تفسير سورة الجمعة

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة الجمعة من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ الآية.
بين الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه معنى الأميين في مذكرة الدراسة بقوله : الأميين أي العرب، والأمي : هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، وكذلك كان كثير من العرب ا ه.
وسمي أمياً نسبة إلى أمه يوم ولدته لم يعرف القراءة ولا الكتابة وبقي على ذلك.
ومما يدل على أن المراد بالأميين هم العرب بعثة النَّبي صلى الله عليه وسلم منهم لقوله تعالى ﴿ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾ كما يدل عليه قوله تعالى عن نبي الله إبراهيم :﴿ رَّبَّنَآ إِنّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ] إلى قوله تعالى :﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ [ البقرة : ١٢٩ ].
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه : وهذه الآية نص في أن الله تعالى استجاب دعوة نبيه إبراهيم عليه السلام فيهم ا ه.
وفي الحديث : " إنا أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب ولا نحسب "، وهذا حكم على المجموع لا على الجميع، لأن في العرب من كان يكتب مثل كتبة الوحي، عمر وعلي غيرهم.
وقوله تعالى :﴿ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾ هو النَّبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى عن أهل الكتاب :﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبيَّ الأُمّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ].
وقد بين تعالى أن المكتوب عندهم هو ما بشر به عيسى عليه السلام في قوله تعالى :﴿ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [ الصف : ٦ ].
وكونه صلى الله عليه وسلم أمياً بمعنى لا يكتب، بينه قوله تعالى :﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ [ العنكبوت : ٤٨ ].
وبين تعالى الحكمة في كونه صلى الله عليه وسلم أمياً مع أنه يتلو عليهم آياته ويزكيهم بنفي الريب عنه كما كانوا يزعمون أن ما جاء به صلى الله عليه وسلم :﴿ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِي تُمْلَى عَلَيْهِ ﴾ [ الفرقان : ٥ ] فقال :﴿ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٤٨ ].
قوله تعالى :﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ ﴾ الآية.
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، في المذكرة المشار إليها : هذا عطف على قوله : في الأميين، أي، بعث هذا النَّبي صلى الله عليه وسلم في الأُمِّيِّن، وفي آخرين منهم، وقيل : عطف على الضمير في قوله : يعلمهم، أي يعلمهم ويعلم آخرين منهم، والمراد بقوله : وآخرين كل من يأتي بعد الصحابة من أهل الإسلام إلى يوم القيامة بدليل قوله :﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأَنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ].
وصح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن قوله : وآخرين، نزلت في فارس قوم سلمان، وعلى كل حال فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ا ه.
وسبق أن قدمنا الكلام على هذا المعنى عند الكلام على قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ ﴾ [ الحشر : ١٠ ].
ولكن سبقنا كلام الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، حين عثرنا عليه لزيادة الفائدة والاستئناس.
قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ﴾.
اختلف في مرجع اسم الإشارة هنا وفي المراد بالمتفضل به عليهم، أهم الأمة الأميّة تفضل الله عليها ببعثة نبي منهم فيهم ؟ أم هو النَّبي صلى الله عليه وسلم الأمّي تفضل الله تعالى عليه ببعثته معلماً هادياً ؟ أم هم الآخرون الذين لم يلحقوا زمن البعثة ووصلتهم دعوتها، وأدركوا فضلها ؟
وقد اكتفى الشيخ رحمة الله تعالى عليه وعلينا، في مذكرة الدراسة بقوله ذلك أي المذكور من بعث هذا النَّبي الكريم في الأميين، فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ومن عظم فضله تفضله على هذه الأمة بهذا النَّبي الكريم ا ه.
وهذا القول منه رحمة الله تعالى علينا وعليه، يتضمن القولين الأول والثاني من الأقوال الثلاثة، تفضل الله على الأميين ببعثة هذا النَّبي الكريم فيها، وتفضل الله على النَّبي ببعثته فيهم مما لا يشعر بأنه لا خلاف بين هذه الأقوال الثلاثة، وأنها من الاختلاف التنوعي أو هي من المتلازمات فلا مانع من إدارة الجميع، لأن فضل الله تعالى قد شمل الجميع.
وقد نص الأول بقوله :﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ [ آل عمران : ١٦٤ ] وهذا عين ما في سورة الجمعة سواء، لأن الامتنان هو التفضل.
ونص على الثاني بقوله تعالى :﴿ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾ [ النساء : ١١٣ ].
ونص على الثالث بقوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [ المائدة : ٥٤ ].
