تفسير سورة النصر

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة النصر من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مدنية، بالإجماع، وتسمى سورة التوديع، وهي ثلاث آيات، وست عشرة كلمة، وتسعة وسبعون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الذي له الأمر كله، فهو العليم الحكيم ﴿ الرحمن ﴾ الذي أرسلك رحمة من الله العليّ العظيم ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أهل ودّه بفضله العميم.

وقوله تعالى :﴿ إذا ﴾ منصوب بسبح ﴿ جاء نصر الله ﴾، أي : الملك الأعظم الذي لا مثل له، ولا أمر لأحد معه بإظهاره إياك على أعدائك، ومعنى جاء استقرّ وثبت في المستقبل بمجيء وقته المضروب له في الأزل، وزاد في تعظيمه بالإضافة، ثم بكونها إلى اسم الذات.
وقرأ حمزة وابن ذكوان بإمالة الألف بعد الجيم محضة، والباقون بالفتح، والإعلام به قبل كونه من أعلام النبوّة. روي أنها نزلت أيام التشريق بمنى في حجة الوداع. ﴿ والفتح ﴾، أي : فتح مكة، وهو الفتح الذي يقال له : فتح الفتوح، وقصته مشهورة في البغوي وغيره فلا نطيل بذكرها. وكان فتح مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطواف العرب، وأقام بها خمس عشرة ليلة، ثم خرج إلى هوزان، وحين دخلها وقف على باب الكعبة ثم قال :" لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده "، ثم قال :" يا أهل مكة، ما ترون أني فاعل بكم " ؟ قالوا : خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، ثم قال :«اذهبوا فأنتم الطلقاء » فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الله تعالى قد أمكنه من رقابهم عنوة، وكانوا له فيئا فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء، ثم بايعوه على الإسلام في دين الله تعالى في ملة الإسلام التي لا دين له يضاف إليه غيرها ﴿ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ﴾ [ آل عمران : ٨٥ ] وقيل : المراد جنس نصر الله تعالى المؤمنين، وفتح بلاد الشرك عليهم. فإن قيل : ما الفرق بين النصر والفتح حتى عطف عليه ؟ أجيب : بأنّ النصر الإعانة والإظهار على العدوّ، ومنه نصر الله تعالى الأرض أغاثها، قال الشاعر :
إذا انسلخ الشهر الحرام فودّعي بلاد تميم وانصري آل عامر
ويروى :
إذا دخل الشهر الحرام فجاوزي بلاد تميم وانصري أرض عامر
والفتح فتح البلاد، وقال الرازي : الفرق بين النصر والفتح أنّ الفتح هو الإعانة على تحصيل المطلوب الذي كان متعلقاً به، والنصر كالسبب، فلهذا بدأ بذكر النصر وعطف الفتح عليه.
فإن قيل : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دائماً منصوراً بالدلائل والمعجزات، فما المعنى بتخصيص لفظ النصر بفتح مكة ؟
أجيب : بأنّ المراد من هذا النصر هو النصر الموافق للطبع. فإن قيل : النصر لا يكون إلا من الله تعالى، قال الله تعالى :﴿ وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ﴾ [ آل عمران : ١٢٦ ] فما فائدة التقييد بنصر الله ؟ أجيب : بأنّ معناه نصر لا يليق إلا بالله تعالى، كما يقال : هذا صنعة زيد إذا كان مشهوراً بإحكام الصنعة، والمقصود منه تعظيم حال تلك الصنعة، فكذا ههنا. فإن قيل : الذين أعانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة هم أصحابه من المهاجرين والأنصار، ثم إنه تعالى سمى نصرتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم نصر الله فما السبب في ذلك ؟ أجيب : بأنّ النصر وإن كان على يد الصحابة لكن لا بدّ له من داع وباعث، وهو من الله تعالى. فإن قيل : فعلى هذا الجواب يكون فعل العبد مقدّماً على فعل الله تعالى، وهذا بخلاف النصر ؛ لأنه تعالى قال :﴿ إن تنصروا الله ينصركم ﴾ [ محمد : ٧ ] فجعل نصره مقدّماً على نصره لنا ؟ أجيب : بأنه لا امتناع في أن يكون فعل العبد سبباً لفعل آخر يصدر عن الله تعالى، فإنّ أسباب الحوادث ومسبباتها على ترتيب عجيب تعجز عن إدراكه العقول البشرية.
