تفسير سورة الجمعة

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة الجمعة من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن الفرس . المتوفي سنة 595 هـ
وهي١ مدنية، وقيل مكية. والأول أصح لأن قصة اليهود لم تكن قط بمكة وكذلك إقامة الجمعة لم تكن قط بمكة ٢. وفيها موضع واحد.
١ "وهي" كلمة ساقطة في غير (و)، (ز)..
٢ " وكذلك إقامة الجمعة لم تكن قط بمكة " كلام ساقط في (ج)، (ح)، (هـ)..

– قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة... ﴾ : إلى آخر السورة :
سأل مالك بن شهاب – على ما وقع في الموطأ – عن قوله تعالى :﴿ فاسعوا إلى ذكر الله ﴾. فقال ابن شهاب : كان عمر بن الخطاب يقرأها فامضوا إلى ذكر الله. قال مالك : وإنما السعي في كتاب الله تعالى الفعل لقوله تعالى :﴿ وإذا تولى سعى في الأرض ﴾ [ البقرة : ٢٠٥ ]. وقال :﴿ وأما من جاءك يسعى ( ٨ ) ﴾ [ عبس : ٨ ]، وقال :﴿ ثم أدبر يسعى ( ٢٢ ) ﴾ [ النازعات : ٢٢ ]، وقال :﴿ إن سعيكم لشتى ( ٤ ) ﴾ [ الليل : ٤ ]. قال مالك : فليس السعي الذي ذكر الله عز وجل في كتابه بالسعي على الأقدام ولا الاشتداد، وإنما عنى العمل والفعل ١. وهذا السؤال من مالك إنما كان لأن لفظ السعي في كلام العرب يحتمل الجري كقوله عليه الصلاة والسلام : " فلا تأتوها وأنتم تسعون " ٢ ويحتمل المشي من غير جري كالآية التي احتج بها مالك. وأجابه ابن شهاب بقراءة عمر بن الخطاب وإن لم تكن ثابتة في المصحف، تجري عند قوم من الأصوليين مجرى خبر الآحاد سواء أسندت أم لا. وذهبت طائفة إلى أنها لا تجري مجرى خبر الواحد إلا إذا أسندت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم تسند فهي بمنزلة قول القارئ لها. والذي ذهب إليه القاضي أبو بكر ٣ أنه لا تجوز القراءة بها ولا العمل بمضمونها سواء أسندت أم لا. قال الباجي وهو الأبين عندي والوجه في احتجاج ابن شهاب بقراءة عمر أن ذلك على جهة التفسير من عمر وهو من أهل اللسان، ففسر السعي بأنه المضي، وقوله في ذلك حجة بلا خلاف بين العلماء ٤.
وهذه الآية قد تضمنت من أحكام الجمعة جملة، فمن ذلك أنها فريضة لأن الأمر بها في الآية محمول على الوجوب، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤيد ذلك قوله : " الجمعة واجبة على كل مسلم في جماعة إلا أربعة : عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض " ٥. وهي عند الجمهور فرض على الأعيان، وقال قوم فرض على الكفاية، وذهب إليه بعض الشافعية. ودليل الجمهور قوله تعالى :﴿ إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ﴾ فعم. وقال عليه الصلاة والسلام : " الجمعة على من سمع النداء " ٦ وقوله عليه الصلاة والسلام : " من تركها ثلاثا من غير عذر طبع الله على قلبه " ٧. ومن ذلك الأذان لصلاة الجمعة اختلف في وجوبه. الذاهبون إلى أن الأذان ليس بواجب في الجملة، وهو قول الجمهور خلافا لداود ومن تابعه. فرآه الأكثر مثل الأذان لسائر الصلوات ٨ سنة. ورآه بعض الشافعية واجبا بخلاف الأذان لسائر الصلوات، ومن حجتهم ظاهر الآية لأنه تعالى قد شرط في السعي إليها أن يكون عند الأذان، والسعي واجب. وهذا ضعيف، لأن المفهوم من الآية والمراد منها إنما هو إذا حضر وقت هذه الصلاة فاسعوا