فقوله : فسوف يأتي، ويساوي ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ ﴾ [ الجمعة : ٣ ]، فهو خلاف تنوع، وفضل الله شامل للجميع.
قوله تعالى :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ﴾.
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه : هذا مثل ضربه الله لليهود، وهو أنه شبههم بحمار، وشبه التوراة التي كلفوا العمل بما فيها بأسفار أي كتب جامعة للعلوم النافعة، وشبه تكليفهم بالتوراة : بحمل ذلك الحمار لتلك الأسفار، فكما أن الحمار لا ينتفع بتلك العلوم النافعة التي في تلك الكتب المحمولة على ظهره، فكذلك اليهود لم ينتفعوا بما في التوراة من العلوم النافعة لأنهم كلفوا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وإظهار صفاته للناس فخانوا وحرفوا وبدَّلوا فلم ينفعهم ما في كتابهم من العلوم ا ه.
فأشار الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، إلى أن وجه الشبه عدم الانتفاع بما تحملوه من التوراة وهم يعلمون ما فيها من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أوضح الله تعالى هذا في موضع آخر في قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [ البقرة : ١٤٦ ] فقد جحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فلم ينفعهم علمهم به.
وهذه الآية أشد ما ينبغي الحذر منها، وخاصة لطلاب العلم وحملته، كما قال تعالى :﴿ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ ﴾ [ الجمعة : ٥ ] أي تشبيههم في هذا المثل بهذا لحيوان المعروف.
وقد سبق للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الكلام على هذا المثال في عدة مواضع من الأضواء، منها في الجزء الثاني عند قوله تعالى :﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ ﴾ [ الأعراف : ١٧٦ ] الآية.
ومنها في الجزء الثالث عند قوله تعالى :﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾ [ إبراهيم : ١٨ ] الآية.
ومنها في الجزء الرابع عند قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرآنِ لِلنَّاسِ ﴾ [ الكهف : ٥٤ ] في سورة الكهف بما فيه الكفاية.
والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن أكثر المفسرين يجعله من قبيل التشبيه المفرد، وأن وجه الشبه فيه مفرد وهو عدم الانتفاع بالمحمول، كالبيت الذي فيه :
كالعيس في البَيْداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول
والذي يظهر والله تعالى أعلم، أنه من قبيل التشبيه التمثيلي لأن وجه الشبه مركب من مجموع كون المحمول كتباً نافعة، والحامل حمار لا علاقة له بها بخلاف ما في البيت، لأن العيش يمكن أن تنتفع بالماء لو حصلت عليه، والحمار لا ينتفع بالأسفار ولو نشرت بين عينيه، وفيه إشارة إلى أن من موجبات نقل النبوة عن بني إسرائيل كلية أنهم وصلوا إلى حد الإياس من انتفاعهم بأمانة التبليغ والعمل، فنقلها الله إلى قوم أحق بها وبالقيام بها.
قوله تعالى :﴿ قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾.
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه : الخطاب للنبي، ﴿ والذين هادوا ﴾ هم اليهود.
ومعنى هادوا : أي رجعوا بالتوبة إلى الله من عبادة العجل.
ومنه قوله تعالى :﴿ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ ﴾ [ الأعراف : ١٥٦ ]، وكان رجوعهم عن عبادة العجل بالتوبة النصوح : حيث سلموا أنفسهم للقتل توبة وإنابة إلى الله كما بينه بقوله :﴿ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ { إلى قوله ﴾ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : ٥٤ ].
وقوله :﴿ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾.
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في :﴿ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ ﴾ أي إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم أولياء لله، وأبناء الله وأحباؤه دون غيركم من الناس، فتمنوا الموت لأن ولي الله حقاً يتمنى لقاءه، والإسراع إلى ما أعد له من النعيم المقيم ا ه.
وفي قوله رحمة الله تعالى علينا وعليه. إشارة إلى بيان زعمهم المجمل في الآية وهو ما بينه تعالى بقوله عنهم وعن النصارى معهم :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ [ المائدة : ١٨ ].
وقد ردّ زعمهم عليهم بقوله تعالى :﴿ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ﴾ [ المائدة : ١٨ ].
ومثل هذه الآية إن زعمتم قوله تعالى :﴿ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ البقرة : ٩٤ ].
وقال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه : وقيل المراد بالتمني المباهلة، والمراد من الآية إظهار كذب اليهود في دعواهم أنهم أولياء الله.
