواب قراءتها.
(٢) في المطبوعة: "فيكون بفعله إنما يستحق العقوبة"، وهو كلام فارغ المعنى، و *"انما" هكذا في المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة، كتب الآية هكذا:
"ولا جناح عليكم فيما أخطأتم "، وليس فيما نتلو آية كهذه، وإنما هي آية الأحزاب كما أثبتها.
(٤) في المطبوعة: "وقد يراد في هذا الموضع بالدم العفو عنه"، وهو كلام لا معنى له ولا ضابط. وفي المخطوطة: "وا * في هذا الموضع بالدم، العفو عنه"، بين الكلامين بياض وفي الهامش حرف (ط) دلالة على الخطأ، فاستظهرت صواب الكلام من سياق تفسير هذه الآية.
372
بعض، أو قتل في بعض اثنين بواحد، فإنّ من يفعل ذلك من"الظالمين" (١) = يعني: ممن جارَ عن حكم الله، (٢) ووضع فعله ما فعل من ذلك في غير موضعه الذي جعله الله له موضعًا. (٣)
* * *
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "وإن من يفعل ذلك"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(٢) في المطبوعة: "جار على حكم الله"، والصواب من المخطوطة.
(٣) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة.
373
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وقفينا على آثارهم"، (١) أتبعنا. يقول: أتبعنا عيسى ابن مريم على آثار النبيين الذين أسلموا من قبلك، يا محمد، فبعثناه نبيًّا مصدّقا لكتابنا الذي أنزلناه إلى موسى من قبله أنّه حق، وأن العمل بما لم ينسخه الإنجيل منه فرضٌ واجب="وآتيناه الإنجيل"، يقول: وأنزلنا إليه كتابنا الذي اسمه"الإنجيل""فيه هدى ونور" يقول: في الإنجيل"هدًى"، وهو بيان ما جهله الناس من حكم الله في زمانه="ونور"، يقول: وضياء من عَمَى الجهالة="ومصدقًا لما بين يديه"، يقول: أوحينا إليه ذلك وأنزلناه إليه بتصديق ما كان قبله من كتب الله التي كان أنزلها على كل أمة أُنزل إلى نبيِّها كتاب للعمل بما أنزل إلى نبيهم في ذلك الكتاب، من تحليل ما حلّل، وتحريم ما حرّم=
"وهدى وموعظة"، يقول: أنزلنا الإنحيل إلى عيسى مصدِّقا للكتب التي قبله، وبيانًا لحكم الله الذي ارتضاه لعباده المتَّقين في زمان عيسى،="وموعظة"، لهم= يقول: وزجرًا لهم عما يكرهه الله إلى ما يحبُّه من الأعمال، وتنبيهًا لهم عليه.
(١) انظر تفسير"قفى" فيما سلف ٢: ٣١٨.
و"المتقون"، هم الذين خافوا الله وحَذِروا عقابه، فاتقوه بطاعته فيما أمرهم، وحذروه بترك ما نهاهم عن فعله. وقد مضى البيان عن ذلك بشواهده قبل، فأغنى ذلك عن إعادته. (١)
* * *
القول في تأويل قوله عزّ ذكره: ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤٧) ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله:"وليحكم أهل الإنجيل".
فقرأته قرأة الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين: (٢) "وَلْيَحْكُمْ" بتسكين"اللام"، على وجه الأمر من الله لأهل الإنجيل: أن يحكموا بما أنزل الله فيه من أحكامه. وكأنّ من قرأ ذلك كذلك، أراد: وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونورٌ ومصدقًا لما بين يديه من التوراة، وأمرنا أهْلَه أن يحكموا بما أنزل الله فيه= فيكون في الكلام محذوف، ترك استغناءً بما ذكر عما حُذِف.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ) بكسر"اللام"، من"ليحكم"، بمعنى: كي يحكم أهل الإنجيل. وكأنّ معنى من قرأ ذلك كذلك: وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونورٌ ومصدقًا لما بين يديه من التوراة، كي يحكم أهله بما فيه من حكم الله.
* * *
والذي نقول به في ذلك، (٣) أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، فبأيِّ ذلك قرأ قارئ فمصيبٌ فيه الصوابَ.
(١) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
(٢) في المطبوعة: "فقرأ قراء الحجاز... "، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "والذي يتراءى في ذلك"، وفي المخطوطة: "وللذي يترك [محذوفة النقط] به في ذلك"، وأرجح أن صواب قراءتها ما أثبت.
374
وذلك أن الله تعالى لم ينزل كتابًا على نبيٍّ من أنبيائه إلا ليعمل بما فيه أهله الذين أمروا بالعمل بما فيه، ولم ينزله عليهم إلا وقد أمرهم بالعمل بما فيه، فللعمل بما فيه أنزله، وأمرًا بالعمل بما فيه أنزله. (١) فكذلك الإنجيل، إذ كان من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه، فللعمل بما فيه أنزله على عيسى، وأمرًا بالعمل به أهلَه أنزله عليه. (٢) فسواءٌ قرئ على وجه الأمر بتسكين"اللام"، أو قرئ على وجه الخبر بكسرها، لاتفاق معنييهما.
* * *
وأما ما ذكر عن أبيّ بن كعب من قراءته ذلك (وأن ليحكم) على وجه الأمر، فذلك مما لم يَصِحّ به النقل عنه. ولو صحّ أيضا، لم يكن في ذلك ما يوجب أن تكون القراءة بخلافه محظورةً، إذ كان معناها صحيحًا، وكان المتقدّمون من أئمة القرأة قد قرأوا بها.
* * *
وإذ كان الأمر في ذلك على ما بيَّنَّا، فتأويل الكلام، إذا قرئ بكسر"اللام" من"ليحكم": وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل فيه هدًى ونورٌ ومصدقًا لما بين يديه من التوراة وهدًى وموعظة للمتقين، وكيْ يحكم أهلُ الإنجيل بما أنزلنا فيه، فبدّلوا حكمه وخالفوه، فضلُّوا بخلافهم إياه إذ لم يحكموا بما أنزل الله فيه وخالفوه="فأولئك هم الفاسقون"، يعني: الخارجين عن أمر الله فيه، المخالفين له فيما أمرهم ونهاهم في كتابه.
* * *
فأما إذا قرئ بتسكين"اللام"، فتأويله: وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل، فيه هدى ونورٌ ومصدقا لما بين يديه من التوراة، وأمرنا أهله أن يحكُموا بما أنزلنا
(١) في المطبوعة: "وأمر بالعمل بما فيه أهله"، فغير ما في المخطوطة تغييرًا مفسدًا للمعنى، مزيلا لقصد أبي جعفر من هذه الجملة التي احتج بها في تقارب معنى القراءتين. وهذا عجب من سوء التصرف. وكذلك سيفعل في الجملة التالية، كما سترى في التعليق.
(٢) في المطبوعة، أسقط قوله: "أنزله عليه" وكتب"وأمر بالعمل به أهله"، فأخل بمقصد أبي جعفر، كما فعل بالجملة السالفة. انظر التعليق السالف.
375
فيه، فلم يطيعونا في أمرنا إياهم بما أمرناهم به فيه، ولكنهم خالفوا أمرنا، فالذين خالفوا أمرنا الذي أمرناهم به فيه، هم الفاسقون.
* * *
وكان ابن زيد يقول:"الفاسقون"، في هذا الموضع وفي غيره، هم الكاذبون.
١٢١٠٣ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون"، قال: ومن لم يحكم من أهل الإنجيل أيضًا بذلك="فأولئك هم الفاسقون"، قال: الكاذبون. بهذا قال. وقال ابن زيد: كل شيء في القرآن إلا قليلا"فاسق" فهو كاذب. وقرأ قول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ) [سورة الحجرات: ٦] قال:"الفاسق"، ههنا، كاذب.
* * *
وقد بينا معنى"الفسق" بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
(١) انظر تفسير"الفسق" فيما سلف ص: ١٨٩ تعليق: ٤، والمراجع هناك.
وعند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه مخطوطتنا، وفيها ما نصه:
"يتلوه القول في تأويل قوله:
﴿وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بِيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عليه﴾.
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم كثيرًا".
ثمّ يتلوه ما نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم"
376
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خطابٌ من الله تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى ذكره: أنزلنا إليك، يا محمد،"الكتاب"، وهو القرآن الذى أنزله عليه= ويعني بقوله:"بالحق"، بالصدق ولا كذب فيه، ولا شك أنه من عند الله (١) ="مصدقًا لما بين يديه من الكتاب"، يقول: أنزلناه بتصديق ما قبله من كتب الله التى أنزلها إلى أنبيائه=
"ومهيمنًا عليه"، يقول: أنزلنا الكتاب الذي أنزلناه إليك، يا محمد، مصدّقًا للكتب قبله، وشهيدًا عليها أنها حق من عند الله، أمينًا عليها، حافظا لها.
* * *
وأصل"الهيمنة"، الحفظ والارتقاب. يقال، إذا رَقَب الرجل الشيء وحفظه وشَهِده:"قد هيمن فلان عليه، فهو يُهَيمن هيمنة، وهو عليه مهيمن".
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، إلا أنهم اختلفت عباراتهم عنه.
فقال بعضهم: معناه: شهيدًا.
ذكر من قال ذلك:
١٢١٠٣م - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ومهيمنًا عليه"، يقول: شهيدًا.
١٢١٠٤ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومهيمنًا عليه"، قال: شهيدًا عليه.
(١) انظر تفسير"الحق" فيما سلف ٧: ٩٧/٩: ٢٢٧.
377
١٢١٠٥ - حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب"، يقول: الكتب التي خلت قبله="ومهيمنًا عليه"، أمينًا وشاهدًا على الكتب التي خلت قبله.
* * *
١٢١٠٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"ومهيمنًا عليه"، مؤتمنًا على القرآن، وشاهدًا ومصدِّقًا= وقال ابن جريج: وقال: آخرون (١) القرآن أمين على الكتب فيما إذا أخبرنا أهل الكتاب في كتابهم بأمرٍ، إن كان في القرآن فصدقوا، وإلا فكذبوا.
* * *
وقال بعضهم: معناه: أمينٌ عليه.
ذكر من قال ذلك:
١٢١٠٧ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن= وحدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع= جميعًا، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"ومهيمنًا عليه"، قال: مؤتمنًا عليه.
١٢١٠٨ - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في قوله:"ومهيمنًا عليه"، قال: مؤتمنًا عليه.
١٢١٠٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله.
١٢١١٠ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، بإسناده، عن ابن عباس، مثله.
١٢١١١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا إسرائيل،
(١) في المطبوعة: "وقال ابن جريج وآخرون"، والصواب من المخطوطة.
378
عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله.
١٢١١٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله.
١٢١١٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن رجل من تميم، عن ابن عباس، مثله. (١)
١٢١١٤ - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ومهيمنًا عليه"، قال: والمهيمن الأمين: قال: القرآن أمين على كلِّ كتاب قبله.
١٢١١٥ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب"، وهو القرآن، شاهد على التوراة والإنجيل، مصدقًا لهما="ومهيمنًا عليه"، يعني: أمينًا عليه، يحكم على ما كان قبله من الكتب.
١٢١١٦ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن قيس، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"ومهيمنًا عليه"، قال: مؤتمنًا عليه.
١٢١١٧ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن رجل من بني تميم، عن ابن عباس:"ومهيمنًا عليه"، قال: مؤتمنًا عليه.
(١) الآثار ١٢١٠٧- ١٢١١٣-"التميمي" و"رجل من تميم"، هو"أربدة التميمي"، يروي التفسير عن ابن عباس، رواه عنه أبو إسحق السبيعي، مضى برقم: ١٩٢٨، ١٩٢٩، ولكن كتب أخي السيد أحمد على الأثر رقم: ٢٠٩٥، ثم كتبت أنا على الآثار من رقم: ٣٩٨٦- ٣٩٨٩، أنه رجل مجهول من تميم، ولكن الصواب أنه معروف وهو"أربدة التميمي"، وهو تابعي ثقة. ثم انظر الآثار الآتية من رقم: ١٢١١٦- ١٢١١٨.
379
١٢١١٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا يحيى الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. (١)
١٢١١٩ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان وإسرائيل، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير:"ومهيمنًا عليه" قال: مؤتمنًا على ما قبله من الكتب.
١٢١٢٠ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء قال: سألت الحسين عن قوله:"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه"، قال: مصدقًا لهذه الكتب، وأمينا عليها. وسئل عنها عكرمة وأنا أسمع فقال: مؤتمنًا عليه.
* * *
وقال آخرون: معنى"المهيمن"، المصدق.
ذكر من قال ذلك:
١٢١٢١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومهيمنًا عليه"، قال: مصدِّقًا عليه. كل شيء أنزله الله من توراة أو إنجيل أو زَبُورٍ، فالقرآن مصدِّق على ذلك. وكل شيء ذكر الله في القرآن، فهو مصدِّقٌ عليها وعلى ما حُدِّث عنها أنه حق.
* * *
وقال آخرون: عنى بقوله:"مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه"، نبي الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
١٢١٢٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
(١) الآثار: ١٢١١٦- ١٢١١٨-"التميمي"، و"رجل من بني تميم"، هو"أربدة التميمي"، انظر التعليق السالف.
380
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومهيمنًا عليه"، محمد صلى الله عليه وسلم، مؤتمنٌ على القرآن.
١٢١٢٣ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومهيمنًا عليه"، قال: محمد صلى الله عليه وسلم، مؤتمنٌ على القرآن.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام على ما تأوّله مجاهد: وأنزلنا الكتاب مصدقًا الكتبَ قبله إليك، مهيمنا عليه= فيكون قوله:"مصدقًا" حالا من"الكتاب" وبعضًا منه، ويكون"التصديق" من صفة"الكتاب"، و"المهيمن" حالا من"الكاف" التي في"إليك"، وهي كناية عن ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم، و"الهاء" في قوله:"عليه"، عائدة على الكتاب.
* * *
وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب، بل هو خطأ. وذلك أنّ"المهيمن" عطفٌ على"المصدق"، فلا يكون إلا من صفة ما كان"المصدِّق" صفةً له. ولو كان معنى الكلام ما روي عن مجاهد، لقيل:"وأنزلنا إليك الكتاب مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب مهيمنًا عليه" (١) = لأنه لم يتقدم من صفة"الكاف" التي في"إليك" بعدَها شيءٌ يكون"مهيمنًا عليه" عطفًا عليه، (٢) وإنما عطف به على"المصدق"، لأنه من صفة"الكتاب" الذي من صفته"المصدق".
* * *
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "ومهيمنًا" بالواو، والصواب إسقاطها، لأنه أراد إسقاط العطف، إذ كان"مهيمنًا" حالا من"الكاف" في"إليك"، غير معطوف على شيء قبله، كما ترى في بقية كلامه.
(٢) في المطبوعة: "لأنه متقدم من صفة الكاف التي في إليك وليس بعدها شئ... "، فزاد"وليس"، وليست في المخطوطة، وجعل"يتقدم""متقدم"، إذ كان في المخطوطة خطأ، فأساء الفهم، وأساء التصرف!! كان في المخطوطة كما أثبت إلا أنه كتب"لأنه يتقدم من صفة الكاف" سقط من الناسخ"لم"، فأثبتها، واستقام الكلام على وجهه.
381
فإن ظن ظان أن"المصدق"= على قول مجاهد وتأويلهِ هذا= من صفة"الكاف" التي في"إليك"، فإن قوله:"لما بين يديه من الكتاب"، يبطل أن يكون تأويل ذلك كذلك، وأن يكون"المصدق" من صفة"الكاف" التي في"إليك". لأن"الهاء" في قوله:"بين يديه"، كناية اسم غير المخاطب، وهو النبي ﷺ في قوله"إليك". (١) ولو كان"المصدق" من صفة"الكاف"، لكان الكلام: وأنزلنا إليك الكتاب مصدِّقًا لما بين يديك من الكتاب، (٢) ومهيمنا عليه= فيكون معنى الكلام حينئذٍ كذلك. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾
قال أبو جعفر: وهذا أمر من الله تعالى ذكره لنبيه محمد ﷺ أن يحكم بين المحتكمين إليه من أهل الكتاب وسائر أهلِ الملل بكتابه الذي أنزله إليه، وهو القرآن الذي خصّه بشريعته. يقول تعالى ذكره: احكم، يا محمد، بين أهل الكتاب والمشركين بما أُنزل إليك من كتابي وأحكامي في كل ما احتمكوا فيه إليك، من الحدود والجُرُوح والقَوَد والنفوس، فارجم الزاني المحصَن، واقتل النفسَ القاتلةَ بالنفس المقتولة ظلمًا، وافقأ العين بالعين، واجدع الأنف بالأنف، فإني أنزلت إليك القرآن مصدِّقًا في ذلك ما بين يديه من الكتب، ومهيمنًا عليه رقيبًا، يقضي على ما قبله من سائر الكتب قبلَه، ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود= الذين
(١) في المخطوطة:
"والنبي صلى الله عليه " بإسقاط"هو"، والصواب ما في المطبوعة.
(٢) في المخطوطة: "لما بين يديه"، والصواب ما في المطبوعة.
(٣) في المخطوطة: "فيكون معنى الكلام حينئذ يكون كذلك"، بزيادة"يكون"، والصواب ما في المخطوطة، إلا أن يكون الناسخ أسقط من الكلام شيئًا. ومع ذلك، فالذي في المطبوعة مستقيم.
382
يقولون: إن أوتيتم الجلدَ في الزاني المحصن دون الرجم، وقتلَ الوضيع بالشريف إذا قتله، وتركَ قتل الشريف بالوضيع إذا قتله، فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا (١) = عن الذي جاءك من عند الله من الحق، وهو كتاب الله الذي أنزله إليك. يقول له: اعمل بكتابي الذي أنزلته إليك إذا احتكموا إليك فاخترتَ الحكم عليهم، (٢) ولا تتركنَّ العمل بذلك اتباعًا منك أهواءَهم، وإيثارًا لها على الحق الذي أنزلته إليك في كتابي، كما:-
١٢١٢٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فاحكم بينهم بما أنزل الله"، يقول: بحدود الله="ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق".
١٢١٢٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عنبسة، عن جابر، عن عامر، عن مسروق: أنه كان يحلف اليهوديَّ والنصراني بالله، ثم قرأ: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ) [سورة المائدة: ٤٩]، (٣) وأنزل الله: (أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) [سورة الأنعام: ١٥١].
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لكل قوم منكم جعلنا شرعةً. (٤)
* * *
(١) السياق: "ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود... عن الذي جاءك من عند الله... ".
(٢) في المطبوعة: "فاختر الحكم"، والصواب ما في المخطوطة، لأن رسول الله ﷺ مخير في الحكم بينهم وفي ترك الحكم، كما سلف ص: ٣٣٣.
(٣) في المخطوطة: "ثم قرأ: فإن جاءوك فاحكم بينهم بما أنزل الله"، وصواب الاستدلال في هذه الآية من المائدة، أما آية المائدة الأخرى (٤٢)، فتلاوتها: "فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، وليس فيها الدليل الذي تطلبه في استحلافهم بالله عز وجل.
(٤) انظر تفسير"كل" فيما سلف ٣: ١٩٣/٦: ٢٠٩/٨: ٢٦٩.
383
و"الشرعة" هي"الشريعة" بعينها، تجمع"الشرعة""شِرَعًا"، (١) "والشريعة""شرائع". ولو جمعت"الشرعة""شرائع"، كان صوابًا، لأن معناها ومعنى"الشريعة" واحد، فيردّها عند الجمع إلى لفظ نظيرها. وكل ما شرعت فيه من شيء فهو"شريعة". ومن ذلك قيل: لشريعة الماء"شريعة"، لأنه يُشْرع منها إلى الماء. ومنه سميت شرائع الإسلام"شرائع"، لشروع أهله فيه. ومنه قيل للقوم إذا تساووا في الشيء:"هم شَرَعٌ"، سواءٌ.
* * *
وأما"المنهاج"، فإنّ أصله: الطريقُ البيِّن الواضح، يقال منه:"هو طريق نَهْجٌ، وَمنهْجٌ"، بيِّنٌ، كما قال الراجز: (٢)
مَنْ يكُ فِي شَكٍّ فَهذَا فَلْجُ مَاءٌ رَوَاءٌ وَطَرِيقٌ نَهْجُ (٣)
ثم يستعمل في كل شيء كان بينًا واضحًا سهلا.
* * *
فمعنى الكلام: لكل قوم منكم جعلنا طريقًا إلى الحق يؤمُّه، وسبيلا واضحًا يعمل به.
* * *
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "تجمع الشرعة شراعًا"، وهذا خطأ من الناسخ لاشك فيه، فإن جمع"فعلة" (بكسر فسكون) إنما يكسر على"فعل" (بكسر ففتح)، في الصحيح وفي غيره مثل"كسر"، و"لحى". وقد جاء في"فعلة""فعال"، وهو قليل، كجمع"لقحة" و"لقاح"، و"حقة"، و"حقاق". فجائز أن يكون"شراع" جمعًا عزيزًا للشرعة، ولكن الأقرب في مثل ذلك أن يذكر الجمع الذي أطبق عليه القياس.
(٢) كأنه راجز من بني العنبر بن عمرو بن تميم.
(٣) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٦٨، ومعجم ما استعجم: ١٠٢٧، واللسان (روي)، وروايتهم جميعًا: "من يك ذا شك". ولكن هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة.
و"فلج" (بفتح فسكون) : ماءه لبني العنبر بن عمرو بن تميم، يكثر ذكره في شعر بني تميم، ويمتدحون ماءه، قال بعض الأعراب:
أَلا شَرْبَةٌ مِنْ مَاءٍ مُزْنٍ عَلَى الصَّفَا حَدِيثَهُ عَهْد بالسَّحَاب المُسَخَّرِ
إلَى رَصَفٍ مِنْ بَطْنِ فَلْجٍ، كأَنَّهَا إذَا ذُقْتَهَا بَيُّوتَةً مَاءُ سُكَّرِ
و"ماء رواء" (بفتح الراء) : الماء العذب الذي فيه للواردين ري.
384
ثم اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله:"لكل جعلنا منكم".
فقال بعضهم: عنى بذلك أهلَ الملل المختلفة، أي: أن الله جعل لكل مِلّةٍ شريعة ومنهاجًا.
ذكر من قال ذلك:
١٢١٢٦ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا" يقول: سبيلا وسُنّة. والسنن مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحلُّ الله فيها ما يشاء، ويحرِّم ما يشاء بلاءً، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره: التوحيدُ والإخلاصُ لله، الذي جاءت به الرسل.
١٢١٢٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا"، قال: الدينُ واحد، والشريعةُ مختلفة.
١٢١٢٨ - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي قال: الإيمان منذُ بَعث الله تعالى ذكره آدم صلى الله عليه وسلم: شهادةُ أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله، لكلّ قوم ما جاءَهم من شرعة أو منهاج، فلا يكون المقرُّ تاركًا، ولكنه مُطِيع. (١)
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك أمَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم. وقالوا: إنما معنى الكلام: قد جعلنا الكتاب الذي أنزلناه إلى نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم،
(١) الأثر: ١٢١٢٨-"عبد الله بن هاشم"، لم أعرف من يكون. وقد مضى في الإسنادين رقم: ٧٣٢٩، ٧٩٣٨، في مثل هذا الإسناد نفسه.
و"سيف بن عمر التميمي"، مضى برقم: ٧٣٢٩، ٧٩٣٨، وهو ساقط الرواية. وكان في المطبوعة هنا أيضا، كما في الإسنادين المذكورين: "سيف بن عمرو"، وهو خطأ محض.
385
أيها الناس، لكُلِّكم= أي لكل من دخل في الإسلام وأقرّ بمحمد ﷺ أنه لي نبيٌّ= شرعةً ومنهاجا.
ذكر من قال ذلك:
١٢١٢٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا" قال: سنة، ="ومنهاجًا"، السبيل="لكلكم"، من دخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جعل الله له شرعة ومنهاجًا. يقول: القرآن، هو له شرعة ومنهاج.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: معناه: لكل أهل ملة منكم، أيها الأمم جعلنا شِرعةً ومنهاجًا.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) ولو كان عنى بقوله:"لكل جعلنا منكم"، أمة محمد، وهم أمّة واحدةٌ، لم يكن لقوله:"ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة"، وقد فعل ذلك فجعلهم أمة واحدة= معنىً مفهوم. ولكن معنى ذلك، على ما جرى به الخطاب من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر ما كتب على بني إسرائيل في التوراة، وتقدم إليهم بالعمل بما فيها، ثم ذكر أنه قفَّي بعيسى ابن مريم على آثار الأنبياء قبله، وأنزل عليه الإنجيل، وأمر من بَعثه إليه بالعمل بما فيه. ثم ذكر نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأخبره أنه أنزل إليه الكتابَ مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب، وأمره بالعمل بما فيه، والحكم بما أنزل إليه فيه دون ما في سائر الكتب غيره= وأعلمه أنه قد جعل له ولأمته شريعةً غيرَ شرائع الأنبياء والأمم قبلَه الذين قصَّ عليهم قصصَهم، وإن كان دينه ودينهم- في توحيد الله، والإقرار بما جاءهم به من عنده، والانتهاء إلى أمره ونهيه- واحدًا، فهم مختلفو الأحوال فيما شرع لكم واحد منهم ولأمته فيما أحلّ لهم وحرَّم عليهم.
* * *
386
وبنحو الذي قلنا في"الشرعة" و"المنهاج" من التأويل، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٢١٣٠- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا مسعر، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا" قال: سنةً وسبيلا.
١٢١٣١ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا"، قال: سنة وسبيلا.
١٢١٣٢ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان وإسرائيل وأبيه، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله.
١٢١٣٣ - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو يحيى الرازي، عن أبي سنان، عن أبي إسحاق، عن يحيى بن وثَّاب قال: سألت ابن عباس عن قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا"، قال: سنة وسبيلا. (١)
١٢١٣٤ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"شرعة ومنهاجًا"، قال: سنة وسبيلا.
١٢١٣٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن رجل من بني تميم، عن ابن عباس، بمثله.
(١) الأثر: ١٢١٣٣-"أبو يحيى الرازي "أو"أبو يحيى العبدي" هو: "إسحق بن سلمان الرازي"، ثقة. مضى برقم: ٦٤٥٦.
و"أبو سنان" هو: "سعيد بن سنان البرجمي". روى عن أبي إسحق السبيعي، وروى عنه إسحق بن سليمان أبو يحيى الرازي. مضى برقم: ١٧٥، ١١٢٤٠. وكان في المطبوعة: "أبو شيبان"، وهو خطأ صرف.
و"يحيى بن وثاب الأسدي" المقرئ. روى عن ابن عمر، وابن عباس. وروى عنه أبو إسحق السبيعي. قال ابن سعد: "كان ثقة قليل الحديث صاحب قرآن". ومضى برقم: ١١٤٨٨.
387
١٢١٣٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله.
١٢١٣٧ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا" يعني: سبيلا وسنةً.
١٢١٣٨ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين قال: سمعت الحسن يقول:"الشرعة"، السنة.
١٢١٣٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد قال: سنة وسبيلا. (١)
١٢١٤٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"شرعة ومنهاجًا"، قال:"الشرعة"، السنة="ومنهاجًا"، قال: السبيل.
١٢١٤١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
١٢١٤٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا"، يقول: سبيلا وسنة.
١٢١٤٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحوضي قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت رجلا من بني تميم، عن ابن عباس، بنحوه. (٢)
١٢١٤٤ - حدثني محمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن المفضل قال،
(١) الأثر: ١٢١٣٩-"أبو يحيى القتات الكناني"، مختلف في اسمه. وهو ضعيف متكلم فيه. مترجم في التهذيب.
(٢) الأثر: ١٢١٤٣-"الحوضي" هو"حفص بن عمر بن الحارث بن سخبرة النمري" أبو عمر الحوضي، ثقة ثبت متقن. مضى برقم: ١١٤٤٩.
388
حدثنا أسباط، عن السدي:"شرعة ومنهاجًا"، يقول: سبيلا وسنة.
١٢١٤٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: السنَّة والسبيل.
١٢١٤٦ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا"، يقول: سبيلا وسنة.
١٢١٤٧ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، أخبرني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"شرعة ومنهاجًا"، قال: سبيلا وسنةً.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ "
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو شاء ربُّكم لجعل شرائعكم واحدة، ولم يجعل لكل أمة شريعةً ومنهاجًا غيرَ شرائع الأمم الأخر ومنهاجهم، فكنتم تكونون أمة واحدةً لا تختلف شرائعكم ومنهاجكم، ولكنه تعالى ذكره يعلم ذلك، فخالف بين شرائعكم ليختبركم، فيعرف المطيع منكم من العاصي، والعاملَ بما أمره في الكتاب الذي أنزله إلى نبيِّه ﷺ من المخالف.
* * *
و"الابتلاء": هو الاختيار، وقد أبنتُ ذلك بشواهده فيما مضى قبلُ. (١)
* * *
وقوله:"فيما آتاكم"، يعني: فيما أنزل عليكم من الكتب، كما:-
(١) انظر تفسير"الابتلاء" فيما سلف ٢: ٤٩/٣: ٧/٧: ٥٧٤، تعليق: ١، والمراجع هناك.
وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا: "وقد ثبت ذلك"، وليس بشيء، أخطأ الناسخ، صوابها ما أثبت.
389
١٢١٤٨ - حدثنا القاسم، قال، حدثنا الحسين، قال، ثني حجاح، عن ابن جريج: (ولكن ليبلوكم فيما آتاكم) قال عبد الله بن كثير: لا أعلمه إلا قال، ليبلوكم فيما آتاكم من الكتب.
* * *
فإن قال قائل: وكيف قال:"ليبلوكم فيما آتاكم"، ومن المخاطب بذلك؟ وقد ذكرت أنّ المعنيَّ بقوله:"لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجًا" نبيُّنا مع الأنبياء الذين مضوا قبله وأممِهم، والذين قبل نبيّنا ﷺ على حِدَةٍ؟ (١)
قيل: إن الخطاب وإن كان لنبينا صلى الله عليه وسلم: فإنه قد أريد به الخبر عن الأنبياء قبله وأممهم. ولكن العرب من شأنها إذا خاطبت إنسانًا وضمَّت إليه غائبًا، فأرادت الخبر عنه، أن تغلِّب المخاطب، فيخرج الخبرُ عنهما على وجه الخطاب، فلذلك قال تعالى ذكره:"لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا".
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فبادروا أيها الناس، إلى الصالحات من الأعمال، والقُرَب إلى ربكم، بإدمان العمل بما في كتابكم الذي أنزله إلى
(١) كانت هذه الجملة في المطبوعة: "وقد ذكرت أن المعنى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا. لكل نبي من الأنبياء الذين مضوا قبله وأممهم الذين قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، والمخاطب النبي وحده". غير ما في المخطوطة، وحذف منه وزاد فيه. وفي المخطوطة: "وقد ذكرت أن المعنى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا نبيا مع الأنبياء الذين مضوا قبله وأممهم، والذين قبل نبينا ﷺ حده". وهو سياق لا يستقيم، ورجحت أن الناسخ أسقط"قوله" قبل الآيه، وأسقط"على" من قوله: "على حدة". لأن مراد أبي جعفر أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل في خطابه خطاب الأنبياء الذين قبله هم وأممهم. وأما الذي في المطبوعة، فهو تصرف جاوز حده.
390
نبيكم، فإنه إنما أنزله امتحانًا لكم وابتلاءً، ليتبين المحسن منكم من المسيء، فيجازي جميعكم على عمله جزاءَه عند مصيركم إليه، فإن إليه مصيركم جميعًا، فيخبر كلَّ فريق منكم بما كان يخالف فيه الفرقَ الأخرى، فيفْصَل بينهم بفصل القضاء، وتُبِينُ المحقَّ مجازاته إياه بجناته، (١) من المسيء بعقابه إياه بالنار، فيتبين حينئذ كل حزب عيانًا، المحقَّ منهم من المبطل. (٢)
* * *
فإن قال قائل: أو لم ينبئنا ربُّنا في الدنيا قبل مرجعنا إليه ما نحن فيه مختلفون؟
قيل: إنه بيَّن ذلك في الدنيا بالرسل والأدلة والحجج، دون الثواب والعقاب عيانًا، فمصدق بذلك ومكذِّب. وأما عند المرجع إليه، فإنه ينبئهم بذلك بالمجازاة التي لا يشكُّون معها في معرفة المحق والمبطل، ولا يقدرون على إدخال اللبس معها على أنفسهم. فكذلك خبرُه تعالى ذكره أنه ينبئنا عند المرجع إليه بما كنَّا فيه نختلف في الدنيا. وإنما معنى ذلك: إلى الله مرجعكم جميعًا، فتعرفون المحقَّ حينئذ من المبطل منكم، كما:-
١٢١٤٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب، عن أبي سنان قال: سمعت الضحاك يقول:"فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعًا"، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، البرُّ والفاجر. (٣)
* * *
(١) في المطبوعة:
"ويبين المحق بمجازاته إياه "، أساء قراءة المخطوطة، فتصرف فيها.
(٢) انظر تفسير"استبق" فيما سلف ٣: ١٩٦= وتفسير"الخيرات" فيما سلف ٣: ١٩٦= وتفسير"المراجع" فيما سلف ٦: ٤٦٤= وتفسير"أنبأ" و"النبأ" فيما سلف ١: ٤٨٨، ٤٨٩/٦: ٢٥٩، ٤٠٤/١٠: ٢٠١
(٣) الأثر: ١٢١٤٩-"أبو سنان" هو: "سعيد بن سنان"، مضى قريبا برقم: ١٢١٣٣.
391
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (٤٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وأن احكم بينهم بما أنزل الله"، وأنزلنا إليك، يا محمد، الكتابَ مصدقًا لما بين يديه من الكتاب، وأنِ احكم بينهم= فـ"أن" في موضع نصب بـ"التنزيل".
* * *
ويعني بقوله:"بما أنزل الله"، بحكم الله الذي أنزله إليك في كتابه.
* * *
وأما قوله:"ولا تتبع أهواءهم"، فإنه نهيٌ من الله نبيَّه محمدًا ﷺ أن يتّبع أهواء اليهود الذين احتكموا إليه في قتيلهم وفاجِرَيْهم، (١) وأمرٌ منه له بلزوم العمل بكتابه الذي أنزله إليه.
* * *
وقوله:"واحذرهم أن يفتِنُوك عن بعض ما أنزل الله إليك"، يقول تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: واحذر، يا محمد، هؤلاء اليهود الذين جاءوك محتكمين إليك="أن يفتنوك"، فيصدُّوك عن بعض ما أنزل الله إليك من حكم كتابه، فيحملوك على ترك العمل به واتّباع أهوائهم. (٢)
* * *
وقوله:"فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم"، يقول تعالى ذكره: فإن تولى هؤلاء اليهود الذين اختصموا إليك عنك، فتركوا العمل بما حكمت به
(١) قوله: "وفاجريهم"، يعني اليهودي واليهودية اللذان زنيا، فرجمها صلى الله عليه وسلم.
(٢) انظر تفسير"الفتنة" فيما سلف ١٠: ٣١٧، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
392
عليهم وقضيت فيهم (١) "فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم"، يقول: فاعلم أنهم لم يتولوا عن الرضى بحكمك وقد قضيت بالحقّ، إلا من أجل أن الله يريد أن يتعجّل عقوبتهم في عاجل الدنيا ببعض ما قد سلف من ذنوبهم (٢) ="وإن كثيرًا من الناس لفاسقون"، يقول: وإن كثيرًا من اليهود="لفاسقون"، يقول: لتاركُو العمل بكتاب الله، ولخارجون عن طاعته إلى معصيته. (٣)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الروايةُ عن أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٢١٥٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد، وابن صوريا وشأس بن قيس، (٤) بعضُهم لبعضٍ: اذهبوا بنا إلى محمد، لعلّنا نفتنه عن دينه! فأتوه فقالوا: يا محمد، إنك قد عرفت أنَّا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وأنَّا إن اتّبعناك اتّبعنا يهود ولم يخالفونا، وأن بيننا وبين قومِنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدقك! فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله فيهم:"وأنِ احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتِنُوك عن بعض ما أنزل الله إليك"، إلى قوله:"لقوم يوقنون". (٥)
١٢١٥١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك"، قال: أن يقولوا:"في
(١) انظر تفسير"تولى" فيما سلف ١٠: ٣٣٦، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير"الإصابة" فيما سلف ٨: ٥١٤، ٥٣٨، ٥٤٠، ٥٥٥.
(٣) انظر تفسير"الفسق" فيما سلف ١٠: ٣٩٣، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٤) في ابن هشام: "وابن صلوبا، وعبد الله بن صوريا".
(٥) الأثر: ١٢١٥٠- سيرة ابن هشام ٢: ٢١٦، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١١٩٧٤.
393
التوراة كذا"، وقد بينَّا لك ما في التوراة. وقرأ (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) [سورة المائدة: ٤٥]، بعضُها ببعضٍ.
١٢١٥٢ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: دخل المجوسُ مع أهل الكتاب في هذه الآية:"وأن احكم بينهم بما أنزل الله".
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيبغي هؤلاء اليهود الذين احتكموا إليك، فلم يرضوا بحكمك، (١) إذ حكمت فيهم بالقسط (٢) ="حكم الجاهلية"، يعني: أحكام عبَدة الأوثان من أهل الشرك، وعندهم كتاب الله فيه بيان حقيقة الحكم الذي حكمت به فيهم، وأنه الحق الذي لا يجوزُ خلافه.
ثم قال تعالى ذكره= موبِّخا لهؤلاء الذين أبوا قَبُول حكم رسول الله ﷺ عليهم ولهم من اليهود، ومستجهلا فعلَهم ذلك منهم=: ومَنْ هذا الذي هو أحسن حكمًا، أيها اليهود، من الله تعالى ذكره عند من كان يوقن بوحدانية الله، ويقرُّ بربوبيته؟ يقول تعالى ذكره: أيّ حكم أحسن من حكم الله، إن كنتم موقنين أن لكم ربًّا، وكنتم أهل توحيدٍ وإقرار به؟
* * *
(١) انظر تفسير"بغى" و"ابتغى" فيما سلف ١٠: ٢٩٠، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) في المطبوعة: "وقد حكمت"، وفي المخطوطة: "أو حكمت"، وصوابها ما أثبت.
394
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال مجاهد.
١٢١٥٣ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"أفحكم الجاهلية يبغون"، قال: يهود.
١٢١٥٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أفحكم الجاهلية يبغون"، يهود.
١٢١٥٥ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شيخ، عن مجاهد:"أفحكم الجاهلية يبغون"، قال: يهود.
* * *
395
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بهذه الآية، وإن كان مأمورًا بذلك جميع المؤمنين.
فقال بعضهم: عنى بذلك عبادة بن الصامت، وعبد الله بن أبي ابن سلول، في براءة عُبَادة من حلف اليهود، وفي تمسك عبد الله بن أبي ابن سلول بحلف اليهود، بعد ما ظهرت عداوتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم= وأخبره الله أنه إذا تولاهم وتمسَّك بحلفهم: أنه منهم في براءته من الله ورسوله كَبرَاءتهم منهما.
ذكر من قال ذلك:
١٢١٥٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج، إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، إن لي موالي من يهود كثيرٌ
395
عدَدُهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من وَلاية يهود، وأتولَّى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي: إنّي رجل أخاف الدَّوائر، لا أبرأ من ولاية مواليّ. فقال رسول الله ﷺ لعبد الله ابن أبيّ: يا أبا الحباب، ما بخلتَ به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو إليك دونه؟ (١) قال: قد قبلتُ. فأنزل الله:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضُهم أولياء بعض" إلى قوله:"فترى الذين في قلوبهم مرض".
١٢١٥٧ - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني عثمان بن عبد الرحمن، عن الزهري قال: لما انهزم أهلُ بدر، قال المسلمون لأوليائهم من يهود: آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوٍم مثل يوم بدر! فقال مالك بن صيف: غرَّكم أن أصبتم رهطًا من قريش لا علم لهم بالقتال!! أما لو أمْرَرْنَا العزيمة أن نستجمع عليكم، (٢) لم يكن لكم يدٌ أن تقاتلونا! فقال عبادة: يا رسول الله، إن أوليائي من اليهود كانت شديدةً أنفسهم، كثيًرا سلاحهم، شديدةً شَوْكتُهم، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من وَلايتهم، ولا مولى لي إلا الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبيّ: لكني لا أبرأ من ولاء يهود، إنّي رجل لا بدَّ لي منهم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أبا حُباب، أرأيت الذي نَفِست به من ولاء يهود على عبادة، فهو لك دونه؟ قال: إذًا أقبلُ! فأنزل الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعض أولياء بعض" إلى أن بلغ إلى قوله:"والله يعصمك من الناس". (٣)
١٢١٥٨ - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس قال، حدثنا ابن إسحاق قال،
(١) في المخطوطة: "فهو إلى دونه"، والصواب ما في المطبوعة.
(٢) في المطبوعة: "أسررنا العزيمة"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة."أمر الحبل يمره إمرارًا": فتله فتلاً محكمًا قويًا. يعني: أجمعنا عزيمتنا.
(٣) الأثر: ١٢١٥٧-"عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري"، ضعيف متروك الحديث. مضى برقم: ٥٧٥٤.
396
حدثني والدي إسحاق بن يسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشبَّث بأمرهم عبد الله بن أبيّ وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم= وكان أحد بني عوف بن الخزرج، له من حلفهم مثلُ الذي لهم من عبد الله بن أبيّ= فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله، أتبرَّأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكُفّار وَولايتهم! ففيه وفي عبد الله بن أبيّ نزلت الآيات في"المائدة":"يا أيها الذين آمنوا لا تتْخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعضٍ"، الآية. (١)
* * *
وقال آخرون: بل عُني بذلك قومٌ من المؤمنين كانوا هَمُّوا حين نالهم بأحُدٍ من أعدائهم من المشركين ما نالهم= أن يأخذوا من اليهود عِصَمًا، (٢) فنهاهم الله عن ذلك، وأعلمهم أنّ من فعل ذلك منهم فهو منهم.
ذكر من قال ذلك:
١٢١٥٩ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، قال: لما كانت وقعة أحُدٍ، اشتدّ على طائفة من الناس، وتخوَّفوا أن يُدَال عليهم الكفَّار، (٣) فقال رجل لصاحبه: أمَّا أنا فألحق بدهلك اليهوديّ، فآخذ منه أمانًا وأتهَوّد معه، (٤) فإني أخاف أن تُدال علينا اليهود. وقال الآخر: أمَّا أنا فألحق بفلانٍ النصراني ببعض أرض
(١) الأثر: ١٢١٥٨- سيرة ابن هشام ٣: ٥٢، ٥٣.
(٢) "العصم" جمع"عصمة": وهي الحبال والعهود، تعصمهم وتمنعهم من الضياع.
(٣) "أديل عليه" (بالبناء للمجهول) : أي كانت له الدولة والغلبة.
(٤) "دهلك اليهودي" لم أجد له ذكرًا فيما بين يدي من الكتب. وأخشى أن يكون اسمه تحريف.
397
الشأم، فآخذ منه أمانًا وأتنصَّر معه، فأنزل الله تعالى ذكره ينهاهما:"يا آيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهودَ والنصارَى أولياءَ بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين".
* * *
وقال آخرون: بل عُني بذلك أبو لبابة بن عبد المنذر، في إعلامه بني قريظة إذ رَضُوا بحكم سعدٍ: أنه الذَّبح.
ذكر من قال ذلك:
١٢١٦٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، قال: بعث رسول الله ﷺ أبا لُبابة بن عبد المنذر، من الأوس= وهو من بني عمرو بن عوف= فبعثه إلى قريظة حين نَقَضت العهد، فلما أطاعوا له بالنزول، (١) أشار إلى حلقه: الذَّبْحَ الذَّبْحَ.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهَىَ المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارًا وحلفاءَ على أهل الإيمان بالله ورسوله وغيرَهم، (٢) وأخبر أنه من اتخذهم نصيرًا وحليفًا ووليًّا من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزُّب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان. وقد يجوز أن تكون الآية نزلت في شأن عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي ابن سلول وحلفائهما من اليهود= ويجوز أن تكون نزلت في أبي لبابة بسبب فعله في بني قريظة= ويجوز أن تكون نزلت في شأن الرَّجلين اللذين ذكر السدي أن أحدَهما همَّ باللحاق بدهلك اليهودي، والآخر بنصرانيّ بالشأم= ولم
(١) في المخطوطة: "أطاعوا الله بالنزول"، والجيد ما في المطبوعة.
(٢) في المطبوعة، حذف قوله: "وغيرهم".
398
يصحّ بواحدٍ من هذه الأقوال الثلاثة خبرٌ تثبت بمثله حجة، فيسلّم لصحته القولُ بأنه كما قيل.
فإذْ كان ذلك كذلك، فالصواب أن يحكم لظاهر التنزيل بالعموم على ما عمَّ، ويجوز ما قاله أهل التأويل فيه من القول الذي لا علم عندنا بخلافه. غير أنه لا شك أن الآية نزلت في منافق كان يوالي يهودًا أو نصارى خوفًا على نفسه من دوائر الدهر، لأن الآية التي بعد هذه تدلّ على ذلك، وذلك قوله: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ) الآية.
وأما قوله:"بعضهم أولياء بعض"، فإنه عنى بذلك: أن بعض اليهود أنصار بعضهم على المؤمنين، ويد واحدة على جميعهم= وأن النصارى كذلك، بعضهم أنصار بعض على من خالف دينهم وملتهم= معرِّفًا بذلك عباده المؤمنين: أنّ من كان لهم أو لبعضهم وليًّا، فإنما هو وليهُّم على من خالف ملتهم ودينهم من المؤمنين، كما اليهود والنصارى لهم حَرْب. فقال تعالى ذكره للمؤمنين: فكونوا أنتم أيضًا بعضكم أولياء بعض، ولليهوديّ والنصراني حربًا كما هم لكم حرب، وبعضهم لبعض أولياء، لأن من والاهم فقد أظهر لأهل الإيمان الحربَ، ومنهم البراءة، وأبان قطع وَلايتهم. (١)
* * *
(١) انظر تفسير"ولي" و"أولياء" فيما سلف ٩: ٣١٩، تعليق: ١، والمراجع هناك.
399
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، ومن يتولَّ اليهود والنصارى دون المؤمنين، فإنه منهم. يقول: فإن من تولاهم ونصرَهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولً أحدًا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راضٍ. وإذا رضيه ورضي دينَه، فقد عادى ما خالفه وسَخِطه، وصار حكُمه حُكمَه، (١) ولذلك حَكَم مَنْ حكم من أهل العلم لنصارى بني تغلب في ذبائحهم ونكاح نسائهم وغير ذلك من أمورهم، بأحكام نصَارَى بني إسرائيل، لموالاتهم إياهم، ورضاهم بملتهم، ونصرتهم لهم عليها، وإن كانت أنسابهم لأنسابهم مخالفة، وأصل دينهم لأصل دينهم مفارقًا.
* * *
وفي ذلك الدلالةُ الواضحة على صحة ما نقول، من أن كل من كان يدين بدينٍ فله حكم أهل ذلك الدين، كانت دينونته به قبل مجيء الإسلام أو بعده. إلا أن يكون مسلمًا من أهل ديننا انتقل إلى ملّة غيرِها، فإنه لا يُقَرُّ على ما دان به فانتقل إليه، ولكن يقتل لردَّته عن الإسلام ومفارقته دين الحق، إلا أن يرجع قبل القَتْل إلى الدين الحق= (٢) وفسادِ ما خالفه من قول من زعم: أنه لا يحكم بحكم أهل الكتابين لمن دان بدينهم، إلا أن يكون إسرائيليًّا أو منتقلا إلى دينهم من غيرهم قبل نزول الفرقان. فأما من دان بدينهم بعد نزول الفُرْقان، ممن لم يكن منهم، ممن خالف نسبُه نسبهم وجنسه جنسهم، فإنه حكمه لحكمهم مخالفٌ. (٣)
* * *
(١) انظر تفسير"التولي" فيما سلف ٩: ٣١٩، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) قوله: "وفساد ما خالفه"، مجرور معطوف على قوله آنفا: "وفي ذلك الدلالة الواضحة على صحة ما نقول".
(٣) انظر ما سلف ٩: ٥٧٣- ٥٨٧
400
ذكر من قال بما قلنا من التأويل.
١٢١٦١ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرُّؤَاسي، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب، فقرأ:"ومن يتولَّهم منكم فإنه منهم". (١)
١٢١٦٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، أنها في الذبائح. من دخل في دين قوم فهو منهم.
١٢١٦٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كلوا من ذبائح بني تغلب، وتزوّجوا من نسائهم، فإن الله بقول في كتابه:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، ولو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم.
١٢١٦٤ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن هشام قال: كان الحسن لا يرى بذبائح نصارى العرب ولا نكاح نسائهم بأسًا، وكان يتلو هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهودَ والنصارَى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهَّم منكم فإنه منهم". (٢)
١٢١٦٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد، قال، أخبرنا ابن المبارك، عن
(١) الأثر: ١٢١٦١-"حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي"، ثقة. مضى برقم: ١٧٨، ٨٨٦، ٥٣٤٧.
(٢) الأثر: ١٢١٦٤-"حسين بن علي بن الوليد الجعفي"، مضى مرارًا، منها: ٢٩، ١٧٤، ٤٤١، ٤٤١٥، ٧٢٨٧، ٧٤٩٩، ١١٤٦٣، وكان في المطبوعة"حسن بن علي"، وهو خطأ، وفي المخطوطة غير منقوط.
و"زائدة"، هو: "زائدة بن قدامة الثقفي"، مضى برقم: ٢٩، ٤٨٩٧، ٧٢٨٧.
401
هارون بن إبراهيم قال: سئل ابن سيرين عن رجل يبيع دارَه من نصارَى يتخذونها بِيعَةً، قال: فتلا هذه الآية:"لا تتَّخِذوا اليهود والنصارى أولياء".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إن الله لا يوفِّق من وضع الولاية في غير موضعها، فوالى اليهود والنصارى= مع عداوتهم الله ورسوله والمؤمنين= على المؤمنين، وكان لهم ظهيًرا ونصيرًا، لأن من تولاهم فهو لله ولرسوله وللمؤمنين حَرْبٌ.
وقد بينا معنى"الظلم" في غير هذا الموضع، وأنه وضع الشيء في غير موضعه، بما أغنى عن إعادته.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾
اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية.
فقال بعضهم: عنى بها عبد الله بن أبي ابن سلول.
ذكر من قال ذلك:
١٢١٦٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن عطية بن سعد:"فترى الذين في قلوبهم مرض"، عبد الله بن أبي="يسارعون
402
فيهم"، في ولايتهم="يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة"، إلى آخر الآية:"فيصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين".
١٢١٦٧ - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني والدي إسحاق بن يسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت:"فترى الذين في قلوبهم مرض"، يعني عبد الله بن أبي="يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة"، لقوله: إني أخشى دائرةً تُصِيبني! (١)
* * *
وقال آخرون: بل عُني بذلك قومٌ من المنافقين كانوا يُناصِحون اليهود ويغشون المؤمنين، ويقولون:"نخشى أن تكون الدائرة لليهود على المؤمنين"! (٢)
ذكر من قال ذلك:
١٢١٦٨ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم"، قال: المنافقون، في مصانعة يهود، ومناجاتهم، واسترضاعهم أولادَهم إياهم= وقول الله تعالى ذكره:"نخشى أن تصيبنا دائرة"، قال يقول: نخشى أن تكون الدَّائرة لليهود.
١٢١٦٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٢١٧٠ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فترى الذين في قلوبهم مرض" إلى قوله:"نادمين"، أُناسٌ من المنافقين كانوا يوادُّون اليهود ويناصحونهم دون المؤمنين.
١٢١٧١ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
(١) الأثر: ١٢١٦٧- سيرة ابن هشام ٣: ٥٣، مختصرًا وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٢١٥٨.
(٢) في المطبوعة: "أن تكون دائرة"، وأثبت ما في المخطوطة.
403
حدثنا أسباط، عن السدي:"فترى الذين في قلوبهم مرض"، قال: شك ="يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة"، و"الدائرة"، ظهور المشركين عليهم.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن ذلك من الله خبر عن ناس من المنافقين كانوا يوالون اليهودَ والنصارى ويغشُّون المؤمنين، ويقولون: نخشى أن تدور دوائر= إما لليهود والنصارى، وإما لأهل الشرك من عبدة الأوثان، أو غيرهم= على أهل الإسلام، أو تنزل بهؤلاء المنافقين نازلةٌ، فيكون بنا إليهم حاجة.
وقد يجوز أن يكون ذلك كان من قول عبد الله بن أبي، ويجوز أن يكون كان من قول غيره، غير أنه لا شك أنه من قول المنافقين.
* * *
فتأويل الكلام إذًا: فترى، يا محمد، الذين في قلوبهم شكٌّ، (١) ومرضُ إيمانٍ بنبوّتك وتصديق ما جئتهم به من عند ربك (٢) ="يسارعون فيهم"، يعني في اليهود والنصارى= ويعني بمسارعتهم فيهم: مسارعتهم في مُوالاتهم ومصانعتهم (٣) ="يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة"، يقول هؤلاء المنافقون: إنما نسارع في موالاة هؤلاء اليهود والنصارى، خوفًا من دائرة تدور علينا من عدوّنا. (٤)
* * *
ويعني بـ"الدائرة"، الدولة، كما قال الراجز: (٥)
تَرُدُّ عَنْكَ القَدَرَ المَقْدُورَا وَدَائِرَاتِ الدَّهْرِ أَنْ تَدُورَا (٦)
(١) في المطبوعة: "في قلوبهم مرض وشك إيمان"، غير ما في المخطوطة وهو الصواب المحض. لأنه يريد: أن المرض قد دخل إيمانهم وتصديقهم، بعد ذكر"الشك".
(٢) انظر تفسير"المرض" فيما سلف ١: ٢٧٨- ٢٨١.
(٣) انظر تفسير"المسارعة" فيما سلف ٧: ١٣٠، ٢٠٧، ٤١٨/١٠: ٣٠١ وما بعدها.
(٤) انظر تفسير"الإصابة" فيما سلف ص: ١٣٩٣، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٥) هو حميد الأرقط.
(٦) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٦٩، ولم أجد سائر الرجز.
404
يعني: أن تدول للدهر دولة، فنحتاج إلى نصرتهم إيانا، فنحن نواليهم لذلك. فقال الله تعالى ذكره لهم:"فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (٥٢) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده"، فلعل الله أن يأتي بالفتح. (١)
* * *
ثم اختلفوا في تأويل"الفتح" في هذا الموضع.
فقال بعضهم: عُنى به ههنا، القضاء.
ذكر من قال ذلك:
١٢١٧٢ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فعسى الله أن يأتي بالفتح"، قال: بالقضاء.
* * *
وقال آخرون: عني به فتح مكة.
ذكر من قال ذلك:
١٢١٧٣ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فعسى الله أن يأتي بالفتح"، قال: فتح مكة.
* * *
و"الفتح" في، كلام العرب، هو القضاء، كما قال قتادة، ومنه قول الله تعالى
(١) انظر تفسير"عسى" فيما سلف ٤: ٢٩٨/٨: ٥٧٩.
405
ذكره: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ) [سورة الأعراف: ٨٩].
وقد يجوز أن يكون ذلك القضاء الذي وعدَ الله نبيه محمدًا ﷺ بقوله:"فعسى الله أن يأتي بالفتح" فتح، مكة، لأن ذلك كان من عظيم قضاءِ الله، وفَصْل حُكمه بين أهل الإيمان والكفر، ومقرِّرًا عند أهل الكفر والنفاق، (١) أن الله معلي كلمته وموهن كيد الكافرين. (٢)
* * *
وأما قوله:"أو أمر من عنده"، فإن السدي كان يقول في ذلك، ما:-
١٢١٧٤ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أو أمر من عنده" قال:"الأمر"، الجزية.
* * *
وقد يحتمل أن يكون"الأمر" الذي وعد الله نبيه محمدًا ﷺ أن يأتي به هو الجزية، ويحتمل أن يكون غيرها. (٣) غير أنه أيّ ذلك كان، فهو مما فيه إدالة المؤمنين على أهل الكفر بالله وبرسوله، ومما يسوء المنافقين ولا يسرُّهم. وذلك أن الله تعالى ذكره قد أخبر عنهم أنّ ذلك الأمر إذا جاء، أصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين.
* * *
وأما قوله:"فيصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين"، فإنه يعني هؤلاء المنافقين الذين كانوا يوالون اليهود والنصارى. يقول تعالى ذكره: لعل الله أن يأتي بأمرٍ من عنده يُديل به المؤمنين على الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر، فيصبح هؤلاء المنافقون على ما أسرُّوا في أنفسهم من مخالّة اليهود والنصارى ومودّتهم، وبغْضَة المؤمنين ومُحَادّتهم،"نادمين"، كما:-
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "ويقرر"، وكأن الصواب ما أثبت.
(٢) انظر تفسير"الفتح" فيما سلف ٢: ٢٥٤، ٣٣٢/٩: ٣٢٣، ٣٢٤.
(٣) في المخطوطة: "أن يكون إلى غيرها"، وكأنه خطأ من الناسخ.
406
١٢١٧٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين"، من موادّتهم اليهود، ومن غِشِّهم للإسلام وأهله.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (٥٣) ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله:"ويقول الذين آمنوا". فقرأتها قرأة أهل المدينة: (فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله) بغير"واو".
* * *
وتأويل الكلام على هذه القراءة: فيصبح المنافقون، إذا أتى الله بالفتح أو أمرٍ من عنده، على ما أسروا في أنفسهم نادمين، يقول المؤمنون تعجُّبًا منهم ومن نفاقهم وكذبهم واجترائهم على الله في أيمانهم الكاذبة بالله: أهؤلاء الذين أقسمُوا لنا بالله إنهم لمعنا، وهم كاذبون في أيمانهم لنا؟ وهذا المعنى قصَد مجاهد في تأويله ذلك، الذي:-
١٢١٧٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده"، حينئذ،"يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد إيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين".
* * *
407
وكذلك ذلك في مصاحف أهل المدينة بغير"واو". (١)
وقرأ ذلك بعض البصريين: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالواو، ونصب"يقول" عطفًا به على"فعسى الله أن يأتي بالفتح". وذكر قارئ ذلك أنه كان يقول: إنما أريد بذلك: فعسى الله أن يأتي بالفتح، وعسى أن يقولَ الذين آمنوا= ومحالٌ غير ذلك، لأنه لا يجوز أن يقال:"وعسى الله أن يقول الذين آمنوا"، وكان يقول: ذلك نحو قولهم:"أكلت خبزًا ولبنًا"، كقول الشاعر:
وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا (٢)
* * *
فتأويل الكلام على هذه القراءة: فعسى الله أن يأتي بالفتح المؤمنين، أو أمر من عنده يُديلهم به على أهل الكفر من أعدائهم، فيصبح المنافقون على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين= وعسى أن يقول الذين آمنوا حينئذ: أهؤلاء الذين أقسموا بالله كذبًا جهدَ أيمانهم إنهم لمعكم؟
* * *
وهي في مصاحف أهل العراق بالواو: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا)
* * *
وقرأ ذلك قرأة الكوفيين (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالواو، ورفع"يقول"، بالاستقبال والسلامة من الجوازم والنواصب.
* * *
وتأويل من قرأ ذلك كذلك: فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم يندمون، ويقول الذين آمنوا= فيبتدئ"يقول" فيرفعها.
* * *
قال أبو جعفر: وقراءتنا التي نحن عليها"وَيَقُولُ" بإثبات"الواو" في
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣١٣.
(٢) مضى تخريجه في ١: ١٤٠، ٢٦٥/٦: ٤٢٣.
408
"ويقول"، لأنها كذلك هي في مصاحِفِنا مصاحف أهل المشرق، بالواو، وبرفع"يقول" على الابتداء.
* * *
فتأويل الكلام= إذْ كانت القراءة عندنا على ما وصفنا (١) =: فيصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين، ويقولُ المؤمنون: أهؤلاء الذين حَلَفوا لنا بالله جهد أيمانهم كَذِبًا إنهم لمعنا؟
* * *
يقول لله تعالى ذكره، مخبرًا عن حالهم عنده بنفاقهم وخبث أعمالهم="حبطت أعمالهم"، يقول: ذهبت أعمالهم التي عملوها في الدنيا باطلا لا ثواب لها ولا أجر، لأنهم عملوها على غير يقين منهم بأنها عليهم لله فرضٌ واجب، ولا على صِحّة إيمان بالله ورسوله، وإنما كانوا يعملونها ليدفعوا المؤمنين بها عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم، فأحبط الله أجرَها، إذ لم تكن له (٢) ="فأصبحوا خاسرين"، يقول: فأصبح هؤلاء المنافقون، عند مجيء أمر الله بإدالة المؤمنين على أهل الكفر، قد وُكِسوا في شرائهم الدنيا بالآخرة، وخابت صفقتهم، وهَلَكوا. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله وبرسوله:"يا أيها الذين آمنوا"، أي: صدّقوا لله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به نبيُّهم محمد صلى الله عليه وسلم="من يرتد منكم عن دينه"، يقول: من يرجع منكم عن دينه الحق الذي
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "إذ كان القراءة"، والجيد ما أثبت.
(٢) انظر تفسير"حبط" فيما سلف ٩: ٥٩٢، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير"خسر" فيما سلف ص: ٢٢٤، تعليق: ١، والمراجع هناك.
409
هو عليه اليوم، فيبدِّله ويغيره بدخوله في الكفر، إما في اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك من صنوف الكفر، (١) فلن يضر الله شيئا، وسيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، يقول: فسوف يجيء الله بدلا منهم، المؤمنين الذين لم يبدِّلوا ولم يغيروا ولم يرتدوا، بقومٍ خير من الذين ارتدُّوا وابدَّلوا دينهم، يحبهم الله ويحبون الله. (٢)
وكان هذا الوعيد من الله لمن سبق في علمه أنه سيرتدُّ بعد وفاةِ نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم. وكذلك وعدُه من وعدَ من المؤمنين ما وعدَه في هذه الآية، لمن سبق له في علمه أنه لا يبدّل ولا يغير دينه، ولا يرتدّ. فلما قَبَض الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم، ارتدّ أقوام من أهل الوبَرِ، وبعضُ أهل المَدَر، فأبدل الله المؤمنين بخيرٍ منهم كما قال تعالى ذكره، ووفى للمؤمنين بوعده، وأنفذ فيمن ارتدَّ منهم وعيدَه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٢١٧٧ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الله بن عياش، عن أبي صخر، عن محمد بن كعب: أن عمر بن عبد العزيز أرسل إليه يومًا، وعمر أمير المدينة يومئذ، فقال: يا أبا حمزة، آية أسهرتني البارحة! قال محمدٌ: وما هي، أيها الأمير؟ قال: قول الله:"يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه" حتى بلغ"ولا يخافون لومة لائم". فقال محمد: أيها الأمير، إنما عنى الله بالذين آمنوا، الولاةَ من قريش، من يرتدَّ عن الحق. (٣)
(١) انظر تفسير"ارتد" فيما سلف ص: ١٧٠، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) سياق هذه العبارة: "فسوف يجي الله... المؤمنين... بقوم... ".
(٣) الأثر: ١٢١٧٧-"عبد الله بن عياش بن عباس القتباني"، ليس بالمتين، وهو ثقة. مترجم في التهذيب.
و"أبو صخر" هو"حميد بن زياد الخراط"، مضى مرارًا، منها برقم: ٤٢٨٠، ٤٣٢٥، ٥٣٨٦، ٨٣٩١، ١١٨٦٧، ١١٨٩١.
ثم انظر الأثر التالي برقم: ١٢١٩٩.
410
ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين أتى الله بهم المؤمنين، وأبدل المؤمنين مكانَ من ارتدَّ منهم.
فقال بعضهم: هو أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة حتى أدخلوهم من الباب الذي خرجوا منه.
ذكر من قال ذلك:
١٢١٧٨ - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا حفص بن غياث، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن في قوله:"يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال: هذا والله أبو بكر وأصحابه. (١)
١٢١٧٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن، مثله.
١٢١٨٠ - حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن جويبر، عن سهل، عن الحسن في قوله:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال: أبو بكر وأصحابه.
١٢١٨١ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي، عن أبي موسى قال: قرأ الحسن:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال: هي والله لأبي بكر وأصحابه. (٢)
١٢١٨٢ - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا أحمد بن بشير، عن هشام،
(١) الأثر: ١٢١٧٨-"الفضل بن دلهم الواسطي القصاب". مختلف في أمره. مضى برقم: ٤٩٢٨.
(٢) الأثر: ١٢١٨١-"حسين بن علي بن الوليد الجعفي"، مضى قريبًا: ١٢١٦٤.
و"أبو موسى"، هو: "إسرائيل بن موسى البصري"، نزيل الهند. روى عن الحسن البصري. ثقة لا بأس به. مترجم في التهذيب.
411
عن الحسن في قوله:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال: نزلت في أبي بكر وأصحابه. (١)
١٢١٨٣ - حدثني علي بن سعيد بن مسروق الكندي قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم"، قال: هو أبو بكر وأصحابه. لما ارتد من ارتدَّ من العرب عن الإسلام، جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردَّهم إلى الإسلام.
١٢١٨٤ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، إلى قوله:"والله واسع عليم"، أنزل الله هذه الآية وقد علم أن سيرتدُّ مرتدُّون من الناس، فلما قبض الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، ارتدّ عامة العرب عن الإسلام= إلا ثلاثة مساجد: أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل البحرين من عبد القيس= قالوا: نصلي ولا نزكِّي، والله لا تُغصب أموالنا! (٢) فكُلِّم أبو بكر في ذلك فقيل له: إنهم لو قد فُقِّهوا لهذا أعطوها= أو: أدَّوها= (٣) فقال: لا والله، لا أفرق بين شيء جمع الله بينه، ولو منعوا عِقالا مما فرضَ الله ورسوله لقاتلناهم عليه! (٤)
(١) الأثر: ١٢١٨٢-"نصر بن عبد الرحمن الأزدي"، هكذا جاء هنا أيضًا في المخطوطة والمطبوعة: "الأودي"، وقد سلف أن تكلم عليه أخي السيد أحمد، وصححه"الأزدي" كما أثبته هنا، ولكني في شك من تصحيح ذلك كذلك، لكثرة إثباته في التفسير في كل مكان"الأودي" انظر ما سلف: ٤٢٣، ٨٧٥، ٢٨٥٩، ٨٧٨٣.
و"أحمد بن بشير القرشي المخزومي"، أبو بكر الكوفي. مضى برقم: ٧٨١٩.
و"هشام" هو: "هشام بن عروة بن الزبير بن العوام"، مضى برقم: ٢٨٨٩، ٨٤٦١.
(٢) القائلون: "نصلي ولا نزكي"، هم الذين ارتدور من عامة العرب.
(٣) في المطبوعة: "أعطوها أو زادوها"، وهو تخليط فاحش، وصوابه من المخطوطة وقوله: "أو: أدوها"، كأنه قال: روى بدل"أعطوها"، "أدوها". و"الهاء" فيهما راجعة إلى"الزكاة" التي منعوها.
(٤) "العقال" (بكسر العين) : زكاة عام من الإبل والغنم. يقال: "أخذ منهم عقال هذا العام"، أي زكاته وصدقته. وقد فسره آخرون بأنه الحبل الذي كان تعقل به الفريضة التي كانت تؤخذ في الصدقة. وذلك أنه كان على صاحب الإبل أن يؤدي مع كل فريضة عقالا تعقل به، و"رواء" أي: حبلا. ويروي الخبر"لو منعوني عناقًا". و"العناق": الأنثى من أولاد المعز، إذا أتت عليها سنة.
412
فبعث الله عصابة مع أبي بكر، فقاتل على ما قاتل عليه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، حتى سبَى وقتل وحرق بالنيران أناسًا ارتدّوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة، فقاتلهم حتى أقرّوا بالماعون =وهي الزكاة= صَغرة أقمياء. (١) فأتته وفود العرب، فخيَّرهم بين خُطَّة مخزية أو حرب مُجْلية. فاختاروا الخطة المخزية، وكانت أهون عليهم أن يقرُّوا: أن قتلاهم في النار، وأن قتلى المؤمنين في الجنة، (٢) وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردّوه عليهم، وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال.
١٢١٨٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال ابن جريج: ارتدوا حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلهم أبو بكر.
١٢١٨٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هشام
(١) "صغرة" جمع"صاغر": وهو الراضي بالذل والضيم. و"أقمياء"جمع"قمئ": وهو الذليل الضارع المتضائل. والذي في كتب اللغة من جمع"قمئ""قماء" (بكسر القاف) و"قماء" (بضمها). وقد مر في الأثر رقم: ٤٢٢١"قمأة" في المخطوطة، وانظر التعليق عليه هناك. و"أقمياء" جمع عزيز هنا، فإن"فعيلا" الصفة، يجمع قياسا على"أفعلاء"، إذا كان مضاعفًا، مثل"شديد" و"أشداء"، وكذلك إذا كان ناقصا واويًا أو يائيًا، نحو"غني" و"أغنياء"، و"شقي" و"أشقياء". أما الصحيح، فقليل جمعه على"أفعلاء"، مثل"صديق" و"أصدقاء". فإذا صحت رواية"أقمياء" في هذا الخبر، فهو صحيح في العربية إن شاء الله، لهذه العلة ولغيرها أيضا.
(٢) في المطبوعة: "أن يستعدوا أن قتلاهم في النار"، وفي المخطوطة مثلها غير منقوطة، ولم أجد لها تحريفًا أقرب مما أثبت، استظهرته من الخبر الذي رواه الشعبي، عن ابن مسعود وهو: قوله: "فوالله ما رضى لهم إلا بالخطة المخزية، أو الحرب المجلية. فأما الخطة المخزية فأن أقروا بأن من قتل منهم في النار، وأن ما أخذوا من أموالنا مردود علينا. وأما الحرب المجلية، فأن يخرجوا من ديارهم" (فتوح البلدان للبلاذري: ١٠١).
413
قال، أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن أبي أيوب، عن علي في قوله:"يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه"، قال: عَلِم الله المؤمنين، ووقع معنى السوء على الحَشْو الذي فيهم من المنافقين ومن في علمه أن يرتدُّوا، (١) قال:"يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله"، المرتدَّة في دورهم (٢) ="بقوم يحبهم ويحبونه"، بأبي بكر وأصحابه. (٣)
* * *
وقال آخرون: يعني بذلك قومًا من أهل اليمن. وقال بعض من قال ذلك منهم: هم رهط أبي موسى الأشعري، عبد الله بن قيس. (٤)
ذكر من قال ذلك:
١٢١٨٨ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن عياض الأشعري قال: لما نزلت هذه الآية،"يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"،
(١) في المطبوعة: "وأوقع معنى السوء"، وأثبت ما في المخطوطة، وأنا في شك من العبارة كلها، وإن كان لها وجه ومعنى.
(٢) في المطبوعة: "المرتدة عن دينهم"، وفي المخطوطة: "في دينهم"، والصواب ما أثبته من الأثر التالي رقم: ١٢٢٠١.
(٣) الأثر: ١٢١٨٦- في المطبوعة: "سيف بن عمرو"، وهو خطأ، صوابه ما أثبت من المخطوطة. وقد مضى مثل هذا الأثر برقم: ١٢١٢٨ وفيه"عبد الله بن هشام". وقد ذكرت هنالك أني لم أعرفه. وسقط من الترقيم؛ رقم: ١٢١٨٧ سهوًا.
(٤) عن هذا الموضع، انتهى جزء من تقسيم قديم، وفي المخطوطة ما نصه:
"يتلوه: ذكر من قال ذلك.
وصلى الله على محمد".
ثم يتلوه ما نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رَبِّ يَسِّرْ برحمتك".
414
قال: أومأ رسول الله ﷺ إلى أبي موسى بشيء كان معه، فقال: هم قومُ هذا!
١٢١٨٩ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت عياضًا يحدّث عن أبي موسى: أن النبي ﷺ قرأ هذه الآية:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال: يعني قوم أبي موسى.
١٢١٩٠ - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا ابن إدريس، عن شعبة = قال أبو السائب: قال أصحابنا: هو:"عن سماك بن حرب"، وأنا لا أحفظ"سماكًا" = عن عياض الأشعريّ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم قوم هذا يعني أبا موسى.
١٢١٩١ - حدثنا سفيان بن وكيع قال حدثنا ابن إدريس، عن شعبة، عن سماك، عن عياض الأشعري، قال النبي ﷺ لأبي موسى: هم قوم هذا= في قوله:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه".
١٢١٩٢ - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا شعبة، عن سماك بن حرب قال: سمعت عياضًا الأشعري يقول: لما نزلت:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم قومك يا أبا موسى! = أو قال: هم قوم هذا= يعني أبا موسى. (١)
(١) الآثار: ١٢١٨٨- ١٢١٩٢-"عياض الأشعري"، هو"عياض بن عمرو الأشعري"، تابعي، مختلف في صحبته، روى عن النبي ﷺ مرسلا. رأى أبا عبيدة بن الجراح، وعمر بن الخطاب، وأبا موسى الأشعري، وغيرهم. قال ابن سعد ٦: ١٠٤: "كان قليل الحديث". روى عنه الشعبي، وسماك بن حرب. مترجم في التهذيب، وأسد الغابة، والإصابة، والاستيعاب: ٤٩٨، والكبير للبخاري ٤/ ١/ ١٩.
وهذا الخبر رواه ابن سعد في الطبقات ٤/ ١/ ٧٩، من طريق عبد الله بن إدريس، وعفان بن مسلم، عن شعبة، عن سماك، عن عياض. والحاكم في المستدرك ٢: ٣١٣، من طريق وهب بن جرير، وسعيد بن عامر، عن شعبة، عن سماك، عن عياض، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٧: ١٦، وقال: "رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح". وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٢٩٢، وزاد نسبته لابن أبي شيبة في مسنده، وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل. وذكره ابن كثير في تفسيره ٣: ١٧٩، ١٨٠، عن ابن أبي حاتم، عن عمر بن شبة، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة.
415
١٢١٩٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو سفيان الحميري، عن حصين، عن عياض= أو: ابن عياض="فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، قال: هم أهل اليمن. (١)
١٢١٩٤ - حدثنا محمد بن عوف قال، حدثنا أبو المغيرة قال، حدثنا صفوان قال، حدثنا عبد الرحمن بن جبير، عن شريح بن عبيد قال: لما أنزل الله:"يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه" إلى آخر الآية، قال عمر: أنا وقومي هم، يا رسول الله؟ قال:"لا بل هذا وقومه! يعني أبا موسى الأشعري. (٢)
* * *
(١) الأثر: ١٢١٩٣-"وأبو سفيان الحميري"، هو"سعيد بن يحيى بن مهدي الحميري" الحذاء، الواسطي. صدوق، وقال الدارقطني: "متوسط الحال ليس بالقوي". مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٢/ ١/ ٤٧٧، وابن أبي حاتم ٢/ ١/ ٧٤.
و"حصين" هو"حصين بن عبد الرحمن السلمي"، ثقة، من كبار الأئمة. مضى برقم: ٥٧٩، ٢٩٨٦.
و"عياض" هو الأشعري كما سلف في الآثار السابقة. وأما "ابن عياض"، فلم أجد من ذكر ذلك، وكأنه شك من أبي سفيان الحميري، أو سفيان بن وكيع.
وانظر تخريج الآثار السالفة.
(٢) الأثر: ١٢١٩٤-"محمد بن عوف بن سفيان الطائي"، شيخ الطبري، ثقة حافظ، مضى برقم: ٥٤٤٥.
و"أبو المغيرة" هو: "عبد القدوس بن الحجاج الخولاني"، "أبو المغيرة الحمصي" ثقة، صدوق. مضى برقم: ١٠٣٧١.
و"صفوان"، هو: "صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي"، سمع عبد الرحمن بن جبير، مضى برقم: ٧٠٠٩. وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٢/ ٢/ ٣٠٩، وابن أبي حاتم ٢/ ١/ ٤٢٢، وفي ترجمته في التهذيب خطأ بين، ذكر أنه مات سنة (١٠٠) والصواب سنة (١٥٥)، كما في التاريخ الكبير وغيره.
و"عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي"، تابعي ثقة. مضى برقم: ١٨٦، ١٨٧.
و"شريح بن عبيد بن شريح الحضرمي" تابعي ثقة، مضى برقم: ٥٤٤٥. و"صفون بن عمرو" يروي عن شريح مباشرة، ولكنه روى هنا عنه بواسطة"عبد الرحمن بن جبير".
وهذا الأثر خرجه السيوطي في الدّرّ المنثور ٢: ٢٩٢، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
416
وقال آخرون منهم: بل هم أهل اليمن جميعًا.
ذكر من قال ذلك:
١٢١٩٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"يحبهم ويحبونه"، قال: أناسٌ من أهل اليمن.
١٢١٩٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٢١٩٧ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد قال: هم قوم سَبَأ.
١٢١٩٨ - حدثنا مطر بن محمد الضبي قال، حدثنا أبو داود قال، أخبرنا شعبة قال، أخبرني من سمع شهر بن حوشب قال: هم أهل اليمن. (١)
١٢١٩٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الله بن عياش، عن أبي صخر، عن محمد بن كعب القرظي: أن عمر بن عبد العزيز أرسل إليه يومًا، وهو أمير المدينة، يسأله عن ذلك: فقال محمد:"يأتي الله بقوم"، وهم أهل اليمن! قال عمر: يا ليتني منهم! قال: آمين! (٢)
* * *
وقال آخرون: هم أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
١٢٢٠٠ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
(١) الأثر: ١٢١٩٨-"مطر بن محمد الضبي"، شيخ الطبري، لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا. وفيمن اسمه"مطر": "مطر بن محمد بن نصر التميمي الهروي"، مترجم في تاريخ بغداد ٣: ٢٧٥. و"مطر بن محمد بن الضحاك السكري"، يروي عن يزيد بن هرون. مترجم في لسان الميزان ٦: ٤٩. ولا أظنه أحدهما، وأخشى أن يكون دخل اسمه بعض التحريف.
(٢) الأثر: ١٢١٩٩- انظر الأثر السالف رقم: ١٢١٧٧، والتعليق عليه.
417
حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا من يرتدَّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، يزعم أنهم الأنصار.
* * *
وتأويل الآية على قول من قال: عنى الله بقوله:"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه"، أبا بكر وأصحابه في قتالهم أهل الرِّدَّة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم=: يا أيها الذين آمنوا، من يرتدَّ منكم عن دينه فلن يضر الله شيئًا، وسيأتي الله من ارتد منكم عن دينه بقوم يحبهم ويحبونه، ينتقم بهم منهم على أيديهم. وبذلك جاء الخبر والرواية عن بعض من تأول ذلك كذلك:
١٢٢٠١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هشام قال، أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي في قوله:"يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم"، قال يقول: فسوف يأتي الله المرتدَّةَ في دورهم (١) ="بقوم يحبهم ويحبونه"، بأبي بكر وأصحابه. (٢)
* * *
وأما على قول من قال: عنى الله بذلك أهل اليمن، فإن تأويله: يا أيها الذين آمنوا، من يرتد منكم عن دينه، فسوف يأتي الله المؤمنين الذين لم يرتدوا، بقوم يحبهم ويحبونه، أعوانًا لهم وأنصارًا. وبذلك جاءت الرواية عن بعض من كان يتأول ذلك كذلك.
١٢٢٠٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح،
عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يا أيها الذين
(١) قوله: في دورهم"، هو الصواب، وقد كان في المخطوطة والمطبوعة، في الأثر السالف رقم: ١٢١٨٦"في دينهم" و"عن دينهم"، والصواب هو الذي هنا. انظر التعليق السالف ص: ٤١٤ تعليق: ٢.
(٢) الأثر: ١٠٢٠١- هو بعض الأثر السالف رقم: ١٢١٨٦، وكان في هذا الموضع أيضًا"سيف بن عمرو"، وهو خطأ، كما بينته هناك.
418
آمنوا من يرتد منكم عن دينه" الآية، وعيدٌ من الله أنه من ارتدّ منكم، أنه سيستبدل خيًرا منهم.
* * *
وأما على قول من قال: عنى بذلك الأنصار، فإن تأويله في ذلك نظير تأويل من تأوَّله أنه عُنِي به أبو بكر وأصحابه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، ما رُوي به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم أهل اليمن، قوم أبي موسى الأشعري. ولولا الخبر الذي روي في ذلك عن رسول الله ﷺ بالخبر الذي روي عنه، ما كان القول عندي في ذلك إلا قول من قال:"هم أبو بكر وأصحابه". وذلك أنه لم يقاتل قومًا كانوا أظهروا الإسلام على عهد رسول الله ﷺ ثم ارتدوا على أعقابهم كفارًا، غير أبي بكر ومن كان معه ممن قاتل أهل الردة معه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنا تركنا القول في ذلك للخبر الذي رُوي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنْ كان ﷺ مَعْدِن البيان عن تأويل ما أنزل الله من وحيه وآيِ كتابه. (١)
* * *
فإن قال لنا قائل: فإن كان القومُ الذين ذكر الله أنه سيأتي بهم= عند ارتداد من ارتد عن دينه، ممن كان قد أسلم على عهد رسول الله ﷺ = هم أهل اليمن، فهل كان أهل اليمن أيام قتال أبي بكر رضي الله عنه أهل الردة أعوانَ أبي بكر على قتالهم، فتستجيز أن توجِّه تأويل الآية إلى ما وجِّهت إليه؟ (٢)
(١) "المعدن" (بفتح الميم، وسكون العين، وكسر الدال) : مكان كل شيء يكون فيه أصله ومبدؤه. ومنه قيل: "معدن الذهب والفضة"، وهو الذي نسميه اليوم"المنجم"، حيث أنبت الله سبحانه وتعالى جوهرهما، وأثبتهما فيه. ومنه في المجاز، ما جاء في الخبر: "فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم" يعني: أصولها التي ينسبون إليها، ويتفاخرون بها.
(٢) في المطبوعة: "حتى تستجيز"، وفي المخطوطة: "تستجير" بغير"حتى"، فآثرت قراءتها كما أثبتها.
419
أم لم يكونوا أعوانًا له عليهم، فكيف استجزت أن توجه تأويل الآية إلى ذلك، وقد علمت أنه لا خُلْفَ لوعد الله؟
قيل له: إن الله تعالى ذكره لم يعدِ المؤمنين أن يبدِّلهم بالمرتدِّين منهم يومئذ، خيرًا من المرتدين لقتال المرتدين، وإنما أخبر أنه سيأتيهم بخيرٍ منهم بدلا منهم، فقد فعل ذلك بهم قريبًا غير بعيد، (١) فجاء بهم على عهد عمر، فكان موقعهم من الإسلام وأهله أحسن موقع، وكانوا أعوان أهل الإسلام وأنفعَ لهم ممن كان ارتدَّ بعد رسول الله ﷺ من طَغَام الأعراب وجُفاة أهل البوادي الذين كانوا على أهل الإسلام كلا لا نفعًا؟ (٢)
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه".
فقرأته قرأة أهل المدينة: (يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه)، بإظهار التضعيف، بدالين، مجزومة"الدال" الآخرة. وكذلك ذلك في مصاحفهم.
وأما قرأة أهل العراق، فإنهم قرأوا ذلك: (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) بالإدغام، بدالٍ واحدة، وتحريكها إلى الفتح، بناء على التثنية، لأن المجزوم الذي يظهر تضعيفه في الواحد، إذا ثنيّ أدغم. ويقال للواحد:"اردُدْ يا فلان إلى فلان حقه"، فإذا ثنى قيل:"ردّا إليه حقه"، ولا يقال:"ارددا"، وكذلك في الجمع:"ردّوا"، ولا يقال:"ارددوا"، فتبني العرب أحيانًا الواحد على الاثنين، وتظهر
(١) في المطبوعة: "يعد فعل ذلك"، وهو لا معنى له، والصواب ما في المخطوطة.
(٢) "الطغام" (بفتح الطاء) : أوغاد الناس وأراذلهم. و"الكل" (بفتح الكاف) : العيال والثقل على صاحبه أو من يتولى أمره.
420
أحيانًا في الواحد التضعيفَ لسكون لام الفعل. وكلتا اللغتين فصيحةٌ مشهورة في العرب. (١)
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة في ذلك عندنا على ما هو به في مصاحفنا ومصاحف أهل المشرق، بدال واحدة مشدّدة، بترك إظهار التضعيف، وبفتح"الدال"، للعلة التي وصفت.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أذلة على المؤمنين"، أرقَّاء عليهم، رحماءَ بهم.
* * *
= من قول القائل:"ذلَّ فلان لفلان". إذا خضع له واستكان. (٢)
* * *
ويعني بقوله:"أعزة على الكافرين"، أشداء عليهم، غُلَظاء بهم.
* * *
= من قول القائل:"قد عزّني فلان"، إذا أظهر العزة من نفسه له، وأبدى له الجفوة والغِلْظة. (٣)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٢٢٠٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "في العرف"، وآثرت قراءتها كما أثبتها، وهو الصواب.
(٢) وانظر تفسير"الذل" فيما سلف ٢: ٢١٢/٧: ١٧١.
(٣) انظر تفسير"العزة" فيما سلف ٩: ٣١٩، تعليق: ٥، والمراجع هناك.
421
قال، أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي في قوله:"أذلة على المؤمنين"، أهل رقة على أهل دينهم="أعزة على الكافرين"، أهل غلظة على من خالفهم في دينهم. (١)
١٢٢٠٤ - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين"، يعني بالأذلة: الرحماء. (٢)
١٢٢٠٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج في قوله:"أذلة على المؤمنين"، قال: رحماء بينهم="أعزة على الكافرين"، قال: أشداء عليهم.
١٢٢٠٦ - حدثنا الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، قال سفيان: سمعت الأعمش يقول في قوله:"أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين"، ضعفاء عن المؤمنين. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"يجاهدون في سبيل الله"، هؤلاء المؤمنين الذين وعد الله المؤمنين أن يأتيهم بهم إن ارتدّ منهم مرتدّ، بدلا منهم،
(١) الأثر: ١٢٢٠٣- انظر أسانيد الآثار السالفة رقم: ١٢١٨٦، ١٢٢٠١، والتعليق عليها. وفي المخطوطة والمطبوعة: "سفيان بن عمر" مكان"سيف بن عمر"، وهو خطأ فاحش.
(٢) في المخطوطة: "يعني بالأذلة: الرحمة"، وفي المطبوعة: "يعني بالذلة الرحمة"، وآثرت ما كتبت، وهو تصحيف قريب.
(٣) في المطبوعة: "ضعفاء على المؤمنين"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب جيد.
422
يجاهدون في قتال أعداء الله على النحو الذي أمر الله بقتالهم، والوجه الذي أذن لهم به، ويجاهدون عدوَّهم. فذلك مجاهدتهم في سبيل الله (١) =" ولا يخافون لومة لائم"، يقول: ولا يخافون في ذات الله أحدًا، ولا يصدُّهم عن العمل بما أمرهم الله به من قتال عدوهم، لومةُ لائم لهم في ذلك.
* * *
وأما قوله:"ذلك فضل الله"، فإنه يعني هذا النعتَ الذي نعتهم به تعالى ذكره= من أنهم أذلة على المؤمني، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم = فضلُ الله الذي تفضل به عليهم، (٢) والله يؤتي فضله من يشاء من خلقه مِنّةً عليه وتطوّلا (٣) ="والله واسع"، يقول: والله جواد بفضله على من جادَ به عليه، (٤) لا يخاف نَفاد خزائنه فتَتْلف في عطائه (٥) ="عليم"، بموضع جوده وعطائه، فلا يبذله إلا لمن استحقه، ولا يبذل لمن استحقه إلا على قدر المصلحة، لعلمه بموضع صلاحه له من موضع ضرّه. (٦)
* * *
(١) انظر تفسير"يجاهد" فيما سلف ٤: ٣١٨/١٠: ٢٩٢
= وتفسير"سبيل الله" فيما سلف من فهارس اللغة (سبل).
(٢) سياق الجملة: "هذا النعت الذي نعتهم به... فضل الله... ".
(٣) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف من فهارس اللغة (فضل).
(٤) انظر تفسير"واسع" فيما سلف ٩: ٢٩٤، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٥) في المطبوعة: "فكيف من عطائه"، غير ما في المخطوطة، لأنه لم يحسن قراءته إذ كان غير منقوط. وهذا صواب قراءته.
(٦) انظر تفسير"عليم" فيما سلف من فهارس اللغة (علم).
423
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (٥٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا"، ليس لكم، أيها المؤمنون، ناصر إلا الله ورسوله، والمؤمنون الذين صفتهم ما ذكر تعالى ذكره. (١) فأما اليهود والنصارى الذين أمركم الله أن تبرأوا من وَلايتهم، ونهاكم أن تتخذوا منهم أولياء، فليسوا لكم أولياء لا نُصرَاء، بل بعضهم أولياء بعض، ولا تتخذوا منهم وليًّا ولا نصيرًا.
* * *
وقيل إن هذه الآية نزلت في عبادة بن الصامت، في تبرُّئه من ولاية يهود بني قينقاع وحِلفهم، إلى رسول الله ﷺ والمؤمنين.
ذكر من قال ذلك:
١٢٢٠٧ - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني والدي إسحاق بن يسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، مشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم= وكان أحد بني عوف بن الخزرج= فخلعهم إلى رسول الله، (٢) وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حِلفهم، وقال: أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حِلف الكفار ووَلايتهم! ففيه نزلت:"إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون"= لقول عبادةَ:"أتولى الله ورسوله والذين آمنوا"، وتبرئه من بني قينقاع ووَلايتهم= إلى
(١) انظر تفسير"ولي" فيما سلف ص: ٣٩٩، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) في المخطوطة: "فجعلهم إلى رسول الله"، والصواب ما في المطبوعة، مطابقًا لما سلف، ولما في سيرة ابن هشام.
424
قوله:"فإن حزب الله هم الغالبون". (١)
١٢٢٠٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت إلى رسول الله ﷺ ثم ذكر نحوه.
١٢٢٠٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا"، يعني: أنه من أسلم تولى الله ورسوله.
* * *
وأما قوله:"والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون"، فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيِّ به.
فقال بعضهم: عُنِي به علي بن أبي طالب.
* * *
وقال بعضهم: عني به جميع المؤمنين.
ذكر من قال ذلك:
١٢٢١٠ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم أخبرهم بمن يتولاهم فقال:"إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون"، هؤلاء جميع المؤمنين، ولكن علي بن أبي طالب مرَّ به سائل وهو راكع في المسجد، فأعطاه خاتَمَه.
١٢٢١١ - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا عبدة، عن عبد الملك، عن أبي جعفر قال: سألته عن هذه الآية:"إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا
(١) الأثر: ١٢٢٠٧- سيرة ابن هشام ٣: ٥٢، ٥٣، وهو مطول الأثر السالف رقم: ١٢١٥٨، وتابع الأثر رقم: ١٢١٦٧.
وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا: "حدثني والدي إسحق بن يسار، عن عبادة بن الصامت"، أسقط ما أثبت من السيرة، ومن إسناد الأثرين المذكورين آنفًا.
425
الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون"، قلت: (١) من الذين آمنوا؟ قال: الذين آمنوا! (٢) قلنا: بلغنا أنها نزلت في علي بن أبي طالب! قال: عليٌّ من الذين آمنوا.
١٢٢١٢ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن عبد الملك قال: سألت أبا جعفر عن قول الله:"إنما وليكم الله ورسوله"، وذكر نحو حديث هنّاد، عن عبدة.
١٢٢١٣ - حدثنا إسماعيل بن إسرائيل الرملي قال، حدثنا أيوب بن سويد قال، حدثنا عتبة بن أبي حكيم في هذه الآية:"إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا"، قال: علي بن أبي طالب. (٣)
١٢٢١٤ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا غالب بن عبيد الله قال: سمعت مجاهدًا يقول في قوله:"إنما وليكم الله ورسوله"، الآية، قال: نزلت في علي بن أبي طالب، تصدَّق وهو راكع. (٤)
* * *
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "قلنا"، والصواب الجيد ما أثبت.
(٢) هذا ليس تكرارًا، بل هو تعجب من سؤاله عن شيء لا عن مثله.
(٣) الأثر: ١٢٢١٣-"إسمعيل بن إسرائيل الرملي"، مضى برقم: ١٠٢٣٦.
و"أيوب بن سويد الرملي"، مضى برقم: ٥٤٩٤.
و"عتبة بن أبي حكيم الهمداني، ثم الشعباني"، أبو العباس الأردني. ضعفه ابن معين، وكان أحمد يوهنه قليلا، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
(٤) الأثر: ١٢٢١٤-"غالب بن عبيد الله العقيلي الجزري"، منكر الحديث متروك. مترجم في لسان الميزان، والكبير للبخاري ٤/١/١٠١، وابن أبي حاتم ٣/٢/٤٨.
هذا، وأرجح أن أبا جعفر الطبري قد أغفل الكلام في قوله تعالى: "وهم راكعون"، وفي بيان معناها في هذا الموضع، مع الشبهة الواردة فيه، لأنه كان يحب أن يعود إليه فيزيد فيه بيانًا، ولكنه غفل عنه بعد.
وقد قال ابن كثير في تفسيره ٣: ١٨٢: "وأما قوله: "وهم راكعون"، فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله: "ويؤتون الزكاة"، أي: في حال ركوعهم. ولو كان هذا كذلك، لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره، لأنه ممدوح. وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء، ممن نعلمه من أئمة الفتوى. وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثرًا عن علي بن أبي طالب أن هذه الآية نزلت فيه... " ثم، ساق الآثار السالفة وما في معناها من طرق مختلفة.
وهذه الآثار جميعًا لا تقوم بها حجة في الدين. وقد تكلم الأئمة في موقع هذه الجملة، وفي معناها. والصواب من القول في ذلك أن قوله: "وهم راكعون"، يعني به: وهم خاضعون لربهم، متذللون له بالطاعة، خاضعون له بالأنقياد لأمره في إقامة الصلاة بحدودها وفروضها من تمام الركوع والسجود، والصلاة والخشوع، ومطيعين لما أمرهم به من إيتاء الزكاة وصرفها في وجوهها التي أمرهم بصرفها فيها. فهي بمعنى"الركوع" الذي هو في أصل اللغة، بمعنى الخضوع = انظر تفسير"ركع" فيما سلف ١: ٥٧٤.
وإذن فليس قوله: "وهم راكعون" حالا من"ويؤتون الزكاة". وهذا هو الصواب المحض إن شاء الله.
426
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (٥٦) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا إعلامٌ من الله تعالى ذكره عبادَه جميعًا= الذين تبرأوا من حلف اليهود وخلعوهم رضًى بولاية الله ورسوله والمؤمنين، (١) والذين تمسكوا بحلفهم وخافوا دوائر السوء تدور عليهم، فسارعوا إلى موالاتهم= أنّ مَن وثق بالله وتولى الله ورسوله والمؤمنين، (٢) ومن كان على مثل حاله من أولياء الله من المؤمنين، لهم الغلبة والدوائر والدولة على من عاداهم وحادّهم، لأنهم حزب الله، وحزبُ الله هم الغالبون، دون حزب الشيطان، كما:-
١٢٢١٥ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أخبرهم= يعني الرب تعالى ذكره= مَنِ الغالب، فقال: لا تخافوا الدولة ولا الدائرة، فقال:"ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون"، و"الحزب"، هم الأنصار.
* * *
(١) في المطبوعة: (٢) في المطبوعة: "بأن من وثق بالله... "، وفي المخطوطة مكان ذلك كله: "ووثقوا بالله". والذي أثبت هو صواب المعنى.
ويعني بقوله:"فإن حزب الله"، فإن أنصار الله، (١) ومنه قول الراجز: (٢)
وَكَيْفَ أَضْوَى وَبِلالٌ حِزْبِي! (٣)
يعني بقوله:"أضوى"، أستضْعَفُ وأضام= من الشيء"الضاوي". (٤) ويعني بقوله:"وبلال حزبي"، يعني: ناصري.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم:"يا أيها الذين آمنوا"، أي: صدقوا الله ورسوله="لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هُزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، يعني اليهود والنصارى الذين
(١) انظر تفسير"الحزب" فيما سلف ١: ٢٤٤. وهذا التفسير الذي هنا لا تجده في كتب اللغة.
(٢) هو رؤبة بن العجاج.
(٣) ديوانه: ١٦، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٦٩، من أرجوزة يمدح بها بلال ابن أبي بردة، ذكر في أولها نفسه، ثم قال يذكر من يعترضه ويعبي له الهجاء والذم:
"الذين تبرأوا من اليهود وحلفهم رضى بولاية الله "، غير ما في المخطوطة إذ لم يحسن قراءته، والذي أثبت هو صواب القراءة.
ذَاكِ، وإن عَبَّى لِيَ المُعَبِّي وَطِحْطَحَ الجِدُّ لِحَاءَ القَشْبِ
أَلَقَيتُ أَقْوَالَ الرِّجَالِ الكُذْبِ فَكَيْفَ أَضْوَى وَبِلالٌ حِزْبِي!
ورواية الديوان: "ولست أضوي". وفي المخطوطة: "وكيف أضرى"، وهو تصحيف"طحطح الشيء": فرقه وبدده وعصف به فأهلكه. و"اللحاء": المخاصمة. و"القشب"، (بفتح فسكون) : الكلام المفترى: ولو قرئت"القشب" (بكسر فسكون)، فهو الرجل الذي لا خير فيه.
(٤) "الضاوي": الضعيف من الهزال وغيره."ضوى يضوي ضوى": ضعف ورق. وكان في المخطوطة: "أضرى" و"الضاري"، وهو خطأ وتصحيف.
428
جاءتهم الرسل والأنبياء، وأنزلت عليهم الكتب من قبل بَعْث نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن قبل نزول كتابنا="أولياء"، يقول: لا تتخذوهم، أيها المؤمنون، أنصارًا أو إخوانًا أو حُلفاء، (١) فإنهم لا يألونكم خَبَالا وإن أظهروا لكم مودّة وصداقة.
* * *
وكان اتخاذ هؤلاء اليهود الذين أخبر الله عنهم المؤمنين أنهم اتخذوا دينهم هُزُوًا ولعبًا بالدين على ما وصفهم به ربنا تعالى ذكره، (٢) أن أحدهم كان يظهر للمؤمنين الإيمان وهو على كفره مقيم، ثم يراجع الكفر بعد يسير من المدة بإظهار ذلك بلسانه قولا بعد أن كان يُبدي بلسانه الإيمان قولا وهو للكفر مستبطن تلعبًا بالدين واستهزاءً به، كما أخبر تعالى ذكره عن فعل بعضهم ذلك بقوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [سورة البقرة: ١٤، ١٥].
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الخبر عن ابن عباس.
١٢٢١٦ - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادُّونهما، فأنزل الله فيهما:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم
(١) في المطبوعة: "أنصار وإخوانا وحلفاء"، وفي المخطوطة: "أنصارًا أو إخوانًا وحلفاء"، وأجريتها جميعا بأو، كما ترى.
(٢) في المطبوعة: "ولعبًا الدين على ما وصفهم"، وهو غير مستقيم، وفي المخطوطة: "ولعبا الذين على ما وصفهم"، وهو أشد التواء، والصواب ما أثبت، كما سيأتي بعد"تلعبًا بالدين واستهزاء به".
429
هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء" إلى قوله:"والله أعلم بما كانوا يكتمون". (١)
* * *
= فقد أبان هذا الخبر عن صحة ما قلنا، من أنّ اتخاذ من اتخذ دين الله هزوًا ولعبًا من أهل الكتاب الذين ذكرهم الله في هذه الآية، إنما كان بالنفاق منهم، وإظهارهم للمؤمنين الإيمان، واستبطانهم الكفر، وقيلهم لشياطينهم من اليهود إذا خلوا بهم:"إنا معكم"، فنهى الله عن موادَّتهم ومُخَالّتهم، (٢) والتمسك بحلفهم، والاعتداد بهم أولياء= وأعلمهم أنهم لا يألونهم خبالا وفي دينهم طعنًا، وعليه إزراء.
* * *
وأمّا"الكفار" الذين ذكرهم الله تعالى ذكره في قوله:"من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء"، فإنهم المشركون من عبدة الأوثان. نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من أهل الكتاب ومن عبدة الأوثان وسائر أهل الكفر، أولياءَ دون المؤمنين.
* * *
وكان ابن مسعود فيما:-
١٢٢١٧ - حدثني به أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن هارون، عن ابن مسعود= يقرأ: (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا).
* * *
= ففي هذا بيان صحة التأويل الذي تأوَّلناه في ذلك.
* * *
(١) الأثر: ١٢٢١٦- سيرة ابن هشام ٢: ٢١٧، ٢١٨.
(٢) في المطبوعة: "ومحالفتهم"، لم يحسن قراءة المخطوطة إذ كانت غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت.
430
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته جماعة من أهل الحجاز والبصرة والكوفة: (وَالْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ) بخفض"الكفار"، بمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، ومن الكفارِ، أولياءَ.
* * *
وكذلك ذلك في قراءة أبيّ بن كعب فيما بلغنا: (من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الكفار أولياء).
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: (وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ) بالنصب، بمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا والكفارَ= عطفًا بـ"الكفار" على"الذين اتخذوا".
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان متفقتا المعنى، صحيحتا المخرج، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرأة، فبأي ذلك قرأ القارئ فقد أصاب. لأن النهيَ عن اتخاذ ولي من الكفار، نهيٌ عن اتخاذ جميعهم أولياء. والنهي عن اتخاذ جميعهم أولياء، نهيٌ عن اتخاذ بعضهم وليًّا. وذلك أنه غير مشكل على أحدٍ من أهل الإسلام أنّ الله تعالى ذكره إذا حرّم اتخاذ وليّ من المشركين على المؤمنين، أنه لم يبح لهم اتخاذ جميعهم أولياء= ولا إذا حرَّم اتخاذ جميعهم أولياء، أنه لم يخصص إباحة اتخاذ بعضهم وليًّا، فيجب من أجل إشكال ذلك عليهم، طلبُ الدليل على أولى القراءتين في ذلك بالصواب. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء قرأ القارئ بالخفض أو بالنصب، لما ذكرنا من العلة.
* * *
وأما قوله:"واتقوا الله إن كنتم مؤمنين"، فإنه يعني: وخافوا الله، أيها المؤمنون،
431
في هؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب ومن الكفار، أن تتخذوهم أولياء ونصراء، وارهبوا عقوبته في فعل ذلك إن فعلتموه بعد تقدُّمه إليكم بالنهي عنه، إن كنتم تؤمنون بالله وتصدِّقونه على وعيده على معصيته. (١)
* * *
(١) انظر تفسير"كفار" و"أولياء" و"اتقى" فيما سلف من فهارس اللغة، (كفر) و (ولى) و (وقى).
432
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا أذن مؤذنكم، أيها المؤمنون بالصلاة، سخر من دعوتكم إليها هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين، ولعبوا من ذلك="ذلك بأنهم قوم لا يعقلون"، يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، فعلهم الذي يفعلونه، وهو هزؤهم ولعبهم من الدعاء إلى الصلاة، إنما يفعلونه بجهلهم بربهم، وأنهم لا يعقلون ما لهم في إجابتهم إن أجابوا إلى الصلاة، وما عليهم في استهزائهم ولعبهم بالدعوة إليها، ولو عَقَلوا ما لمن فعل ذلك منهم عند الله من العقاب، ما فعلوه.
* * *
وقد ذكر عن السدي في تأويله ما:-
١٢٢١٨ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوًا ولعبًا"، كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي:"أشهد أن محمدًا رسول الله"، قال:"حُرِّق الكاذب"! فدخلت خادمه ذات ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (٥٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لأهل الكتاب من اليهود والنصارى: يا أهل الكتاب، هل تكرهون منا أو تجدون علينا في شيء إذ تستهزئون بديننا، وإذ أنتم إذا نادينا إلى الصلاة اتخذتم نداءنا ذلك هزوًا ولعبًا (١) ="إلا أن آمنا بالله"، يقول: إلا أن صدقنا وأقررنا بالله فوحدناه، وبما أنزل إلينا من عند الله من الكتاب، وما أنزل إلى أنبياء الله من الكتب من قبل كتابنا="وأن أكثركم فاسقون"، يقول: وإلا أن أكثركم مخالفون أمر الله، خارجون عن طاعته، تكذبون عليه. (٢)
* * *
والعرب تقول:"نقَمتُ عليك كذا أنقِم"= وبه قرأه القرأة من أهل الحجاز والعراق وغيرهم= و"نقِمت أنقِم"، لغتان (٣) = ولا نعلم قارئًا قرأ بهما (٤) بمعنى وجدت وكرهت، (٥) ومنه قول عبد الله بن قيس الرقيات: (٦)
مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلا أَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا (٧)
* * *
(١) في المطبوعة: "أو تجدون علينا حتى تستهزئوا بديننا إذ أنتم إذا نادينا إلى الصلاة"، لم يحسن قراءة المخطوطة، فحذف وغير وبدل، وأساء غاية الإساءة.
(٢) انظر تفسير"الفسق" فيما سلف ص: ٣٩٣ تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) اللغة الأولى"نقم" (بفتحتين) "ينقم" (بكسر القاف) = واللغة الثانية"نقم" (بفتح فكسر) "ينقم" (بكسر القاف أيضا).
(٤) في المطبوعة: "قرأ بها" بالإفراد، والصواب ما في المخطوطة، ويعني"نقمت"، أنقم. من اللغة الثانية.
(٥) "وجدت" من قولهم: "وجد عليه يجد وجدًا وموجدة": غضب.
(٦) مختلف في اسمه يقال: "عبد الله" ويقال: "عبيد الله" بالتصغير، وهو الأكثر.
(٧) ديوانه: ٧٠، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٧٠، واللسان (نقم)، من قصيدته التي قالها لعبد الملك بن مروان، في خبر طويل ذكره أبو الفرج في الأغاني ٥: ٧٦- ٨٠، وبعد البيت:
433
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت بسبب قوم من اليهود.
ذكر من قال ذلك:
١٢٢١٩ - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق، قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: أتى رسولَ الله ﷺ نفرٌ من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب، ورافع بن أبي رافع، وعازر، (١) وزيد، وخالد، وأزار بن أبي أزار، وأشيع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ قال: أومن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. (٢) فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: لا نؤمن بمن آمن به! (٣) فأنزل الله فيهم:"قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون". (٤)
* * *
(١) في المخطوطة: "عازي"، وصوابه من المراجع الآتي ذكرها.
(٢) هذا تضمين آية سورة البقرة: ١٣٦.
(٣) في المخطوطة: "لا نؤمن آمن به"، أسقط"بمن".
(٤) الأثر: ١٢٢١٩- سيرة ابن هشام ٢: ٢١٦، ومضى بالإسنادين رقم ٢١٠١، ٢١٠٢
434
= عطفًا بها على"أن" التي في قوله:"إلا أن آمنا بالله"، (١) لأن معنى الكلام: هل تنقمون منا إلا إيمانَنا بالله وفسقكم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل"، يا محمد، لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار="هل أنبئكم"، يا معشر أهل الكتاب، بشر من ثواب ما تنقِمون منا من إيماننا بالله وما أنزل إلينا من كتاب الله، وما أنزل من قبلنا من كتبه؟ (٢)
* * *
[و"مثوبة"، تقديرها مفعولة"]، غير أن عين الفعل لما سقطت نقلت حركتها إلى"الفاء"، (٣) وهي"الثاء" من"مثوبة"، فخرجت مخرج"مَقُولة"، و"مَحُورة"، و"مَضُوفة"، (٤)
كما قال الشاعر: (٥)
(١) يعني قوله: "وأن أكثركم فاسقون"، فتح الألف من"وأن"، عطفًا بها على"أن" التي في قوله: "إلا أن آمنا بالله".
(٢) انظر تفسير"مثوبة" فيما سلف ٢: ٤٥٨، ٤٥٩.
(٣) كان في المطبوعة: "غير أن العين لما سكنت نقلت حركتها إلى الفاء... "، سقط صدر الكلام، فغير ما كان في المخطوطة، فأثبت ما أثبته بين القوسين، استظهارًا من إشتقاق الكلمة. والذي كان في المخطوطة: "غير أن الفعل لما سقط نقلت حركتها إلى الفاء"، سقط أيضًا صدر الكلام الذي أثبته بين القوسين، وسقط أيضًا"عين" من قوله: "عين الفعل". وأخشى أن يكون سقط من الكلام غير هذا. انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٧٠، وذلك قراءة من قرأ"مثوبة" (بفتح فسكون ففتح).