إليها، وجعل الأذان الذي هو من سنتها علامة لذلك، فلا تدل على وجوبه. وقد اختلف في معنى قول مالك في صفة الأذان يوم الجمعة. فروى عنه ابن عبد الحكم ما يدل على أن النداء عنده فيها واحد، ونحوه عند الشافعي. وجاء في الحديث أن السائب بن يزيد ٩ قال : كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان – وكثر الناس – زاد النداء الثالث، وبعضهم يقول الثاني فمن قال الثاني فلا إشكال. ومن قال الثالث، فبعضهم يقول سمى الإقامة أذانا فكانت أذانا ثانيا للأذان على المنابر، وما زاده عثمان ثالث. وبعضهم يقول إنه كان بين يديه صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر أذان أيضا، وذكر ذلك أبو داود في مصنفه، فهو كان الثاني. وهو الحديث الذي جاء أنه كان بين يديه صلى الله عليه وسلم أذان ضعيف لأنه قال مالك في المجموعة أن هشام بن عبد الملك ١٠ هو الذي أحدث الأذان بين يديه. فلو كان ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل إنه محدث. وقد ذكر عن مالك ما يدل أن الأذان للجمعة ليس بواحد لأنه قال : إذا أذن المؤذنون حرم البيع ١١. فذكر المؤذنين بلفظ الجمع. والذي يظهر من لفظ الآية أن ذلك واسع أذن لها واحد أو جماعة لأنه تعالى قال :﴿ إذا نودي للصلاة ﴾ وذلك يقع على النداء والنداءين والثلاثة. واختلف في الموضع الذي يلزم منه السعي إلى الجمعة. فقيل ثلاثة أميال وما قاربها، وهو قول مالك المشهور. وقيل ثلاثة أميال فدون، وهي رواية أشهب عنه ١٢. وهذه الثلاثة الأميال اختلف الذين ذهبوا إليها من أين يكون ابتداؤها ١٣ إلى أين. فقيل من منزل الساعي إلى موضع المنادي. وقيل من منزل الساعي إلى أول المدينة التي فيها النداء. والقولان في المذهب. وقيل يجب السعي على كل من آواه الليل إلى أهله، وهو قول الأوزاعي وغيره. وقيل يجب على من كان على ستة أميال، وهو قول الزهري. وقيل يجب على من كان على أربعة أميال، وهو قول ربيعة. ويذكر عن الزهري. وقيل ليس على من كان على رأس ميل جمعة، وهو قول حذيفة. وقيل يلزم السعي في خمسة أميال. وقيل إنه لا يلزم من كان خارج المصر الإتيان إليها قربت مسافته أو بعدت، وهو قول أبي حنيفة. وقيل تجب الجمعة على من يسمع النداء، وهو مروي عن مالك والشافعي وغيرهما. وجعل جماعة من الشيوخ هذا القول غير مخالف للقول باعتبار ثلاثة أميال. قالوا لأن تلك المسافة منتهى ما يسمع فيها صوت المؤذن. وكذلك ساق الرواية علي بن زياد، وساقوا أيضا تفسيرا للمذهب ما رواه ابن أبي أويس ١٤ عن مالك وابن وهب أيضا. وهو أن الحد إنما هو لمن كان خارج المصر، وأما من كان في المصر فيتعين عليه الإتيان إلى الجمعة وإن كان بينه وبين المسجد الجامع ستة أميال أو أكثر. قال المهلب ١٥ : ونص كتاب الله يدل على أن الجمعة تجب على كل من سمع النداء وإن كان خارج المصر. وهو أصح الأقوال. قال ابن القصار : واعتذر الكوفيون لقولهم إن الجمعة لا تجب على من كان خارج المصر فقالوا : لأن الأذان إعلام لمن يحضر، والأذان بعد دخول الوقت. ومعلوم أنه من سمعه على أميال باكر في السعي لا يلحق فيقال لهم معنى قوله تعالى :﴿ إذا نودي للصلاة ﴾ : إذا قرب وقت النداء للصلاة بمقدار ما يدركها كل ساع إليها، فاسعوا إليها. وليس على أنه لا يجب