ولما عبر عن المعنى : بالمجيء عبر عن المرئي بالرؤية فقال تعالى :﴿ ورأيت ﴾، أي : ببصرك الناس، أي : العرب الذي كانوا حقيرين عند جميع الأمم، فصاروا بك هم الناس، كما دلت عليه لام الكمال، وصار سائر أهل الأرض لهم أتباعاً، بالنسبة إليهم رعاعاً حال كونهم ﴿ يدخلون ﴾ شيئاً فشيئاً متجدّداً دخولهم مستمرّاً ﴿ في دين الله ﴾، أي : شرع من لم تزل كلمته هي العليا ﴿ أفواجاً ﴾، أي : جماعات كثيفة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها، بعد ما كانوا يدخلون واحداً واحداً، واثنين اثنين.
وعن جابر بن عبد الله أنه بكى ذات يوم، فقيل له في ذلك فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«دخل الناس في دين الله أفواجاً، وسيخرجون منه أفواجاً ». وقال عكرمة ومقاتل : أراد بالناس أهل اليمن، وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين، بعضهم يؤذنون، وبعضهم يقرؤون القرآن، وبعضهم يهللون، فسر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك. قال أبو هريرة : لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«الله أكبر، جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن، قوم رقيقة قلوبهم، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية » وقال :«أجد نفس ربكم من قبل اليمن »، وفي هذا تأويلات :
أحدها : أنه الفرج لتتابع إسلامهم أفواجاً.
الثاني : أنّ الله تعالى نفس الكرب عن نبيه صلى الله عليه وسلم بأهل اليمن وهم الأنصار. وعن الحسن لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أقبلت العرب بعضها على بعض، فقالوا : أمّا إذ ظفر بأهل الحرم فليس به يدان، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل، ومن كل من أرادهم، فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجاً من غير قتال، أمّة بعد أمّة. قال الضحاك : والأمة أربعون رجلاً.
تنبيه : دين الله تعالى هو الإسلام لقوله تعالى :﴿ إنّ الدين عند الله الإسلام ﴾ [ آل عمران : ١٩ ]، وقال تعالى :﴿ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ﴾ [ آل عمران : ٨٥ ]، وإضافة الدين إلى الاسم الدال على الإلهية إشارة على أنه يجب أن يعبد لكونه إلهاً، وللدّين أسماء أخر منها الصراط، قال تعالى :﴿ صراط الله ﴾ [ الشورى : ٥٣ ]، ومنها النور ﴿ يريدون ليطفئوا نور الله ﴾ [ التوبة : ٣٢ ]، ومنها الهدى قال تعالى :﴿ هدى الله يهدي به من يشاء ﴾ [ الأنعام : ٨٨ ]، ومنها العروة الوثقى قال تعالى :﴿ ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ﴾ [ البقرة : ٢٥٦ ]، ومنها الحبل المتين قال تعالى :﴿ واعتصموا بحبل الله ﴾ [ آل عمران : ١٠٣ ]، ومنها صبغة الله، ومنها فطرة الله.
