مدنية وآياتها إحدى وثلاثون
قال عطاء : هي مكية. وقال مجاهد وقتادة مدنية. وقال الحسن وعكرمة : هي مدنية إلا آية وهي قوله :﴿ فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفورا ﴾.
ﰡ
قَالَ عَطَاءٌ: هِيَ مَكِّيَّةٌ (١) وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: مَدَنِيَّةٌ (٢) وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَةً وَهِيَ قَوْلُهُ: "فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا" (٣) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (٢) ﴾
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ﴾ يَعْنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ﴿حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾ أَرْبَعُونَ سَنَةً مُلْقًى مِنْ طِينٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ ﴿لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ لَا يُذْكَرُ ولا يعرف ١٨٠/أوَلَا يُدْرَى مَا اسْمُهُ وَلَا مَا يُرَادُ بِهِ، يُرِيدُ: كَانَ شَيْئًا وَلَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا، وَذَلِكَ مِنْ حِينِ خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ إِلَى أَنْ [يُنْفَخَ] فِيهِ الرُّوحُ.
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: "لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا" فَقَالَ عُمَرُ: لَيْتَهَا تَمَّتْ، يُرِيدُ: لَيْتَهُ بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ (٤) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُمَّ خَلَقَهُ بَعْدَ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ. ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾ يَعْنِي وَلَدَ آدَمَ ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ يَعْنِي: مَنِيِّ الرَّجُلِ وَمَنِيِّ الْمَرْأَةِ.
(٢) أخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الإنسان بالمدينة. انظر: الدر المنثور: ٨ / ٣٦٥.
(٣) قال صاحب زاد المسير: ٨ / ٤٢٧: وفيها ثلاثة أقوال - سورة الإنسان: أحدها: أنها مدنية كلها، قاله الجمهور، منهم: مجاهد وقتادة. والثاني: مكية، قاله ابن يسار، ومقاتل، وحكي عن ابن عباس. الثالث: أن فيها مكيا ومدنيا، ثم في ذلك قولان: أحدهما: أن المكي منها آية، وهو قوله تعالى: (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) وباقيها جميعه مدني، قاله الحسن وعكرمة. والثاني: أن أولها مدني إلى قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن) ومن هذه الآية إلى آخرها مكي، حكاه الماوردي.
(٤) عزاه السيوطي في الدر المنثور: ٨ / ٣٦٦ لابن المبارك وأبي عبيد في "فضائله" وعبد بن حميد وابن المنذر.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ: يَعْنِي مَاءَ الرَّجُلِ [وَمَاءَ الْمَرْأَةِ] (١) يَخْتَلِطَانِ فِي الرَّحِمِ فَيَكُونُ مِنْهُمَا الْوَلَدُ، فَمَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ غَلِيظٌ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ رَقِيقٌ، فَأَيُّهُمَا عَلَا صَاحِبَهُ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ، وَمَا كَانَ مِنْ عَصَبٍ وَعَظْمٍ فَهُوَ مِنْ نُطْفَةِ الرَّجُلِ، وَمَا كَانَ مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ وَشَعْرٍ فَمِنْ مَاءِ الْمَرْأَةِ (٢).
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَرَادَ بِالْأَمْشَاجِ اخْتِلَافُ أَلْوَانِ النُّطْفَةِ، فَنُطْفَةُ الرَّجُلِ بَيْضَاءُ وَحَمْرَاءُ وَصَفْرَاءُ، وَنُطْفَةُ الْمَرْأَةِ خَضْرَاءُ وَحَمْرَاءُ [وَصَفْرَاءُ] (٣) وَهِيَ رِوَايَةُ الْوَالِبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالَ: الْأَمْشَاجُ الْبَيَاضُ فِي الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ. وَقَالَ يَمَانٌ: كُلُّ لَوْنَيْنِ اخْتَلَطَا فَهُوَ أَمْشَاجٌ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ الْعُرُوقُ الَّتِي تَكُونُ فِي النُّطْفَةِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: نُطْفَةٌ مُشِجَتْ بِدَمٍ، وَهُوَ دَمُ الْحَيْضَةِ، فَإِذَا حَبِلَتِ ارْتَفَعَ الْحَيْضُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ أَطْوَارُ الْخَلْقِ نُطْفَةٌ، ثُمَّ عَلَقَةٌ، ثُمَّ مُضْغَةٌ، ثُمَّ [عَظْمًا] ثُمَّ يَكْسُوهُ لَحْمًا ثُمَّ يُنْشِئُهُ خَلْقًا آخَرَ (٤).