السعي لها حتى ينادي إليها. والعرب قد تضع البلوغ بمعنى المقاربة كقولهم : إن ابن أم مكتوم كان لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت، أي قاربت الصباح. ومثله :﴿ فإذا بلغن أجلهن ﴾ [ البقرة : ٢٣٤، الطلاق : ٢ ] يريد إذا قاربن البلوغ. واختلف متى يتعين الإقبال للصلاة، وهذا الخلاف إنما هو فيمن كان بموضع لا تفوته الجمعة منه إذا سعى إليها مع الأذان. فقيل إذا زالت الشمس، وقيل إذا أذن المؤذن، وهو ظاهر لفظ الآية. واختلف في عدد من تجب عليهم الجمعة. فروي عن أبي هريرة مائتان، وعن عمر بن عبد العزيز خمسون وعن الشافعي أربعون. وروي عن أبي هريرة وعن مالك في رواية مطرف وابن الماجشون ثلاثون بيتا وروي بذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ١٦. وعن ربيعة اثني عشر رجلا عدد الذين بقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين انفضوا إلى العير. وعن عكرمة سبعة أنفس، وعن أبي حنيفة الإمام وثلاثة أنفس معه وهو قول الأوزاعي والمزني ١٧ وأبي ثور. وعن أبي يوسف والثوري : الإمام ونفسان معه. وعن الحسن بن أبي صالح ١٨ : الإمام وآخر معه. والمشهور عن مالك أنه لم يحدد عددا إلا أنه قال : أهل القرية المتصلة البنيان التي فيها الأسواق يجمع أهلها. ومرة لم يذكر الأسواق. قال ابن القصار : ليس أحد هذه الأقوال أولى من صاحبه فيجب الرجوع إلى صفة من خوطب في الآية وأمروا بالسعي إليها وهم قوم لهم بيع وشراء. فيجب طلب قوم هذه صفتهم وليسوا إلا من كان لهم مسجد وسوق ويطلق عليهم اسم جماعة. فالجمعة واجبة عليهم كانوا خمسة أو عشرة أو أربعين، وهذا هو مثل قول مالك رحمه الله تعالى فهو أسعد بالآية من سائر المخالفين له. وأيضا فإنه تعالى قال :﴿ فاسعوا إلى ذكر الله ﴾ ولم يشترط عددا. ولا يصح عند أهل النقل ما احتج به الشافعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة جمع بأربعين رجلا. واختلف هل تجب الجمعة فيما عدا الأمصار على قولين. الأشهر منهما أنها تجب في غير المصر إذا كان ثم جماعة كما تقدم. والدليل على ذلك عموم الآية إذ لم يخص مصرا من غيره. وقوله عليه الصلاة والسلام : " الجمعة في كل قرية وإن لم يكن فيها إلا أربعة " ١٩ والمقصود من هذا ضرب المثل وأن صغرها لا يمنع من إقامة الجمعة. وأجمعوا على أن المرأة والصبي لا جمعة عليهما لقوله عليه الصلاة والسلام : " لا تجب الجمعة على أربعة " ٢٠ فذكر المسافر والعبد والمرأة والصبي وذكر المريض. واختلف في المسافر والعبد، فالمشهور أنه لا تجب عليهما الجمعة أيضا للحادث المتقدم وأنهما مخصصان من عموم الآية كالمرأة والصبي. وذهب داود ومن تابعه إلى أنهما باقيان تحت عموم الآية وأن الجمعة واجبة عليهما. وذهب الحسن وقتادة إلى أن العبد باق في عمومها وأن الجمعة تجب عليه لذلك وأن المسافر بخلافه. واختلف في التخلف عن الجمعة بسبب المطر، فأجيز ومنع. فمن منع فلظاهر الآية إذ لم يخصص وقت مطر من غيره وهو المعلوم من قول مالك. وكذلك اختلفوا في تخلف العروس عنها. فمن منع فلظاهر الآية كما قدمنا إذ لم يخصص. وأجازوا التخلف عنها لمرض أو شغل بجنازة وللأعمى. وخصصوا هؤلاء من عموم الآية. واختلف في الوالي هل هو من شرط صحة الجمعة أم لا على قولين في المذهب. والدليل على أنه ليس بشرط قوله تعالى :﴿ إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ﴾ ولم يشترط إذن السلطان. واختلف إذا اجتمع عيد وجمعة هل يسقط أحدهما الآخر أم لا ؟ ففي المذهب أنه لا يسقط. وفي الواضحة عن مالك في ذلك لمن كان على مثل الموالي من المدينة روايتان. وقال أحمد بن حنبل حضور العيد يكفي عن الجمعة. والحجة لما في المذهب قوله تعالى :﴿ إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ﴾ فعم. وقد اختلف هل يصح أن تقام الجمعة في غير المسجد الجامع أم لا على قولين بين المتأخرين، الأظهر منهما أنها تصح ويؤيد ذلك عموم الآية. وقوله تعالى :﴿ فاسعوا إلى ذكر الله ﴾ : السعي في لسان العرب يصلح للسير السريع والسير الرويد وقد بان بقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة " ٢١ أن المراد بقوله تعالى :﴿ فاسعوا إلى ذكر الله ﴾ غير الجري. وكذلك قال الحسن في تأويلها، وإلى هذا ذهب مالك وأكثر العلماء. وكان عمر وابن مسعود يقرآن :﴿ فامضوا إلى ذكر الله ﴾. وقال ابن مسعود : لو قرأتها : فاسعوا، لسعيت حتى يسقط ردائي. وقد اختلف أهل العلم في الإسراع إلى الصلاة إذا خيف أن تفوت. فأجازه قوم وكرهه قوم. وروي عن مالك إجازته، وهو قول ابن مسعود. وقوله هذا ينحو إلى قوله المتقدم في معنى قوله :﴿ فاسعوا إلى ذكر الله ﴾.
– قوله تعالى :﴿ وذروا البيع ﴾ :
أمر تعالى بترك البيع في يوم الجمعة إذا أخذ المؤذن في الأذان، واختلف في هذا الأمر هل هو أمر وجوب أو أمر ندب. فذكر مكي عن قوم أن البيع جائز في ذلك الوقت وأن الآية على الندب لا على الإلزام واستدلوا بقوله تعالى :﴿ ذلكم خير لكم ﴾. والجمهور على أنه
١ راجع الموطأ، كتاب الصلاة باب: ما جاء في السعي يوم الجمعة ١/ ٨٧..
٢ والحديث ذكره الباجي في المنتقى، كتاب الصلاة، باب: ما جاء في السعي يوم الجمعة ١/ ١٩٤، وذكره مالك عن أبي هريرة في الموطأ، كتاب الصلاة، باب: ما جاء في النداء ١/ ٦٨..
٣ القاضي أبو بكر: لعله أبو بكر الأنباري كما جاء في الجامع لأحكام القرآن ١٨/ ١٠٢..
٤ راجع المنتقى، كتاب الصلاة، باب: ما جاء في السعي يوم الجمعة ١/ ١٩٤..
٥ الحديث أخرجه أبو داود في سننه عن طارق بن شهاب، كتاب الصلاة، باب: الجمعة للملوك والمرأة ١/ ٦٤٤..
٦ الحديث أخرجه أبو داود في سننه عن ابن عمر، كتاب الصلاة، باب: من تجب عليه الجمعة ١/ ٦٤٠..
٧ والحديث ذكره مالك في الموطأ، كتاب الصلاة، باب: القراءة في صلاة الجمعة ١/ ٩٠..
٨ في (ح): "الصلاة"..
٩ السائب بن يزيد" هو السائب بن يزيد بن سعيد الكندي. صحابي. استعمله عمر على سوق المدينة وهو آخر من توفي بها من الصحابة. له اثنان وعشرون حديثا. توفي سنة ٩١هـ/ ٧١٠م. انظر الإصابة لابن حجر ٢/١١..
١٠ هشام بن عبد الملك: هو هشام بن عبد الملك بن مروان، من ملوك الدولة الأموية في الشام. توفي سنة ١٢٥هـ/ ٧٤٣م. انظر تاريخ الطبري ٨/ ٢٨٣..
١١ في (ح): "الربا"..
١٢ "عنه" كلمة ساقطة في (ح)..
١٣ "ابتداؤها" كلمة ساقطة في غير (أ)، (ز)..
١٤ ابن أبي أويس: هو إسماعيل بن أبي أويس عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي. سمع أباه ومالك بن أنس. توفي سنة ٢٢٦هـ/ ٨٤٠م. انظر الإكمال لابن ماكولا ١/ ١١٤..
