تفسير سورة الأعلى

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الأعلى من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ﴾ الأمر وإن كان للنبي، إلا أن المراد منه العموم، لأن الأصل عدم الخصوصية إلا لدليل، قوله: (أي نزه ربك) أي اعتقد أنه منزه عن كل ما لا يليق به، في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه، فتنزيه الذات اعتقاد أنها ليست كالذوات، فلا توصف بالجوهرية ولا بالعرضية، ولا بالكبر ولا بالصغر؛ ولا بغير ذلك من أوصاف الحدوث، وتنزيه الصفات اعتقاد أنها ليست حادثة ولا متناهية ولا ناقصة، وتنزيه الأفعال اعتقاد أنه تعالى ليست أفعاله كأفعاله المخلوقين، وتنزيه الأسماء عدم ذكره بالأسماء التي توهم نقصاً بوجه من الوجوه، وتنزيه الأحكام عدم الأغراض فيها، فتكليفنا لأنفسنا لا لنفع يعود عليه. (ولفظ اسم زائد) ليس بمتعين، بل كما تنزه الذات ينزه الاسم أيضاً، عن أن يسمى به غيره، ومن جملة تنزيه الاسم، أن لا يذكر في موضع الأقذار، بأن يذكر على وجه التعظيم والتفخيم، في المواضع الطاهرة الفاخرة، ومن جملة تنزيه الاسم، استحضارك عظمة المسمى عند ذكره. قوله: ﴿ ٱلأَعْلَىٰ ﴾ من العلو وهو الارتفاع، بمعنى القهر والغلبة والسلطنة، فهو علو مكانة لا مكان. قوله: (صفة لربك) أي فهو مجرور بكسرة مقدرة على الألف، وهذه الصفة جارية مجرى التعليل، كأنه قال: سبح اسم ربك لكونه مرتفع المكانة، منزهاً عن النقائض أزلاً أبداً، ولا يصح أن يكون صفة لاسم منصوب بالفتحة المقدرة مع جعل ﴿ ٱلَّذِي خَلَقَ ﴾ الخ، صفة لربك، لما يلزم عليه من الفصل بين الصفة والموصوف بصفة غيره، نظير قولك جاءني غلام هند العاقل الحسنة: وهو ممتنع، فإن جعل الموصول نعتاً مقطوعاً جاز. قوله: ﴿ ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ﴾ جواب عن سؤال مقدر، كأنه قيل: الاشتغال بالتسبيح إنما يكون بعد معرفة المولى، فما الدليل على وجوده؟ فأجاب بما ذكر، ومفعول ﴿ خَلَقَ ﴾ محذوف، أي كل شيء. قوله: (متناسب الأجزاء) الخ، أي فجعله معتدل القامة تام المنافع. قوله: ﴿ وَٱلَّذِي قَدَّرَ ﴾ مفعوله محذوف قدره بقوله: (ما شاء) أي من أنواعها وأشخاصها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها، وغير ذلك من أحوالها، قوله: ﴿ فَهَدَىٰ ﴾ أي أرشد ما قدره لمصالحه، فهدى الإنسان ودله على سبيل الخير والشر، وهدى الأنعام لمراعيها، وجميع الدواب لمعاشها ومصالحها. قوله: ﴿ وَٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ ﴾ أي ما يرعى كالحشيش ونحوه. قوله: ﴿ غُثَآءً ﴾ بضم الغين والمد من باب قعد، وهذا مثل ضربه الله للكفار، بذهاب الدنيا بعد نضارتها. قوله: ﴿ أَحْوَىٰ ﴾ نعت لثغاء، وهو ما يشر له المفسر، وقوله: (أسود بالياً) أي بعد وصفه بالغثاء، يكون أسود بالياً، كما هو العادة في الزرع الجاف إذا تقادم، ويطلق الأحوى على الأسود الذي يضرب الخضرة أو الأخضر الذي ضرب إلى السواد، وعليه فيكون حالاً من المرعى، والأصل: أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء، والفاء لمجرد الترتيب، والمعنى: فمضت مدة فجعله الخ، إذ لا يصير غثاء عقب إخراجه، بل بعده بمدة.
قوله: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ ﴾ بيان لهداية الله تعالى الخاصة برسوله، إثر بيان هدايته لجميع الخلق، وهذه الآية تدل على المعجزة من وجهين، الأول: الأخبار من الله تعالى بما يحصل في المستقبل الثاني: كونه يحفظ هذا الكتاب العظيم من غير دراسة ولا تكرار ولا ينساه أبداً. قوله: ﴿ فَلاَ تَنسَىٰ ﴾ (ما تقرؤه) أي منسوخاً أو غيره، ليظهر كون الاستثناء متصلاً، وقوله: ﴿ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ ﴾ استثناء مفرغ. قوله: (بنسخ تلاوته وحكمه) الباء سببية، والمعنى: أن نسخ تلاوته وحكمه معاً، سبب في جواز نسيانك له، وأما ما نسخت تلاوته فقط أو حكمه فقط فلا ينساه، للاحتياج إلى تبليغ حكمه أو تلاوته. قوله: (فكأنه قيل) إلخ أي فهو نظير قوله:﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾[القيامة: ١٧].