﴿نَبْتَلِيهِ﴾ نَخْتَبِرُهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، مَجَازُهُ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا لِنَبْتَلِيَهُ (٥) لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْخِلْقَةِ.
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (٣) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (٤) ﴾
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ أَيْ بَيَّنَّا لَهُ سَبِيلَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالَةِ، وَعَرَّفْنَاهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ إِمَّا مُؤْمِنًا سَعِيدًا وَإِمَّا كَافِرًا شَقِيًّا. وَقِيلَ: مَعْنَى الْكَلَامِ الْجَزَاءُ، يَعْنِي: بَيَّنَّا لَهُ الطَّرِيقَ إِنْ شَكَرَ أَوْ كَفَرَ (٦). ثُمَّ بَيَّنَ مَا لِلْفَرِيقَيْنِ فَقَالَ: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ﴾ يَعْنِي: فِي جَهَنَّمَ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
(٢) راجع التبيان في أقسام القرآن لابن القيم ص (٣٣٤-٣٣٨) خلق الإنسان للدكتور محمد علي البار ص (٣٩٠ وما بعدها).
(٣) ساقط من "ب".
(٤) قال ابن جرير مرجحا بعد أن ساق الأقوال المذكورة: ٢٩ / ٢٠٣-٢٠٥: "وأشبه هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى ذلك (من نطفة أمشاج) نطفة الرجل ونطفة المرأة، لأن الله وصف النطفة بأنها أمشاج، وهي إذا انتقلت فصارت علقة، فقد استحالت عن معنى النطفة فكيف تكون نطفة أمشاجا وهي علقة؟ وأما الذين قالوا: إن نطفة الرجل بيضاء وحمراء، فإن المعروف من نطفة الرجل أنها سحراء على لون واحد، وهي بيضاء تضرب إلى الحمرة، وإذا كانت لونا واحدا لم تكن ألوانا مختلفة، واحسب أن الذين قالوا: هي العروق التي في النطفة قصدوا هذا المعنى".
(٥) انظر: معاني القرآن للفراء: ٣ / ٢١٤.
(٦) انظر: معاني القرآن للفراء: ٣ / ٢١٤.
﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (٥) ﴾
﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ﴾ يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ فِي إِيمَانِهِمُ الْمُطِيعِينَ لِرَبِّهِمْ، [وَاحِدُهُمْ] (١) بَارٌّ، مِثْلُ: شَاهِدٍ وَأَشْهَادٍ، وَنَاصِرٍ وَأَنْصَارٍ، وَ"بَرُّ" أَيْضًا مِثْلُ: نَهَرٍ وَأَنْهَارٍ ﴿يَشْرَبُونَ﴾ فِي الْآخِرَةِ، ﴿مِنْ كَأْسٍ﴾ [فِيهَا] (٢) شَرَابٌ ﴿كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ قَالَ قَتَادَةُ: يُمْزَجُ لَهُمْ بِالْكَافُورِ وَيُخْتَمُ بِالْمِسْكِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: "مِزَاجُهَا" طَعْمُهَا، وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: أَرَادَ كَالْكَافُورِ فِي بَيَاضِهِ وَطِيبِ رِيحِهِ وَبَرْدِهِ، لِأَنَّ الْكَافُورَ لَا يُشْرَبُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: "حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا" (الْكَهْفِ-٩٦) أَيْ كَنَارٍ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ [قَتَادَةَ] (٣) وَمُجَاهِدٍ: يُمَازِجُهُ رِيحُ الْكَافُورِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: طُيِّبَتْ بِالْكَافُورِ وَالْمِسْكِ وَالزَّنْجَبِيلِ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْكَلْبِيُّ: الْكَافُورُ اسْمٌ لِعَيْنِ مَاءٍ فِي الْجَنَّةِ. ﴿عَيْنًا﴾ نُصِبَ تَبَعًا لِلْكَافُورِ. وَقِيلَ: [هُوَ] (٤) نَصْبٌ عَلَى الْمَدْحِ. وَقِيلَ: أَعْنِي عَيْنًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مِنْ عَيْنٍ ﴿يَشْرَبُ بِهَا﴾ [قِيلَ: يَشْرَبُهَا] (٥) وَالْبَاءُ صِلَةٌ وَقِيلَ بِهَا أَيْ مِنْهَا ﴿عِبَادُ اللَّهِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ ﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ أَيْ يقودونها حيث شاؤوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَقُصُورِهِمْ، كَمَنْ يَكُونُ لَهُ نَهَرٌ يُفَجِّرُهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا إِلَى حَيْثُ يُرِيدُ. ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ هَذَا مِنْ صِفَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا أَيْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ.
قَالَ قَتَادَةُ: أَرَادَ يُوفُونَ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ،
(٢) في "ب" فيه.
(٣) في "ب" مقاتل، والصحيح ما أثبتناه من "أ" كما هو عند الطبري: ٢٩ / ٢٠٧.
(٤) ساقط من "ب".
(٥) ساقط من "أ".
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: إِذَا نَذَرُوا فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَفَّوْا بِهِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْأَيْلِيُّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ" (٢) ﴿وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ فَاشِيًا مُمْتَدًّا، يُقَالُ: اسْتَطَارَ الصُّبْحُ، إِذَا امْتَدَّ وَانْتَشَرَ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ شَرُّهُ فَاشِيًا فِي السَّمَاوَاتِ فَانْشَقَّتْ، وَتَنَاثَرَتِ الْكَوَاكِبُ، وَكُوِّرَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَفَزِعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَفِي الْأَرْضِ: فَنُسِفَتِ الْجِبَالُ، وَغَارَتِ الْمِيَاهُ، وَتَكَسَّرَ كُلُّ شَيْءٍ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ جَبَلٍ وَبِنَاءٍ. ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ أَيْ عَلَى حُبِّ الطَّعَامِ وَقِلَّتِهِ وَشَهْوَتِهِمْ لَهُ وَحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: عَلَى حُبِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿مِسْكِينًا﴾ فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ ﴿وَيَتِيمًا﴾ صَغِيرًا لَا أَبَ لَهُ ﴿وَأَسِيرًا﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: هُوَ الْمَسْجُونُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَ اللَّهُ بِالْأُسَرَاءِ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَإِنَّ أَسْرَاهُمْ يَوْمَئِذٍ لَأَهْلُ الشِّرْكِ. وَقِيلَ: الْأَسِيرُ الْمَمْلُوكُ. وَقِيلَ: الْمَرْأَةُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اتَّقَوْا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ" (٣) أَيْ أُسَرَاءُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَطْعَمَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (٤).
(٢) أخرجه الإمام مالك في الموطأ: ٢ / ٤٧٦ في النذر والأيمان، باب ما لا يجوز من النذور في معصية الله. وهو قطعة من حديث أخرجه البخاري في الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة: ١١ / ٥٨١، والمصنف في شرح السنة: ١٠ / ٢٠-٢١.
(٣) قطعة من حديث أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار: ٣ / ٢١٢، والترمذي في أبواب الرضاع، باب ما جاء في حق المرأة على زوجها: ٤ / ٣٢٦ وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وأخرجه ابن ماجه بنحوه في النكاح برقم: (١٨٥١) : ١ / ٥٩٤. وروى الإمام مسلم معناه في حديث جابر في حجة الوداع. وله شاهد من حديث عم أبي حرة الرقاشي عند الإمام أحمد: ٥ / ٧٢-٧٣. انظر: إرواء الغليل: ٧ / ٥٣-٥٤، ٩٦-٩٧.