١٥ المهلب: هو المهلب بن أبي صفرة بن سراق الأزدي، أبو سعيد. ولي إمارة البصرة. توفي سنة ٨٣هـ/ ٧٠٢م. انظر الإصابة لابن حجر ٣/ ٥٠٩..
١٦ الحديث: راجع المدونة كتاب الصلاة، باب: فيمن تجب عليه الجمعة ١/ ١٥٣..
١٧ المزني: هو إسماعيل بن يحيى المزني صاحب الشافعي، من أهل مصر. من تآليفه الجامع الكبير والمختصر. توفي سنة ٢٦٤هـ/ ٨٧٨م. انظر وفيات الأعيان ١/ ٧١..
١٨ الحسن بن أبي صالح: وهو حيان بن شفي بن رافع. توفي سنة ١٦٩هـ/ ٧٨٩م. انظر التهذيب ٢/ ٢٨٨..
١٩ الحديث أخرجه البيهقي في سننه عن أم عبد الله الدوسية، باب: العدد الذين إذا كانوا في قرية وجبت عليهم الجمعة ٣/ ١٧٧..
٢٠ الحديث أخرجه أبو داود في سننه عن طارق بن شهاب، كتاب الصلاة، باب: الجمعة للمملوك والمرأة ٢/ ٩..
٢١ ذكره مالك عن أبي هريرة في الموطأ، كتاب الصلاة، باب: ما جاء في النداء ١/ ٦٨..
– قوله تعالى :﴿ فانتشروا في الأرض ﴾ :
أمر إباحة باتفاق.
قوله تعالى :﴿ وابتغوا من فضل الله ﴾ :
اختلف في تأويله : فقيل معناه طلب المعاش، فالأمر على هذا أمر إباحة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ذلك الفضل المبتغى عيادة مريض أو صلة صديق أو اتباع جنازة " فينبغي على هذا لمن صلى الجمعة أن لا يصنع بعد ذلك إلا برا في بقية يومه. ويكون على هذا تجده صبح يوم السبت، قال ذلك جعفر بن محمد الصادق. وقيل إن ذلك الفضل المبتغى هو العلم فينبغي أن يطلب إثر صلاة الجمعة. فالأمر في الآية على هذين القولين أمر ندب.
– قوله تعالى :﴿ وإذا رأوا تجارة أو لهوا ﴾ :
نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائما على المنبر يخطب يوم الجمعة فأقبلت عير من الشام تحمل طعاما، وصاحب أمرها دحية بن خليفة الكلبي١ وكان من عرفهم أن تدخل العير المدينة بالطبل والمعازف والصياح سرورا بها. فلما دخلت العير كذلك انفض أهل المسجد إلى رؤية ذلك وتركوا الرسول صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر ولم يبق معه غير اثني عشر رجلا. قال جابر بن عبد الله : أنا أحدهم. وذكر بعضهم أن منهم العشرة المشهود لهم بالجنة، فهؤلاء أحد عشر. واختلف في الثاني عشر فقيل عمار بن ياسر. وقيل عبد الله بن مسعود. وذكر عن ابن عباس أن الذين بقوا معه صلى الله عليه وسلم ثمانية نفر ٢. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لولا.... " ٣ لقد كانت الحجارة سومت على المنقضين في السماء. وقال قتادة : بلغنا أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات كانت العير قد وافقت فيها دخولها يوم الجمعة.