(٤) في المطبوعة: "محوزة" بالحاء والزاي وفي المخطوطة: "محوره ومصرفه" غير منقوطة. والصواب ما أثبت. ويأتي في بعض الكتب كالقرطبي ٦: ٢٤٣"مجوزة" بالجيم والزاي، وكل ذلك خطأ، صوابه ما أثبت. و"المحورة" من"المحاورة"، مثل" المشورة" و"المشاورة" يقال: "ما جاءتني عنه محورة"، أي: ما رجع إليّ عنه خبر. وحكى ثعلب: "اقض محورتك"، أي الأمر الذي أنت فيه. ويقال فيها أيضًا: "محورة" (بفتح الميم وسكون الحاء) ومنه قول الشاعر:
وأنَّهُمْ مَعْدِنَ المُلُوكِ، فَلا تَصْلُحُ إلا عَلَيْهِمُ العَرَبُ
إِن الفَنِيق الَّذِي أَبُوهُ أَبُو العَاصِي، عَلَيْهِ الوَقَارُ والحُجُبُ
خَلِيفَةُ اللهِ فَوْقَ مِنْبَرِه جَفَّتْ بِذَاكَ الأقْلامُ والكُتُبُ
يَعْتَدِلُ التَّاجُ فَوْقَ مَفْرِقِهِ عَلَى جَبِينٍ كأَنّهُ الذَّهَبُ
لِحَاجَةِ ذي بَثٍّ ومَحْوَرةٍ لَهُ، كَفَى رَجْعُهَا مِنْ قِصَّةِ المُتَكَلِّمِ
(٥) هو أبو جندب الهذلي.
435
وَكنْتُ إذَا جَارِي دَعَا لِمَضُوفةٍ أُشَمِّر حَتَّى يَنْصُفَ السَّاقُ مِئْزَرِي (١)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٢٢٢٠ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله"، يقول: ثوابًا عند الله.
١٢٢٢١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله" قال:"المثوبة"، الثواب،"مثوبة الخير"، و"مثوبة الشر"، وقرأ: (خَيْرٌ ثَوَابًا) [سورة الكهف: ٤٤]. (٢)
* * *
(١) أشعار الهذليين ٣: ٩٢، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٧٠، واللسان (ضيف) (نصف) وغيرها كثير، وبعده: و"المضوفة" و"المضيفة" و"المضافة": الأمر يشفق منه الرجل. وبها جميعًا روى البيت."ضاف الرجل وأضاف": خاف. و"نصف الإزار ساقه": إذا بلغ نصفها. يريد بذلك اجتهاده في الدفاع عمن استجار به. وقوله: "ولكني جمر الغضا... "، يقول: أتحرق في نصرته تحرقًا كأنه لهب باق من جمر الغضا. وقوله: "يخفرني سيفي... ". يقول: سيفي خفيري إذا لم أجد لي خفيرًا ينصرني. وقوله: "مسقطة الأحبال": يريد: أعمد إليهم بداهية تسقط الحبالي من الرعب. و"فقماء". وصف للداهية المنكرة، يذكر بشاعة منظرها يقال: "امرأة فقماء": وهي التي تدخل أسنانها العليا إلى الفم، فلا تقع على الثنايا السفلى، وهي مع ذلك مائلة الحنك. و"قنطر" هي الداهية، وجاء بها هنا وصفًا، وكأن معناها عندئذ أنها داهية تطبق عليه إطباقًا، كالقنطرة التي يعبر عليها تطبق على الماء. ولم يذكر أصحاب اللغة هذا الاشتقاق، وإنما هو اجتهاد مني في طلب المعنى.
وَلَكِنَّنيِ جَمْرُ الغَضَا من وَرَائِهِ يُخَفِّرُنِي سَيْفِي إذَا لَمْ أُخَفَّرِ
أَبَى النَّاسُ إلا الشَّرَّ مِنِّي، فَدَعْهُمُ وَإيّايَ مَا جَاءُوا إلَيَّ بِمُنْكَرِ
إذَا مَعْشَرٌ يَوْمًا بَغَوْنِي بَغَيْتُهُمُ بِمُسْقِطَةِ الأحْبَالِ فَقْمَاءَ قِنْطِرِ
وكان صدر البيت الشاهد في المخطوطة: "وكنت إذا جاي دعالم"، ولم يتم البيت، وأتمته المطبوعة.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "شر ثوابا"، وليس في كتاب الله آية فيها"شر ثوابا"، فأثبت آية الكهف التي استظهرت أن يكون قرأها ابن زيد في هذا الموضع. ونقل السيوطي في الدر المنثور ٢: ٢٩٥، وكتب: "وقرئ: بشر ثوابًا"، ولم أجد هذه القراءة الشاذة، فلذلك استظهرت ما أثبت. هذا، وقد سقط من الترقيم رقم: ١٢٢٢٢ سهوا.
436
وأما"مَنْ" في قوله:"من لعنه الله"، فإنه في موضع خفض، ردًّا على قوله:"بشرّ من ذلك". فكأن تأويل الكلام، إذ كان ذلك كذلك: قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله، بمن لعنه الله.
ولو قيل: هو في موضع رفع، لكان صوابًا، على الاستئناف، بمعنى: ذلك من لعنه الله= أو: وهو من لعنه الله.
ولو قيل: هو في موضع نصب، لم يكن فاسدًا، بمعنى: قل هل أنبئكم من لعنه الله (١) = فيجعل"أنبئكم" عاملا في"من"، واقعًا عليه. (٢)
* * *
وأما معنى قوله:"من لعنه الله"، فإنه يعني: من أبعده الله وأسْحَقه من رحمته (٣) ="وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير"، يقول: وغضب عليه، وجعل منهم المُسوخَ القردة والخنازير، غضبًا منه عليهم وسخطًا، فعجَّل لهم الخزي والنكال في الدنيا. (٤)
* * *
(١) انظر هذا كله في معاني القرآن للفراء ١: ٣١٤.
(٢) في المطبوعة: "فيجعل"أنبئكم" على ما في"من" واقعًا عليه"، وفي المخطوطة: "فيجعل"أنبئكم" علامًا فيمن واقعًا عليه"، وكلاهما فاسد، وصواب قراءة ما أثبت، ولكن أخطأ الناسخ كعادته في كتابته أحيانًا. و"الوقوع" التعدي، كما سلف مرارًا، انظر فهارس المصطلحات في الأجزاء السالفة.
(٣) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف ٩: ٢١٣، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير"غضب الله" فيما سلف ١: ١٨٨، ١٨٩/٢: ١٣٨، ٣٤٥/٧: ١١٦/٩: ٥٧.
437
وأما سبب مَسْخ الله من مَسخ منهم قردة، فقد ذكرنا بعضه فيما مضى من كتابنا هذا، وسنذكر بقيته إن شاء الله في مكان غير هذا. (١)
* * *
وأما سبب مسخ الله من مَسخ منهم خنازير، فإنه كان فيما:-
١٢٢٢٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن عُمرَ بن كثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري، قال: حدِّثت أن المسخ في بني إسرائيل من الخنازير، كان أن امرأة من بني إسرائيل كانت في قرية من قرى بني إسرائيل، وكان فيها مَلِك بني إسرائيل، وكانوا قد استجمعوا على الهلكة، إلا أنّ تلك المرأة كانت على بقية من الإسلام متمسكة به، فجعلت تدعو إلى الله، (٢) حتى إذا اجتمع إليها ناس فتابعوها على أمرها قالت لهم: إنه لا بد لكم من أن تجاهدوا عن دين الله، وأن تنادوا قومكم بذلك، فاخرجوا فإني خارجة. فخرجت، وخرج إليها ذلك الملك في الناس، فقتل أصحابها جميعًا، وانفلتت من بينهم. قال: ودعت إلى الله حتى تجمَّع الناس إليها، حتى إذا رضيت منهم، أمرتهم بالخروج، فخرجوا وخرجت معهم، وأصيبوا جميعًا وانفلتت من بينهم. ثم دعت إلى الله حتى إذا اجتمع إليها رجال واستجابوا لها، أمرتهم بالخروج، فخرجوا وخرجت، فأصيبوا جميعًا، وانفلتت من بينهم، فرجعت وقد أيست، وهي تقول: سبحان الله، لو كان لهذا الدين وليٌّ وناصرٌ، لقد أظهره بَعْدُ! قال: فباتت محزونة، وأصبح أهل القرية يسعون في نواحيها خنازيرَ، قد مسخهم الله في ليلتهم تلك، فقالت حين أصبحت ورأت ما رأت: اليوم أعلم أن الله قد أعزَّ دينه وأمر دينه! قال: فما كان مسخ الخنازير في بني إسرائيل إلا على يديْ تلك المرأة. (٣)
(١) انظر ما سلف ٢: ١٦٧- ١٧٢/٨: ٤٤٧، ٤٤٨/ وما سيأتي في التفسير ٩: ٦٣- ٧٠ (بولاق).
(٢) في المخطوطة: "تدعوا الله" بحذف"إلى"، والصواب ما في المطبوعة، بدليل ما سيأتي بعد. وأما قوله: "واستجمعوا على الهلكة" فإنه يعني: قد أشرفت جمعاتهم على الهلاك بكفرهم.
(٣) الأثر: ١٢٢٢٣-"عمر بن كثير بن أفلح، مولى أبي أيوب الأنصاري"، روى عن كعب بن مالك، وابن عمر، وسفينة، وغيرهم. وذكره ابن حبان في الثقات، في أتباع التابعين. وقال ابن سعد: "كان ثقة، له أحاديث". وقال ابن أبي حاتم: "روى عنه محمد بن بشر العبدي، وحماد بن خالد الخياط، وأبو عون الزيادي"، غير أن أبا عون قال: "عمرو بن كثير بن أفلح"، وهو وهم منه". وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا"عمرو بن كثير"، فتابعت ابن أبي حاتم. وهو مترجم في التهذيب"عمر"، وابن أبي حاتم ٣/١/١٣٠.
438
١٢٢٢٤ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وجعل منهم القردة والخنازير"، قال: مسخت من يهود.
١٢٢٢٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
وللمسخ سبب فيما ذكر غير الذي ذكرناه، سنذكره في موضعه إن شاء الله. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (٦٠) ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته قرأة الحجاز والشأم والبصرة وبعض الكوفيين: (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ)، بمعنى: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت، بمعنى:"عابد"، فجعل"عبد"، فعلا ماضيًا من صلة المضمر، ونصب"الطاغوتَ"، بوقوع"عبَدَ" عليه.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من الكوفيين: (وَعَبُدَ الطَّاغُوتَ) بفتح"العين" من"عبد" وضم بائها، وخفض"الطاغوت" بإضافة"عَبُد" إليه. وعنوا بذلك: وخدَمَ الطاغوت.
١٢٢٢٦ - حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال، حدثني حمزة، عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب أنه قرأ: (وَعُبَدَ الطَّاغُوتِ) يقول: خدم= قال عبد الرحمن: وكان حمزة كذلك يقرأها.
(١) لم أعرف مكانه فيما سيأتي من التفسير، فإذا عثرت عليه أثبته إن شاء الله. ولعل منه ما سيأتي في الآثار رقم: ١٢٣٠١- ١٢٣٠٤. وانظر رقم: ٧١١٠.
439
١٢٢٢٧ - حدثني ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن الأعمش: أنه كان يقرأها كذلك.
* * *
وكان الفَرَّاء يقول: إن تكن فيه لغة مثل"حَذِرٍ" و"حَذُر"، و"عجِلٍ"، و"وعَجُلٍ"، فهو وجه، والله أعلم= وإلا فإن أراد قول الشاعر: (١)
أَبَنِي لُبَيْنَى إنَّ أُمَّكُمُ أَمَةٌ وَإنَّ أَبَاكُمُ عَبُدُ (٢)
فإن هذا من ضرورة الشعر، وهذا يجوز في الشعر لضرورة القوافي، وأما في القراءة فلا. (٣)
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ) ذكر ذلك عن الأعمش.
* * *
وكأنَّ من قرأ ذلك كذلك، أراد جمع الجمع من"العبد"، كأنه جمع"العبد""عبيدًا"، ثم جمع"العبيد""عُبُدًا"، مثل:"ثِمَار وُثُمر". (٤)
* * *
وذكر عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرأه: (٥) (وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ).
١٢٢٢٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن قال: كان أبو جعفر النحويّ يقرأها: (وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ)، كما يقول:"ضُرِب عبدُ الله".
* * *
(١) هو أوس بن حجر.
(٢) ديوانه، القصيدة: ٥، البيت: ٤، ومعاني القرآن للفراء ١: ٣١٤، ٣١٥، واللسان (عبد)، وقد مضى منها بيت فيما سلف ص: ٢٧٥، وقبل البيت:
أَبَنِي لُبَيْنِيَ لَسْتُ مُعْترِفًا لِيَكُونَ أَلأَمَ مِنْكُمُ أَحَدُ
(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣١٤، ٣١٥.
(٤) كان الأجود أن يقول: "كأنه جمع العبد عبادًا، ثم جمع العباد عبدًا، مثل ثمار وثمر"، وهو ظاهر مقالة الفراء في معاني القرآن ١: ٣١٤.
(٥) في المطبوعة: "أنه يقرؤه" بحذف"كان"، وأثبت ما في المخطوطة.
440
قال أبو جعفر: وهذه قراءة لا معنى لها، لأن الله تعالى ذكره، إنما ابتدأ الخبر بذمّ أقوام، فكان فيما ذمَّهم به عبادُتهم الطاغوت. وأما الخبر عن أن الطاغوت قد عُبد، فليس من نوع الخبر الذي ابتدأ به الآية، ولا من جنس ما ختمها به، فيكون له وجه يوجَّه إليه في الصحة. (١)
* * *
وذكر أن بُريدة الأسلمي كان يقرأه: (وعابد الطاغوت). (٢)
١٢٢٢٩ - حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شيخ بصري: أن بريدة كان يقرأه كذلك.
* * *
ولو قرئ ذلك: (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ)، بالكسر، كان له مخرج في العربية صحيح، وإن لم أستجز اليوم القراءة بها، إذ كانت قراءة الحجة من القرأة بخلافها. ووجه جوازها في العربية، أن يكون مرادًا بها"وعَبَدَة الطاغوت"، ثم حذفت"الهاء" للإضافة، كما قال الراجز: (٣)
قَامَ وُلاهَا فَسَقَوْهُ صَرْخَدَا (٤)
يريد: قام وُلاتها، فحذف"التاء" من"ولاتها" للإضافة. (٥)
* * *
قال أبو جعفر: وأما قراءة القرأة، فبأحد الوجهين اللذين بدأت بذكرهما،
(١) في المطبوعة: "من الصحة"، والصواب ما في المخطوطة.
(٢) في المخطوطة: "وعابد الشيطان"، وهو خطأ لا شك فيه، صححته المطبوعة، وانظر القراءات الشاذة لابن خالويه: ٣٤.
(٣) لم أعرف الراجز.
(٤) معاني القرآن للفراء ١: ٣١٤، وقوله: "صرخد" جعلها الخمر الصرخدية نفسها. وأما أصحاب اللغة، فيقولون: "صرخد"، موضع بالشأم، من عمل حوران، تنسب إليه الخمر الجيدة.
(٥) انظر ما سلف جميعه في معاني القرآن للفراء ١: ٣١٤، ٣١٥.
441
وهو: (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ)، بنصب"الطاغوت" وإعمال"عبد" فيه، وتوجيه"عبد" إلى أنه فعل ماض من"العبادة".
والآخر: (وعبد الطاغوت)، على مثال"فَعُلٍ"، وخفض"الطاغوت" بإضافة"عَبُدٍ" إليه.
فإذ كانت قراءة القرأة بأحد هذين الوجهين دون غيرهما من الأوجه التي هي أصح مخرجًا في العربية منهما، فأولاهما بالصواب من القراءة، قراءة من قرأ ذلك (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ)، بمعنى: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت، لأنه ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب وابن مسعود: (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ)، بمعنى: والذين عبدوا الطاغوت= ففي ذلك دليل واضحٌ على صحة المعنى الذي ذكرنا من أنه مراد به: ومَن عبد الطاغوت، وأن النصب بـ"الطاغوت" أولى، على ما وصفت في القراءة، لإعمال"عبد" فيه، إذ كان الوجه الآخر غير مستفيض في العرب ولا معروف في كلامها.
على أن أهل العربية يستنكرون إعمال شيء في"مَنْ" و"الذي" المضمرين مع"مِنْ" و"في" إذا كفت"مِنْ" أو"في" منهما ويستقبحونه، حتى كان بعضهم يُحيل ذلك ولا يجيزه. وكان الذي يحيل ذلك يقرأه: (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ)، فهو على قوله خطأ ولحن غير جائز.
وكان آخرون منهم يستجيزونه على قبح. فالواجب على قولهم أن تكون القراءة بذلك قبيحة. وهم مع استقباحهم ذلك في الكلام، قد اختاروا القراءة بها، وإعمال و"جعل" في"مَنْ"، وهي محذوفة مع"مِن".
ولو كنا نستجيز مخالفة الجماعة في شيء مما جاءت به مجمعة عليه، لاخترنا القراءة بغير هاتين القراءتين، غير أن ما جاء به المسلمون مستفيضًا فيهم لا يتناكرونه، (١) فلا نستجيز الخروجَ منه إلى غيره. فلذلك لم نستجز القراءة بخلاف إحدى القراءتين
(١) في المطبوعة: "فهم لا يتناكرونه"، وأثبت ما في المخطوطة.
442
اللتين ذكرنا أنهم لم يعدُوهما.
* * *
وإذ كانت القراءة عندنا ما ذكرنا، فتأويل الآية: قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله، من لعنه الله وغضب عليه، وجعل منهم القردة والخنازير، ومن عبد الطاغوت.
* * *
وقد بينا معنى"الطاغوت" فيما مضى بشواهده من الروايات وغيرها، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا. (١)
* * *
وأما قوله:"أولئك شر مكانًا وأضلُّ عن سواء السبيل"، فإنه يعني بقوله:"أولئك"، هؤلاء الذين ذكرهم تعالى ذكره، وهم الذين وصفَ صفتهم فقال:"من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت"، وكل ذلك من صفة اليهود من بني إسرائيل.
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم="شر مكانًا"، في عاجل الدنيا والآخرة عند الله ممن نَقَمتم عليهم، يا معشر اليهود، إيمانَهم بالله، وبما أنزل إليهم من عند الله من الكتاب، وبما أنزل إلى من قبلهم من الأنبياء="وأضل عن سواء السبيل"، يقول تعالى ذكره: وأنتم مع ذلك، أيها اليهود، أشد أخذًا على غير الطريق القويم، وأجورُ عن سبيل الرشد والقصد منهم. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا من لَحْنِ الكلام. (٣) وذلك أن الله تعالى ذكره إنما
(١) انظر تفسير"الطاغوت" فيما سلف ٥: ٤١٦- ٤١٩/٨: ٤٦١-٤٦٥، ٥٠٧- ٥١٣، ٥٤٦.
(٢) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة.
= وتفسير"سواء السبيل" فيما سلف ١٠: ١٢٤، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) "اللحن" هنا بمعنى التعريض والإيماء، عدولا عن تصريح القول. قال ابن بري: "للحن ستة معان: الخطأ في الإعراب، واللغة، والغناء، والفطنة، والتعريض، والمعنى".
443
قصد بهذا الخبر إخبارَ اليهود الذين وصف صفتهم في الآيات قبل هذه، بقبيح فعالهم وذميم أخلاقهم، واستيجابهم سخطه بكثرة ذنوبهم ومعاصيهم، حتى مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير، خطابًا منه لهم بذلك، تعريضًا بالجميل من الخطاب، ولَحَن لهم بما عَرَفوا معناه من الكلام بأحسن اللحن، (١) وعلَّم نبيه ﷺ من الأدب أحسنه فقال له: قل لهم، يا محمد، أهؤلاء المؤمنون بالله وبكتبه الذين تستهزئون منهم، شرٌّ، أم من لعنه الله؟ وهو يعني المقولَ ذلك لهم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا جاءكم، أيها المؤمنون، هؤلاء المنافقون من اليهود قالوا لكم:"آمنا": أي صدّقنا بما جاء به نبيكم محمد ﷺ واتبعناه على دينه، وهم مقيمون على كفرهم وضلالتهم، قد دخلوا عليكم بكفرهم الذي يعتقدونه بقلوبهم ويُضمرونه في صدورهم، وهم يبدون كذبًا التصديق لكم بألسنتهم="وقد خرجوا به"، يقول: وقد خرجوا بالكفر من عندكم كما دخلوا به عليكم، لم يرجعوا بمجيئهم إليكم عن كفرهم وضلالتهم، يظنون أن ذلك من فعلهم يخفى على الله، جهلا منهم بالله="والله أعلم بما كانوا يكتمون"، يقول: والله أعلم بما كانوا- عند قولهم لكم بألسنتهم:"آمنا بالله وبمحمد وصدّقنا بما جاء
(١) أي: عرض لهم بأحسن التعريض والإيماء.
444
به"- يكتمون منهم، بما يضمرونه من الكفر، بأنفسهم. (١)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٢٢٣٠ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذا جاءوكم قالوا آمنا" الآية، أناسٌ من اليهود، كانوا يدخلون على النبيّ ﷺ فيخبرونه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاء به، وهم متمسكون بضلالتهم والكفر. وكانوا يدخلون بذلك ويخرجون به من عند نبي الله صلى الله عليه وسلم.
١٢٢٣١ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به"، قال: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يهود. يقول: دخلوا كفارًا، وخرجوا كفارًا.
١٢٢٣٢ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به"، وإنهم دخلوا وهم يتكلمون بالحق، وتُسرُّ قلوبهم الكفر، فقال:"دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به".
١٢٢٣٣ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به"= (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
(١) في المطبوعة: "مما يضمرونه"، والصواب من المخطوطة"بما". وسياق هذه الجملة بعد إسقاط الجمل المعترضة المفسرة: والله أعلم بما كانوا... يكتمون منهم... بأنفسهم" أي: أعلم منهم بأنفسهم. وقوله: "بما يضمرون من الكفر"، متعلق بقوله: "والله أعلم بما كانوا يكتمون" تفسيرًا لقوله: "بما كانوا يكتمون".
وانظر تفسير"الكتمان" فيما سلف ٢: ٢٢٨، ٢٢٩.
445
وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، [سورة آل عمران: ٧٢]. فإذا رجعوا إلى كفارهم من أهل الكتاب وشياطينهم، رجعوا بكفرهم. وهؤلاء أهل الكتاب من يهود.
١٢٢٣٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير:"وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به"، أي: إنه من عندهم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"وترى" يا محمد ="كثيرًا"، من هؤلاء اليهود الذين قصصت عليك نبأهم من بني إسرائيل="يسارعون في الإثم والعدوان"، يقول: يعجلون بمواقعة الإثم. (١)
* * *
وقيل: إن"الإثم" في هذا الموضع، معنيّ به الكفر. (٢)
١٢٢٣٥ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"وترى كثيًرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان"، قال:"الإثم"، الكفر.
١٢٢٣٦ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وترى كثيًرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان"، وكان هذا في حُكّام اليهود بين أيديكم. (٣)
(١) انظر تفسير"المسارعة" فيما سلف ١٠: ٤٠٤، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير"الإثم" فيما سلف ٩: ١٩٦، ١٩٧، ثم سائر فهارس اللغة.
(٣) في المطبوعة: "في أحكام اليهود"، والصواب من المخطوطة.
446
١٢٢٣٧ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يسارعون في الإثم والعدوان"، قال: هؤلاء اليهود="لبئس ما كانوا يعملون"= (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ)، إلى قوله: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)، قال:"يصنعون" و"يعملون" واحد. قال: لهؤلاء حين لم ينهوا، كما قال لهؤلاء حين عملوا.
قال: وذلك الإدهان. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن السدي، وإن كان قولا غير مدفوع جوازُ صحته، فإن الذي هو أولى بتأويل الكلام: أن يكون القوم موصوفين بأنهم يسارعون في جميع معاصي الله، لا يتحاشون من شيء منها، لا من كفر ولا من غيره. لأن الله تعالى ذكره عمَّ في وصفهم بما وصفهم به من أنهم يسارعون في الإثم والعدوان، من غير أن يخصّ بذلك إثمًا دون إثم.
* * *
وأما"العدوان"، فإنه مجاوزة الحدّ الذي حدَّه الله لهم في كل ما حدَّه لهم. (٢)
* * *
وتأويل ذلك: أن هؤلاء اليهود الذين وصفهم في هذه الآيات بما وصفهم به تعالى ذكره، يسارع كثير منهم في معاصي الله وخلاف أمره، ويتعدَّون حدودَه التي حدَّ لهم فيما أحلّ لهم وحرّم عليهم، في أكلهم"السحت"= وذلك الرشوة التي يأخذونها من الناس على الحكم بخلاف حكم الله فيهم. (٣)
* * *
يقول الله تعالى ذكره:"لبئس ما كانوا يعملون"، يقول: أقسم لَبئس العمل ما كان هؤلاء اليهود يعملون، في مسارعتهم في الإثم والعدوان، وأكلهم السحت.
* * *
(١) قوله: "وذلك الإدهان"حذفت من المطبوعة، وهي في المخطوطة سيئة الكتابة هكذا: "قال: وذلك الإركان"، وصواب قراءته ما أثبت. و"الإدهان": اللين والمصانعة، في الدين وفي كل شيء، وفي التنزيل: "ودوا لو تدهن فيدهنون".
(٢) انظر تفسير"العدوان" فيما سلف ٩: ٣٦٢، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير"السحت" فيما سلف ١٠: ٣١٧- ٣٢٤.
447
القول في تأويل قوله: ﴿لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم والعدوان وأكل الرشى في الحكم، من اليهود من بني إسرائيل، (١) ربانيوهم= وهم أئمتهم المؤمنون، وساستهم العلماء بسياستهم (٢) = وأحبارهم، وهم علماؤهم وقوادهم (٣) ="عن قولهم الإثم" يعني: عن قول الكذب والزور، وذلك أنهم كانوا يحكمون فيهم بغير حكم الله، ويكتبون كتبًا بأيديهم ثم يقولون:"هذا من حكم الله، وهذا من كتبه". يقول الله: (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [سورة البقرة: ٧٩].
* * *
وأما قوله:"وأكلهم السحت"، فإنه يعني به الرشوة التي كانوا يأخذونها على حكمهم بغير كتاب الله لمن حكموا له به.
* * *
وقد بينا معنى"الربانيين" و"الأحبار" ومعنى"السحت"، بشواهد ذلك فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٤)
* * *
="لبئس ما كانوا يصنعون"، وهذا قسم من الله أقسم به، يقول تعالى ذكره: أقسم: لبئس الصنيع كان يصنع هؤلاء الربانيون والأحبار، في تركهم نهيَ الذين يسارعون منهم في الإثم والعدوان وأكل السحت، عما كانوا يفعلون من ذلك.
* * *
(١) انظر تفسير"لولا" بمعنى: "هلا"، فيما سلف ٢: ٥٥٢، ٥٥٣.
(٢) انظر تفسير"الربانيون" فيما سلف ٥: ٥٤٠- ٥٤٤/١٠: ٣٤١- ٣٤٣
(٣) انظر تفسير"الأحبار" فيما سلف ٦: ٥٤٣، ٥٤٤/١٠: ٣٤١- ٣٤٣
(٤) انظر التعليقات السالفة قريبًا.
448
وكان العلماء يقولون: ما في القرآن آية أشدَّ توبيخًا للعلماء من هذه الآية، ولا أخوفَ عليهم منها.
١٢٢٣٨ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الله بن داود قال، حدثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم في قوله:"لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم" قال: ما في القرآن آية، أخوف عندي منها: أَنَّا لا ننهى. (١)
١٢٢٣٩ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا قيس، عن العلاء بن المسيب، عن خالد بن دينار، عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية أشدَّ توبيخًا من هذه الآية: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون) قال: كذا قرأ. (٢)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٢٢٤٠ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك:"لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت" [قال:"الربانيون والأحبار"، فقهاؤهم وقراؤهم وعلماؤهم. قال: ثم يقول الضحاك: وما أخوفني من هذه الآية!]. (٣)
(١) الأثر: ١٢٢٣٨-"عبد الله بن داود بن عامر بن الربيع الهمداني"، أبو عبد الرحمن الخريبي. كان ثقة عابدًا، وكان عسرًا في الرواية. مترجم في التهذيب.
(٢) الأثر: ١٢٢٣٩-"ابن عطية" هو: "الحسن بن عطية بن نجيح القرشي"، أبو علي البزار مضى برقم: ١٩٣٩، ٤٩٦٢، ٧٥٣٥، ٨٩٦١، ٨٩٦٢. وهو الذي يروي عنه أبو كريب ويقول: "ابن عطية"، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "أبو عطية". وهو خطأ.
و"قيس"، هو"قيس بن الربيع الأسدي"، مضى برقم: ١٥٩، ٤٨٤٢، ٥٤١٣، ٦٨٩٢، ٧٥٣٥.
و"العلاء بن المسيب بن رافع الأسدي"، مضى برقم: ٣٧٨٩.
و"خالد بن دينار التميمي السعدي" مضى برقم: ٤٤، ولم يدرك ابن عباس.
(٣) الأثر: ١٢٢٤٠- كان في المطبوعة"... وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون"، أتم الآية، وليس للخبر تتمة. أما المخطوطة، فليس فيها تتمة الآية ولا تتمة الخبر، والذي أثبته من الدر المنثور ١: ٢٩٦ قال:
449
١٢٢٤١ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون"، يعني: الربانيين، أنهم: لبئس ما كانوا يصنعون.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن جرأة اليهود على ربهم، ووصفهم إياه بما ليس من صفته، توبيخًا لهم بذلك، وتعريفًا منه نبيَّه ﷺ قديمَ جهلهم واغترارهم به، وإنكارهم جميع جميل أياديه عندهم، وكثرة صفحه عنهم وعفوه عن عظيم إجرامهم= واحتجاجًا لنبيه محمد ﷺ بأنه له نبيٌّ مبعوث ورسول مرسل: أنْ كانت هذه الأنباء التي أنبأهم بها كانت من خفيِّ علومهم ومكنونها التي لا يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم دون غيرهم من اليهود، فضلا عن الأمة الأمية من العرب الذين لم يقرأوا كتابًا، ولاوَعَوْا من علوم أهل الكتاب علمًا، فأطلع الله على ذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، ليقرر عندهم صدقه، ويقطع بذلك حجتهم.
* * *
يقول تعالى ذكره:"وقالت اليهود"، من بني إسرائيل="يد الله مغلولة"، يعنون: أن خير الله مُمْسَك وعطاؤه محبوس عن الاتساع عليهم، كما قال تعالى
450
ذكره في تأديب نبيه صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) [سورة الإسراء: ٢٩].
* * *
وإنما وصف تعالى ذكره"اليد" بذلك، والمعنى العَطاء، لأن عطاء الناس وبذلَ معروفهم الغالبَ بأيديهم. فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضًا، إذا وصفوه بجود وكرم، أو ببخل وشحّ وضيق، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه، كما قال الأعشى في مدح رجل:
"وأخرج عبد بن حميد من طريق سلمة بن نبيط "، وساق الأثر كما أثبته.
يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ، فَكَفٌ مُفِيدَةٌ وَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالزَّادِ تُنْفِقُ (١)
فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من إنفاق وإفادة إلى"اليد". ومثل ذلك من كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يُحْصى. فخاطبهم الله بما يتعارفونه ويتحاورونه بينهم في كلامهم فقال:"وقالت اليهود يد الله مغلولة"، يعني بذلك: أنهم قالوا: إن الله يبخل علينا، ويمنعنا فضله فلا يُفْضِل، كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطَها بعطاء ولا بذلِ معروف، تعالى الله عما قالوا، أعداءَ الله! (٢)
(١) ديوانه: ١٥٠، وغيره. من قصيدته الغالية التي رفعت المحلق وطارت بذكره في الآفاق، يقول له:
لَعَمْرِي لَقَدْ لاحَتْ عُيُونٌ كَثِيرَةٌ إلَى ضَوْءِ نارٍ في يَفَاٍع تُحَرَّقُ
تُشَبُّ لمقْرُورَيْنِ يَصْطَلِيَانِهِا وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى والمحَلَّقُ
رَضِيعَيْ لِبَانٍ ثَدْيَ أُمٍّ تَحَالفَا بِأَسْحَمَ عَوْضَ الدَّهْرِ لا نَتَفَرَّقُ
تَرَى الجُودَ يَجْرِيِ ظَاهِرًا فَوْقَ وَجْهِهِ كَمَا زَانَ مَتْنَ الهُنْدُوَانِيِّ رَوْنَقُ
يَدَاهُ يَدَا صِدْقٍ، فَكفٌّ مُفِيدَةٌ وَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالْمَالِ تُنْفِقُ
هذه رواية مخطوطة ديوانه التي صورتها حديثًا، ورواية هذه المخطوطة تخالف الرواية المطبوعة في أشياء كثيرة، ولا سيما في ترتيب أبيات الشعر.
(٢) في المطبوعة: "عما قال أعداء الله"، وأثبت ما في المخطوطة، وقوله: "أعداء الله" منصوب على الذم.
451
فقال الله مكذِّبَهم ومخبرَهم بسخَطه عليهم:"غلت أيديهم"، يقول: أمسكت أيديهم عن الخيرات، وقُبِضت عن الانبساط بالعطيات="ولعنوا بما قالوا"، وأبعدوا من رحمة الله وفضله بالذي قالوا من الكفر، وافتروا على الله ووصفوه به من الكذب والإفك (١)
="بل يداه مبسوطتان"، يقول: بل يداه مبسوطتان بالبذل والإعطاء وأرزاق عباده وأقوات خلقه، غيُر مغلولتين ولا مقبوضتين (٢) ="ينفق كيف يشاء"، يقول: يعطي هذا، ويمنع هذا فيقتِّر عليه. (٣)
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٢٢٤٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا"، قال: ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقةٌ، ولكنهم يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيًرا.
١٢٢٤٣ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"يد الله مغلولة"، قالوا: لقد تَجَهَّدنا الله = يا بني إسرائيل، (٤) حتى
(١) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف ١٠: ٤٣٧، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير"البسط" فيما سلف ٥: ٢٨٨، ٢٩٠، ٣١٣.
(٣) انظر تفسير"الإنفاق" فيما سلف ٧: ١٣٤، تعليق: ٣، والمراجع هناك، ثم سائر فهارس اللغة.
(٤) في المطبوعة، حذف ما وضعته بين الخطين، وكان في المخطوطة: "لقد تجهدنا الله، أي تجهدنا الله يا بني إسرائيل"، ورجحت أن صوابها كما أثبتها. ولم يذكر في كتب اللغة"تجهد" (مشددة الهاء) بمعنى: ألح عليه في السؤال حتى أفنى ما عنده، وكأنه من أجل ذلك فسره بقوله (كما قرأته) :"أي جهدنا الله" من قولهم"جهد الرجل" (ثلاثيا) : إذا ألح عليه في السؤال. هذا ما رأيته، وفوق كل ذي علم عليم. وانظر الأثر التالي.
452
جعل الله يده إلى نحره! وكذبوا!
١٢٢٤٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يد الله مغلولة"، قال: اليهود تقوله: (١) لقد تجهَّدنا الله يا بني إسرائيل ويا أهل الكتاب، (٢) حتى إن يده إلى نحره="بل يداه مبسوطتان، ينفق كيف يشاء".
١٢٢٤٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا" إلى"والله لا يحب المفسدين"، أما قوله:"يد الله مغلولة"، قالوا: الله بخيل غير جواد! قال الله:"بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء".
١٢٢٤٦ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء"، قالوا: إن الله وضع يده على صدره، فلا يبسطها حتى يردّ علينا ملكنا.
* * *
= وأما قوله:"ينفق كيف يشاء"، يقول: يرزق كيف يشاء.
١٢٢٤٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عكرمة:"وقالت اليهود يد الله مغلولة" الآية، نزلت في فنْحاص اليهوديّ.
١٢٢٤٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم قوله:"يد الله مغلولة"، يقولون: إنه
(١) في المطبوعة: "اليهود تقول"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) انظر التعليق السالف ص: ٤٥٢، رقم: ٤.
453
بخيل ليس بجواد! قال الله:"غلت أيديهم"، أمسكت أيديهم عن النفقة والخير. ثم قال يعني نفسه:"بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء". وقال: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) [سورة الإسراء: ٢٩]، يقول: لا تمسك يدك عن النفقة.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل الجدل في تأويل قوله:"بل يداه مبسوطتان". (١) فقال بعضهم: عنى بذلك: نِعمتاه. وقال: ذلك بمعنى:"يد الله على خلقه"، وذلك نعمه عليهم. وقال: إن العرب تقول:"لك عندي يد"، يعنون بذلك: نعمةٌ.
* * *
وقال آخرون منهم: عنى بذلك القوة. وقالوا: ذلك نظير قول الله تعالى ذكره: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي) [سورة ص: ٤٥].
* * *
وقال آخرون منهم: بل"يده"، ملكه. وقال: معنى قوله:"وقالت اليهود يد الله مغلولة"، ملكه وخزائنه.
قالوا: وذلك كقول العرب للمملوك:"هو ملك يمينه"، و"فلان بيده عُقدة نكاح فلانة"، أي يملك ذلك، وكقول الله تعالى ذكره: (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً)، [سورة المجادلة: ١٢].
* * *
وقال آخرون منهم: بل"يد الله" صفة من صفاته، هي يد، غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم.
قالوا: وذلك أنّ الله تعالى ذكره أخبرَ عن خصوصه آدم بما خصّه به من خلقه إياه بيده. (٢)
(١) هذه أول مرة يذكر فيها أبو جعفر أصحاب الكلام ويسميهم"أهل الجدل".
(٢) في المطبوعة: "عن خصوصية آدم"، وأعاد"خصوصية" بالنسب في جميع ما سيأتي، وهو عبث من المصحح، وأثبت ما في المخطوطة.
454
قالوا: ولو كان [معنى"اليد"، النعمة، أو القوة، أو الملك، ما كان لخصوصِه] آدم بذلك وجه مفهوم، (١) إذ كان جميع خلقه مخلوقين بقدرته، ومشيئتُه في خلقه تعمةٌ، وهو لجميعهم مالك.
قالوا: وإذ كان تعالى ذكره قد خص آدم بذكره خلقَه إياه بيده دون غيره من عباده، كان معلومًا أنه إنما خصه بذلك لمعنى به فارق غيره من سائر الخلق.
قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، بطل قول من قال: معنى"اليد" من الله، القوة والنعمة أو الملك، في هذا الموضع.
قالوا: وأحرى أن ذلك لو كان كما قال الزاعمون أن:"يد الله" في قوله:"وقالت اليهود يد الله مغلولة"، هي نعمته، لقيل:"بل يده مبسوطة"، ولم يقل:"بل يداه"، لأن نعمة الله لا تحصى كثرة. (٢) وبذلك جاء التنزيل، يقول الله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) [سورة إبراهيم: ٣٤ وسورة النحل: ١٨]
قالوا: ولو كانت نعمتين، كانتا محصاتين.
قالوا: فإن ظن ظانٌّ أن النعمتين بمعنى النعم الكثيرة، فذلك منه خطأ، وذلك أنّ العرب قد تخرج الجميع بلفظ الواحد لأداء الواحد عن جميع جنسه، وذلك كقول الله تعالى ذكره: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) [سورة العصر: ١، ٢] وكقوله (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ)، [سورة الحجر: ٢٦] وقوله: (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) [سورة الفرقان: ٥٥]، قال: فلم يُرَدْ بـ"الإنسان" و"الكافر" في هذه الأماكن إنسان بعينه، ولا كافر مشار إليه حاضر، بل عني به جميع الإنس وجميع الكفار، ولكن الواحد أدَّى عن جنسه، كما تقول العرب:
(١) هذه الزيادة بين القوسين زيادة يقتضيها الكلام، استظهرتها من سياق هذه الحجج ما استطعت، وإسقاطها مفسد للكلام.
(٢) في المطبوعة: "لا تحصى بكثرة"، وأثبت ما في المخطوطة.
455
"ما أكثر الدرهم في أيدي الناس"، وكذلك قوله: (وَكَانَ الْكَافِرُ) معناه: وكان الذين كفروا.
قالوا: فأما إذا ثنَّى الاسم، فلا يؤدي عن الجنس، ولا يؤدّي إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجميع ودون غيرهما. (١)
قالوا: وخطأ في كلام العرب أن يقال:"ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس"، بمعنى: ما أكثر الدراهم في أيديهم.
قالوا: وذلك أن الدرهم إذا ثنِّي لا يؤدي في كلامها إلا عن اثنين بأعيانهما.
قالوا: وغيرُ محال:"ما أكثر الدرهم في أيدي الناس"، و"ما أكثر الدراهم في أيديهم"، لأن الواحد يؤدي عن الجميع.
قالوا: ففي قول الله تعالى:"بل يداه مبسوطتان"، مع إعلامه عبادَه أن نعمه لا تحصى، مع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤدّيان عن الجميع= ما ينبئ عن خطأ قول من قال: معنى"اليد"، في هذا الموضع، النعمة= وصحةِ قول من قال: إن"يد الله"، هي له صفة.
قالوا: وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال به العلماء وأهل التأويل.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن هذا الذي أطلعناك عليه من خفيِّ أمور هؤلاء اليهود، مما لا يعلمه إلا علماؤهم وأحبارهم،
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "فلا يؤدي إلا عن اثنين"، وهو لا يستقيم بالفاء، إنما يستقيم بالواو كما أثبته.
456
احتجاجًا عليهم لصحة نبوتك، وقطعًا لعذر قائلٍ منهم أن يقول:"ما جاءنا من بشير ولا نذير"=:"ليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا". يعني بـ"الطغيان": الغلو في إنكار ما قد علموا صحته من نبوة محمد ﷺ والتمادي في ذلك="وكفرًا"، يقول: ويزيدهم مع غلوِّهم في إنكار ذلك، جحودَهم عظمة الله ووصفهم إياه بغير صفته، بأن ينسبوه إلى البخل، ويقولوا:"يد الله مغلولة". وإنما أعلم تعالى ذكره نبيَّه ﷺ أنهم أهل عتوّ وتمرُّدٍ على ربهم، وأنهم لا يذعنون لحقّ وإن علموا صحته، ولكنهم يعاندونه، يسلِّي بذلك نبيه محمدًا ﷺ عن الموجِدة بهم في ذهابهم عن الله، وتكذيبهم إياه.
* * *
وقد بينت معنى"الطغيان" فيما مضى بشواهده، بما أغنى عن إعادته. (١)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٢٢٤٩ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا"، حملهم حسدُ محمد ﷺ والعرب على أن كفروا به، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم.
* * *
(١) انظر تفسير"الطغيان" فيما سلف ١: ٣٠٨، ٣٠٩/٥: ٤١٩.
457
القول في تأويل قوله: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة"، بين اليهود والنصارى، كما:-
١٢٢٥٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة"، اليهود والنصارى.
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل:"وألقينا بينهم العداوة والبغضاء"، جعلت"الهاء والميم" في قوله:"بينهم"، كناية عن اليهود والنصارى، ولم يجر لليهود والنصارى ذكر؟
قيل: قد جرى لهم ذكر، وذلك قوله: (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، [سورة المائدة: ٥١]، جرى الخبر في بعض الآي عن الفريقين، وفي بعضٍ عن أحدهما، إلى أن انتهى إلى قوله:"وألقينا بينهم العداوة والبغضاء"، ثم قصد بقوله:"ألقينا بينهم"، الخبرَ عن الفريقين.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كلما جمع أمرهم على شيء فاستقام واستوى، فأرادوا مناهضة من ناوأهم، شتته الله عليهم وأفسده، لسوء فعالهم وخُبْثِ نياتهم، (١) كالذي:-
(١) انظر تفسير"أوقد" فيما سلف ١: ٣٢٠، ٣٨٠/٦: ٢٢٢.
458
١٢٢٥١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) [سورة الإسراء: ٤- ٦]، قال: كان الفساد الأول، فبعث الله عليهم عدوًّا فاستباحوا الديار، واستنكحوا النساء، واستعبدوا الولدان، وخرَّبوا المسجد. فغَبَرُوا زمانًا، (١) ثم بعث الله فيهم نبيًّا وعاد أمرهم إلى أحسن ما كان. ثم كان الفساد الثاني بقتلهم الأنبياء، حتى قتلوا يحيى بن زكريا، فبعث الله عليهم بُخْت نصَّر، فقتل من قتل منهم، وسبى من سبى، وخرب المسجد. فكان بخت نصر الفسادَ الثاني= قال: و"الفساد"، المعصية= ثم قال، (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) إلى قوله: (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) [سورة الإسراء: ٧، ٨] فبعث الله لهم عُزَيْرًا، وقد كان علم التوراة وحفظها في صدره وكتبها لهم. فقام بها ذلك القرن، ولبثوا فنسوا. (٢) ومات عزير، وكانت أحداثٌ، ونسوا العهد وبَخَّلوا ربهم، وقالوا:"يد الله مغلولة غُلَّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء"، وقالوا في عزير:"إن الله اتخذه ولدًا"، وكانوا يعيبون ذلك على النصارى في قولهم في المسيح، فخالفوا ما نَهَوْا عنه، وعملوا بما كانوا يكفِّرون عليه، فسبق من الله كلمة عند ذلك أنهم لن يظهروا على عدوٍّ آخرَ الدهر، (٣) فقال:"كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين"، فبعث الله عليهم المجوس الثالثةَ أربابًا، (٤) فلم يزالوا كذلك والمجوس
(١) في المطبوعة: "فغيروا" بالياء، وهو خطأ."غبروا زمانا": لبثوا زمانًا.
(٢) في المطبوعة: "ونسوا"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "لم يظهروا"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(٤) في المطبوعة: "المجوس الثلاثة أربابًا"، والصواب ما في المخطوطة، ويعني وعد الآخرة، وهي المرة الثالثة.
459
على رقابهم، وهم يقولون:"يا ليتنا أدركنا هذا النبي الذي نجده مكتوبًا عندنا، عسى الله أن يفكَّنا به من المجوس والعذاب الهون"! فبعث محمدًا صلى الله عليه وسلم= واسمه"محمد"، واسمه في الإنجيل"أحمد"= فلما جاءهم وعرفوا، (١) كفروا به، قال: (فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [سورة البقرة: ٨٩]، وقال: (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ)، بسورة البقرة: ٩٠]. (٢)
١٢٢٥٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله"، هم اليهود.
١٢٢٥٣ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا"، أولئك أعداء الله اليهود، كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله، فلن تلقَى اليهود ببلد إلا وجدتهم من أذلّ أهله. لقد جاء الإسلام حين جاء، وهم تحت أيدي المجوس أبغضِ خلقه إليه.
١٢٢٥٤ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله"، قال: كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرَّقه الله، وأطفأ حَدَّهم ونارهم، (٣) وقذف في قلوبهم الرعب.
* * *
(١) في المطبوعة: "فلما جاءهم ما عرفوا... " كنص آية البقرة: ٨٩، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب أيضًا، لا يريد الآية، بل أراد معناها.
(٢) الأثر: ١٢٢٥١- هذا الأثر، لم يذكره أبو جعفر في تفسير آيات"سورة الإسراء: ٤- ٨" في تفسيره ١٥: ١٧- ٣٥ (بولاق). وهذا أحد الأدلة على اختصار التفسير.
(٣) "الحد": البأس والنفاذ. و"حد الظهيرة": شدة توقدها.
460
وقال مجاهد بما:-
١٢٢٥٥ - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله"، قال: حربُ محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويعمل هؤلاء اليهود والنصارى بمعصية الله، فيكفرون بآياته ويكذبون رسله، ويخالفون أمره ونهيه، وذلك سعيُهم فيها بالفساد=
"والله لا يحب المفسدين"، يقول: والله لا يحب من كان عامِلا بمعاصيه في أرضه. (١)
* * *
(١) انظر تفسير"الفساد في الأرض" فيما سلف: ٢٨٧، ٤١٦/ ثم ١٠: ٢٥٧ تعليق: ١، والمراجع هناك.
= وتفسير"السعي" فيما سلف ٤: ٢٣٨، وفي سائر فهارس اللغة.
461
القول في تأويل قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"ولو أن أهل الكتاب"، وهم اليهود والنصارى="آمنوا" بالله وبرسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فصدَّقوه واتبعوه وما أنزل عليه="واتقوا" ما نهاهم الله عنه فاجتنبوه="لكفرنا عنهم سيئاتهم"، يقول: محوْنا عنهم ذنوبَهم فغطينا عليها، ولم نفضحهم بها (١) =
"ولأدخلناهم
(١) انظر تفسير"التكفير" فيما سلف ٧: ٤٨٢، ٤٩٠/٨: ٢٥٤= وتفسير"السيئات" فيما سلف من فهارس اللغة (سوأ).
جنات النعيم"، يقول: ولأدخلناهم بساتِين ينعَمون فيها في الآخرة. (١)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٢٢٥٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا"، يقول: آمنوا بما أنزل الله، واتقوا ما حرم الله، ="لكفرنا عنهم سيئاتهم".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولو أنهم أقامُوا التوراة والإنجيلَ"، ولو أنهم عملوا بما في التوراة والإنجيل (٢) ="وما أنزل إليهم من ربهم"، يقول: وعملوا بما أنزل إليهم من ربهم من الفرقانِ الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
فإن قال قائل: وكيف يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، مع اختلاف هذه الكتب، ونسخِ بعضها بعضًا؟
قيل: إنها وإن كانت كذلك في بعض أحكامها وشرائعها، فهي متَّفِقة في الأمر بالإيمان برُسُل الله، والتصديق بما جاءت به من عند الله. فمعنى إقامتهم التوراةَ والإنجيل وما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم: تصديقُهُم بما فيها، والعملُ
(١) انظر تفسير"الجنة" فيما سلف ٨: ٤٤٨، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير"الإقامة" فيما سلف من فهارس اللغة (قوم) مثل"إقامة الصلاة".
462
بما هي متفقة فيه، وكل واحد منها في الحين الذي فرض العمل به. (١)
* * *
وأما معنى قوله:"لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، فإنه يعني: لأنزل الله عليهم من السماء قَطْرَها، فأنبتت لهم به الأرض حبها ونباتها، فأخرج ثمارَها.
* * *
وأما قوله:"ومن تحت أرجلهم"، فإنه يعني تعالى ذكره: لأكلوا من برَكة ما تحت أقدامِهم من الأرض، وذلك ما تخرجه الأرض من حَبِّها ونباتها وثمارِها، وسائرِ ما يؤكل مما تخرجه الأرض.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٢٢٥٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربّهم لأكلوا من فوقهم"، يعني: لأرسل السماءَ عليهم مدرارًا="ومن تحت أرجلهم"، تخرج الأرض برَكتها.
١٢٢٥٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، يقول: إذًا لأعطتهم السماء برَكتها والأَرْضُ نَباتها.
١٢٢٥٩ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، يقول: لو عملوا بما أنزل إليهم
(١) في المطبوعة: "وكل واحد منهما في الخبر الذي فرض العمل به"، وهي جملة لا معنى لها، صوابها من المخطوطة.
463
مما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، لأنزلنا عليهم المطرَ، فلأنبت الثَّمر. (١)
١٢٢٦٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم"، أمّا"إقامتهم التوراة"، فالعمل بها= وأما"ما أنزل إليهم من ربهم"، فمحمد ﷺ وما أنزل عليه. يقول:"لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، أما"من فوقهم"، فأرسلت عليهم مطرًا، وأما"من تحت أرجلهم"، يقول: لأنبتُّ لهم من الأرض من رزقي ما يُغْنيهم.
١٢٢٦١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، قال: بركات السماء والأرض= قال ابن جريج:"لأكلوا من فوقهم"، المطر="ومن تحت أرجلهم"، من نبات الأرض.
١٢٢٦٢ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، يقول: لأكلوا من الرزق الذي ينزل من السماء="ومن تحت أرجلهم"، يقول: من الأرض.
* * *
وكان بعضهم يقول (٢) إنما أريد بقوله:"لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم"، التَّوْسِعَة، كما يقول القائل:"هو في خير من قَرْنه إلى قدمه". (٣)
وتأويل أهل التأويل بخلاف ما ذكرنا من هذا القول، وكفى بذلك شهيدًا على فساده.
* * *
(١) في المطبوعة: "فأنبتت الثمر"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.
(٢) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن ١: ٣١٥.
(٣) في المطبوعة: "من فرقه إلى قدمه"، وأثبت ما في المخطوطة، ومعاني القرآن للفراء و"القرن": حد الرأس وجانبها، ورأس كل عال قرنه.
464
القول في تأويل قوله: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (٦٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"منهم أمة"، منهم جماعة (١) ="مقتصدة"، يقول: مقتصدة في القول في عيسى ابن مريم، قائلةٌ فيه الحقَّ أنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، لا غاليةٌ قائلةٌ: إنه ابن الله، تعالى الله عما قالوا من ذلك، ولا مقصرة قائلةٌ: هو لغير رِشْدَة="وكثير منهم"، يعني: من بني إسرائيل من أهل الكتابِ اليهودِ والنصارى ="ساء ما يعملون"، يقول: كثير منهم سيئ عملهم، (٢) وذلك أنهم يكفرون بالله، فتكذب النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتزعُم أن المسيحَ ابن الله= وتكذِّب اليهود بعيسى وبمحمد صلى الله عليهما. فقال الله تعالى فيهم ذامًّا لهم:"ساء ما يعملون"، في ذلك من فعلهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٢٢٦٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"منهم أمة مقتصدة"، وهم مسلمة أهل الكتاب="وكثير منهم ساءَ ما يعملون". (٣)
١٢٢٦٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، حدثنا عبد الله بن كثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: تفرَّقت بنو إسرائيل فِرَقًا، فقالت
(١) انظر تفسير"أمة" فيما سلف ٧: ١٠٦، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير"ساء" فيما سلف ٩: ٢٠٥، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
(٣) سقط من الترقيم، رقم: ١٢٢٦٣ سهوًا.
465
فرقة:"عيسى هو ابن الله"، وقالت فرقة:"هو الله"، وقالت فرقة:"هو عبد الله وروحه"، وهي المقتصدة، وهي مسلمةُ أهل الكتاب.
١٢٢٦٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال الله:"منهم أمة مقتصدة"، يقول: على كتابه وأمره. ثم ذمّ أكثر القوم فقال:"وكثير منهم ساء ما يعملون".
١٢٢٦٧ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"منهم أمة مقتصدة"، يقول: مؤمنة.
١٢٢٦٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون" قال: المقتصدة، أهلُ طاعة الله. قال: وهؤلاء أهل الكتاب.
١٢٢٦٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون"، قال: فهذه الأمة المقتصدة، الذين لا هم جَفَوا في الدين ولا هم غلوا. (١) قال: و"الغلو"، الرغبة [عنه]، و"الفسق"، التقصير عنه. (٢)
* * *
(١) في المطبوعة: "الذين لا هم فسقوا في الدين"، وهي كذلك في الدر المنثور ٢: ٢٩٧، والذي في المخطوطة هو ما أثبته، وهو الصواب إن شاء الله، وفي الحديث: "وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي"، وفيه أيضا: "اقرأوا القرآن ولا تجفوا عنه"، أي تعاهدوه ولا تبعدوا عن تلاوته.
(٢) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، استظهرتها من الأثر السالف رقم: ١٠٨٥٣، من تفسير الربيع بن أنس أيضا لآية سورة النساء: ١٧١.
466
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٦٧) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا أمر من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، (١) بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قصَّ تعالى ذكره قَصَصهم في هذه السورة، وذكر فيها معايبهم وخُبْثَ أديانهم، واجتراءَهم على ربهم، وتوثُّبهم على أنبيائهم، وتبديلَهم كتابه، وتحريفَهم إياه، ورداءةَ مطاعِمهم ومآكلهم= وسائرِ المشركين غيرِهم، (٢) ما أنزل عليه فيهم من معايبهم، والإزراء عليهم، والتقصير بهم، والتهجين لهم، وما أمرهم به ونهاهم عنه، وأن لا يُشْعر نفسَه حذرًا منهم أن يُصيبوه في نفسه بمكروهٍ ما قام فيهم بأمر الله، (٣) ولا جَزعًا من كثرة عددهم وقلّة عدد من معه، وأن لا يتّقى أحدًا في ذات الله، فإن الله تعالى ذكره كافيه كلَّ أحد من خلقه، ودافعٌ عنه مكروهَ كل من يبغي مكروهه. (٤) وأعلمه تعالى ذكره أنه إن قصَّر عن إبلاغ شيء مما أنزل إليه إليهم، فهو في تركه تبليغ ذلك= وإن قلّ ما لم يبلّغ منه= فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذَّنب بمنزلته لو لم يبلِّغ من تنزيله شيئًا.
* * *
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
(١) في المطبوعة: "لنبيه محمد"، غير ما في المخطوطة على غير طائل.
(٢) قوله: "وسائر المشركين" مجرور معطوف على قوله: "بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى... " ومفعول قوله: "بإبلاغ هؤلاء... " هو: "ما أنزل عليه فيهم".
(٣) في المطبوعة: "أن يصيبه في نفسه مكروه"، غير ما في المخطوطة على غير طائل.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "كل من يتقي مكروهه"، وهو فاسد جدًا، صوابه ما أثبت.
467
١٢٢٧٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته"، يعني: إن كتمت آية مما أنزل عليك من ربك، لم تبلِّغ رسالاتي. (١)
١٢٢٧١ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك"، الآية، أخبر الله نبيَّه ﷺ أنه سيكفيه الناس، ويعصمه منهم، وأمره بالبلاغ. ذكر لنا أن نبيَّ الله ﷺ قيل له: لو احتجبت! فقال: والله لأبديَنَّ عَقِبي للناس ما صاحبتهم. (٢)
١٢٢٧٢ - حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري، عن رجل، عن مجاهد قال: لما نزلت:"بلغ ما أنزل إليك من ربك"، قال: إنما أنا واحد، كيف أصنع؟ تجَمَّع عليّ الناس! (٣) فنزلت:"وإن لم تفعل فما بلغت رسالته"، الآية.
١٢٢٧٣ - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن ثعلبة، عن جعفر، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحرسوني، إنّ ربّي قد عَصَمني. (٤)
(١) في المطبوعة: "رسالتي"، غير ما في المخطوطة.
(٢) قوله: "احتجبت"، أي: احتجبت عن الناس حتى لا يدرك منه من يبغيه الغوائل. و"العقب" هنا"عقب القدم"، وهي مؤخرها، وهي مؤنثة. يعني بذلك: لأظهرن لهم سائرًا بينهم لا أحتجب. وكل من خرج إلى الناس، فقد بدا لهم عقبه، وهو يسير بينهم. وهذه كناية حسنة. وقوله: "ما صاحبتهم"، للتأييد، كأنه قال: "ما عشت".
(٣) في المطبوعة: "تجتمع على الناس"، وأثبت ما في المخطوطة. ومعنى قوله: "تجمع على الناس"، أي: تألبوا عليه وعادوه من جراء دعوته إلى دين الله. وهذا تعجب.
(٤) الأثر: ١٢٢٧٣-"جرير"، هو"جرير بن عبد الحميد الضبي"، مضى مرارًا كثيره.
و"ثعلبة" هو"ثعلبة بن سهيل التميمي الطهوي"، كان متطببًا، ثقة، لا بأس به، مترجم في التهذيب.
و"جعفر" هو"جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي"، مضى برقم: ٨٧، ٦١٧، ٤٣٤٧، ٧٢٦٩.
وهذا خبر مرسل. انظر تفسير ابن كثير ٣: ١٩٦.
468
١٢٢٧٤ - حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن الجُريريّ، عن عبد الله بن شقيق: أن رسول الله ﷺ كان يعتقِبه ناسٌ من أصحابه، فلما نزلت:"والله يعصمك من الناس"، خرج فقال: يا أيها الناس، الحقوا بملاحِقِكم، فإنّ الله قد عصمني من الناس. (١)
١٢٢٧٥ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن عاصم بن محمد، عن محمد بن كعب القرظي قال: كان النبي ﷺ يتحارسه أصحابه، فأنزل الله تعالى ذكره:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته"، إلى آخرها.
١٢٢٧٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا الحارث بن عبيدة أبو قدامة الإيادي قال، حدثنا سعيد الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة قالت: كان النبي ﷺ يُحْرَس، حتى نزلت هذه الآية:"والله يعصمك من الناس"، قالت: فأخرج النبي ﷺ رأسه من القُبَّة فقال:"أيها الناس، انصرفوا، فقد عصمني الله. (٢)
(١) الأثر: ١٢٢٧٤-"الجريري"، هو"سعيد بن إياس الجريري"، مضى برقم: ١٩٦.
و"عبد الله بن شقيق العقيلي"، تابعي ثقة، مضى برقم: ١٩٦، وهذا الخبر مرسل أيضًا، وسيأتي موصولا برقم: ١٢٢٧٦
وقوله: "يعتقبه ناس من أصحابه": أي يتناوبون حراسته ويتداولونها، من"العقبة" وهي النوبة، يقال: "جاءت عقبة فلان"، أي نوبته.
وقوله: "ألحقوا بملاحقكم"، يأمرهم أن يوافوا أماكنهم التي يرجعون إليها إذا آبوا. ولم أجد هذا التعبير في غير هذا الخبر، ولا قيده أصحاب غريب الحديث. و"الملاحق" جمع"ملحق" (بفتح الميم وسكون اللام وفتح الحاء) : أي الموضع الذي ينزلونه عند مرجعهم.
(٢) الأثر: ١٢٢٧٦-"الحارث بن عبيد الإيادي"، "أبو قدامة"، قال أحمد: "مضطرب الحديث"، وقال ابن معين: "ضعيف"، وقال أبو حاتم: "ليس بالقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به". وقال ابن حبان: "كان ممن كثر وهمه، حتى خرج عن جملة من يحتج به إذا انفرد". مترجم في التهذيب. والكبير ١/ ٢/ ٢٧٣.
وهذا الخبر رواه الترمذي في كتاب التفسير وقال: "هذا حديث غريب، وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق، ولم يذكر فيه عائشة".
ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٣١٣، من هذه الطريق نفسها ثم قال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وكان في المطبوعة: "فإن الله قد عصمني"، خالف نص المخطوطة لغير شيء. وما في المخطوطة هو المطابق لروايته في الترمذي والمستدرك.
469
١٢٢٧٧ - حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن القرظيّ: أن رسول الله ﷺ ما زال يُحْرَس، حتى أنزل الله:"والله يعصمك من الناس".
* * *
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية.
فقال بعضهم: نزلت بسب أعرابيّ كان همَّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكفاه الله إياه.
ذكر من قال ذلك:
١٢٢٧٨ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي وغيره قال: كان رسول الله ﷺ إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة، فيَقِيل تحتها. فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال (١) من يمنعك مني؟ قال: الله! فرُعِدت يد الأعرابيّ وسقط السيف منه، (٢) قال: وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دُماغه، فأنزل الله:"والله يعصمك من الناس". (٣)
* * *
(١) "اخترط السيف": سله من غمده.
(٢) هكذا جاءت الرواية"فرعدت يد الأعرابي" بالبناء للمجهول، ولم أجد من"الرعدة" ثلاثيًا"رعد" بالبناء للمجهول، بل الذي رووه وأطبقوا عليه"أرعد" (بالبناء للمجهول). فإن صح هذا الخبر، فالثلاثي المبني للمجهول مما يزاد على مادة اللغة.
(٣) الأثر: ١٢٢٧٨- انظر خبر هذا الأعرابي فيما سلف رقم: ١١٥٦٥، والتعليق عليه هناك، وليس فيه أنه ضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه.
470
وقال آخرون: بل نزلت لأنه كان يخاف قريشًا، فأومن من ذلك.
ذكر من قال ذلك:
١٢٢٧٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كان النبي ﷺ يهاب قريشًا، فلما نزلت:"والله يعصمك من الناس"، استلقى ثم قال:"من شاء فليخذلني= مرتين أو ثلاثًا.
١٢٢٨٠ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن ابن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق قال، قالت عائشة: من حدثك أن رسول الله ﷺ كتم شيئًا من الوحي فقد كذب! ثم قرأت:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك"، الآية. (١)
١٢٢٨١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن المغيرة، عن الشعبي قال، قالت عائشة: من قال إن محمدًا ﷺ كتم، فقد كذبَ وأعظم الفرية على الله! قال الله تعالى ذكره:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك" الآية.
١٢٢٨٢ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق قال، قالت عائشة: من زعم أنّ محمدًا ﷺ كتم شيئًا من كتاب الله، فقد أعظم على الله الفرية! والله يقول:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك"، الآية. (٢)
١٢٢٨٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن محمد بن الجهم،
(١) الأثر: ١٢٢٨٠-"ابن أبي خالد"، هو: "إسمعيل بن أبي خالد الأحمسي". وكان في المخطوطة والمطبوعة: "عن أبي خالد"، وهو خطأ لا شك فيه، فإن البخاري رواه من طريق وكيع، عن إسمعيل بن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق، مطولا (الفتح ٨: ٤٦٦)، وليس فيمن روى عنه وكيع هذا الخبر من يسمى"أبا خالد".
وهذا الخبر رواه أبو جعفر من أربع طرق، سيأتي تخريجها بعد.
(٢) الأثر: ١٢٢٨٢- رواه مسلم مطولا في صحيحه، من طريق إسماعيل بن علية، عن داود.
وهذه الأخبار الثلاثة السالفة، خبر واحد بأسانيد ثلاثة. رواه البخاري (الفتح ٨: ٢٠٦) من طريق سفيان، عن إسمعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن مسروق. ثم رواه من هذه الطريق، ومن طريق أبي عامر العقدي، عن شعبة، عن إسمعيل بن أبي خالد، عن الشعبي (الفتح ١٣: ٤٢٢)، مختصرا.
471
عن مسروق بن الأجدع قال: دخلت على عائشة يومًا فسمعتها تقول: لقد أعظمَ الفرية من قال إنّ محمدًا كتم شيئًا من الوحي! والله يقول:"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك". (١)
* * *
ويعني بقوله:"والله يعصمك من الناس"، يمنعك من أن ينالوك بسوء. وأصله من"عِصَام القربة"، وهو ما تُوكىَ به من سير وخيط، (٢)
ومنه قول الشاعر: (٣)
وَقُلْتُ:
عَلَيْكُمْ مَالِكًا، إنَّ مَالِكًا سَيَعْصِمُكُمُ، إنْ كَانَ فِي النَّاسِ عَاصِمُ (٤)
يعني: يمنعكم.
* * *
وأما قوله:"إن الله لا يهدي القوم الكافرين"، فإنه يعني: إن الله لا يوفِّق للرُّشْد من حاد عن سبيل الحق، وجار عن قصد السبيل، وجحد ما جئته به من عند الله، ولم ينته إلى أمر الله وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه. (٥)
* * *
(١) الأثر: ١٢٢٨٣-"الليث" هو"الليث بن سعد" الإمام.
و"خالد"، هو: "خالد بن يزيد الجمحي المصري"، الفقيه المفتي، ثقة، مضى برقم: ٣٩٦٥، ٥٤٦٥، ٩١٨٥، ٩٥٠٧.
و"سعيد بن أبي هلال الليثي المصري"، ثقة. مضى برقم: ١٤٩٥، ٣٩٦٥، ٥٤٦٥.
(٢) انظر تفسير"عصم" و"عصام" فيما سلف ٧: ٦٢، ٦٣، ٧٠/٩: ٣٤١.
(٣) لم أعرف قائله.
(٤) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٧١. و"عليك" اسم فعل للإغراء، يقال: "عليك زيدًا" و"عليك بزيد".
(٥) انظر تفسير"هدى" فيما سلف من فهارس اللغة.
472
القول في تأويل قوله: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾
قال أبو جعفر: وهذا أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا ﷺ بإبلاغ اليهود والنصارى الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَره. يقول تعالى ذكره له:"قل"، يا محمد، لهؤلاء اليهود والنصارى="يا أهل الكتاب"، التوراة والإنجيل="لستم على شيء"، مما تدَّعون أنكم عليه مما جاءكم به موسى صلى الله عليه وسلم، معشرَ اليهود، ولا مما جاءكم به عيسى، معشرَ النصارى="حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم"، مما جاءكم به محمد ﷺ من الفرقان، فتعملوا بذلك كله، وتؤمنوا بما فيه من الإيمان بمحمد ﷺ وتصديقه، وتقرُّوا بأن كل ذلك من عند الله، فلا تكذِّبوا بشيء منه، ولا تفرِّقوا بين رسل الله فتؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض، فإن الكفر بواحد من ذلك كفر بجميعه، لأنّ كتب الله يصدِّق بعضها بعضًا، فمن كذَّب ببعضها فقد كذَّب بجميعها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر.
١٢٢٨٤ - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء رسولَ الله ﷺ رافعُ بن حارثة وسَلام بن مِشْكم، (١) ومالك بن الصيف، ورافع بن حريملة، (٢) فقالوا: يا محمد، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه،
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "سلام بن مسكين"، ولم أجد هذا الاسم فيمن كان من يهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعروف هو ما أثبته وهو الموجود في هذا الخبر في سيرة ابن هشام.
(٢) في المطبوعة: "... بن حرملة"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام.
473
وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها من الله حق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخِذَ عليكم من الميثاق، وكتمتم منها ما أمرتم أن تبيِّنوه للناس، وأنا بريء من أحداثكم! قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا، فإنا على الحق والهدى، ولا نؤمن بك، ولا نتبعك! فأنزل الله تعالى ذكره:"قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم" إلى:"فلا تأس على القوم الكافرين". (١)
١٢٢٨٥ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم"، قال: فقد صرنا من أهل الكتاب="التوراة"، لليهود، و"الإنجيل"، للنصارى،"وما أنزل إليكم من ربكم"، وما أنزل إلينا من ربنا= أي:"لستم على شيء حتى تقيموا"، حتى تعملوا بما فيه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٦٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وليزيدن كثيًرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا"، وأقسم: ليزيدن كثيرًا من هؤلاء اليهود والنصارى الذين قص قصصهم في هذه الآيات، الكتابُ الذي أنزلته إليك، يا محمد (٢) ="طغيانًا"، يقول: تجاوزًا وغلوًّا في التكذيب لك، على ما كانوا عليه لك من ذلك قبل نزول
(١) الأثر: ١٢٢٨٤- سيرة ابن هشام ٢: ٢١٧، وهو تابع الآثار التي مضت رقم: ٢١٠١، ٢١٠٢، ١٢٢١٩.
(٢) "الكتاب" فاعل قوله: "ليزيدن كثيرًا من هؤلاء اليهود... ".
474
الفرقان="وكفرًا" يقول: وجحودًا لنبوتك. (١)
وقد أتينا على البيان عن معنى"الطغيان"، فيما مضى قبل. (٢)
* * *
وأما قوله:"فلا تأس على القوم الكافرين"، يعني بقوله: (٣) "فلا تأس"، فلا تحزن.
* * *
يقال:"أسِيَ فلان على كذا"، إذا حزن"يأسَى أسىً"، ، ومنه قول الراجز: (٤)
وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الأَسَى (٥)
* * *
يقول تعالى ذكره لنبيه: لا تحزن، يا محمد، على تكذيب هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى من بني إسرائيل لك، فإن مثلَ ذلك منهم عادة وخلق في أنبيائهم، فكيف فيك؟
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
(١) انظر تفسير"الكفر" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٢) انظر تفسير"الطغيان" فيما سلف ص: ٤٥٧، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) في المطبوعة: "يعبي يقول"، والصواب من المخطوطة.
(٤) هو العجاج.
(٥) ديوانه: ٣١، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٧١، والكامل ١: ٣٥٢، واللسان (حلب) (كرس)، وهو من رجزه المشهور، مضى أوله في هذا التفسير ١: ٥٠٩، يقول: يَا صَاحِ، هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا؟... قَالَ: نَعَمْ! أَعْرِفُهُ! وَأَبْلَسَا
وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الأَسَى
ومضى شرح البيتين الأولين. و"انحلبت عيناه" و"تحلبتا": سال دمعهما وتتابع. وكان في المطبوعة: "وأنحلت"، خالف ما في المخطوطة، لأنها غير منقوطة، فأتى بما لا يعرف. فجاء بعض من كتب على هذا البيت وصححه فكتب"وأبخلت" وقال: "معنى: أبخلت: وجدتا بخيلتين بالدمع لغلبة الحزن عليه، أي أنه من شدة حزنه لم يبك، وإنما جمدت عيناه"، فأساء من وجوه: ترك مراجعة الشعر ومعرفته، واجتهد في غير طائل، وأتى بكلام سخيف جدًا! والله المستعان.
475
* ذكر من قال ذلك:
١٢٢٨٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وليزيدن كثيًرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا"، قال: الفرقان= يقول: فلا تحزن.
١٢٢٨٧ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"فلا تأس على القوم الكافرين"، قال: لا تحزن.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين صدّقوا الله ورسوله، وهم أهل الإسلام="والذين هادوا"، وهم اليهود (١) = والصابئون"، وقد بينا أمرهم (٢) ="والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر"، فصدّق بالبعث بعد الممات="وعمل"، من العمل="صالحًا" لمعاده"فلا خوف عليهم"، فيما قَدِموا عليه من أهوال القيامة="ولا هم يحزنون"، على ما خلَّفوا وراءهم من الدنيا وعيشها، بعد معاينتهم ما أكرمهم الله به من جزيل ثوابه. (٣)
* * *
(١) انظر تفسير"هاد" فيما سلف ص: ٣٤١، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير"الصابئون" فيما سلف ٢: ١٤٥- ١٤٧.
(٣) انظر تفسير"عمل صالحًا" فيما سلف ٢: ١٤٨ (وفهارس اللغة).
= وتفسير"اليوم الآخر"، فيما سلف من فهارس اللغة (أخر).
= وتفسير"لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" فيما سلف ٢: ١٥٠، وسائر فهارس اللغة.
وقد بينا وجه الإعراب فيه فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (٧٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أقسم: لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل على الإخلاص في توحيدنا، (٢) والعمل بما أمرناهم به، والانتهاء عما نهيناهم عنه= وأرسلنا إليهم بذلك رسلا ووعدناهم على ألسن رسلنا إليهم على العمل بطاعتنا الجزيلَ من الثواب، وأوعدناهم على العمل بمعصيتنا الشديدَ من العقاب= كلما جاءهم رسول لنا بما لا تشتهيه نفوسهم ولا يوافق محبَّتهم، كذّبوا منهم فريقًا، ويقتلون منهم فريقًا، نقضًا لميثاقنا الذي أخذناه عليهم، وجرأة علينا وعلى خلاف أمرنا. (٣)
* * *
(١) انظر ما سلف ٣: ٣٥٢- ٣٥٤/ ثم انظر الموضع الذي أشار إليه ٩: ٣٩٥- ٣٩٩. ثم انظر أيضًا معاني القرآن للفراء ١: ١٠٥- ١٠٨، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٧٢، ومشكل القرآن لابن قتيبة: ٣٦- ٣٩.
(٢) في المطبوعة: "وتوحيدنا"، وفي المخطوطة: "الإخلاص توحيدنا"، وكأن الصواب ما أثبت.
(٣) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
وعند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه مخطوطتنا، وفيها ما نصه:
"يتلوهُ: القول في تأويل قوله:
﴿وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا﴾
وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم كثيرًا".
ثمّ ما يتلوه نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رَبِّ يَسِّر"
القول في تأويل قوله: ﴿وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٧١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى: وظن هؤلاء الإسرائيليون (١) = الذين وصف تعالى ذكره صفتهم: أنه أخذ ميثاقهم: وأنه أرسل إليهم رسلا وأنهم كانوا كلما جاءهم رسولٌ بما لا تهوى أنفسهم كذّبوا فريقًا وقتلوا فريقًا= أن لا يكون من الله لهم ابتلاء واختبارٌ بالشدائد من العقوبات بما كانوا يفعلون (٢)
="فعموا وصموا"، يقول: فعموا عن الحق والوفاء بالميثاق الذي أخذته عليهم، من إخلاص عبادتي، والانتهاء
(١) انظر تفسير"حسب" فيما سلف ٧: ٣٨٤، ٤٢١.
(٢) انظر تفسير"الفتنة" فيما سلف ص: ٣٩٢، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
478
إلى أمري ونهيي، والعمل بطاعتي، بحسبانهم ذلك وظنهم ="وصموا" عنه = ثم تبت عليهم. يقول: ثم هديتهم بلطف مني لهم حتى أنابوا ورجعوا عما كانوا عليه من معاصيَّ وخلاف أمري والعمل بما أكرهه منهم، إلى العمل بما أحبه، والانتهاء إلى طاعتي وأمري ونهيي ="ثم عموا وصموا كثير منهم"، (١) يقول: ثم عموا أيضًا عن الحق والوفاء بميثاقي الذي أخذته عليهم: من العمل بطاعتي، والانتهاء إلى أمري، واجتناب معاصيَّ ="وصموا كثير منهم"، يقول: عمى كثير من هؤلاء الذين كنت أخذت ميثاقهم من بني إسرائيل، باتباع رسلي والعمل بما أنزلت إليهم من كتبي (٢) = عن الحق وصموا، بعد توبتي عليهم، واستنقاذي إياهم من الهلكة ="والله بصير بما يعملون"، يقول"بصير"، فيرى أعمالهم خيرَها وشرَّها، فيجازيهم يوم القيامة بجميعها، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا. (٣)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٢٢٨٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وحسبوا أن لا تكون فتنة"، الآية، يقول: حسب القوم أن لا يكون بلاءٌ ="فعموا وصموا"، كلما عرض بلاء ابتلوا به، هلكوا فيه.
١٢٢٨٩ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا"، يقول: حسبوا أن لا يبتلوا، فعموا عن الحق وصمُّوا.
١٢٢٩٠ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مبارك، عن الحسن:"وحسبوا أن لا تكون فتنة"، قال: بلاء.
١٢٢٩١ - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وحسبوا أن لا تكون فتنة"، قال: الشرك.
١٢٢٩٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا"، قال: اليهود.
(١) انظر تفسير"العمى" و"الصمم"، فيما سلف ١: ٣٢٨- ٣٣١/٣: ٣١٥.
(٢) انظر القول في رفع"كثير" في معاني القرآن للفراء ١: ٣١٦، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٧٤.
(٣) انظر تفسير"بصير" فيما سلف من فهارس اللغة.
479
١٢٢٩٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"فعموا وصموا"، قال: يهود= قال ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: هذه الآية لبني إسرائيل. قال: و"الفتنة"، البلاء والتَّمحيص.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٧٢) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن بعض ما فَتَن به الإسرائيلين الذين أخبر عنهم أنهم حسبوا أن لا تكون فتنة. يقول تعالى ذكره: فكان مما ابتليتهم واختبرتهم به، فنقضوا فيه ميثاقي، وغيَّروا عهدي الذي كنت أخذته عليهم بأن لا يعبدوا سواي، ولا يتخذوا ربًّا غيري، وأن يوحِّدوني، وينتهوا إلى طاعتي= عبدي عيسى ابن مريم، فإني خلقته، وأجريت على يده نحوَ الذي أجريت على يد كثير من رسلي، فقالوا كفرًا منهم:"هو الله". (١)
وهذا قول اليعقوبيّة من النصارى عليهم غضب الله.
يقول الله تعالى ذكره: فلما اختبرتهم وابتليتهم بما ابتليتهم به، أشركوا بي، وقالوا لخلق من خلقي، وعبدٍ مثلهم من عبيدي، وبشر نحوهم معروفٍ نسبه وأصله، مولود من البشر، يدعوهم إلى توحيدي، ويأمرهم بعبادتي وطاعتي،
(١) انظر تفسير"المسيح" فيما سلف ١٠: ١٤٦، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
ويقرّ لهم بأني ربه وربهم، وينهاهم عن أن يشركوا بي شيئًا:"هو إلههم"، جهلا منهم بالله وكفرًا به، ولا ينبغي لله أن يكون والدًا ولا مولودًا.
ويعني بقوله:"وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم"، يقول: اجعلوا العبادة والتذلل للذي له يَذِلّ كل شيء، وله يخضع كل موجود (١) ="ربيّ وربكم"، يقول: مالكي ومالككم، وسيدي وسيدكم، الذي خلقني وإياكم (٢) ="إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة"، أن يسكنها في الآخرة="ومأواه النار"، يقول: ومرجعه ومكانه- الذي يأوي إليه ويصير في معاده، من جعل لله شريكًا في عبادته- نارُ جهنم (٣) ="وما للظالمين"، يقول: وليس لمن فعل غير ما أباح الله له، وعبد غير الذي له عبادة الخلق (٤) ="من أنصار"، ينصرونه يوم القيامة من الله، فينقذونه منه إذا أورده جهنم. (٥)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا خبر من الله تعالى ذكره عن فريق آخر من الإسرائيليين الذين وصف صفتهم في الآيات قبل: أنه لما ابتلاهم بعد حِسْبَانهم أنهم لا يُتبلون ولا يفتنون، قالوا كفرًا بربهم وشركًا:"الله ثالث ثلاثة".
* * *
(١) انظر تفسير"العبادة" فيما سلف من فهارس اللغة (عبد).
(٢) انظر تفسير"الرب" فيما سلف ١: ١٤٢، ثم فهارس اللغة فيما سلف.
(٣) انظر تفسير"المأوى" فيما سلف ٩: ٢٢٥، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٥) انظر تفسير"الأنصار" فيما سلف ٩: ٣٣٩، تعليق ٣، والمراجع هناك.
481
وهذا قولٌ كان عليه جماهير النصارى قبل افتراق اليعقوبية والملكية والنَّسطورية. (١) كانوا فيما بلغنا يقولون:"الإله القديم جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم: أبًا والدًا غير مولود، وابنًا مولودًا غير والد، وزوجًا متتبَّعة بينهما".
* * *
يقول الله تعالى ذكره، مكذّبًا لهم فيما قالوا من ذلك:"وما من إله إلا إله واحد"، يقول: ما لكم معبود، أيها الناس، إلا معبود واحد، وهو الذي ليس بوالد لشيء ولا مولود، بل هو خالق كل والد ومولود="وإن لم ينتهوا عما يقولون"، يقول: إن لم ينتهوا قائلو هذه المقالة عما يقولون من قولهم:"الله ثالث ثلاثة" (٢) ="ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم"، يقول: ليمسن الذين يقولون هذه المقالة، والذين يقولون المقالة الأخرى:"هو المسيح ابن مريم"، لأن الفريقين كلاهما كفرة مشركون، فلذلك رجع في الوعيد بالعذاب إلى العموم، (٣) ولم يقل:"ليمسنَّهم عذابٌ أليم"، لأن ذلك لو قيل كذلك، صار الوعيد من الله تعالى ذكره خاصًّا لقائل القول الثاني، وهم القائلون:"الله ثالث ثلاثة"، ولم يدخل فيهم القائلون:"المسيح هو الله". فعمّ بالوعيد تعالى ذكره كلَّ كافر، ليعلم المخاطبون بهذه الآيات أنّ وعيد الله قد شمل كلا الفريقين من بني إسرائيل، ومن كان من الكفار على مثل الذي هم عليه.
* * *
فإن قال قائل: وإن كان الأمر على ما وصفت، فعلى مَنْ عادت"الهاء والميم" اللتان في قوله:"منهم"؟
قيل: على بني إسرائيل.
* * *
(١) في المطبوعة: "والملكانية"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) انظر تفسير"انتهى" فيما سلف ٣: ٥٦٩/ ٦: ١٤.
(٣) انظر تفسير"مس" فيما سلف ٧: ٤١٤، تعليق: ٥، والمراجع هناك.
482
فتأويل الكلام، إذْ كان الأمر على ما وصفنا: وإن لم ينته هؤلاء الإسرائيليون عما يقولون في الله من عظيم القول، ليمسنَّ الذين يقولون منهم:"إن المسيح هو الله"، والذين يقولون:"إن الله ثالث ثلاثة"، وكل كافر سلك سبيلهم= عذابٌ أليم، بكفرهم بالله. (١)
* * *
وقد قال جماعة من أهل التأويل بنحو قولنا، في أنه عنى بهذه الآيات النصارى.
ذكر من قال ذلك:
١٢٢٩٤ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لقد كفر الذين قالوا: إنّ الله ثالث ثلاثة"، قال: قالت النصارى:"هو والمسيح وأمه"، فذلك قول الله تعالى: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) [سورة المائدة: ١١٦].
١٢٢٩٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد:"لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة"، نحوه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أفلا يرجع هذان الفريقان الكافران (٢) = القائل أحدهما:"إن الله هو المسيح ابن مريم"، والآخر القائل:"إن الله ثالث ثلاثة" = عما قالا من ذلك، ويتوبان مما قالا ونطقا به من كفرهما، (٣) ويسألان
(١) انظر تفسير"عذاب أليم" فيما سلف من فهارس اللغة (ألم).
(٢) انظر تفسير"التوبة" فيما سلف من فهارس اللغة (توب).
(٣) في المطبوعة: "وقطعا به من كفرهما"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب.
ربهما المغفرة مما قالا ="والله غفور"، لذنوب التائبين من خلقه، المنيبين إلى طاعته بعد معصيتهم="رحيم" بهم، في قبوله توبتَهم ومراجعتهم إلى ما يحبّ مما يكره، فيصفح بذلك من فعلهم عما سلَف من أجرامهم قبل ذلك. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ﴾
قال أبو جعفر: وهذا [خَبَرٌ] من الله تعالى ذكره، (٢) احتجاجًا لنبيِّه محمد ﷺ على فِرَق النصارى في قولهم في المسيح.
يقول= مكذِّبًا لليعقوبية في قِيلهم:"هو الله" والآخرين في قيلهم:"هو ابن الله" =: ليس القول كما قال هؤلاء الكفرة في المسيح، ولكنه ابن مريم ولدته ولادةَ الأمهات أبناءَهن، وذلك من صفة البشر لا من صفة خالق البشر، وإنما هو لله رسولٌ كسائر رسله الذين كانوا قبلَه فمضوا وخَلَوْا، أجرى على يده ما شاء أن يجريه عليها من الآيات والعِبر، حجةً له على صدقه، وعلى أنه لله رسول إلى من أرسله إليه من خلقه، كما أجرى على أيدي من قبله من الرسل من الآيات والعِبر، حجةً لهم على حقيقةِ صدقهم في أنهم لله رسلٌ (٣) ="وأمه صِدّيقة"، يقول تعالى ذكره وأمّ المسيح صِدِّيقةٌ.
* * *
(١) انظر تفسير"استغفر" و"غفور" فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) = وتفسير"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة (رحم).
(٢) الزيادة بين القوسين لا بد منها حتى يستقيم الكلام.
(٣) انظر تفسير"المسيح" فيما سلف ص: ٤٨٠، تعليق: ١، والمراجع هناك.
484
و"الصِدِّيقة""الفِعِّيلة"، من"الصدق"، وكذلك قولهم:"فلان صِدِّيق"،"فِعِّيل" من"الصدق"، ومنه قوله تعالى ذكره: (وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ). [سورة النساء: ٧٠]. (١)
وقد قيل إن"أبا بكر الصدّيق" رضي الله عنه إنما قيل له:"الصّدّيق" لصدقه.
وقد قيل: إنما سمي"صديقًا"، لتصديقه النبي ﷺ في مسيره في ليلة واحدةٍ إلى بيت المقدس من مكة، وعودِه إليها.
* * *
وقوله:"كانا يأكلان الطعام"، خبٌر من الله تعالى ذكره عن المسيح وأمّه: أنهما كانا أهل حاجةٍ إلى ما يَغْذُوهما وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب كسائر البشر من بني آدم، فإنّ من كان كذلك، فغيرُ كائنٍ إلهًا، لأن المحتاج إلى الغذاء قِوَامه بغيره. وفي قوامه بغيره وحاجته إلى ما يقيمه، دليلٌ واضحٌ على عجزه. والعاجز لا يكون إلا مربوبًا لا ربًّا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر يا محمد، كيف نبين لهؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى="الآيات"، وهي الأدلَّةُ، والأعلام والحُجج على بُطُول ما يقولون في أنبياء الله، (٢) وفي فريتهم على الله، وادِّعائهم له ولدًا، وشهادتهم لبعض خلقه بأنه لهم ربٌّ وإله، ثم لا يرتدعون عن كذبهم وباطل قِيلهم، ولا ينزجرون عن فريتهم على ربِّهم وعظيم جهلهم، مع ورود الحجج القاطعة عذرَهم عليهم. يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه
(١) انظر تفسير"الصديق" فيما سلف ٨: ٥٣٠- ٥٣٢.
(٢) انظر تفسير"الآيات" فيما سلف (أيي).
485
وسلم:"ثم انظر"، يا محمد="أنَّى يؤفكون"، يقول: ثم انظر، مع تبييننا لهم آياتنا على بُطول قولهم، أيَّ وجه يُصرَفون عن بياننا الذي نبيِّنه لهم؟ (١) وكيف عن الهدى الذي نهديهم إليه من الحق يضلُّون؟
* * *
والعرب تقول لكل مصروف عن شيء:"هو مأفوك عنه". يقال:"قد أفَكت فلانًا عن كذا"، أي: صرفته عنه،"فأنا آفِكه أفْكًا، وهو مأفوك". و"قد أُفِكت الأرض"، إذا صرف عنها المطر. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا احتجاجٌ من الله تعالى ذكره لنبيه ﷺ على النصارى القائلين في المسيح ما وصف من قِيلهم فيه قبلُ.
يقول تعالى ذكره لمحمد صلى الله عليه وسلم:"قل"، يا محمد، لهؤلاء الكفرة من النصارى، الزاعمين أن المسيح ربهم، والقائلين إن الله ثالث ثلاثة= أتعبدون سوى الله الذي يملك ضركم ونفعكم، وهو الذي خلقكم ورزقكم، وهو يحييكم ويميتكم= شيئًا لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعًا؟ يخبرهم تعالى ذكره أن المسيح الذي زعم من زعم من النصارى أنه إله، والذي زعم من زعم منهم أنه لله ابنٌ، لا يملك لهم ضرًّا يدفعه عنهم إن أحلَّه الله بهم، ولا نفعًا يجلبه إليهم إن لم يقضه الله لهم. يقول تعالى ذكره: فكيف يكون ربًّا وإلهًا من كانت هذه صفته؟ بل الربُّ
(١) المطبوعة: "بينته لهم"، والصواب من المخطوطة، وهي غير منقوطة.
(٢) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٧٤، ١٧٥.
486
المعبودُ: الذي بيده كل شيء، والقادر على كل شيء. فإياه فاعبدوا وأخلصوا له العبادة، دون غيره من العجزة الذين لا ينفعونكم ولا يضرون.
* * *
وأما قوله:"والله هو السميع العليم" فإنه يعني تعالى ذكره بذلك:"والله هو السميع"، لاستغفارهم لو استغفروه من قِيلهم ما أخبر عنهم أنهم يقولونه في المسيح، ولغير ذلك من منطقهم ومنطق خلقه="العليم"، بتوبتهم لو تابوا منه، وبغير ذلك من أمورهم. (١)
* * *
(١) انظر تفسير"سميع" و"عليم" فيما سلف من فهارس اللغة.
487
القول في تأويل قوله: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (٧٧) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خطابٌ من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى ذكره:"قل"، يا محمد، لهؤلاء الغالية من النصارى في المسيح="يا أهل الكتاب"، يعني بـ"الكتاب"، الإنجيل="لا تغلوا في دينكم"، يقول: لا تفرِطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح، فتجاوزوا فيه الحقَّ إلى الباطل، (١) فتقولوا فيه:"هو الله"، أو:"هو ابنه"، ولكن قولوا:"هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه"="ولا تتبعوا أهواءَ قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا"، يقول: ولا تتبعوا أيضًا في المسيح أهواء اليهود الذين قد ضلوا قبلكم عن سبيل الهدى في القول فيه، فتقولون فيه كما قالوا:"هو لغير رَشْدة"، وتبهتوا أمَّه كما بَهَتُوها
(١) انظر تفسير"غلا" فيما سلف ٩: ٤١٥- ٤١٧.
487
بالفرية وهي صدِّيقة = (١) "وأضلوا كثيرًا"، يقول تعالى ذكره: وأضل هؤلاء اليهود كثيرًا من الناس، فحادوا بهم عن طريق الحق، وحملوهم على الكفر بالله والتكذيب بالمسيح=
"وضلوا عن سواء السبيل"، يقول: وضلَّ هؤلاء اليهود عن قصد الطريق، وركبوا غير محجَّة الحق. (٢)
وإنما يعني تعالى ذكره بذلك، كفرَهم بالله، وتكذيبَهم رسله: عيسى ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، وذهابَهم عن الإيمان وبعدَهم منه. وذلك كان ضلالهم الذي وصفهم الله به.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٢٢٩٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وضلوا عن سواء السبيل"، قال: يهود.
١٢٢٩٧ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا"، فهم أولئك الذين ضلُّوا وأضلوا أتباعهم="وضلوا عن سواء السبيل"، عن عَدْل السبيل.
* * *
(١) المطبوعة: "كما يبهتونها"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة.
= وتفسير"سواء السبيل" فيما سلف ص: ٤٤٣، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
488
القول في تأويل قوله: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قل لهؤلاء النصارى الذين وصفَ تعالى ذكره صفتهم: لا تغلوا فتقولوا في المسيح غير الحق، ولا تقولوا فيه ما قالت اليهود الذين قد لعنهم الله على لسان أنبيائه ورسله، داود وعيسى ابن مريم. (١)
* * *
وكان لعن الله إياهم على ألسنتهم، كالذي:-
١٢٢٩٨ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم" قال: لعنوا بكل لسان: لعنوا على عهد موسى في التوراة، ولعنوا على عهد داود في الزبور، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على عهد محمد ﷺ في القرآن.
١٢٢٩٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم"، يقول: لعنوا في الإنجيل على لسان عيسى ابن مريم، ولعنوا في الزبور على لسان داود.
١٢٣٠٠ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن أبيه، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم"، قال: خالطوهم بعد النهي في تجاراتهم،
(١) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف ص: ٤٥٢، تعليق: ١، والمراجع هناك.
= وتفسير"الاعتداء" فيما سلف ص: ٤٤٧، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
489
فضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض، فهم ملعونون على لسان داود وعيسى ابن مريم.
١٢٣٠١ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن حصين، عن مجاهد:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم"، قال: لعنوا على لسان داود فصاروا قردة، ولُعنوا على لسان عيسى فصاروا خنازيرَ.
١٢٣٠٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس، قوله:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل"، بكل لسان لُعِنوا: على عهد موسى في التوراة، وعلى عهد داود في الزبور، وعلى عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على لسان محمد ﷺ في القرآن= قال ابن جريج: وقال آخرون:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود"، على عهده، فلعنوا بدعوته. قال: مرَّ داود على نفر منهم وهم في بيت فقال: من في البيت؟ قالوا: خنازير. قال:"اللهم اجعلهم خنازير! " فكانوا خنازير. قال: ثم أصابتهم لعنته، ودعا عليهم عيسى فقال:"اللهم العن من افترى عليّ وعلى أمي، واجعلهم قردة خاسئين"!
١٢٣٠٣ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل" الآية، لعنهم الله على لسان داود في زمانه، فجعلهم قردة خاسئين= وفي الإنجيل على لسان عيسى، فجعلهم خنازير.
١٢٣٠٤ - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا أبو محصن حصين بن نمير، عن حصين= يعني: ابن عبد الرحمن=، عن أبي مالك قال:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود"، قال: مسخوا على لسان داود قردة، وعلى لسان عيسى خنازير. (١)
(١) الأثر: ١٢٣٠٤-"أبو محصن الضرير": "حصين بن نمير الواسطي"، ثقة، ولكن كان يحمل على علي رضي الله عنه، فقال الحاكم: "ليس بالقوي عندهم". مترجم في التهذيب.
490
١٢٣٠٥ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك، مثله.
١٢٣٠٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن العلاء بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرًا، (١) فإذا كان من الغدِ لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشَرِيبَه. (٢) فلما رأى ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم="ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون"، قال: والذي نفسي بيده، لتأمُرنَّ بالمعروف، ولتنهَوُنَّ عن المنكر، ولتأخُذُنَّ على يدي المسيء، ولتُؤَطِّرُنَّه على الحقّ أطْرًا، (٣) أو ليضربنَّ الله قلوب بعضكم على بعض، وليلعنَّنكم كما لعنهم. (٤)
(١) في المطبوعة: "تعزيرًا"، وهو خطأ محض، صوابه من المخطوطة، وتفسير ابن كثير. و"التعذير": أن يفعل الشيء غير مبالغ في فعله. وتعذير بني إسرائيل: أنهم لم يبالغوا في نهيهم عن المعاصي، وداهنوا العصاة، ولم ينكروا أعمالهم بالمعاصي حق الإنكار، فنهوهم نهيًا قصروا فيه ولم يبالغوا.
(٢) "الأكيل": الذي يصاحبك في الأكل. و"الشريب": الذي يصاحبك في الشراب. و"الخليط": الذي يخالطك. كل ذلك"فعيل" بمعنى"مفاعل".
(٣) في المطبوعة: "ولا تواطئونه على الخواطر"، وهو من عجيب الكلام، فضلا عن أنه عبث وتحريف لما كان في المخطوطة!! وكان في المخطوطة: "ولواطونه على الحواطرا"، غير منقوطة، فلعب بها ناشر المطبوعة لعبًا كما شاء. وصواب قراءة ما كان في المخطوطة هو ما أثبت. وبمثل ذلك سيأتي في الأخبار التالية.
إلا أني قرأت المخطوطة: "ولتؤطرنه" (بتشديد الطاء) من قولهم في ماضيه: "أطره" (بتشديد الطاء) أي: عطفه. ورواية الآثار الآتية، ثلاثية الفعل: "حتى تأطروه" من قولهم في الثلاثي: "أطره يأطره أطرًا": وذلك إذا قبض على أحد طرفي العود مثلا، فعطفه عطفًا.
(٤) الأثر: ١٢٣٠٦-"عبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي"، ثقة، مضى برقم: ٢٢١، ٨٧٥.
و"العلاء بن المسيب بن رافع الأسدي"، ثقة مأمون، مضى برقم: ٣٧٨٩.
و"عبد الله بن عمرو بن مرة المرادي"، روى عنه أبيه، وعن محمد بن سوقة، وعاصم ابن بهدلة.
و"سالم الأفطس"، هو: "سالم بن عجلان الجزري الحراني"، روى عنه عمرو بن مرة. وهو من أقرانه. وذكر الحافظ في التهذيب: "ويقال: عبد الله بن عمرو بن مرة".
ويمثل هذا الإسناد من رواية المحاربي = أي: "عبد الله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس"، رواه أبو داود في سننه ٤: ١٧٢، وابن أبي حاتم في تفسيره، فيما نقله ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٠٥، وعقب عليه بقوله: "ورواه خالد الطحان = هو: خالد بن عبد الله الواسطي = عن العلاء، عن عمرو بن مرة"، ورواه قبله برقم: ٤٣٣٧، من طريق خلف بن هشام، عن أبي شهاب الحناط، عن العلاء بن المسيب، عن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس". فالذي هنا هو رواية المحاربي، لا شك أنها: "عبد الله بن عمرو بن مرة"، وكأنه خطأ من المحاربي، فسائر الرواة على أنه"عن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس".
و"عمرو بن مرة المرادي الجملي"، "أبو عبد الله الأعمى"، ثقة صدوق. وهو يروي عن أبي عبيدة مباشرة، فرواه هنا عن أحد أقرانه"سالم الأفطس"، عن أبي عبيدة"، ورواه خالد الطحان، عن العلاء، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة مباشرة، دون واسطة"سالم الأفطس".
وهذا إسناد ضعيف على كل حال، لانقطاعه.
491
١٢٣٠٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير بن سَلمان قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لما فشا المنكر في بني إسرائيل، جعل الرجل يلقَى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله! ثم لا يمنعه ذلك أن يؤاكله ويشاربه. فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم أنزل فيهم كتابًا:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهَوْن عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون". وكان رسول الله ﷺ مُتَّكئًا، فجلس وقال: كلا والذى نفسي بيده، حتى تأطِرُوا الظالم على الحق أطْرًا". (١)
(١) الأثر: ١٢٣٠٧- خبر علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، رواه أبو جعفر من خمس طرق. سيأتي تخريجها مفصلا، ثم انظر آخرها رقم: ١٢٣١١.
"الحكم بن بشير بن سلمان النهدي"، ثقة مضى برقم: ١٤٩٧، ٢٨٧٢، ٣٠١٤، ٦١٧١، ٩٦٤٦. وكان في المطبوعة هنا: "ابن سليمان"، وهو خطأ مر مثله.
و"عمرو بن قيس الملائي"، مضى برقم: ٨٨٦، ١٤٩٧، ٣٩٥٦، ٦١٧١، ٩٦٤٦. و"علي بن بذيمة الجزري"، ثقة، مضى برقم: ٦٢٩.
وهذا الخبر، لم أجده بهذا الإسناد إلى علي بن بذيمة.
492
١٢٣٠٨ - حدثنا علي بن سهل الرملي قال، حدثنا المؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، أظنه عن مسروق، عن عبد الله قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني إسرائيل لما ظهر منهم المنكر، جعل الرجل يرى أخاه وجارَه وصاحبَه على المنكر، فينهاه، ثم لا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشَرِيبَه ونديمه، فضرب الله قلوبَ بعضهم على بعض، ولعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم="ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون"، إلى"فاسقون"، قال عبد الله: وكان رسول الله ﷺ متكئا، فاستوى جالسًا، فغضب وقال: لا والله، حتى تأخذوا على يَدَيِ الظالم فتأطِرُوه على الحق أطرًا. (١)
١٢٣٠٩ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني إسرائيل لما وقع فيهم النقصُ، كان الرجل يرى أخاه على الرَّيْبِ فينهاه عنه، فإذا كان الغدُ، لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه، فضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض، ونزل فيهم القرآن فقال:"لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم" حتى بلغ"ولكن كثيًرا منهم فاسقون"،
(١) الأثر: ١٣٠٨-"مؤمل بن إسمعيل العدوي"، ثقة، مضى برقم: ٢٠٥٧، ٣٣٣٧، ٥٧٢٨، ٨٣٥٦، ٨٣٦٧.
و"سفيان" هو الثوري.
وطريق سفيان، عن علي بن بذيمة، يأتي أيضا برقم: ١٢٣٠٩، ١٢٣١١، مرسلا، "عن أبي عبيدة قال قال رسول الله"، ليس فيه ذكر"عبد الله بن مسعود". وهو المعروف من رواية سفيان. روى الترمذي في السنن (في كتاب التفسير) :"قال عبد الله بن عبد الرحمن، قال يزيد بن هرون: وكان سفيان الثوري لا يقول فيه: "عبد الله" يعني أنه مرسل من خبر أبي عبيدة. فأفادنا الطبري هنا أن سفيان الثوري، رواه مرة أخرى، "عن أبي عبيدة، أظنه عن مسروق، عن عبد الله"، فلم يذكر"عبد الله" فحسب، بل شك في أن أبا عبيدة رواه عن مسروق عن عبد الله، فإذا صح ظن سفيان هذا، فإن حديث صحيح الإسناد، غير منقطع ولا مرسل.
ولم أجد هذه الرواية بهذا الإسناد في مكان آخر.
493
قال: وكان رسول الله ﷺ متكئًا فجلس، وقال: لا حتى تأخذوا على يَدَيِ الظالم فتأطروه على الحق أطرًا. (١)
١٢٣١٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو داود= قال: أملاه عليَّ= قال، حدثنا محمد بن أبي الوضاح، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، عن النبي ﷺ بمثله. (٢)
١٢٣١١ - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي=، عن سفيان، على علي بن بذيمة قال: سمعت أبا عبيدة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه= غير أنهما قالا في حديثهما: وكان رسول الله ﷺ متكئًا فاستوى جالسًا، ثم قال: كلا والذي نفسي بيده حتى تأخذوا على يَدَيِ الظالم فتأطروه على الحق أطرًا". (٣)
(١) الأثر: ١٢٢٠٩- وهذا الإسناد الثالث من أسانيد خبر علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، والثاني من خبر سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، رواه الترمذي في السنن (كتاب التفسير) من طريق محمد بن بشار، بمثله. ورواه ابن ماجه رقم: ٤٠٠٦ أيضا، بمثله.
(٢) الأثر: ١٢٣١٠-"محمد بن أبي الوضاح" منسوب إلى جده، وهو: "محمد بن مسلم ابن أبي الوضاح القضاعي". روى عنه أبو داود الطيالسي. ثقة مستقيم الحديث. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر بهذا الإسناد، رواه الترمذي في السنن في (كتاب التفسير)، وابن ماجه في السنن، تابع رقم: ٤٠٠٦، بمثله.
(٣) الأثر: ١٢٣١١- هذا هو الإسناد الثالث من أسانيد"سفيان، عن علي بن بذيمة". وهو خبر مرسل.
وخبر علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، روى من طرق أخرى.
رواه أحمد في المسند رقم: ٣٧١٣، من طريق يزيد بن هرون، عن شريك بن عبد الله، عن علي بن بذيمة، بلفظ آخر مثله. ورواه الترمذي في (كتاب التفسير) من طريق عبد الله بن عبد الرحمن، عن يزيد بن هرون، بمثل رواية أحمد.
ورواه أبو داود في سننه ٤: ١٧٢، رقم: ٤٣٣٦، من طريق عبد الله بن محمد النفيلي، عن يونس بن راشد، عن علي بن بذيمة، بمثله، بلفظ آخر.
وهذه الآثار كلها، من منقطعة أو مرسلة، ولم يوصل الخبر إلا في الإسناد رقم: ١٢٣٠٨. وقال الترمذي بعد روايته: "هذا حديث حسن غريب".
انظر تفسير ابن كثير ٣: ٢٠٥، ٢٠٦، والدر المنثور ٢: ٣٠٠.
494
١٢٣١٢ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم"، قال فقال: لعنوا في الإنجيل وفي الزبور= وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ رَحَى الإيمان قد دارت، فدُوروا مع القرآن حيث دار [*فإنه... قد فرغ الله مما افترض فيه]. (١) [وإن ابن مرح] كان أمة من بني إسرائيل، (٢) كانوا أهل عدل، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فأخذه قومهم فنشروهم بالمناشير، وصلبوهم على الخشب، وبقيت منهم بقية، فلم يرضوا حتى داخلوا الملوك وجالسوهم، ثم لم يرضوا حتى واكلوهم، (٣) فضرب الله تلك القلوب بعضها ببعض فجعلها واحدة. فذلك قول الله تعالى:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود" إلى:"ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون"، ماذا كانت معصيتهم؟ قال:"كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون".
* * *
فتأويل الكلام إذًا: لَعَن الله الذين كفروا= من اليهود= بالله على لسان داود وعيسى ابن مريم، ولُعن والله آباؤهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، بما عصوا الله فخالفوا أمره="وكانوا يعتدون"، يقول: وكانوا يتجاوزون حدودَه. (٤)
* * *
(١) كان في المطبوعة: "... حيث دار، فإنه قد فرغ الله مما افترض فيه"، ساق الكلام سياقًا واحدًا بعد تغييره، والذي في المخطوطة هو ما أثبته، وبين الكلامين بياض بقدر كلمة أو كلمتين، وضعت مكانهما نقطًا، تركته حتى يعثر على الخبر فيتمه وجدانه.
(٢) وهذا الذي بين القوسين، هو الثابت في المخطوطة، ولا أدري ما هو، ولكن ناشر المطبوعة الأولى جعل الكلام هكذا: "وإنه كانت أمة من بني إسرائيل"، فرأيت أن أثبت ما في المخطوطة على حاله، حتى إذا وجد الخبر في مكان آخر صحح. وكان هذا والذي قبله في المخطوطة في سطر واحد، وأمام السطر حرف (ط) بالأحمر دلالة على الخطأ.
(٣) هكذا في المطبوعة والمخطوطة"فلم يرضوا" و"ثم لم يرضوا" في الموضعين، وأنا في شك منها، وأرجح أنها: "فلم يريموا"، و"ثم لم يريموا"، أي: لم يلبثوا.
(٤) انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف قريبا ص: ٤٨٩، تعليق: ١، والمراجع هناك.
495
القول في تأويل قوله: ﴿كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كان هؤلاء اليهود الذين لعنهم الله="لا يتناهون"، يقول: لا ينتهون عن منكر فعلوه، ولا ينهى بعضهم بعضًا. (١) ويعني بـ"المنكر"، المعاصي التي كانوا يعصون الله بها. (٢)
* * *
فتأويل الكلام: كانوا لا ينتهون عن منكر أتوه="لبئس ما كانوا يفعلون". وهذا قسم من الله تعالى ذكره يقول: أقسم: لبئس الفعل كانوا يفعلون، في تركهم الانتهاء عن معاصي الله تعالى ذكره، وركوب محارمه، وقتل أنبياء الله ورسله، (٣) كما:-
١٢٣١٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه"، لا تتناهى أنفسهم بعد أن وقعوا في الكفر.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (٨٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"ترى"، يا محمد، كثيرًا من بني إسرائيل="يتولون الذين كفروا"، يقول: يتولون المشركين من عَبَدة الأوثان،
(١) انظر تفسير"انتهى" فيما سلف قريبًا ص: ٤٨٢، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير"المنكر" فيما سلف ٧: ٩١، ١٠٥، ١٣٠.
(٣) انظر تفسير"بئس" فيما سلف ٢: ٣٣٨، ٣٩٣/ ٣: ٥٦/ ٧: ٤٥٩.
ويعادون أولياء الله ورسله (١) ="لبئس ما قدمت لهم أنفسهم"، يقول تعالى ذكره: أُقسم: لبئس الشيء الذي قدمت لهم أنفسهم أمامهم إلى معادهم في الآخرة (٢) ="أنْ سخط الله عليهم"، يقول: قدّمت لهم أنفسهم سخط الله عليهم بما فعلوا.