وقوله :﴿ إِن زَعمْتُمْ ﴾ مع قوله :﴿ إِن كُنتُمْ ﴾ شرطان يترتب الأخذ منهما على الأول أي فتمنوا الموت، إن زعمتم، إن صدقتم في زعمكم، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر :
إن تستغيثوا إن تذعروا تجدوا منا معاقل عز زانها كرم
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ ﴾.
نص على أنهم لا يتمنون الموت أبداً، وأن السبب هو ما قدمت أيديهم، ولكن ليبين ما هو ما قدمت أيديهم الذي منعهم من تمني الموت.
وقال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه. لا يتمنونه لشدة حرصهم على الحياة كما بينه تعالى قوله :{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ { فشدة حرصهم على الحياة لعلمهم أنهم إذا ماتوا دخلوا النار، ولو تمنوا لماتوا من حينهم.
وقوله :﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ ﴾ الباء سببية والمسبب انتفاء تمنيهم وما قدمت أيديهم من الكفر والمعاصي ا ه.
والذي أشار إليه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، من الأسباب من كفرهم ومعاصيهم، قد بينه تعالى في موضع آخر صريحاً في قوله تعالى :﴿ لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٨١ -١٨٢ ].
فالباء هنا سببية أيضاً أي ذوقوا عذاب الحريق بسبب ما قدمت أيديكم من هذه المذكورات، ولهذا كله لن يتمنوا الموت ويود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر، فقد أيقنوا الهلاك ويئسوا من الآخرة.
كما قال تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ﴾ [ الممتحنة : ١٣ ] ولهذا كله لم يتمنوا الموت، كما أخبر الله تعالى عنهم. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ﴾.
أي إن فررتم من الموت بعدم تمنيه فلن يجعلكم تنجون منه وهو ملاقيكم لا محالة، وملاقيكم بمعنى مدرككم، كما في قوله تعالى :﴿ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ﴾ [ النساء : ٧٨ ].
وقوله :﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [ آل عمران : ١٨٥ ].
قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾.
هذه الآية الكريمة، وهذا السياق يشبه في مدلوله وصورته قوله تعالى :﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ [ الحج : ٢٧ -٢٨ ] مع قوله :﴿ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾ [ البقرة : ١٩٨ ] الآية.
ففي كل منهما نداء، وأذان الحج وصلاة وسعي وإتيان وذكر الله، ثم انتشار وإفاضة مما يربط الجمعة بالحج في الشكل وإن اختلف الحجم، وفي الكيف وإن تفاوتت التفاصيل، وفي المباحث والأحكام كثرة وتنويعاً من متفق عليه ومختلف فيه، مما يجعل مباحث الجمعة لا تقل أهمية عن مباحث الحج، وتتطلب عناية بها كالعناية به.
وقد نقل عن الشيخ رحمة الله تعالى عليه أنه كان عازماً على بسط الكلام فيها كعادته رحمة الله تعالى عليه، ولكن إرادته نافذة، وقدرته غالية. وإن كل إنسان يستشعر مدى مباحث الشيخ وبسطه وتحقيقه للمسائل ويترك الدخول فيها تقاصراً دونها ولا سيما وأن ربط هذه المباحث بنصوص القرآن ليس بالأمر المبين، كما أشار إليه أبو حيان في مضمون قوله في نهاية تفسيره لهذه السورة بعد إيجاز الكلام عن أحكامها، قال ما نصه : وقد ملأ المفسرون كثيراً من أوراقهم بأحكام وخلاف في مسائل الجمعة مما لا تعلق لها بلفظ القرآن ا ه.
فهو يشير بأن لفظ القرآن لا تعلق له بتلك الأحكام التي ناقشها المفسرون في مباحث الجمعة، ولكن الدارس لمنهج الشيخ رحمة الله تعالى عليه في الأضواء، والمتذوق لأسلوبه لم يقتصر على اللفظ فقط، أي دلالة النص التطابقي وتأمل أنواع الدلالات من تضمن والتزام وإيماء وتنبيه، فإنه يجد لأكثر أو كل ما قاله المفسرون والمحدثون والفقهاء من المباحث أصولاً من أصول تلك الدلالات.
وإني أستلهم الله تعالى الرشد وأستمد، العون والتوفيق لبيان كل ما يظهر من ذلك إن شاء الله، فإن وفقت فبفضل من الله وخدمة لكتابه، وإلا فإنها محاولة تغتفر بجانب القصور العلمي وتحسين القصد، والله الهادي إلى سواء السبيل.
قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ﴾.
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرة الدراسة ما نصه : إذا نودي للصلاة أي قام المنادي بها، وهو المؤذن يقول : حي على الصلاة..
وقوله :﴿ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ ﴾ أي من صلاة يوم الجمعة أي صلاة الجمعة ا ه.
ومما يدل على أن المراد بها صلاة الجمعة نفسها دون بقية صلوات ذلك اليوم مجيء من التي للتبعيض ثم تبين هذا البعض بالأمر، بترك البيع في قوله :﴿ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ﴾، لأن هذا خاص بالجمعة دون غيرها لوجود الخطبة، وقد كانت معينة لهم قبل نزول هذه الآية، وصلوها قبل مجيء النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، كما سيأتي إن شاء الله.
والمراد بالنداء هو الأذان، كما أشار إليه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، وكما في قوله تعالى :﴿ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ﴾ [ المائدة : ٥٨ ].
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ".
وقيل : النداء لغة هو النداء بصوت مرتفع لحديث : " فإنه أندى منك صوتاً ".
وقد عرف الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الأذان لغة عند قوله تعالى :﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً ﴾ [ الحج : ٢٧ ] فقال : الأذان لغة الإعلام.
ومنه قوله تعالى :﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكبر ﴾ [ الحج : ٢٧ ] وقول الحارث بن حلزة :
آذنتنا ببنيها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء
والأذان من خصائص هذه الأمة، شعاراً للمسلمين ونداء للصلاة.
بدء مشروعيته :
اختلف في بدء المشروعية، والصحيح أنه بدىء بعد الهجرة، وجاءت نصوص لكنها ضعيفة : أنه شرع ليلة الإسراء أو بمكة.
منها : عن علي رضي الله عنه عند البزار : أنه شرع مع الصلاة.
ومنها عن ابن عباس عند ابن حبان أنه شرع بمكة عن أول الصلاة.
وقال ابن حجر : لا يصح شيء من ذلك.
أما مشروعيته بعد الهجرة، وفي المدينة ففيها نصوص عديدة صحيحة نبين بدأه وكيفيته.
منها : حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما قال : " كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم : اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم قرناً مثل قرن اليهود، فقال عمر : أولاً تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بلال قم فناد بالصلاة "، وفي الموطأ لمالك رحمة الله أنه صلى الله عليه وسلم كان قد أراد أن يتخذ خشبتين يضرب بهما ليجتمع الناس للصلاة، فأرى عبد الله بن زيد الأنصاري خشبتين في النوم فقال : إن هاتين لنحو مما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألا تؤذنون للصلاة ؟ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استيقظ فذكر له ذلك فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان ".
وبعض الروايات الأخرى عن غير ابن عمر وعند غير الشيخين بألفاظ أخرى، وصور مختلفة منها قالوا : " انصب راية فإذا رآها الناس أذن بعضهم بعضاً أي أعلمه عند حضور الصلاة، فلم يعجبه ذلك فذكر له القنع، وهو الشَّبُّور لليهود فلم يعجبه، فقال هذا من أمر اليهود ".
وفي رواية أنس " { أن ينوروا ناراً فلم يعجبه شيء من ذلك كله ".
وفي حديث عبد الله بن زيد " لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم " بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلوات طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده. فقلت يا عبد الله أتبيع الناقوس قال : وما تصنع به ؟ قلت : ندعو به إلى الصلاة. قال أفلا ذلك على ما هو خير من أدلك. فقلت : بلى، فقال : تقول : الله أكبر الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ". ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال : " نقول : إذا أقمت للصلاة : الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة. الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ". فلما أصبحت أتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت فقال " إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى صوتاً منك، فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به فسمع عمر وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول : " يا رسول الله والذي بعثك بالحق لقد رأيت ما رأى، فقال صلى الله عليه وسلم فلله الحمد " رواه أبو داود.
وفي رواية له، فقال : " إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان ".
فتبين من هذا كله أن الصحيح في مشروعية الأذان أنه كان بعد الهجرة، وفي المدينة المنورة.
وهنا سؤال حول مشروعية الأذان. قال بعض الناس : كيف يترك أمر الأذان وهو بهذه الأهمية من الصلاة فيكون أمر مشروعيته رؤيا يراها بعض الأصحاب، وطعن في سند الحديث واستدل بحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم : " قم يا بلال فناد بالصلاة " والجواب عن هذا من عدة وجوه :
منها : سند حديث عبد الله صحيح، وقد ناقشه الشوكاني رحمه الله، وذكر تصحيحه ومن صححه ويشهد لصحته ما قدمناه من رواية الموطإ بإرادة اتخاذ خشبتين، فأرى عبد الله بن زيد خشبتين الحديث، وكذلك في الصحيحين إثبات التشاور فيما يعلم به حين الصلاة.