قوله تعالى :﴿ وتركوك قائما ﴾ :
أي قائما في خطبتك. وقد اختلف في الخطبة هل هي من فرائض الجمعة أو سننها ؟ فالمشهور أنها من فرائضها. ذكره ابن المواز والأبهري. وذهب ابن الماجشون إلى أنها سنة، وهو اختيار ابن زرب ٤. والقولان في الثمانية. والدليل على القول الأول قوله تعالى :﴿ وتركوك قائما ﴾. واختلف هل من شرط صحة الجمعة الجماعة أم لا ؟ والأظهر أنها من شروطها وهو ظاهر الآية لأنه تعالى أمر بالاجتماع عند النداء، والخطبة إنما هي بعد النداء، فلو أن من شرط الخطبة الجماعة لما أمر بالاجتماع قبل الخطبة. واختلف أيضا هل من شرط صحة الصلاة استدامة الجماعة من أول الصلاة إلى آخرها أم لا على ثلاثة أقوال : أحدها : أن ذلك من شروط صحتها وأن الناس لو انفضوا عنه قبل السلام حتى لم يبق معه إلا من لا يجزئ بهم الجمعة لبطلت الصلاة. والثاني : أن الصلاة جائزة إذا لم ينفضوا عنه حتى صلى ركعة. والثالث : أنه إذا أحرم بالصلاة فصلاة الجمعة جائزة وإن انفضوا عنه قبل ركعة. وهو ظاهر الآية. واختلف في القيام في الخطبة هل هو شرط فيها أم لا ؟ فعند الشافعي أنه شرط فيها لا تجزئ بالقعود. وفي المذهب أنه ليس بشرط وأنها تجزئ بالقعود. وحجة الشافعي قوله تعالى :﴿ وتركوك قائما ﴾ فحمل ذلك على ظاهر الآية من القيام ورآه واجبا. ولم ير مالك أن ما صنعه صلى الله عليه وسلم من ذلك كان على الإيجاب بل رأى أنه كان منه على الاستنان. واختلف في سنة الخطبة ففي المذهب أن سنتها أن يجلس في أولها ووسطها وقال عطاء ما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات وما كان يخطب إلا قائما. وأول من جلس عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه في آخر زمانه حين كبر، فكان يجلس هنيأة. وقال أهل العراق لا يجلس بين الخطبتين. ومن حجة من لا يرى الجلوس أن الآية أعطت القيام ولم تعط شيئا من القعود فيها فوجب أن تحمل على ظاهرها في القيام في الخطبة كلها. ومن حجة القول الأول أن الآية وإن كان ظاهرها كذلك فقد أزال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الظاهر بفعله وبين المراد بالآية بما فعله من الجلوس في الخطبة، وإذا قلنا بالجلوس بين الخطبتين فإن تركه أجزأه. وقال الشافعي لا يجزئ. والأظهر قول مالك لأن ذلك لم يكن واجبا عليه مع أن ظاهر الآية يرده. وقال الشافعي لا يجزئ. واختلف في السفر يوم الجمعة إذا زالت الشمس. ففي المذهب أنه محرم، وعند أبي حنيفة أنه جائز. وظاهر الآية أنه محرم لأنه ليس بين الزوال والنداء قدر يراعى. وقد أمر الله تعالى عند النداء بالسعي إلى الجمعة وترك غير ذلك، فمن سافر في ذلك الوقت فقد خالف الأمر بالسعي وعصى فيجب أن لا يجزئه ذلك. وأما السفر أول النهار فغير محرم خلافا للشافعي في أحد قوليه أنه محرم لأن ذلك الوقت غير مأمور فيه بالاجتماع للصلاة فوجب أن يجوز فيه السفر كسائر الأوقات، هذا ظاهر الآية ٥.
١ هو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبي. صحابي، حضر كثيرا من الوقائع. مات في خلافة معاوية سنة ٤٥هـ/ ٦٦٥م. انظر الإصابة ١/ ٤٧٣..
٢ ويقال غير اثني عشر رجلا وامرأتين. راجع تنوير المقباس ص ٤٧٢..
٣ بياض في جميع النسخ. قال الواحدي: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لم يبق أحد منكم لسال بكم الوادي نارا". راجع أسباب النزول ص ٣٢٠..
٤ ابن زرب: هو أبو بكر، محمد بن زرب. من كبار القضاة وخطباء المنابر بالأندلس. ولي القضاء بقرطبة سنة ٣٦٧هـ. من تصانيفه: الخصال في فقه المالكية. راجع قضاة الأندلس ص ٧٧..
٥ راجع تفسير هذه الآية ومختلف أحكامها أيضا في أحكام القرآن لابن العربي ٤/ ١٧٩٠ – ١٧٩٨، وفي أحكام القرآن للجصاص ٥/ ٣٣٥ – ٣٤٤، وفي أحكام القرآن للكيا الهراسي ٤/ ٤١٥، ٤١٦، وفي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١٨/ ٩٧ – ١٢٠..
Icon