(٤) ذكره صاحب الزاد المسير: ٨ / ٤٣٢.
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (٩) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (١٠) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (١١) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (١٢) ﴾
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾ ١٨١/ب وَالشُّكُورُ مَصْدَرٌ كَالْعُقُودِ وَالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّهُمْ لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ وَلَكِنْ عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ. ﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا﴾ تَعْبَسُ فِيهِ الْوُجُوهُ مِنْ هَوْلِهِ وَشِدَّتِهِ، نُسِبَ الْعَبُوسُ إِلَى الْيَوْمِ، كَمَا يُقَالُ: يَوْمٌ صَائِمٌ وَلَيْلٌ قَائِمٌ. وَقِيلَ وُصِفَ الْيَوْمُ بِالْعَبُوسِ لِمَا فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ ﴿قَمْطَرِيرًا﴾ قَالَ قَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَمُقَاتِلٌ: "الْقَمْطَرِيرُ": الَّذِي يَقْبِضُ الْوُجُوهَ وَالْجِبَاهَ بِالتَّعْبِيسِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْعَبُوسُ الَّذِي لَا انْبِسَاطَ فِيهِ، و"الْقَمْطَرِيرُ" الشَّدِيدُ، قَالَ الْأَخْفَشُ: "الْقَمْطَرِيرُ" أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَيَّامِ وَأَطْوَلُهُ فِي الْبَلَاءِ، يُقَالُ: يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ وَقُمَاطِرٌ، إِذَا كَانَ شَدِيدًا كَرِيهًا، واقْمَطَرَّ الْيَوْمُ فَهُوَ مُقْمَطِرٌّ. ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ﴾ الَّذِي يَخَافُونَ ﴿وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً﴾ حُسْنًا فِي وُجُوهِهِمْ، ﴿وَسُرُورًا﴾ فِي قُلُوبِهِمْ. ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا﴾ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَلَى الْفَقْرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: عَلَى الْجُوعِ. ﴿جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾ قَالَ الْحَسَنُ: أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَأَلْبَسَهُمُ الْحَرِيرَ.
(٢) قال الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف، صفحة (١٨٠) :"رواه الثعلبي من رواية القاسم بن بهرام عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد، عن ابن عباس، ومن رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.. وقال الحكيم الترمذي: ومن الأحاديث التي تنكرها القلوب حديث رووه عن ابن عباس، فذكره.. ثم قال: هذا حديث مزوَّق مفتعل لا يروج إلا على أحمق جاهل. ورواه ابن الجوزي في "الموضوعات" وقال "هذا لا شك في وضعه". وانظر: الواحدي في أسباب النزول، صفحة: (٥١٦). وراجع ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "منهاج السنة": ٧ / ١٧٤-١٨٧ في رده على ابن المطهر في الاحتجاج بأمثال هذا، فقد بين بطلانه من ثلاثة عشر وجها. وانظر: تفسير القرطبي: ١٩ / ١٣٠-١٣٥.