تنبيه : جمهور الفقهاء وأكثر المتكلمين على أنّ إيمان المقلد صحيح، واحتجوا بهذه الآية قالوا : إنّ الله تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج، وجعله من أعظم المنن على نبيه صلى الله عليه وسلم، فلو لم يكن إيمانهم صحيحاً لما ذكره في هذا المعرض، ثم إنا نعلم قطعاً أنهم كانوا يعرفون حدوث الأجسام بالدليل، ولإثبات كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات التي لا نهاية لها، ولإثبات الصفات والتنزيهات بالدليل والعلم بأنّ أولئك الأعراب ما كانوا عالمين بهذه الدقائق ضروري، فعلمنا أنّ إيمان المقلد صحيح.
فإن قيل : إنهم كانوا عالمين بأصول دلائل هذه المسائل ؛ لأنّ أصول هذه الدلائل ظاهرة ؛ بل كانوا جاهلين بالتفاصيل ؟
أجيب بأنّ الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان، فإنّ الدليل إذا كان مثلاً من عشر مقدمات فمن علم تسعة منها، وكان في المقدّمة العاشرة مقلداً، كان في النتيجة مقلداً لا محالة.
ولما كمل الدين، أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يشتغل بنفسه، فقال عز من قائل :﴿ فسبح ﴾، أي : نزه بقولك وفعلك -بالصلاة وغيرها- تسبيحاً ملتبساً ﴿ بحمد ربك ﴾، أي : الذي أنجز لك الوعد بإكمال الدين، وقمع المعتدين، المحسن إليك بجميع ذلك ؛ لأنّ هذا كله لكرامتك، وإلا فهو عزيز حميد على كل حال، تعجباً لتيسير الله تعالى لهذا الفتح الذي لم يخطر ببال أحد حامداً له عليه، أو فصل له حامداً على نعمه، قاله ابن عباس. روي أنه صلى الله عليه وسلم «لما دخل مكة بدأ بالسجود، فدخل الكعبة، وصلى ثماني ركعات ». ﴿ واستغفره ﴾، أي : اطلب غفرانه، لتقتدي بك أمّتك في المواظبة على الأمان الثاني، فإنّ الأمان الأول -الذي هو وجودك بين أظهرهم- قد دنا رجوعه إلى معدنه في الرفيق الأعلى، والمحل الأقدس، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله تعالى حق قدره، كما أشار إلى ذلك الاستغفار عقب الصلاة التي هي أعظم العبادات. وفي الصحيحين عن عائشة أنها قالت :«ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة ﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ﴾ إلا يقول :" استغفر الله وأتوب إليه "، قال :" فإني أمرت بها "، ثم قرأ ﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ﴾ إلى آخرها ». وقال عكرمة : لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم قط أشد اجتهاداً في أمور الآخرة ما كان عند نزولها. وقال مقاتل : لما نزلت قرأها النبيّ صلى الله عليه وسلم على أصحابه، وفيهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص والعباس، ففرحوا واستبشروا، وبكى العباس، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم :" ما يبكيك يا عمّ ؟ " قال : نعيت إليك نفسك. قال :" إنه كما قلت "، فعاش بعدها ستون يوماً، ما رؤي ضاحكاً مستبشراً ». وقيل : نزلت في منى بعد أيام التشريق في حجة الوداع، فبكى عمر والعباس، فقيل لهما : هذا يوم فرح، فقالا : لا ؛ بل فيه نعي النبيّ صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عمر : نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع، ثم نزل ﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ﴾ [ المائدة : ٣ ]، فعاش صلى الله عليه وسلم بعدها ثمانين يوماً، ثم نزلت آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يوماً، ثم نزلت ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ]، فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً، ثم نزل :﴿ واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ﴾ [ البقرة : ٢٨١ ]، فعاش بعدها أحداً وعشرين يوماً. وقال مقاتل : سبعة أيام، وقيل : غير ذلك. وقال الرازي : اتفق الصحابة على أنّ هذه السورة دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لوجوه :
أحدها : أنهم عرفوا ذلك لما خطب صلى الله عليه وسلم عقب السورة، وذكر التخيير، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته لما نزلت هذه السورة :«إنّ عبداً خيره الله بين الدنيا وبين لقائه، فاختار لقاء الله. فقال أبو بكر رضي الله عنه : فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا ».