* * *
و"أن" في قوله:"أنْ سخط الله عليهم"، في موضع رفع، ترجمةً عن"ما"، الذي في قوله:"لبئس ما". (٣)
* * *
="وفي العذاب هم خالدون"، يقول: وفي عذاب الله يوم القيامة="هم خالدون"، دائم مُقامهم ومُكثهم فيه. (٤)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٨١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو كان هؤلاء الذين يتولون الذين كفروا من بني إسرائيل="يؤمنون بالله والنبي"، يقول: يصدِّقون الله ويقرُّون به ويوحِّدونه، ويصدقون نبيَّه محمدًا ﷺ بأنه لله نبي مبعوث، ورسول مرسل="وما أنزل إليه"، يقول: ويقرُّون بما أنزل إلى محمد ﷺ من عند الله من آي الفرقان=
"ما اتخذوهم أولياء"، يقول: ما اتخذوهم أصحابًا وأنصارًا من دون المؤمنين (٥) ="ولكن كثيرًا منهم فاسقون"، يقول: ولكن كثيرًا منهم أهل خروج
(١) انظر تفسير"التولي" فيما سلف من فهارس اللغة (ولى).
(٢) انظر تفسير"قدم" فيما سلف ٢: ٣٦٨/٧: ٤٤٧/٨: ٥١٤.
(٣) "الترجمة": البدل، انظر ما سلف من فهارس المصطلحات.
(٤) انظر تفسير"الخلود" فيما سلف من فهارس اللغة (خلد).
(٥) انظر تفسير"الأولياء" فيما سلف من فهارس اللغة (ولي).
عن طاعة الله إلى معصيته، وأهلُ استحلال لما حرَّم الله عليهم من القول والفعل. (١)
* * *
وكان مجاهد يقول في ذلك بما:-
١٢٣١٤ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء"، قال: المنافقون.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمدّ صلى الله عليه وسلم: لتجدن، يا محمد، أشدَّ الناس عداوةً للذين صدَّقوك واتبعوك وصدّقوا بما جئتهم به من أهل الإسلام="اليهودَ والذين اشركوا"، يعني: عبدة الأوثان الذين اتخذوا الأوثان آلهة يعبدونها من دون الله="ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا"، يقول: ولتجدن أقربَ الناس مودةًّ ومحبة.
* * *
و"المودة""المفعلة"، من قول الرجل:"ودِدْت كذا أودُّه وُدًّا، ووِدًّا، ووَدًّا ومودة"، إذا أحببته. (٢)
* * *
="للذين آمنوا"، يقول: للذين صدّقوا الله ورسوله محمدًا ﷺ ="الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون"،
(١) انظر تفسير"الفسق" فيما سلف من فهارس اللغة (فسق).
(٢) انظر تفسير"ود" فيما سلف ٢: ٤٧٠/٥: ٥٤٢/٦: ٥٠٠/٨: ٣٧١/٩: ١٧
498
عن قبول الحق واتباعه والإذعان به.
* * *
وقيل: إن هذه الآية والتي بعدها نزلت في نفرٍ قدِموا على رسول الله ﷺ من نصارى الحبشة، فلما سمعوا القرآن أسلموا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقيل: إنها نزلت في النجاشيّ ملك الحبشة وأصحابٍ له أسلموا معه.
ذكر من قال ذلك:
١٢٣١٥ - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف، عن سعيد بن جبير قال: بعث النجاشيّ وفدًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليهم النبي ﷺ فأسلموا. قال: فأنزل الله تعالى فيهم:"لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا"، إلى آخر الآية. قال: فرجعوا إلى النجاشيّ فأخبروه، فأسلم النجاشي، فلم يزل مسلمًا حتى مات. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ أخاكم النجاشيَّ قد مات، فصلُّوا عليه! فصلَّى عليه رسول الله ﷺ بالمدينة، والنجاشي ثَمَّ.
١٢٣١٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولتجدن أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى"، قال: هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة.
١٢٣١٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ولتجدن أقربهم مودَّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى"، قال: كان رسول الله ﷺ وهو بمكة خاف على أصحابه من المشركين، فبعث جعفرَ بن أبي طالب، وابن
499
مسعود وعثمان بن مظعون، في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة. فلما بلغ ذلك المشركين، بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم، ذُكر أنهم سبقوا أصحاب النبي ﷺ إلى النجاشيّ، فقالوا، إنه خرج فينا رجل سفَّه عقول قريش وأحلامها، زعم أنه نبيُّ! وإنه بعث إليك رهطًا ليفسدوا عليك قومك، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال: إن جاءوني نظرت فيما يقولون! فقدم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمُّوا بابَ النجاشي، (١) فقالوا: استأذن لأولياء الله! (٢) فقال، ائذن لهم، فمرحبًا بأولياء الله! فلما دخلوا عليه سلَّموا، فقال له الرهط من المشركين: ألا ترى أيها الملك أنا صدقناك؟ لم يحيوك بتحيَّتك التي تحيَّا بها! فقال لهم: ما منعكم أن تحيوني بتحيتي؟ فقالوا: إنا حيَّيناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة! قال لهم: ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ قال يقول:"هو عبد الله، وكلمةٌ من الله ألقاها إلى مريم، وروح منه"، ويقول في مريم:"إنها العذراء البتول". قال: فأخذ عودًا من الأرض فقال: ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم قدر هذا العود! فكره المشركون قوله، وتغيَّرت وجوههم. قال لهم: هل تعرفون شيئًا مما أنزل عليكم؟ قالوا: نعم! قال: اقرأوا! فقرأوا، وهنالك منهم قسيسون ورهبانٌ وسائرُ النصارى، فعرفت كلَّ ما قرأوا وانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق. قال الله تعالى ذكره:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول" الآية.
١٢٣١٨ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى"، الآية. قال: بعث النجاشيّ إلى رسول الله ﷺ اثنى
(١) في المطبوعة: "فأقاموا بباب النجاشي"، والصواب المحض من المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "فقالوا: أتأذن"، والصواب من المخطوطة. يعني: قالوا لحاجب باب النجاشي، ولذلك جاء الجواب: "فقال: ائذن لهم".
500
عشر رجلا من الحبشة، سبعة قسيسين وخمسة رهبانًا، ينظرون إليه ويسألونه. فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بَكَوْا وآمنوا، فأنزل الله عليه فيهم:"وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين"، فآمنوا ثم رجعوا إلى النجاشيّ، فهاجر النجاشي معهم فمات في الطريق، فصلى عليه رسول الله ﷺ والمسلمون واستغفروا له.
١٢٣١٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء في قوله:"ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى" الآية، هم ناس من الحبشة آمنوا، إذ جاءتهم مهاجِرَةُ المؤمنين.
* * *
وقال آخرون: بل هذه صفة قوم كانوا على شريعة عيسى من أهل الإيمان، فلما بعث الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا ﷺ آمنوا به.
ذكر من قال ذلك:
١٢٣٢٠ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا"، فقرأ حتى بلغ:"فاكتبنا مع الشاهدين"، أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعةٍ من الحق مما جاء به عيسى، يؤمنون به وينتهون إليه. فلما بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، صدَّقوا به وآمنوا به، وعرفوا الذي جاء به أنه الحق، فأثنى عليهم ما تسمعون.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول عندي: أنّ الله تعالى وصف صفة قوم قالوا:"إنا نصارى"، أن نبيّ الله ﷺ يجدهم أقربَ الناس وِدادًا لأهل الإيمان بالله ورسوله، ولم يسمِّ لنا أسماءهم. وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحابُ النجاشي= ويجوز أن يكون أريد به قومٌ كانوا على شريعة
501
عيسى، فأدركهم الإسلام فأسلموا لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق، ولم يستكبروا عنه.
* * *
وأما قوله تعالى:"ذلك بأنّ منهم قسيسين ورهبانًا"، فإنه يقول: قَرُبت مودَّة هؤلاء الذين وصف الله صفتهم للمؤمنين، من أجل أنّ منهم قسيسين ورهبانًا.
* * *
و"القسيسون" جمع"قسيس". وقد يجمع"القسيس"،"قسوسًا"، (١) لأن"القَسّ" و"القسيس"، بمعنى واحد.
* * *
وكان ابن زيد يقول في"القسيس" بما:-
١٢٣٢١ - حدثنا يونس قال، حدثنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"القسيس"، عبَّادُهم. (٢)
* * *
وأما الرهبان، فإنه يكون واحدًا وجمعًا. فأما إذا كان جمعًا، فإن واحدهم يكون"راهبًا"، ويكون"الراهب"، حينئذ"فاعلا" من قول القائل:"رَهب الله فلان"، بمعنى خافه،"يرهبه رَهَبًا ورَهْبَا"، ثم يجمع"الراهب"،"رهبان" مثل"راكب" و"ركبان"، و"فارس" و"فرسان". ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب جمعًا قول الشاعر: (٣)
رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأَوْكِ تَنزلُوا والْعُصْمُ مِنْ شَعَفِ الْعَقُولِ الفَادِرِ (٤)
(١) في المطبوعة: "قسوس"، والصواب من المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "القسيسين"، بالجمع، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب، ولا بأس هنا بشرح المفرد بالجمع.
(٣) هو جرير، ونسبه ياقوت في معجم البلدان لكثير عزة، وأدخله في شعره جامع ديوانه ص: ٢٤٠، والصواب أنه لجرير.
(٤) ديوانه: ٣٠٥، وسيأتي في التفسير ٢٠: ٣٤ (بولاق) وديوان كثير ١: ٢٤٠، واللسان (رهب) ومعجم البلدان (مدين)، من قصيدة هجا فيها الأخطل والفرزدق، يقول قبله:و"مدين" مدينه شعيب عليه السلام، على بحر القلزم، تجاه تبوك، بين المدينة والشام، ذكرها كثير أيضًا في شعره فقال:
يَا أُمَّ طَلْحَةَ، مَا لَقِينَا مِثْلكُمْ فِي الْمُنْجِدِينَ ولا بغَوْرِ الغَائِرِ
اللهُ يَعْلَمُ لَوْ أَرَدْتُ زِيَادَةً في حُبِّ عَزَّةَ ما وجدْتُ مَزِيدَا
رُهْبَانُ مَدْيَنَ وَالَّذِينَ عَهِدْتُهُمْ يَبْكُونَ مِنْ حَذَر العَذَابِ قُعُودَا
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلامَها خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وَسُجُودَا
و"العقول" عندي بفتح العين، من قولهم: "عقل الوعل يعقل عقولا"، امتنع برأس الجبل، فهو"عاقل" وبذلك سمي، والقياس يقبل أيضًا"فهو عقول" (بفتح العين). وفي الديوان، ضبط بالقلم"العقول" (بضم العين)، جمع"عقل" (بفتح فسكون) : وهو المعقل والحصن. ولست أرضى ذلك هنا، وروى صاحب المعجم"والعصم في شعف الجبال"، وهي موافقة في المعنى لمن ضبط"العقول" بضم العين، وأرجح أن صواب إنشاده في المعجم"من شعف الجبال". و"الشعف" جمع"شعفة" (بفتحتين) : وهي رأس الجبل. و"الفادر": الوعل العاقل الممتنع في رأس الجبل، وهو حينئذ مسن معتقل في رأس جبله. و"العصم" جمع"أعصم": وهو الوعل. سمى بالصفة الغالبة، لأن في إحدى يديه بياضًا. وذلك أن"العصم" و"العصمة": البياض في الذراعين أو إحداهما.
ولما كان"العصم" جمعًا، أنفت أن أجعل"الفادر" من صفته، لو قرئ"العقول" (بضم العين) بمعنى: الحصون والملاجئ، بل جعلتها بفتح العين، بمعنى أن العصم غير المسنة تنزلت أيضا من المعقل الذي يعقل إليه مسن الوعول امتناعًا من الصيد، لقلة احتفاله بمفارقة معقله، كاحتفال شواب الوعول.
502
وقد يكون"الرهبان" واحدًا. وإذا كان واحدًا كان جمعه"رهابين" مثل"قربان" و"قرابين"، و"جُرْدان". و"جرادين". (١) ويجوز جمعه أيضًا"رهابنة" إذا كان كذلك. ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب واحدا قول الشاعر: (٢)
لَوْ عَايَنَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ في الْقُلَلْ لانْحَدَرَ الرُّهْبَانُ يَمْشِي وَنزل (٣)
* * *
(١) "الجردان": ما يستحى من ذكره من الإنسان وغيره.
(٢) لم أعرف هذا الراجز.
(٣) تفسير القرطبي ٦: ٢٥٨، مع اختلاف شديد في الرواية."عاين الشيء معاينة وعيانًا": نظر إليه بعينيه مواجهة. ومنه قيل: "رأيت فلانًا عيانًا" أي: مواجهة. وحق شرح هذا اللفظ هنا أن يقال: لو رمتهم بعينيها مواجهة. و"القلل": جمع"قلة": وهي رأس الجبل، وإنما عنى بذلك صوامع الرهبان في الجبال.
503
واختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا".
فقال بعضهم: عُني بذلك قوم كانوا استجابوا لعيسى ابن مريم حين دعاهم، واتَّبعوه على شريعته.
ذكر من قال ذلك:
١٢٣٢١م - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن حصين، عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا"، قال: كانوا نَوَاتِيَّ في البحر= يعني: ملاحين (١) = قال: فمر بهم عيسى ابن مريم، فدعاهم إلى الإسلام فأجابوه: قال: فذلك قوله:"قسيسين ورهبانًا".
* * *
وقال آخرون: بل عني بذلك، القوم الذين كان النجاشي بعثهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
١٢٣٢٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم قال، حدثنا عنبسة، عمن حدثه، عن أبي صالح في قوله:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا"، قال: ستة وستون، أو سبعة وستون، أو ثمان وستون، (٢) من الحبشة، كلهم
(١) في ابن الأثير ثم في لسان العرب"كانوا نَوَّاتِين، أي ملاحين- تفسيره في الحديث" وكذلك نقله عنهما صاحب تاج العروس. وأنا أخشى أن يكون خطأ من النساخ، وأن صوابه"كانوا نواتى، أي ملاحين"، كما جاء هنا وفي المخطوطة أيضا. ولم أجد أحدًا ذكره كذلك: "نواتا" (بفتح النون وتشديد الواو)، ولو كان كذلك لتعرض له أصحاب اللغة، ولكنهم لم يذكروه إلا فيما نقلوه عن ابن الأثير، وواحد"النواتى" (بفتح النون والواو المفتوحة غير المشددة) "نوتى" (بضم النون، آخره ياء مشددة). والذي في مخطوطة الطبري يرجح أن الذي كتبه ابن الأثير، خطأ، أو سهو في قراءة الحرف. وابن الأثير وحده، لا يحتج برواية كتابه غير مقيدة مضبوطة بإسنادها ومصدرها. ثم وجدته بعد أن كتبت هذا، في مجمع الزوائد ٧: ١٧، كما جاء في ابن الأثير واللسان: "نواتين، يعني ملاحين". وذكر هناك الخبر بطوله، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه العباس بن الفضل الأنصاري، وهو ضعيف". وهو إسناد غير إسناد أبي جعفر بلا شك، وانظر ابن كثير ٣: ٢١٢، ٢١٣.
(٢) هكذا في المطبوعة: "أو اثنان وستون"، وفي المخطوطة: "اثنان وستون" بغير "أو"، وغير منقوطة، فأرجح أن صواب قراءتها: "أو ثمان وستون"... وهو الذي يدل عليه السياق، ولذلك أثبتها كذلك.
504
صاحب صَوْمعة، عليهم ثيابُ الصوف.
١٢٣٢٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا"، قال: بعث النجاشيّ إلى النبي ﷺ خمسين أو سبعين من خيارهم، فجعلوا يبكون، فقال: هم هؤلاء!
١٢٣٢٤ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا"، قال: هم رُسُل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه، كانوا سبعين رجلا اختارهم الخيِّرَ فالخيِّرَ، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليهم: (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) [سورة يس: ١، ٢]، فبكوا وعرفوا الحق، فأنزل الله فيهم:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون"، وأنزل فيهم: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) إلى قوله: (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) [سورة القصص: ٥٣، ٥٤].
* * *
قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ عن النفر الذين أثنى عليهم من النصارى بقرب مودتهم لأهل الإيمان بالله ورسوله، أن ذلك إنما كان منهم لأن منهم أهلَ اجتهاد في العبادة، وترهُّب في الديارات والصوامع، (١) وأن منهم علماء بكتبهم وأهل تلاوة لها، فهم لا يبعدون من المؤمنين لتواضعهم للحق إذا عرفوه، ولا يستكبرون عن قبوله إذا تبيّنوه، لأنهم
(١) في المطبوعة: "وترهيب"، وفي المخطوطة: "وترهب" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت، فإنه لا يقال: "رهب ترهيبًا"، وإنما يقال: "ترهب ترهبًا"، إذا صار راهبًا يخشى الله، ويتعبد في صومعته.
505
أهل دين واجتهاد فيه، ونصيحة لأنفسهم في ذات الله، وليسوا كاليهود الذين قد دَرِبُوا بقتل الأنبياء والرسل، ومعاندة الله في أمره ونهيه، وتحريفِ تنزيله الذي أنزله في كتبه. (١)
* * *
(١) قال الجصاص في أحكام القرآن ٢: ٤٥١: "ومن الجهال من يظن أن في هذه الآية مدحًا للنصارى، وإخبارًا بأنهم خير من اليهود. وليس ذلك كذلك، لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول. يدل عليه ما ذكر في نسق التلاوة، من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله والرسول. ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أمعن النظر في مقالتي هاتين الطائفتين، أن مقالة النصارى أقبح وأشد استحالة، وأظهر فسادًا من مقالة اليهود. لأن اليهود تقر بالتوحيد في الجملة، وإن كان فيها مشبهة تنقض ما اعتقدته في الجملة من التوحيد بالتشبيه".
ونقل هذا: أبو حيان في تفسيره (٤: ٤، ٥)، ثم قال: "والظاهر ما قاله المفسرون وغيرهم من أن النصارى على الجملة أصلح حالا من اليهود. وقد ذكر المفسرون فيما تقدم، ما فضل به النصارى على اليهود من كرم الأخلاق، والدخول في الإسلام سريعًا. وليس الكلام واردا بسبب العقائد، وإنما ورد بسبب الانفعال للمسلمين. وأما قوله: "لأن ما في الآية من ذلك، إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول"، ليس كما ذكر، بل صدر الآية يقتضي العموم، لأنه قال: "ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى"، ثم أخبر أن من هذه الطائفة علماء وزهادًا متواضعين، وسريعي استجابة للإسلام، وكثيري بكاء عند سماع القرآن. واليهود بخلاف ذلك. والوجود يصدق قرب النصارى من المسلمين، وبعد اليهود".
وهذا كلام فيه نظر يطول، ليس هذا موضع تفصيله، وإنما نقلته لك لتتأمله وتتدبره.
506
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا سمع هؤلاء الذين قالوا:"إنا نَصَارى" = الذين وصفت لك، يا محمد، صفتهم أنك تجدهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا= (١) ما أنزل إليك من الكتاب يُتْلى="ترى أعينهم تفيض من الدمع".
* * *
(١) سياق الكلام: "إذا سمع هؤلاء... ما أنزل إليك من الكتاب يتلى"، وما بين الفعل ومفعوله فصل طويل.
506
و"فيض العين من الدمع"، امتلاؤها منه، ثم سيلانه منها، كفيض النهر من الماء، وفيض الإناء، وذلك سيلانه عن شدة امتلائه، ومنه قول الأعشى:
ففَاضَتْ دُمُوعِي، فَظَلَّ الشُّئُونُ:... إمَّا وَكِيفًا، وَإِمَّا انْحِدَارَا (١)
وقوله:"مما عرفوا من الحق"، يقول: فيض دموعهم، لمعرفتهم بأنّ الذي يتلى عليهم من كتاب الله الذي أنزله إلى رسول الله حقٌّ، كما:-
١٢٣٢٥ - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا أسباط بن نصر الهمداني، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السديّ قال: بعث النجاشي إلى النبيّ ﷺ اثنى عشر رجلا يسألونه ويأتونه بخبره، فقرأ عليهم رسول الله ﷺ القرآن، فبكوا. وكان منهم سبعة رهبانٍ وخمسة
(١) ديوانه: ٣٥. من قصيدته في قيس بن معد يكرب الكندي، وقبل البيت، وهو أولها: أَأَزْمَعْتَ مِنْ آلِ لَيْلَى ابْتِكَارَا... وَشَطَّتْ عَلَى ذِي هَوًى أن تُزَارَا
وَبَانَتْ بِهَا غَرَبَاتُ النَّوَى... وَبُدِّلْتُ شَوْقًا بِهَا وَادِّكَارَا
فَفَاضَتْ دْمُوعِي.................................
كَمَا أَسْلَمَ السِّلْكُ مِنْ نَظْمِهِ... لآلِئَ مُنْحَدِرَاتٍ صِغَارَا
وكان البيت في المخطوطة والمطبوعة: "ففاضت دموعي فطل الشئون داما حدارًا"، وهو خطأ محض."والشئون" جمع"شأن"، وهو مجرى الدمع إلى العين، وهي عروقها. ورواية الديوان: "كفيض الغروب"، و"الغروب" جمع"غرب" (بفتح فسكون)، وهو الدلو الكبير الذي يستقى به على السانية. وقوله: "فظل" بالظاء المعجمة، لا بالطاء. وقد أفسد وأخطأ من جعله بالطاء المهملة، وشرحه على ذلك. وهو غث جدًا. و"الوكيف": أن يسيل الدمع قليلا قليلا، إنما يقطر قطرًا."وكف الدمع يكف وكفًا ووكيفًا". وأما "انحدار الدمع"، فهو سيلانه متتابعا، كما ينصب الماء من حدور.
507
قسيسين (١) = أو: خمسة رهبان، وسبعة قسيسين (٢) = فأنزل الله فيهم:"وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع"، إلى آخر الآية.
١٢٣٢٦ - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عمر بن علي بن مقدّم قال، سمعت هشام بن عروة يحدث، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت في النجاشي وأصحابه:"وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع". (٣)
١٢٣٢٧ - حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه في قوله:"ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق"، قال: ذلك في النجاشي.
١٢٣٢٨ - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كانوا يُرَوْن أن هذه الآية أنزلت في النجاشي:"وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع".
١٢٣٢٩ - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، قال ابن إسحاق: سألت الزهري عن الآيات:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع" الآية، وقوله: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) [سورة الفرقان: ٦٣]. قال: ما زلت أسمع علماءنا يقولون: نزلت في النجاشي وأصحابه. (٤)
* * *
(١) في المطبوعة: "وخمسة قسيسون"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.
(٢) في المخطوطة: "أو سبعة" دون ذكر"قسيسين"، ولكنها زيادة لا غنى عنها. وصوابها أيضا"وسبعة" بالواو.
(٣) الأثر: ١٢٣٢٦-"عمر بن علي بن مقدم"، هو: "عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي". ثقة، ولكنه كان يدلس. قال ابن سعد: "كان ثقة، وكان يدلس تدليسًا شديدا، يقول: سمعت، وحدثنا، ثم يسكت فيقول: هشام بن عروة، والأعمش. وقال: كان رجلا صالحًا، ولم يكونوا ينقمون عليه غير التدليس، وأما غير ذلك فلا، ولم أكن أقبل منه حتى يقول حدثنا". مترجم في التهذيب.
(٤) الأثر: ١٢٣٢٩- سيرة ابن هشام ٢: ٣٣، ولكن ليس فيه ذكر آية سورة الفرقان التي ذكرها أبو جعفر في هذه الرواية عن ابن إسحق. ثم إن أبا جعفر لم يذكر هذا الخبر في تفسير الآية من سورة الفرقان ١٩: ٢١، ٢٢ (بولاق)، ولا أشار إلى أنها نزلت في أحد، لا النساشي وأصحابه ولا غيرهم.
508
وأما قوله:"يقولون"، فإنه لو كان بلفظ اسم، كان نصبًا على الحال، لأن معنى الكلام: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، قائلين:"ربنا آمنا".
* * *
ويعني بقوله تعالى ذكره:"يقولون ربنا آمنا"، أنهم يقولون: يا ربنا، صدَّقنا لما سمعنا ما أنزلته إلى نبيك محمد ﷺ من كتابك، وأقررنا به أنه من عندك، وأنه الحق لا شك فيه.
* * *
وأما قوله:"فاكتبنا مع الشاهدين"، فإنه روي عن ابن عباس وغيره في تأويله، ما:-
١٢٣٣٠ - حدثنا به هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وابن نمير= جميعًا، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"اكتبنا مع
الشاهدين"، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
١٢٣٣١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"فاكتبنا مع الشاهدين"، مع أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
١٢٣٣٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فاكتبنا مع الشاهدين"، يعنون بـ"الشاهدين"، محمدًا ﷺ وأمَّته.
١٢٣٣٣ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"فاكتبنا مع الشاهدين"، قال: محمد ﷺ وأمته، إنهم شهدوا أنه قد بلَّغ، وشهدوا أن الرسل قد بلغت.
509
١٢٣٣٤ - حدثنا الربيع قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا يحيى بن زكريا قال، حدثني إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثل حديث الحارث بن عبد العزيز= غير أنه قال: وشهدوا للرسل أنهم قد بلَّغوا. (١)
* * *
قال أبو جعفر: فكأنّ متأوِّل هذا التأويل، قصد بتأويله هذا إلى معنى قول الله تعالى ذكره: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [سورة البقرة: ١٤٣]. فذهب ابن عباس إلى أن"الشاهدين"، هم"الشهداء" في قوله:"لتكونوا شهداء على الناس"، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. (٢)
* * *
وإذا كان التأويل ذلك، كان معنى الكلام:"يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين"، الذين يشهدون لأنبيائك يوم القيامة، أنهم قد بلغوا أممهم رسالاتك.
* * *
ولو قال قائل: معنى ذلك:"فاكتبتا مع الشاهدين"، الذين يشهدون أن ما أنزلته إلى رسولك من الكتب حق= كان صوابًا. لأن ذلك خاتمة قوله:"وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين"، وذلك صفة من الله تعالى ذكره لهم بإيمانهم لما سمعوا من كتاب الله، فتكون مسألتهم أيضا اللهَ أن يجعلهم ممن صحَّت عنده
(١) الآثار: ١٢٣٣٠- ١٢٣٣٤- رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٣١٣، من طريق يحيى بن آدم عن إسرائيل، بمثله، ثم قال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٧: ١٨، وقال: "رواه الطبراني عن شيخه عبد الله بن أبي مريم، وهو ضعيف"، ولكن هذه أسانيد صحاح، رواها الطبري وغيره.
(٢) انظر ما سلف من تفسير آية سورة البقرة ٣: ١٤١- ١٥٥.
510
شهادتهم بذلك، ويُلْحقهم في الثوابِ والجزاء منازلَهُم.
ومعنى"الكتاب،" في هذا الموضع: الجَعْل. (١)
* * *
يقول: فاجعلنا مع الشاهدين، وأثبتنا معهم في عِدَادهم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن هؤلاء القوم الذين وصَف صفتهم في هذه الآيات، أنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى رسوله محمد ﷺ من كتابه، آمنوا به وصدّقوا كتاب الله، وقالوا:"ما لنا لا نؤمن بالله"، يقول: لا نقرّ بوحدانية الله="وما جاءَنا من الحق"، يقول: وما جاءنا من عند الله من كتابه وآي تنزيله، ونحن نطمَعُ بإيماننا بذلك أن يدخلنا ربُّنا مع القوم الصالحين.
* * *
يعني بـ"القوم الصالحين"، المؤمنين بالله، المطيعين له، الذين استحقُّوا من الله الجنة بطاعتهم إياه. (٢)
وإنما معنى ذلك: ونحن نطمعُ أن يدخلَنا ربُّنا مع أهل طاعته مداخلَهم من جنته يوم القيامة، ويلحق منازلَنا بمنازلهم، ودرجاتنا بدرجاتهم في جنَّاته.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٢٣٣٥ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال
(١) انظر تفسير"الكتاب" فيما سلف من فهارس اللغة، (كتب).
(٢) انظر تفسير"الصالح" فيما سلف ٨: ٥٣٢، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
ابن زيد في قوله:"وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين"، قال:"القومُ الصالحون"، رسولُ الله ﷺ وأصحابُه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فجزاهم الله بقولهم:"ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءَنا من الحق ونطمع أن يدخلَنا ربَّنا مع القوم الصالحين"=
"جنات تجري من تحتها الأنهار"، يعني: بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار="خالدين فيها"، يقول: دائمًا فيها مكثهم، لا يخرجون منها ولا يحوَّلون عنها=
"وذلك جزاء المحسنين"، يقول: وهذا الذي جَزَيتُ هؤلاء القائلين بما وصفتُ عنهم من قيلهم على ما قالوا، من الجنات التي هم فيها خالدون، جزاءُ كل محسنٍ في قِيله وفِعله.
* * *
و"إحسان المحسن" في ذلك، أن يوحِّد الله توحيدًا خالصًا محضًا لا شرك فيه، ويقرّ بأنبياء الله وما جاءت به من عند الله من الكتب، ويؤدِّي فرائضَه، ويجتنب معاصيه. (١) فذلك كمال إحسان المحسنين الذين قال الله تعالى ذكره:"جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها". (٢)
* * *
(١) انظر تفسير"الإحسان" فيما سلف ٨: ٣٣٤، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) أخشى أن يكون صواب العبارة:
القول في تأويل قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (٨٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأما الذين جَحَدوا توحيدَ الله، وأنكروا نبوّةَ محمد صلى الله عليه وسلم، وكذبوا بآيات كتابه، فإن أولئك"أصحاب الجحيم". يقول: هم سكّانها واللابثون فيها. (١)
* * *
و"الجحيم": ما اشتدّ حرُّه من النار، وهو"الجَاحِم""والجحيم". (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به نبيُّهم ﷺ أنه حق من عند الله="لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم"، يعني بـ"الطيبات"، اللذيذات التي تشتهيها النفوس، وتميل إليها القلوب، (٣)
فتمنعوها إيّاها، كالذي فعله القسِّيسون والرُّهبان، فحرَّموا على أنفسِهم النساءَ والمطاعمَ الطيَّبة، والمشاربَ اللذيذة، وحَبس في الصَّوامع بعضُهم أنفسَهم، وساحَ في الأرض بعضهم. يقول تعالى ذكره: فلا تفعلوا أيُّها المؤمنون، كما فعل أولئك، ولا تعتدُوا حدَّ الله الذي حدَّ لكم فيما أحلَّ لكم وفيما حرم عليكم،
(١) انظر تفسير"أصحاب النار" فيما سلف ص: ٢١٧، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير"الجحيم" فيما سلف ٢: ٥٦٢.
(٣) انظر تفسير"الطيبات" فيما سلف ص: ٨٤، تعليق: ١، والمراجع هناك.
513
فتجاوزوا حدَّه الذي حدَّه، فتخالفوا بذلك طاعته، فإن الله لا يحبُّ من اعتدى حدَّه الذي حدّه لخلقه، فيما أحل لهم وحرَّم عليهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٢٣٣٦ - حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس قال، حدثنا عبثر أبو زبيد قال، حدثنا حصين، عن أبي مالك في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيّبات ما أحل الله لكم" الآية، قال: عثمان بن مظعون وأناسٌ من المسلمين، حرَّموا عليهم النساءَ، وامتنعوا من الطَّعام الطيّب، وأراد بعضهم أن يقطع ذَكَره، فنزلت هذه الآية. (١)
١٢٣٣٧ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني خالد الحذاء، عن عكرمة قال: كان أناسٌ من أصحاب النبي ﷺ همُّوا بالخصاء وتَرْك اللحم والنساء، فنزلت هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيّباتِ ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين".
١٢٣٣٨ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن خالد، عن عكرمة: أن رجالا أرادوا كذا وكذا، وأرادوا كذا وكذا، وأن يختَصُوا، فنزلت:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلَّ الله لكم" إلى قوله:"الذي أنتم به مؤمنون".
١٢٣٣٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيِّبات ما أحل الله لكم"، قال: كانوا حَرَّموا
(١) الأثر: ١٢٣٣٦-"أبو حصين": "عبد الله بن أحمد بن يونس" هو: "عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي"، شيخ الطبري، روى عن أبيه، وروى هو وأبوه عن عبثر بن القاسم. روى عنه الترمذي والنسائي وأبو حاتم، وغيرهم، ثقة صدوق. مترجم في التهذيب.
و"عبثر بن القاسم الزبيدي"، "أبو زبيد". ثقة صدوق. وقال ابن معين: "ثقة سنيّ". مترجم في التهذيب، والكبير ٤/١/٩٤، وابن أبي حاتم ٣/٢/ ٤٣. وكان في المخطوطة وحدها: "عبثر بن زبيدة"، وهو خطأ محض.
و"حصين"، هو"حصين بن عبد الرحمن السلمي"، مضى برقم: ٥٧٩، ٢٩٨٦.
514
الطيِّب واللحمَ، فأنزل الله تعالى هذا فيهم.
١٢٣٤٠ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، حدثنا خالد، عن عكرمة: أن أناسًا قالوا:"لا نتزوَّج، ولا نأكل، ولا نفعل كذا وكذا"! فأنزل الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيِّبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين".
١٢٣٤١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: أراد أناس من أصحاب النبي ﷺ أن يرفُضُوا الدنيا، ويتركوا النساء، ويترهَّبوا، فقام رسول الله ﷺ فغَلَّظ فيهم المقالة، ثم قال: إنما هَلَك من كان قبلكم بالتشديد، شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فأولئك بقايَاهم في الدِّيار والصوامع! (١) اعبدُوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وحجُّوا، واعتمروا، واستقيموا يَسْتَقِم لكم. قال: ونزلت فيهم:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم"، الآية.
١٢٣٤٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم"، قال: نزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أرادوا أن يتخلَّوا من الدُّنيا، (٢) ويتركوا النساء ويتزهدوا، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون.
١٢٣٤٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن زياد بن فياض، عن أبي عبد الرحمن قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لا آمرُكم أن تكونُوا قسِّيسين ورهبانًا".
(١) "الديار" جمع"دير"، والذي ذكره أصحاب معاجم اللغة أن جمعه"أديار"، واقتصروا على هذا الجمع، وذكر ياقوت في معجم البلدان (دير)، جموعًا كثيرًا، ليس هذا منها، ولكنه نقل أن الجوهري قال: "دير النصارى أصله الدار" فإن كان ذلك كذلك، فجمعه على"ديار" لا شك في صحته وقياسه. وانظر"الدور" أيضا في الأثر رقم: ١٢٣٤٤. ص: ٥١٦، تعليق: ٢.
(٢) في المطبوعة: "أن يتخلوا من اللباس"، وهو كلام ملفق، وفي المخطوطة: "ويتحلوا من اللبسا"، غير مبينة، صوابها ما أثبت من الدر المنثور ٢: ٣٠٨.
515
١٢٣٤٤ - حدثنا بشر بن مُعاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، الآية، ذكر لنا أنّ رجالا من أصحاب النبي ﷺ رَفَضوا النساء واللحم، وأرادوا أن يتّخذوا الصوامع. فلما بلغ ذلك رسولَ الله ﷺ قال: ليس في ديني تركُ النساء واللحم، ولا اتِّخاذُ الصوامع= وخُبِّرنا أن ثلاثة نفرٍ على عهد رسول الله ﷺ اتَّفقوا، فقال أحدهم: أمَّا أنا فأقوم الليل لا أنام! وقال أحدهم: أمَّا أنا فأصوم النهار فلا أفطر! وقال الآخر: أما أنا فلا آتي النساء! فبعث رسول الله ﷺ إليهم فقال: ألم أُنَبَّأْ أنكم اتّفقتم على كذا؟ قالوا: بلى! يا رسول الله، وما أردنا إلا الخير! قال: لكني أقومُ وأنامَ، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سُنَّتِي فليس منِّي= وكان في بعض القراءة: (من رغب عن سنتك فليس من أمتك وقد ضل عن سواء السبيل). (١) وذكر لنا أن نبي الله ﷺ قال لأناسٍ من أصحابه: إن مَنْ قبلكم شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فهؤلاء إخوانهم في الدُّورِ والصوامع! (٢) اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وحُجُّوا واعتمروا، واستقيموا يستقم لكم. (٣)
(١) في المطبوعة: "عن سواء السبيل"، بزيادة"عن"، وليست في المخطوطة.
(٢) "الدور"، يعني جمع"دير"، وقد ذكرت القول فيه في ص: ٥١٥، تعليق: ١.
(٣) الأثر: ١٢٣٤٤-"بشر بن معاذ العقدي" مضى برقم: ٣٥٢، ٢٦١٦.
أما "جامع بن حماد"، فلم أجد له ترجمة فيما بين يدي من المراجع. وهذه أول مرة يأتي إسناد بشر بن معاذ في روايته عن يزيد بن زريع بواسطة"جامع بن حماد". أما إسناد: "بشر بن معاذ، عن يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة" فهو إسناد دار في التفسير من أوله إلى هذا الموضع، برواية"بشر بن معاذ" عن"يزيد بن زريع" مباشرة.
وسيأتي هذا الإسناد الجديد بعد هذا مرارا، برقم: ١٢٣٦٧، ١٢٤٢٣، ١٢٥٠٧، ١٢٥٢٤. وفي هذا الإسناد الأخير، نص صريح على أنه روى الخبر مرة بواسطة"جامع بن حماد" هذا، ثم رواه مرة أخرى عن"يزيد بن زيع" مباشرة.
516
١٢٣٤٥ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين"، وذلك أنّ رسول الله ﷺ جلس يومًا فذكر الناس، ثم قام ولم يزدهم على التَّخويف. فقال أناسٌ من أصحاب رسول الله ﷺ كانوا عشرة، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون: ما خِفْنا إن لم نُحْدِث عملا! (١) فإنّ النصارى قد حرَّموا على أنفسهم، فنحن نحرِّم! فحرَّم بعضهم أكل اللَّحم والوَدَك، وأن يأكل بالنهار، (٢) وحرَّم بعضهم النوم، وحرَّم بعضهم النساء. فكان عثمان بن مظعون ممَّن حرم النساءَ، وكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه. فأتت امرأتُه عائشةَ، وكان يقال لها:"الحولاء"، فقالت لها عائشة ومن عندها من نساءِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما بالُك، يا حولاءُ متغيِّرةَ اللون لا تمتشِطين ولا تطيَّبين؟ فقالت: وكيف أتطيَّب وأمتشط، وما وقع عليّ زوجي، ولا رفع عني ثوبًا، منذ كذا وكذا! فجعلن يَضحكن من كلامها. فدخل رسول الله ﷺ وهنّ يضحكن، فقال: ما يضحككن؟ قالت: يا رسول الله، الحولاءُ، سألتها عن أمرها فقالت:"ما رفع عني زوجي ثوبًا منذ كذا وكذا"! فأرسل إليه فدعاه فقال: ما بالك يا عثمان؟ قال: إني تركته لله لكي أتخلَّى للعبادة! وقَصَّ عليه أمره. وكان عثمان قد أراد أن يَجُبَّ نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقسمتُ عليك إلا رجعت فواقعتَ أهلك! فقال: يا رسول الله إني صائم! قال: أفطر! فأفطر، وأتى أهله. فرجعت الحولاءُ إلى عائشة قد اكتحلت وامتشطت وتطيَّبت. فضحكت عائشة، فقالت: ما بالك يا حولاء؟ فقالت: إنه أتاها أمس! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(١) في المطبوعة: "ما حقنا"، وفي المخطوطة: "ما حفنا"، وصواب قراءته ما أثبت. وذلك أن رسول الله ﷺ خوفهم عقاب الله، فقالوا: لم نبلغ من الخوف مبلغًا يرضاه ربنا، إن لم نعمل عملا يدل على شدة المخافة.
(٢) "الودك" (بفتحتين) : دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه.
517
ما بالُ أقوامٍ حرَّموا النساء، والطعامَ، والنومَ؟ ألا إني أنام وأقوم، وأفطر وأصوم، وأنكح النساء، فمن رغب عن سُنَّتي فليس مني! فنزلت:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا"، يقول لعثمان: لا تَجُبَّ نفسك. فإن هذا هو الاعتداء= وأمرهم أن يكفِّروا أيْمانهم، فقال:"لا يؤاخذكم الله باللَّغو في أيمانكم ولكن يُؤَاخذكم بما عقّدتم الأيمان".
١٢٣٤٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، قال: هم رهطٌ من أصحاب النبي ﷺ قالوا: نقطَعُ مذاكيرَنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان! فبلغ ذلك النبيَّ ﷺ فأرسل، إليهم، فذكر ذلك لهم فقالوا: نعم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكنيّ أصوم وأفطر، وأصلِّي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مِني.
١٢٣٤٧ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، وذلك أن رجالا من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، منهم عثمان بن مظعون، حرَّموا النساء واللحمَ على أنفسهم، وأخذوا الشِّفَار ليقطعوا مذاكيرهم، لكي تنقطع الشهوة ويتفرَّغوا لعبادة ربهم. فأخبر بذلك النبيُّ ﷺ فقال: ما أردتم؟ فقالوا: أردنا أن تنقطع الشهوة عنا، (١) ونتفرغ لعبادة ربنا، ونلهو عن النساء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أومر بذلك، ولكني أمرت في ديني أن أتزوَّج النساء! فقالوا، نطيعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين"، إلى قوله:"الذي أنتم به مؤمنون".
(١) في المطبوعة: "أن نقطع"، وأثبت ما في المخطوطة.
518
١٢٣٤٨ - حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: أراد رجالٌ، منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو، أن يتبتَّلوا، ويخصُوا أنفسهم، ويلبسوا المُسُوح، (١) فنزلت هذه الآية إلى قوله:"واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون"= قال ابن جريج، عن عكرمة: أن عثمان بن مظعون، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود، وسالمًا مولى أبي حذيفة في أصحابٍ، تبتَّلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزَلوا النساءَ، ولبسوا المسوحَ، وحرَّموا طيبات الطعام واللِّباس إلا ما أكل ولبس أهل السِّيَاحة من بني إسرائيل، وهمُّوا بالإخصَاء، (٢) وأجمعُوا لقيام الليلِ وصيام النهار، فنزلت:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"، يقول: لا تَسِيروا بغير سُنّة المسلمين، (٣) يريد: ما حرموا من النساء والطعام واللباس، وما أجمعوا له من صيام النهار وقيامِ الليل، وما همُّوا به من الإخصاء. (٤) فلما نزلت فيهم، بعث إليهم رسول الله ﷺ فقال: إنّ لأنفسكم حقًّا، وإنَّ لأعيُنِكم حقًّا! صوموا وأفطروا، وصلّوا وناموا، فليس منا من ترك سُنَّتنا! فقالوا: اللهم أسلمنا واتَّبعنا ما أنزلت!
١٢٣٤٩ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم"، قال، قال أبي: ضَافَ عبدَ الله بن رواحة ضيفٌ، فانقلبَ ابن رواحة ولم يتعشَّ، فقال
(١) "المسوح" جمع"مسح" (بكسر فسكون) : وهو كساء من شعر يلبسه الرهبان.
(٢) "الإخصاء"، يعني الخصاء، وانظر ما كتبته آنفا في ٩: ٢١٥، تعليق: ١، وإنكار أهل اللغة لها، وإتيانها في آثار كبيرة، يضم إليها هذا الأثر في موضعين. وكان في المطبوعة هنا"بالاختصاء"، وأثبت ما في المخطوطة، ولكن ستأتي مرة أخرى، وتتفق فيها المطبوعة والمخطوطة: "الاختصاء".
(٣) في المطبوعة: "لا تستنوا بغير سنة المسلمين"، وأثبت ما في المخطوطة، وهي غير منقوطة. وهذا صواب قراءتها.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "هموا له"، وكأن الصواب ما أثبت.
519
لأهله: ما عَشَّيْتِه؟ فقالت: كان الطعام قليلا فانتظرت أن تأتي! قال: فحبستِ ضيفي من أجلي! فطعامُك عليَّ حرام إن ذُقْته! فقالت هي: وهو عليّ حرام إن ذقته إن لم تذقه! وقال الضيف: هو عليَّ حرام إن ذقتُه إن لم تذُوقوه! فلما رأى ذلك قال ابن رواحة: قرِّبي طعامَكِ، كلوا بسم الله! وغدا إلى النبي ﷺ فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أحسنتَ! فنزلت هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحلَّ الله لكم"، وقرأ حتى بلغ:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان"، إذا قلت:"والله لا أذوقه"، فذلك العقد.
١٢٣٥٠ - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عثمان بن سَعْد قال، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس: أنّ رجلا أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إنيّ إذا أصبتُ من اللحم انتشرتُ، وأخذتني شهوتي، فحرَّمت اللحم؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدُوا إن الله لا يحبُّ المعتدين". (١)
١٢٣٥١ - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة قال: هَمَّ أناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
(١) الأثر: ١٢٣٥٠- هذا الأثر أخرجه الترمذي في كتاب التفسير بإسناده ولفظه، ثم قال: "هذا حديث حسن غريب. ورواه بعضهم من غير حديث عثمان بن سعد مرسلا، ليس فيه: عن ابن عباس، ورواه خالد الحذاء، عن عكرمة، مرسلا"، يعني الترمذي الأثر التالي: ١٢٣٥١.
و"عثمان بن سعد التميمي، الكاتب المعلم"، ثقة. مضى برقم: ٢١٥٥. وكان في المطبوعة هنا"عثمان بن سعيد"، وهو خطأ محض، وكان في المخطوطة مثله، إلا أنه ضرب على نقطتي الياء، وأراد وصل العين بالدال، فأخطأ الناشر في قراءة ذلك.
هذا، وانظر ما جاء من الأخبار في الخصاء والتبتل في صحيح البخاري (الفتح ٩: ١٠٠- ١٠٣)، وما علق عليه الحافظ ابن حجر. ثم ما جاء فيه أيضا (الفتح ٨: ٢٠٧)، وتفسير ابن كثير ٣: ٢١٣- ٢١٧، وطبقات ابن سعد ٣/١/٢٨٦- ٢٨٨ في ترجمة"عثمان بن مظعون".
520
بترك النساء والخِصَاء، فأنزل الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم" الآية.
* * *
واختلفوا في معنى"الاعتداء" الذي قال تعالى ذكره:"ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبُّ المعتدين".
فقال بعضهم:"الاعتداء" الذي نهى الله عنه في هذا الموضع: هو ما كان عثمان بن مظعون همَّ به من جَبِّ نفسه، فنهى عن ذلك، وقيل له:"هذا هو الاعتداء".
وممن قال ذلك السدي.
١٢٣٥٢ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عنه. (١)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك هو ما كان الجماعةُ من أصحاب رسول الله ﷺ هَمُّوا به من تحريمِ النساء والطعام واللباس والنوم، فنهوا أن يفعلوا ذلك، وأن يستَنَّوا بغير سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم. وممن قال ذلك عكرمة.
١٢٣٥٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عنه. (٢)
* * *
وقال بعضهم: بل ذلك نهيٌ من الله تعالى ذكره أن يتجاوَزَ الحلالَ إلى الحرام.
ذكر من قال ذلك:
١٢٣٥٤ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن عاصم، عن الحسن:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا"، قال: لا تعتدوا إلى ما حُرِّم عليكم.
* * *
(١) في المطبوعة: "عنه به" في الموضعين، وأثبت ما في المخطوطة، بحذفها.
(٢) في المطبوعة: "عنه به" في الموضعين، وأثبت ما في المخطوطة، بحذفها.
521
وقد بينا أن معنى"الاعتداء"، تجاوز المرءِ ماله إلى ما ليس له في كل شيء، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (١)
قال أبو جعفر: وإذ كان ذلك كذلك= وكان الله تعالى ذكره قد عمَّ بقوله:"لا تعتدوا"، النهيَ عن العدوان كُلّه= كان الواجبُ أن يكون محكومًا لما عمَّه بالعُموم حتى يخصَّه ما يجب التسليم له. وليس لأحدٍ أن يتعدَّى حدَّ الله تعالى في شي من الأشياء مما أحلَّ أو حرَّم، فمن تعدَّاه فهو داخل في جملة من قال تعالى ذكره:"إن الله لا يحب المعتدين".
وغير مستحيل أن تكون الآية نزلت في أمر عثمان بن مظعون والرهطِ الذين همُّوا من أصحاب رسول الله ﷺ بما همُّوا به من تحريم بعض ما أحلّ الله لهم على أنفسهم، ويكون مرادًا بحكمها كلُّ من كان في مثل مَعْناهم ممَّن حرّم على نفسه ما أحلَّ الله له، أو أحلَّ ما حرّم الله عليه، أو تجاوز حدًّا حدَّه الله له. وذلك أن الذين همُّوا بما همُّوا به من تحريم بعض ما أحلَّ لهم على أنفسهم، إنما عوتبوا على ما همُّوا به من تجاوزهم ما سَنَّ لهم وحدَّ، إلى غيره.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، لهؤلاء المؤمنين الذين نهَاهم أن يحرِّموا طيبات ما أحلّ الله لهم: كُلوا، أيها المؤمنون، من رزق الله الذي رَزقكم وأحله لكم، حلالا طيِّبًا، (٢) كما:-
(١) انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف ص: ٤٨٩، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير"حلال طيب" فيما سلف ٣: ٣٠٠، ٣٠١
١٢٣٥٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة:"وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبًا" يعني: ما أحل الله لهم من الطعام.
* * *
وأما قوله:"واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون"، فإنه يقول: وخافوا، أيها المؤمنون، أن تعتدوا في حدوده، فتُحلُّوا ما حُرِّم عليكم، وتُحرِّموا ما أحِلَّ لكم، واحذروه في ذلك أن تخالفوه، فينزل بكم سَخَطُه، أو تستوجبوا به عقوبته (١) ="الذي أنتم به مؤمنون"، يقول: الذي أنتم بوحدانيّته مقرُّون، وبربُوبيته مصدِّقون.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، للذين كانوا حرَّموا على أنفسهم الطيّبات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا حرَّموا ذلك بأيمانٍ حَلَفوا بها، فنهاهم عن تحريمها وقال لهم: لا يُؤَاخذكم ربُّكم باللغو في أيمانكم، (٢) كما:-
١٢٣٥٦ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال، لما نزلت:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم"، في القوم الذين كانوا حرَّموا النساء واللحمَ على أنفسهم، قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلَفنا عليها؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، الآية.
* * *
(١) انظر تفسير"اتقى" فيما سلف من فهارس اللغة (وقى).
(٢) انظر تفسير"المؤاخذة" فيما سلف ٤: ٤٢٧، وما بعدها/٦: ١٣٢، وما بعدها.
523
= فهذا يدلُّ على ما قلنا، من أن القوم كانوا حرَّموا ما حرَّموا على أنفسهم بأيمان حَلَفُوا بها، فنزلت هذه الآية بسبَبهم.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز وبعض البصريين: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ) بتشديد"القاف"، بمعنى: وكّدتم الأيمانَ ورَدَّدتموها.
* * *
وقرأه قَرَأةُ الكوفيين: (بِمَا عَقَدْتُمُ الأيْمَانَ) (١)
بتخفيف"القاف"، بمعنى: أوجبتموها على أنفسكم، وعَزَمتْ عليها قلوبكم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك، قراءةُ من قرأ بتخفيف"القاف". وذلك أن العرب لا تكاد تستعمل"فعَّلت" في الكلام، إلا فيما يكون فيه تردُّدٌ مرة بعد مرةٍ، مثل قولهم:"شدَّدت على فلان في كذا"، إذا كُرِّر عليه الشدّة مرة بعد أخرى. (٢) فإذا أرادوا الخبر عن فعلِ مرّة واحدةٍ قيل:"شَدَدت عليه"، بالتخفيف.
وقد أجمع الجميع لا خِلافَ بينهم: أن اليمين التي تجب بالحِنْث فيها الكفارة، تلزم بالحنث في حلف مرة واحدة، وإن لم يكرّرها الحالف مرات. وكان معلومًا بذلك أنّ الله مؤاخذٌ الحالفَ العاقدَ قلبَه على حلفه، وإن لم يكرِّره ولم يردِّدْه. (٣)
وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن لتشديد"القاف" من"عقّدتم"، وجه مفهومٌ.
* * *
(١) في المطبوعة: "وقراء الكوفيين"، وفي المخطوطة: "وقراه الكوفيين"، وصواب العبارة أن يزاد فيها: "وقرأه" كما فعلت.
(٢) في المطبوعة: "عليه الشد"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "ولم يردده"، وأثبت ما في المخطوطة.
524
فتأويل الكلام إذًا: لا يؤاخذكم الله، أيها المؤمنون، من أيمانكم بما لغوتم فيه، ولكن يؤاخذكم بما أوجبتموه على أنفسكم منها، وعَقَدَت عليه قلوبكم.
* * *
وقد بينا اليمين التي هي"لغو" والتي اللهُ مؤاخذٌ العبدَ بها، والتي فيها الحِنْث، والتي لا حنث فيها= فيما مضى من كتابنا هذا، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع. (١)
* * *
وأما قوله:"بما عقدتم الأيمان"، (٢) فإن هنادًا:
١٢٣٥٧ - حدثنا قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، قال: بما تعمدتم.
١٢٣٥٨ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٢٣٥٩ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن:"ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، يقول: ما تعمَّدت فيه المأثَم، فعليك فيه الكفارة.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في"الهاء" التي في قوله:"فكفارته"، على ما هي عائدة، ومن ذكر ما؟
فقال بعضهم: هي عائدة على"ما" التي في قوله:"بما عقدتم الأيمان".
ذكر من قال ذلك:
١٢٣٦٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف،
(١) انظر تفسير"اللغو"، وما قال فيه فيما سلف ٤: ٤٢٧ - ٤٥٥.
(٢) انظر تفسير"عقد الأيمان" فيما سلف ٨: ٢٧٢ - ٢٧٤.
525
عن الحسن في هذه الآية"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو أن تحلف على الشيء وأنت يخيَّل إليك أنه كما حلفت وليس كذلك، فلا يؤاخذكم الله، فلا كفارة. ولكن المؤاخذة والكفارة، فيما حلفتَ عليه على علمٍ. (١)
١٢٣٦١ - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن مغيرة، عن الشعبي قال: اللغو ليس فيه كفارة="ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، قال: ما عُقِدت فيه يمينه، (٢) فعليه الكفارة.
١٢٣٦٢ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك قال: الأيمان ثلاثٌ: يمين تكفّر، ويمين لا تُكَفَّر، ويمين لا يؤاخذ بها صاحُبها. فأما اليمين التي تكفَّر، فالرجل يحلِف على الأمر لا يفعله، ثم يفعله، فعليه الكفارة. وأما اليمين التي لا تكفّر: فالرجل يحلف على الأمر يتعمّد فيه الكذِبَ، فليس فيه كفارة. وأما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها، فالرجل يحلف على الأمر يَرَى أنه كما حلَف عليه، فلا يكون كذلك، فليس عليه فيه كفارة. وهو"اللغو". (٣)
١٢٣٦٣ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ابن أبي ليلى، عن عطاء قال: قالت عائشة: لغوُ اليمين، ما لم يعقد عليه الحالِفُ قلبه.
١٢٣٦٤ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا هشام قال، حدثنا حماد، عن إبراهيم قال: ليس في لغو اليمين كفّارة.
١٢٣٦٥ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب: أن عروة حدّثه: أن عائشة قالت: أيمانُ
(١) الأثر: ١٢٣٦٠-"عوف"، هو الأعرابي: "عوف بن أبي جميلة العبدي الهجري"، مضى كثيًرا، آخره رقم: ٥٤٧٣ - ٥٤٧٧. وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا، "ابن أبي عدي، عن عدي، عن الحسن"، وهو خطأ محض، وقد مضى هذا الأثر بإسناده كما أثبته وبنصه برقم: ٤٤٠٦.
(٢) في المطبوعة: "ما عقد فيه يمينه"، وأثبت ما في المخطوطة. وهو صواب."عقدت" بالبناء للمجهول.
(٣) الأثر: ١٢٣٦٢- مضى مختصرًا برقم: ٤٤٢٧.
526
الكفارة، كلّ يمين حلف فيها الرجل على جدٍّ من الأمور في غضب أو غيره:"ليفعلن، ليتركنّ"، فذلك عقد الأيمان التي فَرض الله فيها الكفارة، وقال تعالى ذكره:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان".
١٢٣٦٦ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، وعن علي بن أبي طلحة قالا ليس في لغو اليمين كفارة. (١)
١٢٣٦٧ - حدثنا بشر قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن:"ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، يقول: ما تعمدتَ فيه المأثم، فعليك فيه الكفارة. قال، وقال قتادة: أمّا اللغو، فلا كفارة فيه. (٢)
١٢٣٦٨ - حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: لا كفارة في لغو اليمين.
١٢٣٦٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو العنقزيّ، عن أسباط، عن السدي: ليس في لغو اليمين كفارة. (٣)
* * *
قال أبو جعفر: فمعنى الكلام على هذا التأويل:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، فكفارة ما عقدتم منها إطعامُ عَشَرة مساكين.
* * *
(١) الأثر: ١٢٣٦٦-"معاوية بن صالح الحضرمي الحمصي"، مضى مرارًا كثيرة، آخرها: ٨٤٧٢.
و"يحيى بن سعيد الأنصاري" الإمام القاضي، مضى مرارًا كثيرة، آخرها رقم: ٨٨٧٠، وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا: "يحيى بن سعد"، وهو خطأ محض.
(٢) الأثر: ١٢٣٦٧-"جامع بن حماد"، انظر التعليق على الأثر السالف رقم: ١٢٣٤٤.
(٣) الأثر: ١٢٣٦٩-"عمرو العنقزي"، هو: "عمرو بن محمد العنقزي"، مضى برقم: ٦١٣٩، في المطبوعة: "العبقري" وهو خطأ. وهو في المخطوطة غير منقوط.
527
وقال آخرون:"الهاء" في قوله:"فكفارته"، عائدة على"اللغو"، وهي كناية عنه. (١) قالوا: وإنما معنى الكلام: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم إذا كفَّرتموه، ولكن يؤاخذكم إذا عقدتم الأيمان فأقمتم على المضيّ عليه بترك الحِنْث والكفارة فيه. والإقامةُ على المضيّ عليه، غير جائزةٍ لكم. فكفارةُ اللغو منها إذا حنثتم فيه، إطعامُ عشرة مساكين.
ذكر من قال ذلك:
١٢٣٧٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، فهو الرجل يحلف على أمرِ ضِرارٍ أن يفعلَه فلا يفعله، (٢) فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن يكفّرَ عن يمينه ويأتي هو خير= وقال مرة أخرى: قوله:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" إلى قوله:"بما عقدتم الأيمان"، قال: واللغو من الأيمان، (٣) هي التي تُكفّر، لا يؤاخذ الله بها. ولكن من أقام على تحريم ما أحلّ الله له، ولم يتحوَّل عنه، ولم يكفِّر عن يمينه، فتلك التي يُؤْخَذ بها. (٤)
١٢٣٧١ - حدثنا هناد قال، حدثنا حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير قوله:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الذي يحلف على المعصية فلا يفي، فيكفِّر. (٥)
١٢٣٧٢ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن سعيد بن جبير:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو
(١) "الكناية"، الضمير. انظر ما سلف من فهارس المصطلحات.
(٢) في المطبوعة: "قال: هو الرجل يحلف... "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو محض صواب.
(٣) في المطبوعة: "واللغو من اليمين"، وكان ناسخ المخطوطة قد كتب"اليمين"، ثم عاد على الكلمة بالقلم ليجعلها"الأيمان"، فاختلطت. وهذا صواب قراءتها.
(٤) في المطبوعة: "يؤاخذ بها"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٥) الأثر: ١٢٣٧١- سلف مطولا برقم: ٤٤٣٦.
528
الرجل يحلف على المعصية فلا يؤاخذه الله تعالى ذكره، يكفّر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير="ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، الرجل يحلف على المعصية ثم يقيم عليها، فكفارته إطعام عشرة مساكين. (١)
١٢٣٧٣ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا داود، عن سعيد بن جبير، قال في لغو اليمين: هي اليمين في المعصية، فقال: أولا تقرأ فتفهم؟ قال:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان". قال: فلا يؤاخذه بالإلغاء، ولكن يؤاخذه بالتَّمَام عليها، (٢) قال وقال: (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ) [سورة البقرة: ٢٢٤]. (٣)
١٢٣٧٤ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله بتركها إن تركها. قلت: وكيف يصنع؟ قال: يكفر يمينه ويترك المعصية. (٤)
١٢٣٧٥- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم قال:"اللغو"، يمين لا يؤاخذ بها صاحبها، وفيها كفارة. (٥)
١٢٣٧٦ - حدثني يحيى بن جعفر قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: اليمين المكفَّرة. (٦)
* * *
(١) الأثر: ١٢٣٧٢- مضى مختصرًا برقم: ٤٤٤٠.
(٢) في المطبوعة: "بالمقام عليها". والصواب ما كان في المخطوطة، وهو المطابق لروايته فيما مضى، كما سيأتي في التخريج. وتم على الأمر تمامًا": استمر عليه وأنفذه وأمضاه.
(٣) الأثر: ١٢٣٧٣- مضى هذا الأثر بإسناده ولفظه، برقم: ٤٤٤٥.
(٤) الأثر: ١٢٣٧٤- مضى بإسناده ولفظه، برقم: ٤٤٤٣.
(٥) الأثر: ١٢٣٧٥- كان هذا في المطبوعة بعد الذي يليه مؤخرًا، فقدمته كما في المخطوطة.
(٦) الأثر: ١٢٣٧٦- مضى أيضا برقم: ٤٤٦٤.
529
قال أبو جعفر: والذي هو أولى عندي بالصواب في ذلك، أن تكون"الهاء" في قوله:"فكفارته" عائدة على"ما" التي في قوله:"بما عقدتم الأيمان"، لما قدَّمنا فيما مضى قبل (١) أنّ من لزمته في يمينه كفّارة وأُوخذ بها، غيرُ جائز أن يقال لمن قد أوخذ:"لا يؤاخذه الله باللغو". وفي قوله تعالى:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، دليلٌ واضح أنه لا يكون مؤاخذًا بوجه من الوجوه، مَنْ أخبرنا تعالى ذكره أنه غيرُ مؤاخذه.
فإن ظنّ ظان أنه إنما عنى تعالى ذكره بقوله:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، بالعقوبة عليها في الآخرة إذا حنثْتُم وكفَّرتم= إلا أنه لا يؤاخذهم بها في الدنيا بتكفير= فإن إخبار الله تعالى ذكره وأمرَه ونهيَه في كتابه، على الظاهر العامّ عندنا= بما قد دللنا على صحّة القول به في غير هذا الموضع، فأغنى عن إعادته (٢) = دون الباطن العامِّ الذي لا دلالة على خصوصه في عقل ولا خبر. ولا دلالة من عقل ولا خبرٍ أنه عنى تعالى ذكره بقوله:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، بعضَ معاني المؤاخذة دون جميعها.
وإذ كان ذلك كذلك، وكان من لزمته كفّارة في يمينٍ حنث فيها مؤاخذًا بها بعقوبة في ماله عاجلة، كان معلومًا أنه غيرُ الذي أخبرنا تعالى ذكره أنه لا يؤاخذه بها.
* * *
وإذْ كان الصحيح من التأويل في ذلك ما قلنا بالذي عليه دللنا، فمعنى الكلام إذًا: لا يؤاخذكم الله أيها الناس، بلغوٍ من القول والأيمان، إذا لم تتعمدوا بها معصية الله تعالى ذكره ولا خلافَ أمره، ولم تقصدوا بها إثمًا، ولكن يؤاخذكم بما تعمَّدتم به الإثم، وأوجبتموه على أنفسكم، وعزمتْ عليه قلوبكم، ويكفر ذلك
(١) انظر ما سلف ٤: ٤٤٧، ٤٤٨.
(٢) انظر ما سلف ٢: ٥٣٩/ ٣: ٣٧/ ٤: ١٣٤/ ٥: ٤٠، ١٣٠، ومواضع غيرها، اطلبها في الفهارس.
530
عنكم، فيغطِّي على سيِّئ ما كان منكم من كذبٍ وزُور قولٍ، ويمحوه عنكم فلا يتبعكم به ربكم (١) ="إطعامُ عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، من أعدله، كما:-
١٢٣٧٧ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن جريج قال سمعت عطاء يقول في هذه الآية:"من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم"، قال عطاء:"أوسطه"، أعدله.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم".
فقال بعضهم: معناه: من أوسط ما يُطْعِم من أجناس الطعام الذي يقتاته أهلُ بلد المكفّر، أهاليهم. (٢)
ذكر من قال ذلك:
١٢٣٧٨ - حدثنا هناد قال، أخبرنا شريك، عن عبد الله بن حنش، عن الأسود قال: سألته عن:"أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: الخبز، والتمر، والزيت، والسمن، وأفضلُه اللحم. (٣)
(١) انظر تفسير"الكفارة" و"التكفير" فيما سلف ص: ٤٦١، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير"الوسط" فيما سلف ٣: ١٤١- ١٤٥ /٥: ٢٢٧.
(٣) الأثر: ١٢٣٧٨-"عبد الله بن حنش الأودي". روى عن البراء، وابن عمر، والأسود بن يزيد، وغيرهم. روى عنه الثوري، وشريك، وشعبة، وأبو عوانة. قال ابن معين: "ثقة"، قال أبو حاتم: "لا بأس به". مترجم في ابن أبي حاتم ٢/٢/٣٩.
و"الأسود"، هو: الأسود بن يزيد بن قيس النخعي"، مضى برقم: ٣٢٩٩، ٤٨٨٨، ٨٢٦٧.
531
١٢٣٧٩ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان، عن عبد الله بن حنش قال: سألت الأسود بن يزيد عن ذلك فقال: الخبز والتمر= زاد هناد في حديثه، والزيت. قال: وأحسبه، الخلّ.
١٢٣٨٠ - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو الأحوص، عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين، عن ابن عمر في قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: من أوسط ما يطعم أهلَه: الخبزَ والتمرَ، والخبز والسمن، والخبزَ والزيت. ومن أفضل ما تُطْعمهم: الخبزَ واللحم.
١٢٣٨١ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن ليث، عن ابن سيرين، عن ابن عمر:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، الخبزَ واللحم، والخبز والسمن، والخبز والجبن، (١) والخبز والخلَّ.
١٢٣٨٢ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن حنش، (٢) قال: سألت الأسود بن يزيد عن"أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: الخبز والتمر.
١٢٣٨٣ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا عبد الله بن حنش قال: سألت الأسود بن يزيد، فذكر مثله.
١٢٣٨٤ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: الخبز والسمن.
١٢٣٨٥ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سعيد بن عبد الرحمن، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن ذلك، فذكر مثله.
(١) في المخطوطة، غير بينة بل مختلطة الكتبة، وممكن أن تقرأ: "الخبر واللبن" وانظر رقم: ١٢٣٨٨.
(٢) في المخطوطة: "عبد الله بن حدس"، وهو تحريف وسهو من الناسخ، انظر الإسنادين السالفين: ١٢٣٧٨، ١٢٣٧٩، والإسناد التالي: ١٢٣٨٣.
532
١٢٣٨٦ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أزهر قال، أخبرنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، الخبز والسمن. (١)
١٢٣٨٧ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين قال: كانوا يقولون: أفضله الخبز واللحم، وأوسطه الخبز والسمن، وأخسُّه الخبز والتمر.
١٢٣٨٨ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن الربيع، عن الحسن قال: خبز ولحم، أو خبز وسمن، أو خبز ولبن.
١٢٣٨٩ - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا عمر بن هارون، عن أبي مصلح، عن الضحاك في قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: الخبز واللحم والمرَقَة. (٢)
١٢٣٩٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا زائدة، عن يحيى بن حَيّان الطائي قال: كنت عند شُريح، فأتاه رجل فقال: إني حلفت على يمين فأثِمْتُ؟ قال شريح: ما حملك على ذلك؟ قال: قُدِّر عليّ، فما أوسط ما أطعم أهلي؟ قال له شريح: الخبز والزيت، والخل طيّبٌ. قال: فأعاد عليه، فقال له شريح ذلك ثلاث مرارٍ، لا يزيده شريح على ذلك. فقال له: أرأيت إن أطعمت الخبزَ واللحم؟ قال: ذاك أرفعُ طعام أهلِك وطعامِ الناس. (٣)
(١) الأثر: ١٢٣٨٦-"أزهر" هو: "أزهر بن سعد السمان"، مضى برقم: ٤٧٧٤.
(٢) الأثر: ١٢٣٨٩-"عمر بن هرون بن يزيد الثقفي البلخي"، "أبو حفص". قال البخاري: "تكلم فيه يحيى بن معين". قال يحيى بن معين: "كذاب، قدم مكة وقد مات جعفر بن محمد، فحدث عنه". وقال أحمد: "كتبت عنه حديثًا كثيرًا، وما أقدر أن أتعلق عليه بشيء. فقيل له: تروي عنه؟ قال: قد كنت رويت عنه شيئًا". والطعن فيه شديد. مترجم في التهذيب.
و"أبو مصلح" الخراساني، اسمه: "نصر بن مشارس". روى عن الضحاك بن مزاحم وصحبه. قال أبو حاتم: "شيخ"، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
(٣) الأثر: ١٢٣٩٠-"يحيى بن حيان الطائي"، أبو هلال. روى عن شريح. روى عنه سفيان الثوري، وزائدة، وموسى بن محمد الأنصاري، والقاسم بن مالك المزني، وابن عيينة، وشريك ثقة. مترجم في الكبير ٤/٢/٢٦٨، وابن أبي حاتم ٤/٢/١٣٦.
533
١٢٣٩١ - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال، في كفارة اليمين: يغدِّيهم ويعشيهم خبزًا وزيتًا، أو خبزًا وسمنًا. أو خلا وزيتًا.
١٢٣٩٢ - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو أسامة، عن زبرقان، عن أبي رزين:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، خبز وزيت وخلّ.
١٢٣٩٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن هشام بن محمد قال: أكلة واحدة، خبز ولحم. قال: وهو"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، وإنكم لتأكلون الخَبِيص والفاكهة. (١)
١٢٣٩٤ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى= وحدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة= عن هشام، عن الحسن قال في كفارة اليمين: يجزيك أن تطعم عَشَرة مساكين أكلة واحدة، خبزًا ولحمًا. فإن لم تجد، فخبزًا وسمنًا ولبنًا. فإن لم تجد، فخبزًا وخلا وزيتًا حتى يشبعوا.
١٢٣٩٥ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن زبرقان قال: سألت أبا رزين عن كفارة اليمين ما يطعم؟ قال: خبزًا وخلا وزيتًا:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، وذلك قدر قوتهم يومًا واحدًا.
* * *
ثم اختلف قائلو ذلك في مبلغه.
فقال بعضهم: مبلغ ذلك، نصفُ صاع من حنطة، أو صاعٌ من سائر الحبوب غيرها.
ذكر من قال ذلك:
١٢٣٩٦ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن أبيه، عن إبراهيم، عن عمر قال: إني
(١) "الخبيص": ضرب من الحلواء المخبوصة، أي المخلوطة.
534
أحلف على اليمين، ثم يبدو لي، فإذا رأيتَني قد فعلت ذلك، فأطعم عشرة مساكين، لكل مسكين مُدَّين من حنطة. (١)
١٢٣٩٧- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية ويعلى، عن الأعمش، عن شقيق، عن يسار بن نمير قال قال عمر: إنيّ أحلف أن لا أعطى أقوامًا، ثم يبدو لي أن أعطيَهم. فإذا رأيتَني فعلتُ ذلك، فأطعم عني عشَرة مساكين، بين كل مسكينين صاعًا من برٍّ، أو صاعًا من تمر. (٢)
١٢٣٩٨- حدثنا هناد ومحمد بن العلاء قالا حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي =، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي قال: كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من حنطة. (٣)
١٢٣٩٩- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، نصف صاع برّ كلّ مسكين.
(١) الأثر: ١٢٣٩٦-"عبد الله بن عمرو بن مرة المرادي". قال ابن معين: "ليس به بأس"، وقال النسائي: "ضعيف". وقال الحاكم: "هو من ثقات الكوفيين ممن يجمع حديثه، ولا يزيد ما أسنده على عشرة". وذكره العقيلي في الضعفاء. مترجم في التهذيب. وانظر ما سلف رقم: ١٢٣٠٦، والتعليق عليه.
أبوه: "عمرو بن مرة المرادي"، مضى ذكره في رقم: ١٢٣٠٦، ثقة. مترجم في التهذيب.
وفي المخطوطة: "عن إبراهيم، عن عمرو"، وهو خطأ، صوابه ما في المطبوعة.
وفي المخطوطة أيضًا: "لكل مسكين مدين من حنطة"، وهو صحيح، وفي المطبوعة: "مدان". والخطاب في هذا الخبر لخازنه"يسار بن نمير" كما سيأتي في هذا الأثر رقم: ١٢٣٩٧ الآتي.
(٢) الأثر: ١٢٣٩٧-"شقيق"، هو"شقيق بن سلمة"، مضى مرارًا.
و"يسار بن نمير"، مولى عمر بن الخطاب، وخازنه. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٤٢٠، وابن أبي حاتم ٤/٢/٣٠٧. وكان في المخطوطة: "بشار"، وهو خطأ محض.
والخبر رواه البيهقي في السنن ١٠: ٥٥، ٥٦ من طريق سعدان بن نصر، عن أبي معاوية، بمثله.
(٣) الأثر: ١٢٣٩٨-"عبد الله بن سلمة المرادي الكوفي". روى عن عمر، ومعاذ، وعلي، وابن مسعود، وغيرهم. وروى عنه أبو إسحق السبيعي، وعمرو بن مرة. ثقة. ولكن قال البخاري: "لا يتابع في حديثه". وقال أبو حاتم: "يعرف وينكر". وذكر شعبة، عن عمرو بن مرة قال: "كان عبد الله بن سلمة يحدثنا، فنعرف وننكر. كان قد كبر". مترجم في التهذيب.
535
١٢٤٠٠- حدثنا هناد قال، حدثنا حفص، عن عبد الكريم الجزري قال: قلت لسعيد بن جبير: أجمعُهم؟ قال: لا أعطهم مدّين مدَّين من حنطة، مدًّا لطعامه، ومدًَّا لإدامه.
١٢٤٠١- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن سفيان، عن عبد الكريم الجزري، قال: قلت لسعيد، فذكر نحوه.
١٢٤٠٢- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو زبيد، عن حصين قال: سألت الشعبي عن كفارة اليمين فقال: مَكُّوكين، مكوكًا لطعامه، ومكوكًا لإدامه. (١)
١٢٤٠٣- حدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا هشام، عن عطاء، عن ابن عباس قال: لكل مسكين مُدَّين.
١٢٤٠٤- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: لكل مسكين مدّين من برّ في كفارة اليمين.
١٢٤٠٥- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي =، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: مدَّان من طعام لكل مسكين.
١٢٤٠٦- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا سعيد بن يزيد أبو مسلمة قال: سألت جابر بن زيد عن إطعام المسكين في كفارة اليمين، فقال: أكلة. قلت: فإن الحسن يقول: مكُّوك برّ ومكوك تمر، فما ترى في مكُّوك بر؟ فقال: إن مكوك برّ!! (٢) = قال يعقوب قال، ابن علية: وقال أبو مسلمة
(١) الأثر: ١٢٤٠٢-"أبو زبيد"، هو"عبثر بن القاسم"، مضى قريبًا في رقم: ١٢٣٣٦. وكان في المطبوعة: "أبو زيد"، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة، وهي غير منقوطة.
و"المكوك"، مكيال قديم معروف، لأهل العراق، ويراد به"المد". وانظر تفسيره في لسان العرب (مكك).
(٢) في المطبوعة: "فما ترى في مكوك بر؟ فقال: إن مكوك بر لا، أو مكوك تمر لا، قال يعقوب... "، وفي المخطوطة: "فما ترى في مكوك بر؟ فقال إن مكوك بر لا أو مكوك بر لا. قال يعقوب". وأراد ناشر المطبوعة أن يصحح، فصحح!! ولكن بقى الكلام كله لا معنى له، هو خلط يضرب في خلط. وذلك أن ناسخ المخطوطة، رأى في النسخة التي نقل عنها"لا أو مكوك بر لا"، وكانت"لا" في الموضعين بلا شك، فوق الكلام، فوق "أو" قبلها"، وفوق"بر" بعدها وذلك معناه حذف ما بين"لا" الأولى، و"لا" الثانية، فأدخلهما في الكلام، فأخرج الكلام من أن يكون كلامًا مفهومًا.
وذلك أن جابر بن زيد قال: "إن مكوك بر"، وقطع الكلام، وأشار بيده إلى أنه حسن كاف.
536
بيده، (١) كأنه يراه حسنًا، وقلب أبو بشر يده. (٢)
١٢٤٠٧- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن الحسن: أنه كان يقول في كفارة اليمين: فيما وجب فيه الطعام، مكُّوك تمر ومكوك برّ لكل مسكين.
١٢٤٠٨- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن قال، قال: إن جمعهم أشبعهم إشباعةً واحدة. وإن أعطاهم، أعطاهم مكُّوكًا مكوكًا. (٣)
١٢٤٠٩- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن يونس قال: كان الحسن يقول: وحسبه، (٤) فإن أعطاهم في أيديهم، فمكوك بر ومكوك تمر.
(١) "قال بيده": أشار وأومأ. يريد أشار بيده أن ذلك كاف مجزئ.
(٢) الأثر ١٢٤٠٦-"ابن علية"، هو: "إسمعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي"، "أبو بشر"، مضى مرارًا، آخرها: ٩٩١٣.
و"أبو مسلمة" البصري هو: "سعيد بن يزيد بن مسلمة الأزدي"، مضى برقم: ٧٩٧، ٥٥٥٩، ٥٥٦١. وكان في المطبوعة: "سعد بن يزيد أبو سلمة". ثم أيضًا"أبو سلمة"، وكله خطأ، وصوابه من المخطوطة.
و"جابر بن زيد الأزدي اليحمدي"، قال له ابن عمر: "يا جابر، إنك من فقهاء أهل البصرة"، كان من أعلم الناس بكتاب الله. مضى برقم: ٥١٣٦.
ثم كان في المطبوعة هنا: "وقلب أبو سلمة يده"، غير ما في المخطوطة، وهو ما أثبته، لأنه لم ير في الإسناد ذِكرًا لأبي بشر!! وإنما"أبو بشر" هو: "ابن علية" نفسه، هذه كنيته.
(٣) الأثر: ١٢٤٠٨-"وكيع بن الجراح بن مليح"، مضى مرارا كثيرة:
"وأبوه: "الجراح بن مليح الرؤاسي"، مضى برقم: ٤٤٨٨، ٥٧٢٧.
و"الربيع"، هو: "الربيع بن صبيح السعدي" مضى برقم: ٦٤٠٣، ٦٤٠٤.
(٤) قوله: "وحسبه"، ثابتة في المخطوطة، وحذفها ناشر المطبوعة.
537
١٢٤١٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك في كفارة اليمين: نصف صاع لكل مسكين.
١٢٤١١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن أبيه، عن الحكم، في قوله:"إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: طعام نصف صاع لكل مسكين. (١)
١٢٤١٢- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا زائدة، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال:"أوسط ما تطعمون أهليكم"، نصف صاع.
١٢٤١٣- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:"فكفارته إطعام عشرة مساكين"، قال: الطعام، لكل مسكين نصف صاع من تمر أو برٍّ.
* * *
وقال آخرون: بل مبلغ ذلك من كل شيء من الحبوب، مُدٌّ واحد.
*ذكر من قال ذلك:
١٢٤١٤- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا أبي = عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن زيد بن ثابت أنه قال في كفارة اليمين: مدٌّ من حنطة لكل مسكين. (٢)
١٢٤١٥- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال في كفارة اليمين: مدٌّ من حنطة لكل مسكين، رُبْعُه إدامُه.
١٢٤١٦- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع، عن سفيان، عن
(١) في المطبوعة: "إطعام نصف صاع"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.
(٢) الأثر: ١٢٤١٤- رواه البيهقي في السنن ١٠: ٥٥، من طريق أبي نعيم، عن هشام، بمثله.
538
داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، نحوه. (١)
١٢٤١٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر:"إطعام عشرة مساكين"، لكل مسكين مُدٌّ.
١٢٤١٨- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع قال، حدثنا العمري، عن نافع، عن ابن عمر قال: مدٌّ من حنطة لكل مسكين. (٢)
١٢٤١٩- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يكفّر اليمين بعشرة أمداد، بالمُدّ الأصغر.
١٢٤٢٠-حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله، عن القاسم وسالم في كفارة اليمين، ما يطعم؟ قالا مدٌّ لكل مسكين.
١٢٤٢١- حدثنا هناد، قال، حدثنا أبو الأحوص، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار قال: كان الناس إذا كفَّر أحدهم، كفَّر بعشرة أمداد بالمدّ الأصغر. (٣)
١٢٤٢٢- حدثنا هناد، قال، حدثنا عمر بن هارون، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله:"إطعام عشرة مساكين"، قال: عشرة أمداد لعشرة مساكين.
١٢٤٢٣- حدثنا بشر، قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن:"إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: كان يقال: البرُّ والتمر، لكل مسكين مد من تمر، ومدّ من برّ. (٤)
(١) الأثران: ١٢٤١٥، ١٢٤١٦- رواه البيهقي في السنن ١٠: ٥٥: من طريق علي بن حرب، عن عبد الله بن إدريس، عن ابن أبي هند، بمثله.
(٢) الأثران: ١٢٤١٧، ١٢٤١٨- رواه البيهقي في السنن ١٠: ٥٥، من طريق ابن وهب، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، مطولا، بمثل لفظه.
(٣) الأثر: ١٢٤٢١- رواه البيهقي في السنن ١٠: ٥٥، من طريق ابن بكير، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، بنحو لفظه.
(٤) الأثر: ١٢٤٢٣-"جامع بن حماد" انظر ما سلف: ١٢٣٤٤، ١٢٣٦٧، وما قلته في هذا الإسناد.
539
١٢٤٢٤- حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي =، عن مالك بن مغول، عن عطاء، قال: مد لكل مسكين.
١٢٤٢٥- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: من أوسط ما تعُولونهم. قال: وكان المسلمون رأوا أوسط ذلك: مدًّا بمدِّ رسول الله ﷺ من حنطة. قال ابن زيد: (١) هو الوسط مما يقوت به أهله، ليس بأدناه ولا بأرفعه.
١٢٤٢٦- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: مدٌّ. (٢)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك غَداء وعشاء.
*ذكر من قال ذلك:
١٢٤٢٧- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال، في كفارة اليمين: يغدِّيهم ويعشيهم. (٣)
١٢٤٢٨- حدثنا هناد، قال، حدثنا عمر بن هارون، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي في كفارة اليمين قال: غداء وعشاء.
١٢٤٢٩- حدثنا هناد، قال، حدثنا وكيع = وحدثنا أبن وكيع قال، حدثنا أبي = عن سفيان، عن يونس، عن الحسن قال: يغديهم ويعشيهم.
* * *
وقال آخرون: إنما عنى بقوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، من أوسط ما يطعم المكفِّر أهله. قال: إن كان ممن يشبع أهله، أشبع المساكين
(١) في المطبوعة: "قال أبو زبد"، أساء قراءة المخطوطة.
(٢) الأثر: ١٢٤٢٦-"يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب". ثقة. مضى في بعض الأسانيد، ولم أذكر ترجمته، رقم: ٤١٢٠، ١١٨١٢. مترجم في التهذيب.
(٣) الأثر: ١٢٤٢٧- مضى مطولا برقم: ١٢٣٩١.
540
العشرة. وإن كان ممن لا يشبعهم لعجزه عن ذلك، أطعم المساكين على قدر ما يفعلُ من ذلك بأهله في عسره ويُسره.
ذكر من قال ذلك:
١٢٤٣٠- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: إن كنت تشبع أهلك فأشبع المساكين، وإلا فعلى ما تطعم أهلك بقَدَره.
١٢٤٣١- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم"، وهو أن تطعم كل مسكين من نحو ما تطعم أهلَك من الشبع، أو نصفَ صاع من برّ.
١٢٤٣٢- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس، قال: مِن عسرهم ويُسرهم.
١٢٤٣٣- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: من عسرهم ويُسرهم.
١٢٤٣٤- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن سليمان بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: قوتهم.
١٢٤٣٥- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن سفيان، عن سليمان العبسي، عن سعيد بن جبير في قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: قوتهم.
١٢٤٣٦- حدثنا أبو حميد قال، حدثنا حكام بن سلم قال، حدثنا عنبسة، عن سليمان بن عبيد العبسي، عن سعيد بن جبير في قوله:"من أوسط
541
ما تطعمون أهليكم"، قال: كانوا يفضلون الحرَّ على العبد، والكبير على الصغير، فنزلت:"من أوسط ما تطعمون أهليكم". (١)
١٢٤٣٩- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس بن الربيع، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير قال، كانوا يطعمون الكبير ما لا يطعمون الصغير، ويطعمون الحرّ ما لا يطعمون العبد، فقال،"من أوسط ما تطعمون أهليكم".
١٢٤٣٨- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: إن كنت تشبع أهلك فأشبعهم. وإن كنت لا تشبعهم، فعلى قدر ذلك. (٢)
١٢٤٣٩- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شيبان النحوي، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، قال: من عسرهم ويسرهم.
١٢٤٤٠- حدثنا يونس قال، حدثنا سفيان، عن سليمان، عن سعيد بن
(١) الأثران: ١٢٤٣٥، ١٢٤٣٦-"سليمان العبسي" في الإسناد الأول، ظاهر أنه هو الذي في الإسناد الثاني"سليمان بن عبيد العبسي". ولم أجد في الرواة"سليمان بن عبيد العبسي"، مترجما. وسيأتي برقم: ١٢٤٤٠."سليمان" مجردًا من النسبة، وانظر التعليق عليه هناك.
ولكن الذي يروي عن سعيد بن جبير، ويروي عنه سفيان الثوري، كما في الأثر الأول"سليمان العبسي"، فإنه"سليمان بن أبي المغيرة العبسي الكوفي" روى عن سعيد بن جبير، وعلي بن الحسين بن علي، والقاسم بن محمد، وعبد الرحمن بن أبي نعم، وإسمعيل بن رجاء. روى عن سفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وأبو عوانة، وشعبة، وعبد الملك بن أبي سليمان. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٢/٢/٣٨، وابن أبي حاتم ٢/١/١٤٥. لم يذكر البخاري فيه جرحًا، ووثقه أحمد وابن معين. وروى له ابن ماجه حديثًا، سيأتي برقم: ١٢٤٤٠، فانظره هناك.
هذا، ولم يذكروا اسم أبيه"أبي المغيرة"، فإن صح أنه هو هو، المذكور في خبري أبي جعفر فإن"أبا المغيرة" هو"عبيد"، ويكون إسنادا أبي جعفر هذان، قد أفادانا اسم"أبي المغيرة". وأنا أرجح هذا، وأرجو أن يكون صوابًا إن شاء الله، وعسى أن يأتي في سائر أسانيد أبي جعفر ما يهدي إلى وجه الصواب. وكتبه محمود محمد شاكر.
(٢) في المطبوعة: "فكل قدر ذلك"، وهو خطأ سخيف جدًا، وأساء الناشر الأول قراءة المخطوطة، لما في كتابتها من المجمجة.
542
جبير قال، قال ابن عباس: كان الرجل يقوت بعض أهله قوتًا دونًا وبعضهم قوتًا فيه سعة، فقال الله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، الخبز والزيت. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم" عندنا، قول من قال:"من أوسط ما تطعمون أهليكم في القلَّة والكثرة". وذلك أن أحكام رسول الله ﷺ في الكفارات كلِّها بذلك وردت. وذلك كحكمه ﷺ في كفارة الحلق من الأذى بفَرَق من طعام بين ستة مساكين، (٢) لكل مسكين نصف صاع (٣) وكحكمه في كفارة الوطء في شهر رمضان بخمسة عشر صاعًا بين ستين مسكينًا، لكل مسكين ربُعْ صاع. (٤) ولا يُعْرف له ﷺ شيء من الكفارات، أمر بإطعام خبز وإدام، ولا بغداء وعشاء. (٥)
فإذْ كان ذلك كذلك، وكانت كفارة اليمين إحدى الكفارات التي تلزم من لزمته، كان سبيلُها سبيلَ ما تولَّى الحكم فيه صلى الله عليه وسلم: من أن الواجب على مكفِّرها من الطعام، مقدّرًا للمساكين العشرة محدودًا بكيل، (٦)
(١) الأثر: ١٢٤٤٠-"سليمان"، هو"سليمان بن أبي المغيرة العبسي"، الذي مضى ذكره في التعليق على الأثرين: ١٢٤٣٥، ١٢٤٣٦. وهذا الخبر رواه ابن ماجه رقم: ٢١١٣.
(٢) "الفرق" (بفتح أوله وثانيه، أو فتح أوله وسكون ثانيه) : مكيال لأهل المدينة، وهو ثلاثة آصع.
(٣) انظر ما سلف الآثار: ٣٣٣٤ - ٣٣٥٩ في الجزء الرابع: ٥٨ - ٦٩.
(٤) انظر السنن الكبرى للبيهقي ٤: ٢٢١ - ٢٢٨.
(٥) في المخطوطة: "أمرا بالطعام خبز وإدام"، والذي في المطبوعة أمضى على السياق.
(٦) في المطبوعة: "من الطعام مقدار للمساكين العشرة محدود بكيل"، والصواب من المخطوطة. وأخطأ فهم كلام أبي جعفر، فإنه عنى بقوله: "الطعام": البر، أو التمر. قال ابن الأثير: "الطعام عام في كل ما يقتات به من الحنطة والشعير والتمر، وغير ذلك". وأهل الحجاز إذا أطلقوا لفظ"الطعام" عنوا به البر خاصة. وفي حديث أبي سعيد: "كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله ﷺ صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير". قيل: أراد به البر، وقيل التمر. قالوا: وهو أشبه، لأن البر كان عندهم قليلا لا يتسع لإخراج زكاة الفطر.
543
دون جمعهم على غداء أو عشاء مخبوز مأدوم، إذ كانت سنته ﷺ في سائر الكفارات كذلك.
* * *
فإذ كان صحيحًا ما قلنا بما به استشهدنا، (١) فبيِّنٌ أن تأويل الكلام: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أعدل إطعامكم أهليكم = وأن"ما" التي في قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، بمعنى المصدر، لا بمعنى الأسماء.
وإذا كان ذلك كذلك، فأعدل أقوات الموسِّع على أهله مُدَّان، وذلك نصف صاع في رُبعه إدامه، وذلك أعلى ما حكم به النبيّ ﷺ في كفارة في إطعام مساكين. وأعدلُ أقوات المقتِّر على أهله، مُدٌّ، وذلك ربع صاع، وهو أدنى ما حكم به في كفارة في إطعام مساكين.
* * *
وأما الذين رأوا إطعام المساكين في كفارة اليمين، الخبزَ واللحمَ وما ذكرنا عنهم قبل، والذين رأوا أن يغدّوا أو يعشوا، والذين رأوا أن يغدوا ويعشوا، فإنهم ذهبوا إلى تأويل قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، من أوسط الطعام الذي تطعمونه أهليكم، فجعلوا"ما" التي في قوله:"من أوسط ما تطعمون أهليكم"، اسمًا لا مصدرًا، فأوجبوا على المكفِّر إطعامَ المساكين من أعدل ما يُطعم أهله من الأغذية. وذلك مذهبٌ لولا ما ذكرنا من سنن رسول الله ﷺ في الكفارات غيرها، التي يجب إلحاق أشكالها بها، وأن كفارة اليمين لها نظيرة وشبيهة يجب إلحاقها بها. (٢)
* * *
(١) في المطبوعة: "مما به استشهدنا"، والصواب من المخطوطة.
(٢) انظر تفسير
"المساكين" فيما سلف ٨: ٣٣٤، تعليق: ٥، والمراجع هناك.
544
القول في تأويل قوله: ﴿أَوْ كِسْوَتُهُمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فكفارة ما عقدتم من الأيمان: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم. يقول: إما أن تطعموهم أو تكسوهم. والخيار في ذلك إلى المكفِّر.
* * *
واختلف أهل التأويل في "الكسوة" التي عنى الله تعالى ذكره بقوله: "أو كسوتهم". (١)
فقال بعضهم: عنى بذلك: كسوة ثوب واحد.
ذكر من قال ذلك:
١٢٤٤١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في كسوة المساكين في كفارة اليمين: أدناه ثوبٌ.
١٢٤٤٢- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع =وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أدناه ثوب، وأعلاه ما شئتَ.
١٢٤٤٣- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع، عن الربيع، عن الحسن قال في كفارة اليمين في قوله: "أو كسوتهم"، ثوبٌ لكل مسكين.
١٢٤٤٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه: "أو كسوتهم"، قال: ثوبٌ. (٢)
١٢٤٤٥- حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة =وحدثنا ابن حميد وابن وكيع
(١) انظر تفسير "الكسوة" فيما سلف ٥: ٤٤، ٤٨٠ / ٧: ٥٧٢.
(٢) الأثر: ١٢٤٤٤- "وهيب"، هو "وهيب بن خالد بن عجلان الباهلي"، ثقة. مضى برقم: ٤٣٤٥.
545
قالا حدثنا جرير= جميعًا، عن منصور، عن مجاهد في قوله: "أو كسوتهم"، قال: ثوب.
١٢٤٤٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: "أو كسوتهم"، قال: ثوب ثوب = قال منصور: القميص، أو الرِّداء، أو الإزار.
١٢٤٤٧- حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع =وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر في قوله: "أو كسوتهم"، قال: كسوة الشتاء والصيف، ثوبٌ ثوبٌ.
١٢٤٤٨- حدثنا هناد قال، حدثنا عمر بن هارون، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: "أو كسوتهم"، قال: ثوب ثوب لكل مسكين.
١٢٤٤٩- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم في قوله: "أو كسوتهم"، قال: إذا كساهم ثوبًا ثوبًا أجزأ عنه.
١٢٤٥٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي، عن أبي سنان، عن حماد قال: ثوب أو ثوبان، (١) وثوب لا بدّ منه. (٢)
١٢٤٥١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قال: ثوب ثوب لكل إنسان. وقد كانت العباءة تقضى يومئذ من الكسوة. (٣)
(١) في المخطوطة: "ثوب أو ثوبين"، ولا يكون ذلك حتى تكون الأولى: "ثوبًا"، ولذلك تركت ما في المطبوعة على حاله.
(٢) الأثر: ١٢٤٥٠- "إسحاق بن سليمان الرازي"، مضى برقم: ٦٤٥٦، ١٢١٣٣.
و"أبو سنان" هو: "سعيد بن سنان البرجمي". مضى برقم: ١٧٥، ١١٢٤٠، ١٢١٣٣. وكان في المطبوعة: "ابن سنان" لم يحسن قراءة المخطوطة.
(٣) قوله: "تقضى"، هكذا في الدر المنثور ٢: ٣١٣، وفي المخطوطة: "يعصى" غير منقوطة، وأنا في ريب من هذا الحرف. ولعله أراد "تقضي" بمعنى: تجزئ منها.
546
١٢٤٥٢- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "أو كسوتهم"، قال: "الكسوة"، عباءة لكل مسكين، أو شِمْلة.
١٢٤٥٣- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك قال: ثوب، أو قميصٌ، أو رداء، أو إزار.
١٢٤٥٤- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إن اختار صاحبُ اليمين الكسوة، كسا عشرة أناسيَّ، كل إنسان عباءة.
١٢٤٥٥- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن جريج قال، سمعت عطاء يقول في قوله: "أو كسوتهم"، الكسوة: ثوبٌ ثوبٌ.
وقال بعضهم: عنى بذلك: الكسوةَ ثوبين ثوبين.
ذكر من قال ذلك:
١٢٤٥٦- حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة =وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية= جميعًا، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب في قوله: "أو كسوتهم"، قال: عباءة وعمامة.
١٢٤٥٧- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع =وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي=، عن سفيان، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب قال: عمامة يلفُّ بها رأسه، وعباءة يلتحف بها.
١٢٤٥٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أشعث، عن الحسن وابن سيرين قالا ثوبين ثوبين. (١)
(١) الأثر: ١٢٤٥٨- "محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري"، ثقة مضى برقم: ٥٤٣٨.
وكان في المطبوعة: "قال: ثوبين... "، والصواب من المخطوطة. خطأ في الطباعة.
547
١٢٤٥٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن قال: ثوبين. (١)
١٢٤٦٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن يونس، عن الحسن، مثله.
١٢٤٦١- حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع، عن سفيان، عن يونس بن عبيد، عن الحسن قال: ثوبان ثوبان لكل مسكين.
١٢٤٦٢- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن المبارك، عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين، عن أبى موسى: أنه حلف على يمين، فكسا ثوبين من مُعَقَّدة البحرين. (٢)
١٢٤٦٣- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين: أن أبا موسى كسا ثوبين من مُعَقَّدة البحرين. (٣)
١٢٤٦٤- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن محمد بن عبد الأعلى: أن أبا موسى الأشعري حلف على يمين، فرأى أن يكفِّر ففعل، وكسا عشرة ثوبين ثوبين.
١٢٤٦٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن هشام، عن محمد: أن أبا موسى حلف على يمين فكفَّر، فكسا عشرة مساكين ثوبين ثوبين.
١٢٤٦٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب قال: عباءة وعمامة لكل مسكين.
١٢٤٦٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، مثله.
(١) في المطبوعة: "قالا"، والصواب من المخطوطة. خطأ في الطباعة.
(٢) الأثران: ١٢٤٦٢، ١٢٤٦٣- أخرجه البيهقي في السنن ١٠: ٥٦، من طريق أخرى، من طريق سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، بغير هذا اللفظ مطولا.
و"المعقد" (بتشديد القاف المفتوحة) : ضرب من برود هجر، لم أجد صفته.
(٣) الأثران: ١٢٤٦٢، ١٢٤٦٣- أخرجه البيهقي في السنن ١٠: ٥٦، من طريق أخرى، من طريق سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، بغير هذا اللفظ مطولا.
و"المعقد" (بتشديد القاف المفتوحة) : ضرب من برود هجر، لم أجد صفته.
548
١٢٤٦٨- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا داود بن أبي هند قال: قال رجل عند سعيد بن المسيب: (أو كَأُسْوَتِهِمْ)، (١) فقال سعيد: لا إنما هي: "أو كسوتهم"، قال قلت: يا أبا محمد، ما كسوتهم؟ قال: لكل مسكين عباءة وعمامة: عباءة يلتحف بها، وعمامة يشدّ بها رأسه.
١٢٤٦٩- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "أو كسوتهم"، قال: الكسوة، لكل مسكين رداء وإزار، كنحو ما يجد من الميسرة والفاقة.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك كسوتهم "ثوب جامع"، كالملحفة والكساء، والشيء الذي يصلح للّبس والنوم.
ذكر من قال ذلك:
١٢٤٧٠- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم قال: الكسوة ثوبٌ جامع.
١٢٤٧١- حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا ابن فضيل، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله: "أو كسوتهم"، قال: ثوب جامع. قال وقال مغيرة: و "الثوب الجامع": الملحفة أو الكساء أو نحوه، ولا نرى الدِّرع والقميصَ والخِمار ونحوه "جامعًا".
١٢٤٧٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: ثوب جامع.
(١) هذه قراءة شاذة، قرأ بها سعيد بن جبير، ومحمد بن السميقع اليماني. وقد ذكرها ابن خالويه في شواذ القراءات: ٣٤، ونسبها إلى سعيد بن المسيب، لا سعيد بن جبير، وهو خطأ منه، وهذا الخبر دال على ذلك فقد أنكرها سعيد بن المسيب. وذكر نسبتها على الصواب، القرطبي في تفسيره ٦: ٢٧٩، وأبو حيان في تفسيره ٤: ١١.
549
١٢٤٧٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: ثوب جامع.
١٢٤٧٤- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: "أو كسوتهم"، قال: ثوب جامع لكل مسكين.
١٢٤٧٥- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان وشعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله: "أو كسوتهم"، قال: ثوب جامع.
١٢٤٧٦- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن المغيرة، مثله.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك: كسوة إزار ورداء وقميص.
ذكر من قال ذلك:
١٢٤٧٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن بردة، عن رافع، عن ابن عمر قال في الكسوة: في الكفارة إزار ورداء وقميص. (١)
* * *
وقال آخرون: كل ما كسا فيجزئ، والآية على عمومها.
ذكر من قال ذلك:
١٢٤٧٨- حدثنا هناد قال، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن ليث، عن مجاهد قال: يجزئ في كفارة اليمين كل شيء إلا التُّبَّان. (٢)
١٢٤٧٩- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع =وحدثنا ابن وكيع
(١) الأثر: ١٢٤٧٧- "بردة"، لم أجد له ذكرًا، وكأنه محرف.
و"رافع" لم أعرف من يكون، وهكذا هو في المخطوطة، وكان في المطبوعة "نافع" مغيرًا بغير دليل. وأثبت الإسناد كما هو في المخطوطة، حتى يهتدي إلى صوابه من يقوم له.
(٢) "التبان" (بضم التاء وتشديد الباء) : سراويل صغير مقدار شبر، يستر العورة المغلظة فقط، يكون للملاحين.
550
قال، حدثنا أبي=، عن سفيان، عن أشعث، عن الحسن قال: يجزئ عمامة في كفارة اليمين.
١٢٤٨٠- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع =وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي=، عن أويس الصيرفي، عن أبي الهيثم، قال قال سلمان: نعم الثوبُ التُّبَّان. (١)
١٢٤٨١- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الشيباني، عن الحكم قال: عمامة يلف بها رأسه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة وأشبهها بتأويل القرآن، قولُ من قال: عنى بقوله: "أو كسوتهم"، ما وقع عليه اسم كسوة، مما يكون ثوبًا فصاعدًا = لأن ما دون الثوب، لا خلافَ بين جميع الحجة أنه ليس مما دخل في حكم الآية، فكان ما دون قدر ذلك، خارجًا من أن يكون الله تعالى عناه، بالنقل المستفيض. (٢) والثوبُ وما فوقه داخل في حكم الآية، إذ لم يأت من الله تعالى وحي، ولا من رسوله ﷺ خبر، ولم يكن من الأمة إجماع بأنه غير داخل في حكمها. وغير جائز إخراج ما كان ظاهرُ الآية محتملَه من حكم الآية، إلا بحجة يجب التسليم لها. ولا حجة بذلك.
* * *
(١) الأثر: ١٢٤٨٠- "أويس الصيرفي" لم أجده، ولم أعرفه.
و"أبو الهيثم"، لم أستطع أن أستبين أيهم يكون ممن يكنى "أبا الهيثم".
و"سلمان" أيضًا لم أستطع تحديده في هذا الإسناد.
(٢) السياق: "لا خلاف بين جميع الحجة... بالنقل المستفيض".
551
القول في تأويل قوله: ﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أو فكّ عبد من أسر العبودة وذلها.
وأصل "التحرير"، الفك من الأسر، (١) ومنه قول الفرزدق بن غالب:
"الذين قال الله تعالى ذكره أنه أثابهم بما قالوا جنات "، ولكني تركت ما في المخطوطة والمطبوعة على حاله.
أَبنِي غُدَانَةَ، إِنَّنِي حَرَّرْتُكُمْ فَوَهَبْتُكُمْ لِعَطِيَّةَ بْنِ جِعَالِ (٢)
يعني بقوله: "حرّرتكم"، فككت رقابكم من ذلّ الهجاء ولزوم العار.
* * *
وقيل: "تحرير رقبة"، والمحرَّر ذو الرقبة، (٣) لأن العربَ كان من شأنها إذا أسرت أسيرًا أن تجمع يديه إلى عنقه بقِدٍ أو حبل أو غير ذلك، (٤) وإذا أطلقته من الأسر أطلقت يديه وحلَّتهما مما كانتا به مشدودتين إلى الرقبة. فجرى الكلام
(١) انظر "تحرير رقبة" فيما سلف ٩: ٣٠، وما بعدها، ولم يشرحها أبو جعفر هناك وشرحها هنا. وهذا ضرب من اختصاره في هذا التفسير.
(٢) ديوانه ٧٢٦، النقائض: ٢٧٥، وطبقات فحول الشعراء: ٤٢٤، من قصيدته في هجاء جرير.
و"بنو غدانة" هم: بنو غدانة بن يربوع، أخو "كليب بن يربوع"، جد جرير. و "عطية بن جعال بن قطن بن مالك بن غدانة بن يربوع"، وكان عطية من سادة بني غدانة، وكان صديقًا للفرزدق وخليلا له. فلما بلغ عطية هذا الشعر قال: "جزى الله خليلي عني خيرًا!! ما أسرع ما رجع خليلي في هبته!! "، لأنه هجاهم، وهو يزعم أنه وهب أعراضهم لصاحبه، يقول بعده:
فَوَهَبْتُكُمْ لأَحَقِّكُمْ بِقَدِيمُكُمْ قِدْمًا، وَأَفْعَلِهِ لِكُلِّ نَوَالِ
لَوْلا عَطِيَّةُ لاجْتَدَعْتُ أُنُوفَكُمْ مِنْ بَيْنِ أَلأَمِ آنُفٍ وَسِبَالِ
إِنِّي كَذَاكَ، إِذَا هَجَوْتُ قَبِيلَةً جَدَّعْتُهُمْ بِعَوَارِمِ الأمْثَالِ
(٣) في المطبوعة: "صاحب الرقبة"، لم يحسن قراءة المخطوطة.
(٤) في المطبوعة: "بقيد أو حبل"، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة. و "القد" (بكسر القاف والدال المشددة) : سير يقد (أي: يشق طولا) من جلد غير مدبوغ. وأما "القيد"، فأكثر ما يكون في الرجلين.
552
عند إطلاقهم الأسير، بالخبر عن فك يديه عن رقبته، وهم يريدون الخبرَ عن إطلاقه من أسره، (١) كما يقال: "قبضَ فلان يده عن فلان"، إذا أمسك يده عن نواله ="وبسط فيه لسانه"، (٢) إذا قال فيه سوءًا= فيضافُ الفعل إلى الجارحة التي يكون بها ذلك الفعل دون فاعله، لاستعمال الناس ذلك بينهم، وعلمهم بمعنى ذلك. فكذلك ذلك في قول الله تعالى ذكره: "أو تحرير رقبة"، أضيف "التحرير" إلى "الرقبة"، وإن لم يكن هناك غُلٌّ في رقبته ولا شدُّ يَدٍ إليها، وكان المراد بالتحرير نفسَ العبد، بما وصفنا، من جَرّاء استعمال الناس ذلك بينهم لمعرفتهم بمعناه. (٣)
* * *
فإن قال قائل: أفكلّ الرقاب معنيٌّ بذلك أو بعضه؟ (٤)
قيل: بل معنيّ بذلك كل رقبة كانت سليمة من الإقعاد، (٥) والعمَى والخرس، وقطع اليدين أو شللهما والجنون المطبق، ونظائر ذلك. فإن من كان به ذلك أو شيء منه من الرقاب، فلا خلاف بين الجميع من الحجة أنه لا يجزئ في كفارة اليمين. فكان معلومًا بذلك أن الله تعالى ذكره لم يعنه بالتحرير في هذه الآية. فأما الصغير والكبير والمسلم والكافر، فإنهم معنيون به.
* * *
(١) انظر تفسير: "وفي الرقاب" فيما سلف ٣: ٣٤٧. وتفسير ذلك هناك مختصر، وهو هنا مفصل. وهذا باب من أبواب اختصار أبي جعفر في تفسيره هذا.
(٢) انظر ما سلف في مثل ذلك في تفسير قوله تعالى: "بل يداه مبسوطتان" ص: ٤٥١ وما قبله في تفسير: "بما قدمت أيديهم" ٢: ٣٦٨.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "من جرى استعمال... "، وصواب قراءتها "من جراء" وكذلك كتبتها، فإن الذي في كلام الطبري هو "جرى" المقصورة من "جراء". فلذلك كتبها بالياء. يقال: "فعلت ذلك من جراك، ومن جرائك"، أي: من أجلك، وقد جمعتا في شعر واحد:
أَمِنْ جَرَّا بَنِي أَسَدٍ غَضِبْتُمُ وَلَوْ شِئْتُمْ لَكَانَ لَكُمْ جِوَارُ
وَمنْ جَرَّائِنَا صِرْتُمْ عَبِيدًا لِقَوْمٍ، بَعْدَ مَا وُطِئَ الخِيَارُ
(٤) في المطبوعة: "أو بعضها"، والذي في المخطوطة صواب محض.
(٥) "الإقعاد" و "القعاد" (بضم القاف) : داء يقعد. "أقعد الرجل فهو مقعد"، إذا أصابه القعاد فحال بينه وبين المشي.
553
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل العلم.
ذكر من قال ذلك:
١٢٤٨٢- حدثنا هناد... قال، حدثنا مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يقول: من كانت عليه رقبة واجبة، فاشترى نَسَمة، قال: إذا أنقذها من عمل أجزأته، ولا يجوز عتق من لا يعمل. فأما الذي يعمل، كالأعور ونحوه. وأما الذي لا يعمل فلا يجزئ، الأعمى والمقعد. (١)
١٢٤٨٣- حدثنا هناد قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن قال: كان يكره عتق المخَبَّل في شيء من الكفارات. (٢)
١٢٤٨٤- حدثنا هناد قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان لا يرى عتقَ المغلوب على عقله يجزئ في شيء من الكفارات.