ومنها : أنه لا يتعارض مع حديث ابن عمر لأن حديث ابن عمر لم يذكر ألفاظ النداء فيكون الجمع بينهما. إما أن بلالاً كان ينادي بغير هذه الصيغة، ثم رأى عبد الله الأذان فعلمه بلالاً.
وقد يشهد لهذا الوجه ما جاء عن أبي ليلى قال : " أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وحدثنا أصحابنا أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : لقد أعجبني أن تكون صلاة المسلمين واحدة، حتى لقد هممت أن أبث رجالاً في الدور ينادون الناس بحين الصلاة، وحتى هممت أن آمر رجالاً يقومون على الآطام ينادون المسلمين حتى نقسوا أو كادوا أن ينقسوا، فجاء رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله إني لما رجعت لما رأيت من اهتمامك رأيت رجلاً كأن عليه ثوبين أخضرين فقام على المسجد فأذن ثم قعد قعدة ثم قام فقال مثلها إلا أنه يقول قد قامت الصلاة، ولولا أن يقول الناس لقلت إني كنت يقظان غير نائم. فقال صلى الله عليه وسلم " لقد أراك الله خيراً فمر بلالاً فليؤذن، فقال عمر : أما إني قد رأيت مثل الذي رأى ولكني لما سبقت استحييت " لأبي داود أيضاً.
ففيه أنه صلى الله عليه وسلم كان قد همَّ أن يبث رجالاً في الدور، وعلى الأطم ينادون للصلاة، فيكون نداء بلال أولاً من هذا القبيل دون تعيين ألفاظ، أما أن يكون نداء بلال الوارد في الصحيح بألفاظ الأذان، الواردة في حديث عبد الله بعد أن رأى ما رآه أمره صلى الله عليه وسلم أن يعلمه بلالاً فنادى به، ولا تعارض في ذلك كما ترى.
ومنها أيضاً : أن رؤيا عبد الله للأذان لا تجعله مشروعاً له من عنده ولا متوقفاً عليه، لأنه جاء في الرؤيا الصالحة أنها جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة.
وهذا النظم لألفاظ الأذان لا يكون إلا من القسم فهي بعيدة عن الوساوس والهواجس لما فيها من إعلان العقيدة وإرغام الشيطان كما في الحديث : " إن الشيطان إذا سمع النداء أدبر " إلخ.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما سمعها أقرها وقال : إنها لرؤيا حق، أو لقد أراك الله حقاً، فكانت سنة تقرير كما يقرر بعض الناس على بعض الأفعال.
ثم جاء بعد ذلك تعليمه صلى الله عليه وسلم لأبي محذورة فصار سنة ثابتة، وكان يتوجه السؤال لو أنه لم يبلغه صلى الله عليه وسلم وعملوا به مجرد الرؤيا، ولكن وقد بلغه وأقره فلا سؤال إذاً.
ومنها : أن في بعض الروايات أن الوحي قد جاءه به، ولما أخبره عمر قال له : سبقك بذلك الوحي. ذكر في مراسيل أبي داود.
وذكر عن ابن العربي بسط الكلام إثبات الحكم بالرؤيا ذكرهما المعلق على بذل المجهود.
ومنها ما قيل : ترك مجيء بيان وتعليم لأذان إلى أن رآه عبد الله ورواه عمر رضي الله عنهما لأمرين، ذكرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم معلناً مع ذكر الله فيكون مجيئه عن طريقهما أولى
وأكرم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يأتيهم من طريقه هو حتى لا يكون عناية من يدعوهم لإط
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً ﴾
في عود الضمير على التجارة وحدها مغايرة لذكر اللهو معها.
وقال الزمخشري : حذف أحدهما لدلالة المذكور عليه، وذكر قراءة أخرى، انفضوا إليه يعود الضمير إلى اللهو، وهذا توجيه قد يسوغ لغة كما في قول نابغة ذبيان : وقال الزمخشري : حذف أحدهما لدلالة المذكور عليه، وذكر قراءة أخرى، انفضوا إليه يعود الضمير إلى اللهو، وهذا توجيه قد يسوغ لغة كما في قول نابغة ذبيان :
وقد أراني ونعما لاهيين بها والدهر والعيش لم يهمم بإمرار
فذكر الدهر والعيش، وأعاد عليهما ضميراً منفرداً اكتفاء بأحدهما عن الآخر للعلم به، وهو كما قال ابن مالك : وحذف ما يعلم جائز.
