هذه السورة مدنية وآياتها إحدى عشرة آية. وهي مبدوءة بالإخبار عن تسبيح الكون وما فيه لله. فكل شيء في السماوات أو الأرض يسبح بحمد الله الخالق الغالب الحكيم.
وفي السورة تنديد شديد ونكير بالغ على الذين أعطوا التوراة ليلتزموا أحكامها ويعلموا بما فيها من الأوامر والنواهي والمواعظ والعبر لكنهم اثّاقلوا إلى الشهوات والضلالات وأهواء النفس فآثروا الحياة الدنيا على الآخرة وجنحوا للباطل والهوى، تاركين وراء ظهورهم كتاب ربهم فضلوا بذلك ضلالا بعيدا. وكان مثلهم في ذلك مثل الحمير العجماوات تحمل على ظهورها كتب العلم وهي لا تدري عن مضمونها شيئا.
وفي السورة إيجاب للجماعة إذا تودي للصلاة من يوم الجمعة. وهذه فريضة عينية منوطة بكل مسلم بشروطه من البلوغ والعقل والذكورة وعدم الأعذار.
ﰡ
﴿ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم ١ هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ٢ وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ٣ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ﴾.
ذلك إخبار من الله عن تسبيح الكون وما فيه لجلاله وعظيم سلطانه. فما من شيء في السماوات أو في الأرض إلا يسبح الله فينزهه عن النقائص ﴿ الملك القدوس العزيز الحكيم ﴾ هذه الأسماء منصوبة على النعت لله. وقيل على البدل ١ والملك، المالك لكل شيء في السماوات والأرض. والقدوس، يعني المنزه عن النقائص والعيوب، الموصوف بصفات الكمال. والعزيز : القوي الغالب الذي لا يغلبه غالب. والحكيم : أي في قوله وفعله وتدبيره.
قوله :﴿ يتلوا عليهم آياته ﴾ الجملة الفعلية في موضع نصب نعت لرسول ١ فهو صلى الله عليه وسلم يتلو على الناس آيات الله وهو القرآن. هذا الكتاب الكريم الفذّ الذي ليس له في عجيب النّظم نظير. والذي لا يعارضه أو يضاهيه في الكلام أيما كلام. إنه الكلام الرباني المعجز في نظمه وأسلوبه وفيما تضمنه من جليل المعاني والأفكار والأخبار، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم موصوف بأنه أمّي. فما كان قارئا ولا كاتبا ولا أخذ عن أحد من الناس أيّما درس في العلم. لا جرم أن هذه حقيقة كبرى تشهد بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأن القرآن كلام الله المعجز.
قوله :﴿ ويزكيهم ﴾ أي يطهر الناس من أدناس الشرك ومن أوضار الجاهلية على اختلاف مفاسدها وآثامها ﴿ ويعلمهم الكتاب والحكمة ﴾ أي يعلمهم القرآن، والحكمة، وهي السنة المطهرة أو الفقه في الدين ﴿ وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ﴾ يعني وإن كانوا من قبل أن يبعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تائهين في الجهالة، مائلين عن الحق والصواب، متلبّسين بالشرك والباطل.
قوله :﴿ وهو العزيز الحكيم ﴾ يصف الله نفسه بالعزة والحكمة، فهو القوي المقتدر، الحكيم في أفعاله ومقاديره، إذ اختار محمدا صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا ليكون للعالمين هاديا ومرشدا، وهو الأمّي الذي ما كان يتلو من كتاب ولا يخطه بيمينه.
يندد الله بهذه الفئة من بني إسرائيل وهم اليهود إذ آتاهم الله التوراة فيها هداية للناس وفيها البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فلم يطيقوا التزامها ولم يعلموا بما فيها من الأوامر والنواهي والأحكام، بل استنكفوا ومالوا إلى ما تستمرئه أهواؤهم وطبائعهم من الشهوات والضلال، فضلا عما فعلوه من تحريف لكلام الله وتبديل لكلماته ومعانيه، وإخفاء لذكر رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وطمس لاسمه من التوراة. فمثلهم في ذلك مثل السوء إذ شبههم الله بالحمار يحمل على ظهره أسفارا أي كتبا. والمفرد، سفر، وهو الكتاب الكبير، أو جزء من أجزاء التوراة١.