﴿مُتَّكِئِينَ﴾ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ ﴿فِيهَا﴾ فِي الْجَنَّةِ ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ﴾ السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ، وَلَا تَكُونُ أَرِيكَةً إِلَّا إِذَا اجْتَمَعَا ﴿لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾ أَيْ [صَيْفًا] (١) وَلَا شِتَاءً. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي شَمْسًا يُؤْذِيهِمْ حَرُّهَا وَلَا زَمْهَرِيرًا يُؤْذِيهِمْ بِرْدُهُ، لِأَنَّهُمَا يُؤْذِيَانِ فِي الدُّنْيَا. وَالزَّمْهَرِيرُ: الْبَرْدُ الشَّدِيدُ. ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا﴾ أَيْ قَرِيبَةً مِنْهُمْ ظِلَالُ أَشْجَارِهَا، وَنُصِبَ "دَانِيَةً" بِالْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ "مُتَّكِئِينَ" وَقِيلَ: عَلَى مَوْضِعِ قَوْلِهِ: "لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا" وَيَرَوْنَ "دَانِيَةً" وَقِيلَ: عَلَى الْمَدْحِ ﴿وَذُلِّلَتْ﴾ سُخِّرَتْ وَقُرِّبَتْ ﴿قُطُوفُهَا﴾ ثِمَارُهَا ﴿تَذْلِيلًا وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا﴾ يَأْكُلُونَ مِنْ ثِمَارِهَا قِيَامًا وَقُعُودًا وَمُضْطَجِعِينَ وَيَتَنَاوَلُونَهَا كَيْفَ شَاءُوا عَلَى أَيِّ حال كانوا. ﴿قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَرَادَ بَيَاضَ الْفِضَّةِ فِي صَفَاءِ الْقَوَارِيرِ، فَهِيَ مِنْ فِضَّةٍ فِي صَفَاءِ الزُّجَاجِ، يَرَى مَا فِي دَاخِلِهَا مِنْ خَارِجِهَا.
قَالَ الْكَلْبِيُّ إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ قَوَارِيرَ كُلِّ قَوْمٍ مِنْ تُرَابِ أَرْضِهِمْ، وَإِنَّ أَرْضَ الْجَنَّةِ مِنْ فِضَّةٍ، فَجَعَلَ مِنْهَا قَوَارِيرَ يَشْرَبُونَ فِيهَا ﴿قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا﴾ قَدَّرُوا الْكَأْسَ عَلَى قَدْرِ رِيِّهِمْ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، أَيْ قَدَّرَهَا لَهُمُ السُّقَاةُ وَالْخَدَمُ الَّذِينَ يَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ يُقَدِّرُونَهَا ثُمَّ يُسْقَوْنَ. ﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا﴾ يُشَوِّقُ وَيُطْرِبُ، وَالزَّنْجَبِيلُ: مِمَّا كَانَتِ الْعَرَبُ تَسْتَطِيبُهُ جِدًّا، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُسْقَوْنَ فِي الْجَنَّةِ الْكَأْسَ الْمَمْزُوجَةَ بِزَنْجَبِيلِ الْجَنَّةِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يُشْبِهُ زَنْجَبِيلَ الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ وَسَمَّاهُ لَيْسَ لَهُ فِي الدُّنْيَا مِثْلٌ. وَقِيلَ: هُوَ عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ يُوجَدُ مِنْهَا طَعْمُ الزَّنْجَبِيلِ. قَالَ قَتَادَةُ: يَشْرَبُهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا، وَيُمْزَجُ لِسَائِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ (٢). ﴿عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا﴾ قَالَ قَتَادَةُ: سَلِسَةٌ مُنْقَادَةٌ لَهُمْ يُصَرِّفُونَهَا حَيْثُ شَاءُوا (٣) وَقَالَ
(٢) أخرجه الطبري: ٢٩ / ٢١٨.
(٣) أخرجه عبد الرزاق في التفسير: ٢ / ٣٣٨، والطبري: ٢٩ / ٢١٨، وزاد السيوطي في الدر المنثور: ٨ / ٣٧٦ عزوه لعبد بن حميد.
﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (١٩) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (٢٠) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (٢١) ﴾
﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا﴾ قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ فِي بَيَاضِ اللُّؤْلُؤِ وَحُسْنِهِ، وَاللُّؤْلُؤُ إِذَا نُثِرَ مِنَ الْخَيْطِ عَلَى الْبِسَاطِ، كَانَ أَحْسَنَ مِنْهُ مَنْظُومًا. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: إِنَّمَا شُبِّهُوا بِالْمَنْثُورِ لِانْتِثَارِهِمْ فِي الْخِدْمَةِ، فَلَوْ كَانُوا صَفًّا لَشُبِّهُوا بِالْمَنْظُومِ. ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ﴾ أَيْ إِذَا [رَأَيْتَ] (٤) بِبَصَرِكَ وَنَظَرْتَ بِهِ ثَمَّ يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ ﴿رَأَيْتَ نَعِيمًا﴾ لَا يُوصَفُ ﴿وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾ وَهُوَ أَنَّ أَدْنَاهُمْ مَنْزِلَةً يَنْظُرُ إِلَى مُلْكِهِ فِي مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: هُوَ أَنَّ رَسُولَ رَبِّ الْعِزَّةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقِيلَ: مُلْكًا لَا زَوَالَ لَهُ. ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ﴾ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَحَمْزَةُ: "عَالِيهِمْ" سَاكِنَةَ الْيَاءِ مَكْسُورَةَ الْهَاءِ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ: ثِيَابُ سُنْدُسٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِنَصْبِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ عَلَى [الصِّفَةِ، أَيْ فَوْقَهُمْ، وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الظَّرْفِ] (٥) ﴿ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ﴾ قَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ "خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ" [مَرْفُوعًا] (٦) عَطْفًا عَلَى الثِّيَابِ، وَقَرَأَهُمَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مَجْرُورَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ "خُضْرٍ" بِالْجَرِّ وَ"إِسْتَبْرَقٌ" بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَالشَّامِ عَلَى ضِدِّهِ [فَالرَّفْعُ عَلَى] (٧)
(٢) أخرجه عبد الرزاق في التفسير: ٢ / ٣٣٨، والطبري: ٢٩ / ٢١٨، وهناد في الزهد: ١ / ١٧٢، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: ٨ / ٣٧٥ لسعيد بن منصور، وهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي. وأخرجه البخاري تعليقا: ٦ / ٣١٩، وقال الحافظ في "الفتح": وصله سعيد بن منصور، وعبد بن حميد من طريق مجاهد. وانظر تعليق المحقق على الزهد لهناد.
(٣) ساقط من "ب".
(٤) في "ب" رميت.
(٥) في "أ" الحال، وعاليهم: أي فوقهم، ويجوز انتصابه على الظرف.
(٦) في "أ" مرفوعتين.
(٧) في "أ" فقوله: أخضر بالرفع على.
﴿وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ قِيلَ: طَاهِرًا مِنَ الْأَقْذَارِ وَالْأَقْذَاءِ لَمْ تُدَنِّسْهُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ كَخَمْرِ الدُّنْيَا.
وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ وَإِبْرَاهِيمُ: إِنَّهُ لَا يَصِيرُ بَوْلًا نَجِسًا وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ رَشْحًا فِي أَبْدَانِهِمْ، [رِيحُهُ كَرِيحِ الْمِسْكِ] (٣)، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ بِالطَّعَامِ، فَإِذَا كَانَ آخِرُ ذَلِكَ أُتُوا بِالشَّرَابِ الطَّهُورِ، فَيَشْرَبُونَ فَيُطَهِّرُ بُطُونَهُمْ وَيَصِيرُ مَا أَكَلُوا رَشْحًا يَخْرُجُ مِنْ جُلُودِهِمْ [رِيحًا] (٤) أَطْيَبَ مِنَ الْمِسْكِ الْأَذْفَرِ، وَتَضْمُرُ بُطُونُهُمْ وَتَعُودُ شَهْوَتُهُمْ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ عَيْنُ مَاءٍ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا نَزَعَ اللَّهُ مَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ غِلٍّ وَغِشٍّ وَحَسَدٍ.
﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (٢٢) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (٢٤) ﴾
﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ أَيْ مَا وُصِفَ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ كَانَ لَكُمْ جَزَاءً بِأَعْمَالِكُمْ، ﴿وَكَانَ سَعْيُكُمْ﴾ عَمَلُكُمْ فِي الدُّنْيَا بِطَاعَةِ اللَّهِ مَشْكُورًا، قَالَ عَطَاءٌ: شَكَرْتُكُمْ عَلَيْهِ [فَأُثِيبُكُمْ] (٥) أَفْضَلَ الثَّوَابِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا﴾ قَالَ ابن عباس: ١٨٢/أمُتَفَرِّقًا آيَةً بَعْدَ آيَةٍ، وَلَمْ يَنْزِلْ جُمْلَةً وَاحِدَةً. ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ﴾ يَعْنِي مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ ﴿آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ يَعْنِي وَكَفُورًا، وَالْأَلِفُ صِلَةٌ.
