قوله: ﴿ ٱلصِّرَاطَ ﴾ هو في الأصل الطريق الحسي، والمراد به هنا دين الإسلام، ففيه استعارة تصريحية أصلية، حيث شبه دين الإسلام بالطريق الحسي، بجامع أن كلاً موصل للمقصود، واستعير اسم المشبه به للمشبه، وأصل صراط بالصاد سراط بالسين، وبها قرأ قنبل حيث ورد: إبدلت صاداً لأجل حرف الاستعلاء، وقد تشم الصاد زاياً وبه قرأ خلف وكلها سبعي، لكن لم ترسم في المصحف إلا بالصاد و ﴿ ٱلصِّرَاطَ ﴾ يذكر ويؤنث، فالتذكير لغة تميم، والتأنيث لغة الحجاز، وجمعه صرط ككتاب وكتب. قوله: ﴿ ٱلْمُسْتَقِيمَ ﴾ اسم فاعل من استقام، أي استوى من غير اعوجاج، وأصله مستقوم أعل كإعلال ﴿ نَسْتَعِينُ ﴾.
قوله: (ويبدل منه) أي بدل كل من كل، أتى به زيادة في مدح الصراط. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ الإنعام إيصال الإحسان إلى الغير، بشرط أن يكون ذلك الغير من العقلاء، فلا يقال: أنعم فلان على فرسه، ولا على حماره. قوله: (بالهداية) أشار بذلك إلى أن المراد بالمنعم عليها المؤمنون، وهو أحد أقوال للمفسرين، وقيل: هم المذكورون في قوله تعالى:﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ ﴾[النساء: ٦٩] وقيل: هم الأنبياء خاصة، وقيل: المراد بهم أصل فهدينا موسى وعيسى قبل التحريف والنسخ، وحذف متعلق ﴿ أَنْعَمْتَ ﴾ ليؤذن بالعموم، فيشمل كل نعمة، ونعم الله تعالى لا تحصى باعتبار أفرادها، قال تعالى:﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾[إبراهيم: ٣٤] وأما باعتبار جملتها فتحصى لأنها قسمان: دنيوية وأخروية. والأول: إما وهبي أو كسبي، والوهبي: إما روحاني كنفخ الروح والتزيين بالعقل والفهم والفكر والنطق، أو جسماني كتخلق البدن والقوى الحالة فيه والصحة وكمال الأعضاء، والكسبي كتزكية النفس وتخليتها عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية والفضائل. والثاني: وهو الأخروي، أنه يغفر ما فرط منه، وينزله أعلى عليين مع الملائكة المقربين أبد الأبدين ودهر الداهرين. قوله: ﴿ عَلَيْهِم ﴾ لفظ ﴿ عَلَيْهِم ﴾ الأول في محل نصب على المفعولية، والثاني في محل رفع نائب ﴿ ٱلْمَغْضُوبِ ﴾ وفيه عشر لغات، ست مرويات عن القراء الثلاثة، الأول منها سبعيات وهي: كسر الهاء وضمها مع إسكان الميم فيهما، وكسر الهاء وضم الميم بواو بعد الضمة، وكسر الهاء والميم بياء بعد الكسرة للإشباع، وضم الهاء الميم بواو بعد الضمة وبدونها، وأربع لم يقرأ بها وهي: ضم الهاء مع كسر الميم وأدخال ياء بعدها، وضم الهاء وكسر الميم من غير ياء، وكسر الهاء مع ضم الميم، وكسر الهاء والميم من غير ياء. قوله: (ويبدل من الذين بصلته) أي بدل كل من كل، ولا يضر إبدال النكرة من المعرفة، وقيل: نعت لـ ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾.
واستشكل بأنه يلزم نعت المعرفة بالنكرة وهو لا يصح، لأن ﴿ غَيْرِ ﴾ متوغلة في الإبهام، لا تتعرف بالإضافة كمثل وشبه وشبيه. وأجيب بجوابين، الأول: أن ﴿ غَيْرِ ﴾ إنما تكون نكرة إذا لم تقع بين ضدين، فأما إذا وقعت بين ضدين، فتتعرف حينئذ بالإضافة تقول: عليك بالحركة غير السكون، والآية من هذا القبيل والثاني: أن الموصول أشبه النكرات في الإبهام الذي فيه، فعومل معاملة النكرات، و ﴿ غَيْرِ ﴾ من الألفاظ الملازمة للإضافة لفظاً أو تقديراً، فإدخال أل عليها خطأ، وقد يستثنى بها حملاً على إلا، كما يوصف بإلا حملاً عليها. قوله: ﴿ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ ﴾ بكسر الراء بدل كما قال المفسر، أو نعت وتقدم ما فيه، وهذه قراءة العامة، وقرئ شذوذاً بالنصب على الحال أو الاستثناء، والغضب ثوران دم القلب لإرادة الانتقام، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:" اتقوا الغضب فإنه جمرة تتوقد في قلب ابن آدم، ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه "فإذ وصف به الله تعالى، فالمراد به الانتقام أو إرادة الانتقام، فهو صفة فعل أو صفة ذات، وبنى الغضب للمجهول، ولم يقل: غير الذين غضبت عليهم، تعليماً لعباده الأدب، حيث أسند الخير لنفسه، وأبهم في الشر، نظير قوله تعالى:﴿ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾[الكهف: ٧٩]،﴿ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا ﴾[الكهف: ٨٢]،﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾[الشعراء: ٨٠].