والحمار البهيم يمشي على الأرض ساربا لا يعي ولا يفهم ولا يدري ما الذي على ظهره. وهو يستوي عنده أن يحمل على ظهره كتبا في الخير والعلم أو أحمالا ثقالا من الحجارة والطين. وهذه حقيقة الذين يزعمون أنهم متدينون بدين الله ومن حولهم وفي أيمانهم كتاب الله فيصطنعون الإيمان به والغيرة عليه اصطناعا وهم مجافون لأحكامه متحللون مما فيه من الأوامر والزواجر. فأولئك حالهم كحال الحمار يقلّ على ظهره الكتب وهو لا يعلم ما يحمل ﴿ بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله ﴾ مثل، فاعل بئس. والمخصوص بالذم، الإسم الموصول بعده. وقيل : محذوف، وتقديره : بئس مثل القوم المكذبين مثل هؤلاء٢ ﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ أي لا يجعل الله الهداية والتوفيق للذين يظلمون أنفسهم باختيارهم الباطل واستبدالهم الضلال بالهدى.
٢ الدر المصون جـ ١٠ ص ٣٢٧..
وإنما ينبغي للمؤمن ذي العقيدة الصادقة الراسخة والعقل السليم أن يكون في غاية التواضع والتذليل لله، والخوف من جلاله وهول بطشه وانتقامه. أما أن يزعم أنه ولي لله، وقريب من جنابه فذلكم القول المصطنع الذي لا يهرف به غير واهم مأفون. ولئن زعم اليهود ذلك فقد تحداهم ربهم بقوله :﴿ فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ﴾ يعني فتمنوا على الله أن يميتكم لتفضوا إلى دار الكرامة وهي الجنة التي أعدها الله لأوليائه المؤمنين، إن كنتم تصدقون فيما تزعمون بأنكم أحباء الله من دون الناس.
٢ تفسير النسفي جـ ٤ ص ٥٦ وفتح القدير جـ ٥ ص ٢٢٦..
الجمعة : من الجمع، إذ يجتمع المسلمون في كل أسبوع مرة في المسجد الكبير. ويوم الجمعة، يوم كريم ومبارك. فقد ثبت في الأحاديث الصحاح أن الجمعة سيد الأيام، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه.
قوله :﴿ إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ﴾ يعني إذا نادى المؤذن للصلاة في يوم الجمعة فامضوا أو اذهبوا ﴿ إلى ذكر الله ﴾ أي أداء الصلاة. على أن المراد بالنداء ههنا، النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج فصعد المنبر ثم جلس فكان حينئذ يؤذن بين يديه. أما النداء الأول فهو الذي زاده أمير المؤمنين عثمان بن عفان. وإنما فعل ذلك لكثرة الناس. فقد روى البخاري عن السائب بن يزيد قال : كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. فلما كان عثمان بعد زمن وكثر الناس زاد النداء الثاني على الزوراء. يعني يؤذن به على الدار التي تسمى الزوراء وكانت أرفع دار بالمدينة بقرب المسجد. وقال مكحول : كان في الجمعة مؤذن واحد حين يخرج الإمام ثم تقام الصلاة، وذلك النداء الذي يحرم عنده الشراء والبيع إذا نودي به، فأمر عثمان ( رضي الله عنه ) أن ينادى قبل خروج الإمام حتى يجتمع الناس.
على أنه يستحب للمصلي يوم الجمعة قبل أن يأتي إلى الصلاة أن يغتسل. فقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل " وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حق الله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده ".
والجمعة مفروضة على كل مسلم ذكر مكلف. وهو قول عامة العلماء، خلافا لمن يقول : إنها فرض على الكفاية. والصواب وجوبها على العين لقوله تعالى :﴿ إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ﴾ وإنما يؤمر بصلاة الجمعة كل رجل عاقل بالغ حر غير ذي عذر. وبذلك لا تجب الجمعة على الصبيان والعبيد والنساء وأولى الأعذار كالمرضى والزمنى والمسافرين والكبار الذين يصعب عليهم المشي إلى المسجد، والعميان الذين لا يجدون من يقودهم.
واختلفوا فيمن يأتي الجمعة من القريب والبعيد. فقد قيل : تجب الجمعة على من في المصر على ستة أميال من المسجد. وهو قول عمر وأنس وأبي هريرة. وقيل ثلاثة أميال، وهو قول مالك والليث. وقال الشافعي : المعتبر في ذلك سماع الأذان فمن سمعه وجب في حقه الحضور لصلاة الجمعة. وإنما الاعتبار في ذلك عند أبي حنيفة وأصحابه، الدخول في المصر. فتجب الجمعة على من كان في المصر، سمع النداء أو لم يسمعه. أما من كان خارج المصر فلا تجب عليه الجمعة وإن سمع النداء.