* * *
وقال بعضهم: لا يجزئ في الكفارة من الرقاب إلا صحيح، ويجزئ الصغير فيها.
ذكر من قال ذلك:
١٢٤٨٥- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: لا يجزئ في الرقبة إلا صحيح.
١٢٤٨٦- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: يجزئ المولودُ في الإسلام من رقبة.
١٢٤٨٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: ما كان في القرآن من "رقبة مؤمنة"، فلا يجزئ إلا ما صام وصلى. وما كان ليس بمؤمنة، فالصبي يجزئ. (٣)
(١) الأثر: ١٢٤٨٢- "هناد بن السرى" لا يروي عن مغيرة، بينهما في الإسناد رجل أو رجلان وانظر الأثرين السالفين قريبًا: ١٢٤٧٠، ١٢٤٧١، وما يأتي رقم: ١٢٤٨٤.
وكان في المطبوعة: "كالأعمى"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) "المخبل" (بتشديد الباء) : المجنون، من "الخبل" (بسكون الباء) : وهو الفالج، أو فساد الأعضاء، أو فساد العقل.
(٣) الأثر: ١٢٤٨٧- مضى بإسناده ولفظه برقم: ١٠٠٩٦.
554
وقال بعضهم: لا يقال للمولود"رقبة"، إلا بعد مدة تأتي عليه.
ذكر من قال ذلك:
١٢٤٨٨ - حدثني محمد بن يزيد الرفاعي قال، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن شعيب بن شابور، عن النعمان بن المنذر، عن سليمان قال: إذا ولد الصبي فهو نسمة، وإذا انقلبَ ظهرًا لبطن فهو رقبة، وإذا صلى فهو مؤمنة. (١)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال، إن الله تعالى عمَّ بذكر"الرقبة" كل رقبة، فأيَّ رقبة حرّرها المكفر يمينَه في كفارته، فقد أدّى ما كُلِّف، إلا ما ذكرنا أن الحجة مجمعة على أن الله تعالى ذكره، لم يعنه بالتحرير، فذلك خارج من حكم الآية، وما عدا ذلك فجائز تحريرُه في الكفارة بظاهر التنزيل.
والمكفِّر مخيَّر في تكفير يمينه التي حنث فيها بإحدى هذه الحالات الثلاث التي سماها الله في كتابه، وذلك: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة = بإجماع من الجميع، لا خلاف بينهم في ذلك. فإن ظنّ ظان أنّ ما قلنا من أن ذلك إجماع من الجميع، ليس كما قلنا، لما:-
١٢٤٨٩ - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا سليمان الشيباني قال، حدثنا أبو الضحى، عن مسروق، قال: جاء معقل بن مقرن إلى عبد الله فقال: إني آليتُ من النساء والفراش! فقرأ عبد الله هذه الآية: (لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [سورة المائدة: ٨٧]. قال فقال معقل: إنما سألتك أنْ أتيتُ
(١) الأثر: ١٢٤٨٨ -"محمد بن شعيب بن شابور الأموي"، أحد الكبار، كان يسكن بيروت. روى عن الأوزاعي، ويزيد بن أبي مريم، والنعمان بن المنذر. ثقة ثبت، روى له الأربعة. مترجم في التهذيب.
و"النعمان بن المنذر الغساني، اللخمي"، "أبو الوزير". روى عن عطاء، ومجاهد، والزهري، وطاوس، ومكحول. ثقة. مترجم في التهذيب.
و"سليمان"، كأنه"سليمان بن طرخان التيمي"، ولست أحققه.
555
على هذه الآية الليلة؟ فقال عبد الله: ائت النساء ونَمْ، وأعتق رقبة، فإنك موسر. (١)
١٢٤٩٠ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني جرير بن حازم: أن سليمان الأعمش حدثه، عن إبراهيم بن يزيد النخعي، عن همام بن الحارث: أن نعمان بن مقرِّن سأل عبد الله بن مسعود فقال: إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة؟ فقال ابن مسعود:"يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم"، كفّر عن يمينك، ونم على فراشك! قال: بم أكفِّر عن يميني؟ قال: أعتق رقبة، فإنك موسر. (٢)
* * *
= ونحو هذا من الأخبار التي رويت عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما، فإنّ ذلك منهم كان على وجه الاستحباب لمن أمروه بالتكفير بما أمروه به بالتكفير من
(١) الأثر: ١٢٤٧٩-"محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب"، ثقة مضى برقم: ٦٢٥٦، ٨١٣٦.
و"عبد الواحد بن زياد العبدي"، أحد الأعلام، مضى برقم: ٢٦١٦، ٣١٣٦.
"وسليمان الشيباني" هو: "سليمان بن أبي سليمان"، "أبو إسحق الشيباني". ثقة. مضى كثيرًا، آخره رقم: ٨٨٦٩.
و"أبو الضحى"، و"مسروق"، مضيًا كثيرًا.
و"معقل بن مقرن المزني"، أبو عمرة، قال البغوي: "سكن الكوفة، وروى عن النبي ﷺ أحاديث". مترجم في الاستيعاب، وأسد الغابة، والإصابة، وابن سعد ٦: ١١، وابن أبي حاتم ٤ / ١ / ٢٨٥، وهو أخو"النعمان بن مقرن". وكان في المطبوعة هنا: "النعمان بن مقرن"، مكان"معقل بن مقرن"، غير الاسم لغير طائل، لأنه أخذه من الذي يليه، مع أنهما روايتان مختلفتان.
وكان في المطبوعة أيضًا: "إنما سألتك لكوني أتيت على هذه الآية، فقال عبد الله"، تصرف في العبارة تصرفًا فاسدًا عاميًا، والصواب من المخطوطة، ولكنه كتب هناك"سألتك عن" ثم وضع"أ" في وسط عين"عن"، لتقرأها"أن"، وكذلك أثبتها.
وهذا الأثر أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٠٩، عن معقل بن مقرن، وقال: "أخرجه ابن سعد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني من طرق، عن ابن مسعود".
(٢) الأثر: ١٢٤٩٠- انظر التعليق على الأثر السالف، ولكنه هنا نسب القصة إلى"النعمان بن مقرن"، أخي"معقل بن مقرن".
556
الرقاب، لا على أنه كان لا يجزئ عندهم التكفير للموسر إلا بالرقبة، لأنه لم ينقل أحدٌ عن أحد منهم أنه قال: لا يجزئ الموسرَ التكفيرُ إلا بالرقبة. والجميعُ من علماء الأمصار، قديمهم وحديثهم، مجمعون على أن التكفير بغير الرقاب جائزٌ للموسر. ففي ذلك مكتفًى عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بغيره.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"فمن لم يجد"، لكفارة يمينه التي لزمه تكفيرُها من الطعام والكسوة والرقاب ما يكفِّرها به على ما فرضنا عليه وأوجبناه في كتابنا وعلى لسان رسولنا محمد ﷺ ="فصيام ثلاثة أيام"، يقول: فعليه صيام ثلاثة أيام.
* * *
ثم اختلف أهل العلم في معنى قوله:"فمن لم يجد"، ومتى يستحقُّ الحانث في يمينه الذي قد لزمته الكفارة، اسم"غير واجد"، حتى يكون ممن له الصيام في ذلك.
فقال بعضهم: إذا لم يكن للحانث في وقت تكفيره عن يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومَه وليلته، فإنّ له أن يكفر بالصيام. فإن كان عنده في ذلك الوقت قوته وقوت عياله يومه وليلته، ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين أو ما يكسوهم، لزمه التكفيرُ بالإطعام أو الكسوة، ولم يجزه الصيام حينئذ.
وممن قال ذلك الشافعي:
١٢٤٩١ - حدثنا بذلك عنه الربيع.
* * *
وهذا القولَ قصدَ إن شاء الله = مَنْ أوجب الطعام على من كان عنده درهمان =،
557
مَنْ أوجبه على من عنده ثلاثة دراهم. (١) وبنحو ذلك:-
١٢٤٩٢ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن المبارك، عن حماد بن سلمة، عن عبد الكريم، عن سعيد بن جبير، قال: إذا لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم = قال: يعني في الكفارة.
١٢٤٩٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني معتمر بن سليمان قال: قلت لعمر بن راشد: الرجل يحلف ولا يكون عنده من الطعام إلا بقدر ما يكفر، قال: كان قتادة يقول: يصوم ثلاثة أيام. (٢)
١٢٤٩٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، حدثنا يونس بن عبيد، عن الحسن قال، إذا كان عنده درهمان.
١٢٤٩٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر، عن حماد، عن عبد الكريم أبي أمية، عن سعيد بن جبير قال: ثلاثة دراهم. (٣)
* * *
وقال آخرون: جائزٌ لمن لم يكن عنده مائتا درهم أن يصوم، وهو ممن لا يجد.
* * *
وقال آخرون: جائزٌ لمن لم يكن عنده فضل عن رأس ماله يتصرف به لمعاشه ما يكفر به بالإطعام، أن يصوم، إلا أن يكون له كفاية، ومن المال ما يتصرف به لمعاشه، ومن الفضل عن ذلك ما يكفرّ به عن يمينه. وهذا قولٌ كان يقوله بعض متأخري المتفقهة.
* * *
(١) في المطبوعة، غير هذه الجملة: "ممن أوجب الطعام... وممن أوجبه على من عنده"، فاختل الكلام، والصواب ما في المخطوطة. وقد ضبطت الكلام بالشكل ليتبين معناه ويتيسر.
(٢) الأثر: ١٢٤٩٣-"عمر بن راشد"، كأنه يعني: "عمر بن راشد السلمي". روى عن الشعبي، وعنه سفيان الثوري. مترجم في ابن أبي حاتم ٣ / ١ / ١٠٧.
(٣) الأثر: ١٢٤٩٥-"عبد الكريم"، "أبو أمية"، هو: "عبد الكريم. أبي المخارق"، مضى برقم: ٩٦٧٩. وكان في المطبوعة: "عبد الكريم بن أبي أمية"، وهو خطأ محض، وتغيير لما في المخطوطة عبثًا.
558
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أنّ من لم يكن عنده في حال حنثه في يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته، لا فضل له عن ذلك، يصوم ثلاثة أيام، وهو ممن دخل في جملة من لا يجد ما يطعم أو يكسو أو يعتق. وإن كان عنده في ذلك الوقت من الفضل عن قوته وقوت عياله يوَمه وليلته، ما يطعم أو يكسو عشرة مساكين، أو يعتق رقبة، فلا يجزيه حينئذ الصوم، لأن إحدى الحالات الثلاث حينئذ من إطعام أو كسوة أو عتق، حق قد أوجبه الله تعالى ذكره في ماله وجوبَ الدين. وقد قامت الحجة بأن المفلس إذا فرّق ماله بين غرمائه: أنه لا يترك ذلك اليوم إلا ما لا بدَّ له من قوته وقوت عياله يوَمه وليلته. فكذلك حكم المعدم بالدين الذي أوجبه الله تعالى ذكره في ماله بسبب الكفارة التي لزمت ماله.
* * *
واختلف أهل العلم في صفة الصوم الذي أوجبه الله في كفارة اليمين. فقال بعضهم: صفته أن يكون مواصلا بين الأيام الثلاثة غير مفرِّقها.
ذكر من قال ذلك:
١٢٤٩٦ - حدثنا محمد بن العلاء قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: كل صوم في القرآن فهو متتابع، إلا قضاء رمضان، فإنه عدة من أيام أخر. (١)
١٢٤٩٧ - حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي =، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس قال: كان أبيّ ابن كعب يقرأ: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات).
١٢٤٩٨ - حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن
(١) قوله: "فإنه عدة من أيام أخر"، ليس في المخطوطة، وهو في الدر المنثور ٢: ٣١٤، أخشى أن يكون نقله من هناك.
559
موسى، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، أنه كان يقرأ: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات).
١٢٤٩٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن قزعة، عن سويد، عن سيف بن سليمان، عن مجاهد، قال: في قراءة عبد الله: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات). (١)
١٢٥٠٠ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن عون، عن إبراهيم قال: في قراءتنا: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات).
١٢٥٠١ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن إبراهيم، مثله.
١٢٥٠٢ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم في قراءة أصحاب عبد الله: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات).
١٢٥٠٣ - حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن عامر قال: في قراءة عبد الله: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات).
١٢٥٠٤ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن حميد، عن معمر، عن أبي إسحاق في قراءة عبد الله: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات). (٢)
١٢٥٠٥ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن حميد، عن معمر،
(١) الأثر: ١٢٤٩٩-"قزعة بن سويد بن جحير الباهلي"، مضى برقم: ٨١٤١ وأبوه"سويد بن جحير الباهلي" مضى: ٨٢٨١، ٨٢٨٣، ٩٣٧٢.
وكان في المطبوعة: "قزعة بن سويد"، وأثبت ما في المخطوطة، و"قزعة"، يروي عن أبيه.
و"سليف بن سليمان المخزومي"، مضى برقم: ٣٣٤٥.
(٢) الأثر: ١٢٥٠٤-"محمد بن حميد اليشكري المعمري""أبو سفيان المعمري"، مضى برقم: ١٧٨٧، ٨٨٢٩.
و"معمر بن راشد الأزدي"، مضى مرارًا رقم: ١٧٨٧، ٢٠٩٥، ٨٨٨٥
و"أبو إسحق"، هو"أبو إسحق السبيعي" من شيوخ معمر. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ابن إسحق"، وهو خطأ محض.
560
عن الأعمش قال: كان أصحاب عبد الله يقرأون: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات).
١٢٥٠٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع قال، سمعت سفيان، يقول: إذا فرّق صيام ثلاثة أيام لم يجزِه. قال: وسمعته يقول في رجل صامَ في كفارة يمين ثم أفطر، قال، يستقبل الصومَ.
١٢٥٠٧ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"فصيام ثلاثة أيام"، قال: إذا لم يجد طعامًا، وكان في بعض القراءة: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات). وبه كان يأخذ قتادة. (١)
١٢٥٠٨ - حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: هو بالخيار في هؤلاء الثلاثة، الأوّلَ فالأوّل، فإن لم يجد من ذلك شيئًا فصِيَام ثلاثة أيام متتابعات.
* * *
وقال آخرون: جائز لمن صامهنّ أن يصومهن كيف شاء، مجتمعات ومفترقات.
ذكر من قال ذلك:
١٢٥٠٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا أشهب قال، قال مالك: كل ما ذكر الله في القرآن من الصيام، فأن يُصَام تِبَاعًا أعجبُ. فإن فرقها رجوتُ أن تجزئ عنه.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى
(١) الأثر: ١٢٥٠٧-"جامع بن حماد" انظر ما سلف رقم: ١٢٣٤٤، ١٢٣٦٧، ١٢٤٢٣.
561
ذكره أوجب على من لزمته كفّارة يمين، إذا لم يجد إلى تكفيرها بالإطعام أو الكسوة أو العتق سبيلا أن يكفرّها بصيام ثلاثة أيام، ولم يشرطْ في ذلك متتابعة. فكيفما صامهنَّ المكفِّر مفرَّقة ومتتابعة، أجزأه. لأن الله تعالى ذكره إنما أوجب عليه صيام ثلاثة أيام، فكيفما أتَى بصومهنّ أجزأ.
* * *
فأما ما روى عن أبيّ وابن مسعود من قراءتهما: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات)، فذلك خلاف ما في مصاحفنا. وغير جائز لنا أن نشهد لشيء ليس في مصاحفنا من الكلام أنه من كتاب الله. (١) غيرَ أني أختار للصائم في كفَّارة اليمين أن يُتَابع بين الأيام الثلاثة، ولا يفرِّق. لأنه لا خلاف بين الجميع أنه إذا فعل ذلك فقد أجزأ ذلك عنه من كفارته، وهم في غير ذلك مختلفون. ففعل ما لا يُخْتَلف في جوازه، أحبُّ إليَّ، وإن كان الآخر جائزًا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، هذا الذي ذكرت لكم أنه كفارة أيمانكم، من إطعام العشرة المساكين، أو كسوتهم، أو تحرير الرقبة، وصيام الثلاثة الأيام إذا لم تجدوا من ذلك شيئًا = هو كفارة أيمانكم التي عقدتموها إذا حلفتم = واحفظوا، أيها الذين آمنوا أيمانكم أن تحنثوا فيها، ثم تُضِيعُوا الكفارة فيها بما وصفته لكم = (٢) "كذلك يبين الله لكم آياته"، كما بين لكم كفارة أيمانكم،
(١) في المطبوعة: "أن تشهد بشئ"، والصواب من المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "ثم تصنعوا"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت.
562
كذلك يبين الله لكم جميع آياته = يعني أعلام دينه فيوضِّحها لكم = لئلا يقول المضيع المفرِّط فيما ألزمه الله:"لم أعلم حكم الله في ذلك! " ="لعلكم تشكرون"، يقول: لتشكروا الله على هدايته إياكم وتوفيقه لكم. (١)
* * *
(١) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
وعند هذا الموضع، انتهى جزء من التجزئة القديمة التي نقلت عنها نسختنا، وفيها ما نصه:
"يتلوه القول في تأويل قوله
﴿يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون﴾.
وصلى الله على محمد النبيّ وعلى آله وسلّم كثيرًا".
ثم يتلوه ما نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم ربِّ أعِنْ يَا كريم"
563
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا بيانٌ من الله تعالى ذكره للذين حرَّموا على أنفسهم النساءَ والنومَ واللحمَ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، تشبُّهَا منهم بالقسيسين والرهبان، فأنزل الله فيهم على نبيِّه ﷺ كتابَه يَنْهاهم عن ذلك فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ)، [سورة المائدة: ٨٧].
563
فنهاهم بذلك عن تحريم ما أحلّ الله لهم من الطيبات. ثم قال: ولا تعتدوا أيضًا في حدودي، فتحلُّوا ما حرَّمت عليكم، فإن ذلك لكم غير جائز، كما غيرُ جائزٍ لكم تحريم ما حلّلت، وإنيّ لا أحبُّ المعتدين. ثم أخبرهم عن الذي حرّم عليهم مما إذا استحلوه وتقدَّموا عليه، كانوا من المعتدين في حدوده = فقال لهم: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، إن الخمر التي تشربونها، والميسِرَ الذي تَتَياسرونه، والأنصاب التي تذبحُون عندها، والأزلام التي تستقسمون بها ="رجْس"، يقول: إثم ونَتْنٌ سَخِطه الله وكرهه لكم ="من عمل الشيطان"، يقول: شربكم الخمر، وقماركم على الجُزُر، وذبحكم للأنصاب، واستقسامكم بالأزلام، من تزيين الشيطانِ لكم، ودعائه إياكم إليه، وتحسينه لكم، لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربُّكم، ولا مما يرضاه لكم، بل هو مما يسخطه لكم ="فاجتنبوه"، يقول: فاتركوه وارفضوه ولا تعملوه (١) ="لعلكم تفلحون"، يقول: لكي تنجَحُوا فتدركوا الفلاحَ عند ربكم بترككم ذلك. (٢)
* * *
وقد بينا معنى"الخمر"، و"الميسر"، و"الأزلام" فيما مضى، فكرهنا إعادته. (٣)
* * *
وأما"الأنصاب"، فإنها جمع"نُصُب"، وقد بينا معنى"النُّصُب" بشواهده فيما مضى. (٤)
* * *
(١) انظر تفسير"الفلاح" فيما سلف ١٠: ٢٩٢، تعليق: ٣. والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير"اجتنب" فيما سلف ٨: ٢٣٣، وهي هناك غير مفسرة، ثم ٨: ٣٤٠.
(٣) انظر تفسير"الخمر" فيما سلف ٤: ٣٢٠، ٣٢١.
= وتفسير"الميسر" فيما سلف ٤: ٣٢١، ٣٢٢ - ٣٢٥.
= وتفسير"الأزلام" فيما سلف ٩: ٥١٠ - ٥١٥.
(٤) انظر تفسير"النصب" ٩: ٥٠٧ - ٥٠٩.
564
وروي عن ابن عباس في معنى"الرجس" في هذا الموضع، ما:-
١٢٥١٠ - حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"رجس من عمل الشيطان"، يقول: سَخَطٌ.
* * *
وقال ابن زيد في ذلك، ما:-
١٢٥١١ - حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"رجس من عمل الشيطان"، قال:"الرجس"، الشرُّ.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنما يُريد لكم الشيطانُ شربَ الخمر والمياسرةَ بالقِدَاح، ويحسِّن ذلك لكم، إرادةً منه أن يوقع بينكم العَداوَة والبغضاءَ في شربكم الخمر ومياسرتكم بالقداح، (١) ليعادي بعضكم بعضًا، ويبغِّض بعضَكم إلى بعض، فيشتِّت أمركم بعد تأليف الله بينكم بالإيمان، وجمعه بينكم بأخوّة الإسلام ="ويصدّكم عن ذكر الله"، يقول: ويصرفكم بغلبة هذه الخمر بسكرها إياكم عليكم، (٢) وباشتغالكم بهذا الميسر، عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم ="وعن الصلاة"، التي فرضها عليكم ربكم ="فهل أنتم منتهون"،
(١) انظر تفسير"البغضاء" فيما سلف ٧: ١٤٥/١٠: ١٣٦.
(٢) انظر تفسير"الصد" فيما سلف ٩: ٤٨٩، تعليق: ١، والمراجع هناك.
565
يقول: فهل أنتم منتهون عن شرب هذه، والمياسرة بهذا، (١) وعاملون بما أمركم به ربُّكم من أداء ما فرَض عليكم من الصلاة لأوقاتها، ولزوم ذكره الذي به نُجْح طلباتكم في عاجل دنياكم وآخرتكم؟.
* * *
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية.
فقال بعضهم: نزلت بسبب كان من عمر بن الخطاب، وهو أنه ذكر مكروهَ عاقبة شربها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأل الله تحر يمَها. (٢)
ذكر من قال ذلك:
١٢٥١٢ - حدثنا هناد بن السريّ، قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال، قال عمر: اللهمّ بيِّنْ لنا في الخمر بيانًا شافيًا! قال: فنزلت الآية التي في"البقرة": (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)، [سورة البقرة: ٢١٩]. قال: فدُعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا! فنزلت الآية التي في"النساء": (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) [سورة النساء: ٤٣]. قال: وكان مُنَادِي النبي ﷺ يُنادي إذا حضرت الصلاة: لا يقربنّ الصلاة السكران! قال: فدُعِي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا! قال: فنزلت الآية التي في"المائدة":"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ" إلى قوله:"فهل أنتم منتهون". فلما انتهى إلى قوله:"فهل أنتم منتهون" قال عمر: انتهينا انتهينا!! (٣)
(١) انظر تفسير"الانتهاء" فيما سلف ٤٨٢، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٢) انظر ما سلف في تحريم الخمر ٤: ٣٣٠-٣٣٦/٨: ٣٧٦، ٣٧٧.
(٣) الأثر: ١٢٥١٢ -"أبو ميسرة" هو: "عمرو بن شرحبيل الهمداني"، سمع عمر، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما من الصحابة. مضى برقم: ٢٨٣٩، ٢٨٤٠، ٩٢٢٨. وهذا الخبر رواه أبو جعفر من خمس طرق، عن أبي إسحق، عن أبي ميسرة.
ورواه أحمد في مسنده رقم: ٣٧٨ من طريق إسرائيل، عن أبي إسحق، بمثله، وأبو داود في سننه ٣: ٤٤٤ رقم: ٣٦٧٠، بمثله، وفيه: "بيانًا شفاء". والنسائي في سننه ٨: ٢٨٦، ٢٨٧، بمثله. والترمذي في سننه في كتاب التفسير من طريق محمد بن يوسف، عن إسرائيل، مرفوعًا، ثم من طريق أبي كريب محمد بن العلاء، عن وكيع. عن إسرائيل، مرسلا. ولكن جاء هنا في رواية هناد بن السري، عن وكيع، مرفوعًا. وقال الترمذي بعد ذكر رواية أبي كريب: "وهذا أصح من حديث محمد بن يوسف"، يعني أنه أصح مرسلا. وانظر ما سيأتي في باقي التخريج.
ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٧٨، من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل بمثله، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
ورواه البيهقي في السنن ٨: ٢٨٥، من طريق عبيد الله بن موسى أيضًا، ومن طريق إسمعيل بن جعفر، عن إسرائيل، بمثله.
ورواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: ٣٩، من طريق محمد بن يوسف، عن إسرائيل، (كطريق الترمذي) وفيه زيادة: "فإنها تذهب العقل والمال"، الآتية في رقم: ١٢٥١٣، وليس في رواية الترمذي.
ورواه الواحدي في أسباب النزول: ١٥٤، من طريق أحمد بن حنبل، عن خلف بن وليد، عن إسرائيل، بمثل ما في المسند.
وخرجه ابن كثير في تفسيره ١: ٤٩٩، ٥٠٠/ ثم ٣: ٢٢٥، وقد صحح أخي السيد أحمد هذا الحديث في المسند رقم: ٣٧٨، ثم قال: "وذكره ابن كثير في التفسير ١: ٤٩٩، ٥٠٠/٣: ٢٢٦ وقال: هكذا رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، من طرق عن أبي إسحق. وكذا رواه ابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق الثوري، عن أبي إسحق، عن أبي ميسرة، واسمه عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفي، عن عمر، وليس له عنه سواه. ولكن قال أبو زرعة: لم يسمع منه. والله أعلم. وقال علي بن المديني: "هذا إسناد صالح صحيح. وصححه الترمذي. وزاد ابن أبي حاتم بعد قوله: انتهينا - إنها تذهب المال وتذهب العقل".
قال أخي السيد أحمد: "وقول أبي زرعة أن أبا ميسرة لم يسمع من عمر، لا أجد له وجهًا. فإن أبا ميسرة لم يذكر بتدليس، وهو تابعي قديم مخضرم، مات سنة ٦٣. وفي طبقات ابن سعد ٦: ٧٣، عن أبي إسحق قال: أوصى أبو ميسرة أخاه الأرقم: لا تؤذن بي أحدًا من الناس، وليصل علي شريح قاضي المسلمين وإمامهم = وشريح الكندي، استقضاه عمر على الكوفة، وأقام على القضاء ستين سنة، فأبو ميسرة أقدم منه".
أقول: ولم يذكر أحد غير أبي زرعة فيما بحثت، أن أبا ميسرة لم يسمع من عمر، بل كلهم ذكر سماعه من عمر.
566
١٢٥١٣ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا أبى، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال، قال عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فإنها تَذْهب بالعقل والمال! = ثم ذكر نحو حديث وكيع. (١)
(١) الأثر: ١٢٥١٣ - هذه الزيادة: "فإنها تذهب العقل والمال"، أشرت إليها في التعليق السالف في رواية أبي جعفر النحاس، وذكرها ابن كثير، من رواية ابن أبي حاتم.
567
١٢٥١٤ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال، قال عمر بن الخطاب: اللهم بيِّن لنا، فذكر نحوه.
١٢٥١٥ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه = وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر بن الخطاب، مثله.
١٢٥١٦ - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير، قال، حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر بن الخطاب، مثله. (١)
١٢٥١٧ - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني أبو معشر المدني، عن محمد بن قيس، قال: لما قدِم رسول الله ﷺ المدينة، أتاه الناس وقد كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسِر، فسألوه عن ذلك، فأنزل الله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمها أكبر من نفعهما) [سورة البقرة: ٢١٩]، فقالوا: هذا شيء قد جاء فيه رخْصة، نأكل الميسر ونشرَب الخمر، ونستغفر من ذلك!. حتى أتى رجلٌ صلاةَ المغرب، فجعل يقرأ: (قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد) [سورة الكافرون]. فجعل لا يجوز ذلك، (٢)
ولا يدري ما يقرأ، فأنزل الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) [سورة النساء: ٤٣]. فكان الناس يشربون الخمرَ، حتى يجيء وقت الصلاة فيدعون شربها، فيأتون الصلاة وهم يعلمون ما يقولون. فلم يزالوا كذلك حتى أنزل الله تعالى ذكره:"إنما
(١) الآثار: ١٢٥١٤ - ١٢٥١٦ - انظر التخريج في رقم: ١٢٥١٢.
(٢) في المطبوعة، والدر المنثور: "لا يجود ذلك" (بتشديد الواو المكسورة)، وفي المخطوطة كما أثبته غير منقوطة، وهو الصواب إن شاء الله.
568
الخمر والميسر والأنصاب والأزلام" إلى قوله:"فهل أنتم منتهون"، فقالوا: انتهينا يا رب! (١)
* * *
وقال آخرون: نزلت هذه الآية بسبب سعد بن أبي وقاص. وذلك أنه كان لاحَى رجلا على شراب لهما، فضربه صاحبه بلَحْيَىْ جمل، ففَزَر أنفه، فنزلت فيهما. (٢)
ذكر الرواية بذلك:
١٢٥١٨ - حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، عن أبيه سعد أنه قال: صنع رجلٌ من الأنصار طعامًا، فَدَعانا. قال: فشربنا الخمرَ حتى انتشينا، فتفاخرت الأنصار وقريش، فقالت الأنصار: نحن أفضلُ منكم! قال: فأخذ رجل من الأنصار لَحْيَى جملٍ فضرب به أنف سعد ففَزَره، فكان سعد أفزَرَ الأنف. قال: فنزلت هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر" إلى آخر الآية. (٣)
(١) الأثر: ١٥٢١٧ - ذكره السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣١٨، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
(٢) "لاحاه يلاحيه ملاحاة ولحاء": إذا نازعه وشاتمه = و"لحي الجمل" (بفتح اللام وسكون الحاء) : وهما"لحيان": وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان من داخل الفم. يقال: لحي الجمل، ولحي الإنسان، وغيرهما. وكان في المطبوعة: "لحي" بالإفراد، وأثبت ما في المخطوطة بالتثنية: "لحيي" = و"فزر الشيء": صدعه. و" فزر أنفه": شقه.
(٣) الأثر: ١٢٥١٨ - رواه أبو جعفر بثلاثة أسانيد. كلها صحيح.
فرواه من هذه الطريق الأولى أحمد في مسنده رقم: ١٥٦٧، ١٦١٤، مطولا. ورواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة في مسنده: ٢٨، رقم: ٢٠٨.
ورواه مسلم من طريق أبي جعفر هذه، عن محمد بن المثنى نفسه (١٥: ١٨٦، ١٨٧) وفيه"وكان أنف سعد مفزورًا"، بخلاف رواية أبي جعفر"أفزر الأنف". ورواه مطولا بغير هذا اللفظ من طريق"الحسن بن موسى، عن زهير، عن سماك".
ورواه البيهقي في السنن ٨: ٢٨٥، من طريق وهب بن جرير، عن شعبة.
ورواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: ٤٠، من طريق زهير، عن سماك.
ورواه الواحدي في أسباب النزول: ١٥٤.
وخرجه ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٣٠، والسيوطي في الدر المنثور ٢: ٣١٥، وقصر في نسبته، وزاد أيضًا نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
وكان في المخطوطة: "صنع رجل من الأنصار فدعانا"، أسقط"طعامًا"، وهي ثابتة في المطبوعة، وفي جميع روايات الخبر. ولذلك أثبتها.
وقوله: "فكان سعد أفرز الأنف"، في جميع الروايات: "مفزور الأنف"، أي مشقوقه، كما سلف في التعليق: ٢، ص٥٦٩ ولم تقيد كتب اللغة: "أفزر الأنف"، على"أفعل". وهذا مما يثبت صحته، وهو جائز في العربية.
569
١٢٥١٩ - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، قال حدثنا شعبة، عن سماك، عن مصعب بن سعد قال، قال سعد: شربتُ مع قوم من الأنصار، فضربت رجلا منهم = أظنّ بفكّ جمل = فكسرته، فأتيت النبي ﷺ فأخبرته، فلم ألبث أن نزل تحريم الخمر:"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر"، إلى آخر الآية. (١)
١٢٥٢٠ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: شربت الخمر مع قوم من الأنصار، فذكر نحوه. (٢)
١٢٥٢١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث، أن ابن شهاب أخبره، أن سالم بن عبد الله حدَّثه: أن أول ما حُرِّمت الخمر، أن سعد بن أبي وقاص وأصحابًا له شربوا فاقتتلوا، فكسروا أنف سعدٍ، فأنزل الله:"إنما الخمر والميسر"، الآية. (٣)
* * *
(١) الأثر: ١٢٥١٩ - في المطبوعة: "قال حدثنا أبو الأحوص، عن سماك"، وهو خطأ لا شك فيه وكان في المخطوطة في آخر الصفحة: "قال حدثنا أبو الأحوص قال" ثم بدأ في الصفحة التالية: "عن سماك... "، فنسى الناسخ في نسخة فأسقط"حدثنا شعبة"، وبدأ: "عن سماك".
(٢) الأثر: ١٢٥٢٠ - هذا الأثر والذي قبلها طريقان أخريان للأثر رقم: ١٢٥١٨، انظر التخريج في التعليق عليه.
(٣) الأثر: ١٢٥٢١ - خرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣١٥، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
570
وقال آخرون: نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار.
ذكر من قال ذلك:
١٢٥٢٢ - حدثنا الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم عن جبر، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شرِبوا. حتى إذا ثملوا، عبث بعضهم على بعض. (١) فلما أن صَحوْا جعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول: فعل بي هذا أخي فلان! = وكانوا إخوة، ليس في قلوبهم ضغائن = والله لو كان بي رءوفًا رحيمًا ما فعل بي هذا! حتى وقعت في قلوبهم ضغائن، (٢) فأنزل الله:"إنما الخمر والميسر" إلى قوله:"فهل أنتم منتهون"! فقال ناس من المتكلِّفين: رجْسٌ في بطن فلانُ قتل يوم بدر، (٣) وقتل فلان يوم أحُدٍ! فأنزل الله: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) [سورة المائدة: ٩٣]، . الآية. (٤)
(١) في المطبوعة: "عبث بعضهم ببعض"، وهكذا جاء في جمبع روايات الأثر، فيما بين يدي من الكتب، ولكنها في المخطوطة كما أثبتها، وهي صحيحة إن شاء الله.
(٢) في المطبوعة: "في قلوبهم الضغائن"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "هي رجس، وهي في بطن فلان"، وهكذا في سائر المراجع، وأثبت ما في المخطوطة، وكأنه صواب أيضا.
(٤) الأثر: ١٢٥٢٢ -"ربيعة بن كلثوم بن جبر الديلي البصري"، روى له مسلم والنسائي، متكلم فيه، وهو ثقة. مضى برقم: ٦٢٤٠. وكان في المطبوعة: "ربيعة بن كلثوم عن جبير، عن أبيه"، وهو خطأ. وفي المخطوطة"ربيعة بن كلثوم عن جبر، عن أبيه"، وهو خطأ أيضًا، وإن كان فيها"جبر" على الصواب. وجاء في المستدرك خطأ"جبير" وهو خطأ يصحح. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/٢٦٦، ولم يذكر فيه جرحًا، وابن أبي حاتم ١/٢/٤٧٧، ٤٧٨، وثقه يحيى بن معين. وفيه عن علي بن المديني، قال: "سمعت يحيى بن سعيد يقول، قلت: "لربيعة بن كلثوم في حديث، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، هو: عن ابن عباس؟ قال: وهل كان يروي سعيد بن جبير إلا عن ابن عباس؟ ".
وأبوه"كلثوم بن جبر بن مؤمل الديلي"، ثقة، وثقه أحمد مضى برقم: ٦٢٤٠، مترجم في التهذيب، والكبير ٤/١/٢٢٧، وابن أبي حاتم ٣/٢/١٦٤.
وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن ٨: ٢٨٥، ٢٨٦، والحاكم في المستدرك ٤: ١٤١، ولم يذكر فيه شيئًا، ولكن قال الذهبي في تعليقه على المستدرك: "قلت: صحيح على شرط مسلم". وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٧: ١٨، وقال: "رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح". ورواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: ٤٠ مختصرًا، بغير إسناد.
وخرجه ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٣٠، من رواية البيهقي في السنن، وقال: "ورواه النسائي في التفسير، عن محمد بن عبد الرحيم صاعقة، عن حجاج بن منهال".
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣١٥. وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
571
١٢٥٢٣ - حدثنا محمد بن خلف قال، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي، عن أبي تميلة، عن سلام مولى حفص بن أبي القاسم، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: بينما نحن قعود على شرابٍ لنا، [ونحن على رَمْلة، ونحن ثلاثة أو أربعة، وعندنا باطِيةٌ لنا]، ونحن نشرب الخمر حِلا إذ قمت حتى آتي رسول الله ﷺ فأسلم عليه، وقد نزل تحريم الخمر:"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصابُ والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان"، إلى آخر الآيتين،"فهل أنتم منتهون"، فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله:"فهل أنتم منتهون"؟ قال: وبعض القوم شربته في يده، قد شرب بعضًا وبقي بعضٌ في الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجّام. ثم صبوا ما في باطيهتهم، فقالوا: انتهينا ربّنا! انتهينا ربَّنا! (١)
* * *
(١) الأثر: ١٢٥٢٣ -"محمد بن خلف بن عمار العسقلاني"، شيخ الطبري، مضى برقم: ١٢٦، ٦٥٣٤.
"سعيد بن محمد بن سعيد الجرمي". كوفي ثقة. روى عنه البخاري ومسلم. قال أبو زرعة: "ذاكرت عنه أحمد بأحاديث، فعرفه" وقال: صدوق، وكان يطلب معنا الحديث". مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/٤٧١، وابن أبي حاتم ٢/١/٥٩.
و"أبو تميلة"، هو: "يحيى بن واضح الأنصاري" مضى مرارًا، آخرها رقم: ٩٠٠٩.
و"سلام، مولى حفص، أبو القاسم الليثي"، مروزي، مترجم في الكبير ٢/٢/١٣٤، وابن أبي حاتم ٢/١/٢٦٢. وقال البخاري في الكبير: "سمع عبد الله بن بريدة، عن أبيه: نزلت في تحريم الخمر"، قاله سعيد الجرمي: سمع يحيى بن واضح، سمع سلاما"، إشارة إلى هذا الخبر. ولم يذكر البخاري فيه جرحًا. وقال المعلق على الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: "وفي الثقات: سلام الليثي، والد أبي عبيد القاسم بن سلام". وكان في المطبوعة هنا: "مولى حفص بن أبي قيس" لا أدري كيف استحل لنفسه تغيير ما كان في المخطوطة صوابًا، إلى خطأ لا ندري ما هو.
و"ابن بريدة"، هو"عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي" قاضي مرو، أخوه: "سليمان بريدة"، كانا توأمين. روى عن أبيه، وابن عباس، وابن عمرو، وابن عمر، وابن مسعود، وغيرهم من الصحابة. تكلم فيه أحمد بن حنبل. قال الجوزجاني: "قلت لأبي عبد الله: سمع عبد الله من أبيه شيئًا؟ قال: ما أدري، عامة ما يروى عن بريدة عنه. وضعف حديثه". ووثقه ابن معين وأبو حاتم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢ / ٢ / ١٣. وكان في المطبوعة"أبي بريدة"، وهو خطأ محض، صوابه في المخطوطة.
وأبوه"بريدة بن الحصيب الأسلمي"، صحابي قديم الإسلام، قبل بدر. استعمله رسول الله ﷺ على صدقات قومه.
وهذا الخبر ذكره ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٣٠، من رواية أبي جعفر، وفيه"عن أبي بريدة" كخطأ المطبوعة. والسيوطي في الدر المنثور ٢: ٣١٥.
والزيادة التي بين القوسين من تفسير ابن كثير، وهو لم ينقل هذا عن غير الطبري، فلذلك زدتها، والظاهر أنها سقطت من ناسخ نسختنا. وإن كان السيوطي قد ذكر الأثر بغير هذه الزيادة.
وقوله: "ونحن على رملة"، يعني، في رملة منبتة مريعة. و"الباطية": ناجود الخمر، وهي إناء عظيم من زجاج، تملأ من الشراب، وتوضع بين الشرب يغرفون منها ويشربون. وقوله: "قال بالإناء"، يعني: أماله ثم نزعه، كفعل الحجام وهو ينزع كأس الحجامة.
572
وقال آخرون: إنما كانت العداوة والبغضاء، كانت تكون بين الذين نزلت فيهم هذه الآية بسبب الميسر، لا بسبب السُّكر الذي يحدث لهم من شرب الخمر. فلذلك نهاهم الله عن الميسر.
ذكر من قال ذلك:
١٢٥٢٤ - حدثنا بشر قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع = قال بشر: وقد سمعته من يزيد وحدثنيه = قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الرجل في الجاهلية يقامِر على أهله وماله، فيقعد حَرِيبًا سليبًا ينظر إلى ماله في يَدَي غيره، (١) فكانت تُورِث بينهم عداوة وبغضاءَ، فنهى الله عن ذلك وقدَّم فيه. والله أعلم بالذي يصلح خلقه. (٢)
* * *
(١) في المطبوعة: "حزينًا سليبًا"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت."حرب الرجل ماله، فهو محروب وحريب": إذا أخذ حريبته، وهو ماله الذي يعيش به، وتركه بلا شيء.
(٢) الأثر: ١٢٥٢٤-"جامع بن حماد"، انظر ما علقته على الأثر رقم: ١٢٣٤٤.
واذكر أن هذا الأثر قد مضى قبل، ولكن خفي علي مكانه.
573
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال، إنّ الله تعالى قد سمَّى هذه الأشياء التي سمّاها في هذه الآية"رجسًا"، وأمر باجتنابها.
وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية، وجائز أن يكون نزولها كان بسبب دُعاء عمر رضى الله عنه في أمر الخمر = وجائز أن يكون ذلك كان بسبب ما نالَ سعدًا من الأنصاري عند انتِشائهما من الشراب = وجائز أن يكون كان من أجل ما كان يلحق أحدَهم عند ذهاب ماله بالقمار من عداوة من يَسَرَه وبغضِه، (١) وليس عندنا بأيِّ ذلك كان، خيرٌ قاطع للعذر. غير أنه أيّ ذلك كان، فقد لزم حكم الآية جميعَ أهل التكليف، وغيرُ ضائرهم الجهل بالسبب الذي له نزلت هذه الآية. فالخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان، فرضٌ على جميع من بلغته الآية من التكليفُ اجتنابُ جميع ذلك، كما قال تعالى:"فاجتنبوه لعلكم تفلحون".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه" ="وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، في اجتنابكم
(١) "يسره"، يعني: غلبه في الميسر، وأخذ ماله. قال الزمخشري: "من المجاز: أسروه، ويسروا ماله. وتياسرت الأهواء قلبه، قال ذو الرمة:
بِتَفْرِيقِ أَظْعَانٍ تيايَسَرْنَ قَلْبَهُ وَخَانَ العَصَا مِنْ عَاجِلِ البَيْنِ قَادِحُ
وهذا اللفظ كما استعمله أبو جعفر، لم تقيده كتب اللغة، ولكن مقالة الزمخشري دالة على صوابه، كما قالوا من"القمار": "قمره".
574
ذلك، واتباعكم أمره فيما أمركم به من الانزجار عما زجَركم عنه من هذه المعانِي التي بيَّنها لكم في هذه الآية وغيرها، وخالِفوا الشيطان في أمره إيّاكم بمعصية الله في ذلك وفي غيره، فإنه إنما يبغي لكم العداوةَ والبغضاءَ بينكم بالخمر والميسر=
"واحذروا"، يقول: واتقوا الله وراقبوه أن يراكم عند ما نهاكم عنه من هذه الأمور التي حرّمها عليكم في هذه الآية وغيرها، أو يفقِدَكم عند ما أمركم به، فتُوبقوا أنفسكم وتهلكوها="فإن توليتم"، يقول: فإن أنتم لم تعملوا بما أمرناكم به، وتنتهوا عما نهيناكم عنه، ورجعتم مدبرين عما أنتم عليه من الإيمان والتصديق بالله وبرسوله، واتباع ما جاءكم به نبيكم (١) ="فاعملوا أنما على رسولنا البلاغُ المبين"، يقول: فاعلموا أنه ليس على من أرسلناه إليكم بالنِّذَارة غير إبلاغكم الرسالة التي أرسل بها إليكم، (٢) مبينةً لكم بيانًا يُوضِّح لكم سبيل الحقّ، والطريقَ الذي أمرتم أن تسلكوه. (٣) وأما العقاب على التولية والانتقام بالمعصية، فعلى المُرْسَل إليه دون الرسل.
وهذا من الله تعالى وعيد لمن تولَّى عن أمره ونهيه. يقول لهم تعالى ذكره: فإن توليتم عن أمري ونهيي، فتوقّعوا عقابي، واحذَرُوا سَخَطي.
* * *
(١) انظر تفسير"التولي" فيما سلف: ٣٩٣، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) "النذارة" (بكسر النون) قال صاحب القاموس: "النذير: الإنذار كالنذارة، بالكسر. وهذه عن الإمام الشافعي رضي الله عنه". انظر رسالة الشافعي ص: ١٤، الفقرة: ٣٥، وتعليق أخي السيد أحمد عليها.
(٣) انظر تفسير"مبين" فيما سلف ٩: ٤٢٨، تعليق: ١، والمراجع هناك.
575
القول في تأويل قوله: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للقوم الذين قالوا= إذْ أنزل الله تحريم الخمر بقوله:"إنما الخمرُ والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه": كيفَ بمن هلك من إخواننا وهم يشربونها؟ وبنا وقد كنّا نشربها؟ = ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم حرج فيما شربوا من ذلك، في الحال التي لم يكن الله تعالى حرَّمه عليهم (١) ="إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات"، يقول: إذا ما اتقى الله الأحياءُ منهم فخافوه، وراقبوه في اجتنابهم ما حرَّم عليهم منه، (٢) وصدَّقوا الله ورسوله فيما أمراهم ونهياهم، فأطاعوهما في ذلك كله="وعملوا الصالحات"، يقول: واكتسبوا من الأعمال ما يرضاه الله في ذلك مما كلفهم بذلك ربُّهم (٣) ="ثم اتقوا وآمنوا"، يقول: ثم خافوا الله وراقبوه باجتنابهم محارِمه بعد ذلك التكليف أيضًا، فثبتوا على اتقاء الله في ذلك والإيمان به، ولم يغيِّروا ولم يبدِّلوا="ثم اتقوا وأحسنوا"، يقول: ثم خافوا الله، فدعاهم خوفُهم الله إلى الإحسان، وذلك"الإحسان"، هو العمل بما لم يفرضه عليهم من الأعمال، ولكنه نوافلُ تقرَّبوا بها إلى رّبهم طلبَ رِضاه، وهربًا من عقابه (٤) ="والله يحب المحسنين"، يقول: والله يحب المتقرِّبين إليه بنوافل الأعمال التي يرضاها.
(١) انظر تفسير"الجناح" ٩: ٢٦٨، تعليق: ٤، والمراجع هناك= وتفسير"طعم" فيما سلف ٥: ٣٤٢.
(٢) انظر تفسير"اتقى" فيما سلف من فهارس اللغة (وقى).
(٣) انظر تفسير"الصالحات" فيما سلف من فهارس اللغة (صلح).
(٤) انظر تفسير"الإحسان" فيما سلف: ٥١٢، تعليق: ١، والمراجع هناك.
576
فالاتقاء الأوّل: هو الاتقاء بتلقِّي أمر الله بالقَبُول والتصديق، والدينونة به والعمَل= والاتقاء الثاني: الاتقاء بالثبات على التصديق، وترك التبديل والتغيير= والاتقاء الثالث: هو الاتقاء بالإحسان، والتقرُّب بنوافل الأعمال.
* * *
فإن قال قائل: ما الدليل على أنّ"الاتقاء" الثالث، هو الاتقاء بالنوافل، دون أن يكون ذلك بالفرائضِ؟
قيل: إنه تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الجناح عن شاربي الخمر التي شربوها قبل تحريمه إيّاها، إذا هم اتقوا الله في شربها بعد تحريمِها، وصدّقوا الله ورسوله في تحريمها، وعملوا الصالحات من الفرائض. ولا وجه لتكرير ذلك وقد مضى ذكرُه في آيةٍ واحدة.
* * *
وبنحو الذي قلنا من أن هذه الآية نزلت فيما ذكرنا أنها نزلت فيه، جاءت الأخبار عن الصَّحابة والتابعين.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٥٢٥ - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزل تحريم الخمر قالوا: يا رسول الله، فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فنزلت:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح"، الآية. (١)
(١) الأثران: ١٢٥٢٥، ١٢٥٢٦- إسنادهما صحيح.
رواه أحمد في مسنده: ٢٠٨٨، ٢٤٥٢، ٢٦٩١ مطولا، ٢٧٧٥.
ورواه الترمذي في السنن (كتاب التفسير)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
ورواه الحاكم في المستدرك ٤: ١٤٣، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وقال: "صحيح".
وذكره ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٣٣، من حديث أحمد في المسند.
وذكره السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٢٠، وزاد نسبته إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان.
577
١٢٥٢٦ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل بإسناده، نحوه.
١٢٥٢٧- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثني عبد الكبير بن عبد المجيد قال، أخبرنا عباد بن راشد، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: بينَا أنا أدير الكأس على أبي طلحة، وأبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسهيل بن بيضاء، وأبي دجانة، حتى مالت رءوسهم من خَليط بُسْرٍ وتمر. (١) فسمعنا مناديًا ينادي: ألا إنّ الخمر قد حُرِّمت! قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج، حتى أهرقنا الشراب، وكسرنا القِلال، (٢) وتوضأ بعضنا، واغتسل بعضنا، فأصبْنَا من طِيب أمِّ سليم، ثم خرجنا إلى المسجد، وإذا رسول الله ﷺ يقرأ:"يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون"، إلى قوله:"فهل أنتم منتهون". فقال رجل: يا رسول الله، فما منزلةُ من مات منا وهو يشربها؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا" الآية، فقال رجل لقتادة: سمعتَه من أنس بن مالك؟ قال: نعم! قال رجل لأنس بن مالك: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم! وحدّثني من لم يكذب، والله ما كنا نكذب، ولا ندري ما الكذب! (٣)
(١) "البسر" (بضم الباء وسكون السين) : التمر قبل أن يرطب، وهو ما لون منه ولم ينضج، فإذا نضج فقد أرطب.
(٢) "القلال" جمع"قلة" (بضم القاف) : وهي الجرة الكبيرة.
(٣) الأثر: ١٢٥٢٧-"عبد الكبير بن عبد المجيد الحنفي البصري"، ثقة. مضى برقم: ٦٨٢٢، ١٠٣١٧.
و"عباد بن راشد التميمي"، قال أحمد: "ثقة صدوق"، وضعفه يحيى بن معين، وتركه يحيى القطان. روى له البخاري مقرونًا بغيره. ومضى برقم ١١٠٦٠.
و"أم سليم" المذكورة في الخبر، هي: "أم سليم بنت ملحان الأنصارية"، لها صحبة، وهي والدة أنس بن مالك، وزوج أبي طلحة الأنصاري، خطبها أبو طلحة وهو مشرك، فأبت عليه إلا أن يسلم، فأسلم.
وذكر هذا الخبر ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٢٨، ولم ينسبه لغير ابن جرير، وكذلك السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٢٠.
وخبر أنس هذا، رواه البخاري من طريق أخرى بغير هذا اللفظ (الفتح ٨: ٢٠٩). ومسلم في صحيحه بغير هذا اللفظ من طرق ١٣: ١٤٨-١٥١. والنسائي في السنن ٨: ٢٨٧، ٢٨٨.
578
١٢٥٢٨ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: لما حرمت الخمر قالوا: كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فنزلت:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، الآية. (١)
١٢٥٢٩- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال، قال البراء: مات ناسٌ من أصحاب رسول الله ﷺ وهم يشربون الخمر، فلما نزل تحريمها، قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فنزلت هذه الآية:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات"، الآية. (٢)
١٢٥٣٠- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا داود، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: نزلت:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات
(١) الأثران: ١٢٥٢٨، ١٢٥٢٩- رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: ٩٧، رقم: ٧١٥، من طريق شعبة، به.
ورواه الترمذي في السنن (كتاب التفسير) من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحق (طريق أبي جعفر رقم: ١٢٥٢٨)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح". ثم رواه من طريق: "محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة" (طريق أبي جعفر رقم: ١٢٥٢٩)، ثم قال: "هذا حديث حسن صحيح".
وخرجه ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٣١، من مسند أبي داود الطيالسي.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٢٠، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
(٢) الأثران: ١٢٥٢٨، ١٢٥٢٩- رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: ٩٧، رقم: ٧١٥، من طريق شعبة، به.
ورواه الترمذي في السنن (كتاب التفسير) من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحق (طريق أبي جعفر رقم: ١٢٥٢٨)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح". ثم رواه من طريق: "محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة" (طريق أبي جعفر رقم: ١٢٥٢٩)، ثم قال: "هذا حديث حسن صحيح".
وخرجه ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٣١، من مسند أبي داود الطيالسي.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٢٠، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
579
جناح فيما طعموا"، فيمن قُتِل ببدر وأحُدٍ مع محمد صلى الله عليه وسلم.
١٢٥٣١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثنا علي ابن مسهر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نزلت:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قيل لي: أنت منهم. (١)
١٢٥٣٢ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، إلى قوله:"والله يحب المحسنين"، لما أنزل الله تعالى ذكره تحريم الخمر في"سورة المائدة"، بعد"سورة الأحزاب"، (٢) قال في ذلك
(١) الأثر: ١٢٥٣١-"خالد بن مخلد القطواني" ثقة، مضى برقم ٢٢٠٦، ٤٥٧٧، ٨١٦٦، ٨٣٩٧.
و"علي بن مسهر القرشي"، ثقة، مضى برقم: ٤٤٥٣، ٥٧٧٧.
وهذا الخبر، رواه مسلم في صحيحه (١٦: ١٤) من طرق، عن علي بن مسهر، عن الأعمش، بمثله.
ورواه الترمذي من طريق سفيان بن وكيع، عن خالد بن مخلد، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
ورواه الحاكم في المستدرك ٤: ١٤٣، ١٤٤، من طريق سليمان بن قرم، عن الأعمش، بزيادة في لفظه، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وإنما اتفقا على حديث شعبة، عن أبي إسحق، عن البراء، مختصر هذا المعنى"، ولم أجده حديث البراء في الصحيحين، كما قال الحاكم. وأما الذهبي فلم يزد في تعليقه على المستدرك إلا أن قال: "صحيح". ولم أجد من نسب حديث البراء إلى الشيخين، وهو الذي مضى برقم: ١٢٥٢٨، ١٢٥٢٩. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٧: ١٨، بمثل لفظ الحاكم في المستدرك، ثم قال: "في الصحيح بعضه، رواه الطبراني، ورجاله ثقات". وهذا هو الصحيح لا ما قال الحاكم.
وخرجه ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٣٣ وقال: "رواه مسلم، والترمذي، والنسائي من طريقه".
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٢١، في موضعين، قال في مثل لفظ الحاكم: "أخرجه الطبراني، وابن مردويه، والحاكم وصححه". ثم رواه مختصرًا كرواية أبي جعفر، ونسبه إلى مسلم، والترمذي والنسائي، وابن مردويه، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(٢) قوله: "بعد سورة الأحزاب"، كأنه يعني بعد نزول سورة الأحزاب، وليس في سورة الأحزاب ذكر تحريم الخمر، وكأنه عنى بذلك"بعد غزوة الأحزاب"، وأخشى أن يكون قوله: "سورة الأحزاب"، سهوا من الناسخ، والصواب"غزوة الأحزاب"، ولكن هكذا جاء في الدر المنثور أيضًا ٢: ٣٢١، ونسب الخبر، لعبد بن حميد، وابن جرير.
580
رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصيب فلانٌ يوم بدر، وفلانٌ يوم أحد، وهم يشربونها! فنحن نشهد أنهم من أهل الجنة! فأنزل الله تعالى ذكره:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين"، يقول: شربها القومُ على تقوى من الله وإحسانٍ، وهي لهم يومئذ حلال، ثم حرِّمت بعدهم، فلا جناح عليهم في ذلك.
١٢٥٣٣- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، قالوا: يا رسول الله، ما نقول لإخواننا الذين مضوا؟ كانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر! فأنزل الله:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، يعني قبل التحريم، إذا كانوا محسنين متقين= وقال مرة أخرى:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا" من الحرام قبل أن يحرَّم عليهم="إذا ما اتقوا وأحسنوا"، بعد ما حُرِّم، وهو قوله: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ)، [سورة البقرة: ٢٧٥].
١٢٥٣٤- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، يعني بذلك رجالا من أصحاب النبي ﷺ ماتوا وهم يشربون الخمر قبل أن تحرَّم الخمر، فلم يكن عليهم فيها جناح قبلَ أن تحرَّم. فلما حرِّمت قالوا: كيف تكون علينا حرامًا، وقد مات إخواننا وهم يشربونها؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا
581
ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات"، يقول: ليس عليهم حرج فيما كانوا يشربون قبل أن أحرِّمها، إذا كانوا محسنين متقين="والله يحب المحسنين".
١٢٥٣٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا"، لمن كان يشرب الخمرَ ممن قتل مع محمد ﷺ ببدرٍ وأحُدٍ.
١٢٥٣٦ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح"، الآية، هذا في شأن الخمر حين حرِّمت، سألوا نبيَّ الله ﷺ فقالوا: إخواننا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله="ليبلونّكم الله بشيء من الصيد"، يقول: ليختبرنكم الله (١) ="بشيء من الصيد"، يعني: ببعض الصيد.
وإنما أخبرهم تعالى ذكره أنه يبلوهم بشيء، لأنه لم يبلُهم بصيد البحر، وإنما ابتلاهم بصيد البرّ، فالابتلاء ببعض لا بجميع. (٢)
* * *
(١) انظر تفسير"بلا" فيما سلف: ٣٨٩، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) في المطبوعة: "فالابتلاء ببعض لم يمتنع"، وهو كلام فارغ من كل معنى. وفي المخطوطة: "فالابتلاء ببعض لا يخشع"، أساء الناسخ، الكتابة، فأساء الناشر التصرف. وصواب العبارة ما أثبت، لأن أبا جعفر أراد أن يقول إن قوله تعالى: "بشيء من الصيد"، هو صيد البر خاصة، دون صيد البحر، ولم يعم الصيد جميعه بالتحريم. وهذا بين جدًا فيما سيأتي بعد في تفسير هذه الآيات. فصح ما أثبته من قراءة المخطوطة السيئة الكتابة.
582
وقوله:"تناله أيديكم"، فإنه يعني: إما باليد، كالبيض والفراخ= وإما بإصابة النَّبْل والرماح، وذلك كالحمر والبقر والظباء، فيمتحنكم به في حال إحرامكم بعمرتكم أو بحجّكم.
* * *
وبنحو ذلك قالت جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
١٢٥٣٧ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم"، قال:"أيديكم"، صغارُ الصَّيد، أخذ الفراخ والبيض= و"الرماح" قال: كبارُ الصيد.
١٢٥٣٨ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن داود، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
١٢٥٣٩- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"تناله أيديكم ورماحكم"، قال: النَّبْل="رماحكم"، تنال كبير الصيد، (١) ="وأيديكم"، تنال صغير الصيد، أخذ الفرخ والبيض.
١٢٥٤٠ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي=، عن سفيان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد في قوله:"ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم"، قال: ما لا يستطيع أن يفرَّ من الصيد.
(١) في المطبوعة: "قال:
583
١٢٥٤١ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد. وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، مثله.
١٢٥٤٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أيديكم ورماحكم"، قال: هو الضعيف من الصيد وصغيره، يبتلي الله تعالى ذكره به عباده في إحرامهم، حتى لو شاءوا نالوه بأيديهم. فنهاهم الله أن يقرَبوه.
١٢٥٤٣ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري، عن حميد الأعرج، وليث، عن مجاهد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم"، قال: الفراخ والبيض، وما لا يستطيع أن يفّر.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٩٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ليختبرنكم الله، أيها المؤمنون، ببعض الصيد في حال إحرامكم، كي يعلم أهلَ طاعة الله والإيمان به، والمنتهين إلى حدوده وأمره ونهيه، (١) ومن الذي يخاف الله فيتقي ما نهاه عنه، (٢) ويجتنبه خوف عقابه="بالغيب"، بمعنى: في الدنيا، بحيث لا يراه. (٣).
* * *
وقد بينا أن"الغيب"، إنما هو مصدر قول القائل:"غاب عنّى هذا الأمر
(١) في المطبوعة: "والمنتهون إلى حدوده"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة.
(٢) انظر تفسير"الخوف" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٣) يعني أبو جعفر، بحيث لا يرى العقاب عيانًا في الدنيا، كما يراه عيانًا في الآخرة.
584
فهو يغيب غَيْبًا وغَيْبَةً"، وأنّ ما لم يُعَاين، فإن العرب تسميه"غَيْبًا". (١)
* * *
فتأويل الكلام إذًا: ليعلم أولياء الله من يخافُ الله فيتقي محارمَه التي حرمها عليه من الصيد وغيره، بحيث لا يراه ولا يُعاينه.
* * *
وأما قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك"، فإنه يعني: فمن تجاوز حدَّ الله الذي حدّه له، (٢) بعد ابتلائه بتحريم الصيد عليه وهو حرام، فاستحلَّ ما حرَّم الله عليه منه بأخذِه وقتله="فله عذابٌ، من الله="أليم"، يعني: مؤلم موجع. (٣)
* * *
(١) انظر تفسير"الغيب" فيما سلف ١: ٢٣٦، ٢٣٧ / ٦: ٤٠٥.
(٢) انظر تفسير"اعتدى" فيما سلف من فهارس اللغة (عدا).
(٣) انظر تفسير"أليم" فيما سلف من فهارس اللغة (ألم).
585
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله="لا تقتلوا الصيد"، الذي بينت لكم، وهو صيد البر دون صيد البحر="وأنتم حرم"، يقول: وأنتم محرمون بحج أو عمرة.
* * *
و"الحرم"، جمع"حَرَام"، والذكر والأنثى فيه بلفظ واحد. تقول:"هذا رجل حرام" و"هذه امرأة حرَام". فإذا قيل:"محرم"، قيل للمرأة:"محرمة". و"الإحرام"، هو الدخول فيه، يقال:"أحرَم القوم"، إذا دخلوا في الشهر الحرام، أو في الحَرَم.
* * *
فتأويل الكلام: لا تقتلوا الصيدَ وأنتم محرمون بحجّ أو عمرة.
* * *
وقوله:"ومن قتله منكم متعمدًا"، فإن هذا إعلام من الله تعالى ذكره عبادَه حكمَ القاتل من المحرمين الصيدَ الذي نهاه عن قتله متعمدًا. (١)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة"العَمْد" الذي أوجب الله على صاحبه به الكفارةَ والجزاء في قتله الصيد.
(١) انظر تفسير"التعمد" فيما سلف ٩: ٥٧.
7
فقال بعضهم: هو العمد لقتل الصيد، مع نسيان قاتله إحرامَه في حال قتله. وقال: إن قتله وهو ذاكر إحرامه متعمدًا قتله، فلا حكم عليه، وأمره إلى الله.
قالوا: وهذا أجلُّ أمرًا من أن يحكم عليه، أو يكونَ له كفارة.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٥٤٤ - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم"، من قتله منكم ناسيًا لإحرامه، متعمدًا لقتله، فذلك الذي يحكم عليه. فإن قتله ذاكرًا لحُرْمه، (١) متعمدًا لقتله، لم يحكم عليه.
١٢٥٤٥ - حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، في الذي يقتل الصيد متعمدًا وهو يعلم أنه محرم، ويتعمد قتله، (٢) قال: لا يحكم عليه، ولا حج له. وقوله:"ومن قتله منكم متعمدًا"، قال: هو العمد المكفر، وفيه الكفارة والخطأ، أن يصيبَه وهو ناس لإحرامه، متعمدًا لقتله = أو يصيبه وهو يريد غيره. فذلك يحكم عليه مرة. (٣)
١٢٥٤٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدًا"، غير ناس لحُرْمه (٤) ولا مريدٍ غيرَه، فقد حلّ، وليست له رخصة. ومن قتله ناسيًا، أو أراد غيره فأخطأ به، فذلك العمدُ المكفَّر.
١٢٥٤٧ - حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"ومن قتله منكم متعمدًا"، قال: متعمدًا لقتله، ناسيًا لإحرامه.
(١) في المخطوطة"ذاكرا" في آخر السطر وفي أوله: "الحرمه" وصواب قراءتها ما في المطبوعة. و"الحرم" (بضم الحاء وسكون الراء) : الإحرام بالحج.
(٢) في المطبوعة: "ومتعمد قتله" والصواب من المخطوطة.
(٣) قوله: "مرة" يعني مرة واحدة فإن عاد لم يحكم عليه، ومن عاد فينتقم الله منه.
(٤) "الحرم" (بضم فسكون) مضى تفسيره في التعليق رقم: ١.
8
١٢٥٤٨- حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا الفضيل بن عياض، عن ليث، عن مجاهد قال: العمد هو الخطأ المكفَّر.
١٢٥٤٩ - حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا يونس بن محمد قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا ليث قال، قال مجاهد: قول الله:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم"، قال: فالعمد الذي ذكر الله تعالى ذكره: أن يصيب الصيدَ وهو يريد غيره فيصيبه، فهذا العمد المكفَّر، فأما الذي يصيبه غيرَ ناس ولا مريد لغيره، فهذا لا يحكم عليه. هذا أجلُّ من أن يحكم عليه. (١)
١٢٥٥٠- حدثنا ابن وكيع، ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الهيثم، عن الحكم، عن مجاهد: أنه قال في هذه الآية:"ومن قتله منكم متعمدًا"، قال: يقتله متعمدًا لقتله، ناسيًا لإحرامه.
١٢٥٥١- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي قال، حدثنا شعبة، عن الهيثم، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.
١٢٥٥٢ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، قال ابن جريج"ومن قتله منكم متعمدًا"، غير ناس لحُرْمه ولا مريدٍ غيرَه، فقد حلَّ، وليست له رخصة. ومن قتله ناسيًا لحرمه، أو أراد غيره فأخطأ به، فذلك العمد المكفَّر.
١٢٥٥٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن:"ومن قتله منكم متعمدًا"، للصيد، ناسيًا لإحرامه ="فمن اعتدى بعد ذلك"، متعمدًا للصيد يذكرُ إحرامه. (٢)
١٢٥٥٤ - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن أبي عدي قال، حدثنا إسماعيل بن مسلم قال: كان الحسن يفتي فيمن قتل الصيد متعمدًا ذاكرًا
(١) الأثر: ١٢٥٤٩-"يونس بن محمد بن مسلم البغدادي" الحافظ مضى برقم: ٥٠٩٠.
(٢) الأثر: ١٢٥٥٣-"سهل بن يوسف الأنماطي" مضى في مثل هذا الإسناد رقم: ١٠٦٤٨.
9
لإحرامه: لم يحكم عليه = قال إسماعيل: وقال حماد، عن إبراهيم، مثل ذلك.
١٢٥٥٥ - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عفان بن مسلم قال، حدثنا حماد بن سلمة قال: أمرني جعفر بن أبي وحشية أن أسأل عمرو بن دينار عن هذه الآية:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم"، الآية، فسألته، فقال: كان عطاء يقول: هو بالخيار، أيَّ ذلك شاء فعل، إن شاء أهدى، وإن شاء أطعم، وإن شاء صام. فأخبرت به جعفرًا وقلت: ما سمعت فيه؟ فتلكأ ساعة، ثم جعل يضحك ولا يخبرني، ثم قال: كان سعيد بن جبير يقول: يحكم عليه من النعم هديًا بالغ الكعبة، وإنما جُعل الطعام والصيام [كفارة]، فهذا لا يبلغُ ثمن الهدي، (١) والصيام فيه من ثلاثة أيام إلى عشرة.
١٢٥٥٦ - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، أخبرني ابن جريج قال، قال مجاهد:"ومن قتله منكم متعمدًا"، غير ناس لحُرْمه، ولا مريدٍ غيره، فقد حلّ، وليست له رخصة. ومن قتله ناسيًا، أو أراد غيره فأخطأ به، فذلك العمد المكفَّر.
١٢٥٥٧- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: أما الذي يتعمد فيه للصيد وهو ناس لحرمه، أو جاهل أنّ قتله غيرُ محرَّم، فهؤلاء الذين يحكم عليهم. فأما من قتله متعمدًا بعد نهي الله، وهو يعرف أنه مُحْرِم، وأنه حرام، فذلك يوكَل إلى نقمة الله، وذلك الذي جعل الله عليه النقمة.
١٢٥٥٨- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"ومن قتله منكم متعمدًا"، قال: متعمدًا لقتله، ناسيًا لإحرامه.
* * *
(١) في المطبوعة: "... هديًا بالغ الكعبة فإن لم يجد يحكم عليه ثمنه، فقوم طعامًا، فتصدق به، فإن لم يجد حكم عليه الصيام فيه من ثلاثة أيام إلى عشرة" غير ما كان في المخطوطة كل التغيير. والذي كان في المخطوطة هو ما أثبته حاشى الزيادة التي بين القوسين زدتها استظهارا من سياق الآية ليستقيم الكلام. وقوله: "فهذا لا يبلغ ثمن الهدي" كأنه يعني إطعام المساكين. والجملة بعد ذلك تحتاج إلى فضل تأمل، ولم أجد الخبر في مكان غير هذا المكان.
10
وقال آخرون: بل ذلك هو العمد من المحرِم لقتل الصيد، ذاكرًا لحُرْمه.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٥٥٩ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان.
١٢٥٦٠- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا ابن جريج = وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم عن، ابن جريج قال، قال طاوس: والله ما قال الله إلا"ومن قتله منكم متعمدًا".
١٢٥٦١ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرني بعض أصحابنا، عن الزهري أنه قال: نزل القرآن بالعَمْد، وجرت السنة في الخطأ= يعني: في المحرم يصيب الصيدَ.
١٢٥٦٢- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم"، قال: إن قتله متعمدًا أو ناسيًا، حكم عليه. وإن عاد متعمدًا عُجِّلت له العقوبة، إلا أن يعفو الله.
١٢٥٦٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير قال: إنما جعلت الكفارة في العمد، ولكن غُلِّظ عليهم في الخطأ كي يتقوا.
١٢٥٦٤ - حدثنا عمرو بن على قال، حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، نحوه.
١٢٥٦٥ - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، خبرنا ابن جريج قال: كان طاوس يقول: والله ما قال الله إلا"ومن قتله منكم متعمدًا".
* * *
11
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره حرّم قتل صيد البر على كل محرِم في حال إحرامه ما دام حرامًا بقوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد" ثم بيَّن حكم من قتل ما قتل من ذلك في حال إحرامه متعمدًا لقتله، ولم يخصص به المتعمِّد قتلَه في حال نسيانه إحرامَه، ولا المخطئَ في قتله في حال ذكره إحرامَه، بل عمَّ في التنزيل بإيجاب الجزاء، كلَّ قاتل صيد في حال إحرامه متعمدًا. (١) وغير جائز إحالة ظاهر التنزيل إلى باطن من التأويل لا دلالة عليه من نصّ كتاب، ولا خبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، (٢) ولا إجماع من الأمة. ولا دلالةَ من بعض هذه الوجوه.
فإذْ كان ذلك كذلك، فسواءٌ كان قاتل الصيد من المحرمين عامدًا قتلَه ذاكرًا لإحرامه، أو عامدًا قتله ناسيًا لإحرامه، أو قاصدًا غيره فقتله ذاكرًا لإحرامه = في أن على جميعهم من الجزاء ما قال ربنا تعالى ذكره، وهو: مثلُ ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل من المسلمين، أو كفارة طعامُ مساكين، أو عدل ذلك صيامًا.
* * *
وهذا قول عطاء والزهري الذي ذكرناه عنهما، (٣) دون القول الذي قاله مجاهد. (٤)
وأما ما يلزم بالخطأ قاتله، فقد بيّنا القول فيه في كتابنا: (كتاب لطيف القول في أحكام الشرائع)، بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع. وليس هذا الموضع موضع ذكره، لأن قصدنا في هذا الكتاب الإبانة عن تأويل التنزيل، وليس في التنزيل للخطإ ذكر، فنذكر أحكامه.
* * *
(١) السياق: "بل عم... كل قاتل صيد""كل" مفعول: "عم".
(٢) في المخطوطة: "من كتاب نص ولا خبر الرسول صلى الله عليه وسلم". وما في المطبوعة أحسن في السياق.
(٣) يعني رقم: ١٢٥٥٩، ١٢٥٦١.
(٤) يعني رقم: ١٢٥٤٤- ١٢٥٥١ ورقم: ١٢٥٥٦، ١٢٥٥٨.
12
وأما قوله:"فجزاء مثلُ ما قتل من النعم"، فإنه يقول: وعليه كِفاءٌ وبَدل، (١) يعني بذلك: جزاء الصيد المقتول. يقول تعالى ذكره: فعلى قاتل الصيد جزاء الصيد المقتول، مثل ما قتل من النعم. (٢)
* * *
وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: (فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم).
* * *
وقد اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة المدينة وبعض البصريين: (فَجَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم)، بإضافة"الجزاء" إلى"المثل" وخفض"المثل".
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (فجزاء مثل ما قتل) بتنوين"الجزاء" ورفع"المثل"، بتأويل: فعليه جزاءٌ مثلُ ما قتل.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب، قراءة من قرأ: (فجزاء مثل ما قتل) بتنوين"الجزاء" ورفع"المثل"، لأن الجزاء هو المثل، فلا وجه لإضافة الشيء إلى نفسه.
وأحسب أن الذين قرءوا ذلك بالإضافة، رأوا أن الواجبَ على قاتل الصيد أن يَجْزِي مثله من الصيد بمثلٍ من النعم. وليس ذلك كالذي ذهبوا إليه، بل الواجب على قاتله أن يجزي المقتولَ نظيره من النعم. وإذ كان ذلك كذلك، فالمثل هو الجزاء الذي أوجبه الله تعالى ذكره على قاتل الصيد، ولن يضاف الشيء إلى نفسه. (٣)
(١) في المطبوعة: "كفارة وبدل" والصواب من المخطوطة. و"كفاء الشيء" (بكسر الكاف) : مثله ونظيره من قولهم: "كافأه على الشيء مكافأة وكفاء": جزاه.
(٢) انظر تفسير"الجزاء" فيما سلف ٢: ٢٧، ٢٨، ٣١٤/٦: ٥٧٦/٧: ٢٢٧٩: ٥٧.
(٣) في المطبوعة: "ولن يضاف... " وهو غير جيد، وفي المخطوطة: "فإن يضاف" ورجحت أن يكون صوابها ما أثبت.
13
ولذلك لم يقرأ ذلك قارئ علمناه، بالتنوين ونصب"المثل". (١) ولو كان"المثل" غير"الجزاء" لجاز في المثل النصب إذا نوِّن"الجزاء"، كما نصب"اليتيم" إذ كان غير"الإطعام" في قوله: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ [سورة البلد: ١٤، ١٥] وكما نصب"الأموات""والأحياء"، ونون"الكِفَات" في قوله: أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [سورة المرسلات: ٢٥، ٢٦]، إذ كان"الكفات" غير"الأحياء""والأموات". وكذلك الجزاء لو كان غير"المثل"، لاتسعت القراءة في"المثل" بالنصب إذا نون"الجزاء". ولكن ذلك ضاق، فلم يقرأه أحد بتنوين"الجزاء" ونصب"المثل"، إذ كان"المثل" هو"الجزاء"، وكان معنى الكلام: ومن قتله منكم متعمدًا فعليه جزاءٌ هو مثلُ ما قتل من النعم. (٢)
* * *
ثم اختلف أهل العلم في صفة"الجزاء"، وكيف يجزي قاتلُ الصيد من المحرمين ما قتل بمثله من النعم. (٣).
فقال بعضهم: ينظر إلى أشبه الأشياء به شبهًا من النعم، فيجزيه به، ويهديه إلى الكعبة.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٥٦٦ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قال: أما"جزاء مثل ما قتل من النعم" فإن قتل نعامة أو حمارًا
(١) بل روى ذلك أبو الفتح ابن جني في كتابه"المحتسب" ونسبها لأبي عبد الرحمن يعني السلمي فيما أرجح. وذكرها ابن خالويه في شواذ القراءات ص: ٣٤ ونسبها إلى محمد بن مقاتل وإن كان ما في المطبوع: "فجزاء مث" بنصب"جزاء" والصواب بنصب"مثل".
(٢) في المخطوطة: "هو ما قتل من النعم" والصواب ما في المطبوعة.
(٣) في المطبوعة: "بمثله من النعم" وفي المخطوطة: "مثل من النعم" فرأيت قراءتها كما أثبتها.
14
فعليه بَدَنة. وإن قتل بقرة أو أيِّلا أو أرْوَى (١) فعليه بقرة. أو قتل غزالا أو أرنبًا فعليه شاة. وإن قتل ضبًّا أو حرباءَ أو يَرْبوعًا، فعليه سَخْلة قد أكلت العُشب وشربت اللبن. (٢)
١٢٥٦٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن ابن مجاهد قال، سئل عطاء: أيغَرم في صغير الصيد كما يغرم في كبيره؟ قال: أليس يقول الله تعالى ذكره:"فجزاء مثل ما قتل من النعم"؟ (٣)
١٢٥٦٨ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال مجاهد:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قال: عليه من النعم مثله.
١٢٥٦٩ - حدثنا هناد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قال: إذا أصاب المحرم الصيدَ، وجب عليه جزاؤه من النعم. فإن وجد جزاءه ذبَحه فتصدق به، فإن لم يجد جزاءه قوَّم الجزاء دراهم، ثم قوم الدراهمَ حِنطة، ثم صام مكان كل نصف صاع يومًا. قال: وإنما أريد بالطعام الصوم، فإذا وجد طعامًا وجد جزاءً.
١٢٥٧٠ - حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس:"فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به
(١) "الأيل" (بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة) : وهو ذكر الوعول. و"الأروى" إناث الوعول وهو اسم لجمعها واحدتها"أروية" (بضم الهمزة وسكون الراء والواو مكسورة والياء مشددة مفتوحة). وجاء بها هنا وهو يعني"الأروية".
(٢) "السخلة" (بفتح فسكون) : ولد الشاة من المعز والضأن ذكرا كان أو أنثى.
(٣) الأثر: ١٢٥٦٧-"هرون بن المغيرة بن حكيم البجلي" مضى برقم: ٣٣٥٦، ٥٥٢٦.
وأما "ابن مجاهد" فلم أستطع أن أعرف من هو، وكان في المطبوعة: "أبي مجاهد" وأثبت ما في المخطوطة وكأنه الصواب، وإن أعياني أن أعرف صدر اسمه.
15
ذوا عدل منكم هديًا بالغَ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا"، قال: إذا أصاب المحرم الصيد، حكم عليه جزاؤه من النعم. فإن لم يجد، نظر كم ثمنه = قال ابن حميد: نظر كم قيمته = فقوّم عليه ثمنه طعامًا، فصام مكان كل نصف صاع يومًا="أو كفارة طعام مساكين، أو عدلُ ذلك صيامًا"، قال: إنما أريد بالطعام الصيام، فإذا وجد الطعام وَجد جزاءه.
١٢٥٧١ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم" فإن لم يجد هديًا، قُوِّم الهدي عليه طعامًا، وصام عن كل صاع يومين.
١٢٥٧٢- حدثنا هناد قال، حدثنا عبد بن حميد، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في هذه الآية:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة"، قال: إذا أصاب الرجل الصيد حكم عليه، فإن لم يكن عنده قوم عليه ثمنه طعامًا، ثم صام لكل نصف صاع يومًا.
١٢٥٧٣ - حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال: ابتدرت وصاحبٌ لي ظبيًا في العقبة، فأصبته، فأتيت عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له، فأقبل علي رجل إلى جنبه، فنظرا في ذلك قال فقال: اذبح كبشًا. (١)
(١) الأثر: ١٢٥٧٣-"عبد الملك بن عمير بن سويد القرشي" المعروف بالقبطي و"ابن القبطية". رأى عليا وأبا موسى. مترجم في التهذيب.
و"قبيصة بن جابر بن وهب الأسدي" روى عن عمر وشهد خطبته بالجابية ثقة في فقهاء الطبقة الأولى من فقهاء أهل الكوفة بعد الصحابة. مترجم في التهذيب.
هذا وخبر قبيصة بن جابر سيرويه أبو جعفر من طرق من رقم: ١٢٥٧٣- ١٢٥٧٧ن ثم: ١٢٥٨٦- ١٥٢٨٨ بألفاظ مختلفة. ورواه البيهقي في السنن الكبرى ٥: ١٨١ من طريق سفيان، عن عبد الملك بن عمير ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الملك.
ونقله ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٣٧، ٢٣٨ وهو رقم: ١٢٥٨٨ عن هذا الموضع من تفسير أبي جعفر وأشار إلى بعض طرقه هنا. وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٢٩ بنحو من لفظ رقم: ١٢٥٨٨ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم قال: "وصححه" ولم أجده في مظنته من المستدرك للحاكم.
16
١٢٥٧٤ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن الشعبي قال: أخبرني قبيصة بن جابر، نحوا مما حدَّث به عبد الملك.
١٢٥٧٥ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن المسعودي، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال: قتل صاحب لي ظبيًا وهو محرم، فأمره عمر أن يذبح شاة فيتصدق بلحمها ويُسْقي إهابها. (١)
١٢٥٧٦ - حدثني هناد قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن داود بن أبي هند، عن بكر بن عبد الله المزني قال: قتل رجلٌ من الأعراب وهو محرم ظبيًا، فسأل عمر، فقال له عمر: اهدِ شاة. (٢)
١٢٥٧٧ - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن حصين= وحدثنا أبو هشام الرفاعي قال: حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا حصين= عن الشعبي قال، قال قبيصة بن جابر: أصبت ظبيًا وأنا محرم، فأتيت عمر فسألته عن ذلك، فأرسل إلى عبد الرحمن بن عوف. فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ أمرَه أهون من ذلك! قال: فضربني بالدِّرّة حتى سابقته عدوًا! (٣) قال: ثم قال: قتلتَ الصيد وأنتَ محرم، ثم تَغْمِص الفُتيا! (٤) قال: فجاء عبد الرحمن، فحكما شاة.
(١) الأثر: ١٢٥٧٥- هو مختصر الأثر رقم: ١٢٥٨٨ وسيأتي تفسير"يسقى إهابها" في التعليق عليه هناك.
(٢) الأثر: ١٢٥٧٦- هذا خبر مرسل عن عمر"بكر بن عبد الله المزني" لم يسمع من عمر. ولكنها قصة قبيصة بن جابر التي ذكرها قبل.
(٣) "الدرة" (بكسر الدال) : عصا قصيرة يحملها السلطان او غيره يدب بها. ودرة أمير المؤمنين عمر أشهر درة في التاريخ.
(٤) "غمص الشيء يغمصه غمصا": حقره واستصغره واستهان به. يعني: اتحتقر الفتيا وتستهين بها وتزدريها؟
17
١٢٥٧٨ - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم"، قال: إذا قتل المحرم شيئًا من الصيد حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجد، فإطعام ستة مساكين. فإن لم يجد، فصيام ثلاثة أيام. فإن قتل أيِّلا أو نحوه، فعليه بقرة. وإن قتل نعامة أو حمارَ وحش أو نحوه، فعليه بدنة من الإبل.
١٢٥٧٩ - حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا أبو عاصم قال: أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: أرأيت إن قتلتُ صيدًا فإذا هو أعور، أو أعرج، أو منقوص، أغرم مثله؟ قال: نعم، إن شئت. قلت: أوْفَي أحبُّ إليك؟ قال: نعم. وقال عطاء: وإن قتلت ولدَ الظبي، ففيه ولد شاة. وإن قتلت ولد بقرة وحشية، ففيه ولد بقرة إنسية مثله، فكلّ ذلك على ذلك.
١٢٥٨٠ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول:"فجزاء مثل ما قتل من النعم" ما كان من صيد البر مما ليس له قرن = الحمار أوالنعامة= فعليه مثله من الإبل. وما كان ذا قرن من صيد البر من وعِلٍ أو أيِّل، فجزاؤه من البقر. وما كان من ظبي فمن الغنم مثله. وما كان من أرنب، ففيها ثَنِيَّة. (١) وما كان من يربوع وشبهه، ففيه حَمَلٌ صغير. وما كان من جرادة أو نحوها، ففيه قبضة من طعام. وما كان من طير البر، ففيه أن يقوَّم ويتصدق بثمنه، وإن شاء صام لكل نصف صاع يومًا. وإن أصاب فرخ طير برِّية أو بيضها، فالقيمة فيها طعامٌ أو صوم على الذي يكون في الطير. غير أنه قد ذكر في بيض النعام إذا إصابها المحرم، أن يحمل الفحل على عدة من أصاب من البيض على
(١) "الثنية" يعني الثنية من المعز، وهو ما دخل في السنة الثانية أو الثالثة.
18
بِكارة الإبل، (١) فما لَقِح منها أهداه إلى البيت، وما فسد منها فلا شيء فيه.
١٢٥٨١ - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع قال، أخبرني ابن جريج قال، قال مجاهد: من قتله = يعني الصيد = ناسيًا، أو أراد غيره فأخطأ به، فذلك العمد المكفَّر، فعليه مثله هديًا بالغ الكعبة. فإن لم يجد، ابتاع بثمنه طعامًا. فإن لم يجد، صام عن كل مُدٍّ يومًا. وقال عطاء: فإن أصاب إنسان نعامة، كان له= إن كان ذا يسار= مُوَسَّعًا (٢) إن شاء يهدي جزورًا أو عَدْلَها طعامًا أو عدلها صيامًا، أيّتهن شاء، (٣) من أجل قوله: فجزاء، أو كذا أو كذا (٤) قال: فكل شيء في القران:"أو""أو"، فليختر منه صاحبه ما شاء.
١٢٥٨٢ - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع قال، أخبرني ابن جريج قال، أخبرني الحسن بن مسلم قال: من أصاب من الصيد ما يبلغ أن يكون شاة فصاعدًا، فذلك الذي قال الله تعالى ذكره:"فجزاء مثل ما قتل من النعم". وأما"كفارة طعام مساكين"، فذلك الذي لا يبلغ أن يكون فيه هدي، العصفورَ يقتل، فلا يكون فيه. قال:"أو عدل ذلك صيامًا"، عدل النعامة، أو عدل العصفور، أو عدل ذلك كله.
* * *
وقال آخرون: بل يقوَّم الصيد المقتول قيمتَه من الدراهم، ثم يشتري القاتل بقيمته نِدًّا من النعم، ثم يهديه إلى الكعبة.
(١) "البكارة" (بكسر الباء) جمع"بكر" و"بكرة" (بفتح الباء) : وهو الفتى من الإبل بمنزلة الغلام من اللناس.
(٢) في المطبوعة: "كان له إن كان ذا يسار ما شاء" بحذف"الواو من قوله"وإن كان" وهو لا معنى له، وفي المخطوطة: "كان له وإن كان ذا يسار من سا" فرأيت أن أقرأها كما أثبتها فهو حق المعنى. لأنه يريد أن يقول: إن الله وسع له ورخص في هذا النخيير الذي ذكره بعد.
(٣) في المطبوعة: "أيهن شاء" وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب.
(٤) في المطبوعة: "أو كذا" مرة واحدة وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب.
19
* ذكر من قال ذلك:
١٢٥٨٣ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبدة، عن إبراهيم قال: ما أصاب المحرم من شيء، حكم فيه قيمته.
١٢٥٨٤ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن حماد قال: سمعت إبراهيم يقول: في كل شيء من الصيد ثمنه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل الآية، ما قال عمر وابن عباس، ومن قال بقولهما: أن المقتول من الصيد يُجْزَي بمثله من النعم، كما قال الله تعالى ذكره:"فجزاء مثل ما قتل من النعم". وغير جائز أن يكون مثل الذي قتل من الصيد دراهم، وقد قال الله تعالى:"من النعم"، لأن الدراهم ليست من النعم في شيء.
* * *
فإن قال قائل: فإن الدراهمَ وإن لم تكن مثلا للمقتول من الصيد، فإنه يشتري بها المثل من النعم، فيهديه القاتل، فيكون بفعله ذلك كذلك جازيًا بما قتل من الصيد مثلا من النعم!
قيل له: أفرأيت إن كان المقتول من الصيد صغيرًا [أو معيبا، ولا يصاب بقيمته من النعم إلا] (١) كبيرًا أو سليمًا = أو كان المقتول من الصيد كبيرًا أو سليمًا بقيمته من النعم إلا صغيرًا أو معيبًا= (٢) أيجوز له أن يشتريَ بقيمته خلافه وخلافَ صفته فيهديه، أم لا يجوز ذلك له، وهو لا يجوز إلا خلافه؟ فإن زعم أنه لا يجوز له أن يشتري بقيمته إلا مثله، ترك قوله في ذلك. لأنّ أهل هذه المقالة يزعمون أنه لا يجوز له أن يشتري بقيمة ذلك فيهديه، (٣) إلا ما
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "أفرأيت إن كان المقتول من الصيد صغيرا أو كبيرا او سليما أو كان المقتول من الصيد... " وهو كلام لا يستقيم إلا بهذه الزيادة التي زدتها بين القوسين وتصحيح"أو كبيرا" بما أثبته"إلا كبيرا" وهو ما اسظهرته من سياق كلام أبي جعفر.
(٢) في المطبوعة: "ولا يصيب بقيمته... " والصواب ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "بقيمته ذلك" وهو خطأ صوابه في المخطوطة.
20
يجوز في الضحايا. وإذا أجاز شراءَ مثل المقتول من الصيد بقيمته وإهداءها وقد يكون المقتول صغيرًا معيبًا، (١) أجاز في الهدي ما لا يجوز في الأضاحي. (٢)
وإن زعم أنه لا يجوز أن يشتري بقيمته فيهديه إلا ما يجوز في الضحايا أوضح بذلك من قوله الخلافَ لظاهر التنزيل. وذلك أنّ الله تعالى ذكره، أوجب على قاتل الصيد من المحرِمين عمدًا، المثلَ من النعم إذا وجده. وقد زعم قائل هذه المقالة أنه لا يجب عليه المثل من النعم، وهو إلى ذلك واجدٌ سبيلا.
ويقال لقائل ذلك: أرأيت إن قال قائل آخر:"ما على قاتل ما لا تبلغُ من الصيد قيمته ما يصاب به من النَّعم ما يجوز في الأضاحي من إطعام ولا صيام. (٣) لأن الله تعالى إنما خيَّر قاتل الصيد من المحرمين في أحد الثلاثة الأشياء التي سماها في كتابه، فإذا لم يكن له إلى واحد من ذلك سبيل، سقط عنه فرض الآخرَيْن. لأن الخيار إنما كان له، وله إلى الثلاثة سبيل. فإذا لم يكن له إلى بعض ذلك سبيل، بطل فرض الجزاء عنه، لأنه ليس ممن عُني بالآية= نظيرَ الذي قلت أنت:"إنه إذا لم يكن المقتول من الصيد يبلغ قيمته ما يصاب من النعم مما يجوز في الضحايا، فقد سقط فرض الجزاء بالمثل من النعم عنه، وإنما عليه الجزاء بالإطعام أو الصيام"،= هل بينك وبينه فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "وإذا أجازوا شرى مثل المقتول" وصواب كل ذلك ما أثبت وإنما وهم الناسخ في"أجازوا" فإن جواب"إذا" يدل على خلافه وصواب ما أثبت.
(٢) في المطبوعة: "أجازوا في الهدي" غير ما في المخطوطة لوهم الناسخ كما قلت في التعليق السالف.
(٣) في المطبوعة: "ما لا يبلغ" وهو في المخطوطة غير منقوطة وصوابها ما أثبت. وسياق هذه الجملة: "ما على قاتل ما تبلغ... من إطعام ولا صيام" يعني ليس على قاتل صيد لا تبلغ قيمته أن يشتري بها من النعم ما يجوز مثله في الأضاحي= إطعام أو صيام.
21
القول في تأويل قوله: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يحكم بذلك الجزاء الذي هو مثل المقتول من الصيد من النعم عدلان منكم= يعني: فقيهان عالمان من أهل الدين والفضل= (١) "هديًا"، يقول: يقضي بالجزاء ذوا عدل، أي يُهْدَي فيبلغ الكعبة. (٢) و"الهاء" في قوله:"ويحكم به"، عائدة على"الجزاء". (٣).
* * *
قال أبو جعفر: ووجه حكم العدلين إذا أرادا أن يحكما بمثل المقتول من الصيد من النعم على القاتل: أن ينظرا إلى المقتول ويستوصفاه، فإن ذكر أنه أصاب ظبيًا صغيرًا، حكما عليه من ولد الضأن بنظير ذلك الذي قتله في السن والجسم، فإن كان الذي أصاب من ذلك كبيرًا، حكما عليه من الضأن بكبير. وإن كان الذي أصاب حمار وَحْش، حكما عليه ببقرة. إن كان الذي أصاب كبيرًا من البقر، وإن كان صغيرًا فصغيرًا. وإن كان المقتول ذكرًا فمثله من ذكور البقر. وإن كان أنثى فمثله من البقر أنثى. ثم كذلك ذلك، ينظران إلى أشبه الأشياء بالمقتول من الصيد شبهًا من النعم، (٤) فيحكمان عليه به، كما قال تعالى ذكره.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، على اختلافٍ في ذلك بينهم.
* ذكر من قال ذلك بنحو الذي قلنا فيه:
(١) انظر تفسير"العدل" فيما سلف ٦: ٥١، ٦٠.
(٢) في المطبوعة: "أن يهدي" وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) انظر تفسير"الهدي" فيما سلف ٤: ٣٤، ٣٥/٩: ٤٦٦.
(٤) في المخطوطة: "ينظر إلى أشبه الأشياء" والصواب ما في المطبوعة.
22
١٢٥٨٥ - حدثنا هنّاد بن السريّ قال: حدثنا ابن أبي زائدة قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن بكر بن عبد الله المزني قال: كان رجلان من الأعراب محرِمين، فأحاش أحدهما ظبيًا، فقتله الآخر. (١) فأتيا عمر، وعنده عبد الرحمن بن عوف، فقال له عمر: (٢) وما ترى؟ قال: شاة، قال: وأنا أرى ذلك، اذهبا فأهديا شاة. فلما مضَيا قال أحدهما لصاحبه: ما درَى أمير المؤمنين ما يقول حتى سأل صاحبه!! فسمعها عمر، فردّهما فقال: هل تقرأان سورة المائدة؟ فقالا لا! فقرأها عليهما: (٣) "يحكم به ذوا عدل منكم"، ثم قال: استعنت بصاحبي هذا.
١٢٥٨٦ - حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال: ابتدرت أنا وصاحب لي ظبيًا في العقبة، فأصبته، فأتيت عمر بن الخطاب، فذكرت ذلك له. فأقبل على رجل إلى جنبه، فنظرا في ذلك. قال فقال: اذبح كبشًا= قال يعقوب في حديثه، فقال لي: اذبح شاة= فانصرفت فأتيت صاحبي فقلت: إن أميرَ المؤمنين لم يدرِ ما يقول! فقال صاحبي: انحر ناقتك. فسمعها عمر بن الخطاب، فأقبل عليَّ ضربًا بالدِّرة وقال: تقتل الصيد وأنت محرم، وتَغْمِصُ الفُتْيا! (٤) إن الله تعالى يقول في كتابه:"يحكم به ذوا عدل منكم"، هذا ابن عوف، وأنا عمر! (٥)
١٢٥٨٧ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن
(١) في المطبوعة: "فأجاش" بالجيم وهو خطأ وفي المخطوطة غير منقوط."حاش الصيد حوشا وحياشا" و"أحاشه" و"أحوشه" و"حشت عليه الصيد" و"أحشته": إذا نفرته نحوه وأخذته من حواليه لتصرفه إلى الحبالة ثم سقته نحوه وجمعته عليه.
(٢) في المخطوطة في الموضعين: "عمرو" وهو خطأ محض، وفي المطبوعة في الآخرة منهما"عمرو" وهو خطأ.
(٣) في المطبوعة: "فقرأها عليهما" والصواب ما في المخطوطة.
(٤) انظر تفسير"غمص الفتيا" فيما سلف ص: ١٧ تعليق: ٤.
(٥) الأثر: ١٢٥٨٦- انظر التعليق على الأثر السالف رقم: ١٢٥٧٣.
23
الشعبي قال، أخبرني قبيصة بن جابر، بنحو ما حدث به عبد الملك.
١٢٥٨٨ - حدثنا هناد وأبو هشام قالا حدثنا وكيع، عن المسعودي، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال: خرجنا حجاجًا (١) فكنا إذا صلينا الغداة، اقتدرنا رواحلنا نتماشى نتحدث، (٢) قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبيٌ أو بَرَح، (٣) فرماه رجل منا بحجر، فما أخطأ خُشَّاءه، (٤) فركب رَدْعَه ميتًا. (٥) قال: فعظَّمنا عليه. فلما قدمنا مكة، خرجت معه حتى أتينا عمر، فقص عليه القصة. قال: وإذا إلى جنبه رجلٌ كان وجهه قُلْبُ فضة (٦) =يعني عبد الرحمن بن عوف = فالتفت إلى صاحبه فكلمه. قال: ثم أقبل علي الرجل قال: أعمدًا قتلته أم خطأ؟ قال الرجل: لقد تعمَّدت رميه، وما أردت قتله. فقال عمر: ما أراك إلا قد أشركتَ بين العمد والخطأ، أعمد إلى شاة فاذبحها، وتصدق بلحمها، وَاسْقِِ إهابَها. (٧) قال: فقمنا من عنده، فقلت: أيها الرجل،
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "خرجنا" لم يذكر"حجاجا" ولكن ابن كثير نقله عن هذا الموضع وفيه"حجاجا" وكذلك هي في رواية البيهقي في السنن ٥: ١٨١. وإذن فقد سقط من الناسخ"حجاجا" فلذلك أثبتها.
(٢) "صلاة الغداة" هي صلاة الفجر.
(٣) "سنح الظبي" أتاك عن يسارك و"برح": أتاك عن يمينك.
(٤) في المطبوعة: "خششاءه" وأثبت ما في المخطوطة وهي بضم الخاء وتشديد الشين المفتوحة وكلتاهما صواب وبهما روى الخبر. و"الخشاء" و"الخششاء": وهو العظم الدقيق العاري من الشعر الناتئ خلف الأذن.
(٥) في المطبوعة: "فركب وودعه ميتا" وهو كلام ساقط جدا. وفي المخطوطة: "فركب ودعه ميتا" وهو تصحيف صوابه ما أثبت. يقال للقتيل: "ركب ردعه": إذا خر لوجهه على دمه. وركوبه عليه: أن الدم يسيل ثم يخر عليه صريعا. وأصل"الردع" ما تلطخ به الشيء من زعفران أو غيره، وهو أثره ولونه.
(٦) "القلب" (بضم فسكون": سوار يكون قلدا واحدا أي ليا واحدا. وفي الحديث: "أن فاطمة حلت الحسن والحسين رضي الله عنهما بقلبين من فضة" أي: سوارين من فضة. وصفة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في طبقات ابن سعد ٣/١/٩٤: "كان رجلا طويلا حسن الوجه رقيق البشرة فيح جدّا (ميل في الظهر أو العنق) أبيض مشربا حمرة لا يغير لحيته ولا رأسه".
(٧) قوله"أسق إهابها" يعني: أعط إهابها من يدبغه ويتخذ من جلده سقاء. و"السقاء" ظرف الماء من الجلد. و"الإهاب": الجلد من البقر والغنم والوحش ما لم يدبغ.
24
عظِّم شعائر الله! (١) فما درى أمير المؤمنين ما يُفتيك حتى سأل صاحبه! اعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعلَّ ذاك! (٢) قال قبيصة: ولا أذكر الآية من"سورة المائدة":"يحكم به ذوا عدل منكم" قال: فبلغ عمر مقالتي، فلم يفجأنا إلا ومعه الدِّرّة! قال: فعلا صاحبي ضربًا بالدّرة، (٣) وجعل يقول: أقتلت في الحرم وسفَّهت الحُكم! قال: ثم أقبل عليّ فقلت: يا أمير المؤمنين، لا أحِلَّ لك اليوم شيئًا يحرُم عليك مني! (٤) قال: يا قبيصة بن جابر، إنّي أراك شابَّ السن، فسيحَ الصدر (٥) بيِّن اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعةُ أخلاق حسنة وخلق سييء، فيفسد الخلق السييء الأخلاقَ الحسنة، فإياك وعثرات الشباب! (٦)
١٢٥٨٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن مخارق، عن طارق قال: أوطأ أربدُ ضَبًّا (٧) فقتله- وهو محرم. فأتى عمر ليحكم عليه، فقال له عمر: احكم معي! فحكما فيه جَدْيًا قد جَمَع الماء والشجر. (٨) ثم قال عمر:"يحكم به ذوا عدل منكم". (٩)
١٢٥٩٠ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا أصاب صيدًا، فأتى ابن عمر فسأله عن ذلك، وعنده عبد الله بن صفوان، فقال ابن عمر لابن صفوان: إما إن أقول فتصدقني، وإما أن تقول فأصدقك. فقال ابن صفوان: بل أنت فقل. فقال ابن عمر، ووافقه على ذلك عبد الله بن صفوان.
١٢٥٩١ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، عن شريح، أنه قال: لو وجدت حكمًا عدلا لحكمت في الثعلب جَدْيًا، وجديٌ أحبُّ إليّ من الثعلب. (١٠)
(١) في المخطوطة: "أعظم شعائر الله" وما في المطبوعة هو الموافق لما في سنن البيهقي وهو أولاهما لمطابقته نص آية"سورة الحج": "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب".
(٢) في المطبوعة: "ففعل ذاك" والصواب هو ما في المخطوطة وابن كثير يقول: فلعل ذلك أن يكون جزاء مثل ما قتلت من الصيد. وفي ابن كثير: "يعني أن يجزئ عنك" وهذا النص ليس في المخطوطة فلذلك لم أزده في هذا الموضع، أخشى أن يكون من كلام ابن كثير.
(٣) روى البيهقي هذا الخبر بغير هذا اللفظ وقال عند هذا الموضع: "فما علمت بشيء والله ما شعرت إلا به يضرب بالدرة على= وقال مرة: على صاحبي" فهذه التي هنا هي إحدى الروايتين.
(٤) يعني أنه لما أقبل عليه عمر وعوف أنه ضاربه كما ضرب صاحبه رهب عمر واخافه بقوله: إنه لن يحله من ضرب بشرة هي عليه حرام إلا بحقها. فلذلك هاب عمر أن يضربه كما ضرب صاحبه. فانظر إلى ما طبع عليه أسلافنا من حرية الطباع وما وقذ الإسلام من عرامهم حتى كف عمر يده مخافة أن يصيب من أبشار المسلم حراما لا يحل له إلا بحقه.
(٥) قوله: "فسيح الصدر" أي: واسع الصدر وذلك من دلائل القوة ومتانة التركيب وهذه المقالة من عمر من أبلغ ما يهدى إلى الشباب فإن البلاء إنما يأتي من سوء الخلق، وخلق سيئ واحد يجر وراءه جميع مساوي الأخلاق.
(٦) الأثر: ١٢٥٨٨- انظر تخريج خبر قبيصة بن جابر فيما سلف في التعليق على رقم: ١٢٥٧٣.
وختم البيهقي هذا الأثر (السنن ٥: ١٨١) وهو من رواية ابن أبي عمر، عن سفيان عن عبد الملك بن عمير: "قال ابن أبي عمر، قال سفيان: وكان عبد الملك إذا حدث بهذا الحديث قال: ما تركت منه ألفا ولا واوا".
(٧) "أوطأ" يعني: حمل دابته حتى وطئت الضب أي داسته. فسرته كذلك لأنهم يقولون: "وطئ الشيء ووطأته، وتوطأه" بمعنى: داسه ولم يذكروا"أوطأه" وإن كنت أرى القياس يعين عليه.
(٨) قوله: "جمع الماء والشجر" يعني: فطم ورعى الماء والشجر وهذا تفسير لم أجده في شيء من مراجع اللغة او مجازها. ينبغي إثباته.
(٩) الأثر: ١٢٥٨٩-"مخارق" هو"مخارق بن خليفة بن جابر" ويقال: "مخارق بن عبد الله" و"مخارق بن عبد الرحمن" البجلي الأحمسي، ثقة مضى برقم: ١١٦٨٢.
و"طارق" هو: "طارق بن شهاب البجلي الأحمسي" مضى برقم: ٩٧٤٤، ١١٦٨٢، ١٢٠٧٣- ١٢٠٧٥، ١٢٠٨٥.
و"أربد" هو"أربد بن عبد الله البجلي" أدرك الجاهلية هكذا ترجم له ابن حجر في الإصابة في القسم الثالث، وذكر هذا الخبر مبينا فيه اسمه ثم قال: "إسناده صحيح ورواه الأعمش عن سليمان بن ميسره، عن طارق، ولم يسم الرجل".
ورواه البيهقي في السنن الكبرى ٥: ١٨٢ من طريق الشافعي عن سفيان بن عيينة. وهو في الأم ٢: ١٦٥ ومسند الشافعي للسندي: ٣٣٢ وشرحه الأستاذ حامد مصطفى بمثل ما شرحته قبل.
(١٠) في المطبوعة: "من الثعلب" وأثبت ما في المخطوطة وهو الجيد.
25
١٢٥٩٢ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن بكير قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي مجلز: أن رجلا سأل ابن عمر عن رجل أصاب صيدًا وهو محرم، وعنده ابن صفوان، فقال له ابن عمر: إما أن تقول فأصدقك، أو أقول فتصدقني. قال: قل وأصدقك.
١٢٥٩٣ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي وائل قال، أخبرني ابن جرير البجلي قال: أصبت ظبيًا وأنا محرم، فذكرت ذلك لعمر، فقال: ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك. فأتيت عبد الرحمن وسعدًا، فحكما عليّ تيسًا أعْفَر= قال أبو جعفر:"الأعفر": الأبيض. (١)
١٢٥٩٤ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور بإسناده عن عمر، مثله.
١٢٥٩٥ - حدثنا عبد الحميد قال، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن
(١) الأثر: ١٢٥٩٣-"أبو وائل" هو"شقيق بن سلمة الأسدي" مضى مرارا كثيرة. و"أبو جرير البجلي" لم يترجم له غير ابن سعد في الطبقات ٦: ١٠٦ن ١٠٧ وقال: "روى عن عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وسعد" وساق هذا الخبر مختصرا من طريق إسحق بن يوسف الأزرق عن سفيان عن منصور عن أبي وائل ثم ساقه مطولا بنحو لفظه في خبر أبي جعفر: من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل عن منصور عن شقيق.
ورواه البيهقي في السنن ٥: ١٨١، ١٨٢ من طريق عبيد الله بن معاذ عن شعبة عن منصور بنحو لفظ أبي جعفر. ثم قال في آخره: "زاد فيه جرير بن عبد الحميد عن منصور: وأنا ناس لإحرامي". وهذه الزيادة في خبري ابن سعد، في الأول: "وأنا ناس لإهلالي" وفي الآخر: "ولا أذكر إهلالي".
ونقله ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٣٩ عن هذا الموضع من تفسير الطبري. وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٢٩ وزاد نسبته لأبي الشيخ.
وفي المطبوعة: "ابن جرير البجلي" والصواب من المخطوطة وهي غير منقوطة. وفي ابن كثير مثل ما في المطبوعة وفي سنن البيهقي والدر المنثور: "أبو حريز" والصواب ما في طبقات ابن سعد.
وكان في المطبوعة: "فأتيت عبد الرحمن وسعيدا" والصواب ما أثبت من المخطوطة و"عبد الرحمن" هو"عبد الرحمن بن عوف" و"سعد" هو: "سعد بن أبي وقاص".
27
أشعث بن سوار، عن ابن سيرين قال: كان رجل على ناقة وهو محرم، فأبصر ظبيًا يأوي إلى أكمة، فقال: لأنظرنّ أنا أسبق إلى هذه الأكمة أم هذا الظبي؟ (١) فوقعت عَنز من الظباء تحت قوائم ناقته فقتلتها، (٢) فأتى عمر فذكر ذلك له، فحكم عليه هو وابن عوف عنزا عفراء= قال: وهي البيضاء.
١٢٥٩٦ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن محمد: أن رجلا أوطأ ظبيًا وهو محرم، (٣) فأتى عمر فذكر ذلك له، وإلى جنبه عبد الرحمن بن عوف، فأقبل على عبد الرحمن فكلمه، ثم أقبل على الرجل فقال: أهد عنزا عفراء.
١٢٥٩٧ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يقول: ما أصاب المحرم من شيء لم يمض فيه حكومة، استقبل به، فيحكم فيه ذوا عدل. (٤)
١٢٥٩٨ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن يعلي، عن عمرو بن حبشي قال: سمعت رجلا سأل عبد الله بن عمر، عن رجل أصاب ولدَ أرنب، فقال: فيه ولد ماعز، فيما أرى أنا. ثم قال لي: أكذاك؟ فقلت: أنت أعلم مني. فقال: قال الله تعالى ذكره:"يحكم به ذوا عدل منكم". (٥)
١٢٥٩٩ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وسهل بن يوسف،
(١) في المطبوعة: "لأنظر أنا أسبق" وفي المخطوطة: "لأنظر وأنا أسبق" وصواب قراءتها ما أثبت.
(٢) "العنز" الأنثى من المعزى والأوعال والظباء.