قوله: ﴿ إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ ﴾ الخ، تعليل لما قبله، جيء به تسلية له صلى الله عليه وسلم كأنه قيل: لا تخش ضياع ما ألقي عليك، فإنه تعالى يعلم الجهر وما يخفى، ومنه: ما ألقي عليك فيثبت في فؤادك ما ينفع، وصنيع المفسر يقتضي أنه تعليل لمحذوف قدره بقوله: (لا تتعب نفسك). قوله: ﴿ وَمَا يَخْفَىٰ ﴾ ما اسم موصول، وعائده محذوف، ولا يصح أن تكون مصدرية، لئلا يلزم خلو الفعل عن فاعل، ولا يقال يجعل ضميراً، لأنا نقول: يمنع منه عدم وجوده وما يعود عليه. قوله: ﴿ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ ﴾ عطف على نقرئك، وما بينهما اعتراض جيء به للتعليل، والمعنى: نوفقك توفيقاً مستمراً للطريقة اليسرى، في كل باب من أبواب الدين علماً وتعليماً وإهداء وهداية وغير ذلك، ولذا ورد:" ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مأثماً "وورد:" بعثت بالحنيفية السمحاء "وحكمة إسناد التيسير لذاته، ولم يقل ونيسر اليسرى لك الإيذان بقوة تمكنه عليه السلام من اليسرى والتصرف بها، بحيث صار ذلك جبلة له صلى الله عليه وسلم، فبين طبعه ودينه موافقة في اليسر والسهولة. قوله: (للشريعة السلهة) أي الطريقة اليسرى في حفظ الوحي والتدين. قوله: ﴿ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ ﴾ إن قلت: هو صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يذكرهم، سواء نفعتهم الذكرى أو لم تنفعهم، ليكون حجة لهم أو عليهم، أجيب: بأن في الآية اكتفاء، أي أو لم تنفع على حد سرابيل تقيكم الحر أي والبرد، ويؤيده قوله: ﴿ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ * وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى ﴾ فتدبر. قوله: ﴿ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ ﴾ أي من خلق الله في قلبه الخشية، وهذا وعد من الله تعالى، بأن من يخشى يحصل به الاتعاض وينتفع به، والوعد لا يتخلف، قوله: (هي نار الآخرة) الخ، هذا قول الحسن، ويدل له ما ورد:" ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم "وقيل: يكون في الآخرة نيران ودركات متفاضلة، فالكافر يصلي أعظم النيران، وقيل: النار الكبرى هي السفلى، قال تعالى:﴿ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ ﴾[النساء: ١٤٥].
قوله: (فيستريح) جواب عما يقال: لا واسطة بين الحياة والموت، فكيف وصف الله الأشقى بأنه لا يموت فيها ولا يحيا؟ فأجاب: بأن المعنى لا يموت موتاً فيستريح به، ولا يحيا حياة ينتفع بها. قوله: (مبكراً) أي تكبيرة الإحرام التي هي أحد أجزاء الصلاة. قوله: (وذلك من أمور الآخرة) تمهيد لارتباط هذه الآية بما بعدها، فقوله: ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ ﴾ الخ إضراب عن مقدر يستدعيه المقام. قوله: (بالتحتانية) أي وعليه فالضمير راجع للأشقى، وقوله: (والفوقانية) أي وعليه فهو التفات، والخطاب إما للكفار فقط، أو لعموم الناس، والقراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ﴾ أي لاشتمالها على السعادة الجسمانية والروحانية، ولذاتها غير مخلوطة بالآلام، وهي دائمة باقية، والدنيا ليست كذلك. قوله: (أي إفلاح من تزكى) الخ، أي فالإشارة إلى قوله: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ﴾ إلى قوله: ﴿ وَأَبْقَىٰ ﴾ وما ذكر من الصحف الأولى بالمعنى لا بهذا اللفظ، فالشرائع المتقدمة متفقة على ما في هذه الآيات، ورد عن أبي ذر قال: دخلت المسجد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن للمسجد تحية، فقلت: وما تحيته يا رسول الله؟ قال: ركعتان تركعهما، قلت: يا رسول الله هل أنزل الله عليك شيئاً مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال: يا أبا ذر اقرأ: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ * وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ * بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا * وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ * إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ ﴾.
قلت: يا رسول الله فما كانت صحف موسى؟ قال: " كانت عبراً كلها، عجبت لمن أيقن الموت كيف يفرح، عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يمطئن إليها، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم يغضب، عجبت لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل ". وعن أبي ذر أيضاً قال:" قلت يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: كانت أمثالاً كلها، أيها الملك المسلط المبتلي المغرور، إن لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها ولو كانت من فم كافر، وكان فيها أمثال، وعلى العاقل أن يكون له ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يفكر فيها في صنع الله عز وجل، وساعة يخلوا فيها لحاجته في المطعم والمشرب، وعلى العاقل أن لا يكون طامعاً في ثلاث: تزود لمعاد، ومرمة لمعاش، ولذة في غير محرم، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومن عد كلامه من عمله، قل كلامه إلا فيما يعنيه، قال: قلت: فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت عبراً إلى آخره ". وقوله: ومرمة لمعاش، أي إصلاح له.
Icon