ولا تسقط الجمعة عن المكلف، لكونها في يوم عيد، خلافا للإمام أحمد إذ قال : إذا اجتمع عيد وجمعة سقط فرض الجمعة لتقدم العيد عليها واشتغال الناس بالعيد عن الجمعة.
قوله :﴿ وذروا البيع ﴾ أي اتركوا البيع وامضوا إلى الصلاة إذا نودي لها، واختلوفوا في وقت النهي عن البيع. فقد قيل : يحرم البيع بزوال الشمس. وقيل : يحرم بالنداء. واختلفوا أيضا في جواز البيع عند النداء للصلاة. فقد ذهبت الحنيفة والشافعية إلى وقوع البيع مع النهي. وعند المالكية : يجب ترك البيع إذا نودي للصلاة، ويفسخ إذا وقع في ذلك الوقت.
قوله :﴿ ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ﴾ الإشارة عائدة إلى السعي إلى ذكر الله وترك البيع. فذلك خير لكم عند ربكم، إذ يجزيكم بذلك خير الجزاء.
ذلك عتاب من الله للمؤمنين على ما وقع منهم، إذ انصرفوا عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقد روى مسلم عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا. فنزلت الآية ١ ﴿ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ﴾ المراد باللهو هنا الطبل أو المزامير. وقد كانوا إذا حصل نكاح لعب أهله وضربوا بالطبل وعزفوا على المزامير ومروا بذلك على المسجد فإذا رأى الناس عير التجارة أو صوت اللهو ﴿ انفضوا إليها ﴾ أي انصرفوا إلى التجارة. وقد كنّى بالتجارة دون اللهو لدخوله في حكمها أو لأنها أهم. أو لأنها آخر الاسمين.
قوله :﴿ وتركوك قائما ﴾ أي انصرفوا إلى التجارة وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر يخطب ولم يبق معه إلا قليل منهم.
قوله :﴿ قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة ﴾ أي قل لهم يا محمد : ما عند الله من حسن الجزاء وجميل العطاء أفضل وأحسن مما انصرفتم إليه. وإنما انصرفتم نحو متاع زائل ما ينبغي لكم أن تخفّوا إليه ذاهبين تاريكين الخطبة وسماع الموعظة والذكرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ والله خير الرازقين ﴾ الله جل وعلا هو المالك وهو الرازق فاسألوه يعطكم من فضله وهو سبحانه خير رزاق.
ومن أحكام الجمعة انعقادها بجماعة. واختلفوا في العدد الذي تنعقد به الجمعة. فقيل : تنعقد باثنين، وهو قول الحسن البصري. وقيل : تنعقد بثلاثة وهو قول الليث ابن سعد. وقيل : تنعقد بأربعة وهو قول الإمام أبي حنيفة. وقيل : تنعقد باثني عشر رجلا. وعند الإمام الشافعي، تنعقد بأربعين رجلا. وعلى هذا قالوا : كل قرية فيها أربعون رجلا بالغين عقلاء أحرارا مقيمن لا يظعنون عنها صيفا ولا شتاء إلا ظعن حاجة وجبت عليهم الجمعة.
واشترط الإمام أبو حنيفة لوجوبها وانعقادها، المصر الجامع والسلطان. وعلى هذا لا تصح الجمعة عند الحنيفة بغير إذن الإمام وحضوره، خلافا لجمهور العلماء إذ قالوا : تجب الجمعة ولو لم يأذن الإمام أو يحضر. وهو الصحيح استنادا إلى ظاهر الآية فإنها بإطلاقها تفيد الوجوب.
أما الخطبة، فهي شرط في انعقاد الجمعة فلا تصح إلا بها. وهو قول الجمهور من العلماء. وقيل : إنها مستحبة. والصحيح وجوبها ويدل على هذا قوله :﴿ وتركوك قائما ﴾ فقد ذم الانفضاض عن النبي صلى الله عليه وسلم وترك السماع لخطبته وهو ( عليه الصلاة والسلام ) لم يصل الجمعة إلا بخطبة. وتصح الخطبة يوم الجمعة من غير وضوء مع الكراهة ولا تجب إعادتها. واشترط الإمام الشافعي في الجديد الطهارة.
وإذا دخل المصلي المسجد والإمام يخطب فإنه لا يصلي، بل يجلس ليستمع وهو قول الإمام مالك، خلافا للشافعي وآخرين إذ قالوا : يصلي ركعتين خفيفتين ثم يجلس. وذلك لما رواه مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوّز فيهما " ٢.
٢ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٣٦٦ – ٣٦٩ وتفسير القرطبي جـ ١٨ ص ١١١- ١١٨ وأحكام القرآن للجصاص جـ ٥ ص ٣٤٠ –٣٤٣..