(٣) انظر تفسير"أوطأ" فيما سلف ص: ٢٦ تعليق: ١.
(٤) أي لم يمض فيه حكم سابق. وقوله: "استقبل به" يعني: ابتدأ النظر فيه، بغير حكم سابق.
(٥) الأثر: ١٢٥٩٨-"عمرو بن حبشي" تابعي ثقة، مضى ومضى ضبط اسمه برقم: ٢٣٤٠.
28
عن حميد، عن بكر: أن رجلين أبصرا طبيًا وهما محرمان، فتراهنا، وخطرُ كل واحد منهما لمن سبق إليه. (١) فسبق إليه أحدهما، فرماه بعصاه فقتله. فلما قدما مكة، أتيا عمر يختصمان إليه، وعنده عبد الرحمن بن عوف، فذكرا ذلك له، فقال عمر: هذا قِمارٌ، ولا أجيزه! ثم نظر إلى عبد الرحمن، فقال: ما ترى! قال: شاة. فقال عمر: وأنا أرى ذلك. فلما قَفَّى الرجلان من عند عمر، قال أحدهما لصاحبه: ما درى عُمر ما يقول حتى سأل الرجل! فردّهما عمر فقال: إن الله تعالى ذكره لم يرضَ بعمر وحده، فقال:"يحكم به ذوا عدل منكم"، وأنا عمر، وهذا عبد الرحمن بن عوف.
* * *
وقال آخرون: بل ينظر العَدْلان إلى الصيد المقتول، فيقوّمانه قيمته دراهمَ، ثم يأمران القاتل أن يشتري بذلك من النعم هَدْيًا. فالحاكمان يحكمان، في قول هؤلاء، بالقيمة. وإنما يحتاج إليهما لتقويم الصيد قيمتَه في الموضع الذي أصابه فيه.
* * *
وقد ذكرنا عن إبراهيم النخعي فيما مضى قبل أنه كان يقول:"ما أصاب المحرم من شيء، حكم فيه قيمته"، (٢) وهو قول جماعة من متفقِّهة الكوفيين.
* * *
وأما قوله:"هديًا" فإنه مُصَدَّر على الحال من"الهاء" التي في قوله:"يحكم به".
* * *
وقوله:"بالغ الكعبة" من نعت"الهدي" وصفته. وإنما جاز أن ينعت به، وهو مضاف إلى معرفة، (٣) لأنه في معنى النكرة. وذلك أن معنى قوله:"بالغ
(١) "الخطر" (بفتحتين) : الرهن وهو السبق الذي يترامى عليه في التراهن. و"أخطر المال" جعله خطرا بين المتراهنين، و"تخاطروا": تراهنوا وكان في المطبوعة: "وجعل كل واحد منهما" وهذه الكلمة في المخطوطة سيئة الكتابة جدا، رأيت أن أستظهر قراءتها كذلك من معنى الرهان. وهو الصواب إن شاء الله.
(٢) هو رثم: ١٢٥٨٣.
(٣) في المطبوعة: "ينعت وهو مضاف" حذف"به" فاختل الكلام.
29
الكعبة"، يبلغُ الكعبة. فهو وإن كان مضافًا فمعناه التنوين، لأنه بمعنى الاستقبال، وهو نظير قوله: (هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) [سورة الأحقاف: ٢٤]، فوصف بقوله:"ممطرنا""عارضًا"، لأن في"ممطرنا" معنى التنوين، لأن تأويله الاستقبال، فمعناه: هذا عارض يمطرنا. فكذلك ذلك في قوله:"هديًا بالغً الكعبة".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أو عليه كفارة طعام مساكين= و"الكفارة" معطوفة على"الجزاء" في قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم".
واختلف القرأة في قراءة ذلك:
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة: (أو كفارة طعام مساكين) بالإضافة. وأما قرأة أهل العراق، فإنّ عامتهم قرءوا ذلك بتنوين"الكفارة" ورفع"الطعام": أو كفارة طعام مساكين
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب، قراءة من قرأ بتنوين"الكفارة" ورفع"الطعام"، للعلة التي ذكرناها في قوله:"فجزاء مثلُ ما قتل من النعم". (١).
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"أو كفارة طعام مساكين". (٢) فقال بعضهم: معنى ذلك أنّ القاتل وهو محرم صيدًا عمدًا، لا يخلو من
(١) انظر ما سلف ص: ١٣ن ١٤.
(٢) انظر تفسير"الكفارة" فيما سلف ١٠: ٥٣١ تعليق: ١١ والمراجع هناك.
30
وجوب بعض هذه الأشياء الثلاثة التي ذكر الله تعالى ذكره: من مثل المقتول هديًا بالغَ الكعبة، أو طعامُ مسكين كفارة لما فعل، أو عدلُ ذلك صيامًا= إلا أنه مخيَّر في أيِّ ذلك شاء فعل، وأنه بأيِّها كان كفَّر فقد أدّى الواجب عليه. وإنما ذلك إعلامٌ من الله تعالى عبادَه أن قاتل ذلك كما وصف لن يخرُجَ حكمه من إحدى الخلال الثلاثة. قالوا: فحكمه إن كان على المثل قادرًا أن يحكم عليه بمثل المقتول من النعم، لا يجزيه غيرُ ذلك ما دام للمثل واجدًا. قالوا: فإن لم يكن له واجدًا، أو لم يكن للمقتول مثلٌ من النعم، فكفارته حينئذ إطعام مساكين.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٦٠٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة أو كفارة طعامُ مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وَبال أمره" قال: إذا قتل المحرم شيئًا من الصيد، حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجد، فإطعام ستة مساكين. فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وإن قتل أيِّلا أو نحوه، فعليه بقرة. فإن لم يجدها، أطعم عشرين مسكينًا. (١) فإن لم يجد، صام عشرين يومًا. وإن قتل نعامة أو حمارَ وحش أو نحوه، فعليه بَدَنَة من الإبل. فإن لم يجد، أطعم ثلاثين مسكينًا. فإن لم يجد، صام ثلاثين يومًا. والطعام مدٌّ مُدٌّ شِبَعَهم. (٢)
١٢٦٠١ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد
(١) في المطبوعة: "فإن لم يجد" وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) الأثر: ١٢٦٠٠- وسيأتي برقم: ١٢٦٣٣ في المطبوعة: "يشبعهم" وأثبت ما في المخطوطة. وسيأتي في المخطوطة هناك: "وشبعهم" بالواو والجيد ما هنا.
31
وأنتم حرمٌ" إلى قوله:"يحكم به ذوا عدل منكم" فالكفارة: من قتل ما دون الأرنب، إطعام.
١٢٦٠٢ - حدثنا هناد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: إذا أصاب المحرم الصيد، حكم عليه جزاؤه من النعم. فإن وجد جزاءَه، ذبحه فتصدق به. وإن لم يجد جزاءه، قُوِّم الجزاء دراهم، ثم قوِّمت الدراهم حنطة، ثم صام مكان كل صاع يومًا. قال: إنما أريد بالطعام الصوم، فإذا وجد طعامًا وجد جزاءً.
١٢٦٠٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن زهير، عن جابر، عن عطاء ومجاهد وعامر:"أو عدل ذلك صيامًا"، قال: إنما الطعام لمن لم يجد الهَدْي. (١)
١٢٦٠٤ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم أنه كان يقول: إذا أصاب المحرم شيئًا من الصيد، عليه جزاؤه من النعم. فإن لم يجد قُوِّم الجزاء دراهم، ثم قومت الدراهم طعامًا، ثم صامَ لكل نصف صاع يومًا.
١٢٦٠٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد قال: إذا أصاب المحرم الصيد فحكم عليه، فإن فضل منه ما لا يتم نصف صاع، صام له يومًا. ولا يكون الصوم إلا على من لم يجد ثمن هديٍ، فيحكم عليه الطعام. فإن لم يكن عنده طعام يتصدق به، حكم عليه الصوم، فصام مكان كل نصف صاع يومًا="كفارة طعام مساكين"، قال: فيما لا يبلغ ثمن هدي="أو عدل ذلك صيامًا"، من الجزاء، إذا لم يجد ما يشتري به هديًا، أو ما يتصدق به، مما لا يبلغ ثمن هدي، حكم عليه الصيام مكان كل نصف صاع يومًا.
(١) زاد في المطبوعة: "ليذوق" وقطع الآية، وأثبت ما في المخطوطة.
32
١٢٦٠٦ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال مجاهد:"ومن قتل منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، قال: عليه من النعم مثلُه هديًا بالغَ الكعبة. ومن لم يجد، ابتاع بقيمته طعامًا، فيطعم كل مسكين مُدَّين. فإن لم يجد، صام عن كل مدَّين يومًا.
١٢٦٠٧ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومن قتله منكم متعمدًا"، إلى قوله:"ومن عاد فينتقم الله منه"، قال: إذا قتل صيدًا، فعليه جزاؤه مثل ما قتل من النعم. فإن لم يجد، حكم عليه، ثم [قُوِّم] الفداءُ، كم هو درهمًا، ثمّ قدر ثمن ذلك بالطعام على المسكين، (١) فصام عن كل مسكين يومًا، ولا يحل طعام المسكين، لأن من وجد طعام المسكين فهو يجد الفداء.
١٢٦٠٨- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال: قال لي الحسن بن مسلم: من أصاب الصيد فيما جزاؤه شاة، (٢) فذلك الذي قال الله تعالى ذكره:"فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم". وما كان من كفارة بإطعام مساكين، (٣) مثل العصفورة يقتل ولا يبلغ أن يكون فيه هدي"أو عدل ذلك صيامًا"، (٤) قال عدل النعامة أو العصفور، (٥) أو عدل ذلك كله. فذكرت ذلك لعطاء فقال: كل شيء في القرآن"أو""أو"، فلصاحبه أن يختار ما شاء.
(١) في المطبوعة: "فإن لم يجد ما حكم عليه قوم الفداء كم هو درهما، وقدر ثمن ذلك.. ز" وفي المخطوطة: "فإن لم يجد حكم عليه ثم الفداء كم هو درهما بين قدر ثمن ذلك... " ومكان (بين) (ثم) بين القوسين والعبارة بعد ذلك كله مشكلة، لم أستطع أن أهتدي إلى مكانها في كتاب آخر ولا أن ألتمس لها تحريفا أرضى عنه.
(٢) في المطبوعة: "مما جزاؤه" وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "من كفارة طعام" وأثبت ما في المخطوطة.
(٤) في المطبوعة: زاد في الآية"ليذوق" ثم قطع الآية.
(٥) في المطبوعة: "أو العصفور" وأثبت ما في المخطوطة.
33
١٢٦٠٩ - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، في قوله:"لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، فإن لم يجد جزاءً، قوِّم عليه الجزاءُ طعامًا، ثم صاع لكل صاع يومين.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أن للقاتل صيدًا عمدًا وهو محرم، الخيارُ بين إحدى الكفارات الثلاث، وهي: الجزاء بمثله من النعم، والطعام، والصوم. قالوا: وإنما تأويل قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا"، فعليه أن يجزي بمثله من النعم، أو يكفر بإطعام مساكين، أو بعدل الطعام من الصيام.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٦١٠ - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، في قول الله تعالى ذكره:"فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم له ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا"، قال: إن أصابَ إنسان محرم نعامة، فإن له= وإن كان ذا يسار (١) أن يهدي ما شاء، جزورًا، أو عدلها طعامًا، أو عدلها صيامًا. قال: كل شيء في القرآن"أو""أو"، فليختر منه صاحبه ما شاء.
١٢٦١١ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن عطاء، في قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم" قال:"ما كان في القرآن: أو كذا أو كذا"، فصاحبه فيه بالخيار، أيَّ ذلك شاء فعل.
١٢٦١٢ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أسباط وعبد الأعلى، عن داود،
(١) في المطبوعة: "إن كان ذا يسار" حذف الواو كما فعل في الأثر السالف: ص: ١٩ تعليق: ٢ والصواب ما في المخطوطة.
34
عن عكرمة قال: ما كان في القرآن"أو""أو"، فهو فيه بالخيار. وما كان:"فمن لم يجد"، فالذي يليه ثم الذي يليه. (١)
١٢٦١٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن عمرو، عن الحسن، مثله.
١٢٦١٤ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ليث، عن عطاء ومجاهد، أنهما قالا في قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم" قالا ما كان في القران:"أو كذا أو كذا"، فصاحبه فيه بالخيار، أيَّ ذلك شاء فعل.
١٢٦١٥ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك: ما كان في القرآن:"أو كذا أو كذا"، فصاحبه فيه بالخيار، أيَّ ذلك شاء فعل.
١٢٦١٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو حُرّة، عن الحسن= قال وأخبرنا عبيدة، عن إبراهيم= قالا كل شيء في القرآن"أو""أو"، فهو بالخيار، أيّ ذلك شاء فعل. (٢)
١٢٦١٧ - حدثنا هناد قال، حدثنا حفص، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كل شيء في القرآن"أو""أو" فصاحبه مخيَّر فيه، وكل شيء:"فمن لم يجد" فالأول، ثم الذي يليه.
* * *
واختلف القائلون بتخيير قاتل الصيد من المحرمين بين الأشياء الثلاثة، في صفة اللازم له من التكفير بالإطعام والصوم، إذا اختار الكفارة بأحدهما دونَ الهدي.
(١) في المطبوعة: "فمن لم يجد فالأول ثم الذي يليه" وأثبت ما في المخطوطة وهو صواب محض.
(٢) الأثر: ١٢٦١٦-"أبو حرة البصري" هو"واصل بن عبد الرحمن" مضى برقم: ٦٣٨٥ وكان في المطبوعة هنا"أبو حمزة" والصواب من المخطوطة.
35
فقال بعضهم: إذا اختار التكفير بذلك، فإنّ الواجب عليه أن يقوِّم المثلَ من النعم طعامًا، ثم يصوم مكان كلّ مُدّ يومًا
* ذكر من قال ذلك:
١٢٦١٨ - حدثنا هناد قال، أخبرنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: ما"أو عدل ذلك صيامًا"؟ قال: إن أصاب ما عَدْله شاة، أقيمت الشاة طعامًا، ثم جعل مكان كل مدّ يومًا يصومه.
* * *
وقال آخرون: بل الواجب عليه إذا أراد التكفير بالإطعام أو الصوم، أن يقوِّم الصيد المقتولَ طعامًا، ثم الصدقة بالطعام إن اختار الصدقة. (١) وإن اختار الصوم صام.
* * *
ثم اختلفوا أيضا في الصوم.
فقال بعضهم: يصوم لكل مدّ يومًا.
* * *
وقال آخرون: يصوم مكان كل نصف صاع يومًا.
وقال آخرون: يصوم مكان كل صاع يومًا.
* * *
* ذكر من قال: المقوَّم لإطعام هو الصيد المقتول. (٢)
١٢٦١٩ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا شعبة، عن قتادة:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد"، الآية، قال: كان قتادة يقول: يحكمان في النعم، فإن كان ليس
(١) في المطبوعة: "ثم يتصدق بالطعام" وأثبت ما في المخطوطة وهو لا بأس به.
(٢) في المطبوعة: "المتقوم للإطعام" وفي المخطوطة بهذا الرسم غير منقوطة وصواب قراءتها ما أثبت.
36
عنده ما يبلغ ذلك، (١) نظروا ثمنه فقوَّموه طعامًا، ثم صام مكان كل صاع يومين.
* * *
وقال آخرون: لا معنى للتكفير بالإطعام، لأن من وجد سبيلا إلى التكفير بالإطعام، فهو واجد إلى الجزاء بالمثل من النعم سبيلا. ومن وجد إلى الجزاء بالمثل من النعم سبيلا لم يجزه التكفير بغيره. قالوا: وإنما ذكر الله تعالى ذكره الكفارة بالإطعام في هذا الموضع، ليدلّ على صفة التكفير بالصوم= لا أنه جعل التكفير بالإطعام إحدى الكفارات التي يكفر بها قتل الصيد. (٢) وقد ذكرنا تأويل ذلك فيما مضى قبل. (٣)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندي في قوله:"فجزاء مثل ما قتل من النعم"، أن يكون مرادا به: فعلى قاتله متعمدًا مثلُ الذي قتل من النعم= لا القيمة، إن اختار أن يجزيه بالمثل من النعم. وذلك أن القيمة إنما هي من الدنانير أو الدراهم. والدراهم أو الدنانير ليست للصيد بمثل، والله تعالى ذكره إنما أوجب الجزاء مثلا من النعم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندي في قوله:"أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا" أن يكون تخييرًا، وأن يكون للقاتل الخيار في تكفيره بقتله الصيد وهو محرم بأيِّ هذه الكفارات الثلاث شاء. لأن الله تعالى ذكره، جعل ما أوجبَ في قتل الصيد من الجزاء والكفارة عقوبة لفعله، وتكفيرًا لذنبه، في إتلافه ما أتلف من الصيد الذي كان حرامًا عليه إتلافه في حال إحرامه، وقد كان حلالا له قبل حال إحرامه، كما جعل الفدية من صيام أو صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه، وقد كان له حلالا قبل حال
(١) في المطبوعة: "فإن كان ليس صيده ما يبلغ ذلك" وهو خطأ صوابه في المخطوطة.
(٢) في المخطوطة: "لأنه جعل التكفير... " وصوابه ما في المطبوعة.
(٣) انظر ما سلف ص: ١٥ وما بعدها.
37
إحرامه، [عقوبة لفعله، وتكفيرًا لذنبه] وحلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه وقد كان له حلقه قبل حال إحرامه، ثم منع من حلقه في حال إحرامه نظير الصيد. (١) ثم جعل عليه إن حلقه جزاءً من حلقه إياه. فأجمع الجميع على أنه في حلقه إياه إذا حلقه من أذاته، (٢) مخيَّر في تكفيره، فعله ذلك بأيِّ الكفارات الثلاث شاء. لا فرق بين ذلك (٣) فمثله إن شاء الله قاتل الصيد من المحرمين، (٤).
ومن أبى ما قلنا فيه، قيل له: حكم الله تعالى ذكره على قاتل الصيد بالمثل من النعم، أو كفارة طعام مساكين، أو عدله صيامًا= كما حكم على الحالق بفدية من صيام أو صدقة أو نسك، فزعمتَ أن أحدهما مخيَّر في تكفير ما جعل منه، عِوَضٌ بأيّ الثلاث شاء، وأنكرت أن يكونَ ذلك للآخر، فهل بينك وبين من عكس عليك الأمر في ذلك= فجعل الخيارَ فيه حيث أبيت، وأبى حيث جعلته له= فرقٌ من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما قولا إلا إذا ألزم في الآخر مثله. (٥)
(١) كانت هذه الجملة في المطبوعة: "كما جعل الفدية من صيام او صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه وقد كان له حلقه قبل حال إحرامه ثم منع من حلقه في حال إحرامه، نظير الصيد". وهو كلام غير مستقيم وهو اختصار لما في المخطوطة.
وكان في المخطوطة هكذا: "كما جعل الفدية من صيام أو صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه وقد كان حلالا قبل حال إحرامه كما جعل الفدية من صيام أو صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه، وقد كان له حلقه قبل حال إحرامه ثم منع من حلقه في حال إحرامه نظير الصيد". وهي جملة مختلطة فيها بلا شك زيادة من الناسخ وهو قوله: "كما جعل الفدية من صيام أو صدقة او نسك" واستظهرت أن مكان هذه العبارة كما وضعته بين القوسين، لتتم المناظرة بين الفعلين والعقوبتين والجزاءين وبذلك استقام الكلام إن شاء الله.
(٢) في المطبوعة: "من إيذائه" وأثبت ما في المخطوطة وهو غير منقوطة.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "في تكفيره فعليه ذلك" وهو خطأ محض صوابه ما أثبت.
(٤) في المطبوعة: "فمثله إن شاء الله قاتل الصيد" وفي المخطوطة: "فمثله مما شاله قاتل الصيد" واستظهرت الصواب من نص الآية"ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم".
(٥) انظر ما قاله أبو جعفر في الحلق فيما سلف ٤: ٧٦- ٧٨.
38
ثم اختلفوا في صفة التقويم إذا أراد التكفير بالإطعام.
فقال بعضهم: يقوَّم الصيد قيمته بالموضع الذي أصابه فيه. (١) وهو قول إبراهيم النخعي، وحماد، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد. وقد ذكرت الرواية عن إبراهيم وحماد فيما مضى بما يدل على ذلك، (٢) وهو نص قول أبي حنيفة وأصحابه.
* * *
وقال آخرون: بل يقوَّم ذلك بسعر الأرض التي يكفِّر فيها. (٣)
* ذكر من قال ذلك:
١٢٦٢٠ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال في محرم أصاب صيدًا بخراسان، قال: يكفر بمكة أو بمنًى. وقال: يقوّم الطعام بسعر الأرض التي يكفّر بها.
١٢٦٢١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو يمان، عن إسرائيل، عن جابر، عن الشعبي، في رجل أصاب صيدًا بخراسان، قال: يحكم عليه بمكة.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن قاتل الصيد إذا جزأه بمثله من النَّعم، فإنما يجزيه بنظيره في خلق وقدره في جسمه، (٤) من أقرب الأشياء به شبهًا من الأنعام. فإن جزاه بالإطعام، قوّمه قيمته بموضعه الذي أصابه فيه، لأنه هنالك وجب عليه التكفير بالإطعام. ثم إن شاء أطعم بالموضع الذي أصابه فيه، وإن شاء بمكة، وإن شاء بغير ذلك من المواضع حيث شاء، لأن الله تعالى ذكره؛ إنما شَرَط بلوغ الكعبة بالهدي في قتل الصيد دون غيره من جزائه، فللجازي
(١) في المطبوعة: "قيمته بالموضع" وأثبت ما في المخطوطة وهو صواب محض وليس في المخطوطة"فيه" وإثباتها واجب.
(٢) يعني ما سلف رقم: ١٢٥٨٣، ١٢٥٨٤/ ١٢٦٠٤، ١٢٦٠٥.
(٣) في المطبوعة: "يكفر بها" وأثبت ما في المخطوطة.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "في خلق" والجيد ما أثبت.
39
بغير الهدى أن يجزيه بالإطعام والصوم حيث شاء من الأرض.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل العلم.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٦٢٢ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا ابن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال: ما كان من دم فبمكة. وما كان من صدقة أو صوم، حيث شاء.
* * *
وقد خالف ذلك مخالفون، فقالوا: لا يجزئ الهدى والإطعام إلا بمكة. فأما الصوم، فإن لم يكن كفَّر، به يصوم حيث شاء من الأرض. (١)
* ذكر من قال ذلك:
١٢٦٢٣- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن عطاء قال: الدم والطعام بمكة، والصيامُ حيث شاء.
١٢٦٢٤ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن مالك بن مغول، عن عطاء قال: كفارة الحج بمكة.
١٢٦٢٥ - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أين يُتصدق بالطعام إن بدا له؟ قال: بمكة، من أجل أنه بمنزله الهدي، قال:"فجزاء مثل ما قتل من النعم أو هديًا بالغ الكعبة"، من أجل أنه أصابه في حَرَم = يريد البيت = فجزاؤه عند البيت.
* * *
(١) في المطبوعة: "فأما الصوم فإن كفر به يصوم حيث شاء من الأرض" وفي المخطوطة: "فإن لم يكن كفر به أن يصومه حيث شاء من الأرض" وصواب قراءتها ما أثبت.
40
فأما الهدي، فإنّ من جَزَى به ما قتل من الصيد، (١) فلن يجزئه من كفارة ما قتل من ذلك إلا أن يبلغه الكعبة كما قال تعالى ذكره (٢) وينحره أو يذبحه ويتصدق به على مساكين الحرم= وعنَى بالكعبة في هذا الموضع، الحرم كله. (٣) ولمن قدَّم بهديه الواجبَ من جزاء الصيد، أن ينحره في كل وقت شاء، قبل يوم النحر وبعده، ويطعمه. وكذلك إن كفر بالطعام، (٤) فله أن يكفر به متى أحب وحيث أحب. وإن كفّر بالصوم فكذلك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، خلا ما ذكرنا من اختلافهم في التكفير بالإطعام على ما قد بينا فيما مضى.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٦٢٦ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء:"أو عدل ذلك صيامًا"، هل لصيامه وقت؟ قال: لا إذ شاء وحيث شاء، وتعجيله أحبُّ إليّ.
١٢٦٢٧ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: رجل أصابَ صيدًا في الحج أو العمرة، فأرسل بجزائه إلى الحرم في المحرَّم أو غيره من الشهور، أيجزئ عنه؟ قال: نعم. ثم قرأ:"هديًا بالغ الكعبة" = قال هناد: قال يحيى: وبه نأخذ. (٥)
(١) في المطبوعة: "فأما الهدي، فإنه من جراء ما قتل من الصيد" وهو كلام فاسد جدا وفي المخطوطة: "فإن من جرائه ما قتل من الصيد" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها.
(٢) في المطبوعة: "إلا أن يبلغه الكعبة طيبا وينحره أو يذبحه" وهو فاسد المعنى وفي المخطوطة:
النبل، ورماحكم تنال " بزيادة "واو" للعطف، والصواب ما في المخطوطة، بحذف"الواو".
"إلا أن يبلغه الكعبة طيبا قال تعالى ذكره وينحره " وصواب قراءة"طسا" غير منقوطة"كما" كما أثبتها.
(٣) في المطبوعة: "ويعني بالكعبة" وفي المخطوطة"وعنا بالكعبة" وصواب قراءتها ما أثبت.
(٤) في المطبوعة: "بالطعام" وأثبت ما في المخطوطة.
(٥) الأثر: ١٢٦٢٧-"يحيى" هو"ابن أبي زائدة" وهو: "يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة" ومضى مرارا.
41
١٢٦٢٨- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج وابن أبي سليم، عن عطاء قال: إذا قدمتَ مكة بجزاء صيدٍ فانحره، فإن الله تعالى ذكره يقول:"هديًا بالغ الكعبة"، إلا أن يقدَم في العشر، فيؤخِّرُه إلى يوم النحر. (١)
١٢٦٢٩- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا ابن جريج، عن عطاء قال: يتصدّق الذي يصيب الصيدَ بمكة. فإن الله تعالى ذكره يقول:"هديًا بالغ الكعبة".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أو على قاتل الصيد محرِمًا، عدلُ الصّيد المقتول من الصيام. وذلك أن يقوّم الصيد حيًّا غير مقتول قيمته من الطعام بالموضع الذي قتله فيه المحرم، ثم يصوم مكان كل مدٍّ يومًا. وذلك أن النبي ﷺ عَدَل المدَّ من الطعام بصوم يوم في كفَّارة المُوَاقع في شهر رمَضَان. (٢)
* * *
فإن قال قائل: فهلا جعلت مكان كلّ صاع في جزاءِ الصيد، صومَ يوم، قياسًا على حكم النبي ﷺ في نظيره، وذلك حكمه على كَعْب بن عُجْرة إذ أمره أن يطعم إنْ كفَّر بالإطعام فَرْقًا من طعام، وذلك ثلاثة آصُعٍ بين ستّة مساكين (٣) = إنْ كفر بالصيام أن يصوم ثلاثة أيام، فجعل الأيام
(١) في المطبوعة: "فيخر" بغير ضمير وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) انظر الأخبار في كفارة من أتى أهله في نهار رمضان وهو صائم في السنن الكبرى البيهقي ٤: ٢٢١- ٢٢٥.
(٣) انظر خبر"كعب بن عجرة" إذ شكا رأسه من صئبانه، فيما سلف في التفسير ٤: ٥٨- ٦٩ الآثار رقم: ٣٣٣٤- ٣٣٥٩.
42
الثلاثة في الصوم عَدْلا من إطعام ثلاثة آصع، فإن ذلك بالكفارة في جزاءِ الصيد، أشبهُ من الكفارة في قتلِ الصيد بكفَّارة المُواقع امرأتَه في شهر رمضان؟. قيل: إن"القياس"، إنما هو رَدُّ الفروع المختلف فيها، إلى نظائرها من الأصول المجمع عليها. ولا خلافَ بين الجميع من الحجّة أنه لا يجزئ مكفِّرًا كفَّر في قتل الصيد بالصوم، أن يعدِلَ صوم يوم بصاعِ طعام. فإذْ كان ذلك كذلك، وكان غير جائز خلافها فيما حدَّثت به من الدين مجمعةً عليه، (١) صحَّ بذلك أن حكم معادلة الصوم الطعامَ في قتل الصيد، مخالف حكم معادلته إيَّاه في كفارة الحلق، إذْ كان غير جائز ردّ أصْلٍ على أصْلٍ قياسًا. وإنما يجوز أن يقاس الفرعُ على الأصل. (٢) وسواء قال قائل:"هلا رددتَ حكم الصوم في كفارة قتلِ الصيد، على حكمه في حَلْق الأذى فيما يُعْدل به من الطعام"؟ = وآخر قال:"هلا رددت حكم الصوم في الحلق، على حكمه في كفارة قتل الصيد فيما يُعدلُ به من الطعام، فتُوجب عليه مكان كل مدٍّ أو مكان كل نصف صاع صومَ يوم"؟
* * *
وقد بينا فيما مضى قبل أن"العَدْل" في كلام العرب بالفتح، هو قدر الشيء من غير جنسه= (٣) وأن"العِدْل" هو قدره من جنسه. (٤)
وقد كان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول:"العدل" مصدر من قول القائل:"عَدَلت بهذا عَدْلا حسنًا". قال:"والعَدْل" أيضًا بالفتح،
(١) في المطبوعة: "حدت به من الدين" (بتشديد الدال والتاء في آخره) وفي المخطوطة"حدث به" بالثاء وصواب قراءتها ما أثبت.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "إذا كان غير جائز وداخل على آخر قياسا" وفي المخطوطة مثلها مهملة غير منقوطة. وهو كلام لا معنى له، بل الصواب المحض ما أثبت وذلك أن الكاتب كتب: "وداحل" وصوابها: "رد أصل" ثم كتب"على أحر" وصوابها: "على أصل" وهو ظاهر كلام أبي جعفر كما رأيت قبل، وكما ترى بعد.
(٣) في المطبوعة: "وهو قدر... " بزيادة"الواو" وهو خطأ.
(٤) انظر تفسير"العدل" فيما سلف ٢: ٣٥، ٥٧٤. ثم معاني القرآن للفراء ١: ٣٢٠، ثم مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٥٣، ١٧٥، ١٧٦.
43
المثل. ولكنهم فرَّقوا بين"العدل" في هذا وبين"عِدْل المتاع"، بأن كسروا"العين" من"عِدْل المتاع"، وفتحوها من قول الله تعالى: (١) وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [سورة البقرة: ١٢٣]، وقول الله عز وجل:"أو عدل ذلك صيامًا"، كما قالوا:"امرأة رَزان" وحجر رَزين". (٢)
وقال بعضهم:"العدل" هو القسط في الحق، و"العِدْل" بالكسر، المثل. وقد بينا ذلك بشواهد فيما مضى. (٣).
* * *
وأما نصب"الصيام" فأنه على التفسير، (٤) كما يقال:"عندي ملء زقٍّ سمنًا"، و"قدر رطلٍ عسلا". (٥)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. (٦)
(١) في المطبوعة: "من قولهم" وفي المخطوطة: "من قول هم" وهو خطأ غريب والصواب ما كتبت إن شاء الله.
(٢) نص هذا الكلام ذكره صاحب لسان العرب في مادة (عدل) ولم يشر إليه في مادة (رزن) فهو مما يقيد في اللسان في موضعه. وجاء في اللسان"وعجز رزين" وهو خطأ يصحح، إنما الصواب"وحجر" و"حجر رزين": ثقيل. وقد صرح صاحب أساس البلاغة فقال: "وامرأة رزان، ولا يقال"رزينة".
(٣) يعني ما سلف في ٢: ٣٥.
(٤) "التفسير" هو التمييز وانظر ما سلف في فهارس المصطلحات.
(٥) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٢٠.
(٦) عند هذا الموضع انتهى المجلد الثامن من مخطوطة التفسير التي اعتمدناها. وفيها هنا ما نصه:
"تم المجلد الثامن بحمد الله وعونه
وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه وسلم كثيرا.
يتلوه في التاسع إن شاء الله تعالى:
ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا أبو
عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال قلت لعطاء: ما
"عَدْل ذلك صيامًا"؟
قال: عدل الطعام من الصيام.
وكان الفراغ منه في شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة وسبعمئة".
ثم يليه في أول الجزء التاسع ما نصه:
"بسْم الله الرَّحمن الرحِيمِ
رَبِّ يَسِّرْ
بقية تفسير: "أَوْ عَدْلُ ذلك صِيَامًا".
44
١٢٦٣٠- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: ما"عدل ذلك صيامًا"؟ قال: عَدْل الطعامِ من الصيام. قال: لكل مدٍّ يومًا، يأخذ زعَم بصيام رمضان وبالظِّهار. (١) وزعم إن ذلك رأى يراه، ولم يسمعه من أحد، ولم تمض به سنة. قال: ثم عاودته بعد ذلك بحين، قلت: ما"عدل ذلك صيامًا"؟ قال: إن أصاب ما عَدْله شاةٌ، قوِّمت طعامًا، ثم صام مكان كل مدٍّ يومًا. قال: ولم أسأله: هذا رأي أو سنة مسنونة؟
١٢٦٣١ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير في قوله عز وجل:"أو عدل ذلك صيامًا"، قال: بصوم ثلاثةَ أيام إلى عشرة أيام.
١٢٦٣٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد:"أو عدل ذلك صيامًا"، من الجزاء، إذا لم يجد ما يشتري به هديًا، أو ما يتصدق به مما لا يبلُغ ثمنَ هدي، حكم عليه الصيامُ مكان كل نصفِ صاعٍ يومًا.
١٢٦٣٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أو عدل ذلك صيامًا"، قال: إذ قتل المحرم شيئًا من الصيد، حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجدها، فإطعام ستة مساكين. فإن لم يجد فصيام
(١) في المطبوعة: "يؤخذ" وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب. ومعنى قوله: "يأخذ" هنا، يعني به يقيس ذلك بكفارة المواقع أهله في نهار رمضان، وبكفارة الظهار.
45
ثلاثة أيام. وإن قتل أيِّلا أو نحوه، فعليه بقرة. فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينًا، فإن لم يجد، صام عشرين يومًا. وإن قتل نعامةً أو حمارَ وحش أو نحوه، فعليه بدنة من الإبل. فإن لم يجد، أطعم ثلاثين مسكينًا. فإن لم يجد، صام ثلاثين يومًا. والطعام: مدٌّ مدٌّ، شِبَعَهم. (١)
١٢٦٣٤ - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد، [سألته] المحرِم يصيب الصيد (٢) فيكون عليه الفدية، شاة، أو البقرة أو البدنة. فلا يجد، (٣) فما عدل ذلك من الصيام أو الصدقة؟ قال: ثمن ذلك، فإن لم يجد ثمنه، قوّم ثمنه طعامًا يتصدق به لكل مسكين مُدّ، ثم يصومُ بكُلّ مدٍّ يومًا. (٤)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: أوجبت على قاتل الصيد محرمًا ما أوجبت من الجزاء والكفارة الذي ذكرت في هذه الآية، (٥) كي يذوق وبال أمره وعذابه.
* * *
يعني:"بأمره"، ذنبه وفعله الذي فعله من قتله ما نهاه الله عز وجل عن قتله في حال إحرامه.
* * *
(١) الأثر: ١٢٦٣٣- مضى هذا الأثر برقم: ١٢٦٠٠ وفيه"شبعهم" بغير واو. وفي المخطوطة هنا"وشبعهم" بالواو والجيد حذف الواو. وفي المطبوعة هنا غيرها كما غيرها في الموضع السالف وكتب: "يشبعهم".
(٢) في المطبوعة: "عن سعيد: المحرم... " وفي المخطوطة: "عن سعيد: عن المحرم" فظاهر أنه سقط من الناسخ قوله: "وسألته" كما أثبتها بين القوسين وهو حق السياق كما ترى. والذي حذفه لناشر"عن" حذف مفسد للكلام.
(٣) في المطبوعة: "... أو البدنة فإن لم يجد فما عدل ذلك... " وهو تغيير فاسد جدا، أداه إليه التصرف المعيب كما رأيت في التعليق السالف.
(٤) في المطبوعة: "لكل مد" باللام وأثبت ما في المخطوطة.
(٥) في المطبوعة: "ما أوجبت من الحق او الكفارة" وهو كلام لا معنى له، وفي المخطوطة: "ما أوجبت من الحق او الكفارة" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها كما أثبته.
46
يقول: فألزمته الكفارة التي ألزمته إياها، لأذيقه عقوبة ذنبه. بإلزامه الغرامة، والعمل ببدنه مما يتعبه ويشق عليه. (١).
* * *
وأصل"الوبال"، الشدّة في المكروه، ومنه قول الله عز وجل: فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا [سورة المزمل: ١٦].
* * *
وقد بيّن تعالى ذكره بقوله:"ليذوق وبالَ أمره"، أنَّ الكفاراتِ اللازمةَ الأموالَ والأبْدَانَ، عقوباتٌ منه لخلقه، وإن كانت تمحيصًا لهم، وكفارةً لذُنُوبهم التي كفَّروها بها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٦٣٥ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"وبال أمره"، فعقوبة أمرِه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل من قائل لعباده المؤمنين به وبرسوله صلى الله عليه وسلم: عفا الله، أيها المؤمنون، عمَّا سلف منكم في جاهليتكم، من إصابتكم الصيد وأنتم حُرُم، وقتلِكموه، فلا يؤاخذكم بما كان منكم في ذلك قبل تحريمه إياه عليكم، ولا يلزمكم له كفارةً في مال ولا نفس. ولكن من عاد منكم لقتله وهو محرم،
(١) انظر تفسير"ذاق" فيما سلف ٧: ٩٦، ٤٤٦، ٤٥٢٨: ٤٨٧.
47
بعد تحريمه بالمعنى الذي كان يَقْتُله في حال كفره، وقبل تحريمه عليه، من استحلاله قتلَه، فينتقم الله منه. (١)
* * *
وقد يحتمل أن يكون معناه: (٢) من عاد لقتله بعد تحريمه في الإسلام، فينتقم الله منه في الآخرة. فأما في الدنيا، فإن عليه من الجزاء والكفَّارة فيها ما بيَّنت.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٦٣٦ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: ما"عفا الله عما سلف"؟ قال: عما كان في الجاهلية. قال قلت: ما"ومن عاد فينتقم الله منه"؟ قال: من عاد في الإسلام، فينتقم الله منه. وعليه مع ذلك الكفارة.
١٢٦٣٧- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء، فذكر نحوه= وزاد فيه، وقال: وإن عاد فقتل، عليه الكفارة. قلت: هل في العَوْد من حدٍّ يعلم؟ قال: لا قلت: فترى حقًّا على الإمام أن يعاقبه؟ قال: هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله، ولكن يفتدي.
١٢٦٣٨- حدثنا سفيان قال، حدثنا محمد بن بكر وأبو خالد، عن ابن جريج، عن عطاء:"ومن عاد فينتقم الله منه"، قال: في الإسلام، وعليه مع ذلك الكفارة. قلت: عليه من الإمام عقوبة؟ قال: لا. (٣)
(١) انظر تفسير"عفا" فيما سلف من فهارس اللغة= وتفسير"سلف" فيما سلف ٦: ١٤/ ٨: ١٣٧، ١٥٠.
(٢) في المطبوعة: "أن يكون ذلك معناه" زاد"ذلك" ليهلك العبارة!! وليست في المخطوطة.
(٣) الأثر: ١٢٦٣٨-"سفيان" هو: "سفيان بن وكيع". مضى مرارا.
*و"محمد بن بكر بن عثمان البرساني" مضى برقم: ٥٤٣٨.
*و"أبو خالد" هو الأحمر"سليمان بن حيان الأزدي" مضى برقم: ٣٩٥٦.
48
١٢٦٣٩- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:"عفا الله عما سلف"، عمَّا كان في الجاهلية="ومن عاد"، قال: في الإسلام="فينتقم الله منه"، وعليه الكفارة. قال قلت لعطاء: فعليه من الإمام عقوبة؟ قال: لا.
١٢٦٤٠- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: يحكم عليه في الخطإ والعمد والنسيان، وكلَّما أصاب، قال الله عز وجل:"عفا الله عما سلف"، قال: ما كان في الجاهلية="ومن عاد فينتقم الله منه"، مع الكفارة= قال سفيان، قال ابن جريج: فقلت: أيعاقبه السلطان؟ قال: لا.
١٢٦٤١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر وأبو خالد، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء:"عفا الله عما سلف"، قال: عما كان في الجاهلية.
١٢٦٤٢ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: يحكم عليه كلَّما عاد.
١٢٦٤٣ - حدثنا هناد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قال: كلَّما أصاب المحرم الصيد ناسيًا حُكِم عليه.
١٢٦٤٤ - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم قال: كلَّما أصاب الصيدَ المحرمُ حُكِم عليه.
١٢٦٤٥ - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء قال: من قتل الصيد ثم عاد، حكم عليه.
١٢٦٤٦ - حدثنا عمرو قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير قال: يحكم عليه، أفيُخْلَع! أفيُتْرك!. (١)
(١) في المطبوعة: "فيخلع أو يترك" فأفسد معنى الكلام إفسادا والصواب من المخطوطة. وهذا الاستفهام تعجب ممن سأله: "أيحكم عليه كلما عاد" فأجابه بذلك تأكيدا للحكم عليه كلما قتل الصيد. يعني أن العائد عليه الحكم في كل مرة! وإلا لأصبح مخلوعا متروكا يفعل بعد ذلك ما شاء في قتله الصيد وهو محرم. وانظر الأثر الآتي رقم: ١٢٦٥٢.
49
١٢٦٤٧ - حدثنا عمرو قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير: الذي يصيب الصيد وهو محرم فيحكم عليه ثم يعود؟ قال: يحكم عليه.
١٢٦٤٨ - حدثنا عمرو قال، حدثنا كثير بن هشام قال، حدثنا الفرات بن سلمان، عن عبد الكريم، عن عطاء قال: يحكم عليه كلَّما عاد. (١)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: عفا الله عما سلف منكم في ذلك في الجاهلية، ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه، بإلزامه الكفّارة.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٦٤٩ - حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو، عن زهير، عن سعيد بن جبير وعطاء في قوله الله تعالى ذكره:"ومن عاد فينتقم الله منه"، قالا"ينتقم الله"، يعني بالجزاء="عفا الله عما سلف"، في الجاهلية.
* * *
وقال آخرون في ذلك: عفا الله عما سلف من قتل من قتلَ منكم الصيدَ حرامًا في أول مرة. ومن عاد ثانية لقتله بعد أولى حرامًا، فاللهُ وليُّ الانتقام منه، دون كفارة تلزمه لقتله إياه.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٦٥٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
(١) الأثر: ١٢٦٤٨-"كثير بن هشام الكلابي" أبو سهل الرقي. نزل بغداد روى عنه أحمد وإسحق وابن معين ومحمد بن بشار بندار وغيرهم. مترجم في التهذيب والكبير للبخاري ٤ ١/٢١٨ وابن أبي حاتم ٣/٢/١٥٨.
و"الفرات بن سلمان الحضرمي الجزري الرقي" قال أبو حاتم: "لا بأس به محله الصدق صالح الحديث مترجم في تعجيل المنفعة: ٣٣١ والبخاري في الكبير ٤١/١٢٩ ولم يذكر فيه جرحا وابن أبي حاتم ٣٢/٨٠ وكان في المطبوعة: "بن سليمان" والصواب من المخطوطة.
ثم انظر إسناد الأثر التالي رقم: ١٢٦٦٣
50
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: من قتل شيئًا من الصيد خطأ وهو محرم، حكم عليه فيه مرة واحدة. فإن عاد يقال له:"ينتقم الله منك"، كما قال الله عز وجل.
١٢٦٥١- حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال. إذا أصاب المحرم الصيدَ حُكم عليه. فإن عاد، لم يحكم عليه، وكان ذلك إلى الله عز وجل، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه. ثم قرأ هذه الآية:"ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام".
١٢٦٥٢- حدثنا هناد قال، حدثنا يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا داود، عن عامر قال: جاء رجل إلى شريح فقال: إني أصبت صيدًا وأنا محرم! فقال: هل أصبت قبل ذلك شيئًا؟ قال: لا. قال: لو قلت"نعم"، وكلتك إلى الله يكون هو ينتقم منك، إنه عزيز ذو انتقام! قال داود: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: بل يحكم عليه، أفَيخْلَع! (١)
١٢٦٥٣- حدثني أبو السائب وعمرو بن علي قالا حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: إذا أصابَ الرجلُ الصيدَ وهو محرم، قيل له أصبت صيدًا قبل هذا؟ (٢) فإن قال:"نعم"، قيل له: اذهب، فينتقم الله منك! وإن قال"لا"، حكم عليه.
١٢٦٥٤- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم، في الذي يقتل الصيد ثم يعود، قال: كانوا يقولون: من عاد لا يحكم عليه، أمرُه إلى الله عز وجل.
١٢٦٥٥ - حدثنا عمرو قال، حدثنا ابن عيينة، عن داود بن أبي هند،
(١) في المطبوعة: "أو يخلع" غير ما في المخطوطة بلا طائل والصواب ما أثبت من المخطوطة وانظر ما فعله في خاتمة الأثر رقم: ١٢٦٤٦ والتعليق عليه ص٤٩. رقم: ١.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "مثل هذا" وهو خطأ صوابه ما أثبت.
51
عن الشعبي: أن رجلا أتى شريحًا فقال: أصبت صيدًا؟، قال: أصبت قبله صيدًا؟ قال: لا. قال: أما إنك لو قلت"نعم"، لم أحكم عليك.
١٢٦٥٦ - حدثنا عمرو قال، حدثنا ابن أبي عدي قال، حدثنا داود، عن الشعبي، عن شريح، مثله.
١٢٦٥٧ - حدثنا عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن الأشعث، عن محمد، عن شريح، في الذي يصيب الصيد قال: يحكم عليه، فإن عاد انتقمَ الله منه.
١٢٦٥٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكّام بن سلم، عن عنبسة، عن سالم، عن سعيد بن جبير:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثلُ ما قتل من النعم بحكم به ذوا عدل منكم"، قال: يحكم عليه في العمد مرة واحدة، فإن عاد لم يحكم عليه، وقيل له:"اذهب ينتقم الله منك"، ويحكم عليه في الخطأ أبدًا.
١٢٦٥٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن سعيد بن جبير قال: رُخّص في قتل الصيد مرة، فمن عاد لم يدعه الله تعالى ذكره حتى ينتقم منه.
١٢٦٦٠ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، مثله.
١٢٦٦١ - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي، جميعًا عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، فيمن أصاب صيدًا فحكم عليه، ثم أعاد، قال: لا يحكم، ينتقم الله منه.
١٢٦٦٢ - حدثنا عمرو قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إنما قال الله عز وجل:"ومن قتله منكم متعمدًا"، يقول: متعمدًا لقتله، ناسيًا لإحرامه، فذلك الذي يحكم عليه، فإن عاد لا يحكم عليه، وقيل له:"ينتقم الله منك".
١٢٦٦٣ - حدثنا عمرو قال، حدثنا كثير بن هشام قال، حدثنا الفرات
52
بن سلمان، عن عبد الكريم، عن مجاهد: إن عاد لم يحكم عليه، وقيل له:"ينتقم الله منك". (١)
١٢٦٦٤ - حدثنا عمرو قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا الأشعث، عن الحسن، في الذي يصيب الصيد فيحكم عليه ثم يعود، قال: لا يحكم عليه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: عفا الله عما سلف من قتلكم الصيد قبل تحريم الله تعالى ذكره ذلك عليكم. ومن عاد لقتله بعد تحريم الله إياه عليه، عالمًا بتحريمه ذلك عليه، عامدًا لقتله، ذاكرًا لإحرامه، فإن الله هو المنتقم منه، ولا كفارة لذنبه ذلك، ولا جزاء يلزمه له في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٦٦٥ - حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومن عاد فينتقم الله منه"، قال: من عاد بعد نهي الله - بعد أن يعرف أنه محرَّم، وأنه ذاكرٌ لِحُرْمه (٢) - لم ينبغ لأحد أن يحكم عليه، ووكلوه إلى نقمة الله عز وجل. فأما الذي يتعمد قتلَ الصيد وهو ناس لحرمه، أو جاهل أنّ قتله محرَّم، فهؤلاء الذين يحكم عليهم. فأما من قتله متعمدًا بعد نهي الله، وهو يعرف أنه محرَّم، وأنه حَرام، (٣) فذلك يوكل إلى نقمة الله، فذلك الذي جعل الله عليه النقمة.
* * *
وهذا شبيه بقول مجاهد الذي ذكرناه قبل. (٤)
* * *
(١) الأثر: ١٢٦٦٣-"كثير بن هشام الكلابي" و"الفرات بن سلمان الجزري" مضيا قريبا برقم: ١٢٦٤٨، وكان في المطبوعة هنا أيضا"الفرات بن سليمان" وهو خطأ صوابه ما في المخطوطة.
(٢) "الحرم" (بضم الحاء وسكون الراء) : الإحرام وقد سلف شرحه.
(٣) "حرام" أي: محرم.
(٤) يعني ما سلف رقم: ١٢٦٦٢.
53
وقال آخرون: عُنِي بذلك شخصٌ بعينه.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٦٦٦ - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا معتمر بن سليمان قال، حدثنا زيد أبو المعلى: أن رجلا أصاب صيدًا وهو محرم، فتجُوِّز له عنه. ثم عاد، فأرسل الله عليه نارًا فأحرقته، فذلك قوله:"ومن عاد فينتقم الله منه"، قال: في الإسلام. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا، قولُ من قال: معناه:"ومن عاد في الإسلام لقتله بعد نهي الله تعالى ذكره عنه، فينتقم الله منه، وعليه مع ذلك الكفارة"، لأن الله عز وجل إذْ أخبر أنه ينتقم منه، لم يخبرنا= وقد أوجب عليه في قتله الصيد عمدًا ما أوجب من الجزاء أو الكفارة بقوله:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثلُ ما قتل من النعم" = أنه قد أزال عنه الكفارة في المرة الثانية والثالثة، بل أعلم عبادَه ما أوجبَ من الحكم على قاتل الصيد من المحرمين عمدًا، ثم أخبر أنه منتقم ممن عاد، ولم يقل:"ولا كفارة عليه في الدنيا".
* * *
فإن ظن ظانّ أن الكفارة مزيلةٌ العقابَ، (٢) ولو كانت الكفارةُ لازمةً له في الدنيا، لبطلَ العقاب في الآخرة، فقد ظنّ خطأ. وذلك أن الله عز وجلّ أن يخالف بين عقوبات معاصيه بما شاء وأحب، فيزيد في عقوبته على بعض معاصيه مما ينقصُ من بعض، وينقص من بعض مما يزيد في بعض، كالذي فعل من ذلك في مخالفته بين عقوبته الزانيَ البكرَ والزانيَ الثيِّبَ المحصن، وبين سارق
(١) الأثر: ١٢٦٦٦-"زيد""أبو المعلى" مترجم في"زيد بن مرة" و"زيد بن أبي ليلى""أبو المعلى" مولى بني العدوية. قال أبو حاتم: "صالح الحديث" وقال أبو داود الطيالسي: "وكان ثقة". مترجم في لسان الميزان ٢: ٥١١ والكبير للبخاري ٢/١/٣٧٠، وعلق عليه ناشر التاريخ. تعليقا وافيا. وابن أبي حاتم ١/٢/٥٧٣.
(٢) في المطبوعة: "مزيلة للعقاب" بزيادة اللام وهو تغيير لعبارة أبي جعفر في المخطوطة. وقوله: "العقاب" منصوب مفعول به لقوله: "مزيلة".
54
ربع دينار وبين سارق أقلَّ من ذلك. فكذلك خالف بين عقوبته قاتلَ الصيد من المحرمين عمدًا ابتداءً، وبين عقوبته عَوْدًا بعد بدء. فأوجب على الباديء المثلَ من النعم، أو الكفارة بالإطعام، أو العدل من الصيام، وجعل ذلك عقوبة جُرْمه بقوله:"ليذوق وبال أمره"، وجعل على العائد بعد البدء، وزاده من عقوبته ما أخبر عبادَه أنه فاعل به من الانتقام، تغليظًا منه عز وجل للعود بعد البدء. ولو كانت عقوباته على الأشياء متفقة، لوجب أن لا يكون حدٌّ في شيء، مخالفًا حدًّا في غيره، ولا عقابٌ في الآخرة، أغلظ من عقابٍ. وذلك خلاف ما جاء به محكم الفرقان.
* * *
وقد زعم بعض الزاعمين أن معنى ذلك: ومن عاد في الإسلام بعد نَهْي الله عن قتله = لقتله بالمعنى الذي كان القوم يقتلونه في جاهليتهم، فعفا لهم عنه عند تحريم قتله عليهم، وذلك قتله على استحلال قتله. قال: فأما إذا قتله على غير ذلك الوجه= وذلك أن يقتله على وجه الفسوق لا على وجه الاستحلال= فعليه الجزاء والكفارة كلَّما عاد.
وهذا قول لا نعلم قائلا قاله من أهل التأويل. وكفي خطأ بقوله، خروجه عن أقوال أهل العلم، لو لم يكن على خطئه دلالة سواه، فكيف وظاهر التنزيل ينبئ عن فساده؟ وذلك أن الله عز وجل عمّ بقوله:"ومن عاد فينتقم الله منه"، كلَّ عائد لقتل الصيد بالمعنى الذي تقدم النهي منه به في أوّل الآية، ولم يخصّ به عائدًا منهم دون عائد. فمن ادَّعى في التنزيل ما ليس في ظاهره، كُلِّف البرهانَ على دعواه من الوجه الذي يجب التسليمُ له.
* * *
وأما من زعم أن معنى ذلك: ومن عاد في قتله متعمدًا بعد بدء لقتل تقدم منه في حال إحرامه، فينتقم الله منه، كان معنى قوله: (١) "عفا الله عما سلف"،
(١) في المطبوعة: "فإن معنى قوله" وهو خطأ في قراءة المخطوطة وإفساد للسياق والمعنى جميعا.
55
إنما هو: عفا الله عما سلف من ذنبه بقتله الصيد بدءًا= (١) فإنّ في قول الله تعالى ذكره:"ليذوق وبال أمره"، دليلا واضحًا على أن القول في ذلك غير ما قال، لأن العفو عن الجرم: تركُ المؤاخذة به. ومن أذيق وبال جرمه، فقد عوقب به. وغير جائز أن يقال لمن عوقب:"قد عفي عنه". وخبر الله عز وجل أصدق من أن يقع فيه تناقض.
* * *
فإن قال قائل: وما ينكر أن يكون قاتل الصيد من المحرمين في أوّل مرّة، قد أذيق وبال أمره بما ألزم من الجزاء والكفارة، وعفي له من العقوبة بأكثر من ذلك مما كان لله عز وجل أن يعاقبه به؟
قيل له: فإن كان ذلك جائزًا أن يكون تأويلَ الآية عندك= وإن كان مخالفًا لقول أهل التأويل= فما تُنكر أن يكون الانتقام الذي أوعده الله تعالى ذكره على العود بعد البدء، هو تلك الزيادة التي عفاها عنه في أول مرة، (٢) مما كان له فعله به مع الذي أذاقه من وبال أمره، فيذيقه في عوده بعد البدء وبالَ أمره الذي أذاقه المرة الأولى= ويترك عفوَه عما عفا عنه في البدء، فيؤاخذه به؟ فلن يقول في ذلك شيئا إلا ألزم في الآخر مثله. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٩٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول عز وجل: والله منيعٌ في سلطانه، لا يقهره قاهرٌ، ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه، ولا من عقوبة من أراد عقوبته، مانع. لأن
(١) قوله: "فإن قول الله.. ز" جواب قوله: "فأما من زعم... ".
(٢) يقال: "عفا له ذنبه" متعديا و"عفا له عن ذنبه" لازما.
(٣) في المطبوعة: "فلم يقل في ذلك شيئا" وفي المخطوطة: "فلم يقول... " وصواب قراءتها ما أثبت.
56
الخلق خلقه، والأمر أمره، له العزة المَنَعة. (١)
وأما قوله:"ذو انتقام"، فإنه يعني به: معاقبتَه لمن عصاه على معصيته إياه.
* * *
(١) انظر تفسير"عزيز" فيما سلف ١٠: ٢٨٩ تعليق ١، والمراجع هناك.
57
القول في تأويل قوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"أحل لكم"، أيها المؤمنون،"صيد البحر" = وهو ما صيد طريًّا، كما:-
١٢٦٦٧ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال عمر بن الخطاب في قوله:"أحل لكم صيد البحر"، قال: صيده، ما صيد منه. (١)
١٢٦٦٨ - حدثني ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن سماك قال: حُدِّثت، عن ابن عباس قال: خطب أبو بكر الناس فقال:"أحل لكم صيد البحر"، قال: فصيده ما أخذ. (٢)
١٢٦٦٩ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"أحل لكم صيد البحر"، قال: صيده، ما صيد منه. (٣)
١٢٦٧٠ - حدثنا سليمان بن عمر بن خالد البرقي قال، حدثنا محمد بن سلمة
(١) الأثر: ١٢٦٦٧-"عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضى برقم: ٣٩١١ قال ابن سعد: "كان كثير الحديث وليس يحتج بحديثه". وقال شعبة: "أحاديثه واهية". وقد مضى الكلام فيه. وكان في المخطوطة هنا"عمرو بن أبي سلمة" وهو خطأ سيأتي على الصواب في رقم: ١٢٦٨٧ في المخطوطة.
وأبوه: "أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضى برقم: ٨، ٦٧، ٣٠١٥، ٨٣٩٤، ثقة. وهذا الخبر مختصر الخبر الآتي رقم: ١٢٦٨٧ وسياتي تخريجه هناك.
(٢) الأثر: ١٢٦٦٨- سيأتي هذا الخبر بنفس هذا الإسناد بغير هذا اللفظ برقم ١٢٦٨٦.
(٣) الأثر: ١٢٦٦٩- رواه البيهقي في السنن ٩: ٢٥٥ من طريق خلف بن خليفة عن حصين مطولا بنحوه.
57
الحرّاني، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"أحل لكم صيد البحر"، قال: صيده، الطريّ. (١)
١٢٦٧١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الهذيل بن بلال قال، حدثنا عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن عباس في قوله:"أحل لكم صيد البحر"، قال: صيدُه، ما صِيد. (٢)
١٢٦٧٢ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أحل لكم صيد البحر"، قال: الطريّ.
١٢٦٧٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا الحسن بن علي بن الحنفيّ = أو: الحسين، شك أبو جعفر = عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، قال: كان ابن عباس يقول: صيد البحر، ما اصطاده. (٣)
(١) الأثر: ١٢٦٧٠-"سليمان بن عمر بن خالد الرقي القرشي" الأقطع مضى برقم: ٦٢٥٤.
وكان في المطبوعة: "البرقي" وهو خطأ محض.
و"محمد بن سلمة الحراني الباهلي" ثقة مضى برقم: ١٧٥.
(٢) الأثر: ١٢٦٧١-"هذيل بن بلا الفزاري المدائني""أبو البهلول" ضعيف قال ابن معين"ليس بشيء". وقال أبو زرعة: "هو لين ليس بالقوي". وقال ابن حيان: "يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل فصار متروكا". وقال ابن سعد: "كان ضعيفا". ولكن قال أبو حاتم: "محله الصدق يكتب حديثه". وضعفه النسائي والدارقطني. مترجم في الكبير ٤/٢/٢٤٥ ولم يذكر فيه جرحا وابن أبي حاتم ٤/٢/١١٣ وفي تعجيل المنفعة: ٤٣٠ ولسان الميزان ٦: ١٩٢ وميزان الاعتدال ٣: ٢٥١. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "هذيل ابن هلال" بالهاء وهو خطأ محض. وسيأتي على الصواب في المخطوطة: "بلال" في رقم: ١٢٦٩٣، ولكن الناشر سيغيره هناك إلى"هلال" خطأ أيضا.
*و"عبد الله بن عبيد بن عمير بن قتادة الليثي الجندعي" روى عن أبيه وقيل لم يسمع منه وروى عن عائشة وابن عباس وابن عمر. روى عنه"هذيل بن بلال" وجرير بن حازم وابن جريج والأوزاعي وعكرمة بن عمار وغيرهم. ثقة. وكان مستجاب الدعوة. مترجم في التهذيب.
(٣) الأثر: ١٢٦٧٣="الحسن بن علي الحنفي "أو"الحسين بن علي الحنفي" لم أجد لأحدهما ترجمة في المراجع التي بين يدي. وكان في المطبوعة: "الجعفي" وهو تغيير بلا هدى. فإن"الجعفي" هو"الحسين بن علي الجعفي" مضى مرارا كثيرة وهو أجل من أن يشك في اسمه أبو جعفر أو سفيان بن وكيع. ثم انظر الأثر التالي رقم: ١٢٦٩٢.
58
١٢٦٧٤ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"أحل لكم صيد البحر"، قال: الطريّ.
١٢٦٧٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن الحجاج، عن العلاء بن بدر، عن أبي سلمة قال:"صيد البحر"، ما صيد. (١)
١٢٦٧٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"أحل لكم صيد البحر"، قال: الطريّ.
١٢٦٧٧ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، مثله.
١٢٦٧٨- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"أحل لكم صيد البحر"، قال: السمك الطريّ.
١٢٦٧٩ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أحل لكم صيد البحر"، أما"صيد البحر"، فهو السمك الطريّ، هي الحيتان.
١٢٦٨٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: صيده، ما اصطدته طريًّا- قال معمر، وقال قتادة: صيده، ما اصطدته. (٢)
١٢٦٨١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"أحل لكم صيد البحر"، قال: حيتانه.
(١) الأثر: ١٢٦٧٥-"العلاء بن بدر" نسب إلى جده وهو: "العلاء بن عبد الله بن بدر الغنوي" مضى برقم: ٧٩٣٩.
(٢) الأثر: ١٢٦٨٠-"أبو سفيان" هو"أبو سفيان المعمري""محمد بن حميد اليشكري". مضى برقم: ١٧٨٧، ٨٨٢٩.
59
١٢٦٨٢ - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمر بن أبي سلمة قال، سئل سعيد عن صيد البحر فقال، قال مكحول، قال زيد بن ثابت: صيده، ما اصطدت. (١)
١٢٦٨٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، قال: يصطاد المحرِم والمحلُّ من البحر، ويأكلُ من صيده.
١٢٦٨٤ - حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال: قال أبو بكر: طعام البحر كلُّ ما فيه= وقال جابر بن عبد الله: ما حَسر عنه فكُلْ. وقال: كلّ ما فيه= يعني: جميع ما صيدَ (٢).
١٢٦٨٥ - حدثنا سعيد بن الربيع قال، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع عكرمة يقول: قال أبو بكر:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، قال: هو كل ما فيه.
* * *
وعنى ب"البحر"، في هذا الموضع، الأنهار كلها. والعرب تسمى الأنهار"بحارًا"، كما قال تعالى ذكره: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ). (٣)
(١) الأثر: ١٢٦٨٢-"عمرو بن أبي سلمة التنيسي" مضى برقم: ٣٩٩٧، ٥٢٣٠، ٥٤٤٤، ٦٦٢٨، وكان في المطبوعة هنا"عمر بن أبي سلمة" وهو خطأ ذاك أقدم من هذا (انظر ما مضى رقم: ١٢٦٦٧). والصواب من المخطوطة.
و"سعيد" هذا هو"سعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى التنوخي" مضى رقم: ٦٥٢٩ ٨٩٦٦، ٩٠٧١. ومضى أيضا في الأثر: ٣٩٧٧ غير مترجم في مثل هذا الإسناد.
وهذا الخبر أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٢٣٢ ولم ينسبه لغير الطبري.
(٢) الأثر: ١٢٦٨٤- خرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٢٣٢، ولم ينسبه لغير الطبري.
(٣) مضى ذكر"البحر" في سورة البقرة: ٥٠ (٢: ٥٠) ولم يشرح هذا الحرف هناك. وهذا من وجوه اختصار تفسيره. ولكن جاء تفسير"البحر" في الأثر السالف رقم: ٣٩٨٥ بغير هذا المعنى، فانظره.
60
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: أحل لكم، أيها المؤمنون، طريّ سمك الأنهار الذي صدتموه في حال حِلِّكم وحَرَمكم، وما لم تصيدوه من طعامه الذي قتله ثم رَمى به إلى ساحله.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"وطعامه".
فقال بعضهم: عني بذلك: ما قذف به إلى ساحله ميتًا، نحو الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٦٨٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن سماك قال، حدثت عن ابن عباس قال: خطب أبو بكر الناس فقال:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، وطعامه، ما قَذَف. (١)
١٢٦٨٧- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: كنت بالبحرين، فسألونى عما قذف البحر. قال: فأفتيتهم أن يأكلوا. فلما قدمتُ على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذكرت ذلك له، فقال لي: بم أفتيتهم؟ (٢) قال، قلت: أفيتهم أن يأكلوا؟ قال: لو أفتيتهم بغير ذلك لعلوتك بالدِّرَّة! قال: ثم قال: إن الله تعالى قال في كتابه:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، فصيده، ما صيد منه= وطعامه، ما قَذَف. (٣)
(١) الأثر: ١٢٦٨٦- مضى بهذا الإسناد بغير هذا اللفظ فيما سلف رقم: ١٢٦٦٨. وهذا الخبر نقله ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٤٢ والسيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٣١ وزاد نسبته لعبد بن حميد.
(٢) في المخطوطة: "بما أفتيتهم" وهو الأصل وهو صواب.
(٣) الأثر: ١٢٦٨٧- مضى مختصرا بهذا الإسناد رقم: ١٢٦٦٧. وذكرت هناك ما قالوه في ضعف"عمر بن أبي سلمة".
وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى ٩: ٢٥٤، من طريق سعيد بن منصور عن أبي عوانه عن عمر بن أبي سلمة بنحوه.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٣١ وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد، وابن المنذر وأبي الشيخ.
61
١٢٦٨٨ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، قال: طعامه ما قَذَف.
١٢٦٨٩- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عباس في قوله:"احل لكم صيد البحر وطعامه"، قال: طعامه ما قذف.
١٢٦٩٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عباس، مثله.
١٢٦٩١ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"طعامه"، كل ما ألقاه البحر. (١)
١٢٦٩٢ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا الحسن بن علي = أو: الحسين بن على الحنفي، شك أبو جعفر = عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"طعامه"، ما لفظ من ميتته. (٢)
١٢٦٩٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الهذيل بن بلال قال، حدثنا عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن عباس:"أحل لكم صيد البحر وطعامه"، قال:"طعامه"، ما وجد على الساحل ميتًا. (٣)
(١) الأثر: ١٢٦٩١-"حسين بن علي بن الوليد الجعفي" مضى مرارا منها رقم: ٢٩، ١٧٤، ٤٤١٥، ٧٢٨٧، ٧٤٩٩. وهو غير الذي سيأتي بعده، كما أشرت إليه في التعليق على الأثر رقم: ١٢٦٧٣.
(٢) الأثر: ١٢٦٩٢-"الحسن بن علي الحنفي "أو"الحسين بن علي الحنفي" مضى الكلام عنه، وإني لم أجده فيما سلف رقم: ١٢٦٧٣. وغيره هنا في المطبوعة وكتب"الجعفي" وهو هنا أيضا في المخطوطة: "الحنفي".
(٣) الأثر: ١٢٦٩٣-"الهذيل بن بلال الفزاري المدائني" مضى برقم: ١٢٦٧١، وهو في المخطوطة هنا"بلال" ولكن غيره الناشر في المطبوعة فكتب: "هلال" وهو خطأ كما بينت هناك.
*و"عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي" مضى أيضا برقم: ١٢٦٧١.
62
١٢٦٩٤ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عباس قال:"طعامه"، ما قذف به.
١٢٦٩٥ - حدثنا سعيد بن الربيع قال، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع عكرمة يقول: قال أبو بكر رضي الله عنه:"وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، هو كل ما فيه.
١٢٦٩٦ - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج قال، أخبرني عمرو بن دينار، عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال أبو بكر:"وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، ميتته= قال عمرو: وسمعت أبا الشعثاء يقول: (١) ما كنت أحسب طعامه إلا مالحه.
١٢٦٩٧ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج قال، أخبرني أبو بكر بن حفص بن عمر بن سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، ميتته. (٢)
١٢٦٩٨ - حدثنا حميد بن مسعدة (٣) قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن عثمان، عن عكرمة:"وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، ما قذف.
١٢٦٩٩ - حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا معمر بن سليمان قال، سمعت عبيد الله، عن نافع قال: جاء عبد الرحمن إلى عبد الله فقال: البحر قد ألقى حيتانًا كثيرة؟ قال: فنهاه عن أكلها، ثم قال: يا نافع، هات
(١) في المطبوعة: "وسمع" وفي المخطوطة: "وسمعه" وصواب قراءتها ما أثبت كما سيأتي في رقم: ١٢٧٠٢.
(٢) الأثر: ١٢٦٩٧-"أبو بكر بن حفص بن عمر بن سعد" اسمه"عبد الله بن حفص" ثقة مضى برقم: ٣٠٣٥.
(٣) في المخطوطة: "جرير بن مسعدة" والصواب ما في المطبوعة.
63
المصحف! فأتيته به، فقرأ هذه الآية:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، قال، قلت:"طعامه"، هو الذي ألقاه. قال: فالحقْهُ، فمُرْهُ بأكله. (١)
١٢٧٠٠- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن نافع: أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر، فقال: إن البحر قذف حيتانًا كثيرة ميتة، أفنأكلها؟ قال: لا تأكلوها! فلما رجع عبد الله إلى أهله أخذ المصحف فقرأ"سورة المائدة"، فأتى على هذه الآية:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، قال: اذهب، فقل له فليأكله، فإنه طعامه. (٢)
١٢٧٠١ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، بنحوه.
١٢٧٠٢- حدثني المثنى قال، حدثنا الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج قال، أخبرني عمرو بن دينار، عن عكرمة مولى ابن عباس قال، قال أبو بكر رضي الله عنه:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: ميتته= قال عمرو: سمعت أبا الشعثاء يقول: ما كنت أحسب"طعامه" إلا مالحه. (٣)
١٢٧٠٣ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج قال، أخبرنا نافع: أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر عن حيتان كثيرة ألقاها البحر، أميتة هي؟ قال: نعم! فنهاه عنها، ثم دخل البيت فدعا
(١) الأثر: ١٢٦٩٩-"عبد الرحمن" هو: "عبد الرحمن بن أبي هريرة" و"عبد الله" هو"عبد الله بن عمر" وسيأتي تخريجه في الذي يليه.
(٢) الأثر: ١٢٧٠٠- هو طريق أخرى للأثر السالف.
*وهذا الخبر رواه مالك عن نافع بمثله في الموطأ: ٤٩٤. ورواه البيهقي عن مالك في السنن الكبرى ٩: ٢٥٥. وسيأتي من طريق أخرى برقم: ١٢٧٠٣.
*ونقله ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٤٢ ولم يخرجه وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٣٢، وقصر في نسبته وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.
(٣) الأثر: ١٢٧٠٢- مضى هذا الأثر من رواية أبي جعفر عن"محمد بن المثنى" بمثل إسناده هنا رقم: ١٢٦٩٦.
64
بالمصحف فقرأ تلك الآية:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، كل شيء أخرج منه، فكله، فليس به بأس. وكل شيء فيه يأكل، ميت أو بساحليه. (١)
١٢٧٠٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر قال قتادة:"طعامه"، ما قذف منه. (٢)
١٢٧٠٥ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن ليث، عن شهر، عن أبي أيوب قال: ما لفظ البحر فهو طعامه، وإن كان ميتًا.
١٢٧٠٦ - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن ليث، عن شهر، قال: سئل أبو أيوب عن قول الله تعالى ذكره:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا"، قال: هو ما لفظ البحر.
* * *
وقال آخرون: عنى بقوله:"وطعامه"، المليح من السمك (٣) = فيكون تأويل الكلام على ذلك من تأويلهم: أحل لكم سمك البحر ومَليحه في كل حال، في حال إحلالكم وإحرامكم. (٤)
* ذكر من قال ذلك:
١٢٧٠٧ - حدثنا سليمان بن عُمَر بن خالد الرقيّ قال، حدثنا محمد بن سلمة، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس:"وطعامه"، قال:"طعامه"، المالح منه. (٥)
(١) الأثر: ١٢٧٠٣- مضى هذا الخبر بثلاثة أسانيد أخرى رقم: ١٢٦٩٩- ١٢٧٠١ وخرجته في رقم: ١٢٧٠٠. وفي المطبوعة: "ميتا" بالنصب وأثبت ما في المخطوطة وهو صواب لا بأس به. وفي المطبوعة: "بساحله" بالإفراد وفي المخطوطة بالتثنية كما أثبتها.
(٢) الأثر: ١٢٧٠٤- انظر التعليق على الأثر السالف رقم: ١٢٦٨٠"أبو سفيان" هو: المعمري، "محمد بن حميد اليشكري".
(٣) "المليح" على وزن"فعيل" هو المملح يقال: "سمك مال ومليح ومملوح ومملح".
(٤) في المطبوعة أسقط من العبارة"في حال" وأثبتها من المخطوطة.
(٥) الأثر: ١٢٧٠٧-"سليمان بن عمر بن خالد الرقي" مضى برقم: ١٢٦٧٠، وكذلك هو في المخطوطة أما في المطبوعة فقد جعله"سليمان بن عمرو بن خالد البرقي" وهو خطأ في موضعين صوابه ما أثبت.
أما قوله: "المالح منه" فقد استنكر الجوهري وغيره أن يقال: "سمك مالح" وقال يونس: "لم أسمع أحدا من العرب يقول: مالح". والذي لم يسمعه يونس سمعه غير هو جاء في فصيح الشعر وهكذا جاء في الآثار التي هنا وهو صواب لا شك فيه عندي والصواب ما قاله ابن بري أن وجه جوازه هذا من جهة العربية أن يكون على النسب مثل قولهم: "ماء دافق" أي ذو دفق. وكذلك"ماء مالح" أي: ذو ملح وكما يقال: "رجل تارس" أي ذو نرس و"رجل دارع" أي ذو درع. قال: ولا يكون هذا جاريا على الفعل وهو الصواب إن شاء الله. (انظر لسان العرب، مادة: ملح).
65
١٢٧٠٨- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وطعامه متاعًا لكم"، يعني: بطعامه، مالحه، وما قذف البحر منه، مالحه. (١)
١٢٧٠٩- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وطعامه متاعًا لكم"، وهو المالح.
١٢٧١٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن مجمّع التيمي، عن عكرمة في قوله:"متاعًا لكم" قال: المليح. (٢)
١٢٧١١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن سالم الأفطس وأبي حصين، عن سعيد بن جبير قال: المليح.
١٢٧١٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن
(١) في المطبوعة: "وما قذف البحر من مالحه" غير ما في المخطوطة فأفسد العبارة. وقوله"مالحه" الأخيرة خبر المبتدأ"ما قذف البحر منه".
(٢) الأثر: ١٢٧١٠-"سفيان" هو الثوري.
و"مجمع التيمي" هو: "مجمع بن سمعان "أو"مجمع بن صمعان" أبو حمزة التيمي الكوفي النساج الحائك. قال ابن عيينة: "كان له من الفضل غير قليل". روى عنه أبو حيان التيمي وسفيان الثوري. ووثقه يحيى بن معين. مترجم في الكبير للبخاري ٤/١/٤٠٩ وابن أبي حاتم ٤/١/٢٩٥. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "سفيان بن مجمع التيمي" وهو خطأ لا شك فيه. وليس في الرواة من يسمى كذلك.
66
منصور، عن إبراهيم:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: المليح، وما لَفَظ.
١٢٧١٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن سالم، عن سعيد بن جبير في قوله:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، قال: يأتي الرجل أهلَ البحر فيقول:"أطعموني"! فإن قال:"غريضًا"، ألقوا شبكتهم فصادوا له. وإن قال:"أطعموني من طعامكم"، أطعموه من سمكهم المالح. (١)
١٢٧١٤ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن عطاء، عن سعيد:"أحل لكم صيد البحر وطعامه"، قال: المنبوذ، السمك المالح.
١٢٧١٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"وطعامه"، قال: المالح.
١٢٧١٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:"وطعامه"، قال: هو مليحُه. (٢) ثم قال: ما قَذَف.
١٢٧١٧ - حدثنا ابن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وطعامه"، قال: مملوح السمك.
١٢٧١٨- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرني الثوري، عن منصور قال: كان إبراهيم يقول:"طعامه"، السمك المليح. ثم قال بعد: ما قذفَ به.
١٢٧١٩- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا الثوري، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير قال:"طعامه"، المليح.
١٢٧٢٠ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا إسرائيل، عن عبد الكريم، عن مجاهد قال:"طعامه"، السمك المليح.
(١) الأثر: ١٢٧١٣- سيأتي مطولا برقم: ١٢٧٥٣.
(٢) في المطبوعة: "مالحه" وأثبت ما في المخطوطة وهكذا قراءتها على سوء كتابة الناسخ.
67
١٢٧٢١ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: الصِّير= قال شعبة، فقلت لأبي بشر: ما الصِّير؟ قال: المالح. (١)
١٢٧٢٢- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا هشام بن الوليد قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن جعفر بن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير قوله:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: الصِّير. قال قلت: ما الصير؟ قال: المالح.
١٢٧٢٣ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: أما"طعامه"، فهو المالح.
١٢٧٢٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب:"وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، ما تزوّدت مملوحًا في سفرك.
١٢٧٢٥ - حدثنا عمرو بن عبد الحميد وسعيد بن الربيع الرازي قالا حدثنا سفيان، عن عمرو قال، قال جابر بن زيد: كنا نُحَدَّث أن"طعامه" مليحه، ونكره الطافي منه. (٢)
* * *
(١) "الصير" (بكسر الصاد) ويقال له: "الصحناة" وقيل: هي السمكات المملوحة التي تعمل منها الصحناة وهي كالفسيخ في بلادنا ذكرها جرير في شعره فقال في هجاء آل المهلب وهم من الأزد:
إن الخلافة لم تقدر ليملكها عبد لأزدية في بظرها عقف
كانوا إذا جعلوا في صيرهم بصلا ثم اشتووا كنعدا من مالح جدفوا
و"الكنعد": ضرب من السمك. وقوله: "جدفوا" أكلوا"الجدف" (بفتحتين) وهو يكون باليمن تاكله الإبل فتجزأ به عن الماء ولا يحتاج مع اكله إلى شرب ماء.
وفي المخطوطة في المواضع كلها: "الصر" مهملة لا تقرأ صوابها في المطبوعة.
(٢) الأثر: ١٢٧٢٥-"سفيان" هو الثوري= أو"سفيان بن عيينة" كلاهما روى عن عمرو بن دينار."عمرو" هو"عمرو بن دينار". وكان في المطبوعة: "سفيان بن عمرو" وهو خطأ محض.
و"جابر بن زيد الأزدي" هو"أبو الشعثاء" مضى كثيرا وترجم في: ٥٣١٦، ٥٤٧٢.
68
وقال آخرون:"طعامه"، ما فيه.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٧٢٦ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال: طعام البحر، ما فيه.
١٢٧٢٦ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حريث، عن عكرمة:"وطعامه متاعًا لكم"، قال: ما جاء به البحر بموجه، هكذا. (١)
١٢٧٢٨ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن حسن بن صالح، عن ليث، عن مجاهد قال:"طعامه"، كل ما صيد منه. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا، قولُ من قال:"طعامه"، ما قذفه البحر، أو حَسَر عنه فوُجد ميتًا على ساحله. وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر قبله صيدَ الذي يصاد، فقال:"أحل لكم صيد البحر"، فالذي يجب أن يعطف عليه في المفهوم ما لم يُصَدْ منه، فقال: أحل لكم ما صدتموه من البحر، وما لم تصيدوه منه.
وأما"المليح"، فإنه ما كان منه مُلِّح بعد الاصطياد، فقد دخل في جملة قوله:"احل لكم صيد البحر"، فلا وجه لتكريره، إذ لا فائدة فيه. وقد أعلم
(١) في المطبوعة: "ماء به البحر بوجه" فغير وحذف"هكذا" كأنه ظن"هكذا" إشارة إلى استشكال كلمة"بموجه"! وهذا غريب. وقوله: "هكذا" يريد بذلك الإشارة إلى أنه جاء طافيا.
(٢) الأثر: ١٢٧٢٨-"حميد بن عبد الرحمن بن حميد الراسي" مضى برقم: ٤٩٢٦، ٨٧٧٠. و"الحسن بن صالح بن صالح بن حي الثوري" مضى برقم: ١٧٨، ٥٣٤٧، ٧٥٩٤.
69
عبادَه تعالى ذكره: إحلالَه ما صيد من البحر بقوله:"أحل لكم صيد البحر". فلا فائدة أن يقال لهم بعد ذلك:"ومليحه الذي صيد حلال لكم"، لأن ما صيد منه فقد بُيِّن تحليله، طريًّا كان أو مليحًا، بقوله:"أحل لكم صيد البحر" والله يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة.
* * *
وقد روي عن رسول الله ﷺ بنحو الذي قلنا خبر، وإن كان بعض نقلته يقف به على ناقلِه عنه من الصحابة، وذلك ما:-
١٢٧٢٩ - حدثنا هناد بن السريّ قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم"، قال:"طعامه"، ما لفظه ميتًا فهو طعامه". (١)
* * *
وقد وقف هذا الحديث بعضهم على أبي هريرة.
١٢٧٣٠ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن عمرو،
(١) الأثر: ١٢٧٢٩، ١٢٧٣٠-"عبدة بن سليمان الكلابي" قال أحمد: "ثقة ثقة وزيادة مع صلاح في بدنه". روى له أصحاب الكتب الستة. ومضى مرارا برقم: ٢٢٢، ٢٣٢٣، ٢٧٥٨، ٣٠٢٢، ومواضع غيرها ومحمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي ثقة وروى له أصحاب الكتب الستة ومضى برقم: ٨، ٣٠١٥.
و"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" تابعي جليل إمام ثقة. مضى برقم: ٨، ٦٧، ٣٠١٥، ٨٣٩٤، وغيرها.
وهذا الخبر لم أجد أحدا ذكره إلا السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٣١ ولم ينسب هذا المرفوع إلا لابن جرير أما الخبر الآتي وهو الموقوف فإنه زاد نسبته لابن أبي حاتم.
وأما الخبر الموقوف الثاني رقم: ١٢٧٣٠ ففيه"ابن أبي زائدة" وهو"يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة" وهو من حفاظ الكوفيين كان متقنا ثبتا صاحب سنة، مستقيم الحديث. روى له أصحاب الكتب الستة ومضى برقم: ٨٥٠، ٤٢٤٦.
فإسناد المرفوع والموقوف كلاهما إسناد صحيح ورجالهما ثقات حفاظ. وكتبه محمود محمد شاكر.
70
عن أبي سلمة، عن أبي هريرة في قوله:"أحل لكم صيد البحر وطعامه"، قال:"طعامه"، ما لفظه ميتًا. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"متاعًا لكم"، منفعةً لمن كان منكم مقيمًا أو حاضرًا في بلده، يستمتع بأكله وينتفع به= (٢) "وللسيارة"، يقول: ومنفعةً أيضًا ومتعة للسائرين من أرض إلى أرض، ومسافرين يتزوّدونه في سفرهم مليحًا.
* * *
و"السيارة"، جمع"سيّار". (٣)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٧٣١ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرني أبو إسحاق، عن عكرمة أنه قال في قوله:"متاعًا لكم وللسيارة"، قال: لمن كان بحضرة البحر="وللسيارة"، السَّفْر.
١٢٧٣٢ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، ما قذف البحر، وما يتزوّدون في أسفارهم من هذا المالح= يتأوّلها على هذا.
١٢٧٣٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع عن حماد قال، حدثنا
(١) الأثر: ١٢٧٣٠- انظر التعليق على الأثر السالف.
(٢) انظر تفسير"المتاع" فيما سلف ٨: ٥٥١ تعليق: ١ والمراجع هناك.
(٣) اقتصرت كتب اللغة على أن"السيارة": القافلة أو القوم يسيرون وأنه أنث على معنى الرفقة أو الجماعة. وجعله أبو جعفر جمعا، كقولهم"جمال" و"جمالة" (بتشديد الميم) و"حمار" و"حمارة".
71
يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، مملوح السمك، ما يتزودون في أسفارهم.
١٢٧٣٤ - حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقيّ قال، حدثنا مسكين بن بكير قال، حدثنا عبد السلام بن حبيب النجاري، عن الحسن في قوله:"وللسيارة"، قال: هم المحرمون. (١)
١٢٧٣٥ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، أما"طعامه"، فهو المالح منه، بلاغٌ يأكل منه السيار في الأسفار. (٢)
١٢٧٣٦ - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، قال:"طعامه"، مالحه، وما قذف البحر منه، يتزوَّده المسافر= وقال مرة أخرى: مالحه، وما قذف البحر. فمالحه يتزوده المسافر.
١٢٧٣٧ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وطعامه متاعًا للكم وللسيارة"، يعني المالح يتزوّده. (٣)
(١) الأثر: ١٢٧٣٤-"سليمان بن عمر بن خالد الرقي" مضى برقم: ٦٢٥٤، ١٢٦٧٠، ١٢٧٠٧ن وغيره في المطبوعة كما غيره فيما سلف فجعله"سليمان بن عمرو بن خالد البرقي" وهو خطأ محض صوابه في المخطوطة.
و"مسكين بن بكير الحراني" أبو عبد الرحمن الحذاء روى عنه أحمد بن حنبل ثقة. مترجم في التهذيب.
أما "عبد السلام بن حبيب النجاري" فلم أجد في الرواة عن الحسن أو غيره من اسمه ذاك. ووجدت في الرواة عن الحسن البصري"عبد السلام بن أبي الجنوب المدني" وهو شيخ مدني متروك مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم ٣/١/٤٥ وميزان الاعتدال ٢: ١٢٩. فلعله يكون هو.
(٢) "بلاغ" يعني"بلغة" (بضم الباء) وهو ما يتبلغ به المرء من الزاد أي يكتفي به حتى يبلغ مستقره. وكان في المطبوعة: "السيارة" بالتاء في آخره وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "فيتزوده" والجيد ما في المخطوطة.
72
وكان مجاهد يقول في ذلك بما:-
١٢٧٣٨ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وطعامه متاعا لكم"، قال: أهل القرَى="وللسيارة"، أهل الأمصَار.
١٢٧٣٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"متاعًا لكم"، قال: لأهل القرى="وللسيارة"، قال: أهل الأمصار، والحيتانُ للناس كلهم. (١)
* * *
وهذا الذي قاله مجاهد: من أن"السيارة" هم أهل الأمصار، لا وجه له مفهوم، إلا أن يكون أراد بقوله:"هم أهل الأمصار"، هم المسافرون من أهل الأمصار، فيجب أن يدخل في ذلك كل سيارة، من أهل الأمصار كانوا أو من أهل القرى. فأما"السيارة"، فلا نعقله: المقيمون في أمصارهم. (٢)
* * *
(١) في المطبوعة: "أهل الأمصار وأجناس الناس كلهم" وأداه إلى هذا ما جاء في الدر المنثور ٢: ٢٣٢ عن مجاهد: "وطعامه قال: حيتانه= متاعا لكم لأهل القرى= وللسيارة أهل الأسفار وأجناس الناس كلهم" ثم ما جاء في المخطوطة مما دخله التحريف وذلك: "أهل الأمصار والحباب للناس كلهم" والدر المنثور لا يوثق بطباعته والجملة فيه خطأ لا شك فيه، فقوله"أهل الأسفار" لا شك أنها"أهل الأمصار" وأما قوله: "حيتانه" هنا فإن ذلك من سوء اختصار السيوطي فإن"حيتانه" تفسير لقوله: "صيد البحر" كما مضى في الاثر رقم: ١٢٦٨١ من تفسير مجاهد لصيد البحر. وأما "طعامه" فقد فسرها مجاهد"السمك المليح" كما مضى في رقم: ١٢٧٢٠ وهو مراد هنا في هذا الموضع. فظاهر أنه أراد: "طعامه السمك المليح= متاعا لكم لأهل القرى= وللسيارة أهل الأمصار= والحيتان للناس كلهم" يعني أنه لا يدخل قوله تعالى: "متاعا لكم وللسيارة" في بيان قوله تعالى: "أحل لكم صيد البحر" بل في بيان قوله: "وطعامه" وهو السمك المليح. هذا هو الصواب وأما ما في الدر المنثور وما في المطبوع من هذا التفسير فكلام لا يستقيم.
(٢) في المطبوعة: "فأما السيارة فلا يشمل المقيمين في أمصارهم وهو كلام مريض وهو في المخطوطة كما أثبته غير منقوط وهذا صواب قراءته. والمعنى: فلا نعقله أن يكون معناه: المقيمون في أمصارهم. وقد مضى استعمال أبي جعفر"نعقله" في مثل هذه العبارة في مواضع سلفت ليس عندي الآن بيانها.
73
القول في تأويل قوله: ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وحرم الله عليكم، أيها المؤمنون، صيد البر="ما دمتم حرمًا"، يقول: ما كنتم محرمين، لم تحِلوا من إحرامكم. (١)
* * *
ثم اختلف أهل العلم في المعنى الذي عَنى الله تعالى ذكره بقوله:"وحُرِّم عليكم صيدُ البر".
فقال بعضهم: عنى بذلك: أنه حرَّم علينا كل معاني صيد البر: من اصطياد، وأكل، وقتل، وبيع، وشراء، وإمساك، وتملُّك.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٧٤٠ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن أبيه قال: حج عثمان بن عفان، فحج عليّ معه، قال: فأتي عثمان بلحم صيد صاده حَلال، فأكل منه، ولم يأكل عليّ، فقال عثمان: والله ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا! فقال عليّ:"وحُرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا". (٢)
(١) انظر تفسير"ما دام" فيما سلف ١٠: ١٨٥= وتفسير"حرم" فيما سلف: ٧.
(٢) الأثر: ١٢٧٤٠-"يزيد بن أبي زياد الكوفي" مولى بني هاشم صدوق في حفظه شيء بعد ما كبر. مضى برقم: ٢٠٢٨.
و"عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم" لقبه: "ببة" ولد على عهد رسول الله ﷺ فحنكه رسول الله روى عن جماعة من الصحابة. روى له أصحاب الكتب الستة. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عبد الله بن الحارث عن نوفل: وهو خطأ صرف.
وأبوه: "الحارث بن نوفل بن الحارث". روى عن رسول الله وعن عائشة. استعمله النبي ﷺ على بعض أعمال مكة، ومات بالبصرة في خلافة عثمان. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٢٣٢ وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
وقوله: "صاده حلال" يعني: رجل حلال غير محرم بحج.
وسيأتي هذا الخبر بلفظ آخر، وإسناد آخر. في رقم: ١٢٧٤٥، ١٢٧٤٦.
74
١٢٧٤١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هرون بن المغيرة، عن عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن صبيح بن عبد الله العبسي قال: بعث عثمان بن عفان أبا سفيان بن الحرث على العَرُوض، (١) فنزل قديدًا، فمرّ به رجل من أهل الشام معه باز وصقر، فاستعاره منه، فاصطاد به من اليعاقيب، (٢) فجعلهن في حظيرة. فلما مرّ به عثمان طبخهن، ثم قدمهن إليه، فقال عثمان: كلوا! فقال بعضهم: حتى يجيء علي بن أبي طالب، رحمة الله عليه. فلما جاء فرأى ما بين أيديهم، قال علي: إنا لن نأكل منه! فقال عثمان: مالك لا تأكل؟ فقال: هو صيد، ولا يحل أكله وأنا محرم! فقال عثمان: بيِّن لنا! فقال عليّ:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم"، فقال عثمان: أو نحن قتلناه؟ فقرأ عليه:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة وحرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا". (٣)
١٢٧٤٢- حدثنا تميم بن المنتصر وعبد الحميد بن بيان القناد قالا أخبرنا
(١) "العروض" (بفتح العين) : مكة والمدينة وأكنافهما.
(٢) "اليعاقيب" جمع"يعقوب" طائر وهو ذكر الحجل والقطا.
(٣) الأثر: ١٢٧٤١-"هرون بن المغيرة بن حكيم البجلي" ثقة مضى برقم: ٦٦٥٦، ٥٥٢٦. و"عمرو بن أبي قيس الرازي ثقة مضى برقم: ٦٨٨٧، ٩٣٤٦.
و"سماك" هو"سماك بن حرب" ثقة مضى مرارا.
و"صبيح بن عبد الله العبسي" روى عن علي وروى عنه سماك بن حرب. مترجم في الكبير البخاري ٢/٢ / ٣١٩ وابن أبي حاتم ٢ /١/ ٤٤٩. ولم يذكرا فيه جرحا. وقد مضى ذكره في التعليق على رقم: ٧٥٩٥ (وقع هناك خطأ فيما نقلته عن التاريخ الكبير"على الفروض" وصوابه"على العروض" فليصحح هناك وفي تاريخ البخاري). وفي المخطوطة والمطبوعة: "صبيح بن عبيد الله" والتصحيح من البخاري وابن أبي حاتم.
وهذا الخبر رواه البخاري مختصرا في التاريخ قال: "حدثني حسن بن خلف أخبرنا إسحق عن شريك عن سماك عن صبيح بن عبد الله العبسي". وهو الإسناد التالي لهذا.
75
إسحاق الأزرق، عن شريك، عن سماك بن حرب، عن صبيح بن عبيد الله العبسي قال: استعمل عثمان بن عفان أبا سفيان بن الحرث على العَرُوض= ثم ذكر نحوه، وزاد فيه، قال: فمكث عثمان ما شاء الله أن يمكث، ثم أتى فقيل له بمكة: هل لك في ابن أبي طالب، أهدي له صفيف حمار فهو يأكل منه! (١) فأرسل إليه عثمان، وسأله عن أكل الصفيف، فقال: أما أنتَ فتأكل، وأما نحن فتنهانا؟ فقال: إنه صيد عام أوّلَ وأنا حلال، فليس عليّ بأكله بأس، وصيد ذلك = يعني اليعاقيب = وأنا محرم، وذبحن وأنا حرَام. (٢)
١٢٧٤٣ - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا يونس، عن الحسن: أن عمر بن الخطاب لم يكن يرى بأسًا بلحم الصيد للمحرم، وكرهه علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. (٣)
١٢٧٤٤ - حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن عليًا كره لحم الصيد للمحرم على كل حال.
١٢٧٤٥ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث: أنه شهد عثمان وعليًّا أُتيا بلحم، فأكل عثمان ولم يأكل عليّ، فقال عثمان: أنحن صِدْنا أو
(١) "الصفيف" هو لحم يشرح عراضا حتى ترق البضعة منه فتراها تشف شفيفا ويوسع مثل الزغفان ثم يشرر في الشمس حتى يجف. فإذا دق الصفيف فهو"القديد". وكان في المخطوطة في هذا الموضع"تصفف" وفي الذي يليه"التصفيف" غير منقوطة وهو رسم خطأ صوابه في المطبوعة.
(٢) الأثر: ١٢٧٤٢-"إسحق الأزرق" هو إسحق بن يوسف بن مرداس المخزومي الواسطي" مضى برقم: ٣٣٣٩، ٤٢٢٤. وكان في المخطوطة والمطبوعة"أبو إسحق الأزرق، وهو خطأ وسهو من ناسخ وهو على الصواب في إسناد البخاري الذي نقلته آنفا في تخريج الأثر السالف.
(٣) الأثر: ١٢٧٤٣-"عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان العنبري" مضى برقم: ٢١٥٤، ٦٥٨٩، ٦٥٩١، ٦٨١٩.
و"يونس" هو: "يونس بن عبيد بن دينار العبدي" مضى برقم: ٢٦١٦، ٤٩٣١.
76
صيد لنا؟ فقرأ عليّ هذه الآية:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة وحرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا". (١)
١٢٧٤٦ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عمر بن أبي سلمة، عن أبيه قال: حج عثمان بن عفان، فحج معه علي، فأتي بلحم صَيدٍ صاده حلالٌ، فأكل منه وهو محرم، ولم يأكل منه عليّ، فقال عثمان: إنه صيدَ قبل أن نحرم! فقال له علي: ونحن قد نزلنا وأهالينا لنا حلال، (٢) أفيحللن لنا اليوم؟ (٣)
١٢٧٤٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عمرو، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل: أن عليًّا أتى بِشِقّ عَجُز حمار وهو محرم، فقال: إنّي محرم. (٤)
١٢٧٤٨ - حدثنا ابن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا سعيد، عن يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان يكرهه على كل حال، ما كان محرمًا. (٥)
(١) الأثر: ١٢٧٤٥- مضى هذا الخبر برواية"عبد الله بن الحارث بن نوفل" عن أبيه"الحارث بن نوفل" برقم: ١٢٧٤٠، وسيأتي رقم: ١٢٧٤٧.
(٢) في المطبوعة: "ونحن قد بدا لنا" وفي المخطوطة: "ونحن مر لنا" غير منقوطة وهذه قراءتها فيما أرجح.
(٣) الأثر: ١٢٧٤٦-"عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" أحاديثه واهية، يكتب حديثه ولا يحتج به، مضى برقم: ٣٩١١، ١٢٦٦٧.
وسيأتي هذا الخبر بإسناد آخر رقم: ١٢٧٥٥، مختصرا بغير هذا اللفظ.
(٤) الأثر: ١٢٧٤٧-"هرون" هو"هرون بن المغيرة" مضى قريبا برقم: ١٢٧٤١.
و"عمرو" هو"عمرو بن أبي قيس" مضى أيضا برقم: ١٢٧٤١.
و"عبد الكريم" هو"عبد الكريم بن مالك الجزوي" مضى برقم: ٨٩٢، ١٥٦٦. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "عن عمرو بن عبد الكريم" وهو خطأ. ليس في الرواة من يسمى بذلك.
ومضى هذا الخبر بإسناديه رقم: ١٢٧٤٠، ١٢٧٤٥.
(٥) الأثر: ١٢٧٤٨-"سعيد" هو"سعيد بن أبي عروبة".
و"يعلى بن حكيم الثقفي" روى عن سعيد بن جبير وعكرمة ونافع مولى ابن عمر وغيرهم. وثقه أحمد وابن معين وأبو زرعة والنسائي وقال أبو حاتم: "لا بأس به" مترجم في التهذيب.
77
١٢٧٤٩ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال، أخبرنا نافع: أن ابن عمر كان يكره كل شيء من الصيد وهو حرام، أخذ له أو لم يؤخذ له، وَشِيقةً وغيرها. (١)
١٢٧٥٠- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن عبد الله قال، أخبرني نافع: أن ابن عمر كان لا يأكل الصيدَ وهو محرم، وإن صاده الحلالُ.
١٢٧٥١ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني الحسن بن مسلم بن يناق: أنّ طاوسًا كان ينهى الحرامَ عن أكل الصيد، وشيقة وغيرها، صيد له أو لم يُصد له.
١٢٧٥٢ - حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا الأشعث قال، قال الحسن: إذا صاد الصيد ثم أحرمَ لم يأكل من لحمه حتى يحلّ. فإن أكل منه وهو محرم، لم ير الحسن عليه شيئًا. (٢)
١٢٧٥٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام وهارون عن عنبسة، عن سالم قال: سألت سعيد بن جبير، عن الصيد يصيده الحلال، أيأكل منه المحرم؟ فقال: سأذكر لك من ذلك، إن الله تعالى ذكره قال:"يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم"، فنهي عن قتله، ثم قال:"ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم"، ثم قال تعالى ذكره:"أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة"، قال: يأتي الرجل أهلَ البحر فيقول:"أطعموني"، فإن
(١) "الوشيقة": لحم يغلي في ماء وملح إغلاءة واحدة، ولا ينضج فيتهرأ ثم يخرج فيصير في الجبجبة وهو جلد بعير يقور، ثم يجعل ذلك اللحم فيه، فيكون لهم زادا في أسفارهم.
(٢) الأثر: ١٢٧٥٢-"خالد بن الحارث بن عبيد الهجيمي" ثقة مضى برقم: ٧٥٠٧، ٧٨١٨، ٩٨٧٨.
78
قال:"غريضًا"، ألقوا شبكتهم فصادوا له، وإن قال:"أطعموني من طعامكم"، أطعموه من سمكهم المالح. ثم قال:"وحُرِّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرمًا"، وهو عليك حرام، صدته أو صاده حلال. (١)
* * *
وقال آخرون: إنما عنى الله تعالى ذكره بقوله:"وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا"، ما استحدَث المحرم صيدَه في حال إحرامه أو ذبحه، أو استُحْدِث له ذلك في تلك الحال. فأما ما ذبحه حلال وللحلال، فلا بأس بأكله للمحرم. وكذلك ما كان في ملكه قبل حال إحرامه، فغير محرم عليه إمساكه.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٧٥٤ - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا سعيد قال، حدثنا قتادة: أن سعيد بن المسيب حدّثه، عن أبي هريرة: أنه سئل عن صيد صاده حلال، أيأكله المحرم؟ قال: فأفتاه هو بأكله، ثم لقي عمر بن الخطاب رحمه الله فأخبره بما كان من أمره، فقال: لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعتُ لك رأسك. (٢)
١٢٧٥٥ - حدثنا أحمد بن عبدة الضبي قال، حدثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه قال: نزل عثمان بن عفان رحمه الله العَرْجَ وهو محرم، (٣) فأهدى صاحبُ العرج له قَطًا، (٤) قال: فقال لأصحابه: كلوا فإنه إنما اصطيد
(١) الأثر: ١٢٧٥٣- مضى هذا الأثر مختصرا برقم: ١٢٧١٣.
(٢) الأثر: ١٢٧٥٤- إسناده صحيح. وخرجه السيوطي في الدر المنثور باختلاف يسير في لفظه، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وسيأتي هذا الأثر بأسانيد أخرى رقم: ١٢٧٥٦، ١٢٧٥٧، ١٢٧٦٢.
(٣) "العرج" (بفتح فسكون) وهي قرية جامعة على طريق مكة من المدينة، على جادة الحاج.
(٤) في المخطوطة: "رطا" غير منقوطة كأنها تقرأ"بطا" ولكن الذي جاء في الروايات السالفة وما سيأتي برقم: ١٢٧٧١ أنها"قطا "أو" يعاقيب" وهي ذكور الحجل والقطا، والصواب إن شاء الله ما كان في المطبوعة: "قطا". و"القطا": طائر كالحمام.
79
على اسمي، (١) قال: فأكلوا ولم يأكل. (٢)
١٢٧٥٦ - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة كان بالرَّبَذة، فسألوه عن لحم صيدٍ صاده حلال، ثم ذكر نحو حديث ابن بزيع عن بشر. (٣)
١٢٧٥٧- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن عمر، نحوه. (٤)
١٢٧٥٨ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الشعثاء قال: سألت ابن عمر عن لحم صيد يُهديه الحلال إلى الحرام، فقال: أكله عمر، وكان لا يرى به بأسًا. قال قلت: تأكله؟ قال: عمر خير مني. (٥)
(١) قوله: "إنما اصطيد على اسمي" أي من أجله، وهو تعبير قديم يقيد، ولا يزال يجري على ألسنة العامة إلى هذا اليوم وهو صحيح فصيح. وانظر ما يفسره في خبر مالك في الموطأ: ٣٥٤، وسيأتي رقم: ١٢٧٦٤.
(٢) الأثر: ١٢٧٥٥-"عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضى قريبا رقم: ١٢٧٤٦. وسيأتي من طريق أخرى برقم: ١٢٧٧١ بغير هذا اللفظ عن أبي سلمة من فعله هو.
(٣) الأثر: ١٢٧٥٦، ١٢٧٥٧- مضى برقم: ١٢٧٥٤.
(٤) الأثر: ١٢٧٥٦، ١٢٧٥٧-مضى برقم: ١٢٧٥٤.
(٥) الأثر: ١٢٧٥٨، ١٢٧٥٩_"أبو إسحق" هو: "أبو إسحق السبيعي الهمداني".
و"أبو الشعثاء" سيأتي في الأثر رقم: ١٢٧٦٣ أنه"أبو الشعثاء الكندي" وهو غير"أبي الشعثاء، جابر بن زيد" الذي مضى برقم: ٥١٣٦، ٥٤٧٢، ١٢٤٠٦، ١٢٧٢٥.
و"أبو الشعثاء الكندي" هو: "يزيد بن مهاصر" كوفي روى عن ابن عمر، وابن عباس. ترجم له البخاري في الكبير ٤ /٢ / ٣٦٣ في"يزيد بن مهاصر" وقال: "كناه محمد بن عبد الله بن نمير" ولم يزد على ذلك. وترجم له ابن أبي حاتم ٤/٢/٢٨٧ في"يزيد بن مهاصر أبو الشعثاء الكندي" ثم قال: "روى عنه أبو إسحق الهمداني وأبو العنبس ويونس بن أبي إسحق وأبو سنان الشيباني". ثم عاد فترجم له ٤٢/٣٩١ وقال: "روى عنه أبو سنان الشيباني وسعيد بن سعيد الثعلبي. سمعت أبي يقول ذلك، ويقول: "لا يسمى وهو كوفي. قال علي بن المديني: أبو الشعثاء الذي روى عنه أبو إسحق الهمداني ويونس بن أبي إسحق، وأبو العنبس وأبو سنان هو الكندي وليس هو سليم [يعني: سليم بن أسود المحاربي]- سمعت أبي يقول: أبو الشعثاء الكندي اسمه: يزيد بن مهاصر. وخالف عليا في ذلك".
فظاهر هذا أنه غير"أبي الشعثاء جابر بن زيد الأزدي" ولكني رأيت الحافظ ابن حجر قال في ترجمة"أبي العنبس" في التهذيب ٨: ١٨٩ أنه روى عن"أبي الشعثاء جابر بن يزيد الكندي" فلا أدري أوهم الحافظ أم هكذا اختلف عليه في ذلك.
وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن ٥: ١٨٩ من طريق عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة عن أبي إسحق، سمعت أبا الشعثاء".
وسيأتي برقم: ١٢٧٦٣، بغير هذا اللفظ مختصرا. وكتبه محمود محمد شاكر.
80
١٢٧٥٩- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة قال، حدثنا أبو إسحاق، عن أبي الشعثاء قال: سألت ابن عمر عن صيد صاده حلال يأكل منه حرام، قال: كان عمر يأكله. قال قلت: فأنت؟ قال: كان عمر خيرًا مني.
١٢٧٦٠ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: استفتاني رجلٌ من أهل الشام في لحم صيد أصابه وهو محرم، فأمرته أن يأكله. فأتيت عمر بن الخطاب فقلت له: إن رجلا من أهل الشام استفتاني في لحم صيد أصابه وهو محرم، قال: فما أفتيته؟ قال: قلت: أفتيته أن يأكله. قال: فوالذي نفسي بيده، لو أفتيته بغير ذلك لعلوتك بالدرة! وقال عمر: إنما نُهيت أن تصطاده. (١)
١٢٧٦١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا خارجة عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن كعب قال: أقبلت في أناس محرمين، فأصبنا لحمَ حمار وحش، فسألني الناس عن أكله، فأفتيتهم بأكله، وهم محرمون. فقدمنا على عمر، فأخبروه أنّي أفتيتهم بأكل حمار الوحش وهم محرمون،
(١) الأثر: ١٢٧٦٠- مضى مختصرا برقم: ١٢٧٥٤، بغير هذا الإسناد."هشام" هو"هشام صاحب الدستوائي".
و"يحيى" هو"يحيى بن أبي كثير الطائي" ثقة روى له أصحاب الكتب الستة. مضى برقم: ٩١٨٩، ١١٥٠٥- ١١٥٠٧.
و"أبو سلمة" هو"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضى مرارا، منها رقم: ١٢٦٦٧.
وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى ٥: ١٨٨، من طريق: "حفص بن عبد الله السلمي، عن إبراهيم بن طهمان عن هشام" بمثله.
81
فقال عمر: قد أمَّرته عليكم حتى ترجعوا. (١)
١٢٧٦٢ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: مررت بالرَّبَذة، فسألني أهلها عن المحرم يأكل ما صاده الحلال؟ فأفتيتهم أن يأكلوه. فلقيت عمر بن الخطاب، فذكرت ذلك له. قال: بم أفتيتهم؟ (٢) قال: أفتيتهم أن يأكلوا. قال: لو أفتيتهم بغير ذلك لخالفتك. (٣)
١٢٧٦٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن يونس، عن أبي الشعثاء الكندي قال: قلت لابن عمر: كيف ترى في قوم حرام لقوا قومًا حلالا ومعهم لحم صيد، فإما باعوهم، وإما أطعموهم؟ فقال: حلال. (٤)
(١) الأثر: ١٢٧٦١-"مصعب بن المقدام الخثعمي" ثقة وضعفه بعضهم، ولكن روى له مسلم مضى برقم: ١٢٩١، ٣٠٠١.
و"خارجة" هو"خارجة بن مصعب بن خارجة الخراساني" وقد مضى برقم: ٩٦٦٨، قال أخي السيد أحمد هناك: "مختلف فيه جدا والأكثر على تضعيفه، ولكن أعدل كلمة فيه كلمة الحاكم في المستدرك ١: ٤٩٩: خارجة لم ينقم عليه إلا روايته عن المجهولين، وإذا روى عن الثقات الأثبات فروايته مقبولة".