(٢) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(٣) في "ب" كرشح المسك.
(٤) ساقط من "ب".
(٥) في "ب" فآتيتكم.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَرَادَ بـ"الْآثِمِ" عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَبِـ"الْكَفُورِ" الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، قَالَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ كُنْتَ صَنَعْتَ مَا صَنَعْتَ لِأَجْلِ النِّسَاءِ وَالْمَالِ فَارْجِعْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، قَالَ عُتْبَةُ: فَأَنَا أُزَوِّجُكَ ابْنَتِي وَأَسُوقُهَا إِلَيْكَ بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَقَالَ الْوَلِيدُ: أَنَا أُعْطِيكَ مِنَ الْمَالِ حَتَّى تَرْضَى، فَارْجِعْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (٢).
﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٢٥) ﴾
(٢) قال الآلوسي: ٢٩ / ١٦٥-١٦٦: "والمراد بالآثم والكفور: جنسه. وتعليق النهي بذلك مشعر بعلية الوصفين له، فلا بد أن يكون النهي عن الإطاعة في الإثم والكفر، لا فيما ليس بإثم ولا كفر والمراد: ولا تطع مرتكب الإثم الداعي لك إليه، أو مرتكب الكفر الداعي إليه: أي: لا تتبع أحدا من الآثم إذا دعاك إلى الإثم، ومن الكفور إذا دعاك إلى الكفر فإنه إذا قيل: لا تطع الظالم، فهم منه: ولا تتبعه في الظلم إذا دعاك إليه. ومنع هذا الفهم مكابرة.. وقيل: الآثم: عتبة، والكفور: الوليد. والأولى ما تقدم". وقال: "وفي النهي مع العصمة إرشاد لغير المعصوم إلى التضرع إلى الله تعالى والرغبة إليه سبحانه في الحفظ عن الوقوع فيما لا ينبغي".
﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ﴾ [يَعْنِي صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ] (١) ﴿وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا﴾ يَعْنِي التَّطَوُّعَ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ. ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾ يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ ﴿يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ أَيِ الدَّارَ الْعَاجِلَةَ وَهِيَ الدُّنْيَا. ﴿وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ﴾ يَعْنِي أَمَامَهُمْ ﴿يَوْمًا ثَقِيلًا﴾ شَدِيدًا وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. أَيْ يَتْرُكُونَهُ فَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَلَا يَعْمَلُونَ لَهُ. ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا﴾ [قَوَّيْنَا وَأَحْكَمْنَا] (٢) ﴿أَسْرَهُمْ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ [وَمُقَاتِلٌ] (٣) "أَسْرَهُمْ" أَيْ: خَلْقَهُمْ، يُقَالُ: رَجُلٌ حَسَنُ الْأَسْرِ، أَيِ: الْخَلْقِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي أَوْصَالَهُمْ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ بِالْعُرُوقِ وَالْعَصَبِ.
(٢) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(٣) ساقط من "أ".
﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (٢٩) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (٣١) ﴾
﴿إِنَّ هَذِهِ﴾ يَعْنِي هَذِهِ السُّورَةَ ﴿تَذْكِرَةٌ﴾ تَذْكِيرٌ وَعِظَةٌ ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ وَسِيلَةً بِالطَّاعَةِ. ﴿وَمَا تَشَاءُونَ﴾ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: "يَشَاءُونَ" بِالْيَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ أَيْ لَسْتُمْ تَشَاءُونَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّ الْأَمْرَ إِلَيْهِ ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ﴾ أَيِ الْمُشْرِكِينَ ﴿أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