ثانيها : أنه لما ذكر حصول النصر والفتح، ودخول الناس في الدين أفواجاً، دل ذلك على حصول الكمال والتمام، وذلك يستعقبه الزوال، كما قيل :
إذا تمّ أمر بدا نقصه *** توقع زوالاً إذا قيل : تم
ثالثها : أنه تعالى أمره بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقاً، واشتغاله بذلك يمنعه من الاشتغال بأمر الأمة، فكان هذا كالتنبيه على أنّ أمر التبليغ قد تم وكمل، وذلك يقتضي انقضاء الأجل ؛ إذ لو بقي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لكان كالمعزول من الرسالة، وذلك غير جائز.
وعن ابن عباس : أن عمر كان يدنيه ويأذن له مع أهل بدر، فقال عبد الرحمن : أتأذن لهذا الفتى معنا، وفي أبنائنا من هو مثله ؟ فقال : إنه من قد علمتم. قال ابن عباس : فأذن لهم ذات يوم، وأذن لي معهم، فسألهم عن قول الله تعالى :﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ﴾، ولا أراه سألهم إلا من أجلي، فقال بعضهم : أمر الله تعالى نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه، فقلت : ليس كذلك، ولكن نعيت إليه نفسه، فقال عمر : ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم، ثم قال : كيف تلوموني عليه بعد ما ترون. وروي أنه صلى الله عليه وسلم «دعا فاطمة رضي الله عنها فقال :" يا بنتاه، إني نعيت إلى نفسي "، فبكت، فقال :" لا تبكي، فإنك أوّل أهلي لحوقاً بي »، وعن عائشة «كان صلى الله عليه وسلم يكثر قبل موته أن يقول :«سبحانك اللهمّ وبحمدك، استغفرك وأتوب إليك »، وعنها أيضاً :«ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت ﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ﴾ إلا يقول فيها :" سبحانك اللهمّ وبحمدك، اللهمّ اغفر لي " ». وقالت أم سلمة رضي الله عنها :«كان النبيّ صلى الله عليه وسلم آخر أمره لا يقوم ولا يقعد، ولا يجيء ولا يذهب، إلا قال :« " سبحان الله وبحمده، استغفر الله وأتوب إليه ". قال :" فإني أمرتُ بها "، ثم قرأ ﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ﴾ إلا آخرها ». وقيل : استغفره هضماً لنفسك، واستصغاراً لعملك، واستدراكاً لما فرط منك بالالتفات على غيره. وعنه عليه الصلاة والسلام :«إني استغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة ». وقيل : استغفر لأمّتك. وتقديم التسبيح ثم الحمد على الاستغفار على طريق النزول من الخالق إلى الخلق، كما قيل : ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله.
ولما أمره الله تعالى بالتسبيح والاستغفار أرشده إلى التوبة بقوله تعالى :﴿ إنه ﴾، أي : المحسن إليك بالنصر والفتح، وغير ذلك مما لا يدخل تحت الحصر ﴿ كان ﴾، أي : ولم يزل ﴿ تواباً ﴾، أي : رجاعاً بمن ذهب به الشيطان من أهل رحمته، فهو الذي رجع بأنصارك عما كانوا عليه من الاجتماع على الكفر والاختلاف والعداوات، فأيدك الله تعالى بدخولهم في الدين شيئاً فشيئاً، إلى أن دخلت مكة بعشرة آلاف، وهو أيضاً يرجع بك إلى الحالة التي يزداد بها ظهور رفعتك في الرفيق الأعلى. قال الله تعالى :﴿ وللآخرة خير لك من الأولى ﴾ [ الضحى : ٤ ] فتفوز بتلك السعادات العالية. وعن ابن مسعود : أنّ هذه السورة تسمى سورة التوديع. قال قتادة ومقاتل : عاش النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين، وهذا بناء على أنها نزلت قبل فتح مكة، وهو قول الأكثر، فإنّ الفتح كان في سنة ثمان، وأمّا من قال : عاش دون ذلك كما مر، فبناء على أنها نزلت في حجة الوداع كما مرّ أيضاً.