و"زيد بن أسلم" ثقة ثبت. مضى كثيرا.
و"عطاء" هو"عطاء بن يسار" مضى مرارا.
و"كعب" هو"كعب الأحبار".
وهذا الخبر صحيح، رواه مالك في الموطأ: ٣٥٢ عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مطولا. ورواه البيهقي في السنن ٥: ١٨٩، من طريق مالك.
(٢) في المخطوطة: "بما أفتيتهم" فكتبتها على ما درجنا عليه"بم" وفي المطبوعة: "فبم".
(٣) الأثر: ١٢٧٦٢- مضى حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة من طريقين أخريين رقم: ١٢٧٥٤، ١٢٧٥٦.
وهذا الخبر رواه مالك في الموطأ ٣٥١ عن يحيى بن سعيد بغير هذا اللفظ ثم رواه بعد من طريق"ابن شهاب عن سالم بن عبد الله: أنه سمع أبا هريرة يحدث عبد الله بن عمر" ولفظه أقرب إلى لفظ أبي جعفر هذا.
(٤) الأثر: ١٢٧٦٣-"يونس" هو"يونس بن أبي إسحق السبيعي مضى مرارا وانظر التعليق على رقم: ١٢٧٥٨، ١٢٧٥٩.
و"أبو الشعثاء الكندي" مضى الكلام في أمره واسمه فيما سلف في التعليق على الأثرين رقم ٧٥: ١٢، ١٢٧٥٩، ومضى تخريجه هناك.
82
١٢٧٦٤ - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا محمد بن سعيد قال، حدثنا هشام= يعني ابن عروة= قال، حدثنا عروة، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: أن عبد الرحمن حدثه: أنه اعتمر مع عثمان بن عفان في ركبٍ فيهم عمرو بن العاص، حتى نزلوا بالرَّوحاء، فقُرِّب إليهم طير وهم محرمون، فقال لهم عثمان: كلوا، فإني غير آكله! فقال عمرو بن العاص: أتأمرنا بما لست آكلا؟ فقال عثمان: إني لولا أظنّ أنه اصطيد من أجلي، لأكلت! (١) فأكل القوم. (٢)
١٢٧٦٥ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن الزبير كان يتزوّد لحوم الوحش وهو محرم. (٣)
١٢٧٦٦ - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما صيد أو ذبح وأنت حلال فهو لك حلال، وما صيد أو ذبح وأنت حرام فهو عليك حرام.
١٢٧٦٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عمرو، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما صيد من شيء وأنت حرام فهو عليك حرام، وما صيد من شيء وأنت حلال فهو لك حلال.
(١) في المطبوعة: "صيد من أجلي" وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) الأثر: ١٢٧٦٤-"يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة اللخمي" تابعي ثقة جليل، وينسب إلى جده فيقال: "يحيى بن حاطب" مضى برقم: ٨٣٦٧.
و"عبد الرحمن" هو أبوه"عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة اللخمي" وهو في الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة وفقهائهم، ثقة قليل الحديث. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى ٥: ١٩١ من طريف أحمد بن يوسف السلمي، عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه بنحوه.
(٣) الأثر: ١٢٧٦٥- إسناده صحيح، رواه مالك في الموطأ: ٣٥٠، عن هشام ابن عروة عن أبيه: "أن الزبير بن العوام كان يتزود صفيف الظباء وهو محرم" هذا لفظه. فأراد بقوله"لحوم الوحش" الظباء فهي من الوحش.
83
١٢٧٦٨ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا"، فجعل الصيد حرامًا على المحرم صيده وأكله ما دام حرامًا. وإن كان الصيدُ صِيدَ قبل أن يحرم الرجل، فهو حلالٌ. وإن صاده حرامٌ لحلال، فلا يحلّ له أكله.
١٢٧٦٩ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، سألت أبا بشر عن المحرم يأكل مما صاده الحلال؟ قال: كان سعيد بن جبير ومجاهد يقولان: ما صيد قبل أن يُحرِم أكل منه، وما صيد بعد ما أحرم لم يأكل منه.
١٢٧٧٠- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال: كان عطاء يقولُ إذا سئل في العَلانِية: أيأكل الحرامُ الوَشيقةَ والشيء اليابس؟ (١) = يقول بيني وبينه: لا أستطيع أن أبيِّن لك في مجلس، إن ذبح قبل أن نُحرم فكل، وإلا فلا تبع لحمه ولا تبتع. (٢)
* * *
وقال آخرون: إنما عنى الله تعالى بقوله:"وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا"، وحرم عليكم اصطياده. قالوا: فأما شراؤه من مالك يملكه وذبحه وأكله، بعد أن يكون مِلكه إياه على غير وجه الاصطياد له، وبيعه وشراؤه جائز. قالوا: والنهي من الله تعالى ذكره، عن صيده في حال الإحرام دون سائر المعاني.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٧٧١- حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا ابن أبي مريم
(١) "الوشيقة" مضى تفسيرها في ص: ٧٨، تعليق: ١.
(٢) هكذا هذا الخبر في المخطوطة إلا أنه كتب: "وإن ذبح قبل أن تحرم" بالواو. وأنا في شك من سياق هذا الخبر، أخشى أن يكون سقط منه شيء فإن السياق يقتضي أن يقال: إذا سئل في العلانية يقول: لا. ولكن هكذا جائ، ولم أجده في مكان آخر، فتركته على حاله حتى يصححه من يجده.
84
قال، حدثنا يحيى بن أيوب قال، أخبرني يحيى، أن أبا سلمة اشترى قَطًا وهو بالعَرْجِ وهو محرم، ومعه محمد بن المنكدر، فأكلها. (١)
فعاب عليه ذلك الناس. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره، عمَّ تحريم كل معاني صيد البرّ على المحرم في حال إحرامه، من غير أن يخص من ذلك شيئًا دون شيء، فكل معاني الصيد حرام على المحرم ما دام حرامًا، بيعه وشراؤه واصطياده وقتله، وغير ذلك من معانيه، إلا أن يجده مذبوحًا قد ذبحه حلال لحلال، فيحلّ له حينئذ أكله، للثابت عن الخبر عن رسول الله ﷺ الذي:-
١٢٧٧٢ - حدثناه يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج= وحدثني عبد الله بن أبي زياد قال، حدثنا مكي بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الملك بن جريج= قال، أخبرني محمد بن المنكدر، عن معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان، عن أبيه عبد الرحمن بن عثمان قال: كنا مع طلحة بن عبيد الله ونحن حُرُم، فأهدي لنا طائرٌ، فمنا من أكل، ومنا من تَورَّع فلم يأكل. فلما استيقظ طلحة وفَّق من أكل، (٣) وقال: أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. (٤)
* * *
(١) في المطبوعة: "فأكله" وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب.
(٢) الأثر: ١٢٧٧١-"عبد الله بن أحمد بن شبويه الخزاعي" شيخ الطبري مضى برقم: ١٩٠٩، ٤٦١٢، ٤٩٢٣.
و"ابن أبي مريم" هو"سعيد بن أبي مريم" مضى برقم: ١٦٠، ٥٤٥٥، ٨٣٣٥.
و"يحيى بن أيوب الغافقي" مضى برقم: ٣٨٧٧، ٤٣٣٠.
و"يحيى" هو"يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري" مضى برقم: ٤٨٥٩، ٩٦٧٩.
و"أبو سلمة" هو"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف". مضى قريبا.
(٣) في المطبوعة: "وافق من أكل" وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب الموافق لما في صحيح مسلم. وقوله: "وفق من أكل": دعا له بالتوفيق، واستصوب فعله.
(٤) الأثر: ١٢٧٧٢-"يحيى بن سعيد" هو القطان.
و"مكي بن إبراهيم بن بشير بن فرقد التميمي" الحافظ روى له أصحاب الكتب الستة. مترجم في التهذيب.
و"معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله بن عثمان التيمي" ثقة.
وأبوه"عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيمي" هو"شارب الذهب" صحابي أسلم يوم الحديبية، وقيل يوم الفتح.
وهذا الخبر رواه مسلم في صحيحه ٨: ١١١، ١١٢، والبيهقي في السنن الكبرى ٥: ١٨٨.
85
فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما روي عن الصعب بن جَثَّامة أنه أهدى إلى رسول الله ﷺ رِجْلَ حمارِ وحش يقطر دمًا، فردّه فقال: إنا حُرُم (١) = وفيما روي عن عائشة: أن وَشِيقة ظبي أهديت إلى رسول الله ﷺ وهو محرم، فردّها (٢) وما أشبه ذلك من الأخبار؟
قيل: إنه ليس في واحد من هذه الأخبار التي جاءت بهذا المعنى، بيانُ أن رسول الله ﷺ ردّ من ذلك ما ردّ وقد ذبحه الذابح إذ ذبحه، وهو حلال لحلال، ثم أهداه إلى رسول الله ﷺ وهو حرام، فرده وقال:"إنه لا يحل لنا لأنا حرم"، وإنما ذكر فيه أنه أُهدي لرسول الله ﷺ لحم صيد فردّه. وقد يجوز أن يكون ردُّه ذلك من أجل أنّ ذابحه ذبحه أو صائده صاده من أجله ﷺ وهو محرم.
وقد بيَّن خبر جابر عن النبيّ ﷺ بقوله:"لحم صيد [البر] للمحرم حلال إلا ما صاد أو صيد له"، (٣) معنى ذلك كله.
فإذ كان كلا الخبرين صحيحًا مخرجهما، فواجبٌ التصديقُ بهما، وتوجيه كلّ واحد منهما إلى الصحيح من وجه، وأن يقال:"ردُّه ما ردّ من ذلك من أجل
(١) حديث الصعب بن جثامة، رواه مسلم في صحيحه من طرق ٨: ١٠٣- ١٠٦، والسنن الكبرى للبيهقي ٥: ١٩١، ١٩٤ واستوفى تخريجه هناك.
(٢) حديث عائشة رواه أحمد في المسند ٦: ٤٠. وقد مضى تفسير"الوشيقة" فيما سلف ص: ٧٨ تعليق: ١.
(٣) حديث جابر بن عبد الله خرجه البيهقي في السنن الكبرى ٥: ١٩٠، فانظر ما قاله فيه، وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٣٣ وقال: أخرجه أحمد والحاكم وصححه. وزدت ما بين القوسين من الخبر، وهو ساقط من المخطوطة والمطبوعة.
86
أنه كان صِيد من أجله= وإذنه في كل ما أذن في أكله منه، من أجل أنه لم يكن صِيد لمحرم ولا صاده محرم، فيصح معنى الخبرين كليهما.
* * *
واختلفوا في صفة الصيد الذي عنى الله تعالى بالتحريم في قوله:"وحرم عليك صيد البر ما دمتم حرمًا".
فقال بعضهم:"صيد البر"، كل ما كان يعيش في البرّ والبحر، وإنما"صيد البحر"، ما كان يعيش في الماء دون البرّ ويأوي إليه
* ذكر من قال ذلك:
١٢٧٧٣ - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي =، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز:"وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا"، قال: ما كان يعيش في البر والبحر فلا تصده، (١) وما كان حياته في الماء فذاك. (٢)
١٢٧٧٤ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا الحجاج، عن عطاء قال: ما كان يعيش في البر فأصابه المحرم فعليه جزاؤه، نحو السلحفاة والسرطان والضفادع.
١٢٧٧٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو بن أبي قيس، عن الحجاج، عن عطاء قال: كل شيء عاش في البر والبحر فأصابه المحرم، فعليه الكفارة.
١٢٧٧٦ - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير قال: خرجنا
(١) في المطبوعة: "لا تصيده" وفي المخطوطة: "ولا تصده" وهذا صواب قراءتها.
(٢) الأثر: ١٢٧٧٣- في المخطوطة: "هل كان حياته في الماء فذاك" ولا أدري ما"وهل" هنا وما في المطبوعة أشبه بالصواب. وهذا الأثر أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٣٢/ بمثل ما في المطبوعة، وزاد نسبته لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
87
حجاجًا معنا رجلٌ من أهل السَّواد معه شُصُوص طير ماءٍ، فقال له أبي حين أحرمنا: اعزل هذا عنا. (١)
١٢٧٧٧ - وحدثنا به أبو كريب مرة أخرى قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت يزيد بن أبي زياد قال، حدثنا حجاج، عن عطاء: أنه كَرِه للمحرم أن يذبح الدجاج الزِّنجي، لأن له أصلا في البر. (٢)
* * *
وقال بعضهم: صيد البر ما كان كونه في البرّ أكثر من كونه في البحر. (٣)
* ذكر من قال ذلك:
١٢٧٧٨- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، ابن جريج أخبرناه، قال: سألت عطاء عن ابن الماء، أصيد برّ أم بحر؟ وعن أشباهه؟ فقال: حيث يكون أكثر، فهو صيده.
١٢٧٧٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن عطاء بن أبي رباح قال، أكثر ما يكون حيث يُفْرِخ، فهو منه.
* * *
(١) الأثر: ١٢٧٧٦-"يزيد بن أبي زياد الكوفي" مضى قريبا برقم: ١٢٧٤٠، وكان في حفظ يزيد شيء بعد ما كبر.
و"عبد الملك بن سعيد بن جبير الأسدي" روى عن أبيه وعكرمة. وروى عنه يزيد بن أبي زياد. وهو ثقة عزيز الحديث. مترجم في التهذيب وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عبد الملك عن سعيد بن جبير" وهو خطأ محض.
(٢) الأثر: ١٢٧٧٧- هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة: "وحدثنا به أبو كريب مرة أخرى" وهذا إشعار بأنه سيروي الحديث السالف عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه ولكن اختلف الأمر جدا. فإذا هو عن"حجاج عن عطاء" وإذا معناه بمعزل عن معنى الحديث الذي قبله، بل هو بمعنى الحديث رقم: ١٢٧٧٥ وعن حجاج عن عطاء أيضا ولكن ذلك من رواية"ابن حميد" لا من رواية"أبي كريب" فتبين بذلك أنه ليس يصح أن يكون هذا الأخير قد تأخر عن مكانه. فأخشى أن يكون الناسخ قد اضطرب فاضطرب تصحيح هذا الموضع.
(٣) في المخطوطة: "ما كان أكثر كونه في البر" بزيادة"أكثر" هنا، وهو لا يصح.
88
القول في تأويل قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا تقدُّمٌ من الله تعالى ذكره إلى خلقه بالحذر من عقابه على معاصيه.
يقول تعالى ذكره: واخشوا الله، أيها الناس، واحذروه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه (١) وفيما نهاكم عنه في هذه الآيات التي أنزلها على نبيكم صلى الله عليه وسلم، من النهي عن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وعن إصابة صيد البر وقتله في حال إحرامكم وفي غيرها، فإنّ لله مصيرَكم ومرجعَكم، (٢) فيعاقبكم بمعصيتكم إياه، ومجازيكم فيثيبكم على طاعتكم له.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: صيَّر الله الكعبة البيت الحرام قوامًا للناس الذين لا قِوَام لهم من رئيس يحجز قوِّيهم عن ضعيفهم، (٣) ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم="والشهر الحرام والهدي والقلائد"، فحجز بكل واحد من ذلك بعضهم عن بعض، إذ لم يكن لهم قيامٌ غيره، وجعلها معالم لدينهم، ومصالح أمورهم.
* * *
و"الكعبة"، سميت فيما قيل"كعبة" لتربيعها.
* * *
(١) انظر تفسير"اتقى" فيما سلف من فهارس اللغة (وقى).
(٢) انظر تفسير"الحشر" فيما سلف ٤: ٢٢٨ /٢٢٩، ٦/ ٩: ٤٢٥.
(٣) انظر تفسير"جعل" فيما سلف ٣: ١٨.
89
* ذكر من قال ذلك:
١٢٧٨٠ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: إنما سميت"الكعبة"، لأنها مربعة.
١٢٧٨١ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هاشم بن القاسم، عن أبي سعيد المؤدب، عن النضر بن عربي، عن عكرمة قال: إنما سميت"الكعبة"، لتربيعها. (١)
* * *
وقيل"قيامًا للناس" بالياء، وهو من ذوات الواو، لكسرة القاف، وهي"فاء" الفعل، فجعلت"العين" منه بالكسرة"ياء"، كما قيل في مصدر:"قمت""قيامًا" و"صمت""صيامًا"، فحوّلت"العين" من الفعل: وهي"واو""ياء" لكسرة فائه. وإنما هو في الأصل:"قمت قوامًا"، و"صمت صِوَامًا"، وكذلك قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، فحوّلت، واوها ياء، إذ هي"قوام". (٢)
وقد جاء ذلك من كلامهم مقولا على أصله الذي هو أصله قال الراجز: (٣)
قَِوامُ دُنْيَا وَقَوَامُ دِين (٤)
فجاء به بالواو على أصله.
* * *
وجعل تعالى ذكره الكعبة والشهرَ الحرام والهديَ والقلائد قوامًا لمن كان يحرِّم ذلك من العرب ويعظّمه، (٥) بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر تُبَّاعه.
(١) الأثر: ١٢٧٨١-"هاشم بن القاسم بن مسلم الليثي""أبو النضر" الإمام الحافظ مضى برقم: ١٨٤، ٨٢٣٩.
و"أبو سعيد المؤدب" هو: "محمد بن مسلم بن أبي الوضاح القضاعي" ثقة مأمون مضى برقم ٨٢٣٩، ١٢٣١٠.
(٢) انظر تفسير"قيام" فيما سلف ٧: ٥٦٨، ٥٦٩.
(٣) هو حميد الأرقط.
(٤) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٧٧.
(٥) في المطبوعة: "يحترم ذلك" وصوابه من المخطوطة وفي المخطوطة: "ويعطيه" وصوابه ما في المطبوعة.
90
وأما"الكعبة"، فالحرم كله. وسمّاها الله تعالى"حرامًا"، لتحريمه إياها أن يصاد صيدها أو يُخْتلى خَلاها، أو يُعْضد شجرها، (١) وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل. (٢)
* * *
وقوله:"والشهر الحرام والهدي والقلائد"، يقول تعالى ذكره: وجعل الشهر الحرام والهدي والقلائد أيضًا قيامًا للناس، كما جعل الكعبة البيت الحرام لهم قيامًا.
* * *
و"الناس" الذين جعل ذلك لهم قيامًا، مختلفٌ فيهم.
فقال بعضهم: جعل الله ذلك في الجاهلية قيامًا للناس كلهم.
* * *
وقال بعضهم: بل عنى به العربَ خاصة.
* * *
وبمثل الذي قلنا في تأويل"القوام"، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال: عنى الله تعالى ذكره بقوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، القوام، على نحو ما قلنا.
١٢٧٨٢ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا من سمع خُصَيفًا يحدث، عن مجاهد في:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، قال: قوامًا للناس.
١٢٧٨٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن خصيف، عن سعيد بن جبير:"قيامًا للناس"، قال: صلاحًا لدينهم.
١٢٧٨٤- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا داود، عن ابن جريج، عن مجاهد في:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، قال: حين لا
(١) "الخلي": الرطب الرقيق من النبات. و"اختلى الخلي": جزه وقطعه ونزعه. و"عضد الشجرة" قطعها.
(٢) انظر ما سلف ٣: ٤٥- ٥١.
91
يرْجون جنة ولا يخافون نارًا، فشدّد الله ذلك بالإسلام.
١٢٧٨٥- حدثني هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن إسرائيل، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، قال: شدةً لدينهم.
١٢٧٨٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جيير، مثله.
١٢٧٨٧ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس"، قال: قيامها، أن يأمن من توجَّه إليها.
١٢٧٨٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد"، يعني قيامًا لدينهم، ومعالم لحجهم.
١٢٧٨٩ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد"، جعل الله هذه الأربعةَ قيامًا للناس، هو قوام أمرهم.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال وإن أختلفت من قائليها ألفاظُها، (١) فإن معانيها آيلةٌ إلى ما قلنا في ذلك، من أن"القوام" للشيء، هو الذي به صلاحه، كما الملك الأعظم، قوامُ رعيته ومن في سلطانه، (٢) لأنه مدبِّر أمرهم، وحاجز ظالمهم عن مظلومهم، والدافع عنهم مكروه من بغاهم وعاداهم. وكذلك كانت الكعبة والشهرُ الحرام والهدي والقلائد، قوامَ أمر العرب الذي كان به صلاحهم
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "من قائلها" بالإفراد وما أثبته أولى بالصحة.
(٢) في المطبوعة: "كالملك" والصواب الجيد ما في المخطوطة.
92
في الجاهلية، وهي في الإسلام لأهله معالمُ حجهم ومناسكهم، ومتوجَّههم لصلاتهم، وقبلتهم التي باستقبالها يتمُّ فرضُهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قالت جماعة أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٧٩٠ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد"، حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية، (١) فكان الرجل لو جَرَّ كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يُتناول ولم يُقرب. وكان الرجل لو لقي قاتلَ أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقرَبه. وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادةً من شعر فأحمته ومنعته من الناس. وكان إذا نفر تقلَّد قلادة من الإذْخِر أو من لِحَاء السمُر، فمنعته من الناس حتى يأتي أهله، (٢) حواجزُ أبقاها الله بين الناس في الجاهلية.
١٢٧٩١- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد"، قال: كان الناس كلهم فيهم ملوكٌ تدفع بعضَهم عن بعض. قال: ولم يكن في العرب ملوكٌ تدفع بعضهم عن بعض، فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قيامًا، يُدْفع بعضُهم عن بعض به، والشهر الحرام كذلك يدفع الله بعضهم عن بعض بالأشهر الحرم، والقلائد. قال: ويلقَى الرجل قاتل أخيه أو ابن عمه فلا يعرض له. وهذا كله قد نُسِخ.
(١) عندي أن الصواب"ألقاها الله" باللام في هذا الموضع، والذي يليه، ولكن هكذا هي في المخطوطة.
(٢) "الإذخر": حشيشة طيبة الرائحة يسقف بها البيوت فوق الخشب ويطحن فيدخل في الطيب. و"اللحاء" قشر الشجر. و"السمر" (بفتح السين وضم الميم) : شجر من الطلح.
93
١٢٧٩٢ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"والقلائد"، كان ناس يتقلَّدون لحاء الشجر في الجاهلية إذا أرادوا الحجّ، فيعرفون بذلك.
* * *
وقد أتينا على البيان عن ذكر:"الشهر الحرام"= و"الهدي"= و"القلائد"، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، تصييرَه الكعبةَ البيتَ الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد. يقول تعالى ذكره: صيرت لكم، أيها الناس، ذلك قيامًا، كي تعلموا أن من أحدث لكم لمصالح دنياكم ما أحدث، مما به قوامكم، علمًا منه بمنافعكم ومضاركم، أنه كذلك يعلم جميع ما في السموات وما في الأرض مما فيه صلاحُ عاجلكم وآجلكم، ولتعلموا أنه بكل شيء"عليم"، لا يخفى عليه شيء من أموركم وأعمالكم، وهو محصيها عليكم، حتى يجازي المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيء منكم بإساءته. (٢)
* * *
(١) انظر تفسير"الشهر الحرام" فيما سلف ٣: ٥٧٥- ٥٧٩/٤: ٢٩٩، ٣٠٠ وما بعدها/٩: ٤٦٦= وتفسير"الهدي" فيما سلف ٤: ٢٤، ٢٥/٩: ٤٦٦/١١: ٢٢= وتفسير"القلائد" فيما سلف ٩: ٤٦٧- ٤٧٠.
(٢) انظر تفسير"عليم" فيما سلف من فهارس اللغة.
القول في تأويل قوله: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: اعلموا، أيها الناس، أن ربكم الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض، ولا يخف عليه شيء من سرائر أعمالكم وعلانيتها، وهو يُحْصيها عليكم لمجازيكم بها، شديد عقابُه من عصاه وتمرَّد عليه، على معصيته إياه= وهو غفور لذنوب من أطاعه وأنابَ إليه، فساترٌ عليه، وتاركٌ فضيحته بها= رحيم به أن يعاقبه على ما سلف من ذنوبه بعد إنابته وتوبته منها. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (٩٩) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا من الله تعالى ذكره تهديد لعباده ووعيد. يقول تعالى ذكره: ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم، أيها الناس، بإنذاركم عقابَنا بين يدي عذاب شديد، وإعذارنا إليكم بما فيه قطع حججكم= إلا أن يؤدي إليكم رسالتنا، ثم إلينا الثواب على الطاعة، (٢) وعلينا العقاب على المعصية ="والله يعلم ما تبدون وما تكتمون"، يقول: وغير خفي علينا المطيعُ منكم، القابلُ رسالتنا، العاملُ بما أمرته بالعمل به= من المعاصي الآبي رسالتنا، التارك العمل بما أمرته بالعمل به، (٣) لأنا نعلم ما عمله العامل منكم فأظهره بجوارحه ونطق
(١) انظر تفسير"شديد العقاب" و"غفور" و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٢) انظر تفسير"البلاغ" فيما سلف ١٠: ٥٧٥.
(٣) في المطبوعة: "من المعاصي التارك العمل" أسقط ما كان في المخطوطة، وكان فيها: "من المعاصي التي، رسالتنا" هكذا كتبت وبين الكلام بياض ورسم"، " بالحمرة. فآثرت قراءتها كما أثبتها.
به بلسانه="وما تكتمون"، يعني: ما تخفونه في أنفسكم من إيمان وكفر، أو يقين وشك ونفاق. (١)
يقول تعالى ذكره: فمن كان كذلك، لا يخفى عليه شيء من ضمائر الصدور، وظواهر أعمال النفوس، مما في السموات وما في الأرض، وبيده الثواب والعقاب= فحقيق أن يُتَّقى، وأن يُطاع فلا يعصى.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قل يا محمد: لا يعتدل الرديء والجيد، والصالح والطالح، والمطيع والعاصي (٢) = ولو أعجبك كثرة الخبيث"، يقول: لا يعتدل العاصي والمطيع لله عند الله، ولو كثر أهل المعاصى فعجبت من كثرتهم، لأن أهل طاعة الله هم المفلحون الفائزون بثواب الله يوم القيامة وإن قلُّوا، دون أهل معصيته= وإن أهل معاصيه هم الأخسرون الخائبون وإن كثروا.
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: فلا تعجبنَّ من كثرة من يعصى الله فيُمْهِله ولا يعاجله بالعقوبة، فإن العقبَى الصالحة لأهل طاعة الله عنده دونهم، كما:-
(١) انظر تفسير"تبدون" و"تكتمون" في فهارس اللغة"بدا" و"كتم".
(٢) انظر تفسير: "استوى" فيما سلف ٩: ٨٥= وتفسير"الخبيث" فيما سلف ٥: ٥٥٨، ٥٥٩/٧: ٤٢٤، ٥٢٧= وتفسير"الطيب" فيما سلف ١٠: ٥١٣ تعليق: ٣، والمراجع هناك.
96
١٢٧٩٣ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي،"لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة"الخبيث"، قال: الخبيث، هم المشركون= و"الطيب"، هم المؤمنون.
* * *
وهذا الكلام وإن كان مخرجه مخرجَ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمراد به بعض أتباعه، يدل على ذلك قوله:"فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون"
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واتقوا الله بطاعته فيما أمركم ونهاكم، واحذروا أن يستحوذ عليكم الشيطان بإعجابكم كثرة الخبيث، فتصيروا منهم="يا أولي الألباب"، يعني بذلك أهلَ العقول والحِجَى، الذين عقلوا عن الله آياته، وعرفوا مواقع حججه. (١) ="لعلكم تفلحون"، يقول: اتقوا الله لتفلحوا، أي: كي تنجحوا في طلبكم ما عنده. (٢)
* * *
(١) انظر تفسير"أولي الألباب" فيما سلف ٣: ٣٨٣/ ٤: ١٦٢ /٥: ٥٨٠ /٦: ٢١١ وفي التعليق على المواضع السالفة خطأ، يصحح من هنا.
(٢) انظر تفسير"الفلاح" فيما سلف ١٠: ٥٦٤ تعليق: ١، والمراجع هناك.
97
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾
قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية أنزلت على رسول الله ﷺ بسبب مسائل كان يسألها إياه أقوام، امتحانًا له أحيانًا، واستهزاءً أحيانًا. فيقول له بعضهم:"من أبي"؟ ويقول له بعضهم إذا ضلت ناقته:"أين ناقتي"؟ فقال لهم تعالى ذكره: لا تسألوا عن أشياءَ من ذلك= كمسألة عبد الله بن حُذافة إياه من أبوه="إن تبد لكم تسؤكم"، يقول: إن أبدينا لكم حقيقة ما تسألون عنه، ساءكم إبداؤها وإظهارها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك تظاهرت الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر الرواية بذلك:
١٢٧٩٤ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حفص بن بُغَيل قال، حدثنا زهير بن معاوية قال، حدثنا أبو الجويرية قال: قال ابن عباس لأعرابيّ من بني سليم: هل تدري فيما أنزلت هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"؟ = حتى فرغ من الآية، فقال: كان قوم يسألون رسولَ الله ﷺ استهزاء، فيقول الرجل:"من أبي"؟ = والرجل تضل ناقته فيقول:"أين ناقتي"؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية. (١)
(١) الأثر: ١٢٧٩٤-"حفص بن بغيل الهمداني المرهبي"، ثقة مضى برقم: ٩٦٣٩، وكان في المطبوعة هنا"بعض بني نفيل"، وفي المخطوطة: "بعض بن نفيل"، وكله خطأ، وكذلك جاء خطأ في فتح الباري"حفص بن نفيل" بالفاء، وهو"بغيل" بالغين، على التصغير.
و"زهير بن معاوية الجعفي"، هو"أبو خيثمة". ثقة ثبت، روى له أصحاب الكتب الستة. مضى برقم: ٢١٤٤، ٢٢٢٢.
و"أبو الجويرية" هو"حطان بن خفاف بن زهير بن عبد الله بن رمح بن عرعرة الجعفي"، روى عن ابن عباس. ثقة، قال ابن عبد البر: "أجمعوا على أنه ثقة". مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١١٠٩، وابن أبي حاتم ١/٢/٣٠٤.
وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه (الفتح ٨: ٢١٢) من طريق الفضل بن سهل، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن أبي خيثمة زهير بن معاوية، عن أبي الجويرية، بنحوه. وأشار إلى إسناد أبي جعفر، الحافظ ابن حجر في شرح الحديث. وقال ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٥٠، وذكر حديث البخاري: "تفرد به البخاري".
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٣٤، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه.
98
١٢٧٩٥ - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو عامر وأبو داود قالا حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس قال: سأل الناسُ رسولَ الله ﷺ حتى أحْفَوه بالمسألة، (١) فصعد المنبر ذات يوم، فقال:" لا تسألوني عن شيء إلا بيَّنْتُ لكم! (٢) قال أنس: فجعلت أنظر يمينًا وشمالا فأرى كل إنسان لافًّا ثوبَه يبكي، فأنشأ رجل كان إذا لاحَى يُدعى إلى غير أبيه، (٣) فقال: يا رسول الله، من أبي؟ فقال:"أبوك حذافة"! قال: فأنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ رسولا وأعوذ بالله من سوء الفتن! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لم أرَ الشرّ والخيرَ كاليوم قط! (٤) إنه صُوِّرت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط! = وكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية:"لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم". (٥)
(١) "أحفاه بالمسألة" و"أحفى السؤال": ألح عليه، وأكثر الطلب واستقصى في السؤال.
(٢) في المطبوعة: "إلا بينته" بالضمير كما في صحيح مسلم وأثبت ما في المخطوطة وهو صواب أيضا.
(٣) يقال: "أنشأ فلان يفعل كذا" أي: أقبل يفعل أو ابتدأ يفعل وهو هنا في هذا الموضع والذي يليه، أحسنه أن يفسر: "أقبل"= و"لاحى الرجل أخاه": إذا نازعه وسابه وشاتمه.
(٤) في المطبوعة: "لم أر في الشر والخير" بزيادة"في" كما في مسلم: "لم أر كاليوم قط في الخير والشر" واتبعت المخطوطة فحذفت"في".
(٥) الأثر: ١٢٧٩٥-"أبو عامر" هو العقدي: "عبد الملك بن عمرو القيسي"، ثقة مأمون، مضى مرارا كثيرة جدا.
و"أبو داود" هو الطيالسي.
و"هشام" هو الدستوائي.
وهذا الخبر، رواه مسلم في صحيحه من طرق (١٥: ١١٤، ١١٥)، من طريق: يوسف ابن حماد المعنى، عن عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، ثم أشار إلى روايته من طريق يحيى بن حبيب الحارثي، عن خالد بن الحارث، عن هشام= ومن طريق محمد بن بشار، عن محمد ابن أبي عدي، عن هشام. وهو مثل طريق أبي جعفر. وسيأتي أيضًا برقم: ١٢٧٩٧. وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٣٤، واقتصر على نسبته لابن جرير، وابن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وقصر فلم ينسبه إلى صحيح مسلم.
99
١٢٧٩٦ - حدثني محمد بن معمر البحراني قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا شعبة قال، أخبرني موسى بن أنس قال، سمعت أنسًا يقول، قال رجل: يا رسول الله، من أبي؟ قال:"أبوك فلان"! قال: فنزلت:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم". (١)
١٢٧٩٧- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، قال: فحدَّثنا أن أنس بن مالك حدَّثهم: أنّ رسول الله ﷺ سألوه حتى أحفَوْه بالمسألة، فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر فقال:"لا تسألوني اليومَ عن شيء إلا بينته لكم! فأشفقَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه
(١) الأثر: ١٢٧٩٦="محمد بن معمر بن ربعي القيسي البحراني"، شيخ الطبري روى عنه أصحاب الكتب الستة، ومضى برقم: ٢٤١، ٣٠٥٦، ٥٣٩٣.
و"روح بن عبادة القيسي"، مضى برقم: ٣٠١٥، ٣٣٥٥، ٣٩١٢.
و"موسى بن أنس بن مالك الأنصاري"، تابعي ثقة قليل الحديث، مضى برقم: ١١٤٧٥.
وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه من طريقين عن شعبة، من طريق منذر بن الوليد بن عبد الرحمن الجارودي، عن أبيه، عن شعبة (الفتح ٨: ٢١٠- ٢١٢) مطولا، وأشار بعده إلى رواية النضر، وروح بن عبادة، عن شعبة= ثم رواه من طريق محمد بن عبد الرحيم، عن روح، عن شعبة، مختصرًا كالذي هنا (الفتح ١٣: ٢٣٠) وخرجه الحافظ ابن حجر في الموضعين.
ورواه مسلم في صحيحه (١٥: ١١٢)، من طريق محمد بن معمر، بمثل رواية أبي جعفر.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٣٤، وزاد نسبته إلى الترمذي، والنسائي، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
100
وسلم أن يكون بين يديه أمر قد حضر، فجعلتُ لا ألتفت يمينًا ولا شمالا إلا وجدت كُلا لافًّا رأسه في ثوبه يبكي. فأنشأ رجلٌ كان يُلاحَى فيدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله، من أبي؟ قال:"أبوك حذافة"! قال: ثم قام عمر = (١) أو قال: فأنشأ عمر = فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ رسولا عائذًا بالله = أو قال: أعوذ بالله = من سوء الفتن! قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أر في الخير والشر كاليوم قط، صُوِّرت لي الجنة والنارُ حتى رأيتهما دون الحائط. (٢)
١٢٧٩٨ - حدثنا أحمد بن هشام وسفيان بن وكيع قالا حدثنا معاذ بن معاذ قال، حدثنا ابن عون، قال: سألت عكرمة مولى ابن عباس عن قوله:"ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، قال: ذاك يوم قام فيهم النبي ﷺ فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به! قال: فقام رجل، فكره المسلمون مَقامه يومئذ، فقال: يا رسول الله، من أبي؟ قال: أبوك حذافة، قال: فنزلت هذه الآية. (٣)
١٢٧٩٩ - حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: نزلت:"لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم
(١) في المطبوعة: "ثم قال عمر" غير ما في المخطوطة، وهو الصواب.
(٢) الأثر: ١٢٧٩٧- هو مكرر الأثر رقم: ١٢٧٩٥ بنحو لفظه ورواه أبو جعفر هنا من طريق سعيد عن قتادة وهي طريق مسلم التي رواها في صحيحه، كما أشرت إليه في تخريج الخبر رقم: ١٢٧٩٥.
(٣) الأثر: ١٢٧٩٨-"أحمد بن هشام" شيخ أبي جعفر، لم أستطع أن أحدد من يكون، وهناك: "أحمد بن هشام بن بهرام"، "أبو عبد الله المدائني" مترجم في تاريخ بغداد ٥: ١٩٧.
و"أحمد بن هشام بن حميد"، "أبو بكر المصري"، سكن البصرة، وحدث بها. مترجم أيضًا في تاريخ بغداد ٥: ١٩٨.
وأما "معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان العنبري"، "أبو المثنى"، الحافظ البصري، فقد سلف برقم: ١٠٤٨٢.
101
تسؤكم"، في رجل قال: يا رسول الله، من أبي؟ قال: أبوك فلان.
١٢٨٠٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني سفيان، عن معمر، عن قتادة قال: سألوا النبي ﷺ حتى أكثروا عليه، فقام مغضبًا خطيبًا فقال: سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي إلا حدثتكم! فقام رجل فقال: من أبي؟ قال: أبوك حذافة. واشتدّ غضبه وقال: سلوني! فلما رأى الناس ذلك كثر بكاؤهم، فجثا عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله ربًّا= قال معمر، قال الزهري، قال أنس مثل ذلك: فجثا عمر على ركبتيه= (١) فقال: رضينا بالله ربًّا= وبالإسلام دينًا= وبمحمد ﷺ رسولا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما والذي نفسي بيده، لقد صُوِّرت لي الجنةُ والنارُ آنفًا في عرض هذا الحائط، فلم أر كاليوم في الخير والشر= قال الزهري، فقالت أم عبد الله بن حذافة: ما رأيت ولدًا أعقّ منك قط! أتأمن أن تكون أمك قارفت ما قارفَ أهلُ الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس!! فقال: والله لو ألحقني بعبدٍ أسود للحقتُه. (٢)
١٢٨٠١ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، قال: غضب رسول الله ﷺ يومًا من الأيام، فقام
(١) هذه إشارة من سفيان إلى رواية يونس عن الزهري ورواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري: "برك عمر "أو" فبرك عمر على ركبتيه" كما في مسلم ١٥: ١١٣، والبخاري (الفتح ١٣: ٢٣٠).
(٢) الأثر: ١٢٨٠٠- هذا الخبر من رواية سفيان، عن معمر، عن قتادة عن أنس= ومن روايته عن معمر، عن الزهري، عن أنس. وأخرجه البخاري في صحيحه (الفتح ١٣: ٢٣٠) من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، وأخرجه مسلم في صحيحه (١٥: ١١٢) من يونس، عن الزهري، ثم أشار في (١٥: ١١٤) إلى طريق عبد الرازق، عن معمر. أما خبر طريق قتادة، عن أنس، فقد مضى برقم: ١٢٧٩٥، ١٢٧٩٧.
*وخرجه ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٤٩.
102
خطيبًا فقال: سلوني، فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا نبأتكم به! فقام إليه رجل من قريش، من بني سهم، يقال له"عبد الله بن حذافة"، وكان يُطْعن فيه، قال: فقال: يا رسول الله، من أبي؟ قال: أبوك فلان! فدعاه لأبيه. فقام إليه عمر فقبَّل رجله وقال: يا رسولَ الله، رضينا بالله ربًّا، وبك نبيًّا، وبالإسلام دينًا، وبالقرآن إمامًا، فاعف عنا عفا الله عنك! فلم يزل به حتى رَضِيَ، فيومئذ قال:"الولد للفراش وللعاهر الحجر". (١)
١٢٨٠٢ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله ﷺ وهو غضبان محمارٌّ وجهه! حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل فقال: أين أبي؟ قال: في النار، فقام آخر فقال: من أبي؟ قال: أبوك حذافة! فقام عمر بن الخطاب فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيًّا، وبالقرآن إمامًا، إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشِرْك، والله يعلمُ من آباؤنا! قال: فسكن غضبه، ونزلت:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم". (٢)
* * *
(١) الأثر: ١٢٨٠١- روى الحاكم في المستدرك ٣: ٦٣١ من طريق نعيم بن حماد عن هشيم عن سيار عن أبي وائل:
"أن عبد الله بن حذافة بن قيس قال: يا رسول الله، من أبي؟ قال: أبُوك حُذافة، الولد للفراش وللعَاهر الحجَرُ. قال: لو دعوتتي لحبشيٍّ لاتبعته! فقالت له أُمُّه: لقد عَرَّضتني! فقال: إنِّي أردتُ أن أستريح! ".
(٢) الأثر: ١٢٨٠٢-"الحارث" هو"الحارث بن أبي أسامة" منسوبًا إلى جده، وهو"الحارث بن محمد بن أبي أسامة التميمي"، مضت ترجمته برقم: ١٠٢٩٥.
و"عبد العزيز" هو"عبد العزيز بن أبان الأموي"، من مولد سعيد بن العاص، كان كذابًا يضع الأحاديث، وذمه يطول. ومضى برقم: ١٠٢٩٥.
و"قيس" هو"قيس بن الربيع الأسدي"، وهو ثقة، ولكنهم ضعفوه، ومضى أيضًا برقم ١٠٢٩٥.
و"أبو حصين" هو"عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي"، روى له أصحاب الكتب الستة. مضى برقم: ٦٤٢ ٦٤٣، ٨٩٦١، ٨٩٦٢.
و"أبو صالح" هو"ذكوان السمان"، من أجل الناس وأوثقهم. سلف مرارًا.
وإسناد هذا الخبر إلى"قيس بن الربيع"، إسناد هالك، ولكن ابن كثير في تفسيره ٢: ٢٤٩، ساقه عن هذا الموضع من الطبري ثم قال: "إسناده جيد"، وكيف، وفيه"عبد العزيز بن أبان"؟
وذكر هذا الخبر، الجصاص في أحكام القرآن ٢: ٤٨٣، يقول: "روى قيس بن الربيع عن أبي حصين عن أبي هريرة"، ولم يذكر إسناده.
103
وقال آخرون: نزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ من أجل مسألة سائل سأله عن شيء في أمر الحجّ.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٨٠٣ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا منصور بن وردان الأسدي قال، حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، لما نزلت هذه الآية: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) سورة آل عمران: ٩٧]، قالوا: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت. ثم قالوا: أفي كل عام؟ فسكت. ثم قال: لا ولو قلت:"نعم" لوجبت"! فأنزل الله هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم". (١)
(١) الأثر: ١٢٨٠٣-"منصور بن وردان الأسدي" العطار الكوفي، شيخ أحمد. روى عن فطر بن خليفة، وعلي بن عبد الأعلى. ذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه أحمد. وقال ابن أبي حاتم: "يكتب حديثه". مترجم في التهذيب، والكبير ٤/١/٣٤٧، وابن أبي حاتم ٤/١/١٨٠.
"على بن عبد الأعلى بن عامر الثعلبي"، أبو الحسن الأحول. وثقه البخاري والترمذي، وقال الدارقطني: "ليس بالقوي" مترجم، في التهذيب.
وهذا الخبر، رواه أحمد في المسند رقم ٩٠٥، من طريق منصور بن وردان الأسدي، عن علي بن عبد الأعلى، عن أبيه، عن أبي البختري، عن علي قال، بمثل ما في رواية أبي جعفر غير موصولة.
ورواه الترمذي في كتاب التفسير عن أبي سعيد، عن منصور بن وردان، بإسناده بمثل رواية أحمد، وقال: "هذا حديث حسن غريب من حديث علي".
ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٩٣، ٢٩٤، من طريق أحمد بن موسى بن إسحق التميمي، عن مخول بن إبراهيم النهدي، عن منصور بن وردان. ولم يقل فيه الحاكم شيئًا، وقال الذهبي في تعليقه: "مخول: رافضي، = وعبد الأعلى، هو ابن عامر، ضعفه أحمد".
ورواه ابن ماجه في السنن رقم: ٢٨٨٤ من طريق محمد بن عبد الله بن نمير، وعلي بن محمد، عن منصور بن وردان، بمثله.
وخرجه ابن كثير في تفسيره ٢: ١٩٥/٣: ٢٥٠، وذكر خبر الترمذي وما قاله ثم قال: "وفيما قال نظر. لأن البخاري قال: لم يسمع أبو البختري من علي".
و"قال أخي السيد أحمد في شرح المسند (رقم: ٩٠٥) :"إسناده ضعيف، لانقطاعه، ولضعف عبد الأعلى بن عامر الثعلبي".
104
١٢٨٠٤ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن إبراهيم بن مسلم الهجري، عن ابن عياض، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،"إن الله كتب عليكم الحج! فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه، حتى عاد مرتين أو ثلاثًا، فقال: من السائل؟ فقال: فلان! فقال: والذي نفسي بيده، لو قلت"نعم" لوجبت، ولو وجبت عليكم ما أطقتموه، ولو تركتموه لكفرتم! فأنزل الله هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، حتى ختم الآية. (١)
١٢٨٠٥ - حدثني محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبي قال، أخبرنا الحسين بن واقد، عن محمد بن زياد قال، سمعت أبا هريرة يقول: خطبنا رسول الله ﷺ فقال: يا أيها الناس، كتب الله عليكم
(١) الأثر: ١٢٨٠٤-"عبد الرحيم بن سليمان الطائي الرازي"، الأشل. ثقة مضى برقم: ٢٠٢٨، ٢٠٣٠، ٢٢٥٤، ٨١٥٦، ٨١٥٧، ٨١٦١. وكان في المطبوعة والمخطوطة"عبد الرحمن بن سليمان"، والصواب من تفسير ابن كثير.
و"إبراهيم بن مسلم الهجري" ضعيف، لين الحديث، مترجم في الكبير للبخاري ١/١/٣٢٦، وضعفه، وابن أبي حاتم ١/١/١٣١، وميزان الاعتدال للذهبي ١: ٣١.
و"أبو عياض" هو: "عمرو بن الأسود العنسي"، ويقال: "عمير بن الأسود"، ثقة، مضى برقم: ١١٢٥٥. وكان في المطبوعة: "ابن عياض"، والصواب من المخطوطة.
وهذا خبر ضعيف إسناده، لضعف"إبراهيم بن مسلم الهجري".
ذكره الجصاص في أحكام القرآن ٢: ٤٨٣ ونقله ابن كثير في تفسيره عن هذا الموضع ٣: ٢٥٠.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٣٥، وزاد نسبته إلى الفريابي وابن مردويه.
105
الحج. فقام مِحْصن الأسدي فقال: أفي كل عام، يا رسول الله؟ فقال:"أمَا إنّي لو قلت"نعم" لوجبت، ولو وجبت ثم تركتم لضللتم، اسكتوا عنى ما سكتُّ عنكم، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم! فأنزل الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، إلى آخر الآية. (١)
١٢٨٠٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة يقول: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم= فذكر مثله، إلا أنه قام: فقام عُكَّاشة بن محصن الأسدي. (٢)
١٢٨٠٧ - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال، حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أبي الغمر قال، حدثنا أبو مطيع معاوية بن يحيى، عن صفوان
(١) الأثر: ١٢٨٠٥-"محمد بن علي بن الحسن بن شقيق العبدي" ثقة، مضى برقم: ١٥٩١، ٢٥٧٥، ٩٩٥١.
وأبوه "علي بن الحسن بن شقيق" ثقة أيضًا مضى برقم: ١٥٩١، ٢٥٧٥.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: "بن الحسين بن شقيق"، وهو خطأ.
و"الحسين بن واقد المروزي"، ثقة، مضى برقم: ٤٨١٠، ٦٣١١.
و"محمد بن زياد القرشي الجمحي" أبو الحارث، روى له أصحاب الكتب الستة، روى عن أبي هريرة وعائشة، وعبد الله بن الزبير. مترجم في التهذيب، والكبير ١/١/٨٢، وابن أبي حاتم ٣/٢/٢٥٧.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده مختصرًا ومطولا. رواه مختصرًا من طريق محمد بن زياد، عن أبي هريرة، وليس فيه ذكر الحج، ولا السؤال، ولا ذكر السائل، في المسند ٢: ٤٤٧، ٤٤٨، من طريق وكيع، عن حماد، عن محمد بن زياد. ثم رواه: ٢: ٤٦٧، من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد.
ثم رواه مطولا فيه ذكر الحج، والسؤال عنه، والسائل"رجل"، لم يبين في الخبر اسمه (٢: ٥٠٨) من طريق يزيد بن هرون، عن الربيع بن مسلم القرشي، عن محمد بن زياد، وليس فيه ذكر الآية ونزولها.
ومن هذه الطريق رواه مسلم في صحيحه (٩: ١٠٠)، عن زهير بن حرب، عن يزيد بن هرون بمثله.
ورواه البخاري مختصرًا أيضًا (الفتح ١٣: ٢١٩- ٢٢٤) من طريق إسمعيل بن أبي أويس، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة.
ورواه البيهقي في السنن الكبرى ٤: ٣٢٥، ٣٢٦ من طريق عبيد الله بن موسى، عن الربيع بن مسلم القرشي، ومن طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، عن يزيد بن هرون.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٣٥، وزاد نسبته إلى أبي الشيخ، وابن مردويه، بمثل رواية أبي جعفر هنا.
وفي جميع ذلك جاء"فقال رجل"، مبهمًا ليس فيه التصريح باسمه، وقال النووي في شرحه على مسلم (٩: ١٠١) :"هذا الرجل هو الأقرع بن حابس، كذا جاء مبينًا في غير هذه الرواية والرواية التي جاء فيها مبينا هي من حديث ابن عباس، وفيها: "فقام الأقرع بن حابس فقال"، رواها أحمد في مسنده من طرق عن ابن شهاب الزهري، عن أبي سنان، عن ابن عباس، وهي رقم: ٢٣٠٤، ٢٦٤٢، ٣٣٠٣، ٣٥١٠، ٣٥٢٠ وكذلك رواها البيهقي في السنن الكبرى ٤: ٣٢٦.
وقد أشار الحافظ ابن حجر في الفتح (١٣: ٢٢٠) إلى حديث مسلم، وما فيه من زيادة السؤال عن الحج، ثم قال: "وأخرجه الدارقطني مختصرًا وزاد فيه"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"= وله شاهد عن ابن عباس، عند الطبري في التفسير". قلت: يعني الأثر السالف رقم: ١٢٧٩٤، لا هذا الأثر. ولم يشر الحافظ إلى خبر الحسين بن واقد، عن محمد بن زياد.
وقد اختلف على"الحسين بن واقد" في اسم الرجل الذي سأل، فجاء في هذا الخبر"محصن الأسدي"، وفي الذي يليه"عكاشة بن محصن الأسدي"، وقد ذكر ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٥٠، ٢٥١، الخبر السالف رقم ١٢٨٠٤، ثم قال: "ثم رواه ابن جرير من طريق الحسين بن واقد، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة وقال: فقام محصن الأسدي، وفي رواية من هذا الطريق: عكاشة بن محصن، وهو أشبه"، ولم يزد على ذلك.
وهذا اختلاف في اسم الرجل"الأقرع بن حابس"، أو "عكاشة بن محصن الأسدي"، وأوثقهما أن يكون"الأقرع بن حابس"، فإنها جاءت بأسانيد صحاح لا شك في صحتها. أما علة ما جاء في رواية أبي جعفر، فذلك أن"الحسين بن واقد المروزي"، ثقة، قال النسائي: "لا بأس به" ووثقه ابن معين. ولكن قال ابن حبان: "من خيار الناس، وربما أخطأ في الروايات"، وقال أحمد: "في أحاديثه زيادة، ما أدري أي شيء هي! ونفض يده"، وقال الساجي: "فيه نظر، وهو صدوق، يهم".
و"رواية الثقات الحفاظ عن"محمد بن زياد، عن أبي هريرة"، لم يذكر فيها"عكاشة ابن محصن"، ولم يبين الرجل، ولكن الحسين بن واقد، رواه عن محمد بن زياد، فبين الرجل، وخالف البيان الذي روي من طرق صحاح عن ابن عباس أنه"الأقرع بن حابس"، فهذا من فعل"الحسين بن واقد"، ييد ما قاله أحمد وغيره: أن في أحاديثه زيادة لا يدري أي شيء هي! وكتبه محمود محمد شاكر.
(٢) الأثر: ١٢٨٠٦- هو مكرر الأثر السالف، وقد ذكرت القول فيه هناك.
106
بن عمرو قال، حدثني سليم بن عامر قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: قام رسول الله ﷺ في الناس فقال: كتب عليكم الحج! " فقام رجل من الأعراب فقال: أفي كل عام؟ قال: فغَلِقَ كلامُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسكتَ (١) واستغضب، (٢) فمكث طويلا ثم تكلم فقال: من السائل؟ فقال الأعرابي: أنا ذا! فقال: ويحك! ماذا يُؤْمِنك أن قول"نعم"، ولو قلت"نعم" لوجبت، ولو وجبت لكفرتم! ألا إنه إنما أهلك الذين قبلكم أئمة الحَرَج، (٣) والله لو أني أحللت لكم جميع ما في الأرض، وحرَّمت عليكم منها موضع خُفٍّ، لوقعتم فيه! قال: فأنزل الله تعالى عند ذلك:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء"، إلى آخر الآية. (٤)
١٢٨٠٨ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، وذلك أن رسول الله أذّن في الناس فقال:"يا قوم، كتب عليكم الحجّ! " فقام رجل من بني أسد فقال:
(١) في المطبوعة وابن كثير: "فعلا كلام رسول الله"، وهو خطأ لا شك فيه. وفي المخطوطة"فعلن" كأن آخرها"نون" وهي غير منقوطة. وفي مجمع الزوائد: "فعلق" بالعين المهملة، وأرجح أن الصواب ما أثبته. يقال: "غلق فلان، في حدته" (بفتح الغين وكسر اللام) أي: نشب، قال شمر: "يقال لكل شيء نشب في شيء فلزمه: قد غلق"، ومنه: "استغلق الرجل": إذا ارتج عليه ولم يتكلم، يعني أنه انقطع كلامه. فكأن هذا هو الصواب إن شاء الله.
وقوله بعد: "وأسكت" (بفتح الهمزة وسكون السين وفتح الكاف) بالبناء للمعلوم فعل لازم، بمعنى سكت. قال اللحياني: "يقال تكلم الرجل ثم سكت -بغير ألف- فإذا انقطع كلامه فلم يتكلم قيل: "أسكت"، وقيل": "أسكت" أطرق، من فكرة أو داء أو فرق. وفسروا الخبر أنه: "أعرض ولم يتكلم". وبعض الخبر في اللسان (سكت).
(٢) في المطبوعة وابن كثير زيادة: "وأغضب واستغضب"، لا أدري من أين جاءا بها. وليست"وأغضب" في المخطوطة. وقوله: "واستغضب" ضبطت في المخطوطة بفتحة على الضاد، وكذلك ضبطت في لسان العرب (سكت) ولم يذكر أصحاب اللغة: "استغضب" لازمًا، بل ذكروا"غضب" و"أغضبته فتغضبب"، ولكن ما جاء هنا له شاهد من قياس اللغة لا يرد. فهذا مما يزاد على نص المعاجم. ولو قرئ: "استغضب" بالبناء للمجهول، لكان جيدًا أيضًا وهو قياس محض"استغضب، فغضب".
(٣) قوله: "أئمة الحرج"، يعني الذين يبتدئون السؤال عن أشياء، تحرم على الناس من أجل سؤالهم، فهم كالأئمة الذين تقدموا الناس، فألزموهم الحرج. و"الحرج" أضيق الضيق.
(٤) الأثر: ١٢٨٠٧-"زكريا بن يحيى بن أبان المصري"، روى عنه أبو جعفر آنفًا رقم: ٥٩٧٣، وقال أخي السيد أحمد هناك: "لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من الكتب"، وصدق، لم يرد اسمه مبينًا كما جاء هنا وهناك. ولكن قد روى عنه أبو جعفر في مواضع من تاريخه ١: ٣٩ قال: "حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال، حدثنا ابن عفير"، ثم روى عنه في المنتخب من كتاب"ذيل المذيل" (١٣: ٣٩) :"حدثني زكرياء بن يحيى بن أبان المصري، قال، حدثنا أبو صالح كاتب الليث"، ثم في (١٣: ٦٣) :"حدثني زكرياء بن يحيى بن أبان المصري قال، حدثنا أحمد بن أشكاب" ثم في (١٣: ١٠٩) :"حدثني زكرياء بن يحيى قال، حدثنا أحمد بن يونس" فالذين حدث عنهم كلهم مصريون.
وأخشى أن يكون هو"زكريا بن يحيى الوقار المصري"، "أبو يحيى" مترجم في لسان الميزان ٢: ٤٨٥، وابن أبي حاتم ١/٢/٦٠١ وميزان الاعتدال ١: ٣٥٠، روى عن عبد الله بن وهب المصري فمن بعده، وعن زكريا بن يحيى الأدم المصري، والقاسم بن كثير المصري. وولد زكريا بن يحيى الوقار سنة ١٧٤، ومات سنة ٢٥٤، فهو مظنة أن يروى عنه أبو جعفر، كان من الصلحاء العباد الفقهاء، ولكن قال ابن عدي: "يضع الحديث، كذبه صالح جزرة. قال صالح: حدثنا زكريا الوقار، وكان من الكذابين الكبار". وقال أيضًا: "رأيت مشايخ مصر يثنون على أبي يحيى في العبادة والاجتهاد والفضل، وله حديث كثير، بعضه مستقيم، وبعضه موضوعات وكان هو يتهم بوضعها، لأنه يروى عن قوم ثقات أحاديث موضوعة. والصالحون قد رسموا بهذا: أن يرووا أحاديث موضوعة، ويتهم جماعة منهم بوضعها".
وأما "أبو زيد": "عبد الرحمن بن أبي الغمر"، المصري الفقيه من شيوخ البخاري روى عنه خارج الصحيح، مضى برقم: ٤٣٢٩. وفي المطبوعة: "بن أبي العمر" بالعين المهملة وهو خطأ.
و"أبو مطيع": "معاوية بن يحيى الشامي الأطرابلسي"، ثقة، وقال ابن معين: "ليس بذاك القوي"، وقال الدارقطني: "ضعيف". مترجم في التهذيب، والكبير ٤/١/٣٣٦، ولم يذكر فيه جرحًا، وابن أبي حاتم ٤/١/٣٨٤، ووثقه أبو زرعة.
و"صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي"، ثقة مضى برقم: ٧٠٠٩.
و"سليم بن عامر الكلاعي، الخبائري"، ثقة روى عن أبي أمامة، وغيره من الصحابة، مترجم في التهذيب، والكبير ٢/٢/١٢٦، وابن أبي حاتم ٢/١/٢١١.
وهذا الخبر خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد مختصرًا ٣: ٢٠٤ وقال: "رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن جيد".
ونقله ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٥١ عن هذا الموضع من التفسير، وقال: "في إسناده ضعف"، وكأن علة ضعفه عنده، هو"زكريا بن يحيى بن أبان المصري"، وفي إسناده في ابن كثير خطأ، كتب"عبد العزيز بن أبي الغمر"، وهو خطأ محض.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٣٥، وزاد نسبته لابن مردويه. ثم انظر ما ختم به أبو جعفر فصله هذا ص: ١١٢، أن مخرج هذا الأخبار صحاح عنده.
108
يا رسول الله، أفي كل عام؟ فأغْضِبَ رسول الله ﷺ غضبًا شديدًا، فقال: والذي نفس محمد بيده، لو قلت"نعم" لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، وإذًا لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإذا أمرتكم بشيء فافعلوا، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه! فأنزل الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة، فأصبحوا بها كافرين. فنهى الله تعالى عن ذلك وقال: لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا، فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تِبيانه. (١)
١٢٨٠٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح قال، حدثنا علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم"، قال: لما أنزلت آية الحج، نادى النبيّ ﷺ في الناس فقال: يا أيها الناس، إن الله قد كتب عليكم الحج فحُجُّوا. فقالوا: يا رسول الله، أعامًا واحدًا أم كل عام؟، فقال: لا بل عامًا واحدًا، ولو قلت"كل عام"، لوجبت، ولو وجبت لكفرتم. ثم قال الله تعالى ذكره: (٢) يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، قال: سألوا النبي ﷺ عن أشياء، فوعظهم فانتهوا.
١٢٨١٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، قال: ذكر رسول الله ﷺ الحج، فقيل:
(١) الأثر: ١٢٨٠٨- قد بين أخي السيد أحمد في الخبر رقم: ٣٠٥، ضعف هذا الإسناد الدائر في التفسير وقال: "هو إسناد مسلسل بالضعف من أسرة واحدة" ثم شرح الإسناد شرحًا مفصلا.
(٢) في المطبوعة أسقط"ثم" وهي لا غنى عنها في هذا الموضع وهي ثابتة في المخطوطة.
110
أواجب هو يا رسول الله كل عام؟ قال: لا لو قلتها لوجبت، ولو وجبت ما أطقتم، ولو لم تطيقوا لكفرتم. ثم قال: سلوني، فلا يسألني رجل في مجلسي هذا عن شيء إلا أخبرته، وإن سألني عن أبيه! فقام إليه رجل فقال: من أبي؟ قال: أبوك حذافة بن قيس. فقام عمر فقال: يا رسول، رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيًّا، ونعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية من أجل أنهم سألوا رسول الله ﷺ عن البحيرة والسائبة والوَصيلة والحامي.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٨١١- حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس"لا تسألوا عن أشياء"، قال: هي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، ألا ترى أنه يقول بعد ذلك:"ما جعل الله من كذا ولا كذا؟ (١) = قال: وأما عكرمة فإنه قال: إنهم كانوا يسألونه عن الآيات، فنهوا عن ذلك. ثم فال:"قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين". قال: فقلت قد حدثني مجاهد بخلاف هذا عن ابن عباس، فما لك تقول هذا؟ فقال: هَيْهَ. (٢)
١٢٨١٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن ابن عون،
(١) القائل هو"خصيف".
(٢) قوله: "هيه" هنا بفتح الهاء وسكون الياء وفتح الهاء الآخرة. يقال ذلك للشيء ينحى ويطرد. وأما "هيه" (بكسر الهاء الأولى وكسر الآخرة أو فتحها) فهي مثل"إيه"، تقال أمرًا للرجل، تستزيده من الحديث المعهود بينكما. وإشارة عكرمة بالطرد والتنحية، لما كان بين مجاهد وعكرمة وانظر ما سلف من سوء رأي مجاهد في عكرمة في التعليق على رقم: ١٠٤٤٥، ١٠٤٦٩.
111
عن عكرمة قال: هو الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أبي= وقال سعيد بن جبير: هم الذين سألوا رسول الله ﷺ عن البحيرة والسائبة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك، قولُ من قال: نزلت هذه الآية من أجل إكثار السائلين رسولَ الله ﷺ المسائلَ، كمسألة ابن حذافة إياه مَن أبوه، ومسألة سائله إذ قال:"الله فرض عليكم الحج"، أفي كل عام؟ وما أشبه ذلك من المسائل، لتظاهر الأخبار بذلك عن الصحابة والتابعين وعامة أهل التأويل.
وأما القول الذي رواه مجاهد عن ابن عباس، فقولٌ غير بعيد من الصواب، ولكنْ الأخبارُ المتظاهرة عن الصحابة والتابعين بخلافه، وكرهنا القولَ به من أجل ذلك. على أنه غير مستنكر أن تكون المسئلة عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام كانت فيما سألوا النبي ﷺ عنه من المسائل التي كره الله لهم السؤال عنها، كما كره الله لهم المسألة عن الحج:"أكل عام هو، أم عامًا واحدًا"؟ وكما كره لعبد الله بن حذافة مسألته عن أبيه، فنزلت الآية بالنهي عن المسائل كلِّها، فأخبرَ كل مخبر منهم ببعض ما نزلت الآية من أجله، وأجل غيره. (١) وهذا القول أولى الأقوال في ذلك عندي بالصحة، لأن مخارج الأخبار بجميع المعاني التي ذُكرت صحاحٌ، فتوجيهها إلى الصواب من وجوهها أولى.
* * *
(١) في المطبوعة: "أو أجل غيره"، استجلب "أو" مكان"واو" العطف، فأفسد الكلام إفسادًا.
112
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للذين نهاهم من أصحاب رسول الله ﷺ عن مسألة رسول الله ﷺ عما نهاهم عن مسألتهم إياه عنه، من فرائض لم يفرضها الله عليهم، وتحليل أمور لهم يحلّلها لهم، وتحريم أشياء لم يحرِّمها عليهم قبلَ نزول القرآن بذلك: أيها المؤمنون السائلون عما سألوا عنه رسولي مما لم أنزل به كتابًا ولا وحيًا، لا تسألوا عنه، فإنكم إن أظهر ذلك لكم تبيانٌ بوحي وتنزيل ساءكم، لأن التنزيل بذلك إذا جاءكم إنما يجيئكم بما فيه امتحانكم واختباركم، إما بإيجاب عمل عليكم، ولزوم فرض لكم، وفي ذلك عليكم مشقة ولزوم مؤونة وكلفة= وإما بتحريم ما لو لم يأتكم بتحريمه وحي، كنتم من التقدم عليه في فُسْحة وسَعة= وإما بتحليل ما تعتقدون تحريمه، وفي ذلك لكم مساءة لنقلكم عما كنتم ترونه حقًّا إلى ما كنتم ترونه باطلا ولكنكم إن سألتم عنها بعد نزول القرآن بها، وبعد ابتدائكم ببيان أمرها في كتابي إلى رسولي إليكم، (١) ليسَّر عليكم ما أنزلته إليه من بيان كتابي، وتأويل تنزيلي ووحيي (٢)
وذلك نظير الخبر الذي روي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي:-
١٢٨١٣ - حدثنا به هناد بن السري قال، حدثنا أبو معاوية، عن داود
(١) في المطبوعة: "وبعد ابتدائكم شأن أمرها في كتابي"، وهو كلام بلا معنى، لم يحسن قراءة المخطوطة، لا فيها: "سان" غير منقوطة، فقرأها خلطأً.
(٢) في المطبوعة"بين لكم ما أنزلته إليه من إتيان كتابي"، وهي أيضًا كلام بلا معنى، وكان في المخطوطة هكذا"لسس عليكم ما أنزلته إليه من اساي كتابي"، وصواب قراءتها إن شاء الله هو ما أثبت.
113
بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني قال: إن الله تعالى ذكره فرَض فرائض فلا تضيِّعوها، ونهى عن أشياء فلا تَنْتَهِكوها، وحدّ حدودًا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها. (١)
١٢٨١٤ - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: كان عبيد بن عمير يقول: إن الله تعالى أحلّ وحرَّم، فما أحلّ فاستحلُّوه، وما حرَّم فاجتنبوه، وترك من ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرمها، فذلك عفو من الله عفاه. ثم يتلو:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم".
١٢٨١٥- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا الضحاك قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني عطاء، عن عبيد بن عمير أنه كان يقول: إنّ الله حرّم وأحلَّ، ثم ذكر نحوه.
* * *
وأما قوله:"عفا الله عنها" فإنه يعني به: عفا الله لكم عن مسألتكم عن الأشياء التي سألتم عنها رسول الله ﷺ الذي كره الله لكم مسألتكم إياه عنها، أن يؤاخذكم بها، أو يعاقبكم عليها، إن عرف منها توبتكم وإنابتكم (٢) ="والله غفورٌ"، يقول: والله ساتر ذنوب من تاب منها، فتارك أن يفضحه في الآخرة ="حليم" [ذو أناة عن] أن يعاقبه بها، لتغمده التائبَ منها برحمته، وعفوه، عن عقوبته عليها. (٣)
* * *
(١) الأثر: ١٢٨١٣- هذا الخبر، رواه أبو جعفر موقوفًا على أبي ثعلبة الخشني، وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٣٦ مرفوعًا، ونسبه لابن المنذر، والحاكم وصححه. وذكره ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٥٢ فقال: "وفي الحديث الصحيح أيضًا"، ولم أستطع أن أجده في المستدرك، أو غيره من الكتب الصحاح.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "إن عرف"، والسياق يقتضي: "إذ".
(٣) انظر تفسير"غفور" فيما سلف من فهارس اللغة= وتفسير"حليم" فيما سلف ٥: ١١٧، ٥٢١/ ٧: ٣٢٧ وزدت ما بين القوسين من تفسير أبي جعفر السالف، فإن الكلام بغير ذلك أو شبهه غير مستقيم كل الاستقامة.
114
وبنحو الذي قلنا في ذلك، روي الخبر عن ابن عباس الذي ذكرناه آنفًا. وذلك ما:-
١٢٨١٦ - حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لا تسألوا عن أشياء"، يقول: لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا، فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (١٠٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قد سأل الآيات قومٌ من قبلكم، فلما آتاهموها الله أصبحوا بها جاحدين، منكرين أن تكون دلالة على حقيقة ما احتُجَّ بها عليهم، وبرهانًا على صحة ما جُعلت برهانًا على تصحيحه= كقوم صالح الذين سألوا الآيةَ، فلما جاءتهم الناقة آيةً عقروها= وكالذين سألوا عيسى مائدة تنزل عليهم من السماء، فلما أعطوها كفروا بها، وما أشبه ذلك.
فحذَّر الله تعالى المؤمنين بنبيه ﷺ أن يسلكوا سبيل من قبلهم من الأمم التي هلكت بكفرهم بآيات الله لما جاءتهم عند مسألتهموها، فقال لهم: لا تسألوا الآيات، ولا تبحثوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، فقد سأل الآيات من قبلكم قومٌ، فلما أوتوها أصبحوا بها كافرين، كالذي:-
(١) الأثر: ١٢٨١٦- هو بعض الأثر السالف رقم: ١٢٨٠٨.
١٢٨١٧ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال؛ حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم"، نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة، فأصبحوا بها كافرين، فنهى الله عن ذلك. (١)
١٢٨١٨ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قد سألها قوم من قبلكم"، قد سأل الآيات قوم من قبلكم، وذلك حين قيل له: غيِّر لنا الصَّفا ذهبًا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما بحر الله بحيرة، ولا سيَّب سائبة، ولا وصل وصيلة، ولا حَمَى حاميًا = ولكنكم الذين فعلتم ذلك، أيها الكفرة، فحرَّمتموه افتراء على ربكم، كالذي:-
١٢٨١٩ - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثني أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، عن ابن الهاد = وحدثني يونس قال، حدثنا عبد الله بن يوسف قال، حدثني الليث قال، حدثني ابن الهاد =، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:"رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجرُّ قُصْبَه في النار، وكان أول من سيَّب السُّيَّب". (٢)
(١) الأثر: ١٢٨١٧- هو بعض الأثر السالف رقم: ١٢٨٠٨.
(٢) الأثر: ١٢٨١٩- رواه أبو جعفر بإسنادين: أولهما"محمد بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين المصري"، ثقة مضى برقم: ٢٣٧٧.
وأبوه: "عبد الله بن عبد الحكم بن أعين"، الفقيه المصري، ثقة، مترجم في التهذيب، و"شعيب بن الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي المصري"، ثقة، مضى برقم: ٣٠٣٤، ٥٣١٤
وأبوه"الليث بن سعد" الإمام الجليل القدر، مضى برقم: ١٨٦، ١٨٧، ٢٠٧٢، ٢٥٨٤، ٩٥٠٧.
و"ابن الهاد" هو: "يزيد بن الهاد" منسوبا إلى جده، وهو: "يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد" ثقة، مضى برقم: ٢٠٣١، ٣٠٣٤، ٤٣١٤.
وأما الإسناد الثاني فتفسيره:
"يونس" هو"يونس بن عبد الأعلى الصدفي" ثقة مضى برقم: ١٦٧٩، ٣٥٠٣ وغيرها.
و"عبد الله بن يوسف التنيسي الكلاعي" ثقة من شيوخ البخاري. مترجم في التهذيب.
وخبر أبي هريره هذا، من طريق الليث بن سعد، عن يزيد بن الهاد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رواه أحمد في المسند رقم: ٨٧٧٣، وأشار إليه البخاري في صحيحه (الفتح ٨: ٢١٤) وقد رواه قبل من طريق صالح بن كيسان عن ابن شهاب، عن سعيد، ورواه أحمد قبل ذلك منقطعا رقم: ٧٦٩٦، من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي هريرة وقد استوفى أخي السيد أحمد في شرحه بيان ذلك. وأما مسلم فقد رواه في صحيحه ١٧: ١٨٩ من طريق صالح بن كيسان، عن ابن شهاب عن سعيد.
وذكره ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٥٣، وذكر رواية البخاري الآنفة: "قال الحاكم: أراد البخاري أن يزيد بن عبد الله بن الهاد رواه عن عبد الوهاب بن بخت، عن الزهري هكذا حكاه شيخنا أبو الحجاج المزي في الأطراف، وسكت ولم ينبه عليه= قال ابن كثير: وفيما قاله الحاكم نظر، فإن الإمام أحمد وأبا جعفر بن جرير روياه من حديث الليث بن سعد عن ابن الهاد عن الزهري نفسه، والله أعلم". وتفسير كلام ابن كثير أن ابن الهاد قد ثبت سماعه من الزهري. ولم يبين هو ما أراد أبو الحجاج بما قال ولم يفسره. ولم يشر الحافظ ابن حجر في الفتح (٨: ٢١٤) إلى شيء مما قاله المزي.
وأما "القصب" (بضم فسكون) : هي الأمعاء كلها. وأما قوله: "سيب السيب" فإن"سيب الدابة أو الناقة أو الشيء": تركه يسيب حيث شاء، أي يذهب حيث شاء. وأما "السيب" (بضم السين وتشديد الياء المفتوحة) فهو جمع"سائبة" على مثال"نائحة ونوح" و"نائم ونوم" كما سلف في تعليقي على الأثر رقم: ١٠٤٤٧، وشاهده رواه ابن هشام في سيرته هذا البيت (١: ٩٣) :
حَوْلَ الوَصَائِل فِي شُرَيْفٍ حِقَّةٌ وَالحَامِيَاتُ ظُهُورُها
وَالسُّيَّبُ وتجمع"سائبة" أيضًا على"سوائب" وهو القياس. وقد جاء في إحدى روايتي صحيح مسلم (١٧: ١٨٩) :"أول من سيب السيوب" (بضم السين والياء) وقال القاضي عياض في مشارق الأنوار: "أول من سيب السوائب، وفي الرواية الأخرى: أول من سيب السيوب"، ولم يبين ذلك. وبيانه أن"السيوب" جمع"سيب" (بفتح فسكون) مصدر سميت به"السائبة" وقد جاء في حديث عبد الرحمن بن عوف في يوم الشورى: "وإن الحيلة بالنطق أبلغ من السيوب في الكلم" وفسروه تفسيرين، الأول ما في لسان العرب: "السيوب: ما سيب وخلى فساب أي ذهب" والآخر ما قاله الزمخشري في الفائق: "السيوب مصدر: ساب كان قياسا جمع"سائب" و"سائبة" على"سيوب" فإن ما جاء مصدره على"فعول" كان جمع"فاعل" منه على"فعول" مثل"شاهد وشهود" و"قاعد وقعود" و"حاضر وحضور" وقد ذكرت ذلك في تعليق سالف وانظر شرح الشافية ٢: ١٥٨. فهذا تفسير ما أغفله القاضي عياض، والنووي في شرح صحيح مسلم.
وكان في المطبوعة: "أول من سيب السائبة"، غير ما في المخطوطة وهو اطراح سيئ لأمانة العلم!! وكتبه محمود محمد شاكر.
116
١٢٨٢٠ - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا
117
محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول لأكثم بن الجون: يا أكثم، رأيتُ عمرو بن لُحيّ بن قَمَعَة بن خِنْدف يجرّ قُصْبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به، ولا به منك! فقال أكثم: عسَى أن يضرّني شبهه، يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا إنك مؤمن وهو كافر، إنه أوّل من غيَّر دين إسماعيل، وبحر البحيرة، وسيَّب السائبة، وحمى الحامي". (١)
١٢٨٢١ - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس قال، حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، أن رسول الله ﷺ قال: قد عرفت أوّلَ من بَحَر البحائر، رجلٌ من مُدْلج كانت له ناقتان، فجدَع آذانهما، وحرّم ألبانهما وظهورَهما، وقال: هاتان لله! ثم احتاج إليهما، فشرب ألبانهما، وركب ظهورهما. قال: فلقد رأيته في النار يؤذِي أهل النار ريح قُصْبه. (٢)
١٢٨٢٢ - حدثنا هناد قال، حدثنا عَبْدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عُرِضت عليَّ النار، فرأيت فيها عمرو بن فلان بن فلان بن خندف يجرّ قصْبه في النار، وهو أوّل من غيَّر دين إبراهيم، وسيب السائبة، وأشبه من رأيت به أكثم بن الجون! فقال أكثم: يا رسول الله، أيضرني شبهه؟ قال:"لا لأنك مُسلم، وإنه كافر". (٣)
(١) الأثر: ١٢٨٢٠-"محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي" روى له أصحاب الكتب الستة، تابعي ثقة كثير الحديث مضى برقم: ٤٢٤٩.
و"أبو صالح" هو: "ذكوان السمان"، تابعي ثقة. مضى مرارًا.
وأما "محمد بن إسحق"، صاحب السيرة، فقد مضى توثيق أخي السيد أحمد له في رقم: ٢٢١ وفي غيره من كتبه.
وهذا الخبر ساقه ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٥٤، هو ورقم: ١٢٨٢٢، وفي البداية والنهاية ٢: ١٨٩، ثم قال"وليس هذان الطريقان في الكتب من هذا الوجه" يعني الصحاح وإلا فإن هذا الخبر ثابت بإسناد محمد بن إسحق في سيرة ابن هشام ١: ٧٨، ٧٩ وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب بغير إسناد ص: ٥٥ وذكره ابن الأثير بإسناده ١: ١٢٣، ١٢٤، وابن حجر في الإصابة (ترجمة: أكثم بن الجون) ونسبه لابن أبي عروبة وابن مندة من طريق ابن إسحق وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٣٨ فخلط في تخريجه تخليطا شديدا فقال: "أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير وابن مردويه والحاكم وصححه" وإنما ذلك رقم: ١٢٨٢٢، الآتي بعد. وسيأتي هذا الخبر مطولا من طريق أخرى رقم: ١٢٨٢٧، وهو إسناد أبي جعفر الثاني في رواية سيرة ابن إسحق.
وقوله: "عسى أن يضرني شبهه" يعني: لعله يضرني شبهه، يتخوف أن يكون ذلك. وفي المطبوعة: "أخشى أن يضرني شبهه" وهو مخالف للرواية، وإنما اختلط عليه خط ناسخ المخطوطة إذ كتبها مختلطة: "تحتي" كأنه أراد أن يكتب شيئًا، ثم عاد عليه حتى صار"عسى" منقوطة وبمثل ما في المطبوعة، جاءني في الدر المنثور. وكثرة مثل ذلك دلتني على أن هذه النسخة المخطوطة التي ننشرها هي التي وقعت في يد السيوطي، والصواب ما أثبته من السيرة، ومن نقل عنها.
وكان في المخطوطة أيضًا: "وحمى الحمى"، وهو خطأ محض، صوابه من مراجع هذا الخبر.
(٢) الأثر: ١٢٨٢١-"هشام بن سعد المدني""يتيم زيد بن أسلم" كان من أوثق الناس عن زيد وهو ثقة، وتكلم فيه بعضهم مضى برقم: ٥٤٩٠. وهذا خبر مرسل.
وسيأتي من طريق معمر، عن زيد بن أسلم برقم: ١٢٨٢٤.
(٣) الأثر: ١٢٨٢٢-"عبدة" هو"عبدة بن سليمان الكلابي" ثقة مضى قريبا برقم: ١٢٧٢٩. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عبيدة" وهو خطأ صوابه في تفسير ابن كثير.
و"محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي" و"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضيا أيضًا في مثل هذا الإسناد رقم: ١٢٧٢٩ وهذا إسناد رجاله ثقات.
وهذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك ٤: ٦٠٥، من طريق أبي حاتم الرازي، عن محمد ابن عبد الله الأنصاري عن محمد بن عمرو وفيه"فرأيت فيها عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف" مصرحا ثم قال: "وهذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
وقد مر بك أن ابن كثير قال في تفسيره ٣: ٢٥٤ والبداية والنهاية ٢: ١٨٩، أنه ليس في الكتب يعني الصحاح ولم يزد.
وأما الحافظ ابن حجر فخرجه في الإصابة (ترجمة أكثم بن الجون) من طريق أحمد بن حنبل، عن محمد بن بشر العبدي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، بمثله ثم أشار إلى طريق الحاكم في المستدرك. ولكن أعياني أن أجد خبر أحمد في المسند.
وأما الإمام الحافظ أبو محمد بن حزم فقد رواه في كتاب جمهرة الأنساب ص: ٢٢٣ من طريق علي بن عمر الدارقطني عن الحسين بن إسمعيل القاضي المحاملي عن سعيد بن يحيى الأموي عن أبيه عن محمد بن عمرو. ثم قال أبو محمد بعد سياقه أحاديث البخاري ومسلم وهذا الحديث وهي أربعة هذا ثالثها: "أما الحديث الأول والثالث والرابع، ففي غاية الصحة والثبات" فحكم لهذا الخبر بالصحة.
وفي المطبوعة هنا: "عمرو بن فلان بن فلان بن فلان بن خندف""فلان" ثلاث مرات وهو مخالف لما في المخطوطة، وخطأ بعد ذلك فإن ما بين"عمرو" و"خندف" اثنان لا ثلاثة. وهكذا في المخطوطة والمطبوعة: "لا لأنك مسلم" ولولا اتفاقهما لرجحت أن تكون: "لا إنك مسلم" كما في رواية غيره.
118
١٢٨٢٣ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال: رأيت عمرو بن عامر الخزاعيّ يجرّ قُصْبه في النار، وهو أوّل من سيّب السوائب. (١)
١٢٨٢٤ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف أوّل من سيب السوائب، وأوّل من غيَّر عهد إبراهيم! قالوا: من هو، يا رسول الله؟ قال: عمرو بن لُحَيّ أخو بني كعب، لقد رأيته يجرّ قُصْبه في النار، يؤذي ريحه أهل النار. وإني لأعرف أوّل من بحر البحائر! قالوا: من هو، يا رسول الله؟ قال: رجل من بني مدلج، كانت له ناقتان، فجدع آذانهما، وحرّم ألبانهما، ثم شرب ألبانهما بعدَ ذلك، فلقد رأيته في النار هو، وهما يعضّانه بأفواههما، ويخبطانه بأخفافهما. (٢)
(١) الأثر: ١٢٨٢٣- هذا خبر مرسل كما ترى، لم يرفعه عبد الرزاق.
(٢) الأثر: ١٢٨٢٤- هذا أيضًا خبر مرسل، وهو طريق أخرى للخبر السالف رقم: ١٢٨٢١. وقد ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (٨: ٢١٤، ٢١٥) ثم قال: "والأول أصح"، يعني ذكر هذا الرجل من بني مدلج، أنه أول من بحر البحائر، وأن الصواب ما جاء في الأخبار الصحاح قبل، أنه عمرو بن لحي.
و"بنو مدلج" هم بنو مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن اليأس ابن مضر بن نزار بن معد ليسوا من قريش. وكانت فيهم القيافة والعيافة، منهم"مجزز المدلجي" الذي سر النبي ﷺ بقيافته (جمهرة الأنساب: ١٧٦، ١٧٧).
120
و"البحيرة" الفعيلة من قول القائل:"بَحَرْت أُذن هذه الناقة"، إذا شقها،"أبحرُها بحرًا"، والناقة"مبحورة"، ثم تصرف"المفعولة" إلى"فعيلة"، فيقال:"هي بحيرة". وأما"البَحِرُ" من الإبل فهو الذي قد أصابه داءٌ من كثرة شرب الماء، يقال منه:"بَحِر البعيرُ يبحر بَحَرًا"، (١) ومنه قول الشاعر: (٢)
لأعْلِطَنَّهُ وَسْمًا لا يُفَارَقُهُ كَمَا يُحَزُّ بِحَمْيِ المِيسَمِ البَحِرُ (٣)
وبنحو الذي قلنا في معنى"البحيرة"، جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
١٢٨٢٥ - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن أبيه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (٤) أرأيت
(١) هذه على وزن"فرح يفرح فرحًا".
(٢) أعياني أن أجد قائله.
(٣) سيأتي في التفسير ٢٩: ١٩ (بولاق) لسان العرب (بحر)."علط البعير يعلطه علطًا" وسمه بالعلاط. و"العلاط" (بكسر العين) : سمة في عرض عنق البعير، فإذا كان في طول العنق فهو"السطاع" (بكسر السين). هذا تفسير اللغة أنه في العنق وأما أبو جعفر الطبري فقد قال في تفسيره (٢٩: ١٩) "والعرب تقول: والله لأسمنك وسما لا يفارقك يريدون الأنف" ثم ذكر البيت وقال: "والنجر": داء يأخذ الإبل فتكوى على أنوفها. وذكر هناك بالنون والجيم كما أثبته وله وجه سيأتي إلا أني أخشى أن يكون الصواب هناك، كما هو هنا بالباء والحاء، وقوله: "بحمى الميسم". يقال: "حمى المسمار حميا وحموا": سخن في النار و"أحميت المسمار في النار إحماء". و"الميسم" المكواة التي يوسم بها الدواب. وأما "البحر" فقد فسره أبو جعفر ولكن الأزهري قال: "الداء الذي يصيب البعير فلا يروى من الماء هو النجر بالنون والجيم، والبجر بالباء والجيم وأما البحر: فهو داء يورث السل".
وهذا البيت في هجاء رجل وإيعاده بالشر شرا يبقى أثره.
وكان في المطبوعة: "لأعطنك" بالكاف في آخره والصواب من المخطوطة ومما سيأتي في المطبوعة من التفسير (٢٩: ١٩) ومن لسان العرب.
(٤) في المطبوعة، أسقط"له" وهي ثابته في المخطوطة: وهي صواب.
121
إبلك ألست تنتجها مسلَّمةً آذانُها، فتأخذ الموسى فتجْدَعها، تقول:"هذه بحيرة"، وتشق آذانها، تقولون:"هذه صَرْم"؟ قال: نعم! قال: فإن ساعدَ الله أشدّ، وموسَى الله أحدَ! كلّ مالك لك حلالٌ، لا يحرَّم عليك منه شيء. (١)
١٢٨٢٦- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال، سمعت أبا الأحوص، عن أبيه قال أتيتُ رسول الله ﷺ فقال: هل تُنتَجُ إبل قومك صحاحًا آذانُها، فتعمد إلى الموسَى فتقطع آذانها فتقول:"هذه بُحْرٌ"، وتشقها أو تشق جلودها فتقول:"هذه صُرُمٌ"، فتحرّمها عليك وعلى أهلك؟ قال: نعم! قال: فإن ما آتاك الله لك حِلّ، وساعد الله أشدّ، وموسى الله أحدّ = وربما قال: ساعدُ الله أشد من ساعدك، وموسى الله أحدّ من موساك. (٢)
(١) الأثر: ١٢٨٢٥- هذا الخبر رواه أبو جعفر بإسنادين هذا والذي يليه."عبد الحميد بن بيان القناد" شيخ أبي جعفر، مضى مرارا.
و"محمد بن يزيد الكلاعي" الواسطي وثقه أحمد وهو من شيوخه مضى برقم: ١١٤٠٨.
و"إسمعيل بن أبي خالد الأحمسي" ثقة مضى برقم: ٥٦٩٤، ٥٧٧٧.
و"أبو إسحق" هو السبيعي الإمام. مضى مرارا.
و"أبو الأحوص" هو: "عوف بن مالك بن نضلة الجشمي" تابعي ثقة، مضى برقم: ٦١٧٢.
وأبوه: "مالك بن نضلة بن خديج الجشمي" ويقال: "مالك بن عوف بن نضلة" وبهذا ترجمه ابن سعد في الطبقات ٦: ١٧. وأما في التاريخ الكبير للبخاري ٤/١/٣٠٣، فإني رأيت فيه: "مالك بن يقظة الخزاعي والد أبي الأحوص له صحبة". و"أبو الأحوص" المشهور هو"عوف بن مالك بن نضلة" فظني أن الذي في التاريخ خطأ فإني لم أجد هذا الاسم في الصحابة فيكون فيه خطأ في"يقظة" وهو"نضلة" وفي"الخزاعي" وهو: "الجشمي" والله أعلم.
وهذا الخبر جاء في المخطوطة كما أثبته وفي المطبوعة: "وتشق آذانها وتقول" بالإفراد فأثبت ما في المخطوطة.
وقوله: "مسلمة آذانها" أي: سليمة صحاحًا. وسأشرح ألفاظه في آخر الخبر الآتي وما كان من الخطأ في المطبوعة والمخطوطة في"صرم" بعد تخريجه هناك.
(٢) الأثر: ١٢٨٢٦- هذا الخبر، مكرر الذي قبله.
*رواه من طريق شعبة، عن أبي إسحق مطولا أبو داود الطيالسي في مسنده: ١٨٤ رقم: ١٣٠٣.
*ورواه أحمد في المسند عن طريق محمد بن جعفر عن شعبة عن أبي إسحق= ثم من طريق عفان عن شعبة في المسند ٣: ٤٧٣.
*ورواه البيهقي في السنن الكبرى ١٠: ١٠ من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحق.
*وخرجه ابن كثير في تفسيره من رواية ابن أبي حاتم ٣: ٢٥٦ مطولا ولم ينسبه إلى غيره.
*وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٣٧ مطولا جدًا ونسبه إلى أحمد، وعبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات. أما لفظه عند السيوطي فلا أدري لفظ من يكون، فإنه ليس لفظ من ذكرت آنفا تخريج الخبر من كتبهم.
*ثم رواه أحمد في المسند ٤: ١٣٦، ١٣٧ من طريق سفيان بن عيينة عن أبي الزعراء عمرو ابن عمرو عن عمه أبي الأحوص عن أبيه بلفظ آخر مختلف كل الاختلاف.
*وهذا شرح غريب هذين الخبرين."نتج الناقة ينتجها نتجا" (على وزن: ضرب) : إذا تولى نتاجها أي ولادها. وأما قوله في الخبر الثاني: "هل تنتج إبل قومك" فهو بالبناء للمجهول. يقال: "نتجت الناقة تنتج" (بالبناء للمجهول) : إذا ولدت.
*و"جدع الأنف والأذن والشفة": إذا قطع بعض ذلك. وأما قوله: "هذه صرم" فقد كتبت في المخطوطة والمطبوعة في الخبرين"حرم" بالحاء وكذلك وقع في تفسير ابن كثير، والصواب من المراجع التي ذكرتها ومن بيان كتب اللغة في تفسير هذا الخبر.
*وتقرأ"صرم" في الخبر الأول بفتح فسكون و"الصرم" القطع سماها المصرومة بالمصدر كما يدل على صواب ذلك من قراءته ما جاء في شرح اللفظ في لسان العرب مادة (صرب). وأما في الخبر الثاني فإن قوله: "هذه بحر" (بضم الباء والحاء) جمع"بحيرة" وقوله: "هذه صرم" (بضم الصاد والراء) جمع"صريمة" وهي التي قطعت أذنها وصرمت. وهذا صريح ما قاله صاحب اللسان في مادتي"صرم" و"صرب" والزمخشري في الفائق"صرب" وروى أحمد في المسند ٤: ١٣٦، ١٣٧: "صرماء" ولم تشر إليها كتب اللغة. وأما الومخشري وصاحب اللسان فقد رويا: "وتقول: صربى" (على وزن سكرى). وقال في تفسيرها: كانوا إذا جدعوا البحيرة أعفوها من الحلب إلا للضيف فيجتمع اللبن في ضرعها من قولهم: "صرب اللبن في الضرع": إذا حقنه لا يحلبه. ورويا أنه يقال إن الباء مبدلة من الميم كقولهم"ضربة لازم، ولازب"، وأنه أصح التفسيرين.
122
وأما"السائبة": فإنها المسيَّبة المخلاة. وكانت الجاهلية يفعل ذلك أحدهم ببعض مواشيه، فيحرِّم الانتفاع به على نفسه، كما كان بعض أهل الإسلام يعتق عبدَه سائبةً، فلا ينتفع به ولا بولائه. (١)
(١) انظر تفسير"السائبة" فيما سلف ٣: ٣٨٦ تعليق: ١.
123
وأخرجت"المسيَّبة" بلفظ"السائبة"، كما قيل:"عيشة راضية"، بمعنى: مرضية.
* * *
وأما"الوصيلة"، فإن الأنثى من نَعَمهم في الجاهلية كانت إذا أتأمت بطنًا بذكر وأنثى، قيل:"قد وصلت الأنثى أخاها"، بدفعها عنه الذبح، فسمَّوها"وَصيلة".
* * *
وأما"الحامي"، فإنه الفحل من النعم يُحْمَى ظهره من الركوب والانتفاع، بسبب تتابُعِ أولادٍ تحدُث من فِحْلته.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في صفات المسميات بهذه الأسماء، وما السبب الذي من أجله كانت تفعل ذلك.
* ذكر الرواية بما قيل في ذلك:
١٢٨٢٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، (١) عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيميّ: أن أبا صالح السمان حدّثه: أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول لأكثم بن الجون الخزاعيّ: يا أكثم، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجرّ قُصْبه في النار، فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به، ولا به منك! (٢) فقال أكثم: أيضرّني شبهه يا نبيّ الله؟ قال: لا إنك مؤمن وهو كافر، (٣) وإنه كان أوّل من غيَّر دين إسماعيل، ونصب الأوثان، وسيَّب السائبَ فيهم. (٤)
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "عن أبي إسحق" وهو خطأ محض كما ترى في تخريجه.
(٢) مضى في الأثر: ١٢٨٢٠، "فما رأيت رجلا" وهذه رواية أخرى.
(٣) في المطبوعة: "لا لأنك مسلم" غيرها وهي في المخطوطة وابن هشام كما أثبتها.
(٤) في المطبوعة: "سيب السوائب فيهم" وأثبت ما في المخطوطة وإن كان الناسخ كتب"السائب فيهم" وصوابه من سيرة ابن هشام.
وهذا الشطر من الخبر هو حديث أبي هريرة وقد مضى آنفًا برقم: ١٢٨٢٠ ومضى تخريجه هناك. أما الشطر الثاني الذي وضعته في أول السطر فإنه من كلام ابن إسحق نفسه، كما سترى في التخريج.
124
= وذلك أن الناقة إذا تابعت بين عشرإناث ليس فيها ذكر، (١) سُيِّبت فلم يركب ظهرها، ولم يجزَّ وبرها، ولم يشرَب لبنها إلا ضيف. فما نتجت بعد ذلك من أنثى شُقّ أذنها، ثم خلّى سبيلها مع أمها في الإبل، فلم يركب ظهرها، ولم يجزّ وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمها، فهي"البحيرة" ابنة"السائبة".
و"الوصيلة"، أن الشاة إذا نَتَجت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر، جعلت"وصيلة"، قالوا:"وصلت"، فكان ما وَلدت بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم، (٢) إلا أن يموت منها شيء فيشتركون في أكله، ذكورُهم وإناثهم (٣).
و"الحامي" أنّ الفحل إذا نُتِج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكرٌ، حمي ظهره ولم يركب، ولم يجزّ وبره، ويخلَّى في إبله يضرب فيها، لا ينتفع به بغير ذلك. يقول الله تعالى ذكره:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام" إلى قوله:"ولا يهتدون".
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "إذاتابعت ثنتي عشرة إناثا ليس فيهما ذكر" إلا أن في المخطوطة: "ليس فيهم" وهما خطأ محض، وصواب هذه العبارة هو ما أثبته من سيرة ابن هشام وغيرها إلا أنني جعلت"فيهن" مكان"بينهن" في سيرة ابن هشام لما سيأتي بعد في الخبر"فيهن" مكان"بينهن" فيما يقابلها من سيرة ابن هشام.
(٢) الأثر: ١٢٨٢٧- صدر هذا الخبر إلى قوله: "سيب السائب فيهم" هو حديث أبي هريرة السالف رقم: ١٢٨٢٠، وهو في سيرة ابن هشام ١: ٧٨، ٧٩، وقد خرجته هناك.
وأما الشطر الثاني إلى آخر الخبر، فهو من كلام ابن إسحق وهو في سيرة ابن هشام ١: ٩١، ٩٢.
(٣) في المطبوعة: لذكورهم دون إناثهم، وفي المخطوطة: لذكورهم بينهم، غير منقوطة والصواب من سيرة ابن هشام.
125
١٢٨٢٨ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق في هذه الآية:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام" = قال أبو جعفر: سقط عليّ فيما أظنّ كلام منه = قال: فأتيت علقمة فسألتُه، فقال: ما تريد إلى شيء كانت يَصنعه أهل الجاهلية. (١)
١٢٨٢٩ - حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن مسلم قال: أتيت علقمة، فسألته عن قول الله تعالى:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حامٍ"، فقال: وما تصنع بهذا؟ إنما هذا شيء من فعل الجاهلية! قال: فأتيت مسروقًا فسألته، فقال:"البحيرة"، كانت الناقة إذا ولدت بطنًا خمسًا أو سبعًا، شقوا أذنها، وقالوا:"هذه بحيرة" = قال:"ولا سائبة"، قال: كان الرجل يأخذ بعضَ ماله فيقول:"هذه سائبة" = قال:"ولا وصيلة"، قال: كانوا إذا ولدت الناقة الذكر أكله الذكور دون الإناث، وإذا ولدت ذكرًا وأنثى في بطن قالوا:"وصلت أخاها"، فلا يأكلونهما. قال: فإذا مات الذكر أكله الذكور دون الإناث = قال:"ولا حام"، قال: كان البعير إذا وَلد وولد ولده، قالوا:"قد قضى هذا الذي عليه"، فلم ينتفعوا بظهره. قالوا:"هذا حمًى". (٢)
(١) في المطبوعة: "كانت تصنعه" والصواب من المخطوطة.
(٢) الأثر: ١٢٨٢٩-"يحيى بن إبراهيم المسعودي" شيخ الطبري هو: "يحيى ابن إبراهيم بن محمد بن أبي عبيدة المسعودي" مضى برقم: ٨٤، ٥٣٧٩، ٨٨١١، ٩٧٤٤.
وأبوه: "إبراهيم بن محمد بن أبي عبيدة المسعودي" مضى برقم: ٨٤، ٥٣٧٩، ٨٨١١، ٩٧٤٤.
وأبوه"محمد بن أبي عبيدة المسعودي" مضى في ذلك أيضا.
وجده"أبو عبيدة بن معن المسعودي" مضى أيضًا.
وكان في المطبوعة هنا: "هذا حام" وأثبت ما في المخطوطة.
126
١٢٨٣٠ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن عبيد، عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح قال: سألت علقمة عن قوله:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة"، قال: ما تصنع بهذا؟ هذا شيء كان يفعله أهل الجاهلية.
١٢٨٣١ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، ويحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص:"ما جعل الله من بحيرة"، قال: البحيرة: التي قد ولت خمسة أبطن ثم تركت.
١٢٨٣٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة، عن الشعبي:"ما جعل الله من بحيرة". قال: البحيرة، المخضرمة (١) "ولا سائبة"، والسائبة: ما سُيِّب للعِدَى (٢) = و"الوصيلة"، إذا ولدت بعد أربعة أبطن = فيما يرى جرير = ثم ولدت الخامس ذكرًا وأنثى، وصلتْ أخاها = و"الحام"، الذي قد ضرب أولادُ أولاده في الإبل.
١٢٨٣٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، بنحوه = إلا أنه قال: و"الوصيلة" التي ولدت بعد أربعة أبطن ذكرًا وأنثى، قالوا:"وصلت أخاها"، وسائر الحديث مثل حديث ابن حميد.
(١) "المخضرمة" من النوق والشاء المقطوعة نصف الأذن أو طرف الأذن أو المقطوعة إحدى الأذنين وهي سمة الجاهلية. وفي الحديث: "خطبنا رسول الله ﷺ يوم النحر على ناقة مخضرمة".
(٢) "العدي" (بكسر العين ودال مفتوحة) : الغرباء يعني الأضياف كما جاء في سائر الأخبار. هكذا هي في المخطوطة"العدي" أما المطبوعة ففيها: "للهدي" وهو تحريف وخطأ محض. ولو كان في كتابة الناسخ خطأ فأقرب ذلك أن تكون"للمعتري" يقال: "عراه يعروه واعتراه" إذا غشيه طالبا معروفه. ويقال: "فلان تعروه الأضياف وتعتريه" أي تغشاه وبذلك فسروا قول النابغة:
أَتَيْتُكَ عَارِيًا خَلَقًا ثِيَابِيْ عَلَى خَوْفٍ تُظَنَّ بِيَ الظُّنُون
أي: ضيفًا طالبًا لرفدك.
127
١٢٨٣٤ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق الأزرق، عن زكريا، عن الشعبي: أنه سئل عن"البحيرة"، فقال: هي التي تجدع آذانها. وسئل عن"السائبة"، فقال: كانوا يهدون لآلهتهم الإبل والغنم فيتركونها عند آلهتهم، فتذهب فتختلطُ بغنم الناس، (١) فلا يشرب ألبانها إلا الرجال، فإذا مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعًا.
١٢٨٣٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"ما جعل الله من بحيرة" وما معها:"البحيرة"، من الإبل يحرّم أهل الجاهلية وَبرها وظهرها ولحمها ولبنها إلا على الرجال، فما ولدت من ذكر وأنثى فهو على هيئتها، وإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها. فإذا ضَرَب الجمل من ولد البحيرة، (٢) فهو"الحامي". و"الحامي"، اسمٌ. (٣) و"السائبة" من الغنم على نحو ذلك، إلا أنها ما ولدت من ولد بينها وبين ستة أولاد، كان على هيئتها. فإذا ولدت في السابع ذكرًا أو أنثى أو ذكرين، ذبحوه، فأكله رجالهم دون نسائهم. وإن توأمت أنثى وذكرًا فهي"وصيلة"، (٤) لترك ذبح الذكر بالأنثى. (٥) وإن كانتا أنثيين تركتا.
١٢٨٣٦ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
(١) في المطبوعة: "... عند آلهتهم لتذبح فتخلط بغنم الناس" غير ما في المخطوطة فأفسد الكلام إفسادًا. وقوله: "فتذهب فتختلط" ذكرت في ٧: ٤٥٧ تعليق: ٦ أن العرب تجعل"ذهب" من ألفاظ الاستعانة التي تدخل على الكلام طلبا لتصوير حركة أو بيان فعل مثل قولهم: "قعد فلان لا يمر به أحد إلا سبه" لا يراد بهما معنى"الذهاب" و"القعود" ومثلهما كثير في كلامهم ثم انظر هذا ص: ٢٥٠ن ٢٥١، تعليق: ١.
(٢) "ضرب" من"الضراب" (بكسر الضاد) وهو سفاد الجمل الناقة ونزوه عليها.
(٣) في المطبوعة حذف قوله: "والحامي اسم" لظنه أنه زيادة لا معنى لها. ولكنه أراد أن"الحامي" اسم لهذا الجمل من ولد البحيرة، وليس باسم فاعل.
(٤) قوله: "توأمت" هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة ولم أجدهم قالوا في ذلك المعنى إلا: "أتأمت المرأة وكل حامل": إذا ولدت اثنين في بطن واحد. فهذا حرف لا أدري ما أقول فيه إلا أنه هكذا جاء هنا.
(٥) في المطبوعة والمخطوطة: "ترك" بغير لام، والذي أثبته أشبه عندي بالصواب.
128
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة"، فالبحيرة، الناقة، كان الرجل إذا ولدت خمسة أبطن، فيعمد إلى الخامسة، ما لم تكن سَقْبًا، (١) فيبتك آذانها، ولا يجزّ لها وبرًا، ولا يذوق لها لبنًا، فتلك"البحيرة" ="ولا سائبة"، كان الرجل يسيِّب من ماله ما شاء ="ولا وصيلة"، فهي الشاة إذا ولدت سبعًا، عمد إلى السابع، فإن كان ذكرًا ذبح، وإن كانت أنثى تركت، وإن كان في بطنها اثنان ذكر وأنثى فولدتهما، قالوا:"وصلت أخاها"، فيتركان جميعًا لا يذبحان. فتلك"الوصيلة" = وقوله:"ولا حام"، كان الرجل يكون له الفحل، فإذا لقح عشرًا قيل:"حام، فاتركوه".
١٢٨٣٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة"، ليسيِّبوها لأصنامهم ="ولا وصيلة"، يقول: الشاة ="ولا حام" يقول: الفحلُ من الإبل.
١٢٨٣٨ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام"، تشديدٌ شدّده الشيطانُ على أهل الجاهلية في أموالهم، وتغليظ عليهم، فكانت"البحيرة" من الإبل، (٢) إذا نتج الرجلُ خمسًا من إبله، نظر البطن الخامس، فإن كانت سقبًا ذبح فأكله الرجال دون النساء، وإن كان ميتة اشترك فيه ذكرُهم وأنثاهم، وإن كانت حائلا = وهي الأنثى = تركت، فبتكت أذنها، فلم يجزّ لها وَبرٌ، ولم يشرب لها لبن، ولم يركب لها ظهرٌ، ولم يذكر لله عليها اسم.
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "فما لم يكن سقبا" وصواب ذلك ما أثبت. و"السقب" الذكر من ولد الناقة. قال الأصمعي: إذا وضعت الناقة ولدها فولدها ساعة تضعه"سليل" قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى. فإذا علم فإن كان ذكرا فهو"سقب".
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "مثل الإبل" وهو خطأ لا شك فيه.
129
وكانت"السائبة"، يسيبون ما بدا لهم من أموالهم، فلا تُمنع من حوض أن تشرع فيه، (١) ولا من حمًى أن ترتع فيه = وكانت"الوصيلة" من الشاء، من البطن السابع، إذا كان جديًا ذبح فأكله الرجال دون النساء. وإن كان ميتة اشترك فيه ذكرهم وأنثاهم. وإن جاءت بذكر وأنثى قيل:"وصلت أخاها فمنعته الذبح" = و"الحام"، كان الفحل إذا ركب من بني بنيه عشرة، أو ولد ولده، قيل:"حام حمى ظهره"، فلم يزَمَّ ولم يخطم ولم يركب.
١٢٨٣٩- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام"، فالبحيرة من الإبل، كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، إن كان الخامس سقبًا ذبحوه فأهدوه إلى آلهتهم، وكانت أمه من عُرْض الإبل. وإن كانت رُبَعة استحيوها، (٢) وشقوا أذن أمِّها، وجزّوا وبرها، وخلوها في البطحاء، فلم تجُزْ لهم في دية، ولم يحلبوا لها لبنًا، ولم يجزّوا لها وبرًا، ولم يحملوا على ظهرها، وهي من الأنعام التي حرمت ظهورها = وأما"السائبة"، فهو الرجل يسيِّب من ماله ما شاء على وجه الشكر إن كثر ماله أو برأ من وَجع، أو ركب ناقة فأنجح، فإنه يسمي"السائبة" (٣) يرسلها فلا يعرض لها أحدٌ من العرب إلا أصابته عقوبة في الدنيا = وأما"الوصيلة"، فمن الغنم، هي الشاة إذا ولدت ثلاثة أبطن أو خمسة، فكان آخر ذلك جديًا، ذبحوه وأهدوه لبيت الآلهة، وإن كانت عناقًا استحيوها، (٤) وإن كانت جديًا وعناقًا استحيوا الجدي من أجل العَناق، فإنها وصيلة وصلت
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "فلا تمتنع"، والصواب ما أثبت.
(٢) "الربع" (بضم الراء وفتح الباء) : الفصيل الذي ينتح في الربيع، وهو أول النتاح، والأنثى"ربعة".
(٣) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "يسمى السائبة"، وأرجح أن الصواب: "يسيب السائبة"،
(٤) "العناق" (بفتح العين) : الأنثى من ولد المعز.
130
أخاها = وأما"الحام"، فالفحل يضرب في الإبل عشرَ سنين = ويقال: إذا ضرب ولد ولده = قيل:"قد حمى ظهره"، فيتركونه لا يمسُّ ولا ينحرُ أبدًا، ولا يمنع من كلأ يريده، وهو من الأنعام التي حُرِّمت ظهورها.
١٢٨٤٠ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب في قوله:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام"، قال:"البحيرة" من الإبل، التي يمنح درّها للطواغيت (١) = و"السائبة" من الإبل، كانوا يسيِّبونها لطواغيتهم = و"الوصيلة"، من الإبل، كانت الناقة تبتكر بأنثى، ثم تثنى بأنثى، (٢) فيسمونها"الوصيلة"، يقولون:"وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر"، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم = أو: يذبحونها، الشك من أبي جعفر= و"الحام"، الفحل من الإبل، كان يضربُ. الضرابَ المعدودة. (٣) فإذا بلغ ذلك قالوا:"هذا حام، قد حمى ظهره"، فترك، فسموه"الحام"= قال معمر قال قتادة، إذا ضرب عشرة.
١٢٨٤١- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال:"البحيرة" من الإبل، كانت الناقة إذا نُتِجت خمسة أبطن، فإن كان الخامس ذكرًا، (٤) كان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى، بتكوا آذانها ثم أرسلوها، فلم ينحروا لها ولدًا، ولم يشربوا لها لبنًا، ولم يركبوا لها ظهرًا = وأما"السائبة"، فإنهم كانوا يسيِّبون بعض إبلهم، فلا تُمنع حوضًا أن تشرع فيه، ولا مرعًى أن ترتع فيه ="والوصيلة"، الشاة كانت إذا
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "يمنع" بالعين، وصوابه بالحاء.
(٢) في المطبوعة: "تبكر"، والصواب من المخطوطة. ويقال: "ابتكرت الحامل"، إذا ولدت بكرها، و"أثنت" في الثاني، و"ثلثت" في الثالث.
(٣) في المطبوعة: "المعدود" بغير تاء في آخره، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.
(٤) في المطبوعة: "فإن كان الخامس"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.
131
ولدت سبعة أبطن، فإن كان السابع ذكرًا، ذبح وأكله الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تركت.
١٢٨٤٢ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سلمان، عن الضحاك:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام"، أما"البحيرة" فكانت الناقة إذا نَتَجُوها خمسة أبطن نحروا الخامس إن كان سقبًا، وإن كان رُبَعة شقُّوا أُذنها واستحيوها، وهي"بحيرة"، وأما السَّقب فلا يأكل نساؤهم منه، وهو خالص لرجالهم، فإن ماتت الناقة أو نَتَجوها ميْتًا، فرجالهم ونساؤهم فيه سواءٌ، يأكلون منه = وأما"السائبة"، فكان يسيِّب الرجل من ماله من الأنعام، فيُهْمَل في الحمى، فلا ينتفع بظهره ولا بولده ولا بلبنه ولا بشعره ولا بصوفه = وأما"الوصيلة"، فكانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن ذبحُوا السابع إذا كان جديًا، وإن كان عناقًا استحيوه، وإن كان جديًا وعناقًا استحيوهما كليهما، وقالوا:"إن الجدي وصلته أخته، فحرَّمته علينا" = وأما"الحامي"، فالفحل إذا ركبوا أولاد ولده قالوا:"قد حمى هذا ظهره، وأحرزه أولاد ولده"، (١) فلا يركبونه، ولا يمنعونه من حِمى شجر، ولا حوض مَا شرع فيه، وإن لم يكن الحوض لصاحبه. وكانت من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها في شيء من شأنهم: لا إن ركبوا، ولا إن حملوا، ولا إن حلبوا، ولا إن نتجوا، ولا إن باعوا. ففي ذلك أنزل الله تعالى ذكره:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة"، إلى قوله:"وأكثرهم لا يعقلون".
١٢٨٤٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله:"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام"، قال: هذا شيء كان يعمل به أهل الجاهلية، (٢) وقد ذهب. قال:"البحيرة"، كان الرجل
(١) في المطبوعة: "وأحرز أولاد ولده"، صوابه من المخطوطة."أحرزه": صانه وحفظه ووقاه.
(٢) في المطبوعة: "كانت تعمل به"، وأثبت ما في المخطوطة.
132
يجدع أذني ناقته، ثم يعتقها كما يعتق جاريته وغلامه، لا تحلب ولا تركب = و"السائبة"، يسيبها بغير تجديع = و"الحام" إذا نتج له سبع إناث متواليات، قد حمي ظهره، ولا يركب، ولا يعمل عليه = و"الوصيلة"، من الغنم: إذا ولدت سبع إناث متواليات، حمت لحمها أن يؤكل.
١٢٨٤٤- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا عبد الله بن يوسف قال، حدثنا الليث بن سعد قال، حدثني ابن الهاد، عن ابن شهاب قال، قال سعيد بن المسيب:"السائبة" التي كانت تسيَّب فلا يحمل عليها شيء = و"البحيرة"، التي يمنح دَرُّها للطواغيت فلا يحلبها أحد (١) = و"الوصيلة"، الناقة البكر تبتكر أوّل نتاج الإبل بأنثى، (٢) ثم تثني بعد بأنثى، وكانوا يسمُّونها للطواغيت، يدعونها"الوصيلة"، أنْ وصلت أخواتها إحداهما بالأخرى (٣) ="والحامي"، فحل الإبل، يضرب العَشْر من الإبل. فإذا نقضَ ضِرابه (٤) يدعونه للطواغيت، وأعفوه من الحمل فلم يحملوا عليه شيئًا، وسموه"الحامي".
* * *
قال أبو جعفر: وهذه أمور كانت في الجاهلية فأبطلها الإسلام، فلا نعرف قومًا يعملون بها اليوم.
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "يمنع درها"، والصواب ما أثبت.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة هنا"تبكر"، وانظر ما سلف ص: ١٣١ تعليق٢.
(٣) حذف في المطبوعة: "أخواتها"، ولا ضرورة لحذفها، فالكلام مستقيم.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "نقص ضرابه"، وهو لا معنى له، والصواب: "نفض" بالنون والفاء والضاد. يقال"نفضت الإبل وأنفضت": نتجت كلها. قال ذو الرمة:
كِلاَ كَفْأَتَيهْا تُنْفِضَانِ، وَلَمْ يَجِدْ لَهَا ثِيلَ سَقْبٍ في النِّتَاجَيْنِ لاَ مِسُ
يعني: أن كل واحد من الكفأتين (يعني النتاجين) تلقى ما في بطنها من أجنتها، فتوجد إناثًا ليس فيها ذكر. وقوله: "نفض ضرابه"، لم تذكر كتب اللغة هذه العبارة، ولكن هذا هو تفسيرها: أن تلد النوق التي ضربها إناثًا متتابعات ليس بينهن ذكر، كما سلف في الآثار التي رواها أبو جعفر.
133
فإذا كان ذلك كذلك= وكانَ ما كانت الجاهلية تعمل به لا يوصل إلى علمه (١) = إذ لم يكن له في الإسلام اليوم أثر، ولا في الشرك، نعرفه = إلا بخبر، (٢) وكانت الأخبار عما كانوا يفعلون من ذلك مختلفة الاختلافَ الذي ذكرنا، فالصواب من القول في ذلك أن يقال: أما معاني هذه الأسماء، فما بيّنا في ابتداء القول في تأويل هذه الآية، وأما كيفية عمل القوم في ذلك، فما لا علم لنا به. وقد وردت الأخبار بوصف عملهم ذلك على ما قد حكينا، وغير ضائرٍ الجهلُ بذلك إذا كان المرادُ من علمه المحتاجُ إليه، موصلا إلى حقيقته، (٣) وهو أن القوم كانوا يحرِّمون من أنعامهم على أنفسهم ما لم يحرمه الله، (٤)
اتباعًا منهم خطوات الشيطان، فوبَّخهم الله تعالى ذكره بذلك، وأخبرهم أن كل ذلك حلال. فالحرام من كل شيء عندنا ما حرَّم الله تعالى ذكره ورسوله صلى الله عليه وسلم، بنصٍّ أو دليل، والحلال منه ما حلله الله ورسوله كذلك. (٥)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيّ ب"الذين كفروا" في هذا الموضع، والمراد بقوله:"وأكثرهم لا يعقلون".
فقال بعضهم: المعنيّ ب"الذين كفروا" اليهود، وب"الذين لا يعقلون"، أهل الأوثان.
(١) كان في المطبوعة: "لا توصل إلى عمله"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة.
(٢) السياق: "لا يوصل إلى عمله... إلا بخبر".
(٣) في المطبوعة: "موصلا إلى حقيقته"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب المعنى.
(٤) في المطبوعة: "كانوا محرمين من أنعامهم"، والجيد من المخطوطة.
(٥) في المطبوعة: "ما أحله الله"، وأثبت ما في المخطوطة.
134
* ذكر من قال ذلك:
١٢٨٤٥ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن دواد بن أبي هند، عن محمد بن أبي موسى:"ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب"، قال: أهل الكتاب ="وأكثرهم لا يعقلون"، قال: أهل الأوثان. (١)
* * *
وقال آخرون: بل هم أهل ملّة واحدة، ولكن"المفترين"، المتبوعون و"الذين لا يعقلون"، الأتباع.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٨٤٦ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا خارجة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي في قوله:"ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون"، هم الأتباع = وأما"الذين افتروا"، فعقلوا أنهم افتروا. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن المعنيين بقوله:"ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب"، الذين بحروا البحائر، وسيَّبوا السوائب، ووصلوا الوصائل، وحموا الحوامي، مثل عمرو بن لحي وأشكاله ممن سنّ لأهل الشرك السنن الرديئة، وغيَّر دين الله دين الحق، (٣) وأضافوا إلى الله تعالى ذكره: أنه هو الذي حرّم ما حرّموا، وأحلَّ ما أحلوا، افتراءً على الله الكذب وهم يعلمون، واختلاقًا عليه الإفك وهم يفهمون، (٤) فكذبهم الله تعالى ذكره في
(١) الأثر: ١٢٨٤٥ -"محمد بن أبي موسى"، مضى برقم: ١٠٥٥٦.
(٢) في المطبوعة: "يعقلون أنهم افتروا"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "ممن سنوا لأهل الشرك،... وغيروا" بالجمع، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض، لا يرده أنه قال بعده"وأضافوا" بالجمع.
(٤) في المطبوعة: "وهم يعمهون"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب.
135
قيلهم ذلك، وإضافتهم إليه ما أضافوا من تحليل ما أحلوا وتحريم ما حرموا، فقال تعالى ذكره: ما جعلت من بحيرة ولا سائبة، ولكن الكفار هم الذين يفعلون ذلك، ويفترون على الله الكذب.
= (١) وأن يقال، إن المعنيين بقوله:"وأكثرهم لا يعقلون"، هم أتباع من سنّ لهم هذه السنن من جهلة المشركين، فهم لا شك أنهم أكثر من الذين لهم سنوا ذلك لهم، فوصفهم الله تعالى بأنهم لا يعقلون، لأنهم لم يكونوا يعقلون أن الذين سنوا لهم تلك السنن وأخبروهم أنها من عند الله، كذبةٌ في إخبارهم، أفَكَةٌ، بل ظنوا أنهم فيما يقولون محقُّون، وفي إخبارهم صادقون. وإنما معنى الكلام: وأكثرهم لا يعقلون أن ذلك التحريم الذي حرَّمه هؤلاء المشركون وأضافوه إلى الله تعالى ذكره كذب وباطل. (٢) وهذا القول الذي قلنا في ذلك، نظير قول الشعبي الذي ذكرنا قبلُ. (٣) ولا معنى لقول من قال:"عني بالذي كفروا أهل الكتاب"، وذلك أن النكير في ابتداء الآية من الله تعالى ذكره على مشركي العرب، فالختم بهم أولى من غيرهم، إذ لم يكن عرض في الكلام ما يُصرف من أجله عنهم إلى غيرهم.
* * *
وبنحو ذلك كان يقول قتادة:
١٢٨٤٧ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وأكثرهم لا يعقلون"، يقول: تحريمُ الشيطان الذي حرّم عليهم، (٤) إنما كان من الشيطان، ولا يعقلون.
* * *
(١) قوله: "وأن يقال"، معطوف على قوله في أول الفقرة: "وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال...".
(٢) انظر تفسير"افترى" فيما سلف ٦: ٢٩٢/٨: ٤٥١.
(٣) في المطبوعة، أسقط"قبل"، لسوء كتابتهافي المخطوطة.
(٤) في المطبوعة: "يقول: لا يعقلون تحريم الشيطان الذي يحرم عليهم"، زاد وغير، فأفسد الجملة إفسادًا، وهو يظن أنه يصلحها.
136
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء الذين يبحرون البحائر ويسيِّبون السوائب؟ الذين لا يعقلون أنهم بإضافتهم تحريم ذلك إلى الله تعالى ذكره يفترون على الله الكذب: تعالوا إلى تنزيل الله وآي كتابه وإلى رسوله، ليتبين لكم كذبُ قيلكم فيم تضيفونه إلى الله تعالى ذكره من تحريمكم ما تحرِّمون من هذه الأشياء (١) = أجابوا من دعاهم إلى ذلك بأن يقولوا: حسبنا ما وجدنا عليه من قبلنا آباءَنا يعملون به، ويقولون:"نحن لهم تبع وهم لنا أئمة وقادة، وقد اكتفينا بما أخذنا عنهم، ورضينا بما كانوا عليه من تحريم وتحليل". (٢) قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أوَ لو كان آباء هؤلاء القائلين هذه المقالة لا يعلمون شيئًا؟ يقول: لم يكونوا يعلمون أنّ ما يضيفونه إلى الله تعالى ذكره من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، كذبٌ وفريةٌ على الله، لا حقيقة لذلك ولا صحة، لأنهم كانوا أتباع المفترين الذين ابتدءوا تحريم ذلك، افتراءً على الله بقيلهم ما كانوا يقولون من إضافتهم إلى الله تعالى ذكره ما يضيفون = ولا كانوا فيما هم به عاملون من ذلك على استقامة وصواب، (٣) بل كانوا على ضلالة وخطأ.
* * *
(١) انظر تفسير"تعالوا" فيما سلف ٦: ٤٧٤، ٤٨٣، ٤٨٥/٨: ٥١٣.
(٢) انظر تفسير"حسب" فيما سلف ٤: ٢٤٤/٧: ٤٠٥.
(٣) في المطبوعة: "ما كانوا فيما هم به عاملون"، وفي المخطوطة: "كانوا" بغير"ما"، والسياق يقتضي ما أثبت، لأنه معطوف على قوله آنفاً: "يقول: لم يكونوا يعلمون..."
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم فأصلحوها، واعملوا في خلاصها من عقاب الله تعالى ذكره، وانظروا لها فيما يقرِّبها من ربها، فإنه"لا يضركم من ضَلّ"، يقول: لا يضركم من كفر وسلك غير سبيل الحق، إذا أنتم اهتديتم وآمنتم بربكم، وأطعتموه فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، فحرمتم حرامه وحللتم حلاله.
* * *
ونصب قوله:"أنفسكم" بالإغراء، والعرب تغري من الصفات ب"عليك" و"عندك"، و"دونك"، و"إليك". (١)
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم معناه:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم"، إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يُقبل منكم.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٨٤٨ - حدثنا سوار بن عبد الله قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبو الأشهب، عن الحسن: أن هذه الآية قرئت على ابن مسعود:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَلّ إذا اهتديتم"، فقال ابن مسعود:"ليس هذا بزمانها، قولوها ما قُبلت منكم، فإذا رُدّت عليكم فعليكم أنفسكم". (٢)
(١) "الصفات" حروف الجر، والظروف، كما هو بين من سياقها. وانظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٢٢، ٣٢٣.
(٢) الأثر: ١٢٨٤٨ -"سوار بن عبد الله بن سوار العنبري"، القاضي، شيخ الطبري. ثقة، مترجم في التهذيب. وأبوه: "عبد الله بن سوار العنبري" القاضي، ثقة. مترجم في التهذيب.
و"أبو الأشهب" هو: "جعفر بن حيان السعدي العطاردي"، ثقة، روي له الستة، مضى برقم: ١١٤٠٨.
وسيأتي تخريج الأثر في التعليق على رقم: ١٢٨٥٠.
138
١٢٨٤٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي الأشهب، عن الحسن قال: ذكر عند ابن مسعود (١) "يا أيها الذين آمنوا"، ثم ذكر نحوه.
١٢٨٥٠- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن قال: قال رجل لابن مسعود: ألم يقل الله:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَلّ إذا اهتديتم"؟ قال: ليس هذا بزمانها، قولوها ما قُبلت منكم، فإذا رُدَّت عليكم فعليكم أنفسكم. (٢)
١٢٨٥١ - حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا شبابة بن سوار قال، حدثنا الربيع بن صبيح، عن سفيان بن عقال قال: قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه، فإن الله تعالى ذكره يقول:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"؟ فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي، لأن رسول الله ﷺ قال:"ألا فليبلِّغ الشاهد الغائبَ"، فكنَّا نحن الشهودَ وأنتم الغَيَب، (٣) ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم. (٤)
(١) في المطبوعة: "ذكر ابن مسعود"، بإسقاط"عند"، والصواب من المخطوطة.
(٢) في الأثر: ١٢٨٤٨ - ١٢٨٥٠ - خبر الحسن، عن ابن مسعود، خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٧: ١٩، وقال: "رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح، إلا أن الحسن البصري لم يسمع من ابن مسعود".
(٣) "الغيب" (بفتح الغين والياء) جمع"غائب"، مثل"خادم" و"خدم".
(٤) الأثر: ١٢٨٥١ -"الحسن بن عرفة العبدي البغدادي"، شيخ الطبري، مضى برقم: ٩٣٧٣.
و"شبابة بن سوار الفزازي"، مضى برقم: ٣٧، ٦٧٠١، ١٠٠٥١.
و"الربيع بن صبيح السعدي"، مضى برقم: ٦٤٠٣، ٦٤٠٤، ١٠٥٣٣.
و"سفيان بن عقال"، مترجم في الكبير٢/٢/٩٤، وابن أبي حاتم ٢/١/٢١٩، وكلاهما قال: "روي عن ابن عمر، روى عنه الربيع"، ولم يزيدا.
وخرجه في الدر المنثور ٢: ٣٤٠، وزاد نسبته لابن مردويه.
139
١٢٨٥٢ - حدثنا أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي قال، حدثنا قتادة، عن أبي مازن قال: انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة، فإذا قومٌ من المسلمين جلوس، فقرأ أحدهم هذه الآية:"عليكم أنفسكم"، فقال أكثرهم: لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم. (١)
١٢٨٥٣- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عمرو بن عاصم قال، حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن قتادة، عن أبي مازن، بنحوه. (٢)
١٢٨٥٤ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم قالا حدثنا عوف، عن سوّار بن شبيب قال، كنت عند ابن عمر، إذ أتاه رجل جليدٌ في العين، شديد اللسان، فقال: يا أبا عبد الرحمن، نحن ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه، (٣) وكلهم مجتهد لا يألو، وكلهم بغيضٌ إليه أن يأتي دناءةً، (٤) وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك! فقال رجل من القوم: وأيَّ دناءة تريد، أكثرَ من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك! (٥) قال: فقال الرجل: إني لستُ إيّاك أسأل، أنا أسأل الشيخ! فأعاد على عبد الله
(١) الأثر: ١٢٨٥٢، ١٢٨٥٣ -"أبو مازن الأزدي الحداني"، كان من صلحاء الأزد، قدم المدينة في زمن عثمان رضي الله عنه. روى قتادة، عن صاحب له، عنه. هكذا قال ابن أبي حاتم ٤/٢/٤٤. ولم يرد في هذين الإسنادين ذكر"الرجل" الذي روى عنه قتادة، كما قال أبو حاتم. وسيأتي في الإسناد رقم: ١٢٨٥٦"عن قتادة، عن رجل قال: كنت في خلافة عثمان بالمدينة"، فهذا"الرجل" هو"أبو مازن"، ولا شك. ثم يأتي في رقم: ١٢٨٥٧"عن قتادة، حدثنا أبو مازن، رجل من صالحي الأزد، من بني الحدان"، فصرح قتادة في هذا الخبر بالتحديث عنه، ليس بينهما"رجل" كما قال أبو حاتم. فأخشى أن يكون في كلام أبي حاتم خطأ.
وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٤٠، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وأبي الشيخ.
(٢) الأثر: ١٢٨٥٢، ١٢٨٥٣ -"أبو مازن الأزدي الحداني"، كان من صلحاء الأزد، قدم المدينة في زمن عثمان رضي الله عنه. روى قتادة، عن صاحب له، عنه. هكذا قال ابن أبي حاتم ٤/٢/٤٤. ولم يرد في هذين الإسنادين ذكر"الرجل" الذي روى عنه قتادة، كما قال أبو حاتم. وسيأتي في الإسناد رقم: ١٢٨٥٦"عن قتادة، عن رجل قال: كنت في خلافة عثمان بالمدينة"، فهذا"الرجل" هو"أبو مازن"، ولا شك. ثم يأتي في رقم: ١٢٨٥٧"عن قتادة، حدثنا أبو مازن، رجل من صالحي الأزد، من بني الحدان"، فصرح قتادة في هذا الخبر بالتحديث عنه، ليس بينهما"رجل" كما قال أبو حاتم. فأخشى أن يكون في كلام أبي حاتم خطأ.
وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٤٠، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وأبي الشيخ.
(٣) في المطبوعة: "قد قرأوا" بالجمع، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب.
(٤) في ابن كثير ٣: ٢٥٩، رواه عن هذا الموضع من التفسير، وزاد فيه هنا: "... أن يأتي دناءة، إلا الخير"، وليست في مخطوطتنا.
(٥) في المطبوعة: "وأي دناءة تزيد"، وصواب قراءتها ما أثبت.
140
الحديث، فقال عبد الله بن عمر: لعلك ترى لا أبا لك، إني سآمرك أن تذهب أن تقتلهم! (١) عظهم وانههم، فإن عصوك فعليك بنفسك، فإن الله تعالى يقول:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون". (٢)
١٢٨٥٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن: أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، قال: إن هذا ليس بزمانها، إنها اليوم مقبولة، (٣) ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانٌ تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا = أو قال: فلا يقبل منكم = فحينئذ: عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضلّ". (٤)
١٢٨٥٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن رجل قال: كنت في خلافة عثمان بالمدينة، في حلقة فيهم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيهم شيخ يُسْنِدون إليه، (٥) فقرأ رجل:"عليكم
(١) في المطبوعة، وابن كثير: "فتقتلهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب قديم.
(٢) الأثر: ١٢٨٥٤ -"سوار بن شبيب السعدي الأعرجي"، و"بنو الأعرج"، حي من بني سعد. و"الأعرج" هو"الحارث بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم"، قطعت رجله يوم"تياس"، فسمي"الأعرج". وهو ثقة، كوفي، روى عن ابن عمر، روى عنه عوف، وعكرمة بن عمار. مترجم في الكبير ٢/٢/١٦٨، وابن أبي حاتم ٢/١/٢٧٠.
وهذا الخبر نقله ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٥٩، وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٤١، واقتصر على نسبته إلى ابن مردويه.
(٣) قوله: "إنها اليوم مقبولة"، يعني: كلمة الحق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(٤) الأثر: ١٢٨٥٥ - انظر التعليق على الآثار: ١٢٨٤٨ - ١٢٨٥٠.
وكان في المطبوعة هنا: "... من ضل إذا اهتديتم"، بالزيادة، وأثبت ما في المخطوطة.
(٥) قوله: "يسندون إليه" أي: ينتهون إلى عمله ومعرفته وفقهه، ويلجئون إليه في فهم ما يشكل عليهم. ويقال: "أسندت إليه أمري"، أي: وكلته إليه، واعتمدت عليه. وقال الفرزدق:
إلَى الأَبْرَشِ الكَلْبِيّ أَسْنَدْتُ حَاجَةً تَوَاكَلَها حَيًّا تَمِيمٍ ووَائِلِ
وهذا كله مما ينبغي تقييده في كتب اللغة، فهو فيها غير بين.
141
أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"، فقال الشيخ: إنما تأويلها آخرَ الزمان.
١٢٨٥٧- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، حدثنا أبو مازن، رجل من صالحي الأزد من بني الحُدَّان، (١) قال: انطلقت في حياة عثمان إلى المدينة، فقعدت إلى حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، (٢) فقرأ رجل من القوم هذه الآية"لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"، قال فقالَ رجلٌ من أسنِّ القوم: دَعْ هذه الآية، فإنما تأويلها في آخر الزمان. (٣)
١٢٨٥٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا ابن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن جبير بن نفير قال: كنت في حلقة فيها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنّي لأصغر القوم، فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقلت أنا: أليس الله يقول في كتابه:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"؟ فأقبلوا عليَّ بلسان واحد وقالوا: أتنتزِع بآية من القرآن لا تعرفها، (٤) ولا تدري ما تأويلها!! حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت. ثم أقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا:"إنك غلام
(١) في المطبوعة: "بني الجدان" بالجيم، وهو خطأ.
(٢) في المطبوعة: "فيها أصحاب رسول الله: ، وفي المخطوطة: "فيها من أصحاب رسول الله"، فضرب بالقلم على"فيها" فأثبتها على الصواب.
(٣) الأثران: ١٢٨٥٦، ١٢٨٥٧ - انظر التعليق على الأثرين السالفين رقم: ١٢٨٥٢، ١٢٨٥٣.
(٤) في المطبوعة: "تنزع بآية من القرآن"، غير ما في المخطوطة، وما غيره صواب.
ولكن يقال: "انتزع معنى جيدًا، ونزعه"، أي: استخرجه واستنبطه ويقال: "انتزع بالآية والشعر"، أي: تمثل به.
142
حدَثُ السن، وإنك نزعت بآية لا تدري ما هي، وعسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا وإعجابَ كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت. (١)
١٢٨٥٩ - حدثنا هناد قال، حدثنا ليث بن هارون قال، حدثنا إسحاق الرازي، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن عبد الله بن مسعود في قوله:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعًا فينبئكم بما كنتم تعملون"، قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا، فكان بين رجلين ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله: ألا أقوم فآمرُهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك، فإن الله تعالى يقول:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"! قال: فسمعها ابن مسعود فقال: مَهْ، (٢) لَمَّا يجئ تأويل هذه بعد! (٣) إن القرآن أنزل حيث أنزل، ومنه آيٌ قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه ما وقع تأويلهن
(١) الأثر: ١٢٨٥٨ -"ابن فضالة" هو: "مبارك بن فضالة بن أبي أمية"، أبو فضالة البصري. وفي تفسير ابن كثير: "حدثنا أبو فضالة"، ومضى برقم: ١٥٤، ٥٩٧، ٦١١، ١٩٠١.
و"معاوية بن صالح بن حدير الحضرمي"، أحد الأعلام، مضى مرارًا منها: ١٨٦، ١٨٧، ٢٠٧٢، ٨٤٧٢، ١١٢٥٥، ولم تذكر لمعاوية بن صالح، رواية عن جبير بن نفير، بل روى عنه ابنه عبد الرحمن بن جبير.
و"جبير بن نفير" إسلامي جاهلي، مضى برقم: ٦٦٥٦، ٧٠٠٩.
وهذا الخبر منقطع الإسناد، ونقله ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٦٠، والسيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٤٠، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
(٢) "مه"، هكذا في المطبوعة، وابن كثير، والدر المنثور و"مه" كلمة زجر بمعنى: كف عن هذا. وفي المخطوطة مكانها: "مهل"، وأخشى أن تكون خطأ من الناسخ، ولو كتب"مهلا"، لكان صوابًا، يقال: "مهلا يا فلان" أي: رفقًا وسكونًا، لا تعجل.
(٣) في المطبوعة: "لم يجئ"، ومثلها في ابن كثير والدر المنثور، وأثبت ما في المخطوطة.
143
على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنه آيٌ وَقع تأويلهن بعد النبيّ ﷺ بيسير، (١) ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آي يقع تأويلهنّ عند الساعة على ما ذكر من الساعة، (٢) ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار، (٣) فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة، ولم تُلبَسوا شيعًا، ولم يَذُق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا. فإذا اختلفت القلوب والأهواء، وأُلبستم شيعًا، وذاق بعضكم بأس بعض، فامرؤ ونفسه، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية. (٤)
١٢٨٦٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن ابن مسعود: أنه كان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، ثم ذكر نحوه. (٥)
١٢٨٦١- حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا حرمي......... قال: سمعت الحسن يقول: تأوّل بعضُ أصحاب النبي ﷺ هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، فقال بعض
(١) في المطبوعة: "آي قد وقع" بالزيادة، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) في المطبوعة: "على ما ذكر من أمر الساعة"، بزيادة"أمر"، وفي المخطوطة أسقط الناسخ"على"، وإثباتها هو الصواب.
(٣) في المطبوعة: "من أمر الحساب" بالزيادة، وأثبت ما في المخطوطة.
(٤) الأثر: ١٢٨٥٩ -"ليث بن هرون"، لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا.
و"إسحق الرازي"، هو: "إسحق بن سليمان الرازي"، مضى برقم: ٦٤٥٦، ١٠٢٣٣٨، ١١٢٤٠. وانظر الإسناد الآتي رقم: ١٢٨٦٦.
وهذا الخبر نقله ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٥٨، ٢٥٩، والسيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٣٩، ٣٤٠، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، ونعيم بن حماد في الفتن، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب.
وسيأتي بإسناد آخر في الذي يليه.
(٥) الأثر: ١٢٨٦٠ - انظر الأثر السالف.
144
أصحابه: دعوا هذه الآية، فليست لكم. (١)
١٢٨٦٢ - حدثني إسماعيل بن إسرائيل اللآل الرّملي قال، حدثنا أيوب بن سويد قال، حدثنا عتبة بن أبي حكيم، عن عمرو بن جارية اللخمي، عن أبي أمية الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم"، فقال: لقد سألت عنها خبيرًا، سألتُ عنها رسول الله ﷺ فقال: أبا ثعلبة، ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيت دنيا مؤثَرة، وشحًّا مطاعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك نفسك! إنّ من بعدكم أيام الصبر، (٢) للمتمسك يومئذ بمثل الذي أنتم عليه كأجر خمسين عاملا! قالوا: يا رسول الله، كأجر خمسين عاملا منهم؟ قال: لا كأجر خمسين عاملا منكم. (٣)
(١) الأثر: ١٢٨٦١ - هذا إسناد ناقص لا شك في ذلك.
"أحمد بن المقدام بن سليمان العجلي"، أبو الأشعث. روى عنه البخاري والترمذي والنسائي، وغيرهم. صالح الحديث. ولد في نحو سنة ١٥٦، وتوفي سنة ٢٥٣.
و"حرمي بن عمارة بن أبي حفصة العتكي"، مضى برقم: ٨٥١٣. ومات سنة ٢٠١، ومحال أن يكون أدرك الحسن وسمع منه. فإن"الحسن البصري" مات في نحو سنة ١١٠ فالإسناد مختل، ولذلك وضعت بينه وبين الحسن نقطًا، دلالة على نقص الإسناد.
(٢) في المطبوعة: "أرى من بعدكم"، والصواب من المخطوطة. وفي المخطوطة: "المتمسك" بغير لام الجر، وكأن الصواب ما في المطبوعة.
(٣) الأثر: ١٢٨٦٢ - سيأتي بإسناد آخر في الذي يليه.
"إسمعيل بن إسرائيل اللآل الرملي"، مضى برقم: ١٠٢٣٦، ١٢٢١٣، وذكرنا هناك أنه في ابن أبي حاتم"السلال"، ومضى هناك" ١٠٢٣٦"الدلال"، وجاء هنا"اللآل"، صانع اللؤلؤ وبائعه، ولا نجد ما يرجح واحدة من الثلاث.
و"أيوب بن سويد الرملي"، ثقة متكلم فيه. مضى برقم: ١٢٢١٣.
و"عتبة بن أبي حكيم الشعباني الهمداني، ثم الأردني"، ثقة، ضعفه ابن معين. مضى برقم: ١٢٢١٣.
و"عمرو بن جارية اللخمي"، ثقة، مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة"عمرو بن خالد" وهو خطأ محض. وفي المخطوطة كتب"خالد" ثم جعلها"جارية"، وهو الصواب.
و"أبو أمية الثعباني" اسمه"يحمد" (بضم الياء وكسر الميم) وقيل: اسمه"عبد الله بن أخامر". ثقة. مترجم في التهذيب.
و"أبو ثعلبة الخشني" اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافًا كثيرًا. صحابي.
وسيأتي تخريجه في الذي يليه.
145
١٢٨٦٣- حدثنا علي بن سهل قال، أخبرنا الوليد بن مسلم، عن ابن المبارك وغيره، عن عتبة بن أبي حكيم، [عن عمرو بن جارية اللخمي]، عن أبي أمية الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة الخشني: كيف نَصنع بهذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"؟ فقال أبو ثعلبة: سألت عنها خبيرًا، سألت عنها رسول الله ﷺ فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بِخُوَيصة نفسك، (١) وذَرْ عوامَّهم، فإن وراءكم أيامًا أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم. (٢)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك أنّ العبد إذا عمل بطاعة الله لم يضره من ضَلَّ بعده وهلك.
(١) "خويصة" تصغير"خاصة".
(٢) الأثر: ١٢٨٦٣ -"عتبة بن أبي حكيم"، في المخطوطة: "عبدة بن أبي حكيم"، وهو خطأ ظاهر.
وفي المخطوطة والمطبوعة، أسقط: [عن عمرو بن جارية اللخمي]، فوضعتها بين قوسين.
وهذا هو نفسه إسناد الترمذي.
وهذا الخبر، رواه الترمذي في كتاب التفسير من طريق سعيد بن يعقوب الطالقاني، عن عبد الله بن المبارك، عن عقبة بن أبي حكيم، بنحو لفظه هنا. ثم قال الترمذي: "قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة = قيل: يا رسول الله، أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال: لا، بل أجر خمسين رجلا منكم". ثم قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
وأخرجه ابن ماجه في سننه رقم: ٤٠١٤ من طريق هشام بن عمار، عن صدقة بن خالد، عن عتبة بن أبي حكيم، بنحو لفظه.
ورواه أبو داود في سننه ٤: ١٧٤، رقم: ٤٣٤١، من طريق أبي الربيع سليمان بن داود العتكي، عن ابن المبارك، بمثله.
وخرجه ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٥٨، والسيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٣٩، وزاد نسبته إلى البغوي في معجمه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، والحاكم في المستدرك وصححه.
146
* ذكر من قال ذلك:
١٢٨٦٤ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلَ"، يقول: إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته من الحلال والحرام، فلا يضره من ضل بعدُ، إذا عمل بما أمرته به.
١٢٨٦٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، يقول: أطيعوا أمري، واحفظوا وصيَّتي.
١٢٨٦٦ - حدثنا هناد قال، حدثنا ليث بن هارون قال، حدثنا إسحاق الرازي، عن أبي جعفر الرازي، عن صفوان بن الجون قال: دخل عليه شابّ من أصحاب الأهواء، فذكر شيئًا من أمره، فقال صفوان: ألا أدلك على خاصة الله التي خصَّ بها أولياءه؟ "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل"، الآية. (١)
١٢٨٦٧ - حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثنا أبو المطرف المخزومي قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، ما لم يكن سيف أو سوط. (٢)
(١) الأثر: ١٢٨٦٦ -"ليث بن هرون"، لم أجده، وانظر الإسناد السالف رقم ١٢٨٥٩.
و"إسحق"، هو: "إسحق بن سليمان الرازي"، وانظر رقم: ١٢٨٥٩.
وأما "صفوان بن الجون"، فهو هكذا في المخطوطة أيضًا، ولم أجد له ترجمة. وفي الدر المنثور ٢: ٣٤١، "عن صفوان بن محرز"، ونسبه لابن جرير وابن أبي حاتم.
و"صفوان بن محرز بن زياد المازني، أو الباهلي". روى عن ابن عمر، وابن مسعود، وأبي موسى الأشعري. روى عنه جامع بن شداد، وعاصم الأحول، وقتادة. كان من العباد، اتخذ لنفسه سربًا يبكي فيه. مات سنة ٧٤، مترجم في التهذيب. ومضى برقم: ٦٤٩٦.
(٢) الأثر: ١٢٨٦٧ -"عبد الكريم بن أبي عمير"، مضى برقم: ٧٥٧٨، ١١٣٦٨ و"أبو المطوف المخزومي"، لم أجد له ذكرًا.
147
١٢٨٦٨- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا ضمرة بن ربيعة قال، تلا الحسن هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، فقال الحسن: الحمد لله بها، والحمد لله عليها، ما كان مؤمن فيما مضى، ولا مؤمن فيما بقي، إلا وإلى جانبه منافق يكرَه عمله. (١)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم"، فاعملوا بطاعة الله ="لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، فأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٨٦٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم، عن عنبسة، عن سعد البقال، عن سعيد بن المسيب:"لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، قال: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، لا يضرك من ضل إذا اهتديت.
١٢٨٧٠ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن أبي العميس، عن أبي البختري، عن حذيفة:"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"، قال: إذا أمرتم ونهيتم.
١٢٨٧١- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن ابن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال، قال أبو بكر: تقرءون هذه الآية:"لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، وإن الناس إذا رأوا الظالم = قال ابن وكيع = فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمّهم الله بعقابه. (٢)
(١) الأثر: ١٢٨٦٨-"ضمرة بن ربيعة الفلسطيني الرملي"، ثقة، مضى برقم: ٧١٣٤. وكان في المطبوعة: "مرة بن ربيعة"، لم يحسن قراءة المخطوطة.
وهذه الكلمة التي قالها الحسن، لو خفيت على الناس قديمًا، فإن مصداقها في زماننا هذا يراه المؤمن عيانًا في حيث يغدو ويروح.
(٢) الأثر: ١٢٨٧١ - خبر قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر، رواه أبو جعفر بأسانيد، من رقم: ١٢٨٧١ - ١٢٨٧٨، موقوفًا على أبي بكر، إلا رقم: ١٢٨٧٦، ١٢٨٧٨، فرواهما متصلين مرفوعين، وإلا رقم: ١٢٨٧٤، فهو مرسل. وأكثر طرق أبي جعفر طرق ضعاف.
ورواه من طريق"إسمعيل بن أبي خالد"، عن قيس بن أبي حازم برقم: ١٢٨٧١، ١٢٨٧٣. فمن هذه الطريق رواه أحمد في مسنده رقم: ١، ١٦، ٢٩، ٣٠، ٥٣، متصلا مرفوعًا. وقال ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٥٨: "وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة، وابن حبان في صحيحه، وغيرهم، من طرق كثيرة، عن جماعة كثيرة، عن إسمعيل بن أبي خالد، به متصلا مرفوعًا. ومنهم من رواه عنه به موقوفًا على الصديق. وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره".
و"إسمعيل بن أبي خالد الأحمسي"، ثقة. مضى برقم: ٥٦٩٤، ٥٧٧٧.
و"قيس بن أبي حازم الأحمسي"، ثقة، روى له الستة، روى عن جماعة من الصحابة، وهو متقن الرواية. مترجم في التهذيب.
وهذا إسناد صحيح.
148
١٢٨٧٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير وابن فضيل، عن بيان، عن قيس قال، قال أبو بكر: إنكم تقرءون هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، وإن القوم إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، يعمُّهم الله بعقابه. (١)
١٢٨٧٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن إسماعيل، عن قيس، عن أبي بكر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
١٢٨٧٤ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، يقول: مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قال أبو بكر بن أبي قحافة: يا أيها الناس لا تغترُّوا بقول الله:"عليكم أنفسكم"، فيقول أحدكم: عليَّ نفسي، والله لتأمرن بالمعروف وتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليَستعملن عليكم شراركم، فليسومنّكم سوء العذاب، ثم ليدعون الله خياركم، فلا يستجيب لهم.
(١) الأثر: ١٢٨٧٢ -"ابن فضيل" هو: "محمد بن فضيل بن غزوان الضبي"، مضى مرارًا كثيرة.
و"بيان" هو: "بيان بن بشر الأحمسي"، ثقة، مضى برقم ٦٥٠١.
وقد مضى تخريج الخبر في الذي قبله، وسيأتي من هذه الطريق أيضًا برقم: ١٢٨٧٥.
وهو إسناد صحيح.
149
١٢٨٧٥- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا بيان، عن قيس بن أبي حازم قال، قال أبو بكر وهو على المنبر: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية على غير موضعها:"لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، عَمَّهم الله بعقابه.
١٢٨٧٦ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثني عيسى بن المسيب البجلي قال، حدثنا قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقرأ هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"، فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا رأى الناسُ المنكر فلم يغيِّروه، والظالم فلم يأخذوا على يديه، فيوشك أن يعمهم الله منه بعقاب. (١)
١٢٨٧٧- حدثنا الربيع قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا سعيد بن سالم قال، حدثنا منصور بن دينار، عن عبد الملك بن ميسرة، عن قيس بن أبي حازم قال: صَعد أبو بكر المنبرَ منبرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس، إنكم لتتلون آية من كتاب الله وتعدُّونها رُخصة، والله ما أنزل الله في كتابه أشدَّ منها:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر،
(١) الأثر: ١٢٨٧٦ -"الحارث" هو: "الحارث بن محمد بن أبي أسامة"، مضى مرارًا، آخرها رقم: ١٠٥٥٣، وترجمته في رقم: ١٠٢٩٥.
و"عبد العزيز"، هو: "عبد العزيز بن أبان الأموي"، مضت ترجمته برقم: ١٠٢٩٥، قال ابن معين: "كذاب خبيث، يضع الأحاديث".
و"عيسى بن المسيب البجلي"، قاضي الكوفة. وكان شابًا ولاه خالد بن عبد الله القسري. ضعيف متكلم فيه، حتى قال ابن حبان: "كان قاضي خراسان، يقلب الأخبار، ولا يفهم، ويخطئ، حتى خرج عن حد الاحتجاج به". مترجم في ابن أبي حاتم ٣/١/٢٨٨، وميزان الاعتدال ٢: ٣١٧، وتعجيل المنفعة: ٣٢٨، ولسان الميزان ٤: ٤٠٥.
فهذا إسناد هالك، مع روايته من طرق صحاح عن قيس، عن أبي بكر.
150
أو ليعمنكم الله منه بعقاب. (١)
١٢٨٧٨- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا إسحاق بن إدريس قال، حدثنا سعيد بن زيد قال، حدثنا مجالد بن سعيد، عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر يقول وهو يخطب الناس: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية ولا تدرون ما هي؟ :"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الناس إذا رأوا منكرًا فلم يغيِّروه، عمّهم الله بعقاب. (٢)
* * *
وقال آخرون: بل معنى هذه الآية: لا يضركم من حاد عن قصد السبيل وكفر بالله من أهل الكتاب.
(١) الأثر: ١٢٨٧٧ -"أسد بن موسى المرداني"، "أسد السنة"، مضى برقم: ٢٣، ٢٥٣٠.
و"سعيد بن سالم القداح"، متكلم فيه، وثقه ابن معين، غير أن ابن حبان قال: "يهم في الأخبار حتى يجيء بها مقلوبة، حتى خرج عن حد الاحتجاج به". مترجم في التهذيب.
و"منصور بن دينار التميمي الضبي"، ضعفوه. مترجم في الكبير ٤/ ١/ ٣٤٧، وابن أبي حاتم ٤/١/١٧١، وميزان الاعتدال ٣: ٢٠١، وتعجيل المنفعة: ٤١٢، ولسان الميزان ٦: ٩٥.
و"عبد الملك بن ميسرة الهلالي الزراد"، ثقة، من صغار التابعين مضى برقم: ٥٠٣، ٥٠٤
فهذا خبر ضعيف الإسناد، مع روايته من طرق صحاح عن قيس، عن أبي بكر.
(٢) الأثر: ١٢٨٧٨ -"محمد بن بشار"، هو"بندار"، مضى مئات من المرات. وكان في المطبوعة هنا"محمد بن سيار"، أساء قراءة المخطوطة.
"وإسحق بن إدريس الأسواري البصري"، منكر الحديث، تركه الناس، قال ابن معين: "كذاب، يضع الحديث". وقال ابن حبان: "كان يسرق الحديث". مترجم في الكبير ١/١/٣٨٢، وابن أبي حاتم ١/١/٢١٣، وميزان الاعتدال ١: ٨٦، ولسان الميزان ١: ٣٥٢.
و"سعيد بن زيد بن درهم الجهضمي"، ثقة، متكلم فيه، حتى ضعفوا حديثه. مضى برقم: ١١٨٠١.
و"مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني"، قال أحمد: "يرفع حديثًا لا يرفعه الناس"، وهو ثقة، متكلم فيه. ومضى برقم: ١٦١٤، ٢٩٨٧، ٢٩٨٨، ١١١٥٦.
وهذا أيضًا إسناد ضعيف.
151
* ذكر من قال ذلك:
١٢٨٧٩ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:"لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم"، قال: يعني من ضلّ من أهل الكتاب.
١٢٨٨٠- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:"لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"، قال: أنزلت في أهل الكتاب.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك كل من ضل عن دين الله الحق.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٨٨١ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَل إذا اهتديتم"، قال: كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفَّهت آباءك وضللتهم، وفعلت وفعلت، وجعلت آباءك كذا وكذا! كان ينبغي لك أن تنصرهم، وتفعل!
فقال الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال وأصحّ التأويلات عندنا بتأويل هذه الآية، ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيها، وهو:"يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم"، الزموا العملَ بطاعة الله وبما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم الله عنه ="لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"، يقول: فإنه لا يضركم ضلال من ضل إذا أنتم لزمتم العمل بطاعة الله، (١) وأدَّيتم فيمن ضل من الناس ما ألزمكم
(١) في المطبوعة: "إذا أنتم رمتم العمل بطاعة الله"، وهو لا معنى له، أساء قراءة ما في المخطوطة، لسوء كتابتها.
152
الله به فيه، من فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يركبه أو يحاول ركوبه، والأخذ على يديه إذا رام ظلمًا لمسلم أو معاهد ومنعه منه فأبى النزوع عن ذلك، ولا ضير عليكم في تماديه في غيِّه وضلاله، إذا أنتم اهتديتم وأديتم حق الله تعالى ذكره فيه.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات في ذلك بالصواب، لأن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين أن يقوموا بالقسط، ويتعاونوا على البر والتقوى. ومن القيام بالقسط، الأخذ على يد الظالم. ومن التعاون على البر والتقوى، الأمر بالمعروف. وهذا مع ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله ﷺ من أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولو كان للناس تركُ ذلك، لم يكن للأمر به معنًى، إلا في الحال التي رخَّص فيه رسول الله ﷺ تركَ ذلك، وهي حال العجز عن القيام به بالجوارح الظاهرة، فيكون مرخصًا له تركه، إذا قام حينئذ بأداء فرض الله عليه في ذلك بقلبه.
وإذا كان ما وصفنا من التأويل بالآية أولى، فبيِّنٌ أنه قد دخل في معنى قوله:"إذا اهتديتم"، ما قاله حذيفة وسعيد بن المسيب من أن ذلك:"إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر"، ومعنى ما رواه أبو ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين من عباده: اعملوا، أيها المؤمنون، بما أمرتكم به، وانتهوا عما نهيتكم عنه، ومروا أهل الزَّيغ والضلال وما حاد عن
153
سبيلي بالمعروف، وانهوهم عن المنكر. فإن قبلوا، فلهم ولكم، وإن تمادَوْا في غيهم وضلالهم، فإن إليّ مرجع جميعكم ومصيركم في الآخرة ومصيرهم، (١) وأنا العالم بما يعمل جميعكم من خير وشر، فأخبر هناك كلَّ فريق منكم بما كان يعمله في الدنيا، (٢) ثم أجازيه على عمله الذي قَدِم به عليّ جزاءه حسب استحقاقه، فإنه لا يخفى عليَّ عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به:"يا أيها الذين آمنوا شهادةُ بينكم"، يقول: ليشهد بينكم ="إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية"، يقول: وقت الوصية="اثنان ذوا عدل منكم"، يقول: ذوا رشد وعقل وحِجًى من المسلمين، (٣) كما:-
١٢٨٨٢ - حدثنا محمد بن بشار وعبيد الله بن يوسف الجبيري قالا حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب في قوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [سورة الطلاق: ٢]، قال: ذَوَي عقل. (٤)
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"ذوا عدل منكم".
فقال بعضهم: عنى به: من أهل ملتكم.
(١) انظر تفسير"المرجع" فيما سلف ٦: ٤٦٤/١٠: ٣٩١، تعليق: ٢.
(٢) انظر تفسير"أنبأ" فيما سلف من فهارس اللغة (نبأ).
(٣) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
(٤) الأثر: ١٢٨٨٢ -"عبيد الله بن يوسف الجبيري"، "أبو حفص البصري"، شيخ الطبري، ثقة. روي له ابن ماجه. مترجم في التهذيب. وفي المخطوطة: "عبد الله بن يوسف"، وهو خطأ. ومضى في رقم: ١٠٩، ولم يترجم هناك.
وهذا الخبر في تفسير الآية الثانية من"سورة الطلاق"، ولم يذكره أبو جعفر هناك في تفسير الآية. فهذا من ضروب اختصاره تفسيره.
154
* ذكر من قال ذلك:
١٢٨٨٣ - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: شاهدان"ذوا عدل منكم"، من المسلمين.
١٢٨٨٤ - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم"، من المسلمين.
١٢٨٨٥- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم"، قال: اثنان من أهل دينكم.
١٢٨٨٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن أشعث، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: سألته، عن قول الله تعالى ذكره:"اثنان ذوا عدل منكم"، قال: من الملة.
١٢٨٨٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، بمثله = إلا أنه قال فيه: من أهل الملة.
١٢٨٨٨- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن هشام، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن هذه الآية:"اثنان ذوا عدل منكم"، قال: من أهل الملة.
١٢٨٨٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة، مثله.
155
١٢٨٩٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين، عن زائدة، عن هشام، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة، فذكر مثله.
١٢٨٩١ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن حماد، عن ابن أبي نجيح = وقال، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح = عن مجاهد، مثله.
١٢٨٩٢ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ذوا عدل منكم"، قال: ذوا عدل من أهل الإسلام.
١٢٨٩٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ذوا عدل منكم"، قال: من المسلمين.
١٢٨٩٤- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان سعيد بن المسيب يقول:"اثنان ذوا عدل منكم"، أي: من أهل الإسلام.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك: ذوا عدل من حَيِّ الموصِي. وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدّة غيرهما.
* * *
واختلفوا في صفة"الاثنين" اللذين ذكرهما الله في هذه الآية، ما هي، وما هما؟
فقال بعضهم: هما شاهدان يشهدان على وصية الموصي.
* * *
وقال آخرون: هما وصيان.
* * *
وتأويل الذين زعموا أنهما شاهدان. قولَه:"شهادة بينكم"، ليشهد شاهدان
156
ذوا عدل منكم على وصيتكم.
* * *
وتأويل الذين قالوا:"هما وصيان لا شاهدان" قولَه:"شهادة بينكم"، بمعنى الحضور والشهود لما يوصيهما به المريضُ، من قولك:"شهدت وصية فلان"، بمعنى حضرته. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بقوله:"اثنان ذوا عدل منكم"، تأويلُ من تأوّله بمعنى أنهما من أهل الملة، دون من تأوّله أنهما من حيّ الموصي.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لأن الله تعالى ذكره، عم المؤمنين بخطابهم بذلك في قوله:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم" فغير جائز أن يصرف ما عمَّه الله تعالى ذكره إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها. وإذ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون العائدُ من ذكره على العموم، (٢) كما كان ذكرهم ابتداءً على العموم.
* * *
وأولى المعنيين بقوله:"شهادة بينكم" اليمين، لا"الشهادة" التي يقوم بها مَنْ عنده شهادة لغيره، لمن هي عنده، على مَن هي عليه عند الحكام. (٣) لأنا لا نعلم لله تعالى ذكره حكمًا يجب فيه على الشاهد اليمين، فيكون جائزًا صرفُ"الشهادة" في هذا الموضع، إلى"الشهادة" التي يقوم بها بعض الناس عند الحكام والأئمة.
(١) انظر تفسير"شهد" فيما سلف من فهارس اللغة، واختلاف معانيها.
(٢) في المطبوعة: "من ذكرهم"، وما في المخطوطة صواب محض.
(٣) كان صدر هذه العبارة في المخطوطة: "شهادة بينكم، لأن الشهادة..."، أسقط لفظ"اليمين"، وجعل"لا الشهادة"، "لأن الشهادة"، وهو فاسد، والذي في المطبوعة هو الصواب المحض إن شاء الله، وهو مطابق لما رواه القرطبي في تفسيره ٦: ٣٤٨، عن أبي جعفر الطبري.
157
وفي حكم الآية في هذه، اليمينَ على ذوي العدل = وعلى من قام مقامهم، باليمين بقوله (١) "تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله" = أوضحُ الدليل على صحة ما قلنا في ذلك، من أن"الشهادة" فيه: الأيمان، دون الشهادة التي يقضَى بها للمشهود له على المشهود عليه = وفسادِ ما خالفه.
* * *
فإن قال قائل: فهل وجدتَ في حكم الله تعالى ذكره يمينًا تجب على المدَّعي، فتوجه قولك في الشهادة في هذا الموضع إلى الصحة؟
فإن قلتَ:"لا"، تبين فساد تأويلك ذلك على ما تأوّلت، لأنه يجب على هذا التأويل أن يكون المقسمان في قوله:"فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحقّ من شهادتهما"، هما المدعيين.
وإن قلت:"بلى"، قيل لك: وفي أيّ حكم لله تعالى ذكره وجدتَ ذلك؟ قيل: وجدنا ذلك في أكثر المعاني. وذلك في حكم الرجل يدَّعي قِبَل رجل مالا فيقرّ به المدّعَى عليه قِبَله ذلك، ويدّعي قضاءه. فيكون القول قول ربّ الدين = (٢)
والرجل يعرّف في يد الرجل السلعةَ، فيزعم المعرّف في يده أنه اشتراها من المدّعِي، أو أنّ المدعي وهبها له، وما أشبه ذلك مما يكثر إحصاؤه. وعلى هذا الوجه أوجبَ الله تعالى ذكره في هذا الموضع اليمين على المدعيين اللذين عثرا على الخائنين فيما خانا فيه. (٣)
(١) في المطبوعة هنا"في اليمين بقوله" غير ما في المخطوطة، وأفسد الكلام. والسياق"وفي حكم الآية... باليمين... أوضح الدليل...".
(٢) قوله: "والرجل يعترف"، معطوف على قوله: "في حكم الرجل....". وكان في المطبوعة هنا"والرجل يعترف... فيزعم المعترفة"، وهو خطأ، وصوابه ما أثبت كما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: "... على الجانبين فيما جنيا فيه"، وهو لا معنى له هنا. وفي المخطوطة: "على الجانبين فيما صاهما فيه"، وصواب قراءتها ما أثبت.
158
قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في الرافع قولَه:"شهادة بينكم"، وقولَه:"اثنان ذوا عدل منكم".
فقال بعض نحويي البصرة: معنى قوله:"شهادة بينكم"، شهادة اثنين ذوي عدل، ثم ألقيت"الشهادة"، وأقيم"الاثنان" مقامها، فارتفعا بما كانت"الشهادة" به مرتفعة لو جعلت في الكلام. (١) قال: وذلك = في حذف ما حذف منه، وإقامة ما أقيم مقام المحذوف = نظيرُ قوله: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [سورة يوسف: ٨٢]، وإنما يريد: واسأل أهل القرية، وانتصبت"القرية" بانتصاب"الأهل"، وقامت مقامه، ثم عطف قوله:"أو آخران" على"الاثنين".
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: رفع"الاثنين" ب"الشهادة"، أي: ليشهدكم اثنان من المسلمين، أو آخران من غيركم.
* * *
وقال آخر منهم: رفعت"الشهادة"، ب"إذا حضر". وقال: إنما رفعت بذلك، لأنه قال:"إذا حضر" فجعلها"شهادة" محذوفة مستأنفة، ليست بالشهادة التي قد رفعت لكل الخلق، لأنه قال تعالى ذكره:"أو آخران من غيركم"، وهذه شهادة لا تقع إلا في هذا الحال، وليست مما يثبت. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال:"الشهادة" مرفوعة بقوله:"إذا حضر"، لأن قوله:"إذا حضر"،
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "بما كانت الشاهدة به مرتفعة"، وهو خطأ لا شك فيه، صوابه ما أثبت.
(٢) في المطبوعة: "مما ثبت"، وأثبت ما في المخطوطة.
159
بمعنى: عند حضور أحدكم الموت، و"الاثنان" مرفوع بالمعنى المتوهَّم، وهو: أن يشهد اثنان = فاكتفي من قيل:"أن يشهد"، بما قد جرى من ذكر"الشهادة" في قوله:"شهادة بينكم".
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن"الشهادة" مصدر في هذا الموضع، و"الاثنان" اسم، والاسم لا يكون مصدرًا. غير أن العرب قد تضع الأسماء مواضع الأفعال. (١) فالأمر وإن كان كذلك، فصرْفُ كل ذلك إلى أصح وُجوهه ما وجدنا إليه سبيلا أولى بنا من صرفه إلى أضعفها.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: ليشهد بينكم إذا حضر أحدكم الموت، عدلان من المسلمين، أو آخران من غير المسلمين.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"أو آخران من غيركم".
فقال بعضهم: معناه: أو آخران من غير أهل ملتكم، نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٨٥٩ - حدثنا حميد بن مسعدة وبشر بن معاذ قالا (٢) حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب:"أو آخران من غيركم"، من أهل الكتاب.
(١) "الأفعال": المصادر. وانظر فهارس المصطلحات فيما سلف.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "يونس بن معاذ"، وهو خطأ محض. و"بشر بن معاذ" عن يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة" إسناد دائر في أكثر صفحات هذا التفسير.
160
١٢٨٩٦- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت قتادة يحدث، عن سعيد بن المسيب:"أو آخران من غيركم"، من أهل الكتاب.
١٢٨٩٧- حدثني أبو حفص الجبيري، عبيد الله بن يوسف قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مثله. (١)
١٢٨٩٨ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد، مثله.
١٢٨٩٩- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسليمان التيمي، عن سعيد بن المسيب، أنهما قالا في قوله:"أو آخران من غيركم"، قالا من غير أهل ملتكم.
١٢٩٠٠- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة قال، حدثني من سمع سعيد بن جبير يقول، مثل ذلك.
١٢٩٠١ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا التيمي، عن أبي مجلز قال: من غير أهل ملتكم.
١٢٩٠٢ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله.
١٢٩٠٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: إن كان قُرْبَه أحدٌ من المسلمين أشهدهم، وإلا أشهد رجلين من المشركين.
١٢٩٠٤ - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا هشيم، عن المغيرة، عن إبراهيم وسعيد بن جبير في قوله:"أو آخران من غيركم"، قالا
(١) الأثر: ١٢٨٩٧ -"أبو حفص الجبيري"، "عبيد الله بن يوسف"، مضى قريبًا رقم: ١٢٨٨٢.
161
من غير أهل ملتكم. (١)
١٢٩٠٥- حدثنا عمرو قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد:"أو آخران من غيركم"، قال: من أهل الكتاب.
١٢٩٠٦- حدثنا عمرو قال، حدثنا محمد بن سواء قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مثله. (٢)
١٢٩٠٧- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مثله.
١٢٩٠٨ - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم"، من المسلمين، فإن لم تجدوا من المسلمين، فمن غير المسلمين.
١٢٩٠٩ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر، عن شريح في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموتُ حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم"، قال: إذا كان الرجل بأرض غُرْبة ولم يجد مسلمًا يشهده على وصيته، فأشهد يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مجوسيًّا، فشهادتهم جائزة. (٣) فإن جاء رجلان مسلمان فشهدا بخلاف شهادتهما، أجيزت شهادة المسلمين، وأبطلت شهادة الآخرَيْن. (٤)
(١) الأثر: ١٢٩٠٤ -"أبو قتيبة" هو"سلم بن قتيبة الشعيري الفريابي". مضى برقم: ١٨٩٩، ١٩٢٤، ٦٣٩٥، ٩٧١٤. وكان في المطبوعة: "قتيبة"، غير كنية، والصواب من المخطوطة.
(٢) الأثر: ١٢٩٠٦ -"عمرو" هو"عمرو بن علي الفلاس"، مضى مرارًا.
و"محمد بن سواء بن عنبر السدوسي العنبري". صدوق، ثقة، متكلم فيه. مترجم في التهذيب.
وكان في المطبوعة: "محمد بن سوار" وهو خطأ، وفي المخطوطة: "محمد بن سوا"، وأساء الناشر قراءته.
(٣) في المطبوعة: "فشهادتها"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب، وسيأتي كذلك في رقم: ١٢٩٧٤.
(٤) الأثر: ١٢٩٠٩ - في المخطوطة والمطبوعة: "حدثني المثنى". والصواب ما أثبته، وسيأتي هذا الخبر في موضعين بهذا الإسناد على الصواب، وذلك رقم: ١٢٩٤٣، ١٢٩٧٤، ولذلك رددته إلى الصواب.
162
١٢٩١٠ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح: أنه كان لا يجيز شهادة اليهود والنصارى على مسلم إلا في الوصية، ولا يجيز شهادتهما على الوصية إلا إذا كانوا في سفَر.
١٢٩١١- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح قال: لا تجوز شهادة اليهودي والنصرانيّ إلا في سفر، ولا تجوز في سفر إلا في وصية. (١)
١٢٩١٢ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح، نحوه.
١٢٩١٣ - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: كتب هشام بن هُبَيرة لمسلمة عن شهادة المشركين على المسلمين، فكتب:"لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في وصية، ولا يجوز في وصية إلا أن يكون الرجل مسافرًا".
١٢٩١٤ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن أشهب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: سألته عن قول الله تعالى ذكره:"أو آخران من غيركم"، قال: من غير الملة.
١٢٩١٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، بمثله.
١٢٩١٦- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن هشام، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة، عن ذلك فقال: من غير أهل الملة.
١٢٩١٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن هشام، عن ابن
(١) في المطبوعة: "اليهود والنصارى"، وأثبت ما في المخطوطة.
163
سيرين، عن عبيدة قال: من غير أهل الصلاة.
١٢٩١٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: من غير أهل دينكم.
١٢٩١٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين، عن زائدة، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: من غير أهل الملة.
١٢٩٢٠- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا أبو حرّة، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة:"أو آخران من غيركم"، قال: من غير أهل ملتكم.
١٢٩٢١- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن عثمان قال، حدثنا هشام بن محمد قال، سألت سعيد بن جبير عن [قول الله:"أو آخران من غيركم"، قال: من غير أهل ملتكم]. (١)
١٢٩٢٢ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٢٩٢٣- حدثنا عمرو قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: من غير أهل ملتكم.
١٢٩٢٤ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أو آخران من غيركم"، من غير أهل الإسلام.
١٢٩٢٥ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، قال أبو إسحاق:"أو آخران من غيركم"، قال: من اليهود والنصارى = قال
(١) الأثر: ١٢٩٢١ - انتهى هذا الأثر في المخطوطة عند قوله: "... سعيد بن جبير عن" ووضع الناسخ في المخطوطة حرف (ط) بالأحمر في الهامش، دلالة على الخطأ والشك. أما المطبوعة، فزادت ما وضعته بين القوسين، وهو صواب في المعنى إن شاء الله.
164
قال شريح: لا تجوز شهادة اليهوديّ والنصراني إلا في وصية، ولا تجوز في وصية إلا في سفر.
١٢٩٢٦ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا زكريا، عن الشعبي: أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدَقوقَا هذه. (١) قال: فحضرته الوفاة ولم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهده رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة، فأتيا الأشعريّ فأخبراه، وقدِما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعدَ الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأحلفهما وأمضى شهادتهما. (٢)
١٢٩٢٧ - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة الأزرق، عن الشعبي: أن أبا موسى قضى بها بدَقوقَا.
١٢٩٢٨ - حدثنا عمرو قال، حدثنا عثمان بن الهيثم قال، حدثنا عوف، عن محمد: أنه كان يقول في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم"، شاهدان من المسلمين وغير المسلمين.
١٢٩٢٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"أو آحران من غيركم"، من غير أهل الإسلام.
١٢٩٣٠- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو حفص، عن ليث، عن مجاهد قال: من غير أهل الإسلام.
(١) "دقوقا" و"دقوقاء"، مقصورًا وممدودًا؛ مدينة بين إربل وبغداد معروفة، لها ذكر في الأخبار والفتوح، كان بها وقعة للخوارج، وكثر ذكرها في بعض أشعار الخوارج.
وكان في المطبوعة: "... بدقوقا، ولم يجد أحدًا من المسلمين"، حذف ما أثبته من المخطوطة.
وأساء. وظاهر من الخبر أن الشعبي قال هذا، وهو يومئذ بدقوقا. وهو أيضًا ثابت في سنن أبي داود.
(٢) الأثر: ١٢٩٢٦ - رواه أبو داود في سننه ٣: ٤١٧ رقم: ٣٦٠٥.
165
١٢٩٣١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الله بن عياش قال: قال زيد بن أسلم في هذه الآية:"شهادة بينكم" الآية كلها، قال: كان ذلك في رجل تُوُفّيَ وليس عنده أحد من أهل الإسلام، وذلك في أوّل الإسلام، والأرض حرب، والناس كفار، إلا أن رسول الله ﷺ وأصحابه بالمدينة، وكان الناس يتوارثون بالوصية، ثم نُسِخت الوصية وفرضت الفرائض، وعمل المسلمون بها. (١)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو آخران من غير حَيِّكم وعشيرتكم.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٩٣٢ - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عثمان بن الهيثم بن الجهم قال، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم"، قال: شاهدان من قومكم ومن غير قومكم. (٢)
١٢٩٣٣ - حدثنا عمرو قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري قال: مضت السُّنة أن لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر، إنما هي في المسلمين. (٣)
١٢٩٣٤- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول:"اثنان ذوا عدل منكم"، أي: من عشيرته ="أو آخران من غيركم"، قال: من غير عشيرته.
(١) الأثر: ١٢٩٣١ -"عبد الله بن عياش بن عباس القتباني"، "أبو حفص" المصري. مضى برقم: ١٢١٧٧. وكان في المطبوعة: "عبد الله بن عباس"، وهو خطأ، وهو على الصواب في المخطوطة.
(٢) الأثر: ١٢٩٣٢ -"عثمان بن الهيثم بن الجهم بن عيسى العصري العبدي"، وهو"الأشج العصري" ثقة. علق عنه البخاري. يروي عن عوف الأعرابي، مترجم في التهذيب.
(٣) الأثر: ١٢٩٣٣ -"صالح بن أبي الأخضر اليمامي"، خادم الزهري، مضى برقم: ٩٣١٢.
166
١٢٩٣٥ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن ثابت بن زيد، عن عاصم، عن عكرمة:"أو آخران من غيركم"، قال: من غير أهل حيِّكم.
١٢٩٣٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن ثابت بن زيد، عن عاصم، عن عكرمة:"أو آخران من غيركم"، قال: من غير حيكم.
١٢٩٣٧- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا ثابت بن زيد، عن عاصم الأحول، عن عكرمة في قول الله تعالى ذكره:"أو آخران من غيركم"، قال: من غير أهل حيه = يعني: من المسلمين.
١٢٩٣٨- حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك، عن الحسن:"أو آخران من غيركم"، قال: من غير عشيرتك، ومن غير قومك، كلهم من المسلمين.
١٢٩٣٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قوله:"أو آخران من غيركم"، قال: مسلمين من غير حيكم.
١٢٩٤٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل قال: سألت ابن شهاب عن قول الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت"، إلى قوله:"والله لا يهدي القوم الفاسقين"، قلت: أرأيت الاثنين اللذين ذكر الله، من غير أهل المرء الموصي، أهما من المسلمين، أم هما من أهل الكتاب؟ وأرأيت الآخرين اللذين يقومان مقامهما، أتراهما من [غير] أهل المرء الموصي، (١) أم هما من غير
(١) الزيادة التي بين القوسين لا بد منها. وفي المخطوطة كما كانت في المطبوعة، إلا أن الناسخ وضع في الهامش علامة الشك، وهي هكذا (١)، فأثبت الصواب إن شاء الله.
167
المسلمين؟ قال ابن شهاب: لم نسمع في هذه الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أئمة العامة، سنة أذكرها، وقد كنا نتذاكرها أناسًا من علمائنا أحيانًا، فلا يذكرون فيها سُنة معلومة، ولا قضاءً من إمام عادل، ولكنه يختلف فيها رأيهم. وكان أعجبهم فيها رأيًا إلينا، الذين كانوا يقولون: هي فيما بين أهل الميراث من المسلمين، يشهد بعضهم الميت الذي يرثونه، ويغيب عنه بعضهم، ويشهد من شهده على ما أوصى به لذوي القربى، فيخبرون من غاب عنه منهم بما حضرُوا من وصية. فإن سلّموا جازت وصيته، وإن ارتابوا أن يكونوا بدَّلوا قولَ الميت، وآثروا بالوصية من أرادوا ممن لم يوص لهم الميت بشيء، حَلَف اللذان يشهدان على ذلك بعد الصلاة، وهي صلاة المسلمين، فيقسمان بالله:"إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين". فإذا أقسما على ذلك جازت شهادتهما وأيمانهما، ما لم يعثر على أنهما [استحقا إثمًا في شيء من ذلك، فإن عُثر على أنهما استحقا إثمًا في شيء من ذلك]، (١) قام آخران مقامهما من أهل الميراث، من الخصم الذين ينكرون ما شهد به عليه الأوَّلان المستحلفان أول مرة، فيقسمان بالله لشهادتنا [أحق من شهادتكما]، (٢) على تكذيبكما أو إبطال ما شهدتما به ="وما اعتدينا إنا إذًا لمن الظالمين" ="ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم"، الآية.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك عندنا بالصواب، تأويل من تأوّله: أو آخران من غير أهل الإسلام. وذلك أن الله تعالى عرَّف عباده المؤمنين عند
(١) هذه الجملة التي بين القوسين، ليست في المخطوطة، ووضع في المطبوعة مكانها: "فإن عثر"، واقتصر على ذلك، واستظهرت الجملة من سياق أبي جعفر.
(٢) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، استظهرتها من الآية والسياق.
168
الوصية، شهادة اثنين من عدول المؤمنين، أو اثنين من غير المؤمنين. ولا وجه لأن يقال في الكلام صفة شهادة مؤمنين منكم، أو رجلين من غير عشيرتكم، وإنما يقال: صفة شهادة رجلين من عشيرتكم أو من غير عشيرتكم = أو رجلين من المؤمنين أو من غير المؤمنين.
فإذ كان لا وجه لذلك في الكلام، فغير جائز صرف معنى كلام الله تعالى ذكره إلا إلى أحسن وجوهه. (١)
وقد دللنا قبل على أن قوله تعالى:"ذوا عدل منكم"، إنما هو من أهل دينكم وملتكم، بما فيه كفاية لمن وفق لفهمه.
وإذ صح ذلك بما دللنا عليه، فمعلوم أن معنى قوله:"أو آخران من غيركم"، إنما هو: أو آخران من غير أهل دينكم وملتكم. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء كان الآخران اللذان من غير أهل ديننا، يهوديين كانا أو نصرانيين أو مجوسيين أو عابدَيْ وثَن، أو على أي دين كانا. لأنّ الله تعالى ذكره لم يخصص آخرين من أهل ملة بعينها دونَ ملة، بعد أن يكونا من [غير] أهل الإسلام. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: صفة شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموتُ وقتَ الوصية، أن يشهد اثنان ذوا عدل منكم، أيها المؤمنون، أو رجلان آخران من غير أهل ملتكم، إن أنتم سافرتم ذاهبين وراجعين في الأرض.
* * *
(١) في المطبوعة: "صرف مغلق كلام الله"، وفي المخطوطة: "معلق"، وصواب قراءتها"معنى"
(٢) هذه الزيادة بين القوسين، لا بد منها، وإلا فسد الكلام.
169
وقد بينا فيما مضى السبب الذي من أجله قيل للمسافر:"الضارب في الأرض". (١)
="فأصابتكم مصيبة الموت"، يقول: فنزل بكم الموت. (٢)
* * *
ووجَّه أكثر التأويل هذا الموضع إلى معنى التعقيب دون التخيير، وقالوا: معناه: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية، اثنان ذوا عدل منكم إن وجدا، فإن لم يوجدا فآخران من غيركم = وإنما فعل ذلك من فعله، لأنه وجَّه معنى"الشهادة" في قوله:"شهادة بينكم"، إلى معنى الشهادة التي توجب للقوم قيامَ صاحبها عند الحاكم، أو يُبطلها. * ذكر بعض من تأول ذلك كذلك:
١٢٩٤١ - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله:"ذوا عدل منكم"، من المسلمين. فإن لم تجدوا من المسلمين، فمن غير المسلمين.
١٢٩٤٢ - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب في قوله:"اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم"، قال: اثنان من أهل دينكم ="أو آخران من غيركم"، من أهل الكتاب، إذا كان ببلادٍ لا يجد غيرهم.
١٢٩٤٣ - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر، عن شريح في هذه الآية:"شهادة بينكم" إلى قوله:"أو آخران من غيركم"، قال: إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلمًا يشهده على وصيته، فأشهد يهوديًّا أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا، فشهادتهم جائزة.
(١) انظر تفسير"الضرب في الأرض" فيما سلف ٥: ٥٩٣/٧: ٣٣٢/٩: ١٢٣.
(٢) انظر تفسير"الإصابة" فيما سلف ٨: ٥١٤، ٥٣٨، ٥٥٥/١٠: ٣٩٣، ٤٠٤
170
١٢٩٤٤ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم"، قال: هذا في الحضر="أو آخران من غيركم"، في السفر ="إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت"، هذا، الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين، (١) فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس، فيوصي إليهما.
١٢٩٤٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسعيد بن جبير أنهما قالا في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" الآية، قال: إذا حضر الرجلَ الوفاةُ في سفر، فيشهد رجلين من المسلمين. فإن لم يجد رجلين من المسلمين، فرجلين من أهل الكتاب.
١٢٩٤٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى قوله:"ذوا عدل منكم"، فهذا لمن مات وعنده المسلمون، فأمره الله أن يشهد على وصيته عَدْلين من المسلمين. ثم قال:"أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت"، فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين، فأمره الله تعالى ذكره بشهادة رجلين من غير المسلمين.
* * *
ووجَّه ذلك آخرون إلى معنى التخيير، وقالوا: إنما عنى بالشهادة في هذا الموضع، الأيمان على الوصية التي أوصى إليهما، وائتمانَ الميت إياهما على ما ائتمنهما عليه من مال ليؤدِّياه إلى ورثته بعد وفاته، إن ارتيب بهما. قالوا: وقد
(١) في المطبوعة: "هذا الرجل"، زاد"في"، وأثبت ما في المخطوطة. وسيأتي على الصواب في رقم: ١٢٩٥٤.
171
يتَّمِن الرجلُ على ماله من رآه موضعًا للأمانة من مؤمن وكافر في السفر والحضر. (١) وقد ذكرنا الرواية عن بعض من قال هذا القول فيما مضى، وسنذكر بقيته إن شاء الله تعالى بعد.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت، إن شهد اثنان ذوا عدل منكم، أو كان أوصى إليهما = أو آخران من غيركم إن كنتم في سفر فحضرتكم المنيّة، فأوصيتم إليهما، ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال وتركة لورثتكم. فإذا أنتم أوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال، فأصابتكم مصيبة الموت، فأدَّيا إلى ورثتكم ما اتَّمنتموهما وادَّعوا عليهما خيانة خاناها مما اتُّمنا عليه، (٢) فإن الحكم فيهما حينئذ أن تحبسوهما = يقول: تستوقفونهما بعد الصلاة. وفي الكلام محذوف اجتزئ بدلالة ما ظهر منه على ما حذف، وهو:"فأصابتكم مصيبة الموت، وقد أسندتم وصيتكم إليهما، ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال"، فإنكم تحبسونهما من بعد الصلاة ="فيقسمان بالله إن ارتبتم"، يقول: فيحلفان بالله إن اتهمتموهما بخيانة فيما اُّتمنا عليه من تغيير وصية أوصى إليهما بها أو تبديلها = و"الارتياب"، هو الاتهام (٣) ="لا نشتري به ثمنًا"،
(١) في المطبوعة: "وقد يأمن الرجل على ماله"، وفي المخطوطة: "سمى الرجل" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت."أمن الرجل على كذا، وائتمنه، واتمنه" (الأخيرة، مشددة التاء). وانظر ما سلف ٥: ٢٩٨، تعليق: ٤.
(٢) في المطبوعة في المواضع كلها"ائتمن" مكان"اتمن"، وانظر التعليق السالف.
(٣) انظر تفسير"الارتياب" فيما سلف ٦: ٧٨، وتفسير"الريب" فيما سلف ٨: ٥٩٢، تعليق: ٥، والمراجع هناك.
172
يقول: يحلفان بالله لا نشتري بأيماننا بالله ثمنًا، يقول: لا نحلف كاذبين على عوض نأخذه عليه، وعلى مال نذهب به، (١) أو لحقّ نجحده لهؤلاء القوم الذين أوصى إلينا وَليُّهم وميِّتهم. (٢)
* * *
و"الهاء" في قوله:"به"، من ذكر"الله"، والمعنيُّ به الحلف والقسم، ولكنه لما كان قد جرى قبل ذلك ذكر القسم به، فعُرِف معنى الكلام، اكتفي به من إعادة ذكر القسم والحلف. (٣)
="ولو كان ذا قربى"، يقول: يقسمان بالله لا نطلب بإقسامنا بالله عوضًا فنكذب فيها لأحد، ولو كان الذي نقسم به له ذا قرابة منا. (٤)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٩٤٧- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت"، فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين، فأمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين. فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد الصلاة بالله: لم نشتر بشهادتنا ثمنًا قليلا.
* * *
وقوله:"تحبسونهما من بعد الصلاة"، من صلاة الآخرين. ومعنى الكلام:
(١) انظر تفسير"الاشتراء" و"الثمن" فيما سلف من فهارس اللغة (شرى) و (ثمن).
(٢) في المطبوعة: "أوصى إلينا وإليهم وصيهم"، غير ما في المخطوطة مع وضوحه!!
(٣) في المطبوعة: "فيعرف من معنى الكلام، واكتفى به..."، وفي المخطوطة: "فيعرف معنى الكلام"، والصواب ما أثبت، بجعل"فيعرف""فعرف"، وحذف"من"، وحذف الواو من"واكتفى".
(٤) انظر تفسير"ذو القربى" فيما سلف ٢: ٢٩٢/٣: ٣٤٤/٨: ٣٣٤.
173
أو آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصلاة، إن ارتبتم بهما، فيقسمان بالله لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى.
* * *
واختلفوا في"الصلاة" التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، فقال:"تحبسونهما من بعد الصلاة".
فقال بعضهم: هي صلاة العصر.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٩٤٨ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا زكريا عن الشعبي: أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا، فلم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب. قال: فقدما الكوفة، فأتيا الأشعري فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: فأحلفهما بعد العصر: بالله ما خانا ولا كذبا ولا بَدّلا ولا كتما، ولا غيَّرا، وإنها لوصية الرجل وتركته. قال: فأمضى شهادتهما. (١)
١٢٩٤٩ - حدثنا ابن بشار وعمرو بن علي قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير:"أو آخران من غيركم"، قال: إذا كان الرجل بأرض الشرك، فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب، فإنهما يحلفان بعد العصر.
١٢٩٥٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، بمثله.
١٢٩٥١ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
(١) الأثر: ١٢٩٤٨ - انظر الأثر السالف رقم: ١٢٩٢٦، والتعليق عليه. والأثر التالي رقم: ١٢٩٥٣.
174
قوله:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى"فأصابتكم مصيبة الموت"، فهذا رجل مات بغُرْبة من الأرض، وترك تركته، وأوصى بوصيته، وشهد على وصيته رجلان. فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد العصر. وكان يقال: عندها تصير الأيمان.
١٢٩٥٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسعيد بن جبير: أنهما قالا في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم"، قالا إذا حضر الرجل الوفاة في سفر، فليشهد رجلين من المسلمين. فإن لم يجد فرجلين من أهل الكتاب. فإذا قدما بتركته، فإن صدّقهما الورثة قُبِل قولهما، وإن اتهموهما أحلفا بعد صلاة العصر: بالله ما كذبنا ولا كتمنا ولا خُنَّا ولا غيَّرنا.
١٢٩٥٣- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن القطان قال، حدثنا زكريا قال، حدثنا عامر: أن رجلا توفي بدَقُوقا، فلم يجد من يشهده على وصيته إلا رجلين نصرانيين من أهلها. فأحلفهما أبو موسى دُبُر صلاة العصر في مسجد الكوفة: بالله ما كتما ولا غيرا، وأن هذه الوصية. فأجازها. (١)
* * *
وقال آخرون: بل يستحلفان بعد صلاة أهل دينهما وملتهما.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٩٥٤ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى قوله:"ذوا عدل منكم"، قال: هذا في الوصية عند الموت، يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ما لَهُ وعليه، قال: هذا في الحضر="أو آخران من غيركم" في السفر ="إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت"، هذا، الرجل
(١) الأثر: ١٢٩٥٣ - انظر التعليق على رقم: ١٢٩٤٨.
175
يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس، فيوصي إليهما، ويدفع إليهما ميراثه. فيقبلان به. فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا مالَ صاحبهم، تركوا الرجلين. وإن ارتابوا، رفعوهما إلى السلطان. فذلك قوله:"تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم". قال عبد الله بن عباس: كأني أنظر إلى العِلْجين حين انتُهِى بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره، (١) ففتح الصحيفة، فأنكر أهل الميت، وخوَّنوهما. فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر، فقلت له:"إنهما لا يباليان صلاة العصر، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما، فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، ويحلفان بالله: لا نشتري ثمنًا قليلا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنّا إذًا لمن الآثمين، أنّ صاحبهم لبهذا أوصى، وأنّ هذه لتركته. فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما، ولم تجز لكما شهادة، وعاقبتكما! فإذا قال لهما ذلك، فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا، قولُ من قال:"تحبسونهما من بعد صلاة العصر". لأن الله تعالى عرَّف"الصلاة" في هذا الموضع بإدخال"الألف واللام" فيها، ولا تدخلهما العرب إلا في معروف، إما في جنس، أو في واحد معهود معروف عند المتخاطبين. فإذا كان كذلك، وكانت"الصلاة" في هذا الموضع مجمعًا على أنه لم يُعْنَ بها جميع الصلوات، لم يجز أن يكون مرادًا بها صلاة المستحلَف من اليهود والنصارى، لأن لهم صلوات ليست واحدة، فيكون معلومًا أنها المعنيَّة بذلك. فإذْ كان ذلك كذلك، صح أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين. وإذ كان ذلك كذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم
(١) "العلج" (بكسر العين وسكون اللام) : الرجل من كفار العجم.
176
صحيحًا عنه أنه إذْ لاعَنَ بين العَجْلانيين، لاعَن بينهما بعد العصر دون غيره من الصلوات (١) = كان معلومًا أنّ التي عنيت بقوله:"تحبسونهما من بعد الصلاة"، هي الصلاة التي كان رسول الله ﷺ يتخيَّرها لاستحلاف من أراد تغليظَ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت، وذلك لقربه من غروب الشمس.
* * *
وكان ابن زيد يقول في قوله:"لا نشتري به ثمنًا"، ما:-
١٢٩٥٥ - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"لا نشتري به ثمنًا"، قال: نأخذ به رشوة.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ (١٠٦) ﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الأمصار: (ولا نكتم شهادة الله)، بإضافة"الشهادة" إلى"الله"، وخفض اسم الله تعالى = يعني: لا نكتم شهادة لله عندنا.
* * *
وذكر عن الشعبي أنه كان يقرؤه كالذي:-
١٢٩٥٦ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن ابن عون، عن عامر: أنه كان يقرأ: (ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين) = بقطع"الألف"، وخفض اسم الله = هكذا حدثنا به ابن وكيع.
* * *
وكأن الشعبي وجَّهَ معنى الكلام إلى: أنهما يقسمان بالله لا نشتري به ثمنًا،
(١) انظر خبر العجلانيين في السنن الكبرى للبيهقي ٧: ٣٩٨، وما بعدها.
177
ولا نكتم شهادةً عندنا. ثم ابتدأ يمينًا باستفهام: بالله أنهما إن اشتريا بأيمانهما ثمنًا أو كتما شهادته عندهما، لمن الآثمين.
* * *
وقد روي عن الشعبي في قراءة ذلك رواية تخالف هذه الرواية، وذلك ما:-
١٢٩٥٧- حدثني أحمد بن يوسف التغلبي قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا عباد بن عباد، عن ابن عون، عن الشعبي: أنه قرأ: (ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين) = (١) قال أحمد: قال أبو عبيد: تنوّن"شهادة" ويخفض"الله" على الاتصال. قال: وقد رواها بعضهم بقطع"الألف" على الاستفهام. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وحفظي أنا لقراءة الشعبي بترك الاستفهام. (٣)
* * *
وقرأها بعضهم: (ولا نكتم شهادة الله)، بتنوين"الشهادة"، ونصب اسم"الله" بمعنى: ولا نكتم الله شهادةً عندنا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب، قراءة من قرأ: (ولا نكتم شهادة الله)، بإضافة"الشهادة" إلى اسم"الله"، وخفض اسم"الله" لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار التي لا تتناكر صحَّتَها الأمة.
* * *
(١) في المطبوعة: "شهادة الله"، هو خطأ، صوابه في المخطوطة. وقراءة الشعبي أو قراءاته التي رويت عنه - مذكورة في تفسير أبي حيان ٤: ٤٤، والمحتسب لابن جني، فراجعها هناك.
(٢) الأثر: ١٢٩٥٧ -"أحمد بن يوسف التغلبي الأحول"، مضى برقم: ٥٩١٩، ٥٩٥٤، ٧٦٦٤، وكان في المطبوعة هنا"الثعلبي"، وهو خطأ بيناه هناك.
و"عباد بن عباد الرملي الأرسوفي"، "أبو عتبة الخواص". روى عن ابن عون. مترجم في التهذيب.
(٣) في المطبوعة: "وخفض إنا لقراءة الشعبي"، وهو خلط لا معنى له، صوابه من المخطوطة.
178
وكان ابن زيد يقول في معنى ذلك: ولا نكتم شهادة الله، وإن كان بعيدًا. (١)
١٢٩٥٨ - حدثني بذلك يونس قال، أخبرنا ابن زيد، عنه.
القول في تأويل قوله: ﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن عُثِر"، فإن اطُّلع منهما أو ظهر. (٢)
وأصل"العثر"، الوقوع على الشيء والسقوط عليه، ومن ذلك قولهم:"عثرت إصبع فلان بكذا"، إذا صدمته وأصابته ووقعت عليه، ومنه قول الأعشي ميمون بن قيس:
بِذَاتِ لَوْثٍ عَفَرْنَاةٍ إذَا عَثَرَتْ فَالتَّعْسُ أَدْنَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعَا (٣)
(١) في المطبوعة: "وإن كان صاحبها بعيدًا"، وأثبت ما في المخطوطة، وأنا في شك منه على كل حال، أخشى أن يكون سقط من الكلام شيء. ولم أجد مقالة ابن زيد فيما بين يدي من الكتب.
(٢) في المطبوعة: "فيهما"، والصواب"منهما".
(٣) ديوانه: ٨٣، من قصيدته في هوذة بن علي الحنفي، وقد مضى خبرها ٢: ٩٤، تعليق: ١، ومضى منها أبيات في ١: ١٠٦/٢: ٥٤٠، وقيل البيت في ذكر أرض مخوفة الليل، وهي"البلدة" المذكورة في البيت التالي:
وَبَلْدَةٍ يَرْهَبُ الجَوًّابُ دُلْجَتَهَا حَتَّى تَرَاهُ عَلَيْهَا يَبْتَغِي الشِّيَعَا
لاَ يَسْمَعُ المَرْءُ فِيهَا مَا يُؤَنِّسُهُ بِاللَّيْلِ إلاَّ نَئِيمَ البُومِ والضُّوَعَا
كَلَّفْتُ مَجْهُولَها نَفْسِي، وَشَايَعَنِي هَمِّي عَلَيْهَا، إذَا مَا آلُهَا لَمَعَا
"الدلجة": سير الليل. و"الشيع" الأصحاب. و"النئيم": صوت البوم، أو الصوت الضعيف من صوته. و"الضوع"، طائر من طيور الليل، إذا أحس بالصباح صدح، وقيل هو: "الكروان". و"الآل" السراب، و"اللوث": القوة، يصف ناقته أنها ذات لحم وشحم، قوية على السير. وقوله: "بذات لوث"، متعلق بقوله: "كلفت" و"عفرناة" (بفتح العين والفاء) صفة للناقة بأنها قوية كأنها من نشاطها مجنونة. و"التعس"؛ الانحطاط والعثور.
وقوله: "ولعًا"، كلمة تقال للعاثر، يدعى له بأن ينتعش من عثرته، ومعناها الارتفاع، "لعا لفلان" أي أقامه الله من عثرته، لما وصف الأعشي ناقته بالقوة والنشاط، أنكر أن يكون لها عثرة في سرعتها، فإذا عثرت، كان الدعاء عليها بأن يكبها الله لمنخريها، أولى به من أن يدعو بإقالة عثرتها.
179
يعني بقوله:"عثرت"، أصاب منسِمُ خُفِّها حجرًا أو غيرَه. (١) ثم يستعمل ذلك في كل واقع على شيء كان عنه خفيًّا، كقولهم: (عَثَرتْ على الغَزْل بأَخَرة* فلم تَدَعْ بنَجْدٍ قَرَدَةَ)، بمعنى: وقعت. (٢)
* * *
وأما قوله:"على أنهما استحقا إثمًا"، فإنه يقول تعالى ذكره: فإن اطلع من الوصيين اللذين ذكر الله أمرهما في هذه الآية = بعد حلفهما بالله: لا نشتري بأيماننا ثمنًا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله ="على أنهما استحقا إثمًا"، يقول: على أنهما استوجبا بأيمانهما التي حلفا بها إثمًا، وذلك أن يطلع على أنهما كانا كاذبين في أيمانهما بالله ما خُنّا ولا بدَّلنا ولا غيَّرنا. فإن وجدا قد خانا من مال الميت شيئًا، أو غيرا وصيته، أو بدّلا فأثما بذلك من حلفهما بربهما (٣) ="فآخران يقومان مقامهما"، يقول، يقوم حينئذ مقامهما من ورثة الميت، الأوليان الموصَى إليهما.
(١) في المطبوعة: "ميسم خفها حجر أو غيره"، والصواب ما أثبت. و"المنسم" (بفتح فسكون فكسر) : طرف خف البعير، والنعامة والفيل. و"منسما البعير" ظفراه اللذان في يديه، وهما له كالظفر للإنسان.
(٢) هذا مثل. مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٨١، الأمثال للميداني ١: ٣٩٥، والأمثال لأبي هلال العسكري: ١٤٢. قوله"بأخرة" (بفتح الألف والخاء والراء) أي: أخيرًا. تقول: "ما عرفته إلا بأخرة"، أي: أخيرًا."ونجد"، هي الأرض المعروفة."قردة". وجمعها"قرد" (كله بفتحات)، هو: ما تمعط من الوبر والصوف وتلبد، وهو نفاية الصوف. وأصله أن المرأة تترك الغزل وهي تجد ما تغزل من قطن أو كتان، حتى إذا فاتها، تتبعت القرد (نفاية الصوف) في القمامات، ملتقطة لتغزله. ويضرب مثلا في التفريط مع الإمكان، ثم الطلب مع الفوت. قال أبو هلال: "وهذا مثل قول العامة: نعوذ بالله من الكسلان إذا نشط". وروى هذا المثل صاحب لسان العرب في (قرد)، ونصه"عكرت على الغزل..."، وفسره"عكرت، أي: عطفت". وهو بهذه الرواية لا شاهد فيه.
(٣) قوله"فأثما... بربهما"، انظر ما قلت في"أثم بربه" فيما سلف ٤: ٥٣٠ تعليق: ٣، / ثم ٦: ٩٢، تعليق: ٢، وبيانه هناك.
180
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٩٥٩ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير:"أو آخران من غيركم"، قال: إذا كان الرجل بأرض الشرك، فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب، فإنهما يحلفان بعد العصر. فإذا اطُّلع عليهما بعد حلفهما أنهما خانا شيئًا، حلف أولياء الميت أنه كان كذا وكذا، ثم استحقوا.
١٢٩٦٠ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، بمثله.
١٢٩٦١ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"أو آخران من غيركم"، من غير المسلمين="تحبسونهما من بعد الصلاة"، فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله: ما اشترينا بشهادتنا ثمنًا قليلا. فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما، قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله:"إن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد". فذلك قوله:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا"، يقول: إن اطلع على أنّ الكافرَيْن كذبا ="فآخران يقومان مقامهما"، يقول: من الأولياء، فحلفا بالله:"إن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد"، فتردّ شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء.
١٩٢٦٢ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا"، أي: اطلع منهما على خيانة أنهما كذبا أو كتما.
* * *
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي له حَكَم اللهُ تعالى ذكره على الشاهدين
181
بالأيمان فنقلها إلى الآخرين، (١) بعد أن عثر عليهما أنهما استحقا إثمًا.
فقال بعضهم: إنما ألزمهما اليمين، إذا ارتيب في شهادتهما على الميت في وصيته أنه أوصى بغير الذي يجوز في حكم الإسلام. (٢) وذلك أن يشهد أنه أوصى بماله كله، أو أوصى أن يفضل بعض ولده ببعض ماله.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٩٦٣ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت" إلى قوله:"ذوا عدل منكم"، من أهل الإسلام ="أو آخران من غيركم"، من غير أهل الإسلام ="إن أنتم ضربتم في الأرض" إلى:"فيقسمان بالله"، يقول: فيحلفان بالله بعد الصلاة، فإن حلفا على شيء يخالف ما أنزل الله تعالى ذكره من الفريضة، (٣) يعني اللذين ليسا من أهل الإسلام="فآخران يقومان مقامهما"، من أولياء الميت، فيحلفان بالله:"ما كان صاحبنا ليوصي بهذا"، أو:"إنهما لكاذبان، ولشهادتنا أحق من شهادتهما".
١٢٩٦٤ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السديّ قال: يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، يحلفان بالله: لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين"، إن صاحبكم لبهذا أوصى، وإنّ هذه لتركته: فإذا شهدا، وأجاز الإمام شهادتهما على ما شهدا، قال لأولياء الرجل: اذهبوا فاضربوا في الأرض واسألوا عنهما، فإن أنتم وجدتم عليهما خيانة، أو أحدًا يطعُن عليهما، رددنا شهادتهما. فينطلق الأولياء فيسألون، فإن وجدوا أحدًا يطعُن عليهما، أو هما غير
(١) في المخطوطة: "فمن نقلها"، والصواب ما في المطبوعة، أو شبيه بالصواب.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "لغير الذي يجوز"، وصواب قراءتها ما أثبت.
(٣) "الفريضة"، يعني المواريث.
182
مرضيين عندهم، أو اطُّلع على أنهما خانا شيئًا من المال وجدُوه عندهما، أقبل الأولياء فشهدوا عند الإمام، (١) وحلفوا بالله:"لشهادتنا إنهما لخائنان متهمان في دينهما مطعون عليها، أحق من شهادتهما بما شهدا، وما اعتدينا". فذلك قوله:"فإن عُثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان".
* * *
وقال آخرون: بل إنما ألزم الشاهدان اليمين، لأنهما ادَّعيا أنه أوصى لهما ببعض المال. وإنما ينقل إلى الآخرين من أجل ذلك، إذا ارتابوا بدعواهما. (٢)
* ذكر من قال ذلك:
١٢٩٦٥ - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر في قوله:"تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله"، قال: زعما أنه أوصى لهما بكذا وكذا ="فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا". أي بدعواهما لأنفسهما ="فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان"، أنّ صاحبنا لم يوص إليكما بشيء مما تقولان.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أنّ الشاهدين ألزما اليمينَ في ذلك باتهام ورثة الميت إياهما فيما دفع إليهما الميت من ماله، ودعواهم قبلهما خيانةَ مالٍ معلوم المبلغ، ونقلت بعد إلى الورثة عند ظهور الريبة التي كانت من الورثة فيهما، وصحة التهمة عليهما بشهادة شاهد عليهما أو على أحدهما، فيحلف الوارث حينئذ مع شهادة الشاهد عليهما، أو على أحدهما، إنما صحح دعواه إذا حُقِّق حقه = أو: الإقرار يكون من الشهود ببعض ما ادَّعى عليهما الوارث أو بجميعه، ثم
(١) في المطبوعة: "فأقبل الأولياء فشهدوا"، وفي المخطوطة: "فأقبل الأولياء شهدوا"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(٢) في المخطوطة: "إذا ارتابا".
183
دعواهما في الذي أقرّا به من مال الميت ما لا يقبل فيه دعواهما إلا ببينة، ثم لا يكون لهما على دعواهما تلك بيِّنة، فينقل حينئذ اليمين إلى أولياء الميت.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصحة، لأنا لا نعلم من أحكام الإسلام حكمًا يجب فيه اليمين على الشهود، ارتيب بشهادتهما أو لم يُرْتَبْ بها، فيكون الحكم في هذه الشهادة نظيرًا لذلك = ولا -إذا لم نجد ذلك كذلك- صحّ بخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، (١) ولا بإجماع من الأمة. لأن استحلاف الشهود في هذا الموضع من حكم الله تعالى ذكره، فيكون أصلا مسلمًا. والقول إذا خرج من أن يكون أصلا أو نظيرًا لأصل فيما تنازعت فيه الأمة، كان واضحًا فسادُه.
وإذا فسد هذا القول بما ذكرنا، فالقول بأن الشاهدين استحلفا من أجل أنهما ادّعيا على الميت وصية لهما بمال من ماله، أفسد (٢) = من أجل أن أهل العلم لا خلاف بينهم في أنّ من حكم الله تعالى ذكره أن مدّعيًا لو ادّعى في مال ميت وصية، أنّ القول قولُ ورثة المدعي في ماله الوصية مع أيمانهم، دون قول مدعي ذلك مع يمينه، وذلك إذا لم يكن للمدعي بينة. وقد جعل الله تعالى اليمين في هذه الآية على الشهود إذا ارتيب بهما، وإنما نُقِل الأيمانُ عنهم إلى أولياء الميت، إذا عثر على أن الشهود استحقوا إثمًا في أيمانهم. فمعلوم بذلك فساد قول من قال:"ألزم اليمينَ الشهودُ، لدعواهم لأنفسهم وصية أوصى بها لهم الميت من ماله".
على أن ما قلنا في ذلك عن أهل التأويل هو التأويل الذي وردت به الأخبارُ عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله ﷺ قَضَى به حين نزلت هذه الآية، بين الذين نزلت فيهم وبسببهم.
* ذكر من قال ذلك:
(١) في المطبوعة: "فلم نجد ذلك كذلك صح..."، وأثبت ما في المخطوطة، وسياقه"ولا... صح بخير عن الرسول"، وقوله: "إذا لم نجد ذلك كذلك" اعتراض.
(٢) السياق: "فالقول بأن الشاهدين... أفسد"، يعني: أفسد من القول السابق.
184
١٢٩٦٦- حدثني ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن يحيى بن أبي زائدة، عن محمد بن أبي القاسم، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداريّ وعديّ بن بدَّاء، فمات السَّهمي بأرض ليس فيها مسلم. فلما قدِما بتركته، فقدوا جامًا من فضة مخوَّصًا بالذهب، (١) فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم وُجِد الجام بمكة، فقالوا: اشتريناه من تميم الداريّ وعديّ بن بدّاء! فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا:"لشهادتنا أحق من شهادتهما"، وأنّ الجام لصاحبهم. قال: وفيهم أنزلت:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم". (٢)
(١) "الجام": إناء من فضة، وهو عربي صحيح."مخوص بالذهب": عليه صفائح من ذهب على هيئة خوص النخل، وهو ورقه. و"التخويص": أن يجعل على الشيء صفائح من الذهب، على قدر عرض خوص النخل.
(٢) الأثر: ١٢٩٦٦ -"محمد بن أبي القاسم"، الطويل، الكوفي. روى عن أبيه، وعبد الله وعبد الملك، ابني سعيد بن جبير، وعن عكرمة. وروى عنه يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وأبو أسامة، وحماد بن أسامة. وثقه ابن معين، وأبو حاتم. وقال البجيري وقال البخاري": "لا أعرف محمد بن أبي القاسم كما أشتهي، وكان علي بن عبد الله يستحسن هذا الحديث (يعني حديث تميم الداري) قيل له: رواه غير محمد بن أبي القاسم؟ قال: لا. قال: وروى عنه أبو أسامة، إلا أنه غير مشهور". وقال الحافظ ابن حجر، بعد ذكر محمد بن أبي القاسم: "وما له في البخاري، ولا لشيخه عبد الملك بن سعيد بن جبير، غير هذا الحديث الواحد. ورجال الإسناد الإسناد، ما بين علي بن عبد الله المديني (شيخ البخاري)، وابن عباس، كوفيون".
و"عبد الملك بن سعيد بن جبير الأسدي"، الكوفي، عزيز الحديث، ثقة. مضى برقم: ١٢٧٧٦.
و"تميم الداري"، هو"تميم بن أوس بن خارجة اللخمي"، منسوب إلى جده"الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم"، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، سنة تسع وأسلم. وكان نصرانيا، وهو الذي قال لرسول الله: "ألا أعمل لك منبرًا كما رأيت يصنع بالشأم! " فصنع المنبر. وكان عابدًا.
وأما "عدي بن بداء" (بتشديد الدال)، فكان نصرانيا، ذكر أنه أسلم، ولكن صحح ابن حجر في ترجمته في الإصابة أنه مات نصرانيًّا.
وهذا الحديث، رواه البخاري في صحيحه (الفتح ٥: ٣٠٧ ٣٠٩)، وفي التاريخ الكبير ١/١/٢١٥، وأبو داود في سننه ٣: ٤١٨، ورقم: ٣٦٠٦، والبيهقي في السنن الكبرى ١٠: ١٦٥، وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: ١٣٣، وأحكام القرآن للجصاص ٢: ٤٩٠، والترمذي في سننه (في كتاب التفسير)، وقال: "هذا حديث حسن غريب، وهو حديث ابن أبي زائدة".
وذكره ابن كثير في تفسيره ٣: ٢٦٦، نقلا عن الطبري، ولم يذكر روايته في صحيح البخاري. وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٤٢، فقصر في نسبته إلى البخاري في صحيحه، ونسبه إليه في التاريخ، ثم زاد نسبته إلى ابن المنذر، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
185
١٢٩٦٧ - حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني قال، حدثنا محمد بن سلمة الحراني قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن أبي النضر، عن باذان مولى أم هانئ ابنة أبي طالب، عن ابن عباس، عن تميم الدرايّ في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت"، قال: برئ الناس منها غيري وغير عديّ بن بدّاء = وكانا نصرانيّين يختلفان إلى الشأم قبل الإسلام. فأتيا الشأم لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بريل بن أبي مريم بتجارة، ومعه جامُ فضّة يريد به الملك، وهو عُظم تجارته، (١) فمرض، فأوصى إليهما، وأمرهما أن يُبلغا ما ترك أهله. قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجامَ فبعناه بألف درهم، فقسمناه أنا وعديّ بن بدّاء، [فلما قدمنا إلى أهله، دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام، فسألوا عنه]، (٢) فقلنا: ما ترك غيرَ هذا، وما دفع إلينا غيره: قال تميم: فلما أسلمتُ بعد قدوم رسول الله ﷺ المدينة، تأثَّمت من ذلك، (٣) فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، وأدّيت إليهم خمسمئة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها! فوثبوا إليه، (٤) فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(١) في المخطوطة: "وهي عظم"، وأثبت ما في المطبوعة، لمطابقته لما في المراجع الأخرى. وقوله: "عظم تجارته"، أي: معظمها، يعني أن الجام كان أنفس ما معه وأغلاه ثمنًا.
(٢) هذه الجملة التي بين القوسين، ليست في المخطوطة ولا المطبوعة، وهي ثابتة في المراجع الأخرى، وأثبتها من نص الناسخ والمنسوخ.
(٣) "تأثم من الشيء"، تحرج منه، ووجده إثمًا يريد البراءة منه.
(٤) قوله: "فوثبوا إليه"، حذفها ناشر المطبوعة، وهي ثابتة في المخطوطة، وفي الناسخ والمنسوخ.
186
فسألهم البينة، فلم يجدوا. فأمرهم أن يستحلفوه بما يُعَظَّم به على أهل دينه، فحلف، فأنزل الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى قوله:"أن ترد أيمان بعد أيمانهم"، فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا، (١) فنزعتُ الخمسمئة من عدي بن بدَّاء. (٢)
١٢٩٦٨ - حدثنا القاسم، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة وابن سيرين وغيره = قال، وثنا الحجاجُ، عن ابن جريج، عن عكرمة = دخل حديث بعضهم في بعض:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" الآية، قال: كان عدي وتميم الداري، وهما من لَخْم، نصرانيَّان، يتَّجران إلى مكة في الجاهلية. فلما هاجرَ رسول الله ﷺ حوَّلا متجرهما إلى المدينة، فقدم ابن أبي مارية، مولى عمرو بن العاص المدينة، وهو يريد الشأم تاجرًا، فخرجوا جميعًا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، مرض ابن أبي مارية، فكتب وصيَّته بيده تم دسَّها في متاعه، ثم أوصى إليهما. فلما مات فتحا متاعه، فأخذا ما أرادا، ثم قدما على أهله فدفعا ما أرادا، ففتح أهله متاعه، فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به، وفقدوا شيئًا، فسألوهما عنه، فقالوا: هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا. قال لهما أهله: فباع شيئًا أو ابتاعه؟ قالا لا! قالوا: فهل استهلك من متاعه شيئًا؟ (٣) قالا لا! قالوا: فهل تَجَر
(١) في المخطوطة: "حلفا"، بغير فاء، وأثبت ما في المطبوعة والمراجع.
(٢) الأثر: ١٢٩٦٧ -"الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني"، "أبو مسلم الحراني"، ثقة مأمون، مضت ترجمته برقم: ١٠٤١١، وكان في المطبوعة هنا: "الحسن بن أبي شعيب" أسقط"بن أحمد"، مع ثبوتها في المخطوطة، وعذره أنه رأى الناسخ كتب"الحسن بن يحيى أحمد قال ابن أبي شعيب"، وضرب على"يحيى" وعلى"قال"، فضرب هو أيضا على"بن أحمد" فحذفها! ! وهو تساهل رديء.
و"محمد بن سلمة الحراني الباهلي"، ثقة، مضت ترجمته برقم: ١٧٥، وقد ورد في إسناد محمد ابن إسحق، مئات من المرات.
و"أبو النضر" هو"محمد بن السائب الكلبي"، ضعيف جدًا، رمي بالكذب. وقد روى الثوري عن الكلبي نفسه أنه قال: "ما حدثت عني، عن أبي صالح، عن ابن عباس، فهو كذب، فلا تروه". مضت ترجمته برقم: ٧٢، ٢٤٦، ٢٤٨.
وأما "باذان، مولى أم هانئ"، أو "باذام" فهو "أبو صالح"، ثقة، مضى برقم: ١١٢، ١٦٨ وغيرها. وهو مترجم في التهذيب، والكبير ١/٢/١٤٤، وابن أبي حاتم ١/١/٤٣١.
وكان في المطبوعة والمخطوطة، والناسخ والمنسوخ جميعًا"زاذان، مولى أم هانئ"، وهذا شيء لم يقله أحد، ولذلك غيرته إلى الصواب الذي أجمعوا عليه، وكأنه خطأ من الناسخ.
وأما "تميم الداري"، و"عدي بن بداء" فقد سلفا في الأثر السابق.
وأما "بريل بن أبي مريم"، مولى بني سهم، أو مولى عمرو بن العاص السهمي، صاحب هذه التجارة، فقد ترجم له ابن حجر في الإصابة في"بديل" بالدال، وكذلك ابن الأثير في أسد الغابة. وكان بديل مسلمًا من المهاجرين.
يقال في اسمه"بديل بن أبي مريم"، و"بديل بن أبي مارية"، ثم اختلف في"بديل"، فروي بالدال، وروي"بريل" بالراء، وروي"بزيل" بالزاي، وروي"برير"، وقال ابن الأثير: "والذي ذكره الأئمة في كتبهم: يزيل، بضم الباء وبالزاي، ونحن نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى". هكذا قال ووعد، ثم لم أجد له ذكرًا في كتابه بعد ذلك، فلا أدري أنسي ابن الأثير، أم في كتابه خرم أو نقص!!
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ٥: ٣٠٨، ما لم يذكره في الإصابة، فقال: "بزيل" بموحدة، وزاي، مصغر. وكذا ضبطه ابن ماكولا، ووقع في رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن تميم نفسه عنه الترمذي والطبري (يعني هذا الخبر) : بديل، بدال، بدل الزاي. ورأيته في نسخة من تفسير الطبري: بريل، براء بغير نقطة. ولابن مندة من طريق السدي، عن الكلبي: بديل بن أبي مارية". ثم قال: "ووهم من قال فيه: بديل بن ورقاء، فإنه خزاعي، وهذا سهمي، وكذا وهم من ضبطه بذيل، بالذال المعجمة".
وكان في المطبوعة"بديل"، ولكني أثبت ما في المخطوطة، وأخشى أن تكون مخطوطتنا هذه، هي"النسخة الصحيحة من تفسير الطبري" التي ذكرها الحافظ ابن حجر، أو هي منقولة عن النسخة التي ذكرها ووصفها وصححها.
وهذا الخبر، رواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: ١٣٣، والترمذي في سننه في كتاب التفسير؛ بهذا الإسناد نفسه. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، وليس إسناده بصحيح. وأبو النضر، الذي روى عنه محمد بن إسحق هذا الحديث، هو عندي: محمد بن السائب الكلبي، يكنى أبا النضر، وقد تركه أهل العلم بالحديث، وهو صاحب التفسير. سمعت محمد بن إسمعيل. يقول: محمد بن سائب الكلبي، يكنى أبا النضر، ولا نعرف لسالم أبي النضر المديني رواية عن أبي صالح (باذان) مولى أم هانئ. وقد روي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار، عن غير هذا الوجه"، ثم ساق الترمذي الأثر السالف بإسناده.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٤١، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وأبي نعيم في المعرفة.
(٣) قولهم: "فهل استهلك من متاعه شيئًا"، أي: أضاعه وافتقده، وهذا حرف لم تقيده كتب اللغة، استظهرت معناه من السياق. وقد جاء في حديث عائشة (صحيح مسلم ٢: ٥٩، وتفسير الطبري رقم: ٩٦٤٠) أن عائشة: "استعارت من أسماء قلادة فهلكت"، أي: ضاعت، كما فسرته فيما سلف ٨: ٤٠٤، رقم: ٢. فقوله: "استهلك" هنا، من معنى هذا الحرف الذي لم تقيده كتب اللغة ببيان واضح، وهو"استفعل"، بمعنى: وجده قد ضاع. وهو من صحيح القياس وجيده، وهذا شاهده إن شاء الله.
187
تجارة؟ (١) قالا لا! قالوا: فإنا قد فقدنا بعضَه! فاتُّهما، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت" إلى قوله:"إنا إذا لمن الآثمين". قال: فأمر رسول الله ﷺ أن يستحلفوهما في دُبُر صلاة العصر: بالله الذي لا إله إلا هو، ما قبضنا له غيرَ هذا، ولا كتمنا". قال: فمكثنا ما شاء الله أن يمكثَا، (٢) ثم ظُهِرَ معهما على إناء من فضةٍ منقوش مموَّه بذهب، (٣) فقال، أهله: هذا من متاعه؟ قالا نعم، ولكنا اشترينا منه، ونسينا أن نذكره حين حلفنا، فكرهنا أن نكذِّب أنفسنا! (٤) فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية الأخرى:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان"، فأمر رسول الله ﷺ رجلين من أهل الميت أن يحلفا على ما كتما وغيَّبا ويستحقَّانه. ثم إنّ تميمًا الداري أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: صدق الله ورسوله: أنا أخذت الإناء! (٥)
١٢٩٦٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم"، الآية كلها. قال: هذا شيء [كان] حين لم يكن الإسلام إلا بالمدينة، (٦) وكانت الأرض كلها كفرًا، (٧) فقال الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم"، من المسلمين ="أو آخران من غيركم"، من غير أهل الإسلام ="إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت"، قال: كان الرجل يخرج مسافرًا، والعرب أهلُ كفر، فعسى أن يموت في سفره، فيُسند وصيته إلى رجلين منهم ="فيقسمان بالله إن ارتبتم"، في أمرهما. إذا قال الورثة: كان مع صاحبنا كذا وكذا، فيقسمان بالله: ما كان معه إلا هذا الذي قلنا ="فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا"، أنما حلفا على باطل وكذب ="فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان" بالميت ="فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذًا لمن الظالمين"، ذكرنا أنه كان مع صاحبنا كذا وكذا، قال هؤلاء: لم يكن معه! قال: ثم عثر على بعض المتاع عندهما، فلما عثر على ذلك رُدّت القسامة على وارثه، (٨) فأقسما، ثم ضمن هذان. قال الله تعالى:"ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم"، (٩) فتبطل أيمانهم ="واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين"، الكاذبين، الذين يحلفون على الكذب. وقال ابن زيد: قدم تميمٌ الداريّ وصاحب له، وكانا يومئذ مشركين، ولم يكونا أسلما، فأخبرا أنهما أوصى إليهما رجلٌ، وجاءا بتركته. فقال أولياء الميت:
(١) "تجر يتجر تجرًا وتجارة" (على وزن: نصر ينصر) : باع وشرى. وأرادوا به هنا معنى الشراء بالعوض، فيما أستظهر، فإنهم قد سألوه قبل عن البيع والابتياع.
(٢) في المطبوعة: "فمكثنا ما شاء الله أن نمكث"، غير الناشر ما في المخطوطة، وأفسد.
(٣) "ظهر" (بالبناء للمجهول)، أي: عثر معها على إناء.
(٤) في المخطوطة: "نفسا" غير منقوطة، ولو شئت قرأتها: "نفسينا"، مكان"أنفسنا"، وهما صواب.
(٥) الأثر: ١٢٩٦٨ -"أبو سفيان" هو: المعمري، "محمد بن حميد اليشكري"، مضى برقم: ١٧٨٧، ٨٨٢٩.
و"الحسين" الراوي عنه، هو"سنيد بن داود"، مضى مرارًا.
و"ابن أبي مارية"، هو"بديل بن أبي مارية"، وقد بينت ذلك في التعليق على الأثر السالف.
وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور ٢: ٣٤٢، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
(٦) الزيادة بين القوسين، لا بد منها للسياق، وكان في المخطوطة: "... لم يكن السلام"، والصواب ما في المطبوعة.
(٧) في المطبوعة: "كفر" بالرفع، وأخشى أن يكون الأصل: "وكانت الأرض كلها دار كفر"، أو ما أشبه ذلك، وتركت ما في المطبوعة على حاله، وهو صواب أيضًا.
(٨) "القسامة" (بفتح القاف)، أراد بها هنا: اليمين.
(٩) قوله تعالى: "بعد أيمانهم" لم تكن في المخطوطة ولا المطبوعة، والصواب إثباتها.
189
كان مع صاحبنا كذا وكذا، وكان معه إبريق فضة! وقال الآخران: لم يكن معه إلا الذي جئنا به! فحلفا خَلْف الصلاة، ثم عثر عليهما بعدُ والإبريق معهما. فلما عثر عليهما، رُدَّت القسامة على أولياء الميت بالذي قالوا مع صاحبهم، ثم ضمنهما الذي حلف عليه الأوليان.
١٢٩٧٠- حدثنا الربيع قال، حدثنا الشافعي قال، أخبرنا أبو سعيد معاذ بن موسى الجعفري، عن بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان = قال بكير، قال مقاتل: أخذت هذا التفسير عن مجاهد والحسن والضحاك = في قول الله:"اثنان ذوا عدل منكم"، أن رجلين نصرانيين من أهل دارِين، أحدهما تميمي، والآخر يماني، صاحَبهما مولًى لقريش في تجارة، فركبوا البحر، ومع القرشي مال معلومٌ قد علمه أولياؤه، من بين آنية وبزّ ورِقَة. (١) فمرض القرشي، فجعل وصيته إلى الداريّين، فمات، وقبض الداريّان المال والوصية، فدفعاه إلى أولياء الميت، وجاءا ببعض ماله، وأنكر القوم قلّة المال، فقالوا للداريَّين: إن صاحبنا قد خرج معه بمال أكثر مما أتيتمونا به، فهل باع شيئًا أو اشترى شيئًا، فوُضِع فيه، (٢) وهل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا لا! قالوا: فإنكما خنتمانا! فقبضوا المال، ورفعوا أمرهما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم" إلى آخر الآية. فلما نزل: أن يُحْبسا من بعد الصلاة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقاما بعد الصلاة، فحلفا بالله رب السموات:"ما ترك مولاكم من المال إلا ما أتيناكم به، وإنا لا نشتري بأيماننا
(١) "البز": الثياب، أو ضروب منها، وبائعها يقال له: "البزاز". و"الرقة" (بكسر الراء وفتح القاف) : الفضة، وأصلها"الورق" (بفتح الواو وكسر الراء)، ثم حذفت الواو، وجعلت الهاء في آخرها عوضًا عن الواو.
(٢) يقال: "وضع في تجارته يوضع ضعة، ووضيعة فهو موضوع فيها" ويقال: "أوضع" (كلاهما بالبناء للمجهول)، ويقال: "وضع في تجارته وضعًا" (مثل: فرح فرحًا) : غبن فيها، وخسر من رأس المال.
191
ثمنًا قليلا من الدنيا، ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين". فلما حلفا خلَّى سبيلهما. ثم إنهم وجدوا بعد ذلك إناءً من آنية الميت، فأُخذ الداريَّان، فقالا اشتريناه منه في حياته! وكذبا، فكلِّفا البينة، فلم يقدرا عليها. فرفعوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره:"فإن عثر"، يقول: فإن اطُّلع ="على أنهما استحقا إثمًا"، يعني الداريين، إن كتما حقًّا ="فآخران"، من أولياء الميت ="يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان"، فيقسمان بالله:"إنّ مال صاحبنا كان كذا وكذا، وإن الذي يُطلب قبل الداريين لحقّ، وما اعتدينا إنا إذًا لمن الظالمين"، هذا قول الشاهدين أولياء الميت ="ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها"، يعني: الداريَّين والناس، أن يعودوا لمثل ذلك. (١)
* * *
قال أبو جعفر: ففيما ذكرنا من هذه الأخبار التي روينا، دليلٌ واضح على صحة ما قلنا، من أنّ حكم الله تعالى ذكره باليمين على الشاهدين في هذا الموضع، إنما هو من أجل دعوى وَرَثته على المسنَد إليهما الوصية، خيانةً فيما دفع الميت من ماله إليهما، أو غير ذلك مما لا يبرأ فيه المدعي ذلك قِبَله إلا بيمين = وأن نقل اليمين إلى ورثة الميت بما أوجبه الله تعالى ذكره، بعد أن عثر على الشاهدين [أنهما استحقا إثمًا]، في أيمانهما، (٢) ثم ظُهِر على كذبهما فيها، إن القوم ادَّعوا
(١) الأثر: ١٢٩٧٠ -"معاذ بن موسى الجعفري"، "أبو سعيد"، لم أجد له ترجمة إلا في تعجيل المنفعة: ٤٠٦، لم يزد على أن قال: "معاذ بن موسى، عن بكير بن معروف.
وعند الشافعي، رحمه الله تعالى". وكان في المطبوعة: "سعيد بن معاذ بن موسى" وهو خطأ، مخالف للمخطوطة.
و"بكير بن معروف الأسدي"، "أبو معاذ النيسابوري، الدامغاني" صاحب التفسير، وهو صاحب مقاتل. قال ابن عدي: "ليس بكثير الرواية، وأرجو أنه لا بأس به، وليس حديثه بالمنكر جدًا"، مترجم في التهذيب، والكبير ١/٢/١١٧، وابن أبي حاتم ١/١/٤٠٦.
وكان في المطبوعة: "بكر"، وهو خطأ صرف.
وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى ١٠: ١٦٤ من طريق إسمعيل بن قتيبة، عن أبي خالد يزيد بن صالح، عن بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان. ثم رواه (١٠: ١٦٥) من طريق أبي العباس الأصم، عن الربيع بن سليمان، عن الشافعي، ثم أحال لفظه على الذي قبله.
(٢) هذه الزيادة بين القوسين، لا بد منها، استظهرتها من نص الآية.
192
فيما صَحَّ أنه كان للميت دعوًى من انتقال ملك عنه إليهما ببعض ما تزول به الأملاك، مما يكون اليمينُ فيها على ورثة الميت دون المدَّعَى، وتكون البينة فيها على المدعي= وفسادِ ما خالف في هذه الآية ما قلنا من التأويل. (١)
وفيها أيضًا، (٢) البيانُ الواضح على أن معنى"الشهادة" التي ذكرها الله تعالى في أول هذه القصة إنما هي اليمين، كما قال الله تعالى في مواضع أُخر: والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، [سورة النور: ٦]. فالشهادة في هذا الموضع، معناها القَسم، من قول القائل:"أشهد بالله إني لمن الصادقين"، (٣) وكذلك معنى قوله:"شهادة بينكم" إنما هو: قسَم بينكم ="إذا حضر أحدكم الموتُ حين الوصية"، أن يقسم اثنان ذوا عدل منكم، إن كانا اتُّمنا على مال فارتيب بهما، أو اتُّمِنَ آخران من غير المؤمنين فاتُّهما. (٤) وذلك أن الله تعالى ذكره، لما ذكر نقل اليمين من اللذين ظُهر على خيانتهما إلى الآخرين، قال:"فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما". ومعلومٌ أنّ أولياء الميت المدعين قِبل اللذين ظُهر على خيانتهما، غير جائز أن يكونا شهداء، بمعنى الشهادة التي يؤخذ بها في الحكم حق مدعًى عليه لمدّع. لأنه لا يعلم لله تعالى ذكره حكم قضى فيه لأحد بدعواه ويمينه على مدعًى عليه بغير بينة ولا إقرار من المدعَى عليه ولا برهان. فإذ كان معلومًا أن قوله:"لشهادتنا أحق من شهادتهما"، إنما معناه: قسمُنا أحق من قَسَمهما = وكان قسم اللذين عُثر على أنهما أثِمَا، هو الشهادة التي ذكر
(١) في المطبوعة: "مما قلنا من التأويل"، وفي المخطوطة: "ما قبلنا من التأويل"، وصواب القراءة ما أثبت.
(٢) قوله: "وفيها أيضًا"، الضمير عائد على قوله في أول الفقرة السالفة: "ففيما ذكرنا من هذه الأخبار التي روينا"، وهي عطف عليه.
(٣) في المطبوعة: "إنه لمن الصادقين"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٤) انظر ما كتبه في"اتمن" فيما سلف ص: ١٧٢، تعليق: ١، ٢
193
الله ذكره تعالى في قوله:"أحق من شهادتهما" = صحَّ أن معنى قوله:"شهادة بينكم"، بمعنى:"الشهادة" في قوله:"لشهادتنا أحق من شهادتهما"، وأنها بمعنى القسم.
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"من الذين استحق عليهم الأوليان".
فقرأ ذلك قرأة الحجاز والعراق والشأم: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ، بضم"التاء".
* * *
وروي عن علي، وأبيّ بن كعب، والحسن البصري أنهم قرءوا ذلك: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ، بفتح"التاء".
* * *
واختلفت أيضًا في قراءة قوله:"الأوليان".
فقرأته عامة قراء أهل المدينة والشأم والبصرة: (الأَوْلَيَان).
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة: (الأَوَّلِينَ).
* * *
وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الأَوَّلانِ).
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في قوله:"من الذين استحق عليهم"، قراءة من قرأ بضم"التاء"، لإجماع الحجة من القرأة عليه، مع مشايعة عامة أهل التأويل على صحة تأويله، (١) وذلك إجماع عامتهم على أن تأويله: فآخران من أهل الميت، الذين استحق المؤتمنان على مال الميت الإثم فيهم،
(١) في المطبوعة: "مع مساعدة أهل التأويل"، وفي المخطوطة: "مع مساعه" غير منقوطة، وآثرت قراءتها كما كتبتها. و"المشايعة"، الموافقة والمتابعة.
194
يقومان مقام المستحقَّيْ الإثم فيهما، بخيانتهما ما خانَا من مال الميت.
وقد ذكرنا قائلي ذلك، أو أكثر قائليه، فيما مضى قبل، ونحن ذاكُرو باقيهم إن شاء الله ذلك:
١٢٩٧١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"شهادة بينكم"، أن يموت المؤمن فيحضر موته مسلمان أو كافران، لا يحضُره غير اثنين منهم. فإن رضي ورَثته ما عاجل عليه من تركته فذاك، وحلف الشاهدان إن اتُّهما: إنهما لصادقان ="فإن عثر" وُجد......... ، (١) حلف الاثنان الأوليان من الورثة، فاستحقّا وأبطَلا أيمانَ الشَّاهدين.
* * *
وأحسب أن الذين قرءوا ذلك بفتح"التاء"، أرادوا أن يوجهوا تأويلَه إلى:"فآخران يقومان مقامهما"، مقام المؤتمنين اللذين عُثِر على خيانتهما في القَسم، و"الاستحقاق به عليهما"، دعواهما قِبَلهما = من"الذين استحقَّ" على المؤتمنين على المالِ على خيانتهما القيامَ مقامهما في القَسَم والاستحقاق، الأوليان بالميت. (٢) وكذلك كانت قراءة من رُوِيت هذه القراءة عنه، فقرأ ذلك: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ بفتح"التاء" = و"الأوليان"، (٣) على معنى: الأوليان بالميت وماله. وذلك مذهبٌ صحيحٌ، وقراءةٌ غير مدفوعة صحَّتها، غير أنا نختار الأخرى،
(١) في المطبوعة: "فإن عثر، وجد لطخ حلف الاثنان..."، وقوله: "لطخ" هنا من عجائب الكلام، وفي المخطوطة بعد: "فإن عثر وجد" بياض إلى آخر السطر، مع علامات بعد الكلام بالحمرة. والظاهر أن النسخة التي نقل عنها ناشر المطبوعة، كان فيها في هذا الموضع حرف (ط) دلالة على الخطأ، فكتب مكانها ما كتب. ووضعت أنا مكان البياض في المخطوطة نقطًا، والظاهر أن سياق الكلام كان: "فإن عثر، وجد أنها استحقا إثمًا" حلف الاثنان..."، ولكني آثرت ترك البياض كما هو في المخطوطة، والمعنى ظاهر.
(٢) في المطبوعة: "في الأوليان" بزيادة"في"، أثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب.
(٣) في المطبوعة، حذف قوله: "والأوليان"، وساق الكلام على سياق واحد. وأثبت ما في المخطوطة.
195
لإجماع الحجة من القرأة عليها، مع موافقتها التأويل الذي ذكرْنا عن الصحابة والتابعين.
١٢٩٧٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن وكريب، عن علي: أنه كان يقرأ: (مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَانْ). (١)
١٢٩٧٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن واصل مولى أبي عُيينة، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر، عن أبيّ بن كعب: أنه كان يقرأ: (مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَان). (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأما أولى القراءات بالصَّواب في قوله:"الأوليان" عندي،
(١) الأثر: ١٢٩٧٢ -"أبو إسحق"، هو السبيعي.
و"أبو عبد الرحمن" هو"السلمي" القارئ، "عبد الله بن حبيب" مضى برقم: ٨٢.
و"كريب" هو"كريب بن أبي كريب"، روى عن علي. وروى عنه أبو إسحق، مترجم في الكبير٤/١/٢٣١، وابن أبي حاتم ٣/٢/١٦٨، ولم يذكرا فيه جرحا. وترجمه في لسان الميزان، وقال: "يروي المقاطيع، من ثقات ابن حبان".
(٢) الأثر: ١٢٩٧٣ -"مالك بن إسمعيل بن درهم النهدي"، "أبو غسان"، مضى برقم: ٢٩٨٩، ٤٤٣٣، ٤٩٢٦، ٨٢٩٢. وأخشى أن يكون راوي هذا الخبر هو"مؤمل بن إسمعيل العدوي"، لا"مالك بن إسمعيل"، ولكن هكذا ثبت في المخطوطة.
و"حماد بن زيد بن درهم الأزدي"، مضى برقم: ٨٥٦، ١٦٨٢، ٥٤٥٤.
و"واصل مولى أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة"، ثقة، روى عن يحيى بن عقيل الخزاعي، والحسن البصري، ورجاء بن حيوة، وأبي الزبير المكي. روى عنه هشام بن حسان من أقرانه، ومهدي بن ميمون، وحماد بن زيد، وغيرهم. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/١٧٢، وابن أبي حاتم ٤/٢/٣٠. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "وائل بن أبي عبيدة"، وهو خطأ لا شك فيه، بيانه في التاريخ الكبير للبخاري.
و"يحيى بن عقيل الخزاعي البصري"، روى عن يحيى بن يعمر، وابن أبي أوفى، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن معين: "ليس به بأس"، مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٢٩٢ وابن أبي حاتم ٤/٢/١٧٦.
وأما "يحيى بن يعمر القيس الجدلي"، فهو ثقة جليل، يروي عن الصحابة والتابعين. كان نحويًا صاحب علم بالعربية والقرآن، وهو أول من نقط المصاحف. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٣١١، وابن أبي حاتم ٤/٢/١٩٦.
196
فقراءة من قرأ: (الأَوْلَيَانِ) لصحة معناها. (١) وذلك لأن معنى:"فآخران يقومان مقامهما من الذين استُحِقّ عليهم الأوليان": فآخران يقومان مقامهما من الذي استُحقّ] فيهم الإثم، (٢) ثم حذف"الإثم"، وأقيم مقامه"الأوليان"، لأنهما هما اللذان ظَلَما وأثِما فيهما، بما كان من خيانة اللذين استحقا الإثم، وعُثر عليهما بالخيانة منهما فيما كان اُّتمنهما عليه الميت، (٣) كما قد بينا فيما مضى من فعل العرب مِثل ذلك، من حذفهم الفعل اجتراء بالاسم، (٤) وحذفهم الاسم اجتزاء بالفعل. (٥) ومن ذلك ما قد ذكرنا في تأويل هذه القصة، وهو قوله:"شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان"، ومعناه: أن يشهد اثنان، وكما قال:"فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنًا"، فقال:"به"، فعاد بالهاء على اسم الله، وإنما المعنى: لا نشتري بقسمنا بالله، فاجتزئ بالعود على اسم الله بالذكر، والمراد به:"لا نشتري بالقسم بالله"، استغناء بفهم السامع بمعناه عن ذكر اسم القسم. وكذلك اجتزئ، بذكر"الأوليين" من ذكر"الإثم" الذي استحقه الخائنان لخيانتهما إيَّاهما، إذ كان قد جرى ذكر ذلك بما أغنى السامع عند سماعه إياه عن إعادته، وذلك قوله:"فإن عثر على أنَّهما استحقا إثمًا".
* * *
وأما الذين قرءوا ذلك (الأَوَّلِينَ)، فإنهم قصدوا في معناه إلى الترجمة به عن"الذين"، فأخرجوا ذلك على وجه الجمع، إذْ كان"الذين" جميعًا، (٦) وخفضًا،
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "بصحة معناها" بالباء، والصواب ما أثبته.
(٢) الذي وضعته بين الأقواس، هو حق السياق والمعنى، فإن السياق يقتضي أن يذكر الآية، ثم يذكر تأويلها، وهكذا فعلت، وهو الصواب إن شاء الله.
(٣) في المطبوعة: "ائتمنهما"، وانظر ما كتبته سالفًا ص: ١٧٢، تعليق ١، ٢، وص: ١٩٣ تعليق: ٤.
(٤) "الفعل"، هو المصدر، كما سلف مرارًا، وانظر فهارس المصطلحات.
(٥) انظر ما سلف ص: ١٦٠.
(٦) في المطبوعة: "جمعا"، وأثبت ما في المخطوطة.
197
إذ كان"الذين" مخفوضًا، وذلك وجه من التأويل، غير أنه إنما يقال للشيء"أوّل"، إذا كان له آخر هو له أوّل. وليس للذين استحق عليهم الإثم، آخرهم له أوّل. بل كانت أيمان اللذين عثر على أنهما استحقَّا إثمًا قبل أيمانهم، فهم إلى أن يكونوا = إذ كانت أيمانهم آخرًا = أولى أن يكونوا"آخرين"، من أن يكونوا"أوّلين"، وأيمانهم آخرة لأولى قبلها.
* * *
وأما القراءة التي حكيت عن الحسن؛ فقراءةٌ عن قراءَة الحجة من القرأة شاذة، وكفى بشذوذها عن قراءتهم دليلا على بُعدها من الصواب.
* * *
واختلف أهل العربية في الرافع لقوله:"الأوليان"، إذا قرئ كذلك.
فكان بعض نحويي البصرة (١) يزعم أنه رفع ذلك، بدلا من:"آخران" في قوله:"فآخران يقومان مقامهما". وقال: إنما جاز أن يبدل"الأوليان"، وهو معرفة، من"آخران" وهو نكرة، لأنه حين قال:"يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم"، كان كأنه قد حدَّهما حتى صارا كالمعرِفة في المعنى، فقال:"الأوليان"، فأجرى المعرفة عليهما بدلا. قال: ومثل هذا = مما يجري على المعنى = كثير، واستشهد لصحة قوله ذلك بقول الراجز: (٢)
عَلَيَّ يَوْمَ يَمْلِكُ الأُمُورَا صَوْمُ شُهُورٍ وَجَبَتْ نُذُورَا
وَبَادِنًا مُقَلَّدًا مَنْحُورَا (٣)
(١) في المخطوطة والمطبوعة: "فقال بعض نحويي..."، والصواب ما أثبت.
(٢) لم أعرف قائله.
(٣) "البادن": الضخم السمين المكتنز، ولم أجدهم قالوا: "البادن" وأرادوا به"البدنة" (بفتح الباء والدال)، وهي الناقة التي كانوا يسمنونها ثم تهدى إلى البيت، ثم تنحر عنده. ولعل الراجز استعملها على الصفة، ومع ذلك فهي عندي غريبة تقيد. و"المقلد"، الذي وضعت عليه القلائد، إشعارًا بأنه هدي يساق إلى الكعبة. ذكر الراجز ما نذره إذا ولى هذا الرجل أمور الناس.
198
قال: فجعله: عليَّ واجب، لأنه في المعنى قد أوجب. (١)
* * *
وكان بعض نحويي الكوفة ينكر ذلك ويقول: لا يجوز أن يكون"الأوليان" بدلا من:"آخران"، من أجل أنه قد نَسَق"فيقسمان" على"يقومان" في قوله (٢) "فآخران يقومان"، فلم يتمّ الخبر بعد"مِنْ". (٣) قال: ولا يجوز الإبدال قبل إتمام الخبر. (٤) وقال: غير جائز:"مررت برجل قام زيدٍ وقَعَد"، و"زيد" بدل من"رجل".
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال:"الأوليان" مرفوعان بما لم يسمَّ فاعله، وهو قوله: (اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ) وأنهما وُضِعا موضع الخبر عنهما، (٥) فعمل فيهما ما كان عاملا في الخبر عنهما. وذلك أن معنى الكلام:"فآخران يقومان مَقامهما من الذين استُحِقَّ عليهم الإثم بالخيانة"، فوضع"الأوليان" موضع"الإثم" كما قال تعالى ذكره في موضع آخر: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة التوبة: ١٩]، ومعناه: أجعلتم سقاية الحاجِّ وعمارةَ المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر
(١) تركت هذه الجملة كما هي في المخطوطة والمطبوعة. وإن كنت أرجح أنه استشهد بالرجز على أنه نصب"صوم شهور"، وعطف عليه"وبادنًا مقلدًا منحورًا"، على معنى: قد أوجبت على نفسي صوم شهور، وبادنًا مقلدًا منحورًا. فإن صح ذلك فيكون صواب هذه العبارة: "فجعله: على واجب = لأنه في المعنى: قد أوجبت".
(٢) "نسق"، أي: عطف.
(٣) في المطبوعة: "فلم يتم الخبر عند من قال..."، غير ما في المخطوطة، وهذا خطأ محض. الصواب ما في المخطوطة، يريد: بعد"من الذين استحق عليهم الأوليان".
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "قال" بغير واو، والصواب إثباتها كما يدل عليه السياق.
ثم كتب في المطبوعة بعد ذلك"كما قال: غير جائز..."، بزيادة"كما"، وهي في المخطوطة، مكتوبة متصلة بالراء، فآثرت قراءتها"وقال"، لأنه حق السياق.
(٥) في المطبوعة: "وأنهما موضع الخبر" أسقط"وضعا"، وهي ثابتة في المخطوطة.
199
= وكما قال: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ، [سورة البقرة: ٩٣]، وكما قال بعض الهذليين. (١)
يُمَشِّي بَيْنَنَا حَانُوتُ خَمْرٍ مِنَ الخُرْسِ الصَّرَاصِرَةِ الْقِطَاطِ (٢)
وهو يعني: صاحب حانوت خمر، فأقام"الحانوت" مقامه، لأنه معلوم أن"الحانوت"، لا يمشي! ولكن لما كان معلومًا عنده أنَّه لا يخفى على سامعه ما قصد إليه من معناه، حذف"الصاحب"، واجتزأ بذكر"الحانوت" منه. فكذلك قوله:"من الذين استُحِقّ عليهم الأوليان"، إنما هو من الذين استُحِقّ فيهم خيانتهما، فحذفت"الخيانة" وأقيم"المختانان"، مقامها. فعمل فيهما ما كان يعمل في المحذوف ولو ظهر.
* * *
وأما قوله:"عليهم" في هذا الموضع، فإن معناها: فيهم، كما قال تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، [سورة البقرة: ١٠٢]، يعني: في
(١) هو المنخل الهذلي
(٢) ديوان الهذليين ٢: ٢١، والمعاني الكبير: ٤٧٢. واللسان (حنت) (قطط) (خرص)، من قصيدة له طويلة، يذكر مواضي أيامه، ثم يقول بعد البيت في صفة الخمر:
رَكُودٍ في الإنَاءِ لَهَا حُمَيَّا تَلَذُّ بأَخْذِها الأَيْدِي السَّوَاطِي
مُشَعْشَعَةٍ كَعَيْنِ الدَّيكِ، لَيْسَتَْتْ، إذَا ذِيقَتْ، مِنَ الخَلِّ الخِمَاطِ
وقوله: "الخرس"، جمع"أخرس"، وهو الذي ذهب كلامه عيًا أو خلقة. ويعني به: خدمًا من العجم لا يفصحون، فلذلك سماهم"خرسًا". وروى بعضهم"من الخرص"، وهو خطأ، فيه نبّه عليه الأزهري رحمه الله.
و"الصراصرة" نبط الشأم. وعندي أنهم سموا بذلك، لشيء كان في أصواتهم وهم يتكلمون، في أصواتهم صياح وارتفاع وامتداد، كأنه صرصة البازي. و"القطاط" جمع"قطط" (بفتحتين) و"قط" (بفتح وتشديد) : وهو الرجل الشديد جعودة الرأس. وقوله: "ركود في الإناء"، يعني أنها صافية ساكنة. و"حميا الخمر"، سورتها وأخذها بالبدن. و"الأيدي السواطي"، التي تسطو إليها، أي: تتناولها معجلة شديدة الرغبة فيها. و"مشعشعة": قد أرقها مزجها بالماء. و"الخماط" من الخمر: التي أصابتها ريح، فلم تستحكم ولم تبلغ الحموضة.
200
ملك سليمان، وكما قال: وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [سورة طه: ٧١]. ف"في" توضع موضع"على"، و"على" في موضع"في"، كل واحدة منهما تعاقب صاحبتها في الكلام، (١)
ومنه قول الشاعر: (٢)
مَتَى مَا تُنِْكرُوها تَعْرِفُوهَا عَلَى أَقْطَارِهَا عَلَقٌ نَفِيثُ (٣)
وقد تأوّلت جماعة من أهل التأويل قول الله تعالى ذكره:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحقّ عليهم الأوليان"، أنهما رجلان آخرَان من المسلمين، أو رجلان أعدل من المقسمين الأوَّلَين
* ذكر من قال ذلك:
١٢٩٧٤ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن عامر، عن شريح في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم"، قال: إذا كان الرجل بأرض غُرْبة ولم يجد مسلمًا يشهده على
(١) انظر ما سلف ١: ٢٩٩/٢: ٤١١، ٤١٢، وغيرها من المواضع في باب تعاقب الحروف.
(٢) هو أبو المثلم الهذلي.
(٣) ديوان الهذليين ٢: ٢٢٤، مشكل القرآن: ٢٩٥، ٤٣٠، والمعاني الكبير: ٩٦٩، ٩٧٠، والاقتضاب: ٤٥١، والجواليقي: ٣٧٣، واللسان (نفث) وغيرها. من أبيات في ملاحاة بينه وبين صخر الغي، من جراد دم كان أبو المثلم يطلب عقله، أي ديته، وقبل البيت: لَحَقٌ بَنِي شُغَارَةَ أن يَقُولوا... لِصَخْرِ الغَيِّ: مَاذَا تَسْتَبِيثُ؟
أي: ماذا تستثير؟ وإنما أراد الحرب، فقال له بعد: "متى ما تنكروها..."، أي: إذا جاءت الحرب أنكرتموها، ولكن ما تكادون تنكرونها، حتى تروا الدم يقطر من نواحيها، يعني كتائب المحاربين. و"العلق": الدم، و"الأقطار": النواحي. و"النفيث"، الدم الذي تنفثه القروح والجروح.
وقد خلط البطليوسي في شرح هذا الشعر، فزعم أن الضمير في قوله: "متى ما تنكروها"، عائد"إلى المقالة"، يعني هذا الهجاء بينهما، وأتى في ذلك بكلام لا خير فيه، أراد به الإغراب كعادته.
201
وصيته، فأشهد يهوديًّا، أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا، فشهادتهم جائزة. فإن جاء رجلان مسلمان فشهدَا بخلاف شهادتهم، أجيزت شهادة المسلمين، وأبطلت شهادة الآخرين. (١)
١٢٩٧٥ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإن عثر"، أي: اطلع منهما على خيانة، على أنهما كذبا أو كَتما، فشهد رجلان هما أعدل منهما بخلافِ ما قالا أجيزت شهادة الآخرين، وأبطلت شهادة الأوَّلين.
١٢٩٧٦ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء قال: كان ابن عباس يقرأ: (مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الأوَّلَيْنِ) قال، كيف يكون"الأوليان"، أرأيت لو كان الأوليان صغيرين؟
١٢٩٧٧- حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا عبدة، عن عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كان يقرأ: (مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الأوَّلَيْنِ) قال، وقال: أرأيت لو كان الأوليان صغيرين، كيف يقومان مقامهما؟
قال أبو جعفر: فذهب ابن عباس، فيما أرى، إلى نحو القول الذي حكيتُ عن شريح وقتادة، من أنّ ذلك رجلان آخران من المسلمين، يقومان مقام النَّصرانيين، أو عَدْلان من المسلمين هما أعدل وأجوزُ شهادة من الشاهدين الأولين أو المقسمين.
وفي إجماع جميع أهل العلم على أنْ لا حكم لله تعالى ذكره يجب فيه على شاهدٍ يمينٌ فيما قام به من الشهادة، دليلٌ واضح على أنّ غير هذا التأويل = الذي قاله الحسن ومن قال بقوله في قول الله تعالى ذكره:"فآخران يقومان مقامهما" = أولى به.
(١) الأثر: ١٢٩٧٤ - مضى هذا الخبر برقم: ١٢٩٠٩، ١٢٩٤٣، وانظر التعليق على رقم: ١٢٩٠٩.
202
وأما قوله"الأوليان"، فإن معناه عندنا: الأوْلى بالميت من المقسمين الأولين فالأولى. (١) وقد يحتمل أن يكون معناه: الأولى باليمين منهما فالأولى = ثم حذف"منهما"، (٢) والعرب تفعل ذلك فتقول:"فلان أفضل"، وهي تريد:"أفضل منك"، وذلك إذا وضع"أفعل" موضع الخبر. وإن وقع موقع الاسم وأدخلت فيه"الألف واللام"، فعلوا ذلك أيضًا، إذا كان جوابًا لكلام قد مضى، فقالوا:"هذا الأفضل، وهذا الأشرف"، يريدون: هو الأشرف منك.
* * *
وقال ابن زيد: معنى ذلك: الأوليان بالميت.
١٢٩٧٨ - حدثني يونس، عن ابن وهب، عنه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فيقسم الآخران اللذان يقومان مقام اللَّذين عثر على أنهما استحقا إثمًا بخيانتهما مالَ الميت، الأوْليان باليمين والميِّت من الخائنين: ="لشهادتنا أحقُّ من شهادتهما"، يقول: لأيماننا أحقُّ من أيمان المقسمَين المستحقَّين الإثم، وأيمانِهما الكاذبة = في أنَّهما قد خانا في كذا وكذا من مال ميّتنا، وكذا في أيمانِهما التي حلفا بها="وما اعتدينا"، يقول: وما تجاوزنا الحقَّ في أيماننا.
* * *
وقد بينا أن معنى"الاعتداء"، المجاوزة في الشيء حدَّه. (٣)
* * *
(١) السياق: "الأولى بالميت... فالأولى".
(٢) في المطبوعة: "ثم حذف فيهما"، وهو خطأ صرف، وهي في المخطوطة غير منقوطة.
(٣) انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف من فهارس اللغة (عدا).
203
"إنا إذًا لمن الظالمين" يقول:"إنّا إن كنا اعتدينا في أيماننا، فحلفنا مبطلين فيها كاذبين ="لمن الظالمين"، يقول: لَمِنْ عِدَادِ مَنْ يأخذ ما ليس له أخذه، (١) ويقتطع بأيمانه الفاجرة أموال الناس. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، هذا الذي قلت لكم في أمر الأوصياء = إذا ارتبتم في أمرهم، واتهمتموهم بخيانة لمالِ من أوصى إليهم، من حبسهم بعد الصلاة، واستحلافكم إيَّاهم على ما ادَّعى قِبَلهم أولياء الميت ="أدنى" لهم"أن يأتوا بالشهادة على وجهها"، يقول: هذا الفعل، إذا فعلتم بهم، أقربُ لهم أن يصدُقوا في أيمانهم، (٣) ولا يكتموا، ويقرُّوا بالحق ولا يخونوا (٤) ="أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم"، يقول: أو يخاف هؤلاء الأوصياء إن عثر عليهم أنهم استحقُّوا إثمًا في أيمانهم بالله، أن تردَّ أيمانهم على أولياء الميت، بعد أيمانهم التي عُثِر عليها أنها كذب، فيستحقُّوا بها ما ادّعوا قِبَلهم من حقوقهم، فيصدقوا حينئذٍ في أيمانهم وشهادتهم، مخافةَ الفضيحة على أنفسهم، وحذرًا أن يستحقّ عليهم ما خانُوا فيه أولياء الميِّت وورثته.
* * *
(١) في المطبوعة: "لمن عدا ومن يأخذ"، غير ما في المخطوطة، وأساء أقبح الإساءة.
(٢) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(٣) انظر تفسير"أدنى" فيما سلف ٦: ٧٨/٧: ٥٤٨.
(٤) انظر تفسير"على وجهه" فيما سلف ٢: ٥١١.
204
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وقد تقدّمت الروايةُ بذلك عن بعضهم، نحن ذاكرو الرواية في ذلك عن بعضِ من بَقي منهم.
١٢٩٧٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فإن عُثر على أنهما استحقّا إثمًا"، يقول: إن اطُّلع على أنّ الكافرين كذبَا ="فآخران يقومان مقامهما"، يقول: من الأولياء، فحلفا بالله أنّ شهادة الكافرين باطلة، وأنا لم نعتد، فتردّ شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء. يقول تعالى ذكره: ذلك أدنى أن يأتي الكافرون بالشهادة على وجهها، أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم. وليس على شُهود المسلمين أقسْام، وإنما الأقسام إذا كانوا كافرين.
١٢٩٨٠ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة" الآية، يقول: ذلك أحرَى أن يصدقوا في شهادتهم، وأن يخافوا العَقِب. (١)
١٢٩٨١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أو يخافوا أن تردَّ أيمان بعد أيمانهم"، قال: فتبطل أيمانهم، وتؤخذ أيمانُ هؤلاء.
* * *
وقال آخرون: [معنى ذلك تحبسونهما من بعد الصلاة. ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، على أنهما استحقا إثمًا، فآخران يقومان مقامهما]. (٢)
* ذكر من قال ذلك:
(١) في المطبوعة: "وأن يخافوا العقاب"، والصواب ما في المخطوطة و"العقب" (بفتح فكسر) : العاقبة، وذلك عاقبة أمرهما في وبطلان أيمانهم، وعاقبة رد الفضيحة على أنفسهم.
(٢) هذه الجملة كلها مضطربة المعنى، ولا تطابق الأثر التالي، وظني أن في الكلام سقطًا، أسقط الناسخ سطرًا أو نحوه، وتركتها على حالها في المخطوطة والمطبوعة، ولكني وضعتها بين قوسين، شكًّا مني في صحتها.
205
١٢٩٨٢ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، فيحلفان بالله:"لا نشتري به ثمنًا قليلا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين، أنّ صاحبكم لبهذا أوصى، وأنّ هذه لتركته". فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا:"إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما، فضحتكما في قومكما، ولم أجز لكما شهادة، وعاقبتكما". فإن قال لهما ذلك، فإنّ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (١٠٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وخافوا الله، أيها الناس، وراقبوه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبةً، وأن تُذْهبوا بها مال من يَحْرم عليكم ماله، وأن تخونوا من اتَّمنكم (١) ="واسمعوا"، يقول: اسمعوا ما يقال لكم وما توعظون به، فاعملوا به، وانتهوا إليه ="والله لا يهدي القوم الفاسقين"، يقول: والله لا يوفِّق من فَسَق عن أمر ربّه، فخالفه وأطاع الشيطانَ وعصى ربَّه.
* * *
وكان ابن زيد يقول:"الفاسق"، في هذا الموضع، هو الكاذب. (٢)
١٢٩٨٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"والله لا يهدي القومَ الفاسقين"، الكاذبين، يحلفون على الكذب.
* * *
(١) انظر ما كتبته في"اتمن" فيما سلف ص: ١٩٧، تعليق: ٣.
(٢) انظر تفسير"الفاسق" بهذا المعنى من تفسير ابن زيد، فيما سلف رقم: ١٢١٠٣ في الجزء ١٠: ٣٧٦. ثم انظر تفسير"الفسق" فيما سلف من فهارس اللغة (فسق).
206
وليس الذي قال ابن زيد من ذلك عندي بمدفُوعٍ، إلا أن الله تعالى ذكره عَمَّ الخبر بأنه لا يهدي جميع الفسَّاق، ولم يخصص منهم بعضًا دون بعض بخبر ولا عقلٍ، فذلك على معاني"الفسق" كلها، حتى يخصِّص شيئًا منها ما يجب التسليمُ له، فيُسلِّم له.
* * *
ثم اختلف أهل العلم في حكم هاتين الآيتين، هل هو منسوخ، أو هو مُحكَم ثابت؟
فقال بعضهم: هو منسوخ
* ذكر من قال ذلك:
١٢٩٨٤ - حدثنا أبو كريب قال، ثنا ابن إدريس، عن رجل قد سماه، عن حماد، عن إبراهيم قال: هي منسوخة.
١٢٩٨٥ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: هي منسوخة = يعني هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم"، الآية.
* * *
وقال جماعة: هي محكمة وليست بمنسوخة. وقد ذكرنا قولَ أكثرهم فيما مضَى.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن حكم الآية غيرُ منسوخ (١) وذلك أن من حكم الله تعالى ذكره الذي عليه أهل الإسلام، من لدن بعث الله تعالى ذكره نبيّه محمدًا ﷺ إلى يومنا هذا، أنّ من ادُّعِي عليه
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "أن حكم الآية منسوخ"، وهو خطأ فاحش، فإن أبا جعفر يقول بعد ذلك أنها غير منسوخة، كما سترى، فالصواب ما أثبته.
207
دَعْوى ممَّا يملكه بنو آدم، أنّ المدَّعَى عليه لا يبرئه مما ادُّعي عليه إلا اليمين، إذا لم يكن للمدَّعِي بيّنة تصحح دَعواه = وأنه إن اعترف في يَدِ المدَّعى [عليه] سلعةً له، (١) فادَّعَى أنها له دون الذي في يده، فقال الذي هي في يده:"بل هي لي، اشتريتها من هذا المدَّعِي"، أنّ القول قول من زَعَم الذي هي في يده أنه اشتراها منه، دون من هي في يده مع يمينه، إذا لم يكن للذي هي في يده بيّنة تحقق به دعواه الشراءَ منه.
فإذ كان ذلك حكم الله الذي لا خلافَ فيه بين أهل العلم، وكانت الآيتان اللتان ذكر الله تعالى ذكره فيهما أمرَ وصية الموصِي إلى عدلين من المسلمين، أو إلى آخرين من غيرهم، إنما ألزَم النبي صلى الله عليه وسلم، فيما ذكر عنه، الوصيَّين اليمينَ حين ادَّعَى عليهما الورثة ما ادَّعوا، ثم لم يلزم المدَّعَى عليهما شيئًا إذ حلفا، حتى اعترفت الورثة في أيديهما ما اعترفُوا من الجام أو الإبريق أو غير ذلك من أموالهم، فزعما أنهما اشترياه من ميتهم، فحينئذ ألزم النبيُّ ﷺ ورثَة الميِّت اليمين، لأن الوصيين تحوَّلا مُدَّعِيين بدعواهما ما وجدَا في أيديهما من مال الميِّت أنه لهما، اشتريَا ذلك منه، فصارَا مُقِرَّين بالمال للميِّت، مدَّعيين منه الشراء، فاحتاجا حينئذ إلى بيِّنةٍ تصحِّح دعواهما، وصارتْ وورثة الميتِ ربِّ السلعة، (٢) أولى باليمين منهما. فذلك قوله تعالى ذكره:"فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما"، الآية.
(١) في المطبوعة: "وأنه إن اعترف وفي يدي المدعي سلعة"، غير ما في المخطوطة، وفيها: "وأنه إن اعترف في يد المدعي سلعة"، فأثبت ذلك، وهو الصواب، وزدت"عليه" بين القوسين، لأنه حق المعنى.
وقوله: "اعترف" بمعنى: عرفها وميزها، كما سيأتي في سائر الفقرة.
(٢) في المطبوعة: "... تصحح دعواهما، وورثة الميت رب السلعة"، حذف قوله"وصارت"، مع أن الكلام لا يستقيم إلا بها، وهي في المخطوطة ثابتة، إلا أن الناسخ أساء كتابتها.
208
فإذ كان تأويل ذلك كذلك، فلا وجه لدعوَى مدَّعٍ أن هذه الآية منسوخة، لأنه غير جائز أن يُقْضَى على حُكم من أحكام الله تعالى ذكره أنه منسوخ، إلا بخبَرٍ يقطع العذرَ: أمّا من عند الله، أو من عند رسوله صلى الله عليه وسلم، أو بورود النَّقل المستفيض بذلك. فأمَّا ولا خبر بذلك، ولا يدفع صحته عقل، فغير جائز أن يقضى عليه بأنه منسوخ.
* * *
209
القول في تأويل قوله: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ (١٠٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واتقوا الله، أيها الناس. واسمعوا وَعْظه إياكم وتذكيرَه لكم، واحذروا يَوْم يَجْمع الله الرسل = ثم حذف"واحذروا"، واكتفى بقوله:"واتقوا الله واسمعوا"، عن إظهاره، كما قال الراجز:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا (١)
يريد:"وسقيتها ماء باردًا"، فاستغنى بقوله"علفتها تبنًا" من إظهار"سقيتها"، إذ كان السامع إذا سَمِعه عرف معناه. فكذلك في قوله:"يوم يجمع الله والرسل"، حذف"واحذروا" لعلم السامع معناه، اكتفاءً بقوله:"واتقوا الله واسمعوا"، إذ كان ذلك تحذيرًا من أمر الله تعالى ذكره، خلقَه عقابَه على معاصيه.
* * *
وأما قوله:"ماذا أُوجبتم"، فإنه يعني به: ما الذي أجابتكم به أممكم، (٢) حين
(١) مضى تخريج البيت وتفسيره فيما سلف ١: ٢٦٤، وكان في المطبوعة هنا: "حتى غدت همالة"، غير ما في المخطوطة.
(٢) انظر تفسير"ماذا" فيما سلف ٤: ٢٩٢، ٣٤٦، ٣٤٧/٨: ٣٥٩.
209
دعوتموهم إلى توحيدي، والإقرار بي، والعمل بطاعتي، والانتهاء عن معصيتي؟ ="قالوا لا علم لنا".
* * *
فاختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى قولهم:"لا علم لنا"، لم يكن ذلك من الرسل إنكارًا أن يكونوا كانوا عالمين بما عملت أممهم، ولكنهم ذَهِلوا عن الجواب من هَوْلِ ذلك اليوم، ثم أجابوا بعد أن ثَابَتْ إليهم عقولهم بالشَّهادة على أممهم.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٩٨٦ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل. قال، حدثنا أسباط، عن السديّ:"يوم يجمع الله الرسل فيقول مَاذا أجبتم قالوا لا علم لنا"، قال: فذلك أنهم نزلوا منزلا ذَهِلت فيه العقول، (١) فلما سئلوا قالوا:"لا علم لنا"، ثم نزلوا منزلا آخر، فشهدوا على قومهم.
١٢٩٨٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة......... قال: سمعت الحسن يقول في قوله:"يوم يجمع الله الرسل"، الآية، قال: من هول ذلك اليوم. (٢)
١٢٩٨٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن مجاهد في قوله:"يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم"، فيفزعون، فيقول: ماذا أجبتم؟ فيقولون: لا علم لنا!
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لا علم لنا إلا ما علّمتنا.
(١) في المطبوعة: "ذلك أنهم لما نزلوا"، وفي المخطوطة: "فذلك أنهم لما نزلوا" وأثبت ما في المخطوطة، وحذفت"لما" لأنه لا موضع لها هنا، وكأنها زيادة من عجلة الناسخ.
(٢) الأثر: ١٢٩٨٧ - هذا إسناد ناقص بلا شك، بين"عتبة"، و"الحسن البصري"، فوضعت مكانه النقط، وقد أعجلت أن أجد مثله فيما سلف، فتركته حتى أجد تمامه.
210
* ذكر من قال ذلك:
١٢٩٨٩- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد في قوله:"يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم"، فيقولون: = لا علم لنا إلا ما علمتنا ="إنك أنتَ علام الغيوب".
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: قالوا لا علم لنا، إلا علمٌ أنت أعلَمُ به منَّا.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٩٩٠- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا"، إلا علم أنت أعلم به منا.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"ماذا أجبتم"، ماذا عملوا بعدكم؟ وماذا أحدثوا؟
* ذكر من قال ذلك:
١٢٩٩١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم"، ماذا عملوا بعدكم؟ وماذا أحدثوا بعدكم؟ ="قالوا قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب، قولُ من قال:"معناه: لا علم لنا، إلا علم أنت أعلم به منّا"، لأنه تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم قالوا:"لا علم لنا إنَّك أنتَ علام الغيوب"، أي: إنك لا يخفى عليك ما عندنا من علم ذلك ولا غيره من خفيِّ العلوم وجليِّها. فإنما نَفى القومُ أن يكون لهم بما سُئلوا عنه من ذلك علم لا يعلمه هو تعالى ذكره = لا أنَّهم نَفَوا أن يكونوا علموا ما شاهدُوا. كيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، وهو تعالى ذكره يخبر عنهم أنَّهم يُخْبرون بما أجابتهم به الأمم،
211
وأنهم يسْتشهدون على تبليغهم الرسالة شهداء، (١) فقال تعالى ذكره: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [سورة البقرة: ١٤٣].
* * *
وأما الذي قاله ابن جريج، من أن معناه:"ماذا عملت الأمم بعدكم؟ وماذا أحدثوا؟ " فتأويل لا معنَى له. لأن الأنبياء لم يكن عندها من العلم بما يَحدُث بعدها إلا ما أعلمها الله من ذلك، وإذا سئلت عَمَّا عملت الأمم بعدها والأمر كذلك، فإنما يقال لها: ماذا عَرَّفناك أنه كائن منهم بعدك؟ وظاهرُ خَبر الله تعالى ذكره عن مسألته إيّاهم، يدلّ على غير ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لعباده: احذروا يومَ يجمع الله الرسلَ فيقول لهم: ماذا أجابتكم أممكم في الدنيا ="إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس".
* * *
ف"إذْ" من صلة"أجبتم"، كأنّ معناها: ماذا أجابت عيسى الأمم التي أرسل إليها عيسى.
* * *
(١) في المطبوعة: "سيشهدون على تبليغهم"، حرف ما في المخطوطة وأساء.
212
فإن قال قائل: وكيف سئلت الرسل عن إجابة الأمم إيَّاها في عهد عيسى، ولم يكن في عهد عيسى من الرُّسل إلا أقلُّ ذلك؟ (١)
قيل: جائزٌ أن يكون الله تعالى ذكره عنى بقوله:"فيقول ماذا أجبتم"، الرسلَ الذين كانوا أرسلوا في عهد عيسى، فخرَج الخبر مخرج الجميع، والمراد منهم من كان في عهد عيسى، كما قال تعالى ذكره: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [سورة آل عمران: ١٧٣]، والمراد واحدٌ من الناس، وإن كان مخرج الكلام على جميع الناس. (٢)
قال أبو جعفر: ومعنى الكلام:"إذ قال الله"، حين قال ="يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس"، يقول: يا عيسى اذكر أياديّ عندك وعند والدتك، (٣) إذ قوّيتك برُوح القُدس وأعنتُك به. (٤)
* * *
وقد اختلف أهل العربية في"أيدتك"، ما هو من الفعل.
فقال بعضهم: هو"فعّلتك"، ["من الأيد"]، كما قولك:"قوّيتك""فعّلت" من"القوّة". (٥)
* * *
وقال آخرون: بل هو"فاعلتك" من"الأيد".
(١) في المطبوعة: "إلا أقل من ذلك"، زاد"من"، فأفسد الكلام، والصواب ما في المخطوطة.
(٢) انظر ما سلف: ٤٠٥ ٤١٣.
(٣) انظر تفسير"النعمة" فيما سلف من فهارس اللغة (نعم).
(٤) انظر تفسير"أيد" فيما سلف ٢: ٣١٩/٥: ٣٧٩/٦: ٢٤٢.
(٥) الزيادة بين القوسين، لا بد منها. وفي المطبوعة: "كما في قوله" بزيادة"في"، والصواب ما في المخطوطة بحذفها.
213
وروي عن مجاهد أنه قرأ: (إذْ آيَدْتُك)، بمعنى"أفعلتك"، من القوّة والأيد. (١).
* * *
وقوله:"بروح القدس"، يعني: بجبريل. يقول: إذ أعنتك بجبريل.
* * *
وقد بينت معنى ذلك، وما معنى"القدس"، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قِيله، لعيسى:"اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس"، في حال تكليمك الناسَ في المهدِ وكهلا.
* * *
وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره: أنه أيده بروح القدس صغيرًا في المهد،
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٢٥. وهذا الذي ذكره هنا في"أيدتك" تفصيل أغفله في بيانه السالف في: ٢: ٣١٩، وهذا من ضروب اختصاره في التفسير، وهو دال أيضًا على طريقته في تأليف هذا التفسير.
(٢) انظر تفسير"روح القدس" فيما سلف ٢: ٣٢٠، ٣٢١/٥: ٣٧٩.
214
وكهلا كبيرًا = فردّ"الكهل" على قوله"في المهد"، لأن معنى ذلك: صغيرًا، كما قال الله تعالى ذكره: دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا، [سورة يونس: ١٢].
* * *
وقوله:"وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل"، يقول: واذكر أيضًا نعمتي عليك"إذ علمتك الكتاب"، وهو الخطّ ="والحكمة"، وهي الفهم بمعاني الكتاب الذي أنزلته إليك، وهو الإنجيل ="وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير"، يقول: كصورة الطير...... (١) ="بإذني"، يعني بقوله"تخلق" تعمل وتصلح -"من الطين كهيئة الطير بإذني"، يقول: بعوني على ذلك، وعلمٍ منّي به ="فتنفخ فيها"، يقول: فتنفخ في الهيئة، قتكون الهيئة والصورة طيرًا بإذني ="وتبرئ الأكمه"، يقول: وتشفي"الأكمهَ"، وهو الأعمى الذي لا يبصر شيئًا، المطموس البصر="والأبرص بإذني".
* * *
وقد بينت معاني هذه الحروف فيما مضى من كتابنا هذا مفسرًا بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٢)
* * *
(١) مكان هذا النقط بياض في المخطوطة، وفي هامشها حرف (ط)، دلالة على موضع خطأ. فأثبتها كذلك. وإن كنت أرجح أن سياق أبي جعفر يقتضي أن تكون عبارته هكذا:
{وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير، يعني بقوله: "تخلق"، تعمل وتصلح"من الطين كهيئة الطير"، يقول: كصورة الطير: "بإذني"، يقول: بعوني على ذلك... ومع ذلك، فقد تركت ما في المخطوطة على ما هو عليه.
(٢) انظر تفسير"المهد" فيما سلف ٦: ٤١٧ = وتفسير"الكهل" ٦: ٤١٧، ٤١٨ = وتفسير"الكتاب"، و"الحكمة" فيما سلف من فهارس اللغة (كتب) و (حكم) = وأما تفسير"خلق" و"هيأة" بهذا المعنى، فلم يذكره فيما سلف، وإن كان ذلك مضى في ٦: ٤٢٤ وتفسير"أبرأ" ٦: ٤٢٨ = وتفسير"الأكمه" ٦: ٤٢٨ - ٤٣٠ = وأما "الأبرص" فلم يفسره = وتفسير"الإذن" فيما سلف ١٠: ١٤٥، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
215
وقوله"وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات"، يقول: واذكر أيضًا نعمتي عليك بكفِّي عنك بني إسرائيل إذ كففتهم عنك، (١) وقد هموا بقتلك ="إذ جئتهم بالبينات"، يقول: إذ جئتهم بالأدِلة والأعلام المعجزة على نبوّتك، (٢) وحقيقة ما أرسلتك به إليهم. (٣) ="فقال الذين كفروا منهم"، يقول تعالى ذكره: فقال الذين جحدُوا نبوَّتك وكذبوك من بني إسرائيل="إن هذا إلا سحر مبين".
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته قرأة أهل المدينة وبعض أهل البصرة: إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ يعني: يبين عمَّا أتى به لمن رأه ونظر إليه، أنه سحر لا حقيقةَ له.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة: (إن هذا إلا ساحر مبين)، بمعنى:"ما هذا"، يعني به عيسى،"إلا ساحر مبين"، يقول: يبين بأفعاله وما يأتي به من هذه الأمور العجيبة عن نفسه، أنه ساحرٌ لا نبيٌّ صادق. (٤)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أنَّهما قراءتان معروفتان صحيحتَا المعنى، متفقتان غير مختلفتين. وذلك أن كل من كان موصوفًا بفعل"السحر"، فهو موصوف بأنه"ساحر". ومن كان موصوفًا بأنه"ساحر"، فأنه موصوف بفعل
(١) انظر تفسير"الكف" فيما سلف ٨: ٥٤٨، ٥٧٩/ ٩: ٢٩/١٠: ١٠١
(٢) انظر تفسير"البينات" فيما سلف من فهارس اللغة (بين).
(٣) في المطبوعة: "وحقية ما أرسلتك"، غيرها كما فعل مرارًا كثيرة فيما سلف، والصواب ما في المخطوطة، وانظر ما سلف ١٠: ٢٤٢، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير"مبين" فيما سلف من فهارس اللغة (بين).
216
"السحر". فالفعل دالٌ على فاعله، والصفة تدلُّ على موصوفها، والموصوف يدل على صفته، والفاعلُ يدلُّ على فعله. فبأي ذلك قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في قراءته.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (١١١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذكر أيضًا، يا عيسى، إذ ألقيت (١) ="إلى الحواريين"، وهم وزراء عيسى على دينه.
* * *
وقد بينا معنى ذلك، ولم قيل لهم"الحواريون"، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (٢)
* * *
وقد اختلفت ألفاظ أهل التأويل في تأويل قوله:"وإذ أوحيت"، وإن كانت متفقة المعاني.
فقال بعضهم، بما:-
١٢٩٩٢ - حدثني به محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل
(١) انظر تفسير"أوحى" فيما سلف ٦: ٤٠٥، ٤٠٦/٩: ٣٩٩.
(٢) انظر تفسير"الحواريون" فيما سلف ٦: ٤٤٩ - ٤٥١.
قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ أوحيت إلى الحواريين"، يقول: قدفت في قلوبهم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ألهمتهم.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وإذْ ألقيتُ إلى الحواريين أنْ صدّقوا بي وبرسولي عيسى، فقالوا:"آمنا"، أي: صدقنا بما أمرتنا أن نؤمنَ يا ربنا ="واشهد" علينا"بأننا مسلمون"، يقول: واشهد علينا بأننا خاضِعُون لك بالذّلة، سامعون مطيعُون لأمرك.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنزلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذكر، يا عيسى، أيضًا نعمتي عليك، إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي، إذ قالوا لعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء - ف"إذ"، الثانية من صلة"أوحيت".
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"يستطيع ربك"
فقرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين: (هَلْ تَسْتَطِيعُ) بالتاء (رَبَّكَ) بالنصب، بمعنى: هل تستطيع أن تسأل ربك؟ أو: هل تستطيع أن تدعوَ ربَّك؟
218
أو: هل تستطيع وترى أن تدعوه؟ وقالوا: لم يكن الحواريون شاكِّين أن الله تعالى ذكره قادرٌ أن ينزل عليهم ذلك، وإنما قالوا لعيسى: هل تستطيع أنت ذلك؟ (١)
١٢٩٩٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن نافع، عن ابن عمر، عن ابن أبي مليكة قال: قالت عائشة: كان الحواريون لا يشكّون أن الله قادر أن ينزل عليهم مائدة، ولكن قالوا: يا عيسى هل تَسْتطيع ربَّك؟
١٢٩٩٤- حدثني أحمد بن يوسف التَّغْلِبيّ قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا ابن مهدي، عن جابر بن يزيد بن رفاعة، عن حسّان بن مخارق، عن سعيد بن جبير: أنه قرأها كذلك: (هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ)، وقال: تستطيع أن تسأل ربَّك. وقال: ألا ترى أنهم مؤمنون؟ (٢)
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والعراق: (هَلْ يَسْتَطِيعُ) بالياء (رَبُّكَ)، بمعنى: أن ينزل علينا ربُّك، كما يقول الرجل لصاحبه:"أتستطيع أن تنهض معنا في كذا"؟ وهو يعلم أنه يستطيع، ولكنه إنما يريد: أتنهض معنا فيه؟ وقد يجوز أن يكون مرادُ قارئه كذلك: هل يستجيب لك ربك ويُطِيعك أنْ تنزل علينا؟
* * *
(١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٢٥.
(٢) الأثر: ١٢٩٩٤ -"أحمد بن يوسف التغلبي"، مضى قريبًا برقم: ١٢٩٥٧، وكان في المطبوعة هنا أيضًا: "الثعلبي"، وهو خطأ.
و"جابر بن يزيد بن رفاعة العجلي"، ثقة عزيز الحديث. مترجم في التهذيب، والكبير ١/٢/٢١٠، وابن أبي حاتم ١/١/٤٩٨.
"حسان بن مخارق". قال البخاري: "أراه: الشيباني"، مترجم في الكبير ٢/١/٣١، وابن أبي حاتم ١/٢/٢٣٥، وقال المعلق على تاريخ البخاري: "في الثقات رجلان، أحدهما في التابعين: حسان بن مخارق الكوفي، يروي عن أم سلمة. روى عنه أبو إسحق الشيباني = والآخر في أتباع التابعين: حسان بن مخارق الشيباني، وقد قيل: حسان بن أبي المخارق، أبو العوام، يروي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ: هل تستطيع ربك. روى عنه جابر بن يزيد، وجعلهما ابن أبي حاتم واحدًا".
وكان في المطبوعة: "حيان بن مخارق" حرف ما هو صواب في المخطوطة.
219
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين عندي بالصواب، قراءة من قرأ ذلك: (هَلْ يَسْتَطِيعُ) بالياء (رَبُّكَ) برفع"الربّ"، بمعنى: هل يستجيب لك إن سألته ذلك ويطيعك فيه؟
وإنما قلنا ذلك أولى القراءتين بالصواب، لما بيّنّا قبلُ من أن قوله:"إذ قال الحواريون"، من صلة:"إذ أوحيت"، وأنَّ معنى الكلام: وإذ أوحيت إلى الحواريون أن آمنوا بي وبرسولي، إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربَّك؟ فبيِّنٌ إذ كان ذلك كذلك، أن الله تعالى ذكره قد كرِه منهم ما قالوا من ذلك واستعظمه، وأمرهم بالتوبة ومراجعة الإيمان من قِيلهم ذلك، والإقرارِ لله بالقدرة على كل شيء، وتصديقِ رسوله فيما أخبرهم عن ربِّهم من الأخبار. وقد قال عيسى لهم، عند قيلهم ذلك له، استعظامًا منه لما قالوا:"اتقوا الله إن كنتم مؤمنين". ففي استتابة الله إيّاهم، ودعائه لهم إلى الإيمان به وبرسوله ﷺ عند قيلهم ما قالوا من ذلك، واستعظام نبيِّ الله ﷺ كلمتهم = (١) الدلالةُ الكافيةُ من غيرها على صحة القراءة في ذلك بالياء ورفع"الرب"، إذ كان لا معنى في قولهم لعيسى، لو كانوا قالوا له:"هل تستطيع أن تسأل ربَّك أن ينزل علينا مائدة من السماء"؟ أن يُستكبر هذا الاستكبار.
فإن ظنّ ظانّ أنّ قولهم ذلك له إنما استُعظِمَ منهم، (٢) لأنّ ذلك منهم كان مسألة آيةٍ، [فقد ظنّ خطأ]. (٣) فإن الآيةَ، إنّما يسألها الأنبياء مَنْ كان بها مكذّبًا
(١) السياق: "... ففي استتابة الله إياهم... الدلالة الكافية..."، وما بينهما عطوف.
(٢) في المطبوعة: "إنما هو استعظام منهم"، غير ما في المخطوطة وزاد على نصها، فضرب على الكلام فسادا لا يفهم!! و"استعظم" بالبناء للمجهول.
(٣) هذه الزيادة بين القوسين، لا بد منها، لا أشك أن الناسخ قد أسقطها غفلة، فاضطرب سياق الكلام، وسياق حجة أبي جعفر، فاضطر الناشر أن يعبث بكلمات أبي جعفر لكي تستقيم معه، فأفسد الكلام إفسادًا بينًا لا يحل له. وقد رددت الكلام إلى أصله، كما سترى في التعليقات التالية.
220
ليتقرَّر عنده حقيقةُ ثبوتها وصحَّة أمرها، كما كانت مسألة قريش نبيَّنا محمدًا ﷺ أن يحوِّل لهم الصَّفَا ذهبًا، ويفجر فجَاج مكة أنهارًا، مَنْ سأله من مشركي قومه = وكما كانت مسألة صالح الناقةَ من مكذّبي قومه = ومسألة شُعَيْب أن يسقط كِسْفًا من السماءِ، من كفّار من أرسل إليه. (١)
فإنْ وكان الذين سألوا عيسى أن يسأل ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء، (٢) على هذا الوجه كانت مسألتهم، فقد أحلّهم الذين قرءوا ذلك ب"التاء" ونصب"الرب" محلا أعظم من المحلِّ الذي ظنوا أنَّهم يحيدون بهم عنه (٣) = أو يكونوا سألوا ذلك عيسى وهم موقنون بأنه لله نبي مبعوث ورسول مرسلٌ، وأن الله تعالى ذكره على ما سألوا من ذلك قادر.
فإن كانوا سألوا ذلك وهم كذلك، وإنما كانت مسألتهم إيَّاه ذلك على نحو ما يسأل أحدُهم نبيَّه، إذا كان فقيرًا، أن يسأل له ربه أن يُغْنيه = وإن عرضتْ له حاجة، (٤) أن يسأل له ربه أن يقضيَها، فليسَ ذلك من مسألةَ الآية في شيء، (٥) بل ذلك سؤال ذي حاجة عرضت له إلى ربه، فسأل نبيَّه مسألةَ ربه أن يقضيها له.
وخبر الله تعالى ذكره عن القوم، ينبئ بخلاف ذلك. وذلك أنهم قالوا لعيسى، إذ قال لهم:"اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" ="نُريد أن نأكل منها وتطمئنَّ
(١) في المطبوعة: "من أرسل إليهم"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب محض.
(٢) في المطبوعة: "وكان الذين سألوا..."، حذف"فإن"، وعطف الكلام بعضه على بعض فاضطرب اضطرابًا فاحشًا.
(٣) في المطبوعة: "الذي ظنوا أنهم نزهوا ربهم عنه"، سبحانه وتعالى، ولكن ما فعله الناشر بنص المخطوطة جعل هذا الكلام كله لا معنى له. وكان في المخطوطة: "يحمدوا ربهم"، مضطربة الكتابة، فأساء الناشر قراءتها، وأبلغ في الإساءة حين غير الكلام على الوجه الذي نشره به.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "إن عرضت به حاجة"، وهو غير عربي، عربيته ما أثبت
(٥) في المطبوعة: "فأنى ذلك من مسألة الآية"، وفي المخطوطة: "فإن ذلك" وصواب ذلك ما أثبت.
221
قلوبنا ونعلم أنْ قد صدقتنا". فقد أنبأ هذا من قِيلهم، (١) أنهم لم يكونوا يعلمون أن عيسى قد صدَقهم، ولا اطمأنت قلوبهم إلى حقيقة نبوّته. فلا بيان أبين من هذا الكلام، في أن القوم كانوا قد خالط قلوبَهم مرضٌ وشك فى دينهم وتصديق رسولهم، وأنهم سَألوا ما سألوا من ذلك اختبارًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٩٩٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ليث، عن عقيل، عن ابن عباس: أنه كان يحدِّث عن عيسى صلى الله عليه وسلم: أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يومًا، ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم؟ فإن أجرَ العامل على من عمل له! ففعلوا، ثم قالوا: يا معلِّم الخير، قلت لنا:"إن أجر العامل على من عمل له"، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يومًا، ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحدٍ ثلاثين يومًا إلا أطعمنا حين نفرُغ طعامًا، فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال عيسى:"اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" ="قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبُنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين"، إلى قوله:"لا أعذبه أحدًا من العالمين". قال: فأقبلت الملائكة تطير بمائدةٍ من السماء عليها سبعةُ أحواتٍ وسبعة أرغفة، حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أوّلهم.
١٢٩٩٦ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء"، قالوا: هل يطيعك ربُّك، إن سألته؟ فأنزل الله عليهم مائدة من السماء فيها جميع الطَّعام إلا اللحم، فأكلوا منها.
* * *
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "فقد أنبأ هذا عن قيلهم"، وهو خطأ محض، مخل بالسياق.
222
وأما"المائدة" فإنها"الفاعلة" من:"ماد فلان القوم يَميدهم مَيْدًا"، إذا أطعمهم ومارهم، ومنه قول رؤبة:
نُهْدِي رُؤُوسَ المتْرَفينَ الأنْدَادْ إلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ المُمْتَادْ (١)
يعني بقوله:"الممتاد"، المستعْطَى. ف"المائدة" المطعِمة، سميت"الخوان" بذلك، لأنها تطعم الآكل ممّا عليها. و"المائد"، المُدَار به في البحر، يقال:"مادَ يَمِيدُ مَيْدًا".
* * *
وأما قوله:"قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين"، فإنه يعني: قال عيسى للحواريّين القائلين له:"هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء" = راقبوا الله، أيها القوم، وخافوه (٢) أن يَنزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا، فإن الله لا يعجزه شيء أراده، وفي شكّكم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء، كفرٌ به، فاتقوا الله أن يُنزل بكم نقمته ="إن كنتم مؤمنين"، يقول: إن كنتم مصدقيَّ على ما أتوعدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم:"هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء"؟
* * *
(١) ديوانه: ٤٠، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٨٣، واللسان (ميد)، وسيأتي في التفسير ١٢: ٨٤ (بولاق)، من رجز تمدح فيه بنفسه، ومدح قومه تميما وسعدًا وخندفًا. ثم قبله في آخرها يذكر قومه:
نَكْفِي قُريشًا مَنْ سَعَى بِالإفْسَادْ مِنْ كُلِّ مَرْهُوبِ الشِّقَاقِ جَحَّادْ
ومُلْحِدٍ خَالَطَ أَمْرَ الإلْحَادْ
وقوله: "نهدي" بالنون، لا بالتاء كما في لسان العرب، وكما كان في المطبوعة هنا. و"المترفون": المتنعمون المتوسعون في لذات الدنيا وشهواتها. و"الأنداد" جمع"ند" (بكسر النون) وهو هنا بمعنى"الضد"، يقال للرجل إذا خالفك، فأردت وجهًا تذهب إليه، ونازعك في ضده: "هو ندى، ونديدي". ويأتي أيضًا بمعنى"المثل والشبيه". ورواية الديوان، ورواية أبي جعفر في المكان الآتي بعد: "الصداد"، جمع"صاد"، وهو المعرض المخالف. يقول: نقتل الخارجين على أمير المؤمنين، ثم نهدي إليه رؤوسهم، وهو المسئول دون الناس.
(٢) في المطبوعة: "وخافوا"، وأثبت ما في المخطوطة.
223
القول في تأويل قوله: ﴿قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قال الحواريون مجيبي عيسى على قوله لهم:"اتقوا الله إن كنتم مؤمنين"، في قولكم لي"هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء" =: إنا إنما قلنا ذلك، وسألناك أن تسأل لنا ربنا لنأكل من المائدة، فنعلم يقينًا قدرته على كل شيء ="وتطمئن قلوبنا"، يقول: وتسكن قلوبنا، وتستقرّ على وحدانيته وقدرته على كل ما شاء وأراد، (١) "ونعلم أن قد صدقتنا"، ونعلم أنك لم تكذبنا في خبرك أنك لله رسول مرسل ونبيّ مبعوث ="ونكون عليها"، يقول: ونكون على المائدة ="من الشاهدين"، يقول: ممن يشهد أن الله أنزلها حجةً لنفسه علينا في توحيده وقدرته على ما شاء، ولك على صدقكَ في نبوّتك. (٢)
* * *
(١) انظر تفسير"الاطمئنان" فيما سلف ٥: ٤٩٢/٩: ١٦٥.
(٢) انظر تفسير"الشاهد" فيما سلف من فهارس اللغة (شهد).
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم، أنه أجاب القوم إلى ما سألوا من مسألة ربه مائدةً تنزل عليهم من السماء.
224
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا". فقال بعضهم: معناه: نتخذ اليومَ الذي نزلت فيه عيدًا نُعَظِّمه نحن ومن بعدَنا.
* ذكر من قال ذلك:
١٢٩٩٧ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا"، يقول: نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيدًا نعظِّمه نحن ومن بعدنا.
١٢٩٩٨ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله"تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا"، قال: أرادوا أن تكون لعَقِبهم من بعدهم.
١٢٩٩٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا لأولنا"، قال: الذين هم أحياء منهم يومئذ ="وآخرنا"، من بعدهم منهم.
١٣٠٠٠- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، قال سفيان:"تكون لنا عيدًا"، قالوا: نصلي فيه. نزلت مرتين.
* * *
وقال آخرون: معناه: نأكل منها جميعًا.
* ذكر من قال ذلك:
١٣٠٠١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ليث، عن عقيل، عن ابن عباس أنه قال: أكل منها = يعني: من المائدة = حين وضعت بين أيديهم، آخر الناس، كما أكل منها أولهم.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله"عيدًا"، عائدة من الله تعالى ذكره علينا، وحجة وبرهانًا.
* * *
225
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب، قولُ من قال:"معناه: تكون لنا عيدًا، نعبد ربنا في اليوم الذي تنزل فيه، ونصلي له فيه، كما يعبد الناس في أعيادهم"، لأن المعروف من كلام الناس المستعمل بينهم في"العيد"، ما ذكرنا، دون القول الذي قاله من قال:"معناه: عائدة من الله علينا". وتوجيه معاني كلام الله إلى المعروف من كلام من خوطب به، أولى من توجيهه إلى المجهول منه، ما وجد إليه السبيل.
* * *
وأما قوله:"لأولنا وآخرنا"، فإن الأولى من تأويله بالصواب، قولُ من قال:"تأويله: للأحياء منا اليوم، ومن يجيء بعدنا منا"، للعلة التي ذكرناها في قوله:"تكون لنا عيدًا"، لأن ذلك هو الأغلب من معناه.
* * *
وأما قوله:"وآية منك"، فإن معناه: وعلامةً وحجة منك يا رب، على عبادك في وحدانيتك، وفي صدقي على أنّي رسولٌ إليهم بما أرسلتني به (١) ="وارزقنا وأنت خير الرازقين"، وأعطنا من عطائك، فإنك يا رب خير من يعطي، وأجود من تفضَّل، لأنه لا يدخل عطاءه منٌّ ولا نكَد. (٢)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في"المائدة"، هل أنزلت عليهم، أم لا؟ وما كانت؟
فقال بعضهم: نزلت، وكانت حوتًا وطعامًا، فأكل القوم منها، ولكنها رفعت بعد ما نزلت بأحداثٍ منهم أحدثوها فيما بينهم وبين الله تعالى ذكره.
ذكر من قال ذلك:
١٣٠٠٢ - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا
(١) انظر تفسير"آية" فيما سلف من فهارس اللغة (أيي).
(٢) وانظر تفسير"الرزق" فيما سلف من فهارس اللغة (رزق).
226
شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: نزلت المائدة، خبزًا وسمكًا.
١٣٠٠٣ - حدثني الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا أبي، عن الفضيل، عن عطية قال:"المائدة"، سمكة فيها طعم كلِّ طعام.
١٣٠٠٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن فضيل، عن مسروق، عن عطية قال:"المائدة"، سمك فيه من طعم كل طعام.
١٣٠٠٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن قال: نزلت المائدة خبزًا وسمكًا.
١٣٠٠٦ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: نزلت على عيسى ابن مريم والحواريين، خِوانٌ عليه خبز وسمك، يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاؤوا.
١٣٠٠٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا المنذر بن النعمان، أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله:"أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا"، قال: نزل عليهم قرصة من شعير وأحوات = قال الحسن، قال أبو بكر: (١) فحدَّثت به عبد الصمد بن معقل فقال: سمعت وهبًا، وقيل له: وما كان ذلك يُغْني عنهم؟ فقال: لا شيء، ولكن الله حَثَا بين أضعافهن البركة، فكان قوم يأكلون ثم يخرجون، ويجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون، حتى أكلوا جميعهم وأفضَلُوا.
١٣٠٠٨ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد قال: هو الطعام ينزل عليهم حيث نزلوا.
١٣٠٠٩ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
(١) "أبو بكر" هو"عبد الرزاق"، وهو: "عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري".
227
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"مائدة من السماء"، قال: مائدة عليها طعام، أُتوا بها؛ حين عرض عليهم العذاب إن كفروا. ألوان من طعام ينزل عليهم. (١)
١٣٠١٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن إسحاق بن عبد الله: أن المائدة نزلت على عيسى ابن مريم، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحْوات، يأكلون منها ما شاؤوا. قال: فسرق بعضهم منها وقال:"لعلها لا تنزل غدًا! "، فرفعت.
١٣٠١١ - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن سماك بن حرب، عن رجل من بني عجل قال: صليت إلى جنب عَمار بن ياسر، فلما فرغ قال: هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل؟ قال فقلت: لا! قال: إنهم سألوا عيسى ابن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد. قال: فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخبئوا، أو تخونوا، أو ترفعوا، فإن فعلتم فإنّي أعذبكم عذابًا لا أعذّبه أحدا من العالمين! قال: فما تمّ يومهم حتى خبئوا ورَفعوا وخانوا، فعذبوا عذابًا لم يعذبه أحد من العالمين. وإنكم معشر العرب، كنتم تتْبعون أذنابَ الإبل والشاء، فبعث الله فيكم رسولا من أنفسكم، تعرفون حسبه ونسبه، وأخبركم على لسان نبيكم أنكم ستظهارون على العرَب، ونهاكم أن تكنزوا الذهبَ والفضة. وايمْ الله. لا يذهبُ الليلُ والنهارُ حتى تكنزوهما، ويعذِّبكم عذابًا أليمًا.
١٣٠١٢ - حدثنا الحسن بن قزعة البصري قال، حدثنا سفيان بن حبيب قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عمار بن ياسر
(١) في المطبوعة، غير هذه العبارة تغيرًا شاملا مزيلا لمعناها، فكتب: مائدة عليها طعام، أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا، فأبوا أن تنزل عليهم"، وأثبت ما في المخطوطة.
أما المعنى الذي صحح الناشر الأول عليه هذا الأثر، فهو مخالف لهذا كل المخالفة، لأنه من قول من قال: "لم تنزل على بني إسرائيل مائدة"، وهو قول مروي عن مجاهد فيما سيأتي رقم: ١٣٠٢١.
228
قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزلت المائدة خبزًا ولحمًا، وأُمروا أن لا يخونوا ولا يدَّخروا ولا يرفعوا لغدٍ، فخانوا وادّخروا ورفعوا، فمسخوا قردة وخنازير. (١)
١٣٠١٣- حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا يوسف بن خالد قال، حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في المائدة قال: كانت طعامًا ينزل عليهم من السماء حيثما نزلوا.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
١٣٠١٤- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عمار قال: نزلت المائدة وعليها ثمرٌ من ثمر الجنة، فأمروا أن لا يخبئوا ولا يخونوا ولا يدخروا، قال: فخان القوم وخبئوا وادَّخروا، فحوّلهم الله قردة وخنازير. (٢)
١٣٠١٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أنها كانت مائدة ينزل عليها الثمرُ من ثمار الجنة، وأمروا أن لا
(١) الأثر: ١٣٠١٢ -"الحسن بن قزعة بن عبيد الهاشمي البصري"، ثقة. مضى برقم: ٨٢٨١.
و"سفيان بن حبيب البصري"، ثقة، مضى برقم: ١١٣٠٢، ١١٣٢١.
و"خلاس بن عمرو الهجري"، مضى مرارًا، منها: ٤٥٥٧، ٥١٣٤، وغيرهما.
وكان في المطبوعة: "جلاس بن عمرو"، وهو خطأ.
وهذا الخبر، رواه الترمذي في كتاب التفسير من سننه، بإسناده عن الحسن بن قزعة، ثم قال: "هذا حديث رواه أبو عاصم وغير واحد، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن خلاس، عن عمار، موقوفًا. ولا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث الحسن بن قزعة = حدثنا حميد بن مسعدة، حدثنا سفيان بن حبيب، عن سعيد بن أبي عروبة، نحوه، ولم يرفعه. وهذا أصح من حديث الحسن بن قزعة، ولا نعرف للحديث المرفوع أصلا".
وانظر الأثر التالي رقم: ١٣٠١٤، وهو الخبر الموقوف.
(٢) الأثر: ١٣٠١٤ - انظر التعليق على رقم: ١٣٠١٢، وكان في المطبوعة هنا أيضًا"جلاس بن عمرو" وهو خطأ.
229
يخبئوا ولا يخونوا ولا يدخروا لغد، بلاء ابتلاهم الله به، (١) وكانوا إذا فعلوا شيئًا من ذلك، أنبأهم به عيسى، فخان القوم فيه فخبئوا وادّخروا لغدٍ.
* * *
وقال آخرون: كان عليها من كلّ طعام إلا اللحم.
* ذكر من قال ذلك:
١٣٠١٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جرير، عن عطاء، عن ميسرة قال: كانت إذا وضعت المائدة لبني إسرائيل، اختلفت عليها الأيدي بكل طعام.
١٣٠١٧ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن عطاء، عن ميسرة وزاذان قالا كانت الأيدي تختلف عليها بكل طعام.
١٣٠١٨- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن زاذان وميسرة، في:"هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدةً من السماء"، قالا رأوا الأيدي تختلف عليها بكل شيء إلا اللحم. (٢)
* * *
وقال آخرون: لم ينزل الله على بني إسرائيل مائدة.
* * *
ثم اختلف قائلو هذه المقالة.
فقال بعضهم: إنما هذا مثل ضربه الله تعالى ذكره لخلقه، نهاهم به عن مسألة نبيّ الله الآيات.
* ذكر من قال ذلك:
١٣٠١٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك،
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "أبلاهم الله به"، وهو لا يصح، صواب قراءته ما أثبت.
(٢) الأثران: ١٣٠١٧، ١٣٠١٨ -"زاذان الكندي الضرير"، مضى برقم: ٩٥٠٨.
230
عن ليث، عن مجاهد في قوله:"أنزل علينا مائدة من السماء"، قال: مثل ضُرب، لم ينزل عليهم شيء.
* * *
وقال آخرون: إنّ القوم لما قيل لهم:"فمن يكفر بعدُ منكم فإني أعذِّبه عذابًا لا أعذِّبه أحدًا من العالمين"، استعفَوْا منها فلم تنزل.
* ذكر من قال ذلك:
١٣٠٢٠ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول: لما قيل لهم:"فمن يكفر بعد منكم"، إلى آخر الآية، قالوا: لا حاجة لنا فيها فلم تنزل.
١٣٠٢١- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن: أنه قال في المائدة: لم تنزل. (١)
١٣٠٢٢ - حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: مائدة عليها طعام، أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا، فأبوا أن تَنزل عليهم.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى مسألتَه ذلك ربَّه.
وإنما قلنا ذلك، للخبر الذي روينا بذلك عن رسول الله ﷺ وأصحابه وأهل التأويل من بعدهم، غير من انفرد بما ذكرنا عنه.
وبعدُ، فإن الله تعالى ذكره لا يخلف وعدَه، ولا يقع في خبره الْخُلف، وقد قال تعالى ذكره مخبرًا في كتابه عن إجابة نبيه عيسى ﷺ حين سأله ما سأله من ذلك:"إني منزلها عليكم"، وغير جائز أن يقول تعالى ذكره:
(١) الأثر: ١٣٠٢١ -"منصور بن زاذان الثقفي الواسطي"، أبو المغيرة. ثقة، روى عن أبي العالية، وعطاء بن أبي رباح، والحسن، وابن سيرين. مترجم في التهذيب.
231
"إني منزلها عليكم"، ثم لا ينزلها، لأن ذلك منه تعالى ذكره خبر، ولا يكون منه خلاف ما يخبر. ولو جاز أن يقول:"إني منزلها عليكم"، ثم لا ينزلها عليهم، جاز أن يقول:"فمن يكفر بعد منكم فإنّي أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين"، ثم يكفر منهم بعد ذلك، فلا يعذّبه، فلا يكون لوعده ولا لوعيده حقيقة ولا صحة. وغير جائز أن يوصف ربنا تعالى ذكره بذلك.
* * *
وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة، فأن يقال: كان عليها مأكول. وجائز أن يكون كان سمكًا وخبزًا، وجائزٌ أن يكون كانَ ثمرًا من ثمر الجنة، وغيرُ نافع العلم به، ولا ضارّ الجهل به، إذا أقرَّ تالي الآية بظاهر ما احتمله التنزيل.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (١١٥) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا جواب من الله تعالى ذكره القومَ فيما سألوا نبيّهم عيسى مسألةَ ربهم، من إنزاله مائدة عليهم. فقال تعالى ذكره: إني منزلها عليكم، أيها الحواريون، فمطعمكموها ="فمن يكفر بعد منكم"، يقول: فمن يجحد بعد إنزالها عليكم، وإطعاميكموها - منكم رسالتي إليه، وينكر نبوة نبيِّي عيسى صلى الله عليه وسلم، ويخالفْ طاعتي فيما أمرته ونهيته ="فإني أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدا من العالمين"، من عالمي زمانه. ففعل القوم، فجحدوا وكفروا بعد ما أنزلت عليهم، فيما ذكر لنا، فعذبوا، فيما بلغنا، بأن مُسِخوا قردة وخنازير، كالذي:-
١٣٠٢٣ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إني منزلها عليكم" الآية، ذكر لنا أنهم حوِّلوا خنازير.
١٣٠٢٤- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب ومحمد بن أبي عدي، ومحمد بن جعفر، عن عوف، عن أبي المغيرة القوّاس، عن عبد الله بن عمرو قال: إن أشدّ الناس عذابًا ثلاثة: المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون. (١)
١٣٠٢٥- حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن عوف قال: سمعت أبا المغيرة القوّاس يقول: قال عبد الله بن عمرو: إنّ أشد الناس عذابًا يوم القيامة: من كفر من أصحاب المائدة، والمنافقون، وآل فرعون. (٢)
١٣٠٢٦ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"فمن يكفر بعد منكم"، بعد ما جاءته المائدة ="فإني أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين"، يقول: أعذبه بعذاب لا أعذبه أحدًا من العالمين غير أهل المائدة.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم"،"إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمِّيَ إلهين من دون الله".
* * *
(١) الأثران: ١٣٠٢٥، ١٣٠٢٦ -"أبو المغيرة القواس"، روى عن عبد الله بن عمرو. روى عنه عوف. وسئل أبو زرعة عن اسمه فقال: "لا أعلم أحدًا يسميه". ضعفه سليمان التيمي، ووثقه ابن معين. مترجم في الكنى للبخاري: ٧٠، وابن أبي حاتم ٤/٢/٤٣٩.
(٢) الأثران: ١٣٠٢٥، ١٣٠٢٦ -"أبو المغيرة القواس"، روى عن عبد الله بن عمرو. روى عنه عوف. وسئل أبو زرعة عن اسمه فقال: "لا أعلم أحدًا يسميه". ضعفه سليمان التيمي، ووثقه ابن معين. مترجم في الكنى للبخاري: ٧٠، وابن أبي حاتم ٤/٢/٤٣٩.
233
وقيل: إن الله قال هذا القولَ لعيسى حين رفعه إليه في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك:
١٣٠٢٨ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله"، قال: لما رفع الله عيسى ابن مريم إليه، قالت النصارى ما قالت، وزعموا أنّ عيسى أمرَهم بذلك، فسأله عن قوله فقال:"سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب" إلى قوله:"وأنت على كل شيء شهيد".
* * *
وقال آخرون: بل هذا خبر من الله تعالى ذكره عن أنه يقول لعيسى ذلك في القيامة.
* ذكر من قال ذلك:
١٣٠٢٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله"، قال: والناس يسمعون، فراجعه بما قد رأيت، وأقرَّ له بالعبودية على نفسه، فعلم من كان يقول في عيسى ما يقول: أنه إنما كان يقول باطلا.
١٣٠٣٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء، عن ميسرة قال: قال الله: يا عيسى، أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله؟ فأُرْعِدت مفاصله، وخشي أن يكون قد قال، فقال: سبحانك، إن كنت قلته فقد علمته = الآية.
١٣٠٣١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر،
234
عن قتادة في قوله:"يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله"، متى يكون ذلك؟ قال: يوم القيامة، ألا ترى أنه يقول:"هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم"؟
= فعلى هذا التأويل الذي تأوَّله ابن جريج، يجب أن يكون"وإذ" بمعنى: و"إذا"، كما قال في موضع آخر: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا، [سورة سبأ: ٥١]، بمعنى: يفزعون، وكما قال أبو النجم:
ثُمَّ جَزَاهُ اللهُ عَنَّا إذْ جَزَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي العَلالِيِّ العُلا (١)
والمعنى: إذا جزى، وكما قال الأسود: (٢)
فَالآنَ، إذْ هَازَلْتُهُنَّ، فإنَّمَا... يَقُلْنَ: ألا لَمْ يَذْهَبِ الشَّيْخُ مَذْهَبَا!! ٌٌ (٣)
بمعنى: إذا هازلتهن.
(١) الأضداد لابن الأنباري: ١٠٢، والصاحبي: ١١٢، واللسان (طها) وسيأتي بعد قليل في هذا الجزء ص: ٣١٧، بزيادة بيت. وقوله: "العلالي"، جمع"علية" (بكسر العين، وتشديد اللام المكسورة، والياء المشدودة) : وهي الغرفة العالية من البيت. وأرد بذلك: "في عليين"، المذكورة في القرآن. وقد قال هدبة من خشرم أيضًا، فتصرف:
كأنَّ حَوْطًا، جزاهُ اللهُ مَغْفِرَةً وَجَنَّةً ذاتَ عِلِّيٍّ وأشْرَاعِ
و"الأشراع"، السقائف.
(٢) هو الأسود بن يعفر النهشلي، أعشى بني نهشل.
(٣) ديوان الأعشين: ٢٩٣، والأضداد لابن الأنباري: ١٠١، من قصيدة له، ذهب أكثرها فلم يوجد منها في الكتب المطبوعة، غير هذا البيت، وخمسة أبيات أخرى، في ديوانه، وفي العيني (هامش خزانة الأدب ٤: ١٠٣)، وهي أبيات جياد: وَكَان لَهُ، فِيمَا أَفَادَ، خَلاَئِلٌ... عَجِلْنَ، إذَا لاقَيْنَهُ، قُلْنَ: مَرْحَبَاٌ!!
235
وكأنّ من قال في ذلك بقول ابن جريج هذا، وجَّه تأويل الآية إلى:"فمن يكفر بعدُ منكم فإنّي أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين" في الدنيا = وأعذبه أيضًا في الآخرة:"إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين عندنا بالصواب في ذلك، قولُ من قال بقول السدي، وهو أن الله تعالى ذكره قال ذلك لعيسى حين رفعه إليه، وأن الخبرَ خبرٌ عما مضى، لعلَّتين:
إحداهما: أن"إذْ" إنما تصاحب = في الأغلب من كلام العرب المستعمل بينها = الماضيَ من الفعل، وإن كانت قد تدخلها أحيانًا في موضع الخبر عما يحدث، إذا عرف السامعون معناها. وذلك غير فاشٍ، ولا فصيح في كلامهم، (١) وتوجيه معاني كلام الله تعالى إلى الأشهر الأعرف ما وجد إليه السبيل، (٢) أولى من توجيهها إلى الأجهل الأنكر.
والأخرى: أن عيسى لم يشك هو ولا أحد من الأنبياء، أن الله لا يغفر لمشرك مات على شركه، فيجوز أن يُتَوهم على عيسى أن يقول في الآخرة مجيبًا لربه تعالى ذكره: إن تعذّب من اتخذني وأمي إلهين من دونك فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم.
* * *
فإن قال قائل: وما كان وجه سؤال الله عيسى: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله"، وهو العالم بأن عيسى لم يقل ذلك؟
قيل: يحتمل ذلك وجهين من التأويل:
(١) انظر ما سلف من القول في"إذ" و"إذا" ١: ٣٤٩ - ٤٤٤، ٤٩٣/٣: ٩٢، ٩٨/٦: ٤٠٧، ٥٥٠/٧: ٣٣٣/٩: ٦٢٧. وانظر ما سيأتي ص: ٣١٧.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "فتوجيه" بالفاء، والجيد ما أثبت.
236
أحدهما: تحذير عيسى عن قيل ذلك ونهيُه، كما يقول القائل لآخر:"أفعلت كذا وكذا"؟ مما يعلم المقولُ له ذلك أن القائل يستعظم فعل ما قال له:"أفعلته"، على وجه النهي عن فعله، والتهديد له فيه.
والآخر: إعلامه أنّ قومه الذين فارقهم قد خالفوا عهده، وبدّلوا دينهم بعده. فيكون بذلك جامعًا إعلامَه حالَهم بعده، وتحذيرًا له قيله. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأما تأويل الكلام، فإنه: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين"، أي: معبودين تعبدونهما من دون الله. قال عيسى: تنزيهًا لك يا رب وتعظيمًا أن أفعل ذلك أو أتكلم به (٢) = ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق"، يقول: ليس لي أن أقول ذلك، لأني عبد مخلوق، وأمي أمَةٌ لك، وكيف يكون للعبد والأمة ادّعاء ربوبية؟ = (٣) "إن كنت قلته فقد علمته"، يقول: إنك لا يخفى عليك شيء، وأنت عالم أني لم أقل ذلك ولم آمُرهم به.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ (١١٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم: أنه يبرأ إليه مما قالت فيه وفي أمه الكفرةُ من النصارى، أن يكون دعاهم إليه أو أمرهم به، فقال:"سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت
(١) في المطبوعة: "وتحذيره"، غير ما كان في المخطوطة لغير طائل.
(٢) انظر تفسير"سبحان" فيما سلف ١: ٤٧٤ - ٤٧٦، ٤٩٥/٢: ٥٣٧/٦: ٤٢٣.
(٣) في المطبوعة: "فهل يكون للعبد"، وفي المخطوطة: "فيكون يكون للعبد"، هكذا ورجحت قراءتها كما أثبتها.
237
قلته فقد علمته". ثم قال:"تعلم ما في نفسي"، يقول: إنك، يا رب، لا يخفى عليك ما أضمرته نفسي مما لم أنطق به ولم أظهره بجوارحي، فكيف بما قد نطقتُ به وأظهرته بجوارحي؟ يقول: لو كنت قد قلت للناس: ا"تخذوني وأمي إلهين من دون الله"، كنت قد علمته، لأنك تعلم ضمائر النفوس مما لم تنطق به، فكيف بما قد نطقت به؟ ="ولا أعلم ما في نفسك"، يقول: ولا أعلم أنا ما أخفيته عني فلم تطلعني عليه، لأني إنما أعلم من الأشياء ما أعلمتنيه ="إنك أنت عَلام الغيوب"، يقول: إنك أنت العالم بخفيّات الأمور التي لا يطلع عليها سواك، ولا يعلمها غيرك. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول عيسى، يقول: ما قلت لهم إلا الذي أمرتني به من القول أن أقوله لهم، وهو أن قلت لهم:"اعبدوا الله ربي وربكم" ="وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم"، يقول: وكنت على ما يفعلونه وأنا بين أظهرهم شاهدًا عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم (٢) ="فلما توفيتني"،
(١) انظر تفسير"علام الغيوب" فيما سلف قريبًا: ٢١١ = وتفسير"الغيب" ١: ٢٣٦، ٢٣٧/٦: ٤٠٥/١٠: ٥٨٥.
(٢) انظر تفسير: "شهيد" فيما سلف من فهارس اللغة (شهد) = وتفسير"ما دام" فيما سلف ١٠: ١٨٥/ ١١: ٧٤.
238
يقول: فلما قبضتني إليك (١) ="كنت أنت الرقيب عليهم"، يقول: كنت أنت الحفيظ عليهم دوني، (٢) لأني إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهرهم.
وفي هذا تبيانُ أن الله تعالى ذكره إنما عرّفه أفعالَ القوم ومقالتهم بعد ما قبضه إليه وتوفاه بقوله:"أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله".
="وأنت على كل شيء شهيد" يقول: وأنت تشهد على كل شيء، لأنه لا يخفى عليك شيء، وأما أنا، فإنما شهدت بعض الأشياء، وذلك ما عاينت وأنا مقيم بين أظهر القوم، فإنما أنا أشهد على ذلك الذي عاينت ورأيتُ وشهدت.
* * *
وبنحو الذي قلنا في قوله:"كنت أنت الرقيب عليهم"، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٣٠٣٢ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدى:"كنت أنت الرقيب عليهم"، أما"الرقيب"، فهو الحفيظ.
١٣٠٣٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"كنت أنت الرقيب عليهم"، قال: الحفيظ.
* * *
وكانت جماعة من أهل العلم تقول: كان جواب عيسى الذي أجاب به ربَّه من الله تعالى، توقيفًا منه له فيه. (٣)
* ذكر من قال ذلك:
١٣٠٣٤ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن معمر،
(١) انظر تفسير"توفاه" فيما سلف ٦: ٤٥٥ - ٤٦١/٨: ٧٣/٩: ١٠٠.
(٢) انظر تفسير"الرقيب" فيما سلف ٧: ٥٢٣.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "توفيقًا" (بالفاء قبل القاف)، في هذا الموضع وما يليه.
وهو خطأ من الناسخ والناشر لا شك فيه، صوابه ما أثبت. يقال: "وقفت الرجل على الكلمة توقيفًا"، إذا علمته الكلمة لم يكن يعلمها، أو غابت عنه. أي أنها كانت من تعليم الله إياه، لم يقلها من عند نفسه.
239
عن ابن طاوس، عن أبيه:"أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق"، قال: الله وقَّفَه. (١)
١٣٠٣٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو داود الحفري قال، قرئ على سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه طاوس قال: احتج عيسى، والله وقّفه:"أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله"، الآية.
١٣٠٣٦ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن عطاء، عن ميسرة قال: قال الله تعالى ذكره:"يا عيسى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله"؟ قال: فأُرعدت مفاصله، وخشى أن يكون قد قالها، فقال:"سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنْ تعذب هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، بإماتتك إياهم عليها ="فإنهم عبادك"، مستسلمون لك، لا يمتنعون مما أردت بهم، ولا يدفعون عن أنفسهم ضرًّا ولا أمرًا تنالهم به ="وإن تغفر لهم"، بهدايتك إياهم إلى التوبة منها، فتستر عليهم ="فإنك أنت العزيز"، (٢) في
(١) في المطبوعة والمخطوطة: "الله وفقه"، وانظر التعليق السالف، وكذلك ما سيأتي في الأثر التالي.
(٢) انظر تفسير"العباد"، و"المغفرة"، و"العزيز"، و"الحكيم" فيما سلف من فهارس اللغة (عبد)، (غفر)، (عزز)، (حكم).
انتقامه ممن أراد الانتقام منه، لا يقدر أحدٌ يدفعه عنه ="الحكيم"، في هدايته من هدى من خلقه إلى التوبة، وتوفيقه من وفَّق منهم لسبيل النجاة من العقاب، كالذي:-
١٣٠٣٧ - حثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم"، فتخرجهم من النصرانية، وتهديهم إلى الإسلام ="فإنك أنت العزيز الحكيم". وهذا قول عيسى في الدنيا.
١٣٠٣٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم"، قال: والله ما كانوا طعَّانين ولا لعَّانين.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله:"هذا يوم ينفع الصادقين". فقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والمدينة: (هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ)، بنصب"يوم".
* * *
وقرأه بعض أهل الحجاز وبعض أهل المدينة، وعامة قرأة أهل العراق: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ، برفع"يوم". فمن رفعه رفعه ب"هذا"، وجعل"يوم" اسمًا، وإن كانت إضافته غير محضة، لأنه قد صار كالمنعوت. (١)
(١) في المطبوعة: "لأنه صار"، أسقط"قد".
241
وكان بعض أهل العربية يزعم أن العرب يعملون في إعراب الأوقات مثل"اليوم" و"الليلة"، عملهم فيما بعدها. إن كان ما بعدها رفعًا رفعوها، كقولهم:"هذا يومُ يركب الأمير"، و"ليلةُ يصدر الحاج"، و"يومُ أخوك منطلق". وإن كان ما بعدها نصبًا نصبوها، وذلك كقولهم:"هذا يومَ خرج الجيش، وسار الناس"، و"ليلةَ قتل زيد"، ونحو ذلك، وإن كان معناها في الحالين"إذ" و"إذا".
* * *
وكأن من قرأ هذا هكذا رفعًا، وجَّه الكلام إلى أنه من قيل الله يوم القيامة.
* * *
وكذلك كان السدي يقول في ذلك.
١٣٠٣٩ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال الله:"هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم"، هذا فصل من كلام عيسى، وهذا يوم القيامة.
* * *
يعني السدي بقوله:"هذا فصل من كلام عيسى": أن قوله:"سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق" إلى قوله:"فإنك أنت العزيز الحكيم"، من خبر الله عز وجل عن عيسى أنه قاله في الدنيا بعد أن رفعه إليه، وأن ما بعد ذلك من كلام الله لعباده يوم القيامة.
* * *
وأما النصب في ذلك، فإنه يتوجه من وجهين:
أحدهما: أن إضافة"يوم" ما لم تكن إلى اسم، تجعله نصبًا، لأن الإضافة غير محضة، وإنما تكون الإضافة محضة، إذا أضيف إلى اسم صحيح. ونظير"اليوم" في ذلك:"الحين" و"الزمان"، وما أشبههما من الأزمنة، كما قال النابغة:
242
صَحَا سَكَرٌ مِنْه طَوِيلٌ بِزَيْنَيَا تَعَاقَبَهُ لَمَّا اسْتَبَانَ وجَرَّبَا
وَأَحْكَمَهُ شَيْبُ القَذَالِ عَنِ الصِّبَا فَكَيْفَ تَصَابِيه وَقَدْ صَار أَشْيَبَا؟
فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنَهُ عَنْ بِمَا بهِ أصَعَّدَ فَي عُلْوِ الهَوَى أم تَصَوَّبَا؟
طَوَامِحُ بالأَبْصَارِ عَنْه، كَأَنَّمَا يَرَيْنَ عَلَيْهِ جُلَّ أَدْهَمَ أجْرَبَا
عَلَى حِيْنَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا وَقُلْتُ ألَمَّا تَصْحُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ (١)
والوجه الآخر: أن يكون مرادًا بالكلام: هذا الأمر وهذا الشأن، يومَ ينفع الصادقين = فيكون"اليوم" حينئذ منصوبًا على الوقت والصفة، بمعنى: هذا الأمر في يوم ينفع الصادقين صدقهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب: (هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ)، بنصب"اليوم"، على أنه منصوب على الوقت والصفة. لأن معنى الكلام: إنّ الله جل وتعالى ذكره أجاب عيسى حين قال:"سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته"، إلى قوله:"فإنك أنت العزيز الحكيم"، فقال له عز وجل: هذا القولُ النافعُ = أو هذا الصدق النافع = يوم ينفع الصادقين صدقهم. ف"اليوم" وقت القول والصدق النافع.
* * *
فإن قال قائل: فما موضع"هذا"؟
قيل: رفع.
فإن قال: فأين رَافعه؟
(١) ديوانه: ٣٨، ومعاني القرآن للفراء ١: ٣٢٧، وسيبويه ١: ٣٦٩، والخزانة ٣: ١٥١ والعيني (هامش الخزانة) ٣: ٤٠٦/ ٤: ٣٥٧، وسيأتي في هذا التفسير ١٩: ٨٨/ ثم ٣٠: ٥٧، (بولاق)، ورواية أبي جعفر هنا"ألما تصح" كرواية الفراء، وفي سائر المراجع"ألما أصح". وهما روايتان صحيحتا المعنى.
وهذا البيت من قصيدته التي قالها معتذرا إلى النعمان بن المنذر، متنصلا مما قذفه به مرة بن ربيعة عند النعمان، يقول قبله:
فَكَفْكَفْتُ مِنِّي عَبْرَةً فَرَدَدْتُهَا على النَّحْرِ، مِنْها مُسْتَهِلٌّ ودامِعٌ
يقول: عاقبت نفسي على تشوقها إلى ما فات من صباي، فقد شبت وشابت لداتي، وقلت لنفسي: ألم تفق بعد من سكرة الصبا، وعهد الناس بالمشيب أنه يكف من غلواء الشباب!
243
قيل: مضمر. وكأنه قال: قال الله عز وجل: هذا، هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم، كما قال الشاعر: (١)
أَمَا تَرَى السَّحَابَ كَيْفَ يَجْرِي ؟ هذا، وَلا خَيْلُكَ يَا ابْن بِشْرِ
يريد: هذا هذا، ولا خيلك.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام، إذ كان الأمر على ما وصفنا لما بينا: قال الله لعيسى: هذا القول النافع في يوم ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم ذلك، في الآخرة عند الله ="لهم جنات تجري من تحتها الأنهار"، يقول: للصادقين في الدنيا، جنات تجري من تحتها الأنهار في الآخرة، ثوابًا لهم من الله عز وجل على ما كان من صدقهم الذي صدقوا الله فيما وعدوه، فوفوا به لله، فوفى الله عز وجل لهم ما وعدهم من ثوابه ="خالدين فيها أبدًا"، يقول: باقين في الجنات التي أعطاهموها ="أبدًا"، دائمًا، لهم فيها نعيم لا ينتقل عنهم ولا يزول. (٢)
* * *
وقد بينا فيما مضى أن معنى"الخلود"، الدوام والبقاء. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: رَضي الله عن هؤلاء الصادقين الذين
(١) لم أعرف هذا الراجز
(٢) انظر تفسير"أبدًا" فيما سلف ٩: ٢٢٧/١٠: ١٨٥.
(٣) انظر فهارس اللغة فيما سلف (خلد).
244
صدقوا في الوفاء له بما وعدوه، من العمل بطاعته واجتناب معاصيه ="ورضوا عنه"، يقول: ورضوا هم عن الله تعالى ذكره في وفائه لهم بما وعدهم على طاعتهم إياه فيما أمرهم ونهاهم، من جزيل ثوابه (١) ="ذلك الفوز العظيم"، يقول: هذا الذي أعطاهم الله من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها، مرضيًّا عنهم وراضين عن ربهم، هو الظفر العظيم بالطَّلِبة، (٢) وإدراك الحاجة التي كانوا يطلبونها في الدنيا، ولها كانوا يعملون فيها، فنالوا ما طلبوا، وأدركوا ما أمَّلوا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيها النصارى،"لله ملك السموات والأرض"، يقول: له سلطان السموات والأرض (٣) ="وما فيهن"، دون عيسى الذين تزعمون أنه إلهكم، ودون أمه، ودون جميع من في السموات ومن في الأرض، فإن السموات والأرض خلق من خلقه وما فيهن، وعيسى وأمُّه من بعض ذلك بالحلول والانتقال، يدلان بكونهما في المكان الذي هما فيه بالحلول فيه والانتقال، أنهما عبدان مملوكان لمن له ملك السموات والأرض وما فيهن. ينبِّههم وجميعَ خلقه على موضع حجته عليهم، ليدَّبروه ويعتبروه فيعقلوا عنه ="وهو على كل شيء
(١) انظر تفسير"الرضا" فيما سلف ٦: ٢٦٢/٩: ٤٨٠/١٠: ١٤٤.
(٢) انظر تفسير"الفوز". فيما سلف ٧: ٤٥٢، ٤٧٢/٨: ٧١.
(٣) انظر تفسير"الملك" فيما سلف ٨: ٤٨٠، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
245
قدير"، (١) يقول تعالى ذكره: والله الذي له ملك السموات والأرض وما فيهن، قادرٌ على إفنائهن وعلى إهلاكهن، وإهلاك عيسى وأمه ومن في الأرض جميعًا كما ابتدأ خلقهم، لا يعجزه ذلك ولا شيء أراده، لأن قدرته القدرةُ التي لا تشبهها قدرة، وسلطانه السلطان الذي لا يشبهه سلطان ولا مملكة.
* * *
(آخر تفسير سورة المائدة) (٢)
(١) انظر تفسير"قدير" فيما سلف من فهارس اللغة (قدر).
(٢) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه:
"آخر تفسير سورة المائدة صَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيم يَتْلُوهُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، تَفْسِيرُ سُورَةِ الأَنْعَامِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمينَ"
246
Icon