وقد ذكر الشيخ رحمه الله لهذا نظائر في غير عود الضمير، كقوله تعالى :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ﴾ [ النحل : ٨١ ]، فالتي تقي الحر، تقي البرد، فاكتفى بذكر أحدهما لدلالته على الآخر، ولكن المقام هنا خلاف ذلك.
وقد قال الشيخ عن هذه الآية في دفع إيهام الاضطراب : لا يخفى أن أصل مرجع الضمير هو الأحد الدائر بين التجارة واللهو، بدلالة لفظة أو على ذلك، ولكن الضمير رجع إلى التجارة وحدها دون اللهو، فبينه وبين مفسره بعض منافاة في الجملة، والجواب : أن التجارة أهم من اللهو وأقوى سبباً في الانفضاض عن النَّبي صلى الله عليه وسلم لأنهم انفضوا من أجل العير واللهو كان من أجل قدومها، مع أن اللغة يجوز فيها رجوع الضمير لأحد المذكورين قبله. أما في العطف بأو فواضح، كقوله تعالى :﴿ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً ﴾ [ النساء : ١١٢ ].
وأما الواو فهو فيها كثير كقوله ﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ﴾ [ البقرة : ٤٥ ] وقوله ﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾ [ التوبة : ٦٢ ]، وقوله :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ التوبة : ٣٤ ] ا ه.
أي أن هذه الأمثلة كلها يذكر فيها أمران، ويعود الضمير على واحد منهما.
وبناء على جواب الشيخ رحمة الله تعالى عليه، يمكن القول بأن عود الضمير على أحد المذكورين، إما لتساويهما في الماصدق، وإما لمعنى زائد فيما عاد عليه الضمير.
فمن المتساويين قوله تعالى :﴿ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ﴾ لتساويهما في النهي والعصيان، ومما له معنى زائد قوله تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ﴾ وإنها أي الصلاة، لأنها أخص من عموم الصبر، ووجود الأخص يقتضي وجود الأعم دون العكس، ولأن الصلاة وسيلة للصبر، كما في الحديث : " كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرهم فزع إلى الصلاة ".
وكذلك قوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا ﴾ أي الفضة، لأن كنز الفضة أوفر، وكانزوها أكثر فصورة الكنز حاصلة فيها بصفة أوسع، ولدى كثير من الناس، فكان توجيه الخطاب إليهم أولى، ومن ناحية أخرى لما كانت الفضة من الناحية النقدية أقل قيمة، والذهب أعظم، كان في عود الضمير عليها تنبيه بالأدنى على الأعلى، فكأنه أشمل وأعم، وأشد تخويفاً لمن يكنزون الذهب.
أما الآية هنا، فإن التوجيه الذي وجهه الشيخ رحمة الله تعالى عليه، لعود الضمير على التجارة، فإنه في السياق ما يدل عليه، وذلك في قوله تعالى بعدها :﴿ قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ﴾، فذكر السببين المتقدمين لانفضاضهم عنه صلى الله عليه وسلم، ثم عقبه بقوله تعالى، بالتذييل المشعر بأن التجارة هي الأصل بقوله :﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَازِقِينَ ﴾، والرزق ثمرة التجارة. فكان هذا بياناً قرآنياً لعود الضمير هنا على التجارة دون اللهو. والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
قال أبو حيان عن ابن عطية : تأمل إن قدمت التجارة على اللهو في الرؤية، لأنها أهم وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولاً على الأبين ا ه.
يريد بقوله : في الرؤية، وإذا رأوا. وبقوله : مع التفضيل ﴿ قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ﴾ أي لأن اللهو أبين في الظهور، والذي يظهر والعلم عند الله تعالى : أنه عند التفضيل ذكر اللهو للواقع فقط، لأن اللهو لا خير فيه مطلقاً فليس محلاً للمفاضلة، وأخر ذكر التجارة لتكون أقرب لذكر الرزق لارتباطهما معاً، فلو قدمت التجارة هنا أيضاً لكان ذكر اللهو فاصلاً بينها وبين قوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَازِقِينَ ﴾، وهو لا يتناسق مع حقيقة المفاضلة.
Icon