تنبيه : في الآية سؤالات : أحدها أنّ قوله تعالى :﴿ كان تواباً ﴾ يدل على الماضي، وحاجتنا إلى قبوله في المستقبل. ثانيها : هلا قال : غفاراً، كما قال في سورة نوح عليه السلام ؟ ثالثها : أنه قال تعالى :﴿ نصر الله ﴾ وقال تعالى :﴿ في دين الله ﴾ وقال تعالى ﴿ بحمد ربك ﴾ ولم يقل بحمد الله ؟ أجيب : عن الأوّل بوجوه :
أحدها : أنّ هذا أبلغ، كأنه يقول : إني تبت على من هو أقبح فعلاً منكم كاليهود، فإنهم بعد ظهور المعجزات العظيمة كفلق البحر، ونتق الجبل، ونزول المنّ والسلوى، عصوا ربهم وأتوا بالقبائح، ولما تابوا قبلت توبتهم، فإذا كنت قابلاً لتوبة أولئك وهم دونكم، أفلا أقبل توبتكم، وأنتم خير أمّة أخرجت للناس ؟
ثانيها : إني شرعت في توبة العصاة، والشروع ملزم على قول النعمان، فكيف في كرم الرحمن.
ثالثها : كنت تواباً قبل أمركم بالاستغفار، أفلا أقبل وقد أمرتكم.
رابعها : كأنه أشار إلى تخفيف جنايتهم، أي : لستم أوّل من جنى وتاب، والمعصية إذا عمت خفت.
خامسها : كأنه نظير ما يقال : لقد أحسن الله إليك فيما مضى، كذلك يحسن إليك فيما بقي. وأجيب عن الثاني بوجهين : أحدهما لعله خص هذه الأمة بزيادة الشرف ؛ لأنه لا يقال في صفات العبد : غفار، ويقال : تواب إذا كان آتياً بالتوبة، فيقول تعالى : كنت لي سمياً من أوّل الأمر، أنت مؤمن وأنا مؤمن، وإن كان المعنى مختلفاً، فتب حتى تصير سمياً في آخر الأمر، وأنت تواب وأنا تواب، ثم التوّاب في حق الله تعالى أنه يقبل التوبة كثيراً، فيجب على العبد أن يكون إتيانه بالتوبة كثيراً. وثانيهما : أنه تعالى إنما قال : تواباً ؛ لأنّ القائل قد يقول : أستغفر الله، وليس بتائب، كقوله عليه الصلاة والسلام :«المستغفر بلسانه، المصر بقلبه، كالمستهزئ بربه ».
فإن قيل : قد يقول : أتوب، وليس بتائب ؟ أجيب بأن ذا يكون كاذباً ؛ لأنّ التوبة اسم للرجوع والندم، بخلاف الاستغفار، فإنه لا يكون كاذباً فيه، فصار تقدير الكلام : واستغفره بالتوبة، وفيه تنبيه على أنّ خواتيم الأعمال يجب أن تكون بالتوبة والاستغفار، فكذا خواتيم الأعمار. وأجيب عن الثالث : بأنه تعالى راعى العدل، فذكر اسم الذات مرّتين، وذكر اسم الفعل مرّتين : أحدهما الرب، والثاني التوّاب. ولما كانت التربية تحصل أولاّ، والتوبة آخراً، لا جرم ذكر اسم الرب أولاً، واسم التوبة آخراً. فنسأل الله تعالى من فضله وكرمة أن يمنّ علينا بتوبة نصوح، لا ننكث بعدها أبداً، فإنه كريم رحيم.
Icon