قوله: (وهم اليهود) أي لقوله تعالى فيهم﴿ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ﴾[المائدة: ٦٠] الآية، والحديث:" إن المغضوب عليهم هم اليهود، وإن الضالين النصارى ". قوله: (غير) ﴿ ٱلضَّآلِّينَ ﴾ أشار بذلك إلى أن ﴿ لاَ ﴾ بمعنى غير فهي صفة، ظهر إعرابها فيما بعدها، ويؤيدها قراءة عمر بن الخطاب وإبي بن كعب، و(غير) ﴿ ٱلضَّآلِّينَ ﴾ يدل ﴿ لاَ ﴾ وأتى بلا ثانياً، لتأكيد معنى النفي المفهوم من ﴿ غَيْرِ ﴾ ولئلا يتوهم عطف ﴿ ٱلضَّآلِّينَ ﴾ على ﴿ غَيْرِ ﴾ فيكون من وصف ﴿ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ والضلال يطلق على الخفاء والغيبة، ومنه قولهم: ضل الماء في اللبن، والهلاك ومنه قوله تعالى:﴿ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾[السجدة: ١٠] والنسيان ومنه قوله تعالى:﴿ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ ﴾[البقرة: ٢٨٢] والعدول عن الطريق المستقيم وهو المراد هنا، وفي ﴿ ٱلضَّآلِّينَ ﴾ مدان: مد لازم على الألف بعد الضاد وقبل اللام المشددة، وعارض على الياء قبل النون للوقف. قوله: (وهم النصارى) أي لقوله تعالى:﴿ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ ﴾[المائدة: ٧٧].
قوله: (إفادة أن المهتدين) أي المذكورين بقوله: ﴿ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ هو مصدوق ﴿ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم ﴾ و(غير) ﴿ ٱلضَّآلِّينَ ﴾ فمصدوق العبارات الثلاث هم المؤمنون، لكن استشكل بأن تفسير ﴿ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ بالفرق الأربعة المذكورة في سورة النساء، لا يشتمل بقية المؤمنين، وتفسير ﴿ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم ﴾ و ﴿ ٱلضَّآلِّينَ ﴾ باليهود والنصارى، لا يشتمل بقية طوائف الكفار، فمقتضى ذلك، أن بقية المؤمنين ليسوا ممن أنعم الله عليهم، وسائر طوائف الكفار خارجون من وصف الغضب والضلال، فالمبدل منه يخرجهم، والبدل يدخلهم في المبدل منه، والمخلص من هذا الإشكال، أن يفسر المنعم عليهم بجميع المؤمنين، كما درج عليه المفسر في قوله: ﴿ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ (الهداية) ويراد من ﴿ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم ﴾ و ﴿ ٱلضَّآلِّينَ ﴾ عموم الكفار اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. إن قلت: ما فائدة الاتيان بـ ﴿ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم ﴾ الخ، بعد قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ أجيب: بأن الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف، فقوله: ﴿ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ يوجب الرجاء الكامل، وقوله: ﴿ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم ﴾ الخ، يوجب الخوف الكامل، فيتقوى الإيمان بالرجاء والخوف.- فائدة - لفظ آمين ليس من الفاتحة، بل ولا من القرآن قطعاً؛ بل يسن الإتيان بها القارئ الفاتحة، مفوصلة منها بسكتة ليتميز ما هو قرآن، عما ليس بقرآن، ولكل داع، وهي اسم فعل على الصحيح بمعنى استجب، مبني على الفتح، ويجوز فيه مد الهمزة وقصرها، وقيل: هي اسم من أسماء الله تعالى، والتقدير: يا آمين. ورد بوجهين: الأول: أنه لو كان كذلك، لكان ينبغي أن يبنى على الضم، لأنه منادى مفرد معرفة. الثاني: أن أسماء الله تعالى توقيفية، وهو من خصوصيات هذه الأمة، لم يعط لأحد قبلهم، إلا ما كان من موسى وهارون، لما ورد في الحديث:" إن الله أعطى أمتي ثلاثاً لم تعط أحداً قبلهم، السلام وهو تحية أهل الجنة، وصفوف الملائكة، وآمين، إلا ما كان من موسى وهارون "ومعناه: أن موسى دعا على فرعون، وأمن هارون، فقال الله تعالى عندما ذكر دعاء موسى: قد أجيبت دعوتكما، ولم يذكر مقالة هارون فسماه داعياً. وقال علي رضي الله عنه: آمين خاتم رب العالمين، ختم بها دعاء عباده. وفي الخبر:" أن آمين كالطابع الذي يطبع به على الكتاب ". وفي حديث آخر:" آمين درجة في الجنة ". قال أبو بكر: إنه حرف يكتب به لقائله درجة في الجنة، وقال وهب بن منبه: آمين أربعة أحرف، يخلق الله من كل حرف ملكاً يقول: اللهم أغفر لكل من قال آمين. قوله: (والله أعلم بالصواب) الخ، هذه العبارة من وضع تلامذة المحلي، لما عرفت أنه قد شرع في تفسير النصف الأول فكمل الفاتحة، وارتحل إلى رضوان الله تعالى، فيبعد أن يأتي بعبارة تشعر الانتهاء، والصواب ضد الخطأ و(المرجع) الرجوع، و(المآب) مرادف، وقوله: (وحسبنا الله) أي كافينا، وقوله: (ونعم الوكيل)، أي المفوض